دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
التصنيفات
- القرآن الكريم >> التفسير >> تفسير القرآن
الوصف المفصل
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وأشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الحمد للَّه الذي ختم الرسل بهذا النبي الكريم، عليه من اللَّه الصلاة والتسليم، كما ختم الكتب السماوية بهذا القرآن العظيم، وهدى الناس بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام/ 115]، فأخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل، وبعضه يشهد بصدق بعض ولا ينافيه؛ لأن آياته فُصِّلت من لدن حكيم خبير، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء/ 82]. أما بعد؛ فإن مُقيِّد هذه الحروف -عفا اللَّه عنه- أراد أن يُبَيِّن في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ بها التعارض في القرآن العظيم، مُرتِّبًا لها بحسب ترتيب السور، يذكر الجمع بين الآيتين غالبًا في محل الأولى منهما، وربما يذكر الجمع عند محلِّ الأخيرة، وربما يكتفي بذكر الجمع عند الأولى، وربما يحيل عليه عند محل الأخيرة، ولا سيما إذا كانت السورة ليس فيها مما يُظَنُّ تعارضه إلا تلك الآية، فإنه لا يترك ذكرها والإحالة على الجمع المتقدم، وسمَّيْتُه: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"
(1/5)
فنقول وباللَّه نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، راجين من اللَّه الكريم أن يجعل نيتنا صالحة وعملنا كله خالصًا لوجهه الكريم، إنه قريب مجيب رحيم:
(1/6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة البقرة
قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة/ 1، 2]. أشار اللَّه تعالى إلى القرآن في هذه الآية إشارة البعيد. وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب، كقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء/ 9]، وكقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [النمل/ 76]، وكقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام/ 92]، وكقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف/ 3]، إلى غير ذلك من الآيات. وللجمع بين هذه الآيات أوجه: الوجه الأول: ما حرَّره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بُعْدُ مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين. الوجه الثاني: هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمَّنه قوله: {الم (1)}، وأنه أشار إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقضٍ، ومعناه في الحقيقةِ القريبُ؛ لِقُرْبِ انقضائه، وضرب له مثلًا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرَّةً: واللَّه إن ذلك لكما قلت، ومرَّةً يقول: واللَّه إن هذا لكما قلت. فإشارة
(1/7)
البعيد نظرًا إلى أن الكلام مضى وانقضى، وإشارة القريب نظرًا إلى قُرْبِ انقضائه. الوجه الثالث: أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد، فتكون الآية على أسلوب من أساليب اللغة العربية. ونظيره قول خفاف بن ندبة السلمي، لما قتل مالك بن حرملة الفزاري: فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدًا على عيني تيممت مالِكا أقول له والرمح يأطِرُ مَتْنَه ... تأمل خفافًا إنني أنا ذلكا يعني أنا هذا. وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن معمر بن المثنى أبي عبيدة. قاله ابن كثير. وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن {ذَلِكَ الْكِتَابُ} بمعنى: هذا الكتاب. قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} هذه نكرة في سياق النفي رُكِّبَتْ مع "لا"، فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم، كما تقرر في علم الأصول. و"لا" هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين: "لا" التي لنفي الجنس، أما "لا" العاملة عمل "ليس" فهي ظاهرة في العموم لا نصٌّ فيه. وعليه فالآية نصٌّ في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرآن
(1/8)
العظيم. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس، كالكفار الشاكِّين، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة/ 23]، وكقوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة/ 45]، وكقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)} [الدخان/ 9]. ووجه الجمع في ذلك: أن القرآن بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه، وريب الكفارة فيه إنما هو لعمى بصائرهم، كما بينه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد/ 19]، فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه مِنْ قِبَلِ عماه. ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها. إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر وأجاب بعض العلماء بأن قوله {لَا رَيْبَ فِيهِ} خبر أريد به الإنشاء. أي: لا ترتابوا فيه. وعليه فلا إشكال. قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة/ 2]. خصص في هذه الآية هدى هذا الكتاب بالمتقين، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس، وهي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة/ 185]. ووجه الجمع بينهما: أن الهدى يستعمل في القرآن استعمالين:
(1/9)
أحدهما عام، والثاني خاص. أما الهدى العام فمعناه: إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة، سواء سلكها المبيَّن له أم لا. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت/ 17] أي: بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مع أنهم لم يسلكوها، بدليل قوله عز وجل: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}. ومنه -أيضًا- قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان/ 3]، أي بينا له طريق الخير والشر، بدليل قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}. وأما الهدى الخاص: فهو تفضل اللَّه بالتوفيق على العبد. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام/ 90]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام/ 125]. فإذا علمت ذلك فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص، وهو التفضل بالتوفيق عليهم. والهدى العام للناس هو الهدى العام، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة. وبهذا يرتفع الإشكال أيضًا بين قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص/ 56] مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى/ 52]؛ لأن الهدى المنفي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الهدى الخاص، لأن التوفيق بيد اللَّه وحده، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ
(1/10)
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة/ 41]، والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق، وقد بينها -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس/ 25]. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة/ 6]. هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن باللَّه ورسوله، كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال/ 38]، وكقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء/ 4]، وكقوله: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت/ 47]. ووجه الجمع ظاهر، وهو أن الآية من العام المخصوص؛ لأنها في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم اللَّه الشقاوة المشار إليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس/ 96، 97]، ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة/ 7]. وأجاب البعض بان المعنى: لا يؤمنون ما دام الطبع على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة على أبصارهم، فإن أزال اللَّه عنهم ذلك بفضله آمنوا.
(1/11)
قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة/ 7] الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون؛ لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الأيمان. وقد جاء في آيات أُخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم، كقوله تعالى {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت/ 17]، وكقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة/ 175]، وكقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف/ 29]، وكقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران/ 182]، وكقوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [المائدة/ 80]. والجواب: أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، كل ذلك عقاب من اللَّه لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم، فعاقبهم اللَّه بعدم التوفيق جزاء وفاقًا، كما بينه تعالى بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء/ 155]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون/ 3]، وبقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام/ 110]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف/ 5]، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة/ 6]، وقوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين/ 14]، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة/ 17]. أفرد في هذه الآية الضمير في قوله: {اسْتَوْقَدَ}، وفي قوله: {مَا
(1/12)
حَوْلَهُ}، وجمع الضمير في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}، مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة {الَّذِي} مِنْ قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي}. والجواب عن هذا: أن لفظة "الذي" مفرد، ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها. وقد تقرر في علم الأصول: أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم. فإذا حققت ذلك، فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة "الذي" وجمعه باعتبار معناها، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء: أن "الذي" تأتي بمعنى "الذين". ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم هذه الآية الكريمة؛ فقوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} أي: كمثل الذين استوقدوا. بدليل قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ}. وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر/ 33]. وقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة/ 264] أي: كالذين ينفقون. بدليل قوله: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة/ 264]. وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة/ 69] بناء على الصحيح من أن "الذي" فيها موصولة لا مصدرية. ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
(1/13)
ياربَّ عبسٍ لا تبارك في أحد ... في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد وقول الشاعر -وهو أشهب بن رميلة، وأنشده سيبويه لإطلاق "الذي" وإرادة "الذين"-: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد وزعم ابن الأنباري أن لفظة "الذي" في بيت أشهب جمع "اللَّذْ" بالسكون، وأن "الذي" في الآية مفرد أريد به الجمع. وكلام سيبويه يرد عليه. وقول عديل بن الفرخ العجلي: وبِتُّ أساقي القوم إخوتي الذي ... غوايتهم غيِّي ورشدهم رشدي وقال بعضهم: المستوقدُ واحدٌ لجماعةِ معه. ولا يخفى ضعفه. قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة/ 18]. هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة/ 20]، وكقوله: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الآية [المنافقون/ 4]، أي: فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، وقوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب/ 19]، إلى غير ذلك من الآيات.
(1/14)
ووجه الجمع ظاهر، وهو أنهم بُكْمٌ عن النطق بالحق وإن تكلموا بغيره، صُمٌّ عن سماع الحق وإن سمعوا غيره، عُمْيٌ عن رؤية الحق وإن رأوا غيره. وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} الآية [الأحقاف/ 26]؛ لأن ما لا يغني شيئًا فهو كالمعدوم. والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له، ومنه قول قعنب بن أم صاحب: صُمٌّ إذا سمعوا خيرًا ذُكِرْتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بسوء عندهم أَذِنُوا وقول الشاعر: أصمُّ عن الأمر الذي لا أريده ... وأَسْمَعُ خلق اللَّه حين أريد وقول الآخر: فأصممت عمرًا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم. قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي: وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنَّبل تهوي ليس فيها نصالها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآية [البقرة/ 24]. هذه الآية تدل على أن هذه النار كانت معروفة عندهم؛ بدليل
(1/15)
"أل" العهدية. وقد قال تعالى في سورة التحريم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم/ 6]، فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات. ووجه الجمع: أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودًا لها، فنزلت آية التحريم، فعرفوا منها ذلك من صفات النار، ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية البقرة، فعُرِّفَتْ فيها النار بِـ "أل" العهدية لأنها معهودة عندهم في آية التحريم. ذكر هذا الجمع البيضاوي والخطيب (1) في تفسيريهما، وزعما أن آية التحريم نزلت بمكة. وظاهر القرآن يدل على هذا الجمع؛ لأن تعريف النار هنا بِـ "أل" العهدية يدل على عهد سابق، والموصول وصِلَته دليل على العهد وعدم قصد الجنس، ولا ينافي ذلك أن سورة التحريم مدنية، وأن الظاهر نزولها بعد البقرة، كما رُوِيَ عن ابن عباس، لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة/ 29]. هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة "ثم" التي هي للترتيب والانفصال، وكذلك آية حم السجدة تدل - __________ (1) الشربيني في تفسيره "السراج المنير" (1/ 36). وأصل الجمع عند الرازي في تفسيره (2/ 112).
(1/16)
أيضًا- على خلق الأرض قبل خلق السماء؛ لأنه قال فيها: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية [فصلت/ 9 - 11]. مع أن آية النازعات تدل على أن دَحْوَ الأرض بعد خلق السماء؛ لأنه قال فيها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} [النازعات/ 27]، ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات/ 30]. اعلم أولًا أن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن اللَّه تعالى خلق الأرض أولًا قبل السماء غير مَدْحُوَّةٍ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعًا في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك. فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء. ويدل لهذا أنه قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} ولم يقل: خلقها، ثم فسر دحوه إياها بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} الآية [النازعات/ 31]. وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم، إلا أنه يَرِدُ عليه إشكال من آية البقرة هذه، وإيضاحه: أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بما فيها بعد خلق السماء، وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء؛ لأنه قال
(1/17)
فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية. وقد مكثت زمنًا طويلًا أفكر في حل هذا الإشكال، حتى هداني اللَّه إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم، وإيضاحه: أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه آية من القرآن: الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير، لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود. والعرب تسمي التقدير خلقًا، ومنه قول زهير: ولأنت تفرى ما خلقت وبعـ ... ـضُ القوم يخلقُ ثم لا يفري والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير: أنه تعالى نص على ذلك في سورة فصلت حيث قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}، ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية [فصلت/ 11]. الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوة، وهي أصل لكل ما فيها، كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل؛ لوجود أصله فعلًا. والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع وإن لم يكن موجودًا بالفعل قولُه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} الآية [الأعراف/ 7]، فقوله: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف/ 11] أي: بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم. وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
(1/18)
دَحَاهَا (30)} أي: مع ذلك. فلفظة "بعد" بمعنى "مع". ونظيره قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم/ 13]. وعليه فلا إشكال في الآية. ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة -وبها قرأ مجاهد-: (والأرض مع ذلك دحاها). وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة؛ لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض، وهو خلاف التحقيق. منها: أن "ثم" بمعنى الواو. ومنها: أنها للترتيب الذكري، كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البلد/ 17]. قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الآية [البقرة/ 29]. أفرد هنا تعالى لفظ {السَّمَاءِ}، ورد عليه الضمير بصيغة الجمع في قوله: {فَسَوَّاهُنَّ}. وللجمع بين ضمير الجمع ومفسره المفرد وجهان: الأول: أن المراد بالسماء: جنسها الصادق بسبع سموات، وعليه فـ "أل" جنسية. الثاني: أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع، مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته، وهو كثير في القرآن العظيم وفي كلام العرب.
(1/19)
فمن أمثلته في القرآن واللفظ مُعَرَّفٌ: قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران/ 119] أي: بالكتب كلها، بدليل قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة/ 285]، وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى/ 15]. وقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر/ 45] يعني: الأدبار، كما هو ظاهر. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان/ 75] يعني الغُرَف، بدليل قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر/ 20] وقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ/ 37]. وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر/ 22] أي: الملائكة، بدليل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة/ 210]. وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} الآية [النور/ 31] يعني: الأطفال الذين لم يظهروا. وقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} الآية [المنافقون/ 4] يعني: الأعداء. ومن أمثلته واللفظ مُنَكَّرٌ: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر/ 54] يعني: وأنهار، بدليل قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية [محمد/ 15]، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان/ 74] يعني: أئمة، وقوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} [المؤمنون/ 67] يعني: سامرين، وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج/ 5] يعني: أطفالًا، وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة/ 136] أي: بينهم، وقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء/ 69] أي: رفقاء، وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة/ 6] أى: جُنبين أو أجنابًا، وقوله: {وَالْمَلَائِكَةِ
(1/20)
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم/ 4] أي: مظاهرون؛ لدلالة السياق فيها كلها على الجمع. واستدل سيبويه لهذا بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء/ 4] أي: أنفسًا. ومن أمثلته واللفظ مضافٌ: قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} الآية [الحجر/ 68] يعني: أضيافي، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النور/ 63] أي: أوامره. وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر -وهو علقمة بن عبدة التميمي-: بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليب يعني: وأما جلودها فصليبة. وأنشد له -أيضًا- قول الآخر: كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص يعني: في بعض بطونكم. ومن شواهده قول عقيل بن عُلَّفة المري: وكان بنو فزارة شر عمٍّ ... وكنت لهم كشرِّ بني الأخينا يعني: شر أعمام. وقول العباس بن مرداس السلمي: فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... وقد سلمت من الإحن الصدور
(1/21)
يعني: إنا إخوانكم. وقول الآخر: يا عاذلاتي لا تردن ملامة ... إن العواذل ليس لي بأمير يعني: لسن لي بأمراء. وهذا في النعت بالمصدر مُطَّرِدٌ، كقول زهير: متى يشتجر قومٌ يَقُلْ سرواتهم ... همُ بيننا فهمُ رضًا وهمُ عَدْلُ ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرآن: السمع والطرف والضيف؛ لأن أصلها مصادر، كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة/ 7]، وقوله: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} [إبراهيم/ 43]، وقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى/ 45]، وقوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر/ 68]. قوله تعالى: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الآية [البقرة/ 35]، يتوهم معارضته مع قوله: {حَيْثُ شِئْتُمَا}. والجواب: أن قوله: {اسْكُنْ} أمر بالسكنى لا بالسكون الذي هو ضد الحركة، فالأمر باتخاذ الجنة مسكنًا لا ينافي التحرك فيها وأكلهما من حيث شاءا. قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [البقرة/ 41]. جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في قوله: {وَلَا تَكُونُوا}
(1/22)
{وَلَا تَشْتَرُوا}، وقد أفرد لفظة {كَافِر}، ولم يقل: ولا تكونوا أول كافرين. ووجه الجمع بين الإفراد والجمع في شيء واحد: أن معنى {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه} أي: أول فريق كافر، فاللفظ مفرد والمعنى جمع، فيجوز مراعاة كل منها، وقد جمع اللغتين قول الشاعر: فإذا هم طعموا فَأَلأَمُ طاعمٍ ... وإذا هم جاعوا فشرُّ جياع وقيل: هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقول ابن عُلَّفة: وكان بنو فزارة شر عمٍّ. . . . كما تقدم قريبًا. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} الآية [البقرة/ 46]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس/ 36]، وكقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} [الجاثية/ 24]. ووجه الجمع: أن الظن بمعنى اليقين، والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك. وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن وفي كلام العرب. فمن أمثلته في القرآن هذه الآية، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ
(1/23)
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية [البقرة/ 249]، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف/ 53] أي: أيقنوا، وقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة/ 20] أي: أيقنت. ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق: بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل مني الظن غيبًا مرجَّما أي: أجعل مني اليقين غيبًا. وقول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرَّد فقوله: "ظُنُّوا" أي: أيقنوا. قوله تعالى: لبني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [البقرة/ 47] لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران/ 110]؛ لأن المراد بالعالمين عالَمو زمانهم، بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم، كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنن، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه". ألا ترى أن اللَّه جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة/ 66]، وجعل
(1/24)
في هذه الأمة درجةً أعلى من درجة المقتصد، هي درجة السابق بالخيرات حيث قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية [فاطر/ 32]. قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} الآية [البقرة/ 49]. ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أن استحياء النساء من جملة العذاب الذي كان يسومهم فرعون. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن الإناث هبة من هبات اللَّه لمن أعطاهن له، وهو قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)} [الشورى/ 49]. فبقاء بعض الأولاد على هذا خير من موتهم كلهم، كما قال الهذلي: حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشر أهون من بعض والجواب عن هذا: أن الإناث وإن كن هبة من اللَّه لمن أعطاهن له، فبقاؤهن تحت يد العدو -يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار، ويستخدمهن في الأعمال الشاقة- نوع من العذاب، وموتهن راحة من هذا العذاب، وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفًا من مثل هذا. قال بعض شعراء العرب في ابنة له تسمى مودة: مودة تهوى عمر شيخ يسره ... ها الموت قبل الليل لو أنها تدري
(1/25)
يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا خَتَنٌ يُرجى أودُّ من القبر وقال الآخر: تهوى حياتي وأهوى موتها شفقًا ... والموت أكرم نزَّالٍ على الحُرَمِ وقال بعض راجزيهم: إني وإن سيق إليَّ المهرُ ... عبدٌ وألفان وذَوْدٌ عشرُ أحبُّ أصهاري إليَّ القبرُ وقال بعض الأدباء: (1) [سروران مالهما ثالث ... حياة البنين وموت البنات] [*] وفي القرآنِ الإشارةُ إلى أن الإنسان يسوؤه إهانة ذريته الضعاف بعد موته في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء/ 9]. قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة/ 57]. هذه الآية الكريمة تدل على أن اللَّه أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطعام، وهما: المنَّ والسلوى. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنهم لم يكن عندهم إلا طعام __________ (1) كأنَّ المؤلف -رحمه اللَّه- بيَّض له، ثم لم يكتب بعدُ شيئًا، أو لعله سقط على الطابع. ويبعد أن يكون قوله: "وفي القرآن الإشارة. . . " هو مقول القول. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين إضافة من مجلة الجامعة الإسلامية، وأصل الكتاب مقالات نشرها الشيخ -رحمه الله- بالمجلة
(1/26)
واحد، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة/ 61]. وللجمع بينهما أوجه: الأول: أن المنَّ -وهو الترنجبين على قول الأكثرين- من جنس الشراب. والطعام الواحد هو السلوى، وهو على قول الأكثرين: السماني أو طائر يشبهه. الوجه الثاني: أن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعامًا واحدًا وإن اختلفت أنواعه. ومنه قولهم: أكلنا طعام فلان. وإن كان أنواعًا مختلفة. والذي يظهر أن هذا الوجه أصح من الأول؛ لأن تفسير المنَّ بخصوص الترنجبين يرده الحديث المتفق عليه: "الكمأة من المن. . . " الحديث. الثالث: أنهم سموه طعامًا واحدًا؛ لأنه لا يتغير ولا يتبدل كل يوم، فهو مأكل واحد. وهو ظاهر. قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة/ 87]. هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل، ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الآية [آل عمران/ 183]، وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} [المائدة/ 70].
(1/27)
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون، كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المائدة/ 5]، وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات/ 171 - 173]، وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم/ 13 - 14]. وبيَّن تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضًا، كما في هذه الآية الأخيرة، وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [غافر/ 51]. والذي يظهر في الجواب عن هذا: أن الرسل قسمان: قسم أمروا بالقتال في سبيل اللَّه، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس. فالذين أمروا بالقتال وعدهم اللَّه بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد اللَّه رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين. وهذا الجمع مفهوم من الآيات؛ لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة. ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الآية [آل عمران/ 146]. أما على قراءة "قَاتلَ" بصيغة الماضي مِنْ فَاعلَ فالأمر واضح، وأما على قراءة "قُتِلَ" بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله: "ربيون" لا ضمير "نبي"، وتطرُّقُ الاحتمال يرد الاستدلال.
(1/28)
وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرتهم بالحجة والبرهان، فلا إشكال في الآية. واللَّه أعلم. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية [البقرة/ 114]. الاستفهام في هذه الآية إنكاري، ومعناه النفي، فالمعنى: لا أحد أظلم ممن منع مساجد اللَّه. وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا، كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف/ 37]، وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر/ 32]، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} الآية [الكهف/ 57]، إلى غير ذلك من الآيات. وللجمع بين هذه الآيات أوجه: منها: تخصيص كل موضع بمعنى صلته؛ أي: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد اللَّه، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على اللَّه كذبًا. وإذا تخصصت بصِلاتها زال الأشكال. ومنها: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق؛ أي: لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكًا طريقهم. وهذا يؤول معناه إلى ما قبله؛ لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية مثلًا. ومنها -وادعى أبو حيان أنه الصواب- هو ما حاصله: أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة، فلم يكن أحد ممن وصف بذلك
(1/29)
يزيد على الآخر؛ لأنهم يتساوون في الأظلمية، فيصير المعنى: لا أحد أظلم ممن منع مساجد اللَّه ومن افترى على اللَّه كذبًا ومن كذب بآيات اللَّه. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر، كما إذا قلت: لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلًا. ذكر هذين الوجهين صاحب "الإتقان". وما ذكره بعض المتأخرين من أن الاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} [البقرة/ 114] المقصود منه التهويل والتفظيع، من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقةً ولا نفيها عن غيره -كما ذكره عنه صاحب "الإتقان"- يظهر ضعفه؛ لأنه خلاف ظاهر القرآن. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية [البقرة/ 115]. أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب، وثناهما في سورة الرحمن في قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} [الرحمن/ 17]، وجمعهما في سورة سأل سائل في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج/ 40]، وجمع المشارق في سورة الصافات في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} [الصافات/ 5]. والجواب: أن قوله هنا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} المراد به جنس المشرق والمغرب، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس -التي هي ثلاثمائة وستون- وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره.
(1/30)
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه: "وإنما معنى ذلك: وللَّه المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم، فتأويله إذا كان ذلك معناه: وللَّه ما بين قطري المشرق وقطري المغرب، إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها". انتهى منه بلفظه. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} [الرحمن/ 17] يعني: مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما، كما عليه الجمهور. وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما. وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج/ 140] أي: مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم. وقيل: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة/ 116]. عبر في هذه الآية بـ "ما" الموصولة الدالة على غير العقلاء، ثم عبر في قوله: {قَانِتُونَ (116)} بصيغة الجمع المذكر الخاص بالعقلاء. ووجه الجمع: أن ما في السموات والأرض من الخلق منه العاقل وغير العاقل، فغلَّب في الاسم الموصول غير العاقل، وغلَّب في صيغة الجمع العاقل. والنكتة في ذلك أنه قال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وجميع
(1/31)
الخلائق بالنسبة لملك اللَّه إياهم سواء، عاقلهم وغيره، فالعاقل في ضعفه وعجزه بالنسبة إلى ملك اللَّه كغير العاقل. ولما ذكر القنوت -وهو الطاعة- وكان أظهر في العقلاء من غيرهم، عبر بما يدل على العقلاء تغليبًا لهم. قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة/ 118]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة/ 187]، وكقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران/ 138]. ووجه الجمع: أن البيان عام لجميع الخلق، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصًا بالمتقين، خص في هذه الآية بهم؛ لأن ما لا نفع فيه كالعدم. ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات/ 45]، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} الآية [يس/ 11]، مع أنه منذر للأسود والأحمر، هإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} الآية [البقرة/ 143]. قوله تعالى في هذه الآية: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} يوهم أنه لم يكن عالمًا بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، مع أنه تعالى عالم بكل شيء قبل وقوعه، فهو يعلم ما سيعمله الخلق، كما دلت عليه آيات
(1/32)
كثيرة، كقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم/ 32]، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون/ 63]. والجواب عن هذا: أن معنى قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة/ 143] أي: علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب، فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه. وقد أشار تعالى إلى أنه لا يستفيد بالاختبار علمًا جديدًا لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} [آل عمران/ 154]. فقوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} دليل على أنه لا يفيده الاختبار علمًا لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو تعالى عالم بكل ما سيعمله خلقه، وعالم بكل شيء قبل وقوعه، كما لا خلاف فيه بين المسلمين، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} الآية [سبأ/ 3]. قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية [البقرة/ 154]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر/ 30]. والجواب عن هذا: أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية، فتورث
(1/33)
أموالهم وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين، وهذه الموتة هي التي أخبر اللَّه نبيه أنه يموتها -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق -رضي اللَّه عنه- أنه قال لما توفي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بأبي أنت وأمي، واللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أما الموتة التي كتب اللَّه عليك فقد مِتَّها"، وقال: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات"، واستدل على ذلك بالقرآن، ورجع إليه جميع أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأما الحياة التي أثبتها اللَّه للشهداء في القرآن، وحياته -صلى اللَّه عليه وسلم- التي ثبت في الحديث أنه يَرُدُّ بها السلام على من سلم عليه، فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا. أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}، وقد فسرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنهم تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فهم يتنعمون بذلك. وأما ما ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد عليه اللَّه روحه حتى يرد عليه السلام، وأن اللَّه وكل ملائكة يبلغونه سلام أمته، فإن تلك الحياة -أيضًا- لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا؛ لأنها ثابتة له -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء، فتعلُّقُ هذه الروح الطاهرة -التي هي في أعلى عليين- بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم اللَّه حقيقته ولا يعلمها الخلق، كما قال في جنس ذلك: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}.
(1/34)
ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لَمَا قال الصديق -رضي اللَّه عنه-: إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مات، ولما جاز دفنه، ولا نصب خليفة غيره، ولا قُتِلَ عثمان، ولا اختلف أصحابه، ولا جرى على عائشة ما جرى، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول، وميراث الجد والإخوة، ونحو ذلك. وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ}، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}، وكان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده، وأصحابه الذين دفنوه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تشعر حواسهم بتلك الحياة = عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضًا. ومما يقرب هذا للذهنِ حياةُ النائم، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ويعقل المعاني. واللَّه تعالى أعلم. قال العلامة ابن القيم -رحمه اللَّه- في كتاب "الروح" ما نصه: "ومعلوم بالضرورة أن جسده -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأرض طريٌّ مُطرا، وقد سأله الصحابة: "كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ " فقال: "إن اللَّه حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ولو لم يكن جسده في ضريحه، لما أجاب بهذا الجواب. وقد صح عنه: أن اللَّه وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام، وصح عنه: أنه خرج بين أبي بكر وعمر، وقال: "هكذا نبعث". هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى
(1/35)
عليين مع أرواح الأنبياء. وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به؛ بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه، وهي في الرفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين؛ فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان". انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه. وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا. قال تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}، والعلم عند اللَّه. قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة/ 170]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الكفار لا عقول لهم أصلًا؛ لأن قوله: {شَيْئًا} نكرة في سياق النفي، فهي تدل على العموم. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الكفار لهم عقول يعقلون بها في الدنيا، كقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)} [العنكبوت/ 38]. والجواب: أنهم يعقلون أمور الدنيا دون أمور الآخرة، كما بينه تعالى بقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم/ 6، 7].
(1/36)
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية [البقرة/ 173]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن جميع أنواع الدم حرام، ومثلها قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} هو [البقرة/ 173] الآية، وقوله في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة/ 3] الآية. وقد ذكر في آية أخرى ما يدل على أن الدم لا يحرم إلا إذا كان مسفوحًا، وهي قوله تعالى في سورة الأنعام: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الآية [الأنعام/ 145]. والجواب: أن هذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد، والجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد حمل المطلق على المقيد لا سيما مع اتحاد الحكم والسبب، كما هنا. وسواء عندهم تأخر المطلق عن المقيد -كما هنا- أو تقدم. وإنما قلنا هنا: إن المطلق متأخر عن المقيد؛ لأن القيد في سورة الأنعام، وهي نزلت قبل النحل، مع أنهما مكيتان إلا آيات معروفة، والدليلِ على أن الأنعام قبل النحل قوله تعالى في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [النحل/ 118] الآية، والمراد به: ما قصَّ عليه في الأنعام بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام/ 146] الآية. وأما كون الأنعام نزلت قبل البقرة والمائدة فواضح؛ لأن الأنعام
(1/37)
مكية بالإجماع إلا آيات منها، والبقرة مدنية بالإجماع، والمائدة من آخر ما نزل من القرآن، ولم ينسخ منها شيء لتأخرها. وعلى هذا فالدم إذا كان غير مسفوح، كالحمرة التي تظهر في القِدْرِ من أثر تقطيع اللحم، فهو ليس بحرام؛ لحمل المطلق على المقيد، وعلى هذا كثير من العلماء. وما ذكرنا من عدم النسخ في المائدة قال به جماعة. وهو على القول بأن قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} الآية [المائدة/ 24]، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة/ 106] غير منسوخين صحيحٌ، وعلى القول بنسخهما لا يصح على الإطلاق، والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [البقرة/ 174]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن اللَّه لا يكلم الكفار يوم القيامة؛ لأن قوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ} فعل في سياق النفي، وقد تقرر في علم الأصول: أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم، وسواء كان الفعل متعديًا أو لازمًا، على التحقيق، خلافًا للغزالي القائل بعمومه في المتعدي دون اللازم. وخلافُ الإمام أبي حنيفة -رحمه اللَّه- في ذلك خلافٌ في حالٍ لا في حقيقة؛ لأنه يقول: إن الفعل في سياق النفي ليس صيغة للعموم، ولكنه يدل عليه بالالتزام. أي: لأنه يدل على نفي الحقيقة،
(1/38)
ونفيها يلزمه نفي جميع الأفراد. فقوله: لا أكلت -مثلًا- ينفي حقيقة الأكل، فيلزمه نفي جميع أفراده. وإيضاح عموم الفعل في سياق النفي: أن الفعل ينحلُّ عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر وزمن ونسبة عند بعض البلاغيين، فالمصدر داخل في معناه إجماعًا، فالنفي الداخل على الفعل ينفي المصدر الكامن في الفعل، فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي. ومن العجيب أن أبا حنيفة -رحمه اللَّه- يوافق الجمهور على أن الفعل في سياق النفي إن أكد بمصدر نحو: لا شربت شربًا -مثلًا- أفاد العموم، مع أنه لا يوافق على إفادة النكرة في سياق النفي للعموم. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن اللَّه يكلم الكفار يوم القيامة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} الآية [المؤمنون/ 107]. والجواب عن هذا بأمرين: الأول -وهو الحق-: أن الكلام الذي نفى اللَّه أنه يكلمهم به هو الكلام الذي فيه خير، وأما التوبيخ والتقريع والإهانة فكلام اللَّه لهم به من جنس عذابه لهم، ولم يُقْصَدْ بالنفي في قوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ}. الثاني: أنه لا يكلمهم أصلًا، وإنما تكلمهم الملائكة بإذنه وأمره.
(1/39)
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة/ 178]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لابد منه، بدليل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}؛ لأن معناه: فرض وحتم عليكم. مع أنه تعالى ذكر -أيضًا- أن القصاص ليس بمتعين؛ لأن ولي الدم بالخيار، في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} الآية [البقرة/ 178]. والجواب ظاهر، وهو أن فرض القصاص وإلزامه فيما إذا لم يَعْفُ أولياءُ الدم أو بعضهم، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} الآية [الإسراء/ 33]. قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} الآية [البقرة/ 180]. هذه الآية تعارض آيات المواريث بضميمة بيان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن المقصود منها إبطال الوصية للوارثين منهم، وذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث". والجواب ظاهر، وهو أن آية الوصية هذه منسوخة بآيات المواريث، والحديث المذكور بيان للناسخ. وذهب بعض العلماء إلى أنها محكمة لا منسوخة، وانتصر لهذا القول ابن حزم غاية الانتصار. وعلى القول بأنها محكمة فهي من العام المخصوص، فالوالدان والأقربون الذين لا يرثون لا وصية لهم؛ بدليل آيات المواريث
(1/40)
والحديث، وأما الوالدان اللذان لا ميراث لهما كالرقيقين والأقارب الذين لا يرثون فتجب لهم الوصية على هذا القول، ولكن مذهب الجمهور خلافه. وحكى العبادي في "الآيات البينات" الإجماع على أنها منسوخة، مع أن جماعة من العلماء قالوا بعدم النسخ. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: التحقيق أن النسخ واقع فيها يقينًا في البعض؛ لأن الوصية للوالدين الوارثين والأقارب الوارثين رفع حكمها بعد تقرره إجماعًا، وذلك نسخ في البعض لا تخصيص؛ لأن التخصيص قصر العام على بعض أفراده بالدليل، أما رفع حكم معين بعد تقرره فهو نسخ لا تخصيص كما هو ظاهر. وقد تقرر في علم الأصول أن التخصيص بعد العمل (1) بالعام نسخ، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود": وإني أتى ما خَصَّ بعد العمل ... نَسَخَ والغيرُ مخصِّصا جلي واللَّه تعالى أعلم. قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة/ 184]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن القادر على صوم رمضان مخير بين الصوم والإطعام. __________ (1) في المطبوع: بعض العمل. وهو تحريف.
(1/41)
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على تعيين وجوب الصوم، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية [البقرة/ 185]. والجواب عن هذا بأمرين: أحدهما -وهو الحق-: أن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. الثاني: أن معنى {يُطِيقُونَهُ}: لا يطيقونه، بتقدير "لا" النافية، وعليه فتكون الآية محكمة، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم كالهَرِم والزَّمِن. واستدل لهذا القول بقراءة بعض الصحابة (يَطَّوَّقونه) بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحتين، بمعنى: يتكلفونه مع عجزهم عنه. وعلى هذا القول فيجب على الهَرِم ونحوه الفدية، وهو اختيار البخاري، مستدلًا بفعل أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} الآية [البقرة/ 190]. هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم. وقد جاءت آيات أُخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقًا قاتلوا أم لا، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة/ 193]، وقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة/ 5]، وكقوله تعالى:
(1/42)
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح/ 16]. والجواب عن هذا بأمور: الأول -وهو أحسنها وأقربها-: أن المراد بقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار، فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة/ 36]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. الوجه الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة/ 5]، وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدًا. وإيضاح ذلك: أن من حكمة اللَّه البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيًا لتخف صعوبته بالتدريج، فالخمر -مثلًا- لما كان تركها شاقًّا على النفوس التي اعتادتها، ذكر أولًا بعض معائبها بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِير} [البقرة/ 219]، ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت، كما دل عليه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء/ 43]، ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرَّمها تحريمًا باتًا بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة/ 90]. وكذلك الصوم لما كان شاقًّا على النفوس شرعه أولًا على سبيل
(1/43)
التخيير بينه وبين الإطعام، ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة/ 184]، ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابًا حتمًا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وكذلك القتال على هذا القول، لمَّا كان شاقًّا على النفوس أَذنَ فيه أولًا من غير إيجاب بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية [الحج/ 39]، ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة/ 190]، ثم لمَّا استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابًا عامًّا بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} الآية [التوبة/ 5]. الوجه الثالث -وهو اختيار ابن جرير، ويظهر لي أن الصواب-: أن الآية محكمة، وأن معناها: قاتلوا الذين يقاتلونكم، أي: من شأنهم أن يقاتلوكم. أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال، كالنساء والذراري والشيوخ الفانية والرهبان وأصحاب الصوامع ومن ألقى إليكم السَّلَم فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم، ويدل لهذا الأحاديثُ المصرحة بالنهي عن قتل الصبي وأصحاب الصوامع والمرأة والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه، أما صاحب الرأي فيقتل، كدريد بن الصِّمَّة. وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز -رضي اللَّه عنه- وابن عباس والحسن البصري. قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة/ 194].
(1/44)
هذه الآية تدل على طلب الانتقام، وقد أذن اللَّه في الانتقام في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية [الشورى/ 41، 42]، وكقوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء/ 148]، وكقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الآية [الحج/ 60]، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى/ 39]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى/ 40]. وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام، كقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر/ 85]، وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران/ 134]، وكقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون/ 96]، وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى/ 43]، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف/ 199]، وكقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان/ 63]. والجواب عن هذا بأمرين: أحدهما: أن اللَّه بيَّن مشروعية الانتقام، ثم أرشد إلى أفضلية العفو، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل/ 126]، وقوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء/ 148]، فأذن في الانتقام بقوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنْ
(1/45)
تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء/ 149]. الوجه الثاني: أن الانتقام له موضع يحسن فيه، والعفو له موضع كذلك؛ وإيضاحه: أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة اللَّه، ألا ترى أن من غصبت منه جاريته -مثلًا- إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعفٌ وخَوَرٌ تنتهك به حرمات اللَّه، فالانتقام في مثل هذا واجب، وعليه يحمل الأمر في قوله {فَاعْتَدُوا} هو الآية. أي: كما إذا بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب، بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه المسلمين بكلام قبيح ونحو ذلك، فعفوه أحسن وأفضل، وقد قال أبو الطيب المتنبي: إذا قيل حِلْمًا قال للحِلْم موضعٌ ... وحِلْمُ الفتى في غير موضعه جهلُ قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]. هذه الآية الكريمة تدل على أن الردة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر، بدليل قوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة/ 217]. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقًا ولو رجع إلى الإسلام، فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الآية [المائدة/ 5]،
(1/46)
وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية [الزمر/ 65]، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام/ 88]. والجواب عن هذا: أن هذه من مسائل تعارض المطلق والمقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فتقيد الآيات المطلقة بالموت على الكفر، وهذا مقتضى الأصول، وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه، وخالف مالك في هذه المسألة وقدم آيات الإطلاق. وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية [البقرة/ 221]. هذه الآية تدل بظاهرها على تحريم نكاح كل كافرة، ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} الآية [الممتحنة/ 10]. وقد جاءت آية أخرى تدل على جواز نكاح بعض الكافرات، وهن الحرائر الكتابيات (1)، وهي قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة/ 5]. والجواب: أن هذه الآية الكريمة تخصص قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} أي: ما لم يكن كتابيات، بدليل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. وحكى ابن جرير الإجماع على هذا. __________ (1) في الأصل المطبوع: الحرائر والكتابيات. وهو خطأ.
(1/47)
وأما ما روي عن عمر من إنكاره على طلحة تزوُّج يهودية، وعلى حذيفة تزوُّج نصرانية، فإنه إنما كره نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني. قاله ابن جرير. قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية [البقرة/ 228]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن كل مطلقة تعتد بالأقراء. وقد جاء في آيات أخر أن بعض المطلقات يعتد بغير الأقراء، كالعجائز والصغائر المنصوص عليها بقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} إلى قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، وكالحوامل المنصوص عليها بقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق/ 4]. مع أنه جاء في آية أُخرى أن بعض المطلقات لا عدة عليهن أصلًا، وهن المطلقات قبل الدخول، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية [الأحزاب/ 49]. والجواب عن هذا ظاهر، وهو أن آية: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة/ 228] عامة، وهذه الآيات المذكورة أخص منها، فهي مخصصة لها، فهي إذن من العام المخصوص. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة/ 234]. هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
(1/48)
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة/ 240]. والجواب ظاهر، وهو: أن الأولى ناسخة لهذه، وإن كانت قبلها في المصحف؛ لأنها متأخرة عنها في النزول، وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها فيه إلا في موضعين: أحدهما هذا الموضع، والثاني: آية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب/ 50] هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لقوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية [الأحزاب/ 52]؛ لأنها وإن تقدمت في المصحف فهي متأخرة في النزول. وهذا على القول بالنسخ، ويأتي إن شاء اللَّه تحرير المقام في سورة الأحزاب. قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة/ 256]. هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين. ونظيرها قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس/ 99]، وقوله تعالى: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى/ 48]. وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف، كقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح/ 16]، وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة/ 193] أي: شرك، ويدل لهذا التفسير الحديثُ الصحيح: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه" الحديث.
(1/49)
والجواب عن هذا بأمرين: الأول -وهو الأصح-: أن هذه الآية في خصوص أهل الكتاب. والمعنى: أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقًا، وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. والدليل على خصوصها بهم: ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كانت المرأة تكون مِقْلاتًا؛ فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل اللَّه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة/ 256] المِقْلات: التي لا يعيش لها ولد. وفي المثل: أحرُّ من دمع المِقْلات. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلمًا، فقال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ألا أستكرههما؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل اللَّه الآية. وروى ابن جرير أن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية، فقال: نزلت في الأنصار، فقال: خاصة؟ قال: خاصة. وأخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه
(1/50)
أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى سبيلهم. وأخرج ابن جرير -أيضًا- عن الضحاك في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} و، قال: أُمِرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا لا إله إلا اللَّه أو السيف، ثم أُمِرَ في من سواهم أن يقبل منهم الجزية، فقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة/ 256]. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس -أيضًا- في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية. فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية ومن في حكمهم. ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن التخصيص فيها عرف بالنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب. ومما يدل للخصوص: أنه ثبت في الصحيح: "عَجِبَ ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل". الأمر الثاني: أنها منسوخة بآيات القتال، كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة/ 5]. ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، وسورة براءة من آخر ما نزل بها، والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود وزيد بن أسلم. وعلى كل حالٍ فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها
(1/51)
{لَا إِكْرَاهَ} الآية. والمتأخر أولى من المتقدم. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة/ 284]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الانسان مع أنه لا قدرة له على دفعها. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الانسان لا يكلف إلا بما يطيق، كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286]، وقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16]. والجواب: أن آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} منسوخة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
(1/52)
سورة آل عمران
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران/ 7]. هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكمًا ومنه متشابهًا. وقد جاءت آية أخرى تدل على أن كله محكم، وآية تدل على أن كله متشابه. أما التي تدل على إحكامه كله فهي قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود/ 1]، وأما التي تدل على أن كله متشابه فهي قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر/ 23]. ووجه الجمع بين هذه الآيات: أن معنى كون كله محكمًا: أنه في غاية الإحكام، أي: الإتقان في ألفاظه ومعانيه وإعجازه، أخباره صدقٌ وأحكامه عدل، لا يعتريه وصمة ولا عيب، لا في الألفاظ ولا في المعاني. ومعنى كونه متشابهًا: أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق والإعجاز، والسلامة من جميع العيوب. ومعنى كون بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا: أن المحكم منه: هو واضح المعنى لكل الناس، كقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الاسراء/ 32]، {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء/ 39]، والمتشابه: هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم، بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران/ 7] عاطفة. أو هو: ما استأثر
(1/53)
اللَّه بعلمه، كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور، بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافية لا عاطفة. قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران/ 28]. هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به، بدليل قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقًا، كقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء/ 89]، وكقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية [المائدة/ 57]. والجواب عن هذا: أن قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له. وقد تقرر في علم الأصول: أن دليل الخطاب -الذي هو مفهوم المخالفة- له موانع تمنع اعتباره، منها: كون تخصيص المنطوق بالذِّكْر لأجل موافقته للواقع، كما في هذه الآية، لأنها نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقًا. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. . .} الآية [آل عمران/ 38]. هذه الآية تدل على أن زكريا -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-
(1/54)
ليس عنده شكُّ في قدرة اللَّه على أن يرزقه الولد، على ما كان منه من كِبَر السِّنّ. وقد جاء في آية أخرى ما يُوهِم خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران/ 40] الآية. والجواب عن هذا بأمور: الأول: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي: من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران/ 39]، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان. فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من اللَّه: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} [آل عمران/ 40]. ولذا طلب الآية من اللَّه على ذلك بقوله: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} الآية [آل عمران/ 41]. الثاني: أنَّ استفهامه استفهام استعلام واستخبار؛ لأنه لا يدري هل اللَّه يأتيه بالولد من زوجه العجوز، أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين. الثالث: أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم. قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران/ 49].
(1/55)
هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم. ونظيرها قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} الآية [العنكبوت/ 17]. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن اللَّه هو خالق كل شيء، كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر/ 49]، وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر/ 62]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر، وهو أن معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين هو: أخذه شيئًا من الطين وجعله إياه على هيئة -أي صورة- الطير، وليس المراد الخلق الحقيقي؛ لأن اللَّه متفرد به جلَّ وعلا. وقو له: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت/ 17] معناه: تكذبون. فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} الآية [آل عمران/ 55]. هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك: كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء/ 157]، وقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية [النساء/ 159] على ما فسرها به ابن عباس -في إحدى الروايتين- وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة، واختاره ابن
(1/56)
جرير، وجزم ابن كثير بانه الحق، من أن قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران/ 55] لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى. وهو متوفيه قطعًا يومًا ما. ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى. وأما عطفه {وَرَافِعُكَ} إلى قوله: {مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل فيه؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك. وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثرُ للمحققين، وهو الحق، خلافًا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه. وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء، وقال: لم أجده في كتابه. وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي. حكاه عنه صاحب "الضياء اللامع". وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ابدأ بما بدأ اللَّه به" يعني: الصفا، لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب. وبيان ذلك هو ما قاله الفهري -كما ذكر عنه صاحب "الضياء اللامع"- وهو أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما، فقد يكون العطف بها مع قصد
(1/57)
الاهتمام بالأول، كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة/ 158]، بدليل الحديث المتقدم. وقد يكون المعطوف بها مرتبًا كقول حسان: * هجوتَ محمدًا وأجبتُ عنه * على رواية الواو. وقد يراد بها المعية كقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت/ 15]، وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة/ 9] ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل. الوجه الثاني: إن معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي: منيمك ورافعك إليَّ، أي في تلك النومة. وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام/ 60]، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر/ 42]. وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحمد للَّه الذي أحيانا بعدما أماتنا. . . " الحديث. الوجه الثالث: إن {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل "توفاه" إذا قبضه وحازه إليه. ومنه قولهم: "توفى فلان دينه" إذا قبضه إليه. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا: قابضك منهم إليَّ حيًا. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أيامًا ثم أحياه، فالظاهر أنه من
(1/58)
الإسرائيليات، وقد نهى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تصديقها وتكذيبها. قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} الآية [آل عمران/ 67]. هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يكن مشركًا يومًا ما؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنبياء/ 51]. وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك، وهو قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي}، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام/ 76، 77، 78]. ومن ظن ربوبية غير اللَّه فهو مشرك باللَّه، كما دل عليه قوله تعالى عن الكفار: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)} [يونس/ 66]. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنه مناظر لا ناظر، ومقصوده التسليم الجدلي، أي: هذا ربي على زعمكم الباطل. والمناظر قد يسلِّم المقدمة الباطلة تسليمًا جدليًّا ليفحم بذلك خصمه. فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن
(1/59)
يكون ربًا. لقالوا له: كذبت، بل الكوكب رب. ومما يدل لكونه مناظرًا لا ناظرًا قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} الآية [الأنعام/ 80]. وهذا الوجه هو الأظهر. وما استدل به ابن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)} [الأنعام/ 77] لا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعًا وإظهارًا لالتجائهم إلى اللَّه، كقول إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم/ 35]، وقوله هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية [البقرة/ 128]. الوجه الثاني: أن الكلام على حذف همزة الاستفهام؛ أي: أهذا ربي؛ وقد تقرر في علم النحو: أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز. وهو قياسي عند الأخفش مع "أم" ودونها، ذكر الجواب أم لا. فمن أمثلته دون "أم" ودون ذكر الجواب قول الكميت: طربت وما شوقًا إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب يعني: أو ذو الشيب يلعب؟ وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد: رَفَوني وقالوا يا خويلد لم تُرَعْ ... فقلتُ وأنكرتُ الوجوه همُ همُ
(1/60)
يعني: أهم هم؟ كما هو الصحيح، وجزم به الألوسي في "تفسيره"، وذكره ابن جرير عن جماعة، ويدل له قوله: وأنكرت الوجوه. ومن أمثلته دون "أم" مع ذكر الجواب، قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: ثمَّ قالوا: تحبها؟ قلت: بَهْرًا ... عدد النجم والحصى والتراب يعني: أتحبها؟ على القول الصحيح. وهو مع "أم" كثير جدًّا، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي، وأنشده سيبويه لذلك: لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا ... شعيثُ بن سهمٍ أم شعيثُ بن مِنْقَرِ يعني: أشعيث بن سهم؟ وقول ابن أبي ربيعة المخزومي: بدا لي منها معصمٌ يوم جَمَّرَتْ ... وكفٌّ خضيبٌ زُيِّنَتْ ببنان فواللَّه ما أدري وإني لحاسبٌ ... بسبعٍ رميت الجمر أم بثمان يعني: أبسبع؟ وقول الأخطل: كَذَبَتْكَ عينُك أم رأيت بواسطٍ ... غَلَسَ الظلام من الرباب خَيالا يعني: أكذبتك عينك؟ كما نص سيبويه على جواز ذلك في بيت
(1/61)
الأخطل هذا، وإن خالف الخليل زاعمًا أن "كذبتك" صيغة خبرية، وأن "أم" بمعنى "بل"، ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى بالرجوع عند البلاغيين. وقول الخنساء: قذًى بعينيك أم بالعين عُوَّارُ ... أم أَقْفَرتْ إذ خَلَتْ من أهلها الدار تعني: أقذًى بعينيك؟ وقول أُحيحة بن الجلاح الأنصاري: وما تدري وإن ذمَّرت سقبًا ... لغيرك أم يكون لك الفَصِيلُ يعني: ألغيرك؟ وقول امري القيس: تَروحُ من الحيِّ أم تَبتكِرُ ... وماذا عليك بأن تَنْتظِر يعني: أتروح؟ وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علوُّ مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير اللَّه، وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك. والآية على هذا القول تشبه قراءة ابن محيصن: "سواء عليهم أنذرتهم". ونظيرها على هذا القول قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء/ 34] يعني: أفهم الخالدون؟ ، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} [الشعراء/ 22] على أحد القولين، وقوله: {فَلَا اقْتَحَمَ
(1/62)
الْعَقَبَةَ (11)} [البلد/ 11] على أحد القولين. وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما، كالقول بإضمار القول، أي: يقول الكفار: هذا ربي. فإنه راجع إلى الوجه الأول. وأما ما ذكره ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أن إبراهيم كان ناظرًا يظن ربوبية الكوكب، فهو ظاهر الضعف؛ لأن نصوص القرآن ترده، كقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران/ 67]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل/ 123]، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء/ 51]. وقد بيَّن المحقق ابن كثير في "تفسيره" رد ما ذكره ابن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها، والأحاديث الدالة على مقتضاها، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل مولود يولد على الفطرة" الحديث. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} [آل عمران/ 90]. هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم، المزدادين كفرًا، لا يقبل اللَّه توبتهم إذا تابوا؛ لأنه عبر بـ "لن" الدالة على نفي الفعل في المستقبل. مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن اللَّه يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها، كقوله تعالى:
(1/63)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال/ 38]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى/ 25]، وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام/ 158]، فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب. وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} [آل عمران/ 86 - 89]، فالاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} راجع إلى المرتدين بعد الإيمان، المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا. ويدل له -أيضًا- قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الآية [البقرة/ 217]؛ لأن مفهومه أنه إنْ تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقًا. والجواب من أربعة أوجه: الأول -وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع أبي العالية-: أن المعنى: أن الذين كفروا من اليهود بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}؛ لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهم على ارتكاب الضلال، وعدمُ قبولها حينئذ
(1/64)
ظاهرٌ. الثاني -وهو أقربها عندي-: أن قوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} يعني: إذا تابوا عند حضور الموت. ويدل لهذا الوجه أمران: الأول: أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت، كقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء/ 18]، فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء، وقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر/ 85]، وقوله في فرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس/ 91]. فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيَّد بقيدِ تأخير التوبة إلى حضور الموت؛ لوجوب حمل المطلق على المقيد، كما تقرر في الأصول. والثاني: أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}، فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها. ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني -الذي هو التقييد بحضور الموت- عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي. الثالث: أن معنى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي: إيمانهم الأول؛ لبطلانه بالردة بعده.
(1/65)
ونقل ابن جرير (1) هذا القول عن ابن جريج. ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن. الرابع: أن المراد بقوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء/ 137]، فإن قوله تعالى: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء/ 168 - 169]، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)} الآية [يونس/ 96]. ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر/ 48] أي: لا شفاعة لهم أصلًا حتى تنفعهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} الآية [المؤمنون/ 117]؛ لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلًا، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النُّظَّار بقولهم: السالبة لا تقضي بوجود الموضوع. __________ (1) في الأصل المطبوع: ونقل خرجه ابن جرير.
(1/66)
وإيضاحه: أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين؛ لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحول، وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين: الأولى: أن يكون الموضوع موجودًا، إلا أن المحمول منتفٍ عنه، كقولك: ليس الإنسان بحجر، فالإنسان موجود والحجرية منتفيةٌ عنه. والثانية: أن يكون الموضوع من أصله معدومًا؛ لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الوجودي، لأن العدم لا يتصف بالوجود، كقولك: لا نظير للَّه يستحق العبادة. فإن الموضوع -الذي هو النظير للَّه- مستحيل من أصله، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورةً. وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، ومن شواهده قول امرئ القيس: على لاحبٍ لا يهتدى بمناره ... إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جرجرا لأن المعنى: على لاحبٍ لا منار له أصلًا حتى يهتدى به. وقول الآخر: لا تُفْزِعُ الأرنبَ أهوالُها ... ولا ترى الضبَّ بها يَنْجَحِر لأنه يصف فلاةً بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالُها الأرنبَ، أو ينجحر فيها الضب، أي: يدخل الجحر أو
(1/67)
يتخذه. وقد أوضحت مسألة أنَّ السالبة لا تقتضي وجود الموضوع في أرجوزتي في المنطق في مبحث انحراف السور، وأوضحت فيها -أيضًا- في مبحث التحصيل والعدول: أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع، نحو: بحر من زئبق ممكن، والمستحيل معدوم. فإنها موجبتان، وموضوع كل منهما معدوم. وحررنا هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه. وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته، ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر = لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء الأربعة وغيرهم، وهو مروي عن عليٍّ وابن عباس: من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية؛ لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط [لا في نفس المناط, والمتناظران قد يختلفان في تحقيق المناط] [*] مع اتفاقهما على أصل المناط. وإيضاحه: أن المناط مكان النوط، وهو التعليق. ومنه قول حسان -رضي اللَّه عنه-: وأنت زنيمٌ نِيطَ في آل هاشمٍ ... كما نيط خلف الراكبِ القدحُ الفردُ والمراد به: مكان تعليق الحكم، وهو العلة، فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحًا، إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة، الذي هو المناسبة والاخالة، فإنه يسمى تخريج المناط، وكذلك في المسلك التاسع الذي هو تنقيح المناط. __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين زيادة من مجلة الجامعة الإسلامية
(1/68)
فتخريج المناط هو: استخراج العلة بمسلك المناسبة والإخالة. وتنقيح المناط هو: تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء صالح لها، ولا يدخل شيء غير صالح لها، كما هو معلوم في محله. وأما تحقيق المناط -وهو الغرض هنا- فهو: أن يكون مناط الحكم متفقًا عليه بين الخصمين، إلا أن أحدهما يقول: هو موجود في هذا الفرع، والثاني يقول: لا. ومثاله: الاختلاف في قطع النباش، فإن أبا حنيفة -رحمه اللَّه تعالى- يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع، ولكنه يقول: لم يتحقق المناط في النباش؛ لأنه غير سارق، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز. فإذا حققت ذلك، فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته: أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته، وأنه ليس تائبًا في الباطن (1) توبة نصوحًا، فهم موافقون على أنَّ التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا، ولكن يقولون: أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط. ومن هنا اختلف العلماء في توبة الزنديق، أعني: المستسر بالكفر، فمن قائل: لا تقبل توبته، ومن قائل: تقبل، ومن مفرق بين إتيانه تائبًا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة؛ لأن الذين يقولون: __________ (1) في الأصل المطبوع: الباطل. وهو خطأ.
(1/69)
"يقتل ولا تقبل توبته" يرون أن نفاقه الباطن دليل على أن توبته تَقِيَّةٌ لا حقيقة، واستدلوا بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة/ 160]، فقالوا: الإصلاح شرط، والزنديق لا يُطَّلع على إصلاحه؛ لأن الفساد إنما أتى مما أسره، فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه. والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقًا أظهر وأقوى، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأسامة -رضي اللَّه عنه-: "هلا شققت عن قلبه"، وقوله للذي سارَّه في قتل رجل: "أليس يصلي؟ " قال: بلى. قال: "أولئك الذين نهيت عن قتلهم"، وقوله لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة: "إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس". وهذه الأحاديث في الصحيح. ويدل لذلك -أيضًا- إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر، واللَّه يتولى السرائر. وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جُنَّةٌ للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة/ 16]، وقوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة/ 95]، وقوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} الآية [التوبة/ 56]، إلى غير ذلك من الآيات. وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة، فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين جاءه رسولًا لمسيلمة: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك". فقتله ابن مسعود تحقيقًا لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد روي أنه قتله لذلك.
(1/70)
فإن قيل: هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها؛ لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد، والدليل على الأعم ليس دليلًا على الأخص؛ لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص. فالجواب: أن القرآن دل على قبول توبة من تكرر منه الكفر إذا أخلص في الإنابة إلى اللَّه. ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء/ 137]، ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} الآية [النساء/ 138]. ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليين (1) فقد صححتها جماعة من المحققين، ولا سيما إذا اعتضدت بدلالة القرينة عليها، كما هنا؛ لأن قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية، بل كونُها في خصوصهم قال به جماعةٌ من العلماء. فإذا حققت ذلك، فاعلم أن اللَّه تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب اللَّه عليه، بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا __________ (1) كذا في الأصل المطبوع. والجادة: الأصوليون. إلا أن تكون قد سقطت كلمة "بعض" قبلها.
(1/71)
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء/ 145 - 147]. وقد كان مخشي بن حمير -رضي اللَّه عنه- من المنافقين الذين أنزل اللَّه فيهم قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة/ 65 - 66] فتاب إلى اللَّه بإخلاص، فتاب اللَّه عليه، وأنزل اللَّه فيه: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} الآية [التوبة/ 66]. فتحصَّل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة، يعنون الأحكام الدنيوية، ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى اللَّه قبلها منه؛ لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية [آل عمران/ 102]. هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى اللَّه تعالى. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16]. والجواب بأمرين: الأول: أن آية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ناسخة لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ
(1/72)
حَقَّ تُقَاتِهِ}. وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، والسدي، وغيرهم. قاله ابن كثير. الثاني: أنها مبينة للمقصود بها. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران/ 103]. هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا، مع أنهم كانوا أهل فترة، واللَّه تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]، ويقول: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية [النساء/ 165]. وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} [طه/ 134]. والآيات بمثل هذا كثيرة. والذي يظهر في الجواب -واللَّه تعالى أعلم-: أنه برسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت، كما بيَّنه تعالى بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} الآية [هود/ 17]. وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة، فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرحة بانهم لم يأتهم نذير، كقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
(1/73)
آبَاؤُهُمْ} [يس/ 6]، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [السجدة/ 3]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص/ 46]، وقوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} الآية [المائدة/ 19]، وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)} [سبأ/ 44]. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران/ 123]. وصف اللَّه المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر. وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة، وهي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون/ 8]، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد. والجواب ظاهر، وهو: أن معنى وصفهم بالذلة هو قلة عَدَدهم وعُدَدهم يوم بدر، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} نزل في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين وكثر عَدَدهم وعُدَدهم. مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر، وهو: أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العَدَد والعُدَد، والعزة باعتبار نصر اللَّه وتأييده، كما يشير إلى هذا قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ
(1/74)
قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال/ 26]، وقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران/ 123]، فإن زمان الحال هو زمان عاملها، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة. فظهر أن وصف الذلة باعتبار، ووصف النصر والعزة باعتبار آخر، فانفكت الجهة. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} الآية [آل عمران/ 124]. هذه الآية تدل على أن المدد من الملائكة يوم بدر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف. وقد ذكر تعالى في سورة الأنفال أن هذا المدد ألفٌ بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} الآية [الأنفال/ 9]. والجواب عن هذا من وجهين: الأول: أنه وعدهم بألف أولًا، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم صارت خمسة، كما في هذه الآية. الوجه الثاني: أن آية الأنفال لم تقتصر على الألف بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في آل عمران، ولا سيما في قراءة نافع {من الملائكة مُرْدِفِينَ} بفتح الدال على صيغة المفعول، لأن معنى (مُرْدَفِينَ): متبوعين بغيرهم. وهذا هو الحق. وأما على قول من قال: إن المدد المذكور في آل عمران في يوم
(1/75)
أُحد، والمذكور في الأنفال في يوم بدر، فلا إشكال على قوله إلا في أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد من الملائكة. والجواب: أن إتيان المدد فيها -على القول به- مشروط بالصبر والتقوى في قوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} الآية [آل عمران/ 125]، ولما لم يصبروا ويتقوا لم يأت المدد. وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم. قاله ابن كثير. قوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} الآية [آل عمران/ 153]. قوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي: غمًّا على غم. يعني: حزنًا على حزن. أو أثابكم غمًّا بسبب غمكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعصيان أمره. والمناسب لهذا الغم -بحسب ما يسبق إلى الذهن- أن يقول: لكي تحزنوا. أما قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} فهو مشكل؛ لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه. والجواب عن هذا من أوجه: الأول: أن قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} متعلق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران/ 152]. وعليه، فالمعنى: أنه تعالى عفا عنكم؛ لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل والجراح، وفوت الغنيمة والظفر، والجزع من إشاعة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قتله المشركون.
(1/76)
الوجه الثاني: أن معنى الآية: أنه تعالى غمكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل؛ لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثر عليه. الوجه الثالث: أن "لا" صلةٌ، وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية -إن شاء اللَّه تعالى- في الجمع بين قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد/ 1]، وقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين/ 3].
(1/77)
سورة النساء
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية [النساء/ 3]. هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن، وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية [النساء/ 8]. والجواب عن هذا: أن العدل بينهن الذي ذكر اللَّه أنه ممكن هو: العدل في توفية الحقوق الشرعية. والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو: المساواة في المحبة والميل الطبيعي؛ لأن هذا انفعال لا فعل، فليس تحت قدرة البشر. والمقصود: أن من كان أَمْيَلَ بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق اللَّه وليعدل في الحقوق الشرعية، كما يدل عليه قوله: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية [النساء/ 129]. وهذا الجمع رُوي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم. نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية. وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها.
(1/78)
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". يعني: القلب. انتهى من ابن كثير. قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية [النساء/ 15]. هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد، بل تحبس إلى الموت أو إلى جَعْلِ اللَّهِ لها سبيلًا. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس، بل تجلد مائة إن كانت بكرًا. وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم. والجواب ظاهر، وهو: أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم، أو أنه كانت له غاية ينتهي إليها هي جَعْلُ اللَّهِ لهن السبيل، فجعل اللَّه السبيل بالحد، كما يدل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذوا عني قد جعل اللَّه لهن سبيلًا" الحديث. قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} الآية [النساء/ 23]. هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين. وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك
(1/79)
أليمين، وهي قوله تعالى في سورة "قد أفلح" وسورة "سأل سائل": {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)}. فقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} اسم مثنى محلَّى بـ "أل"، والمحلى بها من صيغ العموم، كما تقرر في علم الأصول (1). وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} اسم موصول، وهو -أيضًا- من صيغ العموم، كما تقرر في علم الأصول -أيضًا-. فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه، يتعارضان -بحسب ما يظهر- في صورةٍ هي جمع الأختين بمللك اليمين، فيدل عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} على التحريم، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على الإباحة، كما قال عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-: أحلتهما آية وحرمتهما أخرى. وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين: أنهما لابد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى، فيلزم الترجيح بين العمومين، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر؛ لوجوب العمل بالراجح إجماعًا. وعليه، فعموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} أرجح من عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من خمسة أوجه: __________ (1) في الأصل المطبوع: كلما تقرر خرجه في علم الأصول. وإقحام كلمة "خرجه" هنا تقدم له نظيرٌ فيما مضى!
(1/80)
الأول: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات؛ لأن السورة سورة النساء، وهي التي بين اللَّه فيها من تحل منهن ومن تحرم وآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن، بل ذكر اللَّه صفات المتقين، فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية. وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها. الثاني: أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين؛ لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعًا؛ للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعًا؛ للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء/ 22]. والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص مع العام الذي لم يدخله التخصيص هو: تقديم الذي لم يدخله التخصيص. ووجهه ظاهر. الثالث: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولاذم، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وارد في معرض مدح المتقين.
(1/81)
والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر، كقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الإنفطار/ 13 - 14] فإنه يعم كلَّ بَرٍّ مع أنه للمدح، وكلَّ فاجر مع أنه للذم. وخالف في ذلك بعض العلماء، منهم: الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- قائلًا: إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له؛ لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم. ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة/ 34] في الحلي المباح؛ لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح. فإذا حققت ذلك، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء. الرابع: أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة. الخامس: أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة؛ لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، كما سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه- في سورة المائدة. والعلم عند اللَّه تعالى. فهذه الأوجه الخمسة التي بيَّنا يُرَدُّ بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين. ولكنه يحتج بآية أخرى، وهي قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ
(1/82)
أَيْمَانُكُمْ} [النساء/ 24]، فإنه يقول: الاستثناء راجع -أيضًا- إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}، فيكون المعنى على قوله: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين. ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملًا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود": وكل ما يكون فيه العطف ... من قبل الاستثنا فكلا يقفو دون دليل العقل أو ذي السمع ... . . . . . . . . خلافًا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط. ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح؛ لأن قوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور/ 5] يرجع عنده لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور/ 4] فقط، أي: إلا الذين تابوا فقد زال فسقهم بالتوبة، ولا يقول برجوعه لقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي: إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: لا تقبلوها لهم مطلقًا؛ لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده. ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان/ 70] لجميع الجمل قبله، أعني قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان/ 68]؛ لأن
(1/83)
جميع هذه الجمل معناها في الجملة الأخيرة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}؛ لأن الإشارة في قوله: {ذَلِكَ} شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى، فبرجوعه للأخيرة رجع للكل. فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله. ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول، لو قال رجل: "هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبني زهرة وبني تميم، إلا الفاسق منهم" فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية القائلين: يخرج فاسق الأخيرة فقط. وعلى هذا، فاحتجاج داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة جارٍ على أصول المالكية والشافعية والحنابلة. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين، كابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفاتٍ هو الوقفُ وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة. وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق لأن اللَّه تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء/ 59]، وإذا رددنا هذا النزاع إلى اللَّه وجدنا القرآن دالًّا على قول هؤلاء -الذي ذكرنا أنه هو التحقيق- في آيات كثيرة: منها: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
(1/84)
إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء/ 92]، فالاستثناء راجع للدية، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولًا واحدًا؛ لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل الخطأ. ومنها: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور/ 4 - 5]، فالاستثناء لا يرجع لقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}؛ لأن القاذف إذا تاب لا تُسْقِطُ توبتُه حدَّ القذف. ومنها -أيضًا-: قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء/ 89 - 95]، فالاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لا يرجع قولًا واحدًا إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه، أعني قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)}؛ إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}. والمعنى: فخذوهم بالأسر واقتلوهم، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولاقتلهم؛ لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم، كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر. وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن
(1/85)
العظيم -الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز- تبين أنه ليس نصًا في الرجوع إلى غيرها. ومنها -أيضًا-: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء/ 83]، فالاستثناء ليس راجعًا للجملة الأخيرة التي يليها، أعني: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ}؛ لأنه لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كُلًّا ولم ينج من ذلك قليلٌ ولا كثيرٌ حتى يخرج بالاستثناء. واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء: فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ}. وقيل: راجع لقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وإذا لم يرجع للجملة التي يليها فلا يكون نصًا في رجوعه لغيرها. وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي يليها. وعليه، فالمعنى: ولولا فضل اللَّه عليكم ورحمته بإرسال محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلًا ممَّن كان على ملة إبراهيم، كورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وأضرابهم. وذكر ابن كثير أن عبد الرازق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} أن معناه: لاتبعتم الشيطان كلًّا.
(1/86)
قال: والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم. واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلَّب: أشم ندى كثير النوادي (1) ... قليل المثالب والقادحة يعني: لا مثلبة ولا قادحة. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: إطلاق القلة وإرادة العدم كثيرة في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: أُنِيخَتْ فألقت بلدةً فوق بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغامُها يعني: أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته. وقول الآخر: فما بأس لو ردت علينا تحية ... قليلًا لدى من يعرف الحق عابُها يعني: لا عاب فيها عند من يعرف الحق. وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية. __________ (1) كذا وقع هذا الشطر في الأصل المطبوع، ورحلة المؤلف إلى الحج، وبعض طبعات "تفسير ابن كثير". ولا معنى له. وحقَّق العلامة محمود شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" (8/ 577) أن صوابه: * أشمَّ كثيرُ يُدِيِّ النَّوالِ * وانظر: "ديوان الطرماح" (139).
(1/87)
وبهذا التحقيق الذي حررنا يُرَدُّ استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضًا. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء/ 25]. هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة. وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن كل زانية تجلد مائة جلدة، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور/ 2]. والجواب ظاهر، وهو: أن هذه الآية مخصصة لآية النور، لأنه لا يتعارض عام وخاص. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء/ 26]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا. ونظيرها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام/ 90]. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، هي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة/ 48]. ووجه الجمع بين ذلك مختلَفٌ فيه اختلافًا مبنيًّا على الاختلاف في حكم هذه المسألة. فجمهور العلماء على أن شرعَ من قبلنا إن ثبتَ بشرعنا فهو شرع
(1/88)
لنا، ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه؛ لأنه ما ذُكر لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل. وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين: أن معنى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: أنَّ شرائع الرسل ربما يُنْسَخُ في بعضها حكمٌ كان في غيرها، أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها. فالشِّرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل، وإما بنسخ شيء كان مشروعًا قبل. فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا؛ لأن زيادةَ ما لم يكن قبل أو نَسْخَ ما كان من قبل كلاهما ليس من محل النزاع. وأما على قول الشافعي ومن وافقه: أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا، فوجه الجمع: أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أصول الدين التي هي التوحيد، لا الفروع العملية، بدليل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية. ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة (ص) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ فقال ابن عباس: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ. . . أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داود فسجدها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول، وقد بين ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-
(1/89)
سجدها اقتداءً بداود. وقد بينت هذه المسألة بيانًا شافيًا في رحلتي، فلذلك اختصرتها هنا. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الآية [النساء/ 33]. هذه الآية تدل على إرث الحلفاء من حلفائهم. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب/ 6]. والجواب: أن هذه الآية ناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. ونسخها لها هو الحق، خلافًا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث. وقد أجاب بعضهم بأن معنى {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من الموالاة والنصرة. وعليه فلا تعارض بينهما. والعلم عند اللَّه تعالى. قو له تعالى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء/ 42]. هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون من خبرهم شيئًا يوم القيامة. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام/ 23]، وقوله تعالى: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل/ 28]،
(1/90)
وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر/ 74]. ووجه الجمع في ذلك هو مابيَّنه ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- لما سئل عن قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} مع قوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}، وهو أن ألسنتهم تقول: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} فيختم اللَّه على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فكَتْمُ الحق باعتبار اللسان، وعدمُه باعتبار الأيدي والأرجل. وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس/ 65]. وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن؛ فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء/ 78]. لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء/ 79]. والجواب ظاهر، وهو: أن معنى قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي: مطر وخصب وأرزاق وعافية، يقولوا: هذا أكرمنا اللَّه به، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: جدب وقحط وفقر وأمراض، يقولوا: هذا من عندك، أي: من شؤمك يا محمد، وشؤم ما جئت به. قل لهم: كل ذلك من اللَّه.
(1/91)
ومعلومٌ أن اللَّه هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية، كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا. ونظير هذه الآية قول اللَّه في فرعون وقومه مع موسى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف/ 131]، وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية [النمل/ 47]، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية [يس/ 18]. وأما قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي: لأنه هو المتفضل بكل نعمة، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: منْ قِبَلك، ومِنْ قِبَلِ عملك أنت، إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى/ 30]. وسيأتي -إن شاء اللَّه- تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة الشمس، في الكلام على قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 8]. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء/ 92]. قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأً بالإيمان، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان، حيث قال في كل منها: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة/ 3، المائدة/ 89] ولم يقل: "مؤمنة".
(1/92)
وهذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد، وحاصل تحرير المقام فيها أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات: الأولى: أن يتفق حكمهما وسببهما، كآية الدم التي تقدم الكلام عليها، فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معًا، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية؛ لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالًا على المثبت، كقول الشاعر وهو قيس بن الخطيم: نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ... ـدك راضٍ والرأي مختلف فحذف "راضون" لدلالة "راض" عليها. ونظيره -أيضًا- قول ضابئ بن الحارث البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيارًا بها لغريب وقول عمرو بن أحمر الباهلي: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئًا ومن أجل الطويِّ رماني وقال بعض العلماء: إن حمل المطلق على المقيد بالقياس. وقيل: بالعقل. وهو أضعفها. واللَّه تعالى أعلم. الحالة الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب، كما في هذه الآية؛ فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة، والسبب مختلف وهو قتل خطأٍ وظهارٌ مثلًا، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار
(1/93)
حملًا للمطلق على المقيد خلافًا لأبي حنيفة. ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في قصة معاوية بن الحكم السلمي: "أعتقها فإنها مؤمنة"، ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال. قال في "مراقي السعود": ونزلنَّ ترك الاستفصال ... منزلة العموم في الأقوال الحالة الثالثة: عكس هذه، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم. فقيل: يحمل فيها المطلق على المقيد. وقيل: لا. وهو أكثر العلماء. ومثاله: صوم الظهار وإطعامه، فسببهما واحد وهو الظهار، وحكمهما مختلف؛ لأن هذا صوم وهذا إطعام، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم، والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد. والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار، فإنه لم يقيد بكونه قبل أن يتماسَّا، مع أن عتقه وصومه قيِّدا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فيحمل هذا المطلق على المقيد، فيجب كون الإطعام قبل المسيس. ومثَّل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين، حيث قُيِّدَ بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة/ 89]، وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}، فيحمل المطلق على المقيد،
(1/94)
فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم. الحالة الرابعة: أن يختلفا في الحكم والسبب معًا. ولا حَمْلَ فيها إجماعًا، وهو واضح. وهذا فيما إذا كان المقيد واحدًا. أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما؛ لتنافي قيديهما، ولكنه ينظر فيهما، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حُمِلَ المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء، فيقيد بقيده، وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما، ويبقى على إطلاقه؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجح. مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر: صوم كفارة اليمين، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع، وصومٍ التمتع مقيد بالتفريق، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع؛ لأن كلًّا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع. وقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" لم تثبت؛ لإجماع الصحابة على عدم كتب "متتابعات" في المصحف. ومثال كونها ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر: صوم قضاء رمضان، فإن اللَّه قال فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة/ 184]، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق، مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر، فلا يقيد
(1/95)
بقيد واحد منهما، بل يبقى على الاختيار، إن شاء تابعه وإن شاء فرقه. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} الآية [النساء/ 93]. هذه الآية تدل على أن القاتل عمدًا لا توبة له، وأنه مخلد في النار. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/ 48]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الآية [الفرقان/ 68 - 70]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر/ 53]، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية [طه/ 82]. وللجمع بين ذلك أوجه: منها: أن قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} أي: إذا كان مستحلًا لقتل المؤمن عمدًا؛ لأن مستحل ذلك كافر. قاله عكرمة وغيره. ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير، وابن جرير عن ابن جريج: من أنها نزلت في مِقْيَس بن صبابة، فإنه أسلم هو وأخوه
(1/96)
هشام وكانا بالمدينة، فوجد مقيس أخاه قتيلًا في بني النجار ولم يعرف قاتله، فأمر له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدية، فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل، وقد أرسل معه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا من قريش من بني فهر، فعمد مقيس إلى الفهري رسولِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقتله، وارتد عن الإسلام، وركب جملًا من الدية وساق معه البقية، ولحق بمكة مرتدًّا، وهو يقول في شعر له: قتلت به فهرًا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضطجعتُ موسًدا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع ومقيس هذا هو الذي قال فيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا أؤمنه في حلٍّ ولا حرم". وقُتِلَ متعلقًا بأستار الكعبة يوم الفتح. فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة، المستحل للقتل، المرتد عن الإسلام، لا إشكال في خلوده في النار. وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها، بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار. الوجه الثاني: أن المعنى: فجزاؤه إن جوزي، مع إمكان ألَّا يُجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيء. وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف. الوجه الثالث: أن الآية للتغليظ في الزجر.
(1/97)
ذكر هذا الوجه الخطيب (1) والآلوسي في تفسيريهما، وعزاه الآلوسي لبعض المحققين. واستدلَّا عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران/ 97]، على القول بأن معناه: ومن لم يحج. وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- الثابت في "الصحيحين" -للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: "لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال". وهذا الوجه من قبيل: كفرٌ دون كفر، وخلودٌ دون خلود، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود: المكث الطويل. والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث، ومنه قول لبيد: فوقفت أسالها وكيف سؤالنا ... صمًّا خوالد ما يبين كلامها إلا أن الصحيح في معنى الآية: الوجه الثاني والأول. وعلى التغليظ في الزجر حمل بعض العلماء كلام ابن عباسٍ أن هذه الآية ناسخةٌ لكل ما سواها. والعلم عند اللَّه تعالى. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر أن القاتل عمدًا مؤمنٌ عاصٍ له توبة، كما عليه جمهور علماء الأمة، وهو صريح قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية [الفرقان/ 70]، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك -أيضًا- قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/ 48]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ __________ (1) الشربيني في "السراج المنير" (1/ 324).
(1/98)
جَمِيعًا} [الزمر/ 53]. وقد توافرت الأحاديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من إيمان. وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية [البقرة/ 178]، وليس أخو المؤمن إلا المؤمن، وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات/ 9] فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضًا. ومما يدل على ذلك: ما ثبت في "الصحيحين" في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس؛ لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل؛ لأن اللَّه رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم.
(1/99)
سورة المائدة
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [المائدة/ 5]. هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقًا، ولو سموا عليها غير اللَّه أو سكتوا ولم يسموا اللَّه ولا غيره؛ لأن الكل داخل في طعامهم. وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: إنَّ المراد بطعامهم ذبائحهم. كما نقله عنهم ابن كثير، ونقله البخاري عن ابن عباس. ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون. مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير اللَّه لا يجوز أكله، وعلى أن ما لم يذكر اسم اللَّه عليه لا يجوز أكله أيضًا. أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير اللَّه، فكقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} في سورة البقرة [البقرة/ 173]، وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في المائدة والنحل [المائدة/ 3، النحل/ 115]، وقوله {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} في الأنعام [الأنعام/ 145]. والمراد بالإهلال: رفع الصوت باسم غير اللَّه عند الذبح. وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم اللَّه عليه، فكقوله:
(1/100)
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام/ 121]، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 118 - 119]، فإنه يفهم منه عدم الأكل مما لم يذكر اسم اللَّه عليه. والجواب عن مثل هذا مشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في وجه الجمع بين عموم آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير اللَّه، فيما إذا سمى الكتابي على ذبيحته غير اللَّه، بأن أَهَلَّ بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك. المبحث الثاني: في وجه الجمع بين آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} أيضًا مع قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، فيما إذا لم يسم الكتابي اللَّه ولا غيره على ذبيحته. أما المبحث الأول، فحاصله أن بين قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وبين قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} عمومًا وخصوصًا من وجهِ، تنفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} في الخبز والجبن من طعامهم مثلًا، وتنفرد آية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في ذبح الوثني لوثنه، ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير اللَّه، كالصليب أو عيسى، فعموم قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يقتضي تحريمها، وعموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يقتضي حلِّيتها.
(1/101)
وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمَّيْن من وجهٍ يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها، فيجب الترجيح بينهما، والراجح منهما يقدَّم ويخصَّص به عموم الآخر، كما قدمنا في سورة النساء في الجمع بين قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] مع قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6]، وكما أشار له صاحب "مراقي السعود" بقوله: وإن يك العموم من وجه ظهر ... فالحكم بالترجيح حتمًا معتبر فإذا حققت ذلك، فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح؟ فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة، وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك، ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد، كما ذكره صاحب "المغني"، وهو قول ابن عمر وربيعة، كما نقله عنهما البغوي في "تفسيره"، وذكره النووي في "شرح المهذب" عن علي وعائشة. ورجح بعضهم عموم آية التحليل بأن اللَّه أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون. كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير اللَّه. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعددة: منها: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والإثم
(1/102)
ما حاك في النفس" الحديث، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". ومنها: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما تقرر في الأصول. وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة -كما هنا- فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار؛ لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام. بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم؛ لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب؛ لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، والدالُّ على الأمر مقدم على الدال على الإباحة؛ للاحتياط في البراءة من عهدة الطلب. وقد أشار إلى هذا صاحب "مراقي السعود" في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله: وناقل ومثبت والآمر بعد ... النواهي ثم هذا الآخر على الإباحةِ. . . . ... . . . . . . . . . . فإن معنى قوله: "والآمر بعد النواهي" أن ما دل على الأمر بعد ما دل على النهي، فالدال على النهي هو المقدم. وقوله: "ثم هذا الآخر على الإباحة" يعني: أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة
(1/103)
كما ذكرنا. فتحصل أن الأول النهي، فالأمر، فالإباحة، فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير اللَّه على إباحة طعام أهل الكتاب. واعلم أن العلماء اختلفوا فيما حرم على أهل الكتاب، كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود، هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي؟ فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم؛ لأن الذكاة لا تتجزأ. وكرهه مالك، ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب. واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر. وإيضاح ذلك: أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، قالوا: المحرَّم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية. فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في "صحيح البخاري" من تقرير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مغفل -رضي اللَّه عنه- على أخذه جرابًا من شحم اليهود يوم خيبر. وبما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أنس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أضافه يهودى على خبز شعير وإهالةٍ سَنِخَةٍ، أى: وَدكٍ متغير الريح. وبقصة الشاة المسمومة التي سمتها اليهودية له -صلى اللَّه عليه وسلم- ونهش من ذراعها، ومات منها بشر بن البراء بن معرور، وهي مشهورة صحيحة، قالوا: إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- عزم على أكلها هو ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا؟ وقد تقرر في
(1/104)
الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال، كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله: ونزلنَّ ترك الاستفصال ... منزلة العموم في المقال والذي يظهر لمقيده -عفا اللَّه عنه- أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك. أما حديث عبد اللَّه بن مغفل وحديث أنس -رضي اللَّه عنهما- فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم، ومطلق الشحم ليس حرامًا عليهم؛ بدليل قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام/ 146]، فما في الحديثين أعم من محل النزاع، والدليل على الأعم ليس دليلًا على الأخص؛ لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء. ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجَب، وأشار له صاحب "مراقي السعود" بقوله: والقول بالموجَب قدحه جلا ... وهو تسليم الدليل مُسْجَلا من مانع أن الدليل استلزما ... لما من الصور فيه اختصما أما القول بالموجَب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي، وهو ضربان معروفان في علم البلاغة. وقصدنا هنا القول بالموجَب بالاصطلاح الأصولي لا البياني.
(1/105)
وأما تركه -صلى اللَّه عليه وسلم- الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفى أنه لا دليل فيه؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينظر بعينه ولا يخفى عليه شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم، كما هو ضروري، فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر. وأجْرَى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور: الكراهة التنزيهية؛ لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم؛ لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه، والذكاة لا يظهر تجزُّؤها، فحكم المسألة مشتبه، ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه. وأما المبحث الثاني: وهو الجمع بين قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم اللَّه ولا اسم غيره. فحاصله: أن في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وجهين من التفسير: أحدهما -وإليه ذهب الشافعي، وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي-: أن المراد بما لم يذكر اسم اللَّه عليه هو ما أهل به لغير اللَّه. وعلى هذا التفسير فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لا شيء آخر. الوجه الثاني: أنها على ظاهرها. وعليه فبين الآيتين -أيضًا- عموم وخصوص من وجه، تنفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم اللَّه، فهو
(1/106)
حلال بلا نزاع، وتنفرد آية {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم اللَّه عليه، فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع، وما ذبحه المسلم من غير تسمية يأتي حكمه إن شاء اللَّه. ويجتمعان فيما ذبحه كتابي ولم يسم اللَّه عليه، فيتعارضان فيه، فيدل عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على الإباحة، ويدل عموم {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} على التحريم، فيصار إلى الترجيح كما قدمنا. واختلف في هذين العمومين -أيضًا- أيهما أرجح؟ فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. وقال بعضهم بترجيح عموم {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وقال النووي في "شرح المهذب": ذبيحة أهل الكتاب حلال، سواء ذكروا اسم اللَّه عليها أم لا؛ لظاهر القرآن العزيز. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن عليٍّ والنخعي وحماد بن سليمان وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم. فإن ذبحوا على صنم أو غيره لم يحل. انتهى محل الغرض منه بلفظه. وحكى النووي القول الآخر عن علي -أيضًا- وأبي ثور وعائشة وابن عمر. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن
(1/107)
لعموم كعل من الآيتين مرجحًا، وأن مرجح آية التحليل أقوى وأحق بالاعتبار. أما آية التحليل فيرجح عمومها بأمرين: الأول: أنها أقل تخصيصًا، وآية التحريم أكثر تخصيصًا؛ لأن الشافعي ومن وافقه خصَّصوها بما ذبح لغير اللَّه، وخصصها الجمهور بما تركت فيه التسمية عمدًا، قائلين: إن تركها نسيانًا لا أثر له، وآية التحليل ليس فيها من التخصيص غيرِ صورة النزاع إلا تخصيص واحد، وهو ما قدمنا من أنها مخصوصة بما لم يذكر عليه اسم غير اللَّه على القول الصحيح. وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصًا مقدم على الأكثر تخصيصًا، كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلًا مقدم على ما دخله. وعلى هذا جمهور الأصوليين. وخالف فيه السبكي والصفي الهندي، وبين صاحب "نشر البنود في شرح مراقي السعود" في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي في شرح قوله: تقديم ما خُصَّ على ما لم يُخَصّ ... عكسه كل أتى عليه نص أن الأقل تخصيصًا مقدم على الأكثر تخصيصًا، وأن ما لم يدخله التخصيص مقدم على ما دخله عند جماهير الأصوليين، وأنه لم يخالف فيه إلا السبكي وصفي الدين الهندي. والثاني -ما نقله ابن جرير- ونقله عنه ابن كثير -عن عكرمة والحسن البصري ومكحول-: أن آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}
(1/108)
ناسخة لآية {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وقال ابن جرير وابن كثير: إن مرادهم بالنسخ التخصيص. ولكنا قدمنا أن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ، لأن التخصيص بيانٌ، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل. ويدل لهذا أن آية {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} من سورة الأنعام، وهي مكية بالإجماع، وآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة. وأما آية التحريم فيرجح عمومها بما قدمنا من مرجحات قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}؛ لأن كلتيهما دلت على نهي يظهر تعارضه مع إباحة. وحاصل هذه المسألة: أن ذبيحة الكتابي لها خمس حالات لا سادسة لها: الأولى: أن يُعلم أنه سمَّى اللَّه عليها. وفي هذه تؤكل بلا نزاع، ولا عبرة بخلاف الشيعة في ذلك، لأنهم لا يعتد بهم في الإجماع. الثانية: أنه يُعلم أنه أهلَّ بها لغير اللَّه. ففيها خلاف، وقد قدمنا أن التحقيق أنها لا تؤكل؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. الثالثة: أن يُعلم أنه جمع بين اسم اللَّه واسم غيره. وظاهر النصوص أنها لا تؤكل أيضًا؛ لدخولها فيما أهل لغير اللَّه به. الرابعة: أن يُعلم أنه سكت ولم يسم اللَّه ولا غيره. فالجمهور
(1/109)
على الإباحة، وهو الحق، والبعض على التحريم، كما تقدم. الخامسة: أن يُجهل الأمر؛ لكونه ذبح حالة انفراده. فتؤكل على ما عليه جمهور العلماء، وهو الحق، إن لم يُعرف الكتابيُّ بأكل الميتة كالذي يسل عنق الدجاجة بيده، فإن عُرف بأكل الميتة لم يؤكل ما غاب عليه عند بعض العلماء، وهو مذهب مالك، ويجوز أكله عند البعض، بل قال ابن العربي المالكي: إذا عاينَّاه يَسُلُّ عنق الدجاجة بيده فلنا الأكل منها؛ لأنها من طعامه، واللَّه أباح لنا طعامه. واستبعده ابن عبد السلام. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: هو جدير بالاستبعاد؛ فكما أن نساءهم يجوز نكاحهن ولا تجوز مجامعتهن في الحيض، فكذلك طعامهم يجوز لنا من غير إباحة الميتة؛ لأن غاية الأمر أن ذكاة الكتابي تحل ذكاةً كذكاة المسلم. وما وعدنا به من ذكر حكم ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه، فحاصله أن فيه ثلاثة أقوال: أرجحها -وهو مذهب الجمهور-: أنه إن ترك التسمية عمدًا لم تؤكل؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وإن تركها نسيانًا أكلت؛ لأنه لو تذكر لسمى اللَّه. قال ابن جرير: مَنْ حرَّم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول الحجة وخالف الخبر الثابت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال ابن كثير: إن ابن جرير يعني بذلك ما رواه البيهقي عن ابن
(1/110)
عباس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المسلم يكفيه اسمه؛ إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم اللَّه وليأكله". ثم قال ابن كثير: إن رفع هذا الحديث خطأ، أخطأ فيه معقل بن عبيد اللَّه الجزري، والصواب وقفه على ابن عباس، كما رواه بذلك سعيد بن منصور وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي. ومما استدل به البعض على أكل ذبيحة الناسي للتسمية: دلالة الكتاب والسنة والإجماع على العذر بالنسيان. ومما استدل به البعض لذلك: حديث الحافظ أبو أحمد بن عدي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسم اللَّه على كل مسلم". ذكر ابن كثير هذا الحديث وضعَّفه بأن في إسناده مروان بن سالم أبا عبد اللَّه الشامي، وهو ضعيف. القول الثاني: أن ذبيحة المسلم تؤكل ولو ترك التسمية عمدًا. وهو مذهب الشافعي -رحمه اللَّه- كما تقدم؛ لأنه يرى أنه ما لم يذكر اسم اللَّه عليه يراد به ما أُهِلَّ به لغير اللَّه لا شيء آخر. وقد ادعى بعضهم انعقاد الإجماع قبل الشافعي على أن متروك التسمية عمدًا لا يؤكل. ولذلك قال أبو يوسف وغيره: لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ؛ لمخالفته الإجماع. واستغرب ابن كثير حكاية الإجماع على ذلك قائلًا: إن الخلاف فيه قبل الشافعي معروف.
(1/111)
القول الثالث: أن المسلم إذا لم يسم على ذبيحته لا تؤكل مطلقًا، تركها عمدًا أو نسيانًا. وهو مذهب داود الظاهري. وقال ابن كثير: ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين: أنهما كرها متروك التسمية نسيانًا. والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرًا. ثم ذكر ابن كثير أن ابن جرير لا يعتبر مخالفة الواحد أو الاثنين للجمهور، فيعده إجماعًا مع مخالفة الواحد أو الاثنين، ولذلك حكى الإجماع على أكل متروك التسمية نسيانًا مع أنه نقل خلاف ذلك عن الشعبي وابن سيرين. مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث المسألة الأولى: اعلم أن كثيرًا من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم، وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل أو لكنائسهم. قائلين: إن الأول مما أُهِلَّ به لغير اللَّه، دون الثاني فمكروهٌ عندهم كراهة تنزيه، مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة/ 3]. والذي يظهر لمقيده -عفا اللَّه عنه- أن هذا الفرق باطلٌ، بشهادة القرآن؛ لأن الذبح على وجه القربة عبادةٌ بالإجماع، وقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} الآية [الكوثر/ 2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام/ 162]. فمن صرف شيئًا من ذلك لغير اللَّه فقد جعله شريكًا مع اللَّه في
(1/112)
هذه العبادة التي هي الذبح، سواء كان نبيًا أو ملكًا أو بناءًا أو شجرًا أو حجرًا أو غير ذلك، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح، كما نص عليه تعالى بقوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران/ 80]، ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [آل عمران/ 79]، قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [آل عمران/ 64]. فإن قيل: قد رَخَّصَ في أكل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمؤة بن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم. فالجواب: أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم، وقد خالفهم فيه غيرهم، وممن خالفهم: أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- والإمام الشافعي -رحمه اللَّه-، واللَّه تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [النساء/ 59]، فنرد هذا النزاع إلى اللَّه فنجده حرَّم ما أُهِل به لغير اللَّه. وقوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} يدخل فيه الملك والنبي، كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان. وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم
(1/113)
الصنم، وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك، وبين الصنم والنصب، فلزمهم القول بالمنع. وأما استدلالهم بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة/ 3] فلا دليل فيه؛ لأن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ليس بمخصص لقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل/ 115]؛ لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد الحكم العام بحكم العام لا يخصِّصُه، على الصحيح، وهو مذهب الجمهور، خلافًا لأبي ثور محتجًا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص. وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام. فإذا حققت ذلك، فاعلم أن ذكر البعض لا يخصِّص العام، سواء ذُكِرا في نص واحد، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة/ 238]، أو ذُكِر كل واحد منهما على حدة، كحديث الترمذي وغيره: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وحديث مسلم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرَّ بشاة ميتة فقال: "هلا أخذتم إهابها" الحديث. فذِكْرُ الصلاة الوسطى في الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات، وذِكْرُ إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة، لأن ذكر البعض لا يخصص العام. وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصِّص -أيضًا- على
(1/114)
الصحيح، كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة/ 228] فإن الضمير راجع إلى قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات، مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن. وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" مبينًا معه أيضًا أن سبب الواقعة لا يخصصها، وأن مذهب الراوي لا يخصص مرويه على الصحيح فيهما أيضًا، بقوله: . . . . . . . . . . . . . ... ودع ضمير البعض والأسبابا وذكر ما وافقه من مفرد ... ومذهب الراوي على المعتمد وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض، وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر. أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور، وتقدم رد مذهبه. ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، فإنا نجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله: "دع ما يريبك إلى ما يريبك". المسألة الثانية: اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب، كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم، فالجمهور على أن ذبائحهم لا تؤكل. قاله ابن كثير. وهو مذهب الشافعي، ونقله النووي في "شرح المهذب" عن علي وعطاء وسعيد بن جبير.
(1/115)
ونقل النووي -أيضًا- إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخراساني والزهري، والحكم وحماد وأبى حنيفة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور. وصحح هذا القول ابن قدامة في "المغني" محتجًا بعموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}. وحجة القول الأول ما روي عن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: ما نصارى العرب بأهل كتاب، لا تحل لنا ذبائحهم. وما روي عن علي -رضي اللَّه عنه-: لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب. ولأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل، ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدِّل، فصاروا كالمجوس لما أشكل أصرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم. ذكر هذا صاحب "المهذب"، وسكت عليه النووي في الشرح قائلًا: إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم. ويفهم منه عدم إباحة أكل ذكاة اليهود والنصارى اليوم؛ لتبديلهم، لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى. المسألة الثالثة: ذبائح المجوس لا تحل للمسلمين. قال النووي في "شرح المهذب": هي حرام عندنا، وقال به جمهور العلماء، ونقله ابن المنذر عن أكثر العلماء. قال: وممن قال به: سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح
(1/116)
وسعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وعبيد اللَّه بن زيد ومرة الهمداني ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وقال ابن كثير في تفسير قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}: وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعًا وإلحاقًا لأهل الكتاب، فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، خلافًا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعيِّ وأحمدِ بن حنبل، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء، حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، يعني: في هذه المسألة. وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب"، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في "صحيح البخاري" عن عبد الرحمن بن عوف: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، فدل بمفهومه -مفهوم المخالفة- على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل. انتهى كلام ابن كثير بلفظه. واعترض عليه في الحاشية الشيخ السيد محمد رشيد رضا بما نصه فيه: أن هذا مفهوم لقب وهو ليس بحجة. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الصواب مع الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-، واعتراض الشيخ عليه سهو منه، لأن مفهوم قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مفهوم علة لا مفهوم لقب كما ظنه الشيخ، لأن مفهوم
(1/117)
اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما علق فيه الحكم باسم جامد، سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع. وضابطه: أنه هو الذي ذكر ليمكن الإسناد إليه فقط؛ لاشتماله على صفة تقتضي تخصيصه بالذكر دون غيره. أما تعليق هذا الحكم -الذي هو إباحة طعامهم- بالوصف بإيتاء الكتاب فهو تعليق الحكم بعلته؛ لأن الوصف بإيتاء الكتاب صالحٌ لأن يكون مناط الحكم بحلية طعامهم. وقد دل المسلك الثالث من مسالك العلة -المعروف بالإيماء والتنبيه- على أن مناط حلية طعامهم هو إيتاؤهم الكتاب، وذلك بعينه هو المناط لحلية نكاح نسائهم؛ لأن ترتيب الحكم بحلية طعامهم ونسائهم على إيتائهم الكتاب لو لم يكن لأنه علته لما كان في التخصيص بإيتاء الكتاب فائدة. ومعلومٌ أن ترتيب الحكم على وصفٍ لو لم يكن علَّته لكان حشوًا من غير فائدة = يُفْهَمُ منه أنه علته بمسلك الإيماء والتنبيه. قال في "مراقي السعود" في تعداد صور الإيماء: كما إذا سَمِعَ وصفًا فحَكَم ... وذكرُه في الحكم وصفًا قد ألم إن لم يكن علته لم يفد ... ومنعَه مما يفيتُ استفد ترتيبه الحكم عليه واتضح ... . . . . . . . . . . . ومحل الشاهد منه قوله: "استفد ترتيبه الحكم عليه"، وقوله: "وذكره في الحكم وصفًا إن لم يكن علته لم يفد".
(1/118)
ومما يوضح ما ذكرنا: أن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} موصول، وصلته جملة فعلية، وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور: أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة "أل" بمثابة الفعل مع الموصول. ولذا عمل الوصف المقترن بـ "أل" الموصولة في الماضي؛ لأنه بمنزلة الفعل، كما أشار له في "الخلاصة" بقوله: وإن يكن صلة أل ففي المضي ... وغيره إعماله قد ارتضي فإذا حققت ذلك علمت أنَّ {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بمثابة ما لو قلت: وطعام المؤتين الكتاب، بصيغة اسم المفعول، ولم يقل أحد: إنَّ مفهوم اسم المفعول مفهوم لقب، لاشتماله على أمر هو المصدر يصلح أن يكون المتصف به مقصودًا للمتكلم دون غيره، كما ذكروا في مفهوم الصفة. فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم، وهي العلة في إباحة طعامهم ونكاح نسائهم، فادعاء أنها مفهوم لقب سهوٌ ظاهر. وظهر أن التحقيق أن المفهوم في قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مفهوم علة، ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة، فالصفة أعم من العلة. وإيضاحه -كما بينه القرافي-: أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة؛ كوجوب الزكاة في السائمة، فإن علته ليست السوم
(1/119)
فقط، ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش؛ لأنها سائمة، ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى، وهي مع السوم أتم منها مع العلف، وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة. وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- هو الصواب. وقد تمرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم، أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه، وممن حكى الإجماع عليه: الآمدي والسبكي في "شرح المختصر"، ودليل جوازه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ومثاله: تخصيص حديث: "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته". أي: يحل العِرض بقوله: مطلني، والعقوبة بالحبس؛ فإنه مخصَّصٌ بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23]؛ لأن فحواه تحريم أذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد. وأما تخصيصه بمفهوم المخالفة ففيه خلاف، والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير -تغمده اللَّه برحمته الواسعة- وهو التخصيص. والدليل عليه ما قدمنا من أنَّ إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. وقيل: لا يجوز التخصيص به. ونقله الباجي عن أكثر المالكية. وحجة هذا القول: أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق، وهو مقدم على المفهوم. ويجاب بأن المقدم عليه
(1/120)
منطوق خاص لا ما هو من أفراد العام، فالمفهوم مقدم عليه؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. واعتمد التخصيص صاحب "مراقي السعود" في قوله -في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة-: واعتبرَ الإجماعَ جلُّ الناس ... وقسمي المفهوم كالقياس ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة: تخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في أربعين شاة شاة"، الذي يشمل عمومُه السائمةَ والمعلوفةَ، بمفهوم قوله: "في الغنم السائمة زكاة" عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة، وهم الأكثر؛ لأنه يفهم منه أن غير السائمة لا زكاة فيها، فيخصص بذلك عموم: "في أربعين شاة شاة". والعلم عند اللَّه تعالى. المسألة الرابعة: ما صاده الكتابي بالجوارح والسلاح حلالٌ للمسلم؛ لأن العقر ذكاة الصيد. وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة، وبه قال عطاء والليث والأوزاعي وابن المنذر وداود وجمهور العلماء، كما نقله عنهم النووي في "شرح المهذب". وحجة الجمهور واضحة، وهي قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، وخالف مالك وابن القاسم ففرقا بين ذبح الكتابي وصيده مستدلين بقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة/ 94]؛ لأنه خص الصيد بأيدي المسلمين ورماحهم دون غير المسلمين. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر لي -واللَّه أعلم- أن هذا الاحتجاج لا ينهض على الجمهور، وأن الصواب مع الجمهور.
(1/121)
وقد وافق الجمهور من المالكية: أشهب وابن هارون وابن يونس والباجي واللخمي. ولمالكٍ في "الموازية" كراهته. قال ابن بشير: ويمكن حمل "المدونة" على الكراهة. المسألة الخامسة: ذبائح أهل الكتاب في دار الحرب كذبائحهم في دار الإسلام. قال النووي: وهذا لا خلاف فيه، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه. قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. .} الآية [المائدة/ 42]. هذه الآية الكريم تدل على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، وهى قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [المائدة/ 49]. والجواب: أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ناسخ لقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة/ 42]. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وغير واحد. قاله ابن كثير. وقيل: معنى {وَأَنِ احْكُمْ} أي: إذا حكمت بينهم فاحكم بما أنزل اللَّه لا باتباع الهوى. وعليه فالأُولى محكمة. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الآية [المائدة/ 106].
(1/122)
هذه الآية تدل على قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} [النحل/ 105]، وقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور/ 4]، أي: فالكافرون أحرى برد شهادتهم، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق/ 2]، وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ. . .} الآية [البقرة/ 282]. والجواب عن هذا على قول من لا يقبل شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر أنه يقول: إن قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ بآيات اشتراط العدالة. والذي يقول بقبول شهادتهما يقول: هي محكمة مخصصة لعموم غيرها. وهذا الخلاف معروف، ووجه الجواب على كلا القولين ظاهر. وأما على قول من قال: إن معنى قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: من قبيلة الموصى، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير قبيلة الموصى من سائر المسلمين، فلا إشكال في الآية. ولكن جمهور العلماء على أن قوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير المسلمين، وأن قوله: {مِنْكُمْ} أي: من المسلمين. وعليه فالجواب ما تقدم. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ
(1/123)
لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة/ 109]. هذه الآية يفهم منها أن الرسل لا يشهدون يوم القيامة على أممهم. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أنهم يشهدون على أممهم، كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء/ 41]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ. . .} [النحل/ 89]. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول -وهو اختيار ابن جرير، وقال فيه ابن كثير: لا شك أنه حسن-: أن المعنى: لا علم لنا إلا علمٌ أنت أعلم به منا، فلا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن عرفنا من أجابنا فإنما نعرف الظواهر ولا علم لنا بالبواطن، وأنت المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم. الثاني -وبه قال مجاهد والسدي والحسن البصري، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره أنهم قالوا-: لا علم لنا؛ لما اعتراهم من شدة هول يوم القيامة، ثم زال ذلك عنهم فشهدوا على أممهم. والثالث -وهو أضعفها-: أن معنى قوله: {مَاذَا أَجَبْتُمُ} ماذا عملوا بعدكم، وما أحدثوا بعدكم؟ قالوا: لا علم لنا. ذكر ابن كثير وغيره هذا القول، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن.
(1/124)
قوله تعالي: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة/ 115]. هذه الآية الكريمة تدل على أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة. وقد جاء في بعض الآيات ما يوهم خلاف ذلك، كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء/ 145]، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر/ 46]. والجواب: أن آية {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} وآية {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} لا منافاة بينهما؛ لأن كلًا من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار في أشد العذاب، وليس في الآيتين ما يدل على أن بعضهم أشد عذابًا من الآخر. وأما قوله: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ} الآية، فيجاب عنه من وجهين: الأول -وهو ما قاله ابن كثير-: أن المرأد بالعالمين عالموا زمانهم. وعليه فلا إشكال. ونظيره قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [البقرة/ 47] كما تقدم. الثاني: ما قاله البعض من أن المراد به العذاب الدنيوي الذي هو مسخهم خنازير. ولكن يدل لأنه عذاب الآخرة ما رواه ابن جرير عن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون".
(1/125)
وهذا الإشكال في أصحاب المائدة لا يتوجه إلا على القول بنزول المائدة، وأن بعضهم كفر بعد نزولها. أما على قول الحسن ومجاهد أنهم خافوا من الوعيد فقالوا: لا حاجة لنا في نزولها فلم تنزل، فلا إشكال. ولكن ظاهر قوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} يخالف ذلك، وعلى القول بنزولها لا يتوجه الإشكال إلا إذا ثبت كفر بعضهم، كما لا يخفى.
(1/126)
سورة الأنعام
قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ. . .} الآية [الأنعام/ 62]. هذه الآية الكريمة تدل على أن اللَّه مولى الكافرين. ونظيرها قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} [يونس/ 30]. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} [محمد/ 11]. والجواب عن هذا: أن معنى كونه مولى الكافرين: أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء. ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين، أي: ولاية المحبة والتوفيق والنصر. والعلم عند اللَّه تعالى. وأما على قول من قال: إن الضمير في قوله: {رُدُّوا} وقوله: {مَوْلَاهُمُ} عائد إلى الملائكة، فلا إشكال في الآية أصلًا. ولكن الأول أظهر. قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} [الأنعام/ 69]. هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات اللَّه بالاستهزاء والتكذيب.
(1/127)
وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم، وهي قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء/ 140]. اعلم أولًا أن في معنى قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وجهين للعلماء: الأول: أن المعنى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات اللَّه من حساب الكفار من شيء. وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلًا. الوجه الثاني: أن معنى الآية: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما يقع من الكفار من الخوض فى آيات اللَّه في مجالستهم لهم من شيء. وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة، ثم نسخ بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}. وممن قال بالنسخ فيه: مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم، كما نقله عنهم ابن كثير. فظهر أن لا إشكال على كلا القولين. ومعنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} على الوجه الأول: أنهم إذا اجتنبوا مجالسيهم سلموا من الإثم، ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لعلهم
(1/128)
يتقون اللَّه بسبب ذلك. وعلى الوجه الثاني فالمعنى: إن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير؛ لعلهم يتقون الخوض في آيات اللَّه بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم. وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام/ 92]. يتوهم منه الجاهل أن إنذاره -صلى اللَّه عليه وسلم- مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، ونظيره قوله تعالى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ} الآية [الشورى/ 7]. وقد جاءت آيات أخر تصرح بعموم إنذاره -صلى اللَّه عليه وسلم- لجميع الناس، كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان/ 1]، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام/ 19]، وقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف/ 158]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ/ 28]. والجواب من وجهين: الأول: أن المراد بقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} شامل لجميع الأرض،
(1/129)
كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس. الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة -حرسها اللَّه-، كجزيرة العرب مثلًا؛ فإن الآيات الأخر نصت على العموم، كقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان/ 1]. وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور، وقد قدمنا ذلك واضحًا بأدلته في سورة المائدة. فالآية على هذا القول كقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء/ 214]، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم، كما هو واضح. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام/ 99]، وقوله أيضًا: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام/ 141]. أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان، ونفاه عنهما. والجواب ما قاله قتادة -رحمه اللَّه- من أن المعنى: متشابهًا ورقها مختلفًا طعمها. واللَّه تعالى أعلم. قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الآية [الأنعام/ 103]. هذه الآية الكريمة توهم أن اللَّه تعالى لا يرى بالأبصار.
(1/130)
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة/ 22 - 23]، وكقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس/ 26]، فالحسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه الكريم. وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق/ 35] على أحد القولين، وكقوله تعالى في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين/ 15] يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن المعنى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام/ 103] أي: في الدنيا. فلا ينافي الرؤية في الآخرة. الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة. وهذا قريب في المعنى من الأول. الثالث -وهو الحق-: أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكُنْهِ، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة، واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك. وحاصل هذا الجواب: أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية؛ لأن الإدراك المراد به الإحاطة، والعرب تقول: رأيت الشيء وما أدركته. فمعنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}: لا تحيط به، كما أنه تعالى يَعْلَمُه
(1/131)
الخلق ولا يحيطون به علمًا. وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، مع أن اللَّه تعالى لا يُدْرِكُ كُنْهَه على الحقيقة أحد من الخلق. والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعًا: "حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا، ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقًا. والحاصل: أن رؤيته تعالى بالأبصار جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة؛ لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلًا، ويدل لجوازها عقلًا قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف/ 143]؛ لأنه لا يجهل الجائز في حق اللَّه تعالى عقلًا. وأما في الشرع: فهي جائزة وواقعة في الآخرة، ممتنعة في الدنيا. ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعًا: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام/ 106]. لا يعارض آيات السيف؛ لأنها ناسخة له.
(1/132)
قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 128]. هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باقٍ بقاء لا انقطاع له أبدًا. ونظيرها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود/ 106 - 107]، وقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ/ 23]. وقد جاءت آيات تدل على أن عذابهم لا انقطاع له، كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء/ 169]. والجواب عن هذا من أوجه: أحدها: أن قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} معناه: إلا من شاء اللَّه عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها، وهم أهل الكبائر من الموحدين. ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان. واختاره ابن جرير. وغاية ما في هذا القول إطلاق "ما" وإرادة "من"، ونظيره في القرآن: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء/ 3]. الثاني: أن المدة التي استثناها اللَّه هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم. قاله ابن جرير أيضًا.
(1/133)
الوجه الثالث: أن قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فيه إجمال، وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدًا. وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له، والظهور من المرجحات، فالظاهر مقدم على المجمل، كما تقرر في الأصول. ومنها: أن "إلَّا" في سورة هود بمعنى: سوى ما شاء اللَّه من الزيادة على مدة دوام السموات والأرض. وقال بعض العلماء: إن الاستثناء على ظاهره، وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد. وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون أحقابا. وعن ابن عباسٍ أنها تأكلهم بأمر اللَّه. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر لي -واللَّه تعالى أعلم- أن هذه الدار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين، كما جزم به البغوي في تفسيره؛ لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن. أما ما يقول كثير من العلماء من الصحابة ومَنْ بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته. وإيضاحه: أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم
(1/134)
الصحيح، وغيرها راجع إليها: الأولى: أن يقال بفناء النار، وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها. الثانية: أن يقال: إنهم ماتوا، وهي باقية. الثالثة: أن يقال: إنهم أخرجوا منها، وهي باقية. الرابعة: أن يقال: إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخفف عليهم. وذهابُ العذاب رأسًا، واستحالته لذةً، لم نذكرهما من الأقسام؛ لأنَّا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذةً، فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما. وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه. أما فناؤها: فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء/ 97]. وقد قال تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار. وبيَّن عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود/ 108]، وبقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص/ 54]، وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل/ 96]. وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء/ 97]، فمن يقول: إن للنار خبوة ليس
(1/135)
بعدها زيادة سعير، رُدَّ عليه بهذه الآية الكريمة. ومعلوم أن "كلما" تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} الآية [النساء/ 56]. وأما موتهم: فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر/ 36]، وقوله: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)} [طه/ 74]، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم/ 17]، وقد بين -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أفلَح، فيذبح، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". وأما إخراجهم منها: فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 167]، وبقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة/ 20]، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة/ 37]. وأما تخفيف العذاب عنهم: فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر/ 36]، وقوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ/ 30]، وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف/ 75]، وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان/ 65]، وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} [الفرقان/ 77]، وقوله تعالى: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)} [النحل/ 85]، وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة/ 37].
(1/136)
ولا يخفى أن قوله: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} كلاهما فعل في سياق النفي، فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل، فهو في معنى: لا تخفيف للعذاب عنهم، ولا تفتير له. والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات، بل يلزمه ذهابهما رأسًا، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}، وقوله {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)}، وإقامتِه المنصوصِ عليها بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}. فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء/ 97]. وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فُرِضَ أن اللَّه أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها؛ لأنه وعيد وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح، وأن اللَّه تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده، ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده؛ وأن الشاعر قال: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي فالظاهر عدم صحته؛ لأمرين: الأول: أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر؛ لأن الخبر بذلك وعيد، وإخلافه على هذا القول لا بأس به. الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذَّب رسله حيث قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} [ق/ 14].
(1/137)
وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل، كقولهم: سها فسجد، أي: سجد لعلة سهوه. وسرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته. فقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} أي: وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل. ونظيرها قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} [ص/ 14]. ومن الأدلة الصريحة في ذلك: تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار، حيث قال: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق/ 28 - 29]. ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ إلى قوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان/ 33]، وقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} [الطور/ 7]. فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيدُ عصاة المؤمنين؛ لأن اللَّه بين ذلك بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/ 48]. فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام، تعيَّن القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدًا بلا انقطاع ولا تخفيف، بالتقسيم والسبر الصحيح. ولا غرابة في ذلك؛ لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول، فكان جزاؤهم دائمًا لا يزول. والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
(1/138)
فقوله: {خَيْرًا} نكرة في سياق الشرط، فهي تعم، فلو كان فيهم خيرًا ما في وقتٍ ما لعلمه اللَّه. وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام/ 28]، وعَوْدُهم بعد معاينة العذاب لا يستغرب بعده عَوْدُهم بعد مباشرة العذاب؛ لأن رؤية العذاب عيانًا كالوقوع فيه، لا سيما وقد قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق/ 22]، وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية [مريم/ 38]. وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص، كما أشار تعالى بقوله: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة/ 174]، وبقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران/ 178]. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام/ 148]. هذا الكلام الذي قالوه -بالنظر إلى ذاته- كلامٌ صدقٌ لا شك فيه؛ لأن اللَّه لو شاء لم يشركوا به شيئًا، ولم يحرموا شيئًا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب. وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام/ 107]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35]. وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقًّا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
(1/139)
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام/ 148]؟ ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف/ 20]. والجواب: أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل، فتكذيب اللَّه لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق. وإيضاحه: أن مرادهم: أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة اللَّه، وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك، فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم. فكذَّبهم اللَّه في ذلك مبينًا أنه لا يرضى بكفرهم، كما نص عليه بقوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر/ 7]، فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضى، وهو زعم باطل، بل اللَّه يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه، بدليل قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة/ 7] مع قوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}، والذي يلازم الرضى حقًّا إنما هو الإرادة الشرعية. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية [الأنعام/ 151]. هذه الآية تدل على أن هذا الذي يتلوه عليهم حرمه ربهم عليهم، فيوهم أن معنى قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أن
(1/140)
الإحسان بالوالدين وعدم الشرك حرامٌ، والواقع خلاف ذلك، كما هو ضروري. وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير للعلماء، وبحوث ومناقشات كثيرة لا تتسع هذه العجالة لاستيعابها. منها: أنها صلة، كما يأتي. ومنها: أنها بمعنى: أبينه لكلم لئلا تشركوا، ومن أطاع الشيطان مستحلاًّ فهو مشرك، بدليل قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام/ 121]. ومنها: أن الكلام تَمَّ عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ}، وأن قوله: {عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} اسم فعل يتعلق بما بعده على أنه معموله. ومنها غير ذلك. وأقرب تلك الوجوه عندنا هو ما دل عليه القرآن؛ لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك هو أن قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} مضمَّن معنى: ما وصاكم ربكم به تركًا وفعلًا. وإنما قلنا: إن القرآن دل على هذا؛ لأن اللَّه رفع هذا الإشكال وبين مراده بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}، فيكون المعنى وصاكم ألا تشركوا. ونظيره من كلام العرب قول الراجز: حَجَّ وأوصى بسليمى الأَعْبُدَا ... أن لا ترى ولا تُكَلَّمْ أحدا ومن أقرب الوجوه بعد هذا وجهان:
(1/141)
الأول: أن المعنى: يبينه لكم لئلا تشركوا. والثاني: أن "أنْ" من قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ} مفسرة للتحريم. والقدحُ فيه بأن قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام/ 153] معطوف عليه، وعطفه عليه ينافي التفسير، مدفوعٌ بعدم تعيَّن العطف؛ لاحتمال حذف حرف الجر، فيكون المعنى: ولأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه. كما ذهب إليه بعضهم. ولكن القول الأول هو الصحيح -إن شاء اللَّه تعالى-، وعليه فلا إشكال في الآية أصلًا.
(1/142)
سورة الأعراف
قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} الآية [الأعراف/ 6]. هذه الآية الكريمة تدل على أن اللَّه يسأل جميع الناس يوم القيامة. ونظيرها قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر/ 92 - 93]، وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات/ 24]، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص/ 65]. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن/ 39]، وكقوله: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص/ 78]. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول -وهو أوجهها؛ لدلالة القرآن عليه-: هو أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع، وأداتُه غالبًا "لِمَ". وسؤال استخبار واستعلام، وأداتُه غالبًا "هل". فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع، والمنفي هو سؤال الاستخبار والاستعلام. وجه دلالة القرآن على هذا: أن سؤاله لهم المنصوص في [القرآن] (1) كلُّه توبيخٌ وتقريع، كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ __________ (1) ليست في الأصل المطبوع. وبها يستقيم السياق.
(1/143)
لَا تَنَاصَرُونَ (25)} [الصافات/ 24 - 25]، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)} [الطور/ 15]، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)} [الملك/ 8]، إلى غير ذلك من الآيات. وسؤالُ اللَّه للرسل: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة/ 109] لتوبيخ الذين كذبوهم، كسؤال الموءودة: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير/ 9] لتوبيخ قاتلها. الوجه الثاني: أن في القيامة مواقف متعدد، ففي بعضها يسألون، وفي بعضها لا يسألون. الوجه الثالث: هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه. ويدل لهذا قوله تعالى: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص/ 65]. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية [الأعراف/ 12]. في هذه الآية إشكال بين قوله: {مَنَعَكَ} مع "لا" النافية؛ لأن المناسب في الظاهر لقوله: {مَنَعَكَ} -بحسب ما يسبق الى ذهن السامع لا ما في نفسى الأمر- هو حذف "لا"، فيقول: "ما منعك أن تسجد" دون "ألا تسجد". وأجيب عن هذا بأجوبة، من أقربها: هو ما اختاره ابن جرير في
(1/144)
تفسيره، وهو أن في الكلام حذفًا دل المقام عليه. وعليه، فالمعنى: ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد إذ أمرتك؟ وهذا الذي اختاره ابن جرير، قال ابن كثير: إنه حسن قوي. ومن أجوبتهم: أن "لا" صلة. ويدل له قوله تعالى في سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ} الآية [ص/ 75]. وقد وعدنا فيما مضى أنَّا -إن شاء اللَّه- نبين القول بزيادة "لا" مع شواهده العربية في الجمع بين قوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} البلد/ 1] وبين قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين/ 3]. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف/ 28]. هذه الآية الكريمة يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} الآية [الإسراء/ 16]. والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: الأول -وهو أظهرها-: أن معنى قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي بطاعة اللَّه وتصديق الرسل {فَفَسَقُوا} أي: بتكذيب الرسل ومعصية اللَّه تعالى. فلا إشكال في الآية أصلًا. الثاني: أن الأمر في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمر كوني قدري، لا أمر شرعي. أي: قدَّرنا عليهم الفسق بمشيئتنا.
(1/145)
والأمر الكوني القدري كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف/ 166]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس/ 82]. والأمر في قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف/ 28] أمر شرعي ديني. فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت. الوجه الثالث: أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي: كثَّرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا. ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعًا من حديث سويد بن هبيرة -رضي اللَّه عنه-: "خير مال امرئ: مهرة مأمورة أو سكة مأبورة". فقوله: "مأمورة، أي: كثيرة النسل. وهي محل الشاهد. قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ} الآية [الأعراف/ 51]، وأمثالها من الآيات كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة/ 67]، وقوله: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه/ 126]، وقوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} الآية [الجاثية/ 34]. لا يعارض قوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه/ 52]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم/ 64]؛ لأن معنى {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} ونحوه: أي: نتركهم في العذاب محرومين من كل خير. واللَّه تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)} الآية
(1/146)
[الأعراف/ 107]. هذه الآية تدل على شبه العصا بالثعبان، وهو لا يطلق إلا على الكبير من الحيات. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} الآية [القصص/ 31]؛ لأن الجان هو الحية الصغيرة. والجواب عن هذا: أنه شبهها بالثعبان في عظم خلقتها، وبالجانِّ في اهتزازها وخفتها وسرعة حركتها، فهي جامعة بين العظم وخفة الحركة على خلاف العادة.
(1/147)
سورة الأنفال
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال/ 2]. هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر اللَّه من علامات المؤمنين. وقد جاء في آية أخرى ما يدل علي خلاف ذلك، وهي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد/ 28]. فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرٌ. والجواب عن هذا: أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر/ 23]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية [آل عمران/ 8]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} الآية [المؤمنون/ 60]. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية [الأنفال/ 24]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول -التي هي طاعته- لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا. ونظيرها قوله تعالى: {وَلَا
(1/148)
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة/ 12]. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقًا من غير قيد، كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر/ 7]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران/ 31]، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء/ 80]. والظاهر أن وجه الجمع -واللَّه تعالى أعلم-: أن آيات الإطلاق مبينة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يدعونا إلَّا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة، فالشرط المذكور في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} متوفر في دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لمكان عصمته، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 3 - 4]. والحاصل: أن آية {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي اللَّه، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يدعو أبدًا إلا إلى ذلك، صلوات اللَّه وسلامه عليه. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال/ 33]. هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكهْ أمانَيْن يدفع اللَّه عنهم العذاب بسببهما: أحدهما: كونه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم؛ لأن اللَّه لم يهلك أمة ونبيهم فيهم. والثاني: استغفارهم اللَّه.
(1/149)
وقولُه تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال/ 34] يدل على خلاف ذلك. والجواب من أربعة أوجه: الأول -وهو اختيار ابن جرير، ونقله عن قتادة والسدي وابن زيد-: أن الأمانَيْن منتفيان، فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج من بين أظهرهم مهاجرًا، واستغفارهم معدومٌ؛ لإصرارهم على الكفر. فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل بهم في حالة استغفارهم لو استغفروا، ولا في حالة وجود نبيِّهم فيهم؛ لكنه خرج من بين أظهُرهم، ولم يستغفروا؛ لكفرهم. ومعلومٌ أن الحال قيدٌ لعاملها وصفٌ لصاحبها. فالاستغفار -مثلًا- قيدٌ في نفي العذاب، لكنهم لم يأتوا بالقيد. فتقرير المعنى: وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا. وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر يوم بدر، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة/ 21]. الوجه الثاني: أن المراد بقوله: {يَسْتَغْفِرُونَ (33)} استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة. وعليه، فالمعنى: أنه بعد خروجه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان استغفار المؤمنين سببًا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية [الأنفال/ 32].
(1/150)
وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادقِ بخصوص المؤمنين منهم. ونظير الآية عليه قولُه تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف/ 77]، مع أن العاقر واحد منهم، بدليل قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} [القمر/ 29] وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح/ 15 - 16] أي: جعل القمر في مجموعهن الصادقِ بخصوص السماء التي فيها القمر؛ لأنه لم يجعل في كل سماء قمرًا، وقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130] أي: من مجموعكم الصادقِ بخصوص الإنس -على الأصح-؛ إذ ليس من الجن رسل. وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادًا بعضُه بقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن/ 22] زاعمين أن معنى قوله: {مِنْهُمَا} أي: من مجموعهما الصادقِ بخصوص البحر المِلْح؛ لأن العَذْبَ لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان، فهو قول باطل بنص القرآن العظيم. فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرينِ كليهما حيث قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر/ 12] فقوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ} صريح في إرادة العَذْبِ والمِلْح معًا. وقوله: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هي: اللؤلؤ والمرجان. وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه اللَّه عنهم باستغفار
(1/151)
المؤمنين الكائنين بين أظهرهم، وقولُه تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي: بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببًا لدفع العذاب الدنيوي، فبعد خروجهم عذب اللَّه أهل مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى فتح مكة. ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسبب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية، كما بينه تعالى بقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} [الفتح/ 25]. فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو تزيل الكفار من المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم، ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوى لعدم تميزهم من المؤمنين، كما بينه بقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ. .} الآية. ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزى. وحاصل هذا القول: أن كفار مكة لما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً. . .} الآية، أنزل اللَّه قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، ثم لما هاجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقيت طائفة من المسلمين بمكة يستغفرون اللَّه ويعبدونه، فأنزل اللَّه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}، فلما خرجت بقية المسلمين من مكة أنزل اللَّه قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}
(1/152)
أي: أي شيء ثبث لهم يدفع عنهم عذاب اللَّه وقد خرج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والمؤمنون من بين أظهرهم؟ ! فالآية على هذا كقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّه بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة/ 14]. الوجه الثالث: أن المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} كفار مكة. وعليه، فوجه الجمع: أن اللَّه تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم، أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة. فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} أي: في الدنيا في حالة استغفارهم، وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ} أي: في الآخرة وقد كانوا كفارًا في الدنيا. ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس. وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا، كما فسر به جماعة قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور/ 39] أي: أثابه من عمله الطيب في الدنيا، وهو صريح قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية [هود/ 15]. وقولُه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران/ 22] وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان/ 23] ونحو ذلك من الآيات، يدل على بطلان عمل الكافر من أصله، كما أوضحه تعالى بقوله:
(1/153)
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فجعل كلتا الدارين ظرفًا لبطلان أعمالهم واضمحلالها، وسيأتي -إن شاء اللَّه- تحقيق هذا المقام في سورة هود. الوجه الرابع: أن معنى قوله {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} أي: يُسْلِمون. أي: وما كان اللَّه معذبهم وقد سبق في علمه أن منهم من يسلم ويستغفر اللَّه من كفره. وعلى هذا القول فقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ} في الذين سبقت لهم الشقاوة، كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر. ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد. وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ} ناسخ لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} فبطلانه ظاهر؛ لأن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} الآية، خبرٌ من اللَّه بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم، والخبر لا يجوز نسخه شرعًا بإجماع المسلمين. وأظهر هذه الأقوال الأولان منها. قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية [الأنفال/ 65]. ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار.
(1/154)
وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية [الأنفال/ 66]. والجواب عن هذا: أن الأول منسوخ بالثاني، كما دل عليه قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال/ 66]. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال/ 72]. هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر. وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة/ 71]، فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين، وظاهرُها العموم. والجواب من وجهين: الأول: أن الولاية المنفية في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} هي ولاية الميراث، أي: ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا؛ لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بينهم، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن الذي لم يهاجر، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال/ 75]. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. كما نقله عنهم
(1/155)
أبو حيان وابن جرير. والولاية في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد؛ لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا، وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهذه الولاية لم تقصد بالنفي قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْر} الآية، فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، فدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة، فارتفع الإشكال. الثاني: هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلًا عليه بحديث أخرجه الإِمام أحمد ومسلم، أن معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني؛ لا نصيب لكم في المغانم ولا في خُمُسِها إلا فيما حضرتم فيه القتال. وعليه فلا إشكال في الآية. ولا مانع من تناول الآية للجميع، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم، ونفي القسم لهم في الغنائم والخُمس. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/156)
سورة براءة
قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [التوبة/ 5]. اعلم أولًا: أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة/ 2]، لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، على الصحيح، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واستظهر هذا القول ابن كثير؛ لدلالة سياق القرآن عليه، ولأقوال هؤلاء العلماء، خلافًا لابن جرير. وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة، بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة. وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها، وهي قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الآية [التوبة/ 36]. والجواب: أن تحريم الأشهر الحرم منسوخ بعموم آيات السيف، ومن يقول بعدم النسخ يقول: هو مخصص لها. والظاهر أن
(1/157)
الصحيح (1) كونها منسوخة، كما يدل عليه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حصار ثقيف في الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة، كما ثبت في "الصحيحين" أنه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع لهم لجأوا إلى الطائف، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يومًا وانصرف ولم يفتحها. فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام. وهذا القول هو المشهور عند العلماء. وعليه فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ناسخ لقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، وقوله: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة/ 2]، وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة/ 194]. __________ (1) في دروس الحرم في شهر رمضان سنة 92 قرر الشيخ أن الراجح هو عدم النسخ؛ لتأخر نزول هذه السورة، ولأنه ثبت في الصحيح قوله على يوم الحج الأكبر: "أي يوم هذا في أي شهر هذا" إلى أن قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا". وذكرتُ له قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَام} الآية [المائدة/ 2]، وأن فيها دليلا على بقاء حرمة الشهر الحرام، فقال: نعم، وخاصة وأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. ومثلها قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} وهي من سورة المائدة أيضًا. "عطية".
(1/158)
والمنسوخ من هذه ومن قوله: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هو تحريم الشهر في الأولى، والأشهر في الثانية، فقط، دون ما تضمنتاه من الخبر؛ لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعًا. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة/ 30 - 31]. هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} بعد أن بين وجوه شركهم، بجعلهم الأولاد للَّه واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا من دون اللَّه. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء/ 48]؛ لإجماع العلماء أن كفار أهل الكتاب داخلون فيها. وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} الآية [البينة/ 1]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية [البينة/ 6]، وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة/ 105]، والعطف يقتضي المغايرة. والذي يظهر لمقيده -عفا اللَّه عنه -: أن وجه الجمع: أن الشرك أكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع، وأهل الكتاب متصفون ببعضها وغير متصفين ببعض آخر منها.
(1/159)
أما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحًا. ولذا عطفهم عليهم؛ لاتصاف كفار مكة بما لم يتَّصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف، فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان. فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد الشيطان مشركٌ -بعبادة الشيطان- الشركَ الأكبر المخلد في النار، كما بينته النصوص القرآنية، كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)} [النساء/ 117]، فقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا} معناه: وما يعبدون إلا شيطانًا؛ لأن عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما حرمه اللَّه عليهم، وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية [يس/ 60]، وقوله تعالى عن خليله إبراهيم: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)} [مريم/ 44]، وقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الآية [سبأ/ 41]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} الآية [الأنعام/ 137]. فكل هذا الكفر بشرك الطاعة في معصية اللَّه تعالى. ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ وأنه إذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: اللَّه قتلها، أن يقولوا: ما قتلتموه بأيديكم حلال، وما قتله اللَّه حرام، فأنتم إذا أحسن من اللَّه! = أنزل اللَّه في ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
(1/160)
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام/ 121]، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية اللَّه أنه مشرك باللَّه. ولما سأل علي بن حاتم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة/ 31] كيف اتخذوهم أربابًا؟ قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألم يحلو لهم ما حرَّم اللَّه، ويحرَّموا عليهم ما أحل اللَّه فاتبعوهم؟ " قال بلى. قال: "بذلك اتخذوهم أربابًا". فبان أن أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشرك الأكبر، وإن كانوا ككفار مكة في صريح عبادة الأوثان. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية [التوبة/ 41]. هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل اللَّه على كل حال. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} الآية [التوبة/ 91]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة/ 122]. والجواب: أن آية {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} منىسوخة بآيات العذر المذكورة. وهذا الموضع كان أمثلة ما نُسِخَ فيه الناسخُ؛ لأن قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين، وهو منسوخ بآيات العذر، كما ذكرنا آنفًا، والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/161)
سورة يونس
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس/ 18]. هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يرجون شفاعة أصنامهم يوم القيامة. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على إنكارهم لأصل يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام/ 29]، وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان/ 35]، وقوله: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس/ 78]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب: أنهم يرجون شفاعتها في الدنيا لإصلاح معاشهم، وفي الآخرة -على تقدير وجودها- لأنهم شاكُون فيها. نَصَّ على هذا ابن كثير في سورة الأنعام في تفسير قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} الآية [الأنعام/ 94]. ويدل له قوله تعالى عن الكافر: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت/ 50]، وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} [الكهف/ 36]؛ لأن "إن" الشرطية تدل على الشك في حصول الشرط، ويدل له قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} في الآيتين المذكورتين. قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا
(1/162)
يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} الآية [يونس/ 88]. نص اللَّه تعالى في هذه الآية على أن هذا دعاء موسى، ولم يذكر معه أحدًا، ثم قال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس/ 89]. والجواب: أن موسى لما دعا أَمَّنَ هارون على دعائه، والمؤمِّن أحد الداعِيَيْن. وهذا الجمع مروي عن أبي العالية وأبي صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس. قاله ابن كثير. وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن قراءة الإِمام تكفي المأموم إذا أَمَّنَ له على قراءته؛ لأن تأمينه بمنزلة قراءته.
(1/163)
سورة هود
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)} [هود/ 15]. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته، كالصدقة وصلة الرحم وقِرى الضيف والتنفيس عن المكروب، في الدنيا دون الآخرة؛ لأنه تعالى قال: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} يعني الحياة الدنيا، ثم نص على بطلانها في الآخرة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} الآية [هود/ 16]. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} الآية [الشورى/ 20]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية [الأحقاف/ 20] على ما قاله ابن زيد، وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور/ 39] على أحد القولين، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال/ 33] على أحد الأقوال الماضية في سورة الأنفال. وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا. مع أنه جاءت آيات أخر تدل على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله، وفي بعضها التصريح ببطلانه في الدنيا مع الآخرة في كفر الردة وفي غيره. أما الآيات الدالة على بطلانه من أصله، فكقوله: {أَعْمَالُهُمْ
(1/164)
كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم/ 18] وكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الآية [النور/ 39]، وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان/ 23]. وأما الآيات الدالة على بطلانه في الدنيا مع الآخرة، فكقوله في كفر المرتد: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة/ 217]، وكقوله في كفر غير المرتد: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)} [آل عمران/ 21 - 22]. وبيَّن اللَّه تعالى في آيات أخر أن الإنعام عليهم في الدنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك، كقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف/ 182 - 183]، وكقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران/ 178]، وكقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام/ 44]، وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون/ 55 - 56] وقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم/ 75]، وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى قوله: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف/ 33 - 35]، إلى غير ذلك من الآيات.
(1/165)
والجواب من أربعة أوجه: الأول -ويظهر لي صوابه؛ لدلالة ظاهر القرآن عليه-: أن من الكفار من يثيبه اللَّه بعمله في الدنيا كما دلت عليه آياتٌ وصح به الحديث، ومنهم من لا يثيبه في الدنيا كما دلت عليه آياتٌ أخر. وهذا مشاهد فيهم في الدنيا، فمنهم من هو في عيش رغد، ومنهم من هو في بؤس وضيق. ووجه دلالة القرآن على هذا: أنه تعالى أشار إليه بالتخصيص بالمشيئة في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء/ 18] فهي مخصصة لعموم قوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، وعموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}. وممن صرح بأنها مخصصة لهما: الحافظ بن حجر في "فتح الباري" في كتاب الرقاق في الكلام على قول البخاري: "باب: المكثرون هم المقلون، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآيتين". ويدل لهذا التخصيص قوله في بعض الكفار: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج/ 11]. وجمهور العلماء على حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، كما تقرر في الأصول. الثاني -وهو وجية أيضًا-: أن الكافر يثاب عن عمله بالصحة وسعة الرزق والأولاد ونحو ذلك، كما صرح به تعالى في قوله:
(1/166)
{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} يعني الدنيا، وأكد ذلك بقوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)}، وبظاهرها المتبادر منها -كما ذكرنا- فسرها ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك، كما نقله عنهم ابن جرير. وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدنيا بمعنى أنها لم يُعْتَدَّ بها شرعًا في عصمة دم ولا ميراث ولا نكاح ولا غير ذلك، ولا تفتح لها أبواب السماء ولا تصعد إلى اللَّه تعالى، بدليل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر/ 10] ولا تدخر لهم في الأعمال النافعة، ولا تكون في كتاب الأبرار في عليين، وكفى بهذا بطلانا. أما مطلق النفع الدنيوي بها فهو عند اللَّه كلا شيء، فلا ينافي بطلانها، بدليل قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ} [آل عمران/ 185]، وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت/ 64]، وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف/ 33 - 35]، والآيات في مثل هذا كثيرة. ومما يوضح هذا المعنى حديث: "لو كانت الدنيا تزن عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء". ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} الآيات، ثم قال: أسنده البغوي من رواية زكرياء بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه-
(1/167)
عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو عدلت الدنيا عند اللَّه جناح بعوضة ما أعطى كافرًا منها شيئًا". قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: لا يخفى أن مراد الحافظ بن كثير -رحمه اللَّه- بما ذكرناه عنه: أن كلتا الطريقين ضعيفة، إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى، فيصلح المجموع للاحتجاج، كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج. لا تخاصم بواحدٍ أهل بيت ... فضعيفان يغلبان قويّا لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القرظي وزمعة بن صالح الجندي كلاهما ضعيف، وإنما روح مسلم عن زمعة مقرونًا بغيره لا مستقلًا بالرواية, كما بينه الحافظ ابن حجر في "التقريب". الثالث: أن معنى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} أي: نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا، كالذي قاتل ليقال: جريء، والذي قرأ ليقال: قارئ، والذي تصدق ليقال: جواد، فقد قيل له ذلك. وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه. ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعًا في المجاهد، والقارئ، والمتصدق، أنه يقال لكل واحد منهم: إنما عملت ليقال، فقد قيل. أخرجه الترمذي مطولًا، وأصله عند مسلم كما قاله
(1/168)
ابن حجر. ورواه -أيضًا- ابن جرير. وقد استشهد معاوية -رضي اللَّه عنه- لصحة حديث أبي هريرة هذا بقوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ}، وهو تفسير منه -رضي اللَّه عنه- لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث. الرابع: أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد، لا يريدون وجه اللَّه، وإنما يريدون الغنائم، فإنهم يقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظَّ لهم من جهادهم في الآخرة، والقَسْمُ لهم منها هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود/ 45] الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام. وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك حيث قال: {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود/ 46]. والجواب: أن معنى قوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: الموعود بنجاتهم في قوله: . . . (1) لأنه كافر لا مؤمن. __________ (1) في الأصل المطبوع: (لننجينك وأهلك). وهو سهو، فليس ثمَّ آية بهذا اللفظ. وورد معناها في سورة هود: 40، والمؤمنون: 27. أما آية العنكبوت: 32 ففي =
(1/169)
وقول نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} يظنه مسلمًا من جملة المسلمين الناجين، كما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود/ 46]، وقد شهد اللَّه أنه ابنه حيث قال: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود/ 42] إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عملٌ غير صالح؛ لكفره، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم، وإن كان من جملة الأهل نسبًا. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود/ 69]. هذه الآية الكريمة تدل على أن إبراهيم رد السلام على الملائكة. وقد جاء في سورة الحجر ما يوهم أنهم لما سلموا عليه أجابهم بأنه وَجلَ منهم مِنْ غير رَدِّ السلام، وذلك قوله تعالى: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)} [الحجر/ 52]. والجواب ظاهر، وهو: أن إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين، ردِّ السلام والإخبارِ بوجله منهم، فذكر أحدهما في هود والآخر في الحجر. ويدل لذلك ذكر تعالى ما يدل عليهما معًا في سورة الذاريات في قوله: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)} [الذاريات/ 25]؛ لأن قوله {مُنْكَرُونَ (25)} يدل على وجله منهم. ويوضح ذلك قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} في هود __________ = حق لوطٍ عليه السلام.
(1/170)
والذاريات، مع أن في كل منهما {قَالَ سَلَامٌ}. قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} الآية [هود/ 107]. تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات التي يظن تعارضها معه -كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} - في سورة الأنعام، وسيأتي له -إن شاء اللَّه- زيادة إيضاح في سورة النبأ. قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود/ 118 - 119]. اختلف العلماء في المشار إليه بقوله: "ذلك"، فقيل: إلا من رحم ربك وللرحمة خلقهم. والتحقيق أن المشار إليه هو اختلافهم إلى شقي وسعيد، المذكور في قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، ولذلك الاختلاف خلقهم، فخلق فريقًا للجنة وفريقًا للسعير، كما نص عليه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الآية [الأعراف/ 179]. وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "ثم يبعث اللَّه إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد". وروى مسلم من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: "يا عائشة، إن اللَّه خلق الجنة وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار
(1/171)
وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم". وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء". وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل ميسر لما خُلِقَ له". وإذا تقرر أن قوله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} معناه: أنه خلقهم لسعادة بعض وشقاوة بعض، كما قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} الآية، وقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن/ 2] فلا يخفى ظهور التعارض بين هذه الآيات مع قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات/ 56]. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول -ونقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان-: أن معنى الآية: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} أي: يعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء. فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق -التي هي عبادة اللَّه- حاصلة بفعل السعداء منهم، كما أشار له قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)} [الأنعام/ 89]. وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق المجموع وأراد بعضهم، وقد بينا أمثال ذلك من الآيات التي أطلق فيها المجموع مرادًا بعضه
(1/172)
في سورة الأنفال. الوجه الثاني -هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس، واختاره ابن جرير: أن معنى قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} أي: إلا لِيُقِرُّوا لي بالعبودية طوعًا أو كرهًا؛ لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرًا عليه. الوجه الثالث -ويظهر لي أنه هو الحق؛ لدلالة القرآن عليه-: أن الإرادة في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إرادة كونية قدرية، والإرادة في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} إرادة شرعية دينية. فبيَّن في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أنه أراد بإرادته الكونية القدرية صيرورة قوم إلى السعادة، وآخرين إلى الشقاوة. وبيَّن بقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} أنه يريد العبادة بإرادته الشرعية الدينية من الجن والإنس، فيوفق من شاء بإرادته الكونية فيعبده، ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة. ووجه دلالة القرآن على هذا: أنه تعالى بيّنه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء/ 64]، فعمَّم الإرادة الشرعية بقوله: {إِلَّا لِيُطَاعَ}، وبيَّن التخصيص في الطاعة بالإرادة الكونية بقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}، فالدعوة عامة والتوفيق خاص. وتحقيق النسبة بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية
(1/173)
الدينية: أنه بالنسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده فالإرادة الكونية أعم مطلقًا؛ لأن كل مراد شرعًا يتحقق وجوده في الخارج إذا أريد كونًا وقدرًا، كإيمان أبي بكر. وليس يوجد ما لم يُرَدْ كونًا وقدرًا ولو أريد شرعًا، كإيمان أبي لهب. فكل مراد شرعي حصل فبالإرادة الكونية، وليس كل مراد كوني حصل مرادًا في الشرع. وأما بالنسبة إلى تعلق الإرادتين بعبادة الإنس والجن للَّه تعالى، فالإرادة الشرعية أعم مطلقًا والإرادة الكونية أخص مطلقًا؛ لأن كل فرد من أفراد الجن والإنس أراد اللَّه منه العبادة شرعًا ولم يردها من كلهم كونًا وقدرًا، فتعم الإرادة الشرعية عبادة جميع الثقلين، وتختص الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم، كما قدمنا من أن الدعوة عامة والتوفيق خاص، كما بينه تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس/ 25]، فصرح بأنه يدعوا الكل ويهدي من شاء منهم. وليست النسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه، بل هي العموم والخصوص المطلق، كما بيَّنا، إلا أن إحداهما أعم مطلقا من الأخرى باعتبار، والثانية أعم مطلقًا باعتبار آخر، كما بيَّنا. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/174)
سورة يوسف
قوله تعالى: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} الآية [يوسف/ 100]. هذه الآية يدل ظاهرها على أن بعض الأنبياء ربما بعث من البادية. وقد جاء في موضع آخر ما يدل على خلاف ذلك، وهو قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف/ 109]. وأجيب عن هذا بأجوبة: منها: أن يعقوب نُبِّئ من الحضر، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية. ومنها: أن المراد بالبدو نزول موضع اسمه "بدا"، هو المذكور في قوله جميل أو كثيِّر: وأنتِ الذي حَبَّبْتِ شَغْبًا إلى بَدًا ... إليَّ وأوطاني بلادٌ سواهما حللت بهذا مرة ثم مرة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما وهذا القول مروي عن ابن عباس. ولا يخفى بعد هذا القول كما نبه عليه الألوسي في تفسيره. ومنها: أن البدو الذي جاءوا منه مستند للحضر، فهو في حكمه. واللَّه تعالى أعلم.
(1/175)
سورة الرعد
قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} [الرعد/ 7]. هذه الآية الكريمهَ فيها التصريح بأن لكل قوم هاديًا. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد، سواء فسرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام. فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هادٍ بالمعنى الخاص: قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام/ 116]، فهؤلاء المضلون لم يهدهم هادٍ الهدى الخاص، الذي هو التوفيق لما يرضي اللَّه. ونظيرها قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)} [هود/ 17]، وقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف/ 103]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء/ 8] إلى غير ذلك من الآيات. ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هادٍ بالمعنى العام، الذي هو إبانة الطريق: قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس/ 6] بناء على التحقيق من أن "ما" نافية لا موصولة، وقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} الآية [المائدة/ 19] فالذين ماتوا في هذه الفترة لم يكن لهم هادٍ بالمعنى الأعم أيضًا. والجواب عن هذا من أربعة أوجه:
(1/176)
الأول: أن معنى قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} أي: داع يدعوهم ويُرشدهم، إما إلى خير كالأنبياء، وإما إلى شرٍّ كالشياطين. أي: وأنت يا رسول اللَّه مُنذرٌ هادٍ إلى كل خير. وهذا القول مرويٌّ عن ابن عباس، من طريق علي بن أبي طلحة. وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشرِّ أيضًا، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} [الحج/ 4]، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات/ 23] وقوله تعالى: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء/ 168 - 169]. كما جاء في القرآن أيضًا إطلاق الإِمام على الداعي إلى الشرِّ، في قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص/ 41] الآية. الثاني: أن معنى الآية: أنت يا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- منذر، وأنا هادي كل قوم. ويُروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي، وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. قاله ابن كثير. وعلى هذا القول، فقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} يعني به نفسه جلَّ وعلا. ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر/ 14] يعني نفسه، كما قاله قتادهٌ. ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي: ولئن بقيتُ لأرحلنَّ بغزوةٍ ... تحوي الغنائمَ أو يموت كريمُ
(1/177)
يعني نفسه. وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء اللَّه في سورة القارعة. وتحرير المعنى على هذا القول: أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم سبقت لهم السعادة والهدى في علمي؛ لدلالة آيات كثيرة على أنه تعالى هدى قومًا وأضلَّ آخرين، على وفق ما سبق به العلم الأزلي، كقوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل/ 37]. الثالث: أن معنى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} أي: قائد. والقائد: الإِمام، والإمام: العمل. قاله أبو العالية، كما نقله عنه ابن كثير. وعلى هذا القول، فالمعنى: ولكل قومٍ عملٌ يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشرٍّ. ويدلُّ لمعنى هذا الوجه قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَتلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس/ 30]، على قراءة من قرأها بتاءين مثنَّاتين، بمعنى: تتبع كلُّ نفس ما أسلفت من خير وشرٍّ. وأما على القول بأن معنى {تتلوا}: تقرأ في كتاب عملها ما قدَّمت من خير وشر، فلا دليل في الآية. ويدلُّ له أيضًا حديث: "لِتتبعْ كلُّ أمَّة ما كانت تعبد؛ فيتبع من كان يعبدُ الشمسَ: الشمسَ، ويتبع مَنْ كان يعبد القمرَ: القمرَ، ويتبع مَنْ كان يعبد الطواغيتَ: الطواغيتَ. . . " الحديث. الرابع -وبه قال مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد-: أنَّ المراد
(1/178)
بالقوم الأُمَّة، والمراد بالهادي النبي. فيكون معنى قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} أي: ولكل أُمَّة نبي، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24]، وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس/ 47]. وكثيرًا ما يُطلق في القرآن اسم القوم على الأُمَّة، كقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف/ 59]، وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ} [الأعراف/ 65]، وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ} [الأعراف/ 73]، ونحو ذلك. وعلى هذا القول، فالمراد بالقوم في قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} أعمُّ من مُطلَق ما يصدُق عليه اسم القوم لغةً. ومما يوضّح ذلك: حديث معاوية بن حيدة القشيري -رضي اللَّه عنه- في السنن والمسانيد: "أنتم تُوَفُّون سبعين أمّة. . . " الحديث. ومعلومٌ أن ما يُطلق عليه اسم القوم لغةً، أكثر من سبعين بأضعاف. وحاصل هذا الوجه الرابع: أن الآية كقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24]، وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس/ 47]. وهذا لا إشكال فيه؛ لحصر الأُمَم في سبعين، كما بيَّن في الحديث. فآباء القوم الذين لم يُنْذَرُوا مثلًا، المذكورون في قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس/ 6] ليسوا أُمَّة مستقلَّة، حتى يرد الإشكال في عدم إنذارهم، مع قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}، بل هم بعض أُمَّة.
(1/179)
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}، لا يشكل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)} [الفرقان/ 51]؛ لأن المعنى: أرسلنا إلى جميع القرى، بل إلى الأسود والأحمر، رسولًا واحدًا هو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، مع أنَّا لو شئنا أرسلنا إلى كل قرية بانفرادها رسولًا، ولكن لم نفعل ذلك؛ ليكون الإرسال إلى الناس كلهم فيه الإظهار لفضله -صلى اللَّه عليه وسلم- على غيره من الرسل، بإعطائه ما لم يُعطَه أحدٌ قبله من الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام. كما ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في "الصحيح" من أن عموم رسالته إلى الأسود والأحمر مما خصَّه اللَّه به دون غيره من الرسل. وأقرب الأوجه المذكورة عندنا هو ما يدل عليه القرآن العظيم، وهو الوجه الرابع، وهو أن معنى الآية: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} أي: لكل أمة نبي، فلستَ يا نبي اللَّه بدعًا من الرسل. ووجه دلالة القرآن على هذا: كثرة إتيان مثله في الآيات، كقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل/ 36]، وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}. وعليه، فالحكمة في الإخبار بأن لكل أمة نبيًا أن المشركين عجبوا من إرساله -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم، كما بينه تعالى بقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس/ 2]، وقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء/ 94]، فأخبرهم أن إنذاره لهم ليس بعجب ولا غريب؛ لأن
(1/180)
لكل أمة منذرًا. فالآية كقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف/ 9]، وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء/ 163]. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ. . .} الآية [الرعد/ 36]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على إيمان أهل الكتاب؛ لأن الفرح بما أنزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دليل الإيمان. ونظيرها قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة/ 121]، وقوله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} الآية [الإسراء/ 107]. وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك، كقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة/ 1 - 6]. وبيَّن في موضع آخر أن الكافرين من أهل الكتاب أكثر، وهو قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران/ 110]. والجواب: أن الآية من العام المخصوص، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب، كعبد اللَّه بن سلام ومن أسلم من اليهود،
(1/181)
وكالثمانين الذين أسلموا من النصارى المشهورين، كما قاله الماوردي وغيره، وهو ظاهر. ويدل عليه التبعيض في قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية [آل عمران/ 199].
(1/182)
سورة إبراهيم
قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم/ 17]. يفهم من ظاهره موت الكافر في النار. وقوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} يصرح بنفي ذلك. والجواب: أن معنى {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ} أي: أسبابه المقتضية له عادة، إلا أن اللَّه يمسك روحه في بدنه مع وجود ما يقتضي موته عادة. وأوضح هذا المعنى بعض المتأخرين ممن لا حجة في قوله بقوله: ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إن الكلاب طويلة الأعمار قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} الآية [إبراهيم/ 48]. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بتبديل الأرض يوم القيامة. وقد جاء في آية أخرى ما يتوهم منه أنها تبقى ولا تتغير، وهي قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} [الكهف/ 7 - 8]، فإنه تعالى في هذه الآية صرح بأنه جعل ما على الأرض زينة لها؛ لابتلاء الخلق، ثم بين أنه يجعل ما على الأرض صعيدًا جرزًا، ولم يذكر أنه يغير نفس الأرض، فيتوهم منه أن التغيير حاصل في ما عليها دون نفسها.
(1/183)
والجواب: هو أن حكمة ذكر ما عليها دونها؛ لأن ما على الأرض من الزينة والزخارف ومتاع الدنيا، هو سبب الفتنة والطغيان ومعصية اللَّه تعالى. فالإخبار عنه بأنه فانٍ زائل فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الإفتتان به، ولهذه الحكمة خص بالذكر. فلا ينافي تبديل الأرض المصرح به في الآية الأخرى، كما هو ظاهر. مع أن مفهوم قوله: {مَا عَلَيْهَا} مفهوم لقب؛ لأن الموصول الذي هو "ما" واقع على جميع الأجناس الكائنة على الأرض زينة لها. ومفهوم اللقب لا يعتبر عند الجمهور، وإذا كان لا اعتبار به لم تظهر منافاة أصلًا. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/184)
سورة الحجر
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} الآية [الحجر/ 26]. ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال؛ أي طين يابس. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {طِينٍ لَازِبٍ (11)} [الصافات/ 11]، وكقوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران/ 59]. والجواب: أنه ذكر أطوار ذلك التراب، فذكر طوره الأول بقوله: {مِنْ تُرَابٍ}، ثم بُلَّ فصار طينًا لازبًا، ثم خُمِّرَ فصار حمأً مسنونًا، ثم يبس فصار صلصالًا كالفخار. وهذا واضح. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/185)
سورة النحل
قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} الآية [النحل/ 25]. هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين يحملون أوزارهم كاملة، ويحملون -أيضًا- من أوزار الأتباع الذي أضلوهم. وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه لا يحمل أحد وزر غيره، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر/ 18]، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر/ 18]. والجواب: أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم؛ لأنهم تحملوا وزر الضلال ووزر الإضلال. فمن سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها؛ لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا؛ لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به. وبهذا يزول الإشكال -أيضًا- في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} الآية [العنكبوت/ 13]. قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} الآية [النحل/ 67]. هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السَّكَرَ المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب لا بأس به؛ لأن اللَّه امتنَّ به على عباده في سورة الامتنان
(1/186)
التي هي سورة النحل. وقد حرَّم اللَّه تعالى الخمر بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} الآية [المائدة/ 90]؛ لأنه وصفها بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، ورتب عليه رجاء الفلاح. ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح، وهو كذلك. وقد بيَّن -صلى اللَّه عليه وسلم- أن كل ما خامر العقل فهو خمر، وأن كل مسكر حرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام. والجواب ظاهر، وهو: أن آية تحريم الخمر ناسخة لقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} الآية. ونسخها له هو التحقيق، خلافًا لما يزعمه كثير من الأصوليين أن تحريم الخمر ليس نسخًا لإباحتها الأولى؛ لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية، وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصلية، وتسمى استصحاب العلم الأصلي، والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخًا، ولو كان رفعها نسخًا لكان كل تكليف في الشرع ناسخًا للبراءة الأصلية من التكليف به. وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية أشار في "مراقي السعود" بقوله: وما من الإباحة العقلية ... قد أخذت فليست الشرعية كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخًا لإباحتها؛ لأنها إباحة عقلية، وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخًا، بقوله:
(1/187)
أباحها في أول الإِسلام ... براءة ليست من الأحكام وإنما قلنا: إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخًا لإباحتها؛ لأن قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} يدل على إباحة الخمر شرعًا، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي؛ فهو نسخ بلا شك، ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر. ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب اللَّه: الأولى: هذه الآية الدالة على إباحتها. الثانية: الآية التي ذكر فيها بعض معائبها، وأن فيها منافع، وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها، وهي قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة/ 219]، فشربها بعد نزولها قومٌ للمنافع المذكورة، وتركها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع. الثالثة: الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها، وهي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} الآية [النساء/ 43]. الرابعة: الآية التي حرمتها تحريمًا باتًا مطلقًا، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة/ 90 - 91].
(1/188)
والعلم عند اللَّه تعالى. وأما على قول من زعم أن السَّكَر الطعمُ -كما اختاره ابن جرير وأبو عبيدة- أو أنه النحل، فلا إشكال في الآية. قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} الآية [النحل/ 100]. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه. ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر/ 42]. وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية [سبأ/ 20 - 21] وقوله تعالى حاكيًا عنه مقررًا له: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية [إبراهيم/ 22]. والجواب: هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه؛ وذلك من وجهين: الأول: أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان. وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن.
(1/189)
الثاني: أن اللَّه لم يجعل له عليهم سلطانًا ابتداء البتة، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن اللَّه يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء/ 76]، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم. ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل/ 128]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية اللَّه خاصة بالمتقين المحسنين. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها، وهي قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة/ 7]، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد/ 4]، وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف/ 7]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية [يونس/ 61]. والجواب: أن للَّه معية خاصة ومعية عامة. فالمعية الخاصة: بالنصر والتوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتقين المحسنين، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية [النحل/ 128] وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال/ 12] الآية، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه/ 46]، وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة/ 40].
(1/190)
ومعية عامة: بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، محيط بكل شيء، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبَّة خردل في يد أحدنا, وله المثل الأعلى. وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة الحديد إن شاء اللَّه. وهي عامة لكل الخلائق، كما دلت عليه الآيات المتقدمة.
(1/191)
سورة بني إسرائيل
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن اللَّه تعالى لا يعذب أحدًا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. ونظيرها قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية [طه/ 134] وقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام/ 131]، إلى غير ذلك من الآيات. ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا، في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الآية [الملك/ 8 - 9] ومعلوم أن "كلما" صيغة عموم. ونظيرها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} إلى قوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)} [الزمر/ 71]، فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعم كل كافر؛ لما تقرر في الأصول من أنَّ الموصولات من صيغ العموم؛ لعمومها كل ما تشمله صِلاتها، كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله: صيغُه كلٌّ أو الجميع ... وقد تلا الذي التي الفروع
(1/192)
ومعنى قوله: "وقد تلا الذي. . . " الخ: أن "الذي" و"التي" وفروعها صيغ عموم، ككل وجميع. ونظيره -أيضًا- قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} إلى قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِير} [فاطر/ 37]، فإنه عام أيضًا؛ لأن أول الكلام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر/ 36]. وأمثال هذا كثيرة في القرآن. مع أنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار، كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة/ 113]، فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك عموم قوله تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء/ 18]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة/ 161]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} الآية [آل عمران/ 91]، إلى غير ذلك من الآيات. اعلم -أولًا- أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرًا حتى مات، اختلف العلماء فيه: هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟ كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله: ذو فترة بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع
(1/193)
وسنذكر -إن شاء اللَّه- جواب أهل كل واحد من القولين، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه. فنقول وباللَّه نستعين: قد قال قوم: إن الكافر في النار، ولو مات في زمن الفترة. وممن جزم بهذا القول: النووي في "شرح مسلم"؛ لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة. وحكى القرافي في "شرح التنقيح" الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار؛ لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب "نشر البنود". وأجاب أهل هذا القول عن آية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها من ثلاثة أوجه: الأول: أن التعذيب المنفي في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها هو التعذيب الدنيوي، فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة. وذكر الشوكاني في تفسيره أن اختصاص هذ التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ذهب إليه الجمهور. واستظهر هو خلافه، ورَدَّ التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات، وبأن الآيات المتقدمة -الدالة على اعتراف أهل النار جميعًا بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا- صريح في نفيه. الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية وأمثالها = في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل. أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل، كعبادة الأوثان، فلا يعذر فيه أحد؛ لأن جميع الكفار يقرون بأن اللَّه هو ربهم وهو
(1/194)
خالقهم ورازقهم، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر، لكنهم غالطوا أنفسهم، فزعموا أنها تقربهم إلى اللَّه زلفى، وأنها شفعاؤهم عند اللَّه، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك. الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله -صلى اللَّه عليه وسلم- تقوم عليهم بها الحجة. ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في "الآيات البينات". وقد قدمنا في سورة آل عمران أن هذا القول يرده القرآن في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم، كقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس/ 6]، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة/ 3]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص/ 46]، وقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)} [سبأ/ 44]، إلى غير ذلك من الآيات. وأجاب القائلون بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} من الآيات المتقدمة = بأنهم لا يتبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم ولا يُحْكَمُ لهم بالنار ولو ماتوا كفارًا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان, كأبي طالب. وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى. واعترض هذا الجواب بما ثبت في "الصحيح" من دخول بعض
(1/195)
أهل الفترة النار، كحديث: "إن أبي وأباك في النار" الثابت في "صحيح مسلم" وأمثاله من الأحاديث. واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث وإن صحت فهي أخبار آحاد، يُقَدَّمُ عليها القاطع، كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}. واعترض هذ الاعتراض -أيضًا- بأنه لا يتعارض عام وخاص، فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم، وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلًا في العموم. واعترض هذا الاعتراض -أيضًا- بأن هذا التخصيص يبطل علة العام؛ لأن اللَّه تعالى تمدح بكمال الإنصاف، وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذَّب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وبيَّن أن ذلك الإنصاف التام علةٌ لعدم التعذيب، فلو عذب إنسانًا واحدًا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة، ولثبتت لذلك المعذَّب الحجةُ التي بعث اللَّه الرسل لقطعها، كما صرح به في قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]. وهذه الحجة بينها في سورة طه بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية [طه/ 134]، وأشار لهادي سورة القصص بقوله: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} إلى قوله: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [القصص/ 47]. وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض: هل هو
(1/196)
قادح في العلة أو تخصيص لها؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول، عقده في "مراقي السعود" بقوله -في تعداد القوادح في الدليل-: منها وجود الوصف دون الحكم ... سماه بالنقض وُعَاةُ العلم والأكثرون عندهم لا يقدح ... بل هو تخصيص وذا مصحح وقد روي عن مالك تخصيص ... إن يك الاستنباط لا التنصيص وعكس هذا قد رآه البعض ... ومنتقى ذي الاختصار النقضُ إن لم تكن منصوصة بظاهر ... وليس فيما استنبطت بضائر إن جا لفقد الشرط أو لما منع ... والوفق في مثل العرايا قد وقع والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير فوجودها مع تخلف الحكم (1) لا ينقضها ولا يقدح فيها، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا نقض لها، كالقتل عمدًا عدوانًا، فإنه علهَ القصاص إجماعًا, ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده؛ لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة. وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء شرط، فإنه يكون نقضا لها وقدحًا فيها. __________ (1) في الأصل المطبوع: من تخلف الحكم.
(1/197)
ولكن يَرِدُ على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} [الحشر/ 4] علة منصوصة لقوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ} الآية [الحشر/ 3]، مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عُذبَ به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي، وهو يؤيد كون النقض تخصيصًا مطلقًا لا قدحًا. ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال: إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة، وهذه منصوصة، كما قدمنا ذلك في أبيات "مراقي السعود" في قوله: . . . . . . . . . . . . . ... وليس فيما استُنبطت بضائر إن جا لِفَقْدِ الشرط أو لما منع ... . . . . . . . . . . . . هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة. والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة؛ لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف، كما أشار له في "المراقي" بقوله: والجمع واجب متى ما أمكنا ... . . . . . . . . . . . . ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار؛ فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع عُذّبَ بالنار, وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن اللَّه يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
(1/198)
وبهذا الجمع تتفق الأدلة، فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضًا، ويحمل كل واحد من القولين على بعضٍ منهم عَلِمَ اللَّه مصيرهم، وأعلم به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيزول التعارض. والدليل على هذا الجمع: ورود الأخبار به عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} -بعد أن ساق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة، رادًّا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم- ما نصُّه: والجواب عما قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوي بالصحيح والحسن، وإذا كان أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. انتهى محل الغرض بلفظه. ثم قال: إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء، فهو مردود من وجهين: الأول: أن ذلك لا تُرَدُّ به النصوص الصحيحة عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو سلمنا عموم ما قال من أن الآخرة ليست دار عمل، لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم.
(1/199)
الثاني: أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر، بل نقول: دل القاطع عليه؛ لأن اللَّه تعالى صرح في سورة القلم بأنهم يدعون إلى السجود في قوله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية [القلم/ 42] ومعلومٌ أن أمرهم بالسجود تكليفٌ في عرصات المحشر. وثبت في "الصحيح" أن المؤمنين يسجدون يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة، طبقًا واحدًا كما أراد السجود خرَّ لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها، أن اللَّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا، ويقول اللَّه تعالى: "يا ابن آدم، ما أغدرك! "، ثم يأذن له في دخول الجنة. ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عرصات المحشر. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء/ 94]. هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)} [الكهف/ 55]. ووجه الجمع أن الحصر في آية الإسراء حصرٌ في المانع العادي.
(1/200)
والحصر في آية الكهف [حصرٌ] في المانع الحقيقي. وإيضاحه: هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية الكهف: وما منع الناس من أن يؤمنوا إلا أن اللَّه أراد أن تأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب قُبلًا في الآخرة، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين، ولا شك أن إرادة اللَّه مانعة من وقوع ما ينافي مراده. فهذا حصر في المانع الحقيقي؛ لأن اللَّه هو المانع في الحقيقة. ومعنى آية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن اللَّه يبعث رسولًا من البشر، واستغرابهم لذلك ليس مانعًا حقيقيًا بل عاديًا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه، بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه، ولا وجود الإيمان معه. ذكر هذا الجمع صاحب "الإتقان". والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} الآية [الإسراء/ 97]. هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عميًا وبكمًا وصمًا. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم/ 38]، وكقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف/ 53]، وكقوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} الآية [السجدة/ 12].
(1/201)
والجواب عن هذا من أوجه: الوجه الأول: هو ما استظهره أبو حيان، من كون المراد مما ذُكِرَ حقيقتُه، ويكون ذلك في مبدأ الأمر، ثم يرد اللَّه تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى اللَّه تعالى عنهم في غير موضع. الوجه الثاني: أنهم لا يرون شيئًا يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وروي -أيضًا- عن الحسن، كما ذكره الألوسي في تفسيره. فنُزِّلَ ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم، لعدم الانتفاع به، كما تقدم نظيره. الوجه الثالث: أن اللَّه إذا قال لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون/ 108] وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم، من شدة الكرب واليأس من الفرج. قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)} [النمل/ 85]. وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة.
(1/202)
سورة الكهف
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} [الكهف/ 20]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن المكره على الكفر لا يفلح أبدًا. وقد جاءت آية أخرى تدل على أن المكره على الكفر معذور إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، وهي قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} الآية [النحل/ 106]. والجواب عن هذا من وجهين: الأول: أن رفع المؤاخذة مع الإكراه من خصائص هذه الأمة، فهو داخل في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف/ 157]. ويدل لهذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، فهو يدل بمفهومه على خصوصه بأمته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس مفهوم لقب؛ لأن مناط التخصيص هو اتصافه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأفضلية على من قبله من الرسل، واتصاف أمته بها على من قبلها من الأمم. والحديث وإن أعله أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديمًا وحديثًا بالقبول. ومن أصرح الأدلة أن من قبلنا ليس لهم عذر بالإكراه: حديث طارق بن شهاب، في الذي دخل النار في ذباب قرَّبه لصنم، مع أنه
(1/203)
قرَّبه ليتخلص من شر عبدة الصنم، وصاحبه الذي امتنع من ذلك قتلوه. فعُلِمَ أنه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ولا إكراه أكبر من خوف القتل، ومع هذا دخل النار ولم ينفعه الإكراه. وظواهر الآيات تدل على ذلك. فقوله: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} [الكهف/ 20] ظاهرٌ فى عدم فلاحهم مع الإكراه؛ لأن قوله: {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} صريحٌ في الإكراه. وقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة/ 286] مع أنه تعالى قال: قد فعلت -كما ثبت في "صحيح مسلم"- يدل بظاهره على أن التكليف بذلك كان معهودًا قبل. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه/ 115]، مع قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه/ 121]، فأسند إليه النسيان والعصيان معًا، يدل على ذلك أيضًا. وعلى القول بأن المراد بالنسيان الترك، فلا دليل في الآية. وقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} مع قوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي في تفسيره عن الكلبي من أن المؤاخذة بالنسيان كانت من الإصر على من قبلنا، وكان عقابها يعجل لهم في الدنيا، فيحرم عليهم بعض الطيبات. وقال بعض العلماء: إن الإكراه عذر لمن قبلنا. وعليه فالجواب
(1/204)
هو: الوجه الثاني: أن الإكراه على الكفر قد يكون سببًا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه، كما يفهم من مفهوم قوله تعالى: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. وإلى هذا الوجه جنح صاحب "روح المعاني"، والأول أظهر عندي وأوضح. واللَّه تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف/ 79]. هذه الآية تدل على أن عيبها يكون سببًا لترك الملك الغاصب لها، ولذلك خرقها الخضر. وعموم قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف/ 79] يقتضي أخذ الملك للمعيبة والصحيحة معًا. والجواب: أن في الكلام حذف الصفة. وتقديره: كلَّ سفينة صالحة صحيحة. وحذف النعت إذا دل المقام عليه جائز، كما أشار له ابن مالك فى "الخلاصة" بقوله: وما من المنعوت والنعت عُقِل ... يجوز حذفه وفي النعت يَقِل ومن شواهد حذف الصفة قول الشاعر: ورُبِّ أسيلة الخَدَّين بِكْرٍ ... مهفهفةٍ لها فرغٌ وجِيدُ أي: لها فرغٌ فاحم وجِيدٌ طويل.
(1/205)
وقول عبيد بن الأبرص الأسدي: مَنْ قولُه قولٌ ومَنْ فعلُه ... فعلٌ ومَنْ نائلُه نائلُ يعني: مَنْ قولُه قولٌ فصل، وفعلُه فعلٌ جميل، ونائلُه نائلٌ جزل.
(1/206)
سورة مريم
قوله تعالى: {
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الآية [مريم/ 71]. هذه الآية الكريمة تدل على أن كل الناس لا بدَّ لهم من ورود النار، وأكد ذلك بقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [مريم/ 71]. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع لها حسًّا، وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} الآية [الأنبياء/ 101 - 102]. والجواب: هو ما ذكره الآلوسي وغيره، من أن معنى قوله: {مُبْعَدُونَ (101)} أي: عن عذاب النار وألمها. وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبًا منها. ويدل للوجه الأول ما أخرجه الإمام أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم -وصححه- وجماعة، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال آخر: يدخلونها جميعًا ثم ينجي اللَّه الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- فذكرت ذلك له. فقال -وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه-: صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم عليه السلام، حتى إنَّ للنار ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي اللَّه الذين اتقوا".
(1/207)
وروى جماعة عن ابن مسعودٍ أن ورود النار هو المرور عليها؛ لأن الناس تمر على الصراط، وهو جسر منصوب على متن جهنم. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن: الورود: المرور عليها من غير دخول. وروي ذلك -أيضًا- عن قتادة. قاله الآلوسي. واستدل القائلون بأن الورود الدخول -كابن عباس- بقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود/ 98]، وقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء/ 99]، وقوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء/ 98]. فالورود في ذلك كله بمعنى الدخول. واستدل القائلون بأن الورود القرب منها من غير دخول، بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص/ 23]، وقول زهير: فلما وردن الماء زُوْقًا جِمامُه ... وضعن عِصِيَّ الحاضرِ المتخيِّم
(1/208)
سورة طه
قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه/ 15]. هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يُخْفِها بالفعل، ولكنه قارب أن يخفيها؛ لأن "كاد" فعل مقاربة. وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام/ 59]، وقد ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المراد بمفاتح الغيب: الخمسُ المذكورة في قوله ثعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيات [لقمان/ 34]، وكقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف/ 187]، وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)} [النازعات/ 43]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب من سبعة أوجه: الأول -وهو الراجح-: أن معنى الآية: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي، أي: لو كان ذلك يمكن. وهذا على عادة العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال: كتمته من نفسي، أى: لا أبوح لأحد. ومنه قول الشاعر: أيام تصحبنى هندٌ وأخبرها ... ما كدت أكتمه عني من الخبر ونظير هذا من المبالغة قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث السبعة الذين يظلهم اللَّه-: "رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
(1/209)
وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين، وممن قال به: ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح، كما نقله عنهم ابن جرير، وجعفر الصادق، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره. ويؤيد هذا القول أن في مصحف أُبيٍّ (أكاد أخفيها من نفسي)، كما نقله الآلوسي وغيره. وروى ابن خالويه أنها في مصحف أُبيٍّ كذلك بزيادة: (فكيف أُظْهِرُكم عليها). وفي بعض القراءات بزيادة: (فكيف أظهرها لكم). وفي مصحف عبد اللَّه بن مسعود بزيادة: (فكيف يعلمها مخلوق). كما نقله الآلوسي وغيره. الوجه الثاني: أن معنى الآية: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي: أخفي الإخبار بأنها آتية. والمعنى: أقرِّبُ أن أترك الإخبار عن إتيانها من أصله؛ لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها. الوجه الثالث: أن الهمزة في قوله: {أُخْفِيهَا} هي همزة السلب؛ لأن العرب كثيرًا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل، كقولهم: شكا إليَّ فلان فأشكيته، أي فأزلت شكايته، وقولهم: عقل البعير فأعقلته، أي أزلت عقاله. وعلى هذا، فالمعنى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي: أزيل خفاءها بأنْ أظهرها؛ لقرب وقتها، كما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الآية [القمر/ 1]. وهذا القول مروي عن أبي علي، كما نقله عنه الآلوسي في تفسيره، ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي.
(1/210)
ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي: فإن تدفنوا الداء لا نُخْفِهِ ... وإن تبعثوا الحرب لا نَقْعُدِ على رواية ضم النون من "لا نخفه". وقد نقل ابن جرير في تفسيره هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من "لا نخفه"، ومعناه: لا نُظْهِرْه. أما على الرواية المشهورة بفتح النون من "لا نخفه"، فلا شاهد في البيت، إلا على قراءة من قرأ (أكاد أَخفيها) بفتح الهمزة. وممن قرأ بذلك: أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد، وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم. وإطلاق "خفاه يَخفيه" بفتح الياء، بمعنى أظهره، إطلاقٌ مشهور صحيح، إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ، ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون، وقولُ كعب بن زهير أو غيره: دابَ شهرين ثم شهرًا دميكًا ... بأريكين يخفيان غميرا أي: يُظْهِرانه. وقولُ امرئ القيس: خَفاهنَّ من أنفاقهنَّ كأنما ... خَفاهنَّ ودقٌ من عَشِيٍّ مجلَّب الوجه الرابع: أن خبر "كاد" محذوف. والمعنى على هذا القول: أن الساعة آتية أكاد أظهرها. فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)}. ونظير ذلك من كلام
(1/211)
العرب قول ضابيء بن الحارث البرجمي: هممتُ ولم أفعل وكدتُ وليتني ... تركتُ على عثمان تبكي حلائلُه يعني: وكدت افعل. الوجه الخامس: أن "كاد" تأتي بمعنى أراد، وعليه فمعنى {أَكَادُ أُخْفِيهَا}: أريد أن أخفيها. وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم، كما نقله عنهم الآلوسي وغيره. قال ابن جني في "المحتسب": ومن مجيء "كاد" بمعنى أراد قولُ الشاعر: كادت وكدتُ وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى كما نقله الآلوسي. وقال بعض العلماء: إن من مجيء "كاد" بمعنى أراد قولَه تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف/ 76] أي: أردنا له. كما ذكره النيسابوري وغيره. ومنه قول العرب: لا أفعل كذا ولا أكاد، أي: لا أريد. كما نقله بعضهم. الوجه السادس: أن "كاد" من اللَّه تدل على الوجوب، كما دلت عليه "عسى" في كلامه تعالى، نحو: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)} [الإسراء/ 51] أي: هو قريب.
(1/212)
وعلى هذا فمعنى {أَكَادُ أُخْفِيهَا}: أنا أخفيها. الوجه السابع: أنَّ "كاد" صلة. وعليه، فالمعنى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى. .} (1) الآية. واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل: سريع إلى الهيجاء شاكٍ سلاحه ... فما أن يكاد قِرْنُه يتنفسُ أي: فما يتنفس قِرْنُه. قالوا: ومن هذا القبيل قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور/ 40] أي: لم يرها. وقولُ ذي الرمة: إذا غَيَّر النأْيُ المحبِّين لم يكد ... رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ أي: لم يبرح، على قول هذا القائل. قالوا: ومن هذا المعنى قول أبي النجم: وإن أتاك نَعِيِّي فاندبنَّ أبًا ... قد كاد يضطلع الأعداء والخُطَبا أي: قد أطلع الأعداء. وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول. والعلم عند اللَّه تعالى. __________ (1) في الأصل المطبوع: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى}، بإثبات "كاد". ولعل الصواب بدونها؛ ليتضح وجه كونها صلة (زائدة).
(1/213)
قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه/ 27 - 28]. لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه إنه آتاه إياه بقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36)} [طه/ 36]، وذلك صريح في حَلِّ العقدة من لسانه. وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه، كقوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف/ 52]، وقوله تعالى عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} الآية [القصص/ 34]. والجواب: أن موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية، وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله، كما يدل عليه قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه/ 28]. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} [طه/ 27] ما نصه: وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث يزول العِيُّ ويحصل لهم فهم ما يريد منه، وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية. قال تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} أي يفصح بالكلام. وقال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)}، قال: حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أُعْطِيَ.
(1/214)
وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءًا له، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان، حدثنا بقية، عن أرطاة بن المنذر، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه، قال: أتاه ذو قرابة له، فقال له: ما بك بأس، لولا أنك تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك. فقال القرظي: يا ابن أخي، ألستُ أُفْهِمُكَ إذا حدثتك؟ قال: نعم. قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله، ولم يزد عليها. انتهى كلام ابن كثير بلفظه. وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرناه من الجواب. ويمكن أن يجاب -أيضًا- بأن فرعون كذب عليه؛ فإنَّ قوله (1): {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص/ 34] يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة، فكلاهما فصيح، إلا أن هارون أفصح. وعليه فلا إشكال. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} الآية [طه/ 47]. يدل على أنهما رسولان، وهما موسى وهارون. __________ (1) في الأصل المطبوع: كذب عليه في قوله. وهو خطأ.
(1/215)
وقوله تعالى: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)} [الشعراء/ 16] يوهم كون الرسول واحدًا. الجواب من وجهين: الأول: أن معنى قوله: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)} أي: كل واحد منا رسول رب العالمين. كقول البرجمي: * فإني وقيارًا بها لغريب * وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام. الوجه الثاني: أن أصل الرسول مصدر، كالقبول والولوع، فاستعمل في الاسم، فجاز جمعه وتثنيته نظرًا إلى كونه بمعنى الوصف، وساغ إفراد مع إرادة المثنى أو الجمع نظرًا إلى أن الأصل من كونه مصدرًا. ومن إطلاق الرسول على غير المفرد قولُ الشاعر: أَليكْنِي إليها وخيرُ الرسو ... لِ أعلمُهم بنواحي الخبر يعني: وخير الرسل. وإطلاقُ الرسول مرادًا به المصدر كثيرٌ، ومنه قوله: لقد كذب الواشون ما فُهْتُ عندهم ... بقولٍ ولا أرسلتهم برسولِ يعني: برسالة. قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49)} [طه/ 49].
(1/216)
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} يقتضي أن المخاطَب اثنان. وقوله: {يَامُوسَى (49)} يقتضي أن المخاطَب واحد. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن فرعون أراد خطاب موسى وحده. والمخاطَب إن اشترك معه في الكلام غير مخاطَبِ غلب المخاطَب على غيره، كما لو خاطبت رجلًا اشترك معه آخر في شأنٍ والثاني غائبٌ فإنك تقول للحاضر منهما: ما بالكما فعلتما كذا؟ والمخاطبَ واحد. وهذا ظاهر. الوجه الثاني: أنه خاطبهما معًا، وخَصَّ موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة. الثالث: أنه خاطبهما معًا، وخُصَّ موسى بالنداء لمطابقة رؤوس الآي، مع ظهور المراد. ونظير الآية قوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه/ 117]. ويجاب عنه: بأن المرأة تبعٌ لزوجها، وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء، وبأن الخطاب لآدم وحده، والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم، بدليل قوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه/ 117]، فِهي ذُكِرَتْ فيما خوطب به آدم والمخاطب هو وحده، ولذا قال: {فَتَشْقَى (117)} لأن الخطاب لم يتوجه إليها هي. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه/ 115].
(1/217)
ظاهر هذه الآية أن آدم ناسٍ للعهد بالنهي عن أكل الشجرة؛ لأن الشيطان قاسمه باللَّه أنه له ناصحٌ حتى دلَّاه بغرورٍ وأنساه العهد. وعليه فهو معذورٌ لا عاصٍ. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه/ 121]. والجواب عن هذا من وجهين: الأول: هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة. الثاني: أن "نسي" بمعنى ترك، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك، ومنه قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} الآية [الأعراف/ 51]. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/218)
سورة الأنبياء
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء/ 98]. هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار. وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار، كقوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} الآية [الزخرف/ 57]، وقوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)} [سبأ/ 40]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء/ 57]. والجواب من وجهين: الأول: أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى، لتعبيره بـ "ما" الدالة على غير العاقل. وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف/ 58] لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظٍ لا يتناولهم لغة. الثاني: أن الملائكة وعيسى نَصَّ اللَّه على إخراجهم من هذا، دفعًا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة، بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} الآية [الأنبياء/ 101]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
(1/219)
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)} [الأنبياء/ 108]. عبر في هذه الآية الكريمة بلفظة "إنما"، وهي تدل على الحصر عند الجمهور. وعليه، فهي تدل على حصو الوحي في توحيد الألوهية. وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوحي إليه غير ذلك، كقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} الآية [الجن/ 1]، وقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران/ 44]، وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [يوسف/ 3]. والجواب: أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصرٌ له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع؛ لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن: (لا إله إلا اللَّه)؛ لأن معناها: خلع كل الأنداد سوى اللَّه في جميع أنواع العبادات، وإفراد اللَّه بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية.
(1/220)
سورة الحج
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج/ 39]. هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب. وقد جاءت آيات تدل على وجوبه، كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة/ 5]، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الآية [التوبة/ 36]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر، وهو: أنه أذن فيه أولًا من غير إيجاب، ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة البفرة. ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد -كما نقله عنهم ابن كثير وغيره- من أن آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} هي أول آية نزلت في الجهاد. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} [الحج/ 46]. ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى. وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار، كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد/ 23]، وكقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور/ 61].
(1/221)
والجواب: أن التمييز بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين القبيح والحسن، لمَّا كان كله بالبصائر لا بالأبصار، صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار. ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل، كما هو ضروري؟ وقوله: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} يعني: بصائرهم، أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره. قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الحج/ 47]. هذه الآية الكريمة تدل علىِ أن مقدار اليوم عند اللَّه ألف سنة. وكذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة/ 5]. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، هي قوله تعالى في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} الآية [المعارج/ 4]. اعلم أولًا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلًّا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات، فلم يدر ما يقول فيها، ويقول: لا أدري. وللجمع بينهما وجهان: الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباسٍ من أن يوم الألف في سورة الحج هو أحد الأيام الستة
(1/222)
التي خلق اللَّه فيها السموات والأرض، ويومُ الألف في سورة السجدة هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى، ويومُ الخمسين ألفًا هو يوم القيامة. الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر/ 9 - 10]. ذكر هذين الوجهين صاحب "الإتقان". والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج/ 52]. هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يُلْقِي الشيطانُ في أمنيته؛ أي: تلاوته إذا تلا. ومنه قول الشاعر في عثمان -رضي اللَّه عنه-: تمنَّى كتابَ اللَّه أول ليلة ... وآخرها لاقى حِمام المقادر وقول الآخر: تمنى كتاب اللَّه آخر ليله ... تمنى داود الزبور على رسل ومعنى "تمنى" في البيتين: قرأ وتلا. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس أنه قال: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
(1/223)
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج/ 52]: إذا حَدَّثَ ألقى الشيطانُ في حديثه. وقال بعض العلماء: {إِذَا تَمَنَّى}: أَحَبَّ شيئًا وأراده. فكل نبي يتمنى إيمان أمته، والشيطان يلقي عليهم الوساوس والشبه، ليصدهم عن سبيل اللَّه. وعلى أن {تَمَنَّى} بمعنى قرأ وتلا، كما عليه الجمهور، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته: إِلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي؛ ليصد الناس عن الإيمان به، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه؛ ليظن الكفار أنه منه. وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآية المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد اللَّه المؤمنين المتوكلين، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل/ 99 - 100]، وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر/ 42]، وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص/ 82، 83]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم/ 22]. ووجه كون الآيات لا تعارض بينها: أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء: الأول: أن معنى السلطان: الحجة الواضحة. وعليه فلا
(1/224)
إشكال؛ إذ لا حجة مع الشيطان البتة، كما اعترف به فيما ذكر اللَّه عنه في قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} الثاني: أن معناه: أنه لا تَسَلُّطَ له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه. فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه. فإلقاء الشيطان في أمنية النبي -سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته- لا يتضمن سلطانًا للشيطان على النبي، بل من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق، كقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الآية [النمل/ 24]. فإن قيل: ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ سورة النجم بمكة، فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعتهن لترتجى، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم. وشاع في الناس أنَّ أهل مكة أسلموا، بسبب سجودهم مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنًا منهم أن قومهم أسلموا، فوجدوهم على كفرهم. وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين، فسلطان الشيطان بلغ إلى حَدٍّ أَدْخَلَ به في القرآن على لسان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الكفرَ البواح، حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة. فالجواب: أن قصة الغرانيق -مع استحالتها شرعًا- لم تثبت من
(1/225)
طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء، كما بيناه بيانًا شافيًا في رحلتنا. والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. ومعلوم أن الكلبي متروك. وقد بيَّن البزار أنها لا تُعْرَفُ من طريقٍ يجوز ذكره، إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله. وقد اعترف الحافظ ابن حجر -مع انتصاره لثبوت هذه القصة- بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة، إلا طريق سعيد بن جبير. وإذا علمت ذلك، فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها. فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، ثم ساق حديث القصة المذكورة. وقال البزار: لا يروى متصلًا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور. وقال البزار -أيضًا-: وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي متروك. فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل، وما كان كذلك فضعفه ظاهر. ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: إنه لم يرها مسندة من
(1/226)
وجه صحيح. وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة: ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه. ومع عدمِ صحته -بل بطلانه- فقد دفعه المحققون بكتاب اللَّه، كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} الآية [الحاقة/ 44]، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم/ 3]، وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} الآية [الإسراء/ 74]، فنفى المقاربة للركون فضلًا عن الركون. ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل، وعن البيهقي أنه قال: هي غير ثابتة من جهة النقل. وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة. وأبطلها عياض، وابن العربي المالكي، والفخر الرازي، وجماعات كثيرة. ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ بعد ذلك في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم/ 23]. فلو فرضنا أنه قال: تلك الغرانيق العلى، ثم أبطل ذلك بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا}، فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم بأنها أسماء بلا مسميات، وهذا هو الأخير؟ ! وقراءتُه -صلى اللَّه عليه وسلم- سورة النجم بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق.
(1/227)
وعلى القول ببطلانها فلا إشكال. وأما على القول بثبوت القصة، كما هو رأي الحافظ ابن حجر، فإنه قال في "فتح الباري": "إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به؛ لاعتضاد بعضها ببعض؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلًا" = فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة، من أحسنها وأقربها: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يرتل السورة ترتيلًا تتخلله سكتات، فلما قرأ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم/ 20] قال الشيطان -لعنه اللَّه- محاكيًا لصوته -صلى اللَّه عليه وسلم-: تلك الغرانيق العلى. . . الخ، فظن المشركون أن الصوت صوته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس. وقد بينا هذه المسألة بيانًا شافيًا في رحلتنا، فلذلك اختصرناها هنا. فظهر أنه لا تعارض بين الآيات. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/228)
سورة قد أفلح المؤمنون
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)} [المؤمنون/ 99]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب، والضمير بصيغة الحمع، والرب جل وعلا وأحد. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول -وهو أظهرها-: أن الواو لتعظيم المخاطَب وهو اللَّه تعالى، كما في قول الساعر: ألا فارحموني يا إله محمدٍ ... فإن لم أكن أهلًا فأنت له أهلُ وقول الآخر: وإن شئتُ حرمتُ النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بَرْدًا الوجه الثاني: أن قوله: {رَبِّ} استغاثة به تعالى، وقوله: {ارْجِعُونِ (99)} خطاب للملائكة. ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريج قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة: "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ فيقول: بل قدموني إلى اللَّه. وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون". الوجه الثالث -وهو قول المازني-: أنه جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال: رب ارجعني، ارجعني، ارجعني
(1/229)
ولا يخلو هذا القول عندي مِنْ بُعْد. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون/ 101]. هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، وأنهم لا يتساءلون يوم القيامة. وقد جاءت آيات أخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم، كقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية [عبس/ 34]. وآيات أخرى تدل على أنهم يتساءلون، كقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور/ 25]. والجواب عن الأول: أن المراد بنفي الأنساب انقطاعُ فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا، من العواطف والنفع والصِّلات والتفاخر بالآباء، لا نفيُ حقيقتها. والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه: الأول: أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معًا. الثاني: أن نفيَ السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط، وإثباتَه فيما عدا ذلك. وهو عن السدِّي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (1). __________ (1) كذا في الأصل المطبوع، و"الأضواء" (5/ 823)! وهو تلخيصٌ غير سديدٍ لكلام =
(1/230)
الثالث: أن السؤال المنفي سؤالٌ خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق؛ لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسؤول أبًا أو ابنًا أو أمًّا أو زوجة. ذكر هذه الأوجه الثلاثة -أيضًا- صاحب "الإتقان". قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)} [المؤمنون/ 113]. هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعض يوم. وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف ذلك، كقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)} [طه/ 103]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم/ 55]. والجواب عن هذا بما دل عليه القرآن، وذلك أن بعضهم يقول: لبثنا يومًا أو بعض يوم. وبعضهم يقول: لبثنا ساعة. وبعضهم يقول: لبثنا عشرًا. ووجه دلالة القرآن على هذا: أنه بيَّن أن أقواهم إدراكًا وأرجحهم عقلًا وأمثلهم طريقةً هو من يقول: إن مدة لبثهم يومًا، __________ = السيوطي في "الإتقان" (3/ 81). فإن السيوطي أورد هذا الوجه -الثاني عند المؤلف- ثم قال: "وهذا منقول عن السدي". ثم قال عقبه مباشرة: "أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أن نفي المساءلة عند النفخة الأولى وإثباتها بعد النفخة الثانية"، وهذا هو الوجه الأول عند المؤلف.
(1/231)
وذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} [طه/ 104]، فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/232)
سورة النور
قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور/ 3]. هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الأعفَّاءِ والعفائف، ويدل لذلك قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء/ 25]، وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} الآية [النساء/ 24]. وقد جاءت آيات أخر تدل بعمومها على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية [النور/ 32]، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء/ 24]. والجواب عن هذا مختلفٌ فيه اختلافًا مبنيًا على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني. فمن يقول: هو حرام. يقول: هذه الآية مخصصة لعموم {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}، وعموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. والذين يقولون بعدم المنع -وهم الأكثر- أجابوا بأجوبة: منها: أنها منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}. واقتصر صاحب "الإتقان" على النسخ. وممن قال بالنسخ: سعيد بن المسيب والشافعي. ومنها: أن النكاحَ في هذه الآية الوطءُ. وعليه فالمراد بالآية: أن
(1/233)
الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا. ومنها: أن هذا خاص؛ لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا؛ لأن ذلك هو سبب نزول الآية. فزعم بعضهم: أنها مختصة بذلك السبب، بدليل قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} الآية، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية. وهذا أضعفها. واللَّه تعالى أعلم. قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور/ 26]. هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- مما رميت به. وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، من أن معناها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. أي: فلو كانت عائشة -رضي اللَّه عنها- غير طيبة لما جعلها اللَّه زوجة لأطيب الطيبين صلوات اللَّه عليه وسلامه. وعلى هذا، فالآية الكريمة يظهر لمعارضها مع قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} إلى قوله: {مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} [التحريم/ 10]، وقوله أيضًا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} الآية [التحريم/ 11].
(1/234)
إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين، وهما نوح ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها. والجواب: أن في معنى الآية وجهين للعلماء: الأول -وبه قال ابن عباس، وروي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك، كما نقله عنهم ابن كثير، واختاره ابن جرير-: أن معناه: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول. أي: فما نسبه أهل النفاف إلى عائشة من كلامٍ خبيثٍ هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولذا قال تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور/ 26]. وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلًا بين الآيات. الوجه الثاني: هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد. وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات. والذي يظهر لمقيده -عفا اللَّه عنه- أن قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} إلى آخره -على هدا القول- من العام المخصوص، بدليل
(1/235)
امرأة نوح ولوط وامرأة فرعون. وعليه، فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب، مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيِّب كامرأة نوح ولوط، أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون؛ لحكمة بالغة، كما دل عليه قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُو}، وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} مع قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت/ 43]. فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء؛ وهي في تقييض الخبيثة للطيب: أن يبين للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان، وإنما ينفعه عمله. ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته، وأكرم الخلق على اللَّه رسله، فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار، كما قال تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} [التحريم/ 10] فيه أكبرُ واعظٍ وأعظمُ زاجرٍ عن الاغترار بالقرابة من الصالحين، والإعلامُ بأن الإنسان إنما ينفعه عمله، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الآية [النساء/ 123]. كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يُعْلَمُ منه أن الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره، وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه، أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم، فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين، كامرأة نوح
(1/236)
ولوط، والطيب طيب وإن خالط الأشرار، كامرأة فرعون. ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختيارًا، كما دلت عليه أدلة أخر. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور/ 39]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله: {جَاءَهُ} يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يُعْقَل. ومعلومٌ أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين، فلا تدرك إلا بإدراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل وقع منه المجيء، وقوله تعالى: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى: {جَاءَهُ}. والجواب عن هذا من وجهين ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية، قال: فإن قال قائل: وكيف قيل: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، فإن لم يكن السراب شيئًا، فعلام دخلت الهاء في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ}؟ قيل: إنه شيء يرى من بعيد، كالضباب الذي يرى كثيفًا من بعيد، والهباء، فإذا قرب منه دَقَّ (1) وصار كالهواء. وقد يحتمل أن يكون معناه: حتى إذا جاء موضعَ السراب لم يجد السراب شيئًا. فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه. انتهى منه بلفظه. __________ (1) كذا في الأصل. وفي "تفسير الطبري" (19/ 195): "رق" بالراء.
(1/237)
والوجه الأول أظهر عندي وعنده؛ بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه. . . إلخ. قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62]. هذه الآية الكريمة تدل على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- له الإذن لمن شاء. وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة/ 43] يوهم خلاف ذلك. والجواب ظاهر، وهو أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمرٍ جامع، كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، كما بينه تعالى بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62]. وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد، فهو الذي بيَّن اللَّه لرسوله أن الأولى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب، وذلك في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة/ 43]. فظهر أن لا منافاة بين الآيات. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/238)
سورة الفرقان
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان/ 24] هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب فى نصف نهار؛ لأن المقيل: القيلولة أو مكانها، وهي الاستراحة نصف النهار في الحَرِّ. وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير؛ لدلالة هذه الآية على ذلك، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره. وفي "تفسير الجلالين" ما نصه: "وأُخِذَ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار، كما ورد في حديثٍ" انتهى منه. مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج/ 4]. والظاهر في الجواب: أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين. ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان/ 26]، فتخصصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك. وقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر/ 9 - 10] يدل بمفهومه -أيضًا- على أنه يسير على المؤمنين
(1/239)
غير عسير، كما دل عليه قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر/ 8]. وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث، أن سعيدًا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، وذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}. ونقله عنه ابن كثير في تفسيره. ومن المعلوم أن السرور يَقْصُرُ به الزمن، والكروب والهموم سبب لطوله، كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَرِقْتث فبات ليلي لا يزولُ ... وليلُ أخي المصيبةِ فيه طولُ وقال الآخر: فقِصارهنَّ مع الهموم طويلةٌ ... وطوالُهنَّ مع السرور قِصارُ ولقد أجاد من فال: ليلي وليلى نفى نومي اختلافُهما ... في الطُّول والطَّول، طوبى لي لو اعتدلا يجود بالطُّول ليلي كلما بَخِلَتْ ... بالطَّول ليلى وإن جادت به بَخِلَا ومثل هذا كثير في كلام العرب جدًّا.
(1/240)
وأما على قول من فسر المَقِيل بأنه المأوى والمنزل -كقتادة رحمه اللَّه- فلا تعارض بين الآيتين أصلا؛ لأن المعنى على هذا القول: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًّا وأحسن مأوى ومنزلًا. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} الآية [الفرقان/ 75]. هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر/ 20]، وكقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ/ 37]. والجواب: أن الغرفة هنا بمعنى الغرف، كما تقدم مستوفى بشواهده في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} الآية [البقرة/ 29]. وقيل: إن المراد بالغرفة: الدرجة العليا في الجنة. وعليه فلا إشكال. وقيل: الغرفة الجنة، سميت غرفةً لارتفاعها.
(1/241)
سورة الشعراء
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء/ 105]. هذه الآية تدل على أن قوم نوح كذبوا جماعة من المرسلين، بدليل صيغة الجمع في قوله: {الْمُرْسَلِينَ (105)}، ثم بين ذلك بما يدل على خلاف ذلك، وأنهم إنما كذبوا رسولًا واحدًا وهو نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)} إلى قوله: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)} [الشعراء/ 106 - 117]. والجواب عن هذا: أن الرسل عليهم صلوات اللَّه وسلامه، لما كانت دعوتهم واحدة وهي: لا إله إلا اللَّه، صار مكذب واحد منهم مكذبًا لجميعهم، كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء/ 25]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل/ 36]. وقد بين تعالى أن مكذب بعضهم مكذب للجميع بقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء/ 150 - 151]. ويأتي مثل هذا الإشكال والجواب في قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} إلى آخره [الشعراء/ 123 - 124]، وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء/ 141 - 142]، وكذلك في قصة لوط وشعيب، على الجميع وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(1/242)
سورة النمل
قوله تعالى إخبارًا عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} [النمل/ 35]. يدل على تعدد رسلها إلى سليمان. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل/ 36] بإفراد فاعل "جاء"، وقوله تعالى إخبارًا عن سليمان أنه قال: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} الآية [النمل/ 37] يدل على أن الرسول واحد. والظاهر في الجواب هو ما ذكره غير واحد من أن الرسل جماعة، وعليهم رئيس منهم، فالجمع نظرًا إلى الكل، والإفراد نظرًا إلى الرئيس؛ لأن من معه تبع له. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} الآية [النمل/ 83]. هذه الآية يدل ظاهرها على أن الحشر خاص بهؤلاء الأفواج المكذبة. وقوله بعد هذا بقليل: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} [النمل/ 87] يدل على أن الحشر عام، كما صرحت به الآيات القرآنية عن كثرة. والجواب عن هذا: هو ما بينه الآلوسي في تفسيره من أن قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} يراد به الحشر العام، وقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} أي: بعد الحشر العام يجمع اللَّه المكذبين للرسل من
(1/243)
كل أمة لأجل التوبيخ المنصوص عليه بقوله: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)} [النمل/ 84]، فالمراد بالفوج من كل أمة: الفوج المكذِّب للرسل يُحْشَرُ للتوبيخ حشرًا خاصًّا. فلا ينافي حَشرَ الكلِّ لفصل القضاء. وهذا الوجه أحسن من تخصيص الفوج بالرؤساء، كما ذهب إليه بعضهم. قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} الآية [النمل/ 88]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الجبال يظنها الرائي ساكنة، وهي تسير. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الجبال راسية، والراسي هو الثابت في محل، كقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} [النازعات/ 32]، وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل/ 15]، وقوله: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [الحجر/ 19]، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات/ 27]. ووجه الجمع ظاهر، وهو أن قوله {أَرْسَاهَا (32)} ونحوه يعني: في الدنيا. وقوله: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يعني: في الآخرة، بدليل قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [النمل/ 87] ثم عطف على ذلك قله: {وَتَرَى الْجِبَالَ} الآية. ومما يدل على ذلك: النصوص القرآنية على أن سير الجبال في
(1/244)
يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف/ 47]، وقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ/ 20].
(1/245)
سورة القصص
قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} الآية [القصص/ 9]. الخطاب في قوله: {وَلَكَ} يدل على أن المخاطب واحد. وفي قوله: {لَا تَقْتُلُوهُ} يدل على أنه جماعة. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن صيغة الجمع للتعظيم. الثاني: أنها تعني فرعون وأعوانه الذين همُّوا معه بقتل موسى. فأَفْردَتْ الضمير في قولها: {وَلَكَ} لأن كونه قرة عين في زعمها يختص بفرعون دونهم، وجَمَعَتْهُ في قولها: {لَا تَقْتُلُوهُ} لأنهم شركاء معه في الهمِّ بقتله. الثالث: أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفتت أنى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لهم: {لَا تَقْتُلُوهُ}، معللة ذلك بقولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}. قوله تعالى: {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} الآية [القصص/ 29]. أهله زوجته؛ بدليل قوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} لأن المعروف أنه سار من عند شعيب بزوجته ابنة شعيب أو غير شعيب على القول بذلك. وقوله: {امْكُثُوا} خطاب جماعة الذكور، فما وجه خطاب
(1/246)
المرأة بخطاب الذكور؟ والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن الإنسان يخاطب المرأة بخطاب الجماعة، تعظيمًا لها، ونظيره قول الشاعر: فإن شئتُ حرمتُ النساءَ سواكم ... وإن شئتُ لم أطعم نقاخًا ولا بَرْدًا الثاني: أن معها خادمًا، والعرب ربما خاطبت الاثنين خطاب الجماعة. الثالث: أنه كان له مع زوجته ولدان له، اسم الأكبر منهما: جيرشوم، واسم الأصغر: اليعازر. والجواب الأول ظاهر، والثاني والثالث محتملان؛ لأنهما من الإسرائيليات. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص/ 56]. قد قدمنا أن وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى/ 52] أن الهدى المنفي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو مَنْحُ التوفيق، والهدى المثبت له هو إبانة الطريق.
سورة العنكبوت
قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [العنكبوت/ 12]. لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت/ 13]، كما تقدم بيانه مستوفى في سورة النحل. فأثقالهم: أوزار ضلالهم، والأثقال التي معها: أوزار إضلالهم، ولا ينقص ذلك شيئًا من أوزار أتباعهم الضالين. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت/ 27]. هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم. وقد ذكر في سورة الحديد ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك، في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد/ 26]. والجواب: أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته، وذُكِرَ نوح معه لأمرين: أحدهما: أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح. والثاني: أن بعض الأنبياء من ذرية نوح، ولم يكن من ذرية إبراهيم، كهود وصالح ولوط ويونس -على خلافٍ فيه-. ولا ينافي
(1/248)
ذلك الاقتصار على إبراهيم؛ لأن المراد مَنْ كان بعد إبراهيم لا مَنْ كان قبله أو في عصره، كلوطٍ، عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(1/249)
سورة الروم
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الآية [الروم/ 30]. هذا خطاب خاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد قال تعالى بعده: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم/ 31]، فقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} الواقع على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حال كونكم منيبين إليه. وقد تقرر عند علماء العربية: أن الحال إن لم تكن سببية لابد أن تكون مطابقة لصاحبها إفرادًا وتثنية وجمعًا وتذكيرًا وتأنيثًا، فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد. والجواب: أن الخطاب الخاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعم حكمه جميع الأمة، فالأمة تدخل تحت خطابه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتكون الحال من الجميع الداخل تحت خطابه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونظير هذه الآية -في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق/ 1]، فقوله: {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} بعد {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} دليل على دخول الأمة تحت لفظ النبي. وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم/ 1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}.
(1/250)
وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب/ 1]، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)} الآية. وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب/ 37]، ثم قال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية. وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس/ 61]، ثم قال: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}. ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو مذهب الجمهور، وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم اللَّه تعالى، خلافًا للشافعي رحمه اللَّه.
(1/251)
سورة لقمان
قوله تعالى: (1) {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان/ 15]. هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين. وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} الآية [المجادلة/ 22]، ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ}. والذي يظهر لي -واللَّه تعالى أعلم- أنه لا معارضة بين الآيتين. ووجه الجمع بينهما: أن المصاحبة بالمعروف أعم من المُوادَّة؛ لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم، فكأن اللَّه حذر من المودةِ المشعرة بالمحبة، والموالاةِ بالباطن لجميع الكفار، يدخل في ذلك الآباء وغيرهم، وأَمَر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف، وفعلُ المعروف لا يستلزم المودة؛ لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح. ومما يدل لذلك: إذنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تَصِلَ أمها وهي كافرة، وقال بعض العلماء: إن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية [الممتحنة/ 8]. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ
(1/252)
{وَلَدِهِ} الآية [لقمان/ 33]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن يوم القيامة لا ينفع فيه والدٌ ولدَه. وقد جاءت آية أخرى تدل على رفع درجات الأولاد بسبب صلاح آبائهم حتى يكونوا في درجة الآباء، مع أن عملهم -أي: الأولاد- لم يبلغهم تلك الدرجة، إقرارًا لعيون الآباء بوجود الأبناء معهم في منازلهم من الجنة وذلك نفع لهم، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الطور/ 21]. ووجه الجمع أشيرَ إليه بالقيد الذي في هذه الآية، وهو قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}، وعُيِّنَ فيها النفعُ بأنه ألحاقهم بهم في درجاتهم يقيد الايمان. فهي أخص من الآية الأخرى، والأخص لا يعارض الأعم. وعلى قول من فسر الآية بأن معنى قوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} يقضي عنه حقًا لزمه، ولا يدفع عنه عذابًا حَقَّ عليه، فلا إشكال في الآية. وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في سورة النجم في الكلام على: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}، إن شاء اللَّه تعالى.
(1/253)
سورة السجدة
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة/ 11]. أسند في هذه الآية الكريمة التوفِّي إلى مَلَكٍ واحد. وأسنده في آيات أخر إلى جماعة الملائكة، كقوله: {تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ [النساء/ 97]، وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام/ 61]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الآية [الأنفال/ 50]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الآية [الأنعام/ 93]. وأسنده في آية أخرى إلى نفسه جل وعلا، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية [الزمر/ 42]. والجواب عن هذا ظاهر، وهو أن إسناده التوفي إلى نفسه لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران/ 145]. وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح. وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته، يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم، فيأخذها ملك الموت. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/254)
سورة الأحزاب
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأحزاب/ 1]. لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية (1): {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} بصيغة الجمع؛ لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه قدوتهم، كما تقدم بيانه مستوفًى في سورة الروم. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب/ 4]. هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها. وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلافي ذلك، وهى قوله تعالى في حفصة وعائشة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم/ 4]، فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه، جاز في ذلك المضاف -الذي هو شيئان- الجمع والتثنية والإفراد، وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح، سواء كانت الإضافة لفظًا أو معنى. __________ (1) أي: الآية الثانية.
(1/255)
فاللفظ مثاله: شَوَيْتُ رؤوس الكبشين، أو رأسهما، أو رأسيهما. والمعنى: قطعت الكبشين رؤوسًا، وقطعت منهما الرؤوس (1). فإنْ فُوقَ المثنى [المضاف إليه] فالمختار [في المضاف] الإفراد، نحو: {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة/ 78]. وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه -أي: كانا غير جزأيه- فالقياس الجمع وفاقًا للفرَّاء، وفي الحديث: "ما أخرجكما من بيوتكما"، "إذا أويتما إلى مضاجعكما"، "وهذه فلانة وفلانة يسألانك من إنفاقهما على أزواجهما، ألهما فيه أجر"، "ولقي عليًّا وحمزة فضرباه بأسيافهما". واعلم أن الضمائر الراجعة إلى هذا المضاف يجوز فيها الجمع نظرًا إلى اللفظ، والتثنية نظرًا إلى المعنى. فمن الأول قوله: خليليَّ لا تهلك نفوسكما أسًى ... فإن لها فيما دهيت به أسى ومن الثاني قوله: قلوبكما يغشاهما الأمن عادة ... إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر __________ (1) كذا وقع التمثيل في الأصل المطبوع. وهو غير ظاهر. والأولى: قطعت من الكبشين الرؤوس، أو الرأس، أو الرأسين. انظر: "الأضواء" (4/ 581).
(1/256)
الثاني: هو ماذهب إليه مالك بن أنس -رحمه اللَّه تعالى- من أن أقل الجمع اثنان. ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء/ 11] أي أخوان فصاعداَ. قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب/ 6]. هذه الآية الكريمة تدل بدلالة الالتزام على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أب لهم؛ لأن أمومة أزواجه لهم تستلزم أبوته -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم. وهذا المدلول عليه بدلالة الالتزام مصرَّح به في قراءة أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه-؛ لأنه يقرؤها: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم). وهذه القراءة مروية -أيضًا- عن ابن عباس. وقد جاءت آية أخرى تصرح بخلاف هذا المدلول عليه بدلالة الالتزام والقراءة الشاذة، وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية [الأحزاب/ 40]. والجواب ظاهر، وهو: أن الأبوة المثبتة دينية، والأبوة المنفية طينية. وبهذا يرتفع الإشكال في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} مع قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، إذ يقال: كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب؟ والجواب ما ذكرناه الآن، فهن أمهات في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام، لا في الخلوة بهن ولا في حرمة بناتهن، ونحو ذلك. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/257)
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية [الأحزاب/ 50]. يظهر تعارضه مع قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية [الأحزاب/ 52]. والجواب: أن قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} منسوخ بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}، وقد قدمنا في سورة البقرة أنه أحد الموضعين اللذين في المصحف ناسخهما قبل منسوخهما، لتقدمه في ترتيب المصحف مع تأخره في النزول، على القول بذلك. وقيل: الآية الناسخة لها هي قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية [الأحزاب/ 51]. وقال بعض العلماء: هي محكمة. وعليه، فالمعنى: لا يحل لك النساء من بعد، أي: من بعد النساء التي أحلهن اللَّه لك في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية، فتكون آية: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} مُحَرِّمةً ما لم يدخل في آية: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} كالكتابيات، والمشركات، والبدويات -على القول بذلك فيهن-، وبنات العم والعمات، وبنات الخال والخالات، اللاتي لم يهاجرن معه -على القول فيهن أيضًا-. والقولُ بعدم النسخ قال به: أبي بن كعب، ومجاهد في رواية عنه، وعكرمة والضحاك في رواية، وأبو رزين في رواية عنه، وأبو صالح، والحسن، وقتادة في رواية، والسدي، وغيرهم، كما
(1/258)
نقله عنهم ابن كثير وغيره. واختار عدم النسخ ابن جرير وأبو حيان. والذي يظهر لنا أن القول بالنسخ أرجح، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم -منهم: عليٌّ وابن عباس وأنس وغيرهم-، ولكن المرجح له عندنا أنه قول أعلم الناس بالمسألة، أعني أزواجه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن حِلِّيَّةَ غيرهن من الضَّرَّات وعدمها لا يوجد من هو أشد اهتمامًا بها منهن، فهن صواحبات القصة. وقد تقرر في علم الأصول أن صاحب القصة يقدم على غيره، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة وأبي رافع: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها وهو حلال، علي رواية ابن عباس المتفق عليها: أنه تزوجها محرمًا؛ لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها. فإذا علمت ذلك، فاعلم أن ممن قال بالنسخ: أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "ما مات -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أحل اللَّه له النساء"، وأم المؤمنين أم سلمة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "لم يمت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أحل اللَّه له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم". أما عائشة فقد روى عنها ذلك الإمام أحمد والترمذي -وصححه- والنسائي في سننيهما، والحاكم وصححه، وأبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وغيرهم. وأما أم سلمة فقد رواه عنها ابن أبي حاتم، كما نقله عنه ابن كثير وغيره.
(1/259)
ويشهد لذلك ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوج أم حبيبة وجويرية -رضي اللَّه عنهما- بعد نزول {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ}. قال الآلوسي في تفسيره: إن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/260)
سورة سبأ
قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} [سبأ/ 17]. هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين -قراءة ضم الياء مع فتح الزاي مبنيًا للمفعول، مع رفع (الكفورُ) على أنه نائب الفاعل، وقراءة "نُجازي" بضم النون وكسر الزاي مبنيًا للفاعل مع نصب (الكفورَ) على أنه مفعول به- تدل على خصوص الجزاء بالمبالغين في الكفر. وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الجزاء، كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية [الزلزلة/ 7]. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن المعنى: ما نجازي هذا الجزاء الشديد المستأصل ألا المبالغ في الكفران. الثاني: أن ما يُفْعَل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابًا في الحقيقة؛ لأنه تطهير وتمحيص. الثالث: أنه لا يجازى بجميع الأعمال مع المناقشة التامة إلا الكافر. ويدل لهذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نوقش الحساب فقد هلك"، وأنه لما سألته عائشة -رضي اللَّه عنها- عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} [الإنشقاق/ 8 - 9] قال لها: "ذلك العرض"، وبَيَّنَ لها أن من نوقش الحساب لابد أن يهلك. قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}
(1/261)
الآية [سبأ/ 47]. هذه الآية الكريمة تدل على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يسأل أمته أجرًا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة. ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص/ 86]، وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)} في سورة الطور والقلم، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)} [الفرقان/ 57]، وقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام/ 90]. وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلهم عليهم صلوات اللَّه وسلامه، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس/ 20 - 21]. وقال تعالى في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)} في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقال في سورة هود عن نوح: {وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [هود/ 29]. وقال فيها -أيضًا- عن هود: {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود/ 51] الآية. وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك، وهي قوله تعالى:
(1/262)
{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى/ 23]. اعلم أولًا: أن في قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أربعة أقوال: الأول -ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم، كما نقله عنهم ابن جلأير وغيره-: أن معنى الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم. وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ؛ لأنه مبذول لكل أحد؛ لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس، وقد فعل له ذلك أبو طالب، ولم يكن أجرًا على التبليغ؛ لأنه لم يؤمن، وإذا كان لا يسأل أجرًا إلا هذا الذي ليس بأجر، تحقق أنه لا يسأل أجرًا، كقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب ومثل هذا يسمية البلاغيون: تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا القول هو الصحيح في الآية، واختاره ابن جرير. وعليه فلا إشكال. الثاني: أن معنى الآية: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: لا تؤذوا قرابتي وعِتْرتي واحفظوني فيهم.
(1/263)
ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين. وعليه فلا إشكال أيضا؛ لأن الموادة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة/ 71]. وفي الحديث: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدًا. وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ. وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين. وعليه فلا إشكال. فمعناه على القول الأول: لا أسألكم عليه أجرًا، لكنْ أذكِّركم قرابتى فيكم. وعلى الثانن: لكنْ أذكِّركم اللَّه في قرابتي فاحفظوني فيهم. القول الثالث -وبه قال الحسن-: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا تتوددوا إلى اللَّه وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح. وعليه فلا إشكال؛ لأن التقرب إلى اللَّه ليس أجرًا على التبليغ. القول الرابع: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تتودَّدوا إلى
(1/264)
فراباتكم وتصلوا أرحامكم. ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد اللَّه بن قاسم. وعليه -أيضًا- فلا إشكال؛ لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرًا على التبليغ. فقد علمت الصحيح في تفسير الآية، وظهر لك رفع الأشكال على جميع الأقوال. وأما القول بأن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} منسوخ بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} فهو ضعيف. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/265)
سورة فاطر
قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر/ 11]. الضمير في قوله: {عُمُرِهِ} يظهر رجوعه إلى المعمَّر، فيشكل معنى الآية؛ لأن المعمر والمنقوص من عمره ضدان، فيظهر تنافي الضمير ومفسِّره. والجواب: أن المراد بالمعمَّر هنا: جنس المعمَّر الذي هو مطلق الشخص، فيصدق بالذي لم ينقص من عمره، وبالذي نقص من عمره، فصار المعنى: لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب. وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة: عندي درهمٌ ونصفُه، أي نصفُ درهم آخر. قال ابن كثير في تفسيره: الضمير عائد على الجنس لا على العين؛ لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم اللَّه لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس. انتهى منه. قوله تعالى: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر/ 43]. يدل على أن المكر هنا شيء غير السيء أضيف إلى السيء؛ للزوم المغايرة بين المضاف والمضاف إليه. وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر/ 43] يدل
(1/266)
على أن المراد بالمكر هنا هو السيء بعينه لا شيءآخر. فالتنافي بين التركيب الإضافي والتركيب التقييدي ظاهر. والذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن التحقيق جواز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلفت الألفاظ؛ لأن المغايرة بين الألفاظ ربما كَفَتْ في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، كما جزم به ابن جرير في تفسيره في غير هذا الموضع. ويشير إليه ابن مالك في "الخلاصة" بقوله: وإن يكونا مفردين فأضف ... حتمًا وإلا أَتْبِع الذي ردف وأما قوله: ولا يضاف اسم لما به اتحد ... معنًى وأَوِّلْ موهمًا إذا ورد فالذي يظهر فيه بعد البحث أنه لا حاجة إلى تأويله مع كثرته في القرآن واللغة العربية، فالظاهر أنه أسلوب من أساليب العربية؛ بدليل كثرة وروده، كقوله هنا: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} والمكر هو السيء، بدليل قوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} الآية. وكقوله: {الدَّارُ الْآخِرَةُ} [الأعراف/ 169] والدار هي الآخرة. وكقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة/ 185] والشهر هو رمضان، على التحقيق. وكقوله: {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق/ 16] والحبل هو الوريد. ونظيره من كلام العرب قول عنترة في معلقته: ومِشَكِّ سابغةٍ هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة مُعْلِمِ
(1/267)
فاصل المِشَكِّ -بالكسر- السَّير الذي تُشَدُّ به الدرع، ولكن عنترة هنا أراد به نفس الدرع وأضافه إليها، كما هو واضح من كلامه؛ لأن الحكم بهتك الفروج واقع على الدرع لا على السَّير الذي تشد به، كما جزم به بعض المحققين، وهو ظاهر، خلافًا لظاهر كلام صاحب "تاج العروس"، فإنه أورد بيت عنترة شاهدًا لأن المِشَكَّ السير الذي تشد به الدرع. بل المِشَكُّ في بيت عنترة هذا -على التحقيق- هو [الدرع] السابغة، وأضيف إليها على ما ذكرنا. وقول امرئ القيس: كبِكْرِ المُقاناةِ البَياضِ بصفرةٍ ... غذاها نميرُ الماء غير المُحَلَّلِ فالبكر هي المقاناة، على التحقيق. وأما على ما ذهب إليه ابن مالك فالجوابُ تأويلُ المضاف بأن المراد به مسمى المضاف إليه. * * *
(1/268)
سورة يس
قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} [يس/ 11]. ظاهرها خصوص الإنذار بالمنتفعين به. ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات/ 45]. وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الإنذار، كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم/ 97]، وقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان/ 1]، وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)} [الليل/ 14]. وقد قدمنا وجه الجمع بأن الإنذار في الحقيقة عام، وإنما خص في بعض الآيات بالمؤمنين لبيان أنهم هم المنتفعون به دون غيرهم، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات/ 55]. وبيَّن أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى إيمان الأشقياء، بقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة/ 6].
(1/269)
سورة الصافات
قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} [الصافات/ 145]. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بنبذ يونس بالعراء، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك، وهي قوله: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} الآية [القلم/ 49]. والجواب: أن الامتناع المدلول عليه بحرف الامتناع -الذي هو "لولا"- منصبٌّ على الجملة الحالية لا على جواب "لولا". وتقرير المعنى: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء في حال كونه مذمومًا، لكنه تداركته نعمة ربه، فنبذ بالعراء غير مذموم. فهذه الحال عمدة لا فضلة. أو أن المراد بالفضلة: ما ليس ركنًا في الإسناد، وإن توقفت صحة المعنى عليه. ونظيرها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} [الدخان/ 38]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} الآية [ص/ 27]؛ لأن النفي فيهما منصبٌّ على الحال لا على ما قبلهما.
(1/270)
سورة ص
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} الآية [ص/ 21]. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الخصم مفرد، ولكن الضمائر بعده تدل على خلاف ذلك. والجواب: أن الخصم في الأصل مصدر خَصَمَهُ، والعرب إذا نعتت بالمصدر أفردته وذكَّرته. وعليه، فالخصم يراد به الجماعة والواحد والاثنان، ويجوز جمعه وتثنيته؛ لتناسي أصله الذي هو المصدر، وتنزيله منزلة الوصف. [قال ابن مالك: فالتزموا الإفراد والتذكيرا ... ونعتوا بمصدر كثيرا] [*] __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين زيادة من مجلة الجامعة الإسلامية
(1/271)
سورة الزمر
قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر/ 33] ظاهرٌ في الإفراد. وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر/ 33] يدل على خلاف ذلك. وقد قدمنا وجه الجمع محررًا بشواهده فى سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآية [البقرة/ 17]. قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر/ 53]. هذه الآية الكريمة تدل على أمرين: الأول: أن المسرفين ليس لهم أن يقنطوا من رحمة اللَّه. مع أنه جاءت آية تدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} [غافر/ 43]. والجواب: أن الإسراف يكون بالكفر، ويكون بارتكاب المعاصي دون الكفر، فآية: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} [غافر/ 43] في الإسراف الذي هو كفر، وآية {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في الاسراف بالمعاصي دون الكفر. ويجاب -أيضًا- بأنَّ آية: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ
(1/272)
النَّارِ (43)} فيما إذا لم يتوبوا، وأنَّ قوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر/ 53] فيما إذا تابوا. والأمر الثاني: أنها دلت على غفران جميع الذنوب. مع أنه دلت آيات أخر على أن من الذنوب ما لا يغفر، وهو الشرك باللَّه تعالى. والجواب: أن آية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء/ 48] مخصصة لهذه. وقال بعض العلماء: هذه مقيدة بالتوبة؛ بدليل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر/ 54]، فإنه عطف على قوله: {لَا تَقْنَطُوا} [الزمر/ 53] وعليه فلا إشكال. وهو اختيار ابن كثير.
(1/273)
سورة غافر
قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر/ 7]. هذه الآية الكريمة تدل على أن استغفار الملائكة لأهل الأرض خاص بالمؤمنين منهم. وقد جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية [الشورى/ 5]. والجواب: أن آية غافر مخصصة لآية الشورى، والمعنى: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين؛ لوجوب تخصيص العام بالخاص. قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر/ 28]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية من توهم المنافاة بين الشرط والجزاء في البعض؛ لأن المناسب لاشتراط الصدق هو أن يصيبهم جميع الذين يعدهم لا بعضه، مع أنه تعالى لم يقل: وإن يك صادفا يصبكم كل الذي يعدكم. وأجيب عن هذا بأجوبة، من أقربها -عندي-: أن المراد بالبعض الذي يصيبهم هو البعض العاجل الذي هو عذاب الدنيا؛ لأنهم أشد خوفًا من العذاب العاجل، ولأنهم أقرب إلى التصديق بعذاب الدنيا منهم بعذاب الآخرة.
(1/274)
ومنها: أن المعنى: إن يك صادقًا فلا أقلَّ من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم. وعلى هذا، فالنكتةُ المبالغةُ في التحذير؛ لأنه إذا حذرهم من إصابة البعض، أفاد أنه مُهْلِكٌ مَخُوفٌ، فما بال الكل؟ وفيه إظهارٌ لكمال الإنصاف وعدم التعصب، ولذا قدم احتمال كونه كاذبًا. ومنها: أن لفظة "البعض" يراد بها الكل. وعليه، فمعنى: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}: كلُّ الذي يعدكم. ومن شواهد هذا في اللغة العربية قول الشاعر: إن الأمور إذا الأحداثُ دَبَّرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا يعني: ترى فيها خللا. وقول القطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل يعني: قد يدرك المتأني حاجته. وأما استدلال أبي عبيدة لهذا بقول لبيد: تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها ... أو يعتلقْ بعضَ النفوس حِمامُها فغلط منه؛ لأن مراد لبيد "ببعض النفوس" نفسه، كما بينتُه في رحلتي في الكلام على قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية [الرعد/ 31].
(1/275)
سورة فصلت
قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت/ 9 - 11]. تقدم وجه الجميع بينه وبين قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات/ 30] في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية [البقرة/ 29]. قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت/ 11]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من منافاة هذه الحال وصاحبها؛ لأنها جمع مذكر عاقل، وصاحبها ضمير تثنية لغير عاقل، ولو طابقَتْ صاحبَها في التثنية حسب ما يسبق إلى الذهن لقال: أتينا طائعتين. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما -وهو الأظهر عندي-: أن جمعه للسماوات والأرض لأن السماوات سبع والأرضين كذلك، بدليل قوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق/ 12]، فالتثنية لفظية تحتها أربعة عشر فردًا. وأما إتيان الجمع على صيغة جمع العقلاء؛ فلأن العادة في اللغة العربية أنه إذا وصف غير العاقل بصفة تختص بالعاقل أجري عليه حكمه. ومنه قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
(1/276)
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} [يوسف/ 4]، لمَّا كان السجود في الظاهر من خواص العقلاء أجري حكمهم على الشمس والقمر والكواكب لوصفها به. ونظيره قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} [الشعراء/ 71 - 73]، فأجرى على الأصنام حكم العقلاء؛ لتنزيل الكفار لها منزلتهم. ومن هذا المعنى قول قيس بن الملوح: أسِرْبَ القطا هل من يُعِيرُ جناحَه ... . . . . . . . . . فإنه لما طلب الإعارة من القطا، وهي من خواص العقلاء، أجرى على القطا اللفظ المختص بالعقلاء لذلك. ووجه تذكير الجمع: أن السموات والأرض تأنيثها غير حقيقي. الوجه الثاني: أن المعنى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} فيكون فيه تغليب العاقل على غيره. والأول أظهر عندي. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/277)
سورة الشورى
قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآية [الشورى/ 45]. هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يوم القيامة ينظرون بعيون خَفِيَّةٍ ضعيفةِ النطر. وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق/ 22]. والجواب: هو ما ذكره صاحب "الإتقان" من أن المراد بِحِدَّةِ البصر: العلم وقوة المعرفة. قال قطرب: {فَبَصَرُكَ} أي: علمك ومعرفتك بها قوية، من قولهم: بَصُرَ بكذا، أي عَلِمَ، وليس المراد رؤية العين. قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق/ 22]. وقال بعض العلماء: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} أي: تدرك به ما عميت عنه في دار الدنيا. ويدل لهذا قوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} الآية [السجدة/ 12]، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} الآية [الكهف/ 53]، وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)} [مريم/ 38].
(1/278)
ودلالة القرآن على هذا الوجه الأخير ظاهرة، فلعله هو الأرجح، وإن اقتصر صاحب "الإتقان" على الأول.
(1/279)
سورة الزخرف
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. كلامهم هذا حق؛ لأن كفرهم بمشيئة اللَّه الكونية. وقد صرح اللَّه بأنهم كاذبون، حيث قال: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف/ 20]. وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأنعام في الكلام على قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الآية [الأنعام/ 148]. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف/ 84]. هذا العطف مع التنكير في هذه الآية يتوهم الجاهل منه تعدد الآلهة، مع أن الآيات القرآنية مصرحة بأنه واحد، كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد/ 19]، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية [المائدة/ 73]. والجواب: أن معنى الآية: أنه تعالى معبودُ أهل السموات والأرض. فقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} أي: معبودٌ وحده في السماء، كما أنه المعبود بالحق في الأرض سبحانه وتعالى.
(1/280)
سورة الدخان
قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان/ 48 - 49]. هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها ثبوت العزة والكرم لأهل النار، مع أن الآيات القرآنية مصرحة بخلاف ذلك، كقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر/ 60] أي: صاغرين أذلاء، وكقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران/ 178]، وكقوله هنا: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)} [الدخان/ 47]. والجواب: أنها نزلت في أبي جهل لما قال: أيوعدني محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس بين جبليها أعز ولا أكرم مني؟! فلما عذبه اللَّه بكفره قال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} في زعمك الكاذب، بل أنت المهان الخسيس الحفير. فهذا التقريع نوع من أنواع العذاب.
(1/281)
سورة الجاثية
قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية/ 34]. لا يعارض قوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه/ 52]، ولا قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم/ 64]. وقد قدمنا الجواب واضحًا في سورة الأعراف.
(1/282)
سورة الأحقاف
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} الآية [الأحقاف/ 9]. هذه الآية الكريمة تدل على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يعلم مصير أمره. وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير، وهي قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح/ 2]، فإن قوله: {وَمَا تَأَخَّرَ} تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة. والجواب ظاهر، وهو أن اللَّه تعالى عَلَّمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه. ويستأنس له بقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية [النساء/ 113]، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} الآية [الشورى/ 52]، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى/ 7]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية [القصص/ 86]. وهذا الجواب هو معنى قول ابن عباس -وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة- بأنها منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} الآية [الفتح/ 2]. ويدل له: أن الأحقاف مكية، وسورة الفتح نزلت عام ست في رجوعه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحديبية.
(1/283)
وأجاب بعض العلماء بأن المراد: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع. وعليه فلا إشكال. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف/ 31]. هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه، وإجارته من عذاب أليم، لا دخوله الجنة. وقد تمسك جماعة من العلماء -منهم الأمام أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى- بظاهر هذه الآية فقالوا: إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة. مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة، وهي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46]؛ لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} [الرحمن/ 47]. ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)} [الرحمن/ 74]؛ لأنه يشير إلى أن في الجنة جِنًّا يطمثون النساء كالإنس. والجواب عن هذا: أن آية الأحفاف نُصَّ فيها على الغفران والإجارة من العذاب، ولم يُتَعَرَّضْ فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نُصَّ فيها على دخولهم الجنة؛ لأنه تعالى قال
(1/284)
فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}. وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات من صيغ العموم، فقوله: {وَلِمَنْ خَافَ} يعم كل خائف مقام ربه. ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معًا بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}، فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه، أي نعمه على الإنس والجن. فلا تعارض بين الآيتين؛ لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى. ولو سلَّمنا أن قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} يفهم منه عدم دخولهم الجنة؛ فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم، وقولُه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم، كما تقرر في الأصول. ولا يخفى أنَّا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدَّعى، وجدناه معدومًا من أصله؛ للاجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية: إما أن يكون مفهوم موافقة، أو مخالفة، ولا ثالث. ولا يَدْخُل هذا المفهوم المدَّعى في شيء من أقسام المفهومَيْن. أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه، فواضح. وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة؛ فلأن عدم
(1/285)
دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضحٌ. فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب، وليس داخلًا في واحد منهما؛ فظهر عدم دخوله فيه أصلًا. أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط؛ فلأن قوله: {يَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب، وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله، كما قيل به. وعلى الصحيح -الذي هو مذهب الجمهور- فتقرير المعنى: أجيبوا داعي اللَّه وآمنوا به، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم. فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر. والجواب عن هذا: أن مفهوم الشرط عند القائل به، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته، فمفهوم: إن تجيبوا داعي اللَّه وتؤمنوا به يغفر لكم، أنهم إن لم يجيبوا داعي اللَّه ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم. وهو كذلك. أما جزاء الشرط فلا مفهوم له؛ لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة، فيذكر بعضها جزاء له، فلا يدل على نفي غيره. كما لو قلت لشخص -مثلًا-: إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت. فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع؛ لأن قطع اليد مرتب -أيضًا- على السرقة كالغرم.
(1/286)
فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي اللَّه والإيمان به، فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض، ثم بيّن في موضع آخر. وهذا لا إشكال فيه. وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب؛ فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو: ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه، أعني المسند إليه، سواء كان لقبًا أو كنية أو اسمًا أو اسم جنس أو غير ذلك. وقد أوضحنا اللقب غايةً في المائدة. والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب: أن الغفران والإجارة من العذاب، المدَّعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما، وأن تخصيصهما بالذِّكْر يدل على نفي غيرهما في الآية = مسندان لا مسند إليهما؛ بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل، ولا يسند إلى الفعل إجماعًا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية. ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندًا إليه؛ لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة، كما عللوا به مفهوم الصفة. وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذُكِرَ لِيُمْكِنَ الحكمُ لا لتخصيصه بالحكم، إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه. ومما يوضح ذلك: أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند
(1/287)
القائل به، إنما هو فيم المسند إليه لا في المسند؛ لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض، فيختص الحكم بالمذكور. أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلًا، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية. فلو حكمت -مثلًا- على الإنسان بأنه حيوان، فإن المسند إليه -الذي هو الإنسان في هذا المثال- يقصد به جميع أفراده؛ لأن كل فرد منها حيوان، بخلاف المسند -الذي هو الحيوان في هذا المثال- فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد؛ لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان، كالفرس مثلًا. والحكم بالمباين على المباين باطلٌ إذا كان إيجابيًّا باتفاق العقلاء. وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد، باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية، أو الذهني إن كانت حقيقية. وأما المحمول من حيث هو، فلا تراعى فيه الأفراد البتة، وإنما يراعى فيه مطلق الماهية. ولو سلمنا تسليمًا جدليًا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به، وربما
(1/288)
كان اعتباره كفرًا؛ كما لو اعتبر معتبرٌ مفهوم اللقب في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح/ 29] فقال: يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن رسول اللَّه. فهذا كفر بإجماع المسلمين. فالتحقيق: أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعًا ولا لغة ولا عقلًا، سواءً كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع، أو غير ذلك. فقولك: جاء زيد، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو. وقولك: رأيت أسدًا، لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد. والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر، واسم العين فلا يعتبر، لا يظهر. فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية، ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية، ولا بقول بعض الحنابلة، باعتبار مفهوم اللقب؛ لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به، إلا أنه يقول: لو لم يكن اللقب مختصًا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة، كما علل به مفهوم الصفة = لأن الجمهور يقولون: ذُكِرَ اللقبُ ليسنَد إليه. وهو واضح لا إشكال فيه. وأشار صاحب "مراقي السعود" إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي، وأنه أضعف المفاهيم، بقوله: أضعفها اللقب وهو ما أُبِي ... مِنْ دونه نظمُ الكلام العربي وحاصل فقه هذه المسألة:
(1/289)
* أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين. * وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين، وهو صريح قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة/ 13]، وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء/ 94 - 95]، وقوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38]، إلى غير ذلك من الآيات. * وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة، ومنشأ الخلاف: الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين، والظاهر دخولهم الجنة كما بينَّا. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/290)
سورة القتال
قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد/ 15]. هذه الآية الكريمة تدل على تعدد الأنهار مع تعدد أنواعها. وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها أنه نهر واحد، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر/ 54]. وقد تقدم الجمع واضحًا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} الآية، وبينا أن قوله: {وَنَهَرٍ (54)} يعني: وأنهار.
(1/291)
سورة الفتح
قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} الآية [الفتح/ 1 - 2]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها؛ لأن فتح اللَّه لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له. والجواب عن هذا من وجهين: الأول -وهو اختيار ابن جرير، لدلالة الكتاب والسنة عليه (1) -: أن المعنى: إن فتح اللَّه لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي لنعمة الفتح، فيغفر اللَّه له ما تقدم وما تأخر بسبب شكره بأنواع العبادة على تلك النعمة، فكأن شكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لازم لنعمة الفتح، والغفران مرتب على ذلك اللازم. وأما دلالة الكتاب على هذا: ففي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر/ 1 - 3]. فصح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه -شكرًا على نعمة الفتح- سبب لغفران ذنوبه، لأنه رَتَّبَ تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر ترتيبَ المعلول __________ (1) كذا في الأصل المطبوع. وكأنه سقط من السياق قوله: "وهو الأقرب" أو نحوه قبل قوله: لدلالة الكتاب والسنة عليه.
(1/292)
على علته، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}. وأما دلالة السنة: ففي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قال له بعض أصحابه: لا تجهد نفسك بالعمل، فإن اللَّه كفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر-: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ ! "، فبيَّن -صلى اللَّه عليه وسلم- أن اجتهاده في العمل لشكر تلك النعمة. وترتُّبُ الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به. الوجه الثاني: أن قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا} يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل اللَّه؛ لأنه السبب الأعظم في الفتح، والجهاد سبب لغفران الذنوب. فيكون المعنى: ليغفر لك اللَّه بسبب جهادك المفهومِ من ذكر الفتح. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/293)
سورة الحجرات
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات/ 13]. هذه الآية الكريمة تدل على أن خلق الناس ابتداؤه من ذكر وأنثى. وقد دلت آيات أخر على خلقهم من غير ذلك، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر/ 67]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج/ 5]. والجواب واضح، وهو أن التراب هو الطور الأول، وقد قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح/ 14]. وقد بين اللَّه أطوار خلق الإنسان من مبدئه إلى منتهاه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} [المؤمنون/ 12 - 13] إلى آخره.
(1/294)
سورة ق
قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق/ 45]. هذه الآية تدل على خصوص التذكير بالقرآن بمن يخاف وعيد اللَّه. وقد جاءت آيات أخر تدل على عمومه، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية/ 21] وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} [طه/ 113]. والجواب: أن التذكير بالقرآن عام، إلا أنه لما كان المنتفع به هو من يخاف وعيد اللَّه، صار كأنه مختص به، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات/ 55]، كما تقدم نظيره مرارًا.
(1/295)
سورة الذاريات
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات/ 24]. لا يخفى ما بين هذا النعت ومنعوته من التنافي في الظاهر؛ لأن النعت صيغة جمع والمنعوت لفظ مفرد. والجواب: أن لفظة "الضيف" تطلق على الواحد والجمع؛ لأن أصلها مصدر ضَافَ، فنقلت من المصدرية إلى الاسمية، كما تقدم في سورة البقرة.
(1/296)
سورة الطور
قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور/ 21]. هذه الآية تقتضي عموم رهن كل إنسان بعمله، ولو كان من أصحاب اليمين، نظرًا للشمول المدلول عليه بلفظة: "كل". وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم شمولها لأصحاب اليمين، وهي قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} [المدثر/ 38 - 39]. والجواب ظاهر، وهو أن آية الطور هذه تخصصها آية المدثر.
(1/297)
سورة النجم
قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 4 - 3]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يجتهد في شيء. وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ربما اجتهد في بعض الأمور، كما دل عليه قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة/ 43]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} الآية [الأنفال/ 67]. والجواب من هذا من وجهين: الأول -وهو الذي اقتصر عليه ابن جرير، وصَدَّرَ به ابن الحاجب في "مختصره" الأصولي-: أن معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم/ 3] أي في كل ما يبلغه عن اللَّه، {إِنْ هُوَ} أي كل ما يبلغه عن اللَّه {إِلَّا وَحْيٌ} من اللَّه؛ لأنه لا يقول على اللَّه شيئًا إلا بوحي منه. فالآية رد على الكفار حيث قالوا: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- افترى هذا القرآن. كما قال ابن الحاجب. الوجه الثاني: أنه إن اجتهد فانه إنما يجتهد بوحي من اللَّه يأذن له به في ذلك الاجتهاد، وعليه فاجتهاده بوحي، فلا منافاة.
(1/298)
ويدل لهذا الوجه: أن اجتهاده في الإذن للمتخلفين عن غزوة تبوك أذن اللَّه له فيه حيث قال: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62]، فلما أذن للمنافقين عاتبه بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة/ 43]، فالاجتهاد في الحقيقة إنما هو الإذن قبل التبيُّن، لا في مطلق الإذن، للنص عليه. ومسألة اجتهاد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعدمه من مسائل الخلاف المشهورة عند علماء الأصول، وسبب اختلافهم هو تعارض هذه الآيات في ظاهر الأمر. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه، كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم، وكأسره لأسارى بدر، وكأمره بترك تأبير النخل، وكقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت. . . " الحديث، إلى غير ذلك. وأن معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} لا إشكال فيه؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا ينطق بشيء من أجل الهوى ولا يتكلم بالهوى. وقولُه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} يعني أن كل ما يبلغه عن اللَّه فهو وحي من اللَّه لا بهوى ولا بكذب ولا افتراء. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم/ 39].
(1/299)
هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره. وقد جاءت آية أخرى تدل على أن بعض الناس ربما انتفع بعمل غيره، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية [الطور/ 21]، فرفع درجات الأولاد -سواء قلنا: إنهم الكبار أو الصغار- نفع حاصل لهم، وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم. اعلم أولًا: أن ما روي عن ابن عباس من أن هذا كان شرعًا لمن قبلنا، فنسخ في شرعنا = غيرُ صحيح، بل آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} محكمة. كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير صحيح أيضًا. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول؛ أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره، لأنه لم يقل: وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى. وإنما قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ}، وبين الأمرين فرق ظاهر؛ لأن سعي الغير ملكٌ لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه. وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه، ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه. الثاني: أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم، إذ لو كانوا كفارًا لما حصل لهم ذلك، فإيمان العبد وطاعته سعي منه في
(1/300)
انتفاعه بعمل غيره من المسلمين، كما وقع في الصلاة في الجماعة، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردًا، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة. وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}. الثالث: أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد، كما هو نص قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}، ولكنه من سعي الآباء، فهو سعي للآباء أقر اللَّه عيونهم بسببه بأنْ رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم. فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد، فانتفاع الأولاد تبع، فهو بالنسبة إليهم تفضُّلٌ من اللَّه عليهم بما ليس لهم، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذي يُنْشِئهم للجنة. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/301)
سورة القمر
قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} [القمر/ 29]. يدل على أن عاقر الناقة واحد. وقد جاءت آيات أخر تدل على كونه غير واحد، كقوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} الآية [الأعراف/ 77]، وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس/ 14]. والجواب من وجهين: الأول: أنهم تمالئوا كلهم على عَقْرِها، فانبعث أشقاهم لمباشرة الفعل، فأسند العقر إليهم؛ لأنه برضاهم وممالأتهم. الوجه الثاني: هو ما قدمنا في سورة الأنفال مِنْ إسنادِ الفعل إلى المجموع مرادًا به بعضه، وذكرنا في الأنفال نظائره في القرآن العظيم. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر/ 54]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية [محمد/ 15].
(1/302)
سورة الرحمن
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)} [الرحمن/ 35]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن إرسال شواظ النار الذي هو لهبها، والنحاس الذي هو دخانها، أو النحاس المذاب، وعدم الانتصار = ليس في شيء منه إنعامٌ على الثقلين. وقوله لهم: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} يفهم منه أنَّ إرسال الشواظ والنحاس وعدم الانتصار من آلاء اللَّه، أي نعمه على الجن والإنس. والجواب من وجهين: الأول: أن تكرير {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للتوكيد. ولم يكرره متواليًا؛ لأن تكريره بعد كل آية أحسن من تكريره متواليًا. وإذا كان للتوكيد فلا إشكال؛ لأن المذكور منه بعد ما ليس من الآلاء مؤكدٌ للمذكور بعد ما هو من الآلاء. الوجه الثاني: أن {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لم تذكر إلا بعد ذكر نعمة أو موعظة أو إنذار وتخويف، وكلها من آلاء اللَّه التي لا يكذب بها إلا كافر جاحد. أما في ذكر النعمة، فواضح. وأما في الموعظة، فلأن الوعظ تلين له القلوب فتخشع وتنيب،
(1/303)
فالسبب الموصل إلى ذلك من أعظم النعم، فظهر أن الوعظ من أكبر الآلاء. وأما في الإنذار والتخويف -كهذه الآية-، ففيه -أيضًا- أعظم نعمة على العبد؛ لأن إنذاره في دار الدنيا من أهوال يوم القيامة من أعظم نعم اللَّه عليه. ألا ترى أنه لو كان أمام إنسان مسافر مهلكة كبرى، وهو مشرف على الوقوع فيها من غير أن يعلم بها، فجاءه إنسان فأخبره بها وحذره عن الوقوع فيها، أن هذا يكون يدًا له عنده وإحسانًا يجازيه عليه جزاءً أكبر الإنعام؟ وهذا الوجه الأخير هو مقتضى الأصول؛ لأنه قد تقرر في علم الأصول: أن النص إذا احتمل التوكيد والتأسيس، فالأصل حمله على التأسيس لا على التوكيد؛ لأن في التأسيس زيادة معنى ليس في التوكيد. وعلى هذا القول، فتكرير {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إنما هو باعتبار أنواع النعم المذكورة قبلها من إنعام أو موعظة أو إنذار، وقد عرفت أن كلها من آلاء اللَّه. فالمذكورة بعد نعمة كالمذكورة بعد قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} الآية [الرحمن/ 24]، وبعد قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} الآية [الرحمن/ 22]؛ لأن السفن واللؤلؤ والمرجان من آلاء اللَّه كما هو ضروري.
(1/304)
والمذكورة بعد موعظة كالمذكورة بعد قوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} الآية [الرحمن/ 37]. والمذكورة بعد إنذار أو تخويف كالمذكورة بعد قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} الآية [الرحمن/ 35]. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن/ 39]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر/ 92 - 93]، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الآية [الأعراف/ 6] في سورة الأعراف.
(1/305)
سورة الواقعة
قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة/ 75]. يقتضي أنه لم يُقْسِمْ بهذا القسم. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة/ 76] يدلُّ على خلاف ذلك. والجواب من وجهين: الأول: أن "لا" النافية يتعلَّق نفيها بكلام الكفار، فمعناها إذًا ليس الأمر كما يزعمه المُكذِّبون للرسول. وعليه، فقوله: {أُقْسِمُ} إثباتٌ مُؤْتَنف (1). الثاني: أن لفظة "لا" صلة، وقد وعدنا ببيان ذلك بشواهده في الجمع بين قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد/ 1] مع قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين/ 3]. __________ (1) أي: مبتدأ. وسيأتي في سورة البلد: إثباتٌ مستأنف. وكلاهما بمعنى.
(1/306)
سورة الحديد
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد/ 4]. يدل على أنه تعالى مستوٍ على عرشه عالٍ على جميع خلقه. وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يوهم خلاف ذلك. والجواب: أنه تعالى مستو على عرشه كما قال، بلا كيف ولا تشبيه، استواء لائقًا بكماله وجلاله، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق. ألا ترى -وللَّه المثل الأعلى- أنَّ أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل، أنه ليس داخلًا في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها، ومع جميع أجزائها؟ والسموات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا, وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا. فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستوٍ على عرشه، لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه، جل وعلا.
(1/307)
سورة المجادلة
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة/ 3]. لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعَوْدِ معًا يُفْهَمُ منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعَوْدِ معًا. وقولُه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} صريح في أن التكفير يلزم كونه قبل العَوْدِ إلى المسيس. اعلم أولًا: أن ما رجحه ابن حزم من قول داود -وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام، وقال به شعبة- من أن معنى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} هو عودهم إلى لفظ الظهار، فيكررونه مرة أخرى = قول باطل؛ بدليل أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها صيغة الظهار أم لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، كما تقدم مرارًا. والتحقيق: أن الكفارة ومنع الجماع قبلها لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار. وما زعمه البعض -أيضًا- من أن الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ثم يعودون لما قالوا سالمين من الإثم بسبب الكفارة = غير صحيح أيضًا؛ لما تقرر في الأصول من وجوب العمل على بقاء
(1/308)
الترتيب إلا لدليل، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود": كذاك ترتيب لإيجاب العمل ... بما له الرجحان مما يحتمل وسنذكر -إن شاء اللَّه- الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة رضي اللَّه عنهم وأرضاهم أجمعين، فنقول وباللَّه نستعين: معنى العَوْد عند مالك فيه قولان، تُؤُوِّلَتْ "المدونة" على كل واحد منهما، وكلاهما مرجَّح: الأول: أنه العزم على الجماع فقط. الثاني: أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معًا. وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية؛ لأن المعنى حينئذ: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعزمون على الجماع، أو عليه مع الإمساك، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا. فلا منافاة بين العزم على الجماع، أو عليه مع الإمساك، وبين الإعتاق قبل المسيس. وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة، وهو واقع في القرآن، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة/ 6] أي أردتم القيام إليها، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي: أردت قراءته {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية [النحل/ 98]. ومعنى العَوْد عند الشافعي: أن يمسكها بعد المظاهرة زمانًا
(1/309)
يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وعليه فلا إشكال في الآية أيضًا؛ لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس، كما هو واضح. ومعنى العَوْد عند أحمد: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه. أما العزم فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به. وأما على القول بأنه الجماع، فالجواب: أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفِّر، ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير؛ لأن الآية على هذا القول إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير، وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر، أما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. ومعنى العَوْد عند أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى: هو العزم على الوطء. وعليه فلا إشكال، كما تقدم. وما حكاه الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه- في تفسيره عن مالك من أنه حُكِيَ عنه أن العَوْدَ الجماعُ، فهو خلاف المعروف من مذهبه. وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العَوْدَ هو العودُ إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء، كما ذكرنا.
(1/310)
وغالب ما قيل في معنى العَوْدِ راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم اللَّه. وقال بعض العلماء: المراد بالعَوْد: الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع، والمراد بالمسيس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} خصوص الجماع. وعليه فلا إشكال، ولكن لا يخفى عدم ظهور هذا القول. والتحقيق: عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير؛ لعموم قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء قائلًا: إن المراد بالمسيس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} نفس الجماع لا مقدماته. وممن قال بذلك الحسن البصري والثوري. وروي عن الشافعي أحد القولين. وقال بعض العلماء: اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} بمعنى "في"، أي: يعودون فيما قالوا، بمعنى: يرجعون عنه، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الواهب العائد في هبته" الحديث. وقيل: اللام بمعنى "عن"، أي: يعودون عما قالوا، أي: يرجعون عنه. وهو قريب مما قبله. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن العَوْدَ له مبدأ ومنتهى، فمبدؤه العزم على الوطء، ومنتهاه الوطء
(1/311)
بالفعل. فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء. ومن وطئ بالفعل تحتم في حقه اللزوم، وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير. ويدل لهذا أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، وقالوا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه". فبيَّن أن العزم على الفعل عملٌ يؤاخذ به الإنسان. فإن قيل: ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية الذي قدمنا بطلانه؛ لأن الظاهر المتبادر من قوله: {لِمَا قَالُوا} أنه صيغة الظهار، فيكون العَوْدُ لها تكريرها مرة أخرى. فالجواب: أن المعنى: {لِمَا قَالُوا} أنه حرام عليهم، وهو الجماع. ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم/ 80] أي: ما يقول أنه يؤتاه من مال وولد في قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم/ 77]. وما ذكرنا من أن مَنْ جامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفِّر = هو التحقيق، خلافًا لمن قال: تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس، كما روي عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف، ولمن قال تلزم به كفارتان، كما روي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن مهدي، ولمن قال: تلزم به ثلاث
(1/312)
كفارات، كما رواه سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة/ 12]. هذه الآية تدل على طلب تقديم الصدقة أمام المناجاة. وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية [المجادلة/ 13] يدل على خلاف ذلك. والجواب ظاهر، وهو أن الأخير ناسخ للأول. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/313)
سورة الحشر
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر/ 7]. تقدم وجه الجمع بين الإطلاق الذي في هذه الآية، والتقييد الذي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال/ 24]، وقوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة/ 12] = في سورة الأنفال.
(1/314)
سورة الممتحنة
قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} الآية [الممتحنة/ 8]. هذه الآية الكريمة تدل على أن الكافر إذا لم يقاتل المؤمن في الدين ولم يخرجه من داره لا يَحْرُمُ بِرُّه والإقساط إليه. وقد جاءت آية أخرى تدل على منع موالاة الكفار وموادتهم مطلقًا، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة/ 51]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة/ 9]، وقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [المجادلة/ 22]. والجواب: هو أن من يقول بنسخ هذه الآية فلا إشكال فيها على قوله. وعلى القول بأنها محكمة، فوجه الجمع مفهوم منها؛ لأن الكافر الذي لم يُنْهَ عن بره والإقساط إليه مشروط فيه عدم القتال في الدين، وعدم إخراج المؤمنين من ديارهم، والكافر المنهي عن ذلك فيه هو المقاتل في الدين المخرج للمؤمنين من ديارهم، المظاهر للعدو على إخراجهم. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/315)
سورة الصف
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف/ 5]. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الخارج عن طاعة اللَّه لا يهديه اللَّه. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} الآية [الأنفال/ 38]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء/ 94]. والجواب: أن الآية من العام المخصوص، فهي في خصوص الأشقياء الذين أزاغ اللَّه قلوبهم عن الهدى لشقاوتهم الأزلية. وقيل: المعنى: لا يهديهم ما داموا على فسقهم، فإن تابوا منه هداهم.
(1/316)
سورة الجمعة
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة/ 5] فيه الإشكال (1). والجواب مثل ما ذكرنا آنفًا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف/ 5]. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية [الجمعة/ 11]. لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو؛ لدلالة لفظة: "أو" على ذلك، ولكن هذا الضمير راجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسّره بعض منافاةٍ في الجملة. والجواب: أن التجارة أهم من اللهو، وأقوى سببًا في الانفضاض عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنهم انفضوا عنه من أجل العير. واللهو كان من أجل قدومها. مع أن اللغة العربية يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله: أما في العطف بـ "أو" فواضح؛ لأن الضمير في الحقيقة راجع إلى الأحد الدائر الذي هو واحد لا بعينه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} الآية [النساء/ 112]. __________ (1) أي المتقدم بيانه في الآية السابقة من سورة الصف.
(1/317)
وأما الواو فهو فيها كثير؛ ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة/ 45]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} الآية [التوبة/ 34]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} الآية [الأنفال/ 20]. ونظيره من كلام العرب قول نابغة ذبيان: وقد أراني ونُعْمًا لاهيَيْن بها ... والدهرُ والعيشُ لم يَهْمُمْ بإمرارِ
(1/318)
سورة المنافقون
قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية [المنافقون/ 1]. هذا الذي شهدوا عليه حق؛ لأنَّ رسالة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- حق لا شك فيها. وقد كذبهم اللَّه بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، مع أن قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون/ 1] كأنه تصديق لهم. والجواب: أن تكذيبه تعالى لهم منصبٌّ على إسنادهم الشهادة إلى أنفسهم في قولهم: {نَشْهَدُ}، وهم في باطن الأمر لا يشهدون برسالته، بل يعتقدون عدمها، أو يشكون فيه، كما يدل للأول قوله تعالى عنهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} إلى قوله: {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة/ 13]، ويدل للثاني قوله تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة/ 45]. قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية [المنافقون/ 6]. ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لا يغفر للمنافقين مطلقًا. وقد جاءت آية توهم الطمع في غفرانه لهم إذا استغفر لهم رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- سبعين مرة، وهي قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة/ 80].
(1/319)
والجواب: أن هذه الآية (1) هي الأخيرة، بينت أنه لا يغفر لهم على كل حال؛ لأنهم كفار في الباطن. __________ (1) أي آية سورة المنافقون.
(1/320)
سورة التغابن
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16]. تقدم رفع الإشكال بينه وبين قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران/ 102] في سورة آل عمران.
(1/321)
سورة الطلاق
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية [الطلاق/ 1] ظاهرٌ في خصوص الخطاب به -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية يقتضي خلاف ذلك. والجواب هو ما تقدم محررًا في سورة الروم من أن الخطاب الخاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حكمه عام لجميع الأمة. قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} [الطلاق/ 11]. أفرد الضمير في هذه الآية في قوله: {يُؤْمِنْ} وقوله: {وَيَعْمَلْ} وقوله: {يُدْخِلْهُ} وقوله: {لَهُ}، وجمع في قوله: {خَالِدِينَ}. والجواب: أن الإفراد باعتبار لفظ "من"، والجمع باعتبار معناه، وهو كثير في القرآن. وفي هذه الآية الكريمة رد على من زعم أن مراعاة المعنى لا تجوز بعدها مراعاة اللفظ؛ لأنه في هذه الآية راعى المعنى في قوله: {خَالِدِينَ}، ثم راعى اللفظ في قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}.
(1/322)
سورة التحريم
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [التحريم/ 1] مع قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم/ 2] يجري فيه من الإشكال (1). والجواب ما تقدم في سورة الطلاق. قوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم/ 12]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن المرأة ليست من الرجال، وهو تعالى لم يقل: من القانتات. والجواب هو: إطباق أهل اللسان العربي على تغليب الذكر على الأنثى في الجمع، فلما أراد أن يبين أن مريم من عباد اللَّه القانتين وكان منهم ذكور وإناث = غلَّب الذكور، كما هو الواجب في اللغة العربية، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف/ 29]، وقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل/ 43]. __________ (1) كذا في الأصل المطبوع. وكأنَّ هنا محذوفًا تقديره: ما سبق. أو لعلَّ "من" زائدة، والألف واللام للعهد، أي: الإشكال المتقدم قريبًا في أول سورة الطلاق.
(1/323)
سورة الملك
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك/ 10]. ظاهر هذه الآية الكريم يدل على أنهم ما كانوا يسمعون في الدنيا ولا يعقلون. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا} [الأحقاف/ 26]، وقوله: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)} [العنكبوت/ 38]. وقد قدمنا الجواب عن هذا محررًا في الكلام على قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ}، وعلى قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} الآية [البقرة/ 170].
(1/324)
سورة القلم
قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} الآية [القلم/ 49]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} الآية [الصافات/ 145].
(1/325)
سورة الحاقة
قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة/ 20]. تقدم رفع الإشكال بينه وبين الآيات الدالة على أن الظن لا يكفي، كقوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس/ 36] في الكلام على قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة/ 46] في سورة البقرة. قوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} [الحاقة/ 36]. ظاهر هذا الحصر أنه لا طعام لأهل النار إلا الغسلين، وهو ما يسيل من صديد أهل النار على أصح التفسيرات، كأنه "فِعْلِين" من الغسل؛ لأن الصديد كأنه غسالة قروح أهل النار، أعاذنا اللَّه والمسلمين منها. وقد جاءت آية أخرى تدل على حصر طعامهم في غير الغسلين، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} [الغاشية/ 6]، وهو الشبرق اليابس على أصح التفسيرات، ويدل لهذا قول أبي ذؤيب: رعى الشّبْرِقَ الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعًا بان عنه النحائصُ وللعلماء عن هذا أجوبة كثيرة، أحسنها عندي اثنان منها، ولذلك اقتصرت عليهما. الأول: أن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين، ومنهم من لا طعام له إلا من ضريع، ومنهم
(1/326)
من لا طعام له إلا الزقوم. ويدل لهذا قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر/ 44]. الثاني: أن المعنى في جميع الآيات: أنهم لا طعام لهم أصلًا؛ لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام، ولا تأكله البهائم، فأحرى الآدميون. وكذلك الغسلين ليس من الطعام، فمَنْ طعامُه الضريع لا طعام له، ومَنْ طعامُه الغسلين كذلك. ومنه قولهم: فلان لا ظل له إلا الشمس، ولا دابة له إلا دابة ثوبه، يعنون القمل. ومرادهم: لا ظل له أصلًا، ولا دابة له أصلًا. وعليه فلا إشكال. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/327)
سورة سأل سائل
قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج/ 4]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة/ 5]، وقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الحج/ 47] في سورة الحج. وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج/ 30] تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] في سورة النساء.
(1/328)
سورة نوح
قوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح/ 27]. هذه الآية الكريم تدل على أن نوحًا -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- عالم بما يصير إليه الأولاد من الفجور والكفر قبل ولادتهم. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا اللَّه، كقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل/ 65]، وكقول نوح نفسه فيما ذكره اللَّه عنه في سورة هود: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الآية [هود/ 31]. والجواب عن هذا ظاهر، وهو أنه علم بوحي من اللَّه أن قومه لا يؤمن منهم أحد إلا من آمن، كما بينه بقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} الآية [هود/ 36].
(1/329)
سورة الجن
قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن/ 15] لا يعارض قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة/ 8]؛ لأن القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، فهما ضدان. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ} الآية [الجن/ 23]. أفرد الضمير في قوله: {لَهُ}، وجمع في قوله: {خَالِدِينَ}. والجواب هو ما تقدم من أن الإفراد باعتبار لفظ: "من"، والجمع باعتبار معناها، وهو ظاهر.
(1/330)
سورة المزمل
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل/ 1 - 2]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} الآية [المزمل/ 20] يدل على وجوب قيام الليل على الأمة؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه. وقوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} دليل على عدم الخصوص به -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد ذكر اللَّه ما يدل على خلاف ذلك في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، وقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل/ 20]. والجواب ظاهر، وهو: أن الأخير ناسخ للأول، ثم نُسِخَ الأخير -أيضًا- بالصلوات الخمس. قوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} [المزمل/ 14] لا يعارض قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)} [القارعة/ 5]؛ لأن قوله: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} تشبيه بليغ، والجبال بعد طحنها المنصوص عليه بقوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} [الواقعة/ 5] تشبه الرمل المتهايل، وتشبه أيضًا الصوف المنفوش.
(1/331)
سورة المدثر
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} الآية [المدثر/ 38]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} الآية [الطور/ 21].
(1/332)
سورة القيامة
قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة/ 1] لا يعارض إقسامه به في قوله: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)} [البروج/ 2]. والجواب من وجهين: أحدهما: أن "لا" نافية لكلام الكفار. الثاني: أنها صلة كما تقدم، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء اللَّه تعالى. قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة/ 22 - 23]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام/ 103].
(1/333)
سورة الإنسان
قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان/ 21] لا يعارضه قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} الآية [الكهف/ 31]. ووجه الجمع ظاهر، وهو أنهما جنتان أوانيهما وجميع ما فيهما من فضة، وأخريان أوانيهما وجميع ما فيهما من ذهب. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/334)
سورة المرسلات
قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات/ 35 - 36]. هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون. وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون، كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام/ 23]، وقوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل/ 28]، وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر/ 74]، وقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)} [الشعراء/ 97 - 99]، وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف/ 38]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب عن هذا من أوجه: الأول: أن القيامة مواطن، ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون. الثاني: أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة. وما لا فائدة فيه كالعدم. الثالث: أنهم بعد أن يقول اللَّه لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون/ 108] ينقطع نطقهم، ولم يبق إلا الزفير والشهيق. قال
(1/335)
تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)} [النمل/ 85]. وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول.
(1/336)
سورة النبأ
قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ/ 23]. تقدم وجه الجمع بينه هو والآيات المشابهة له، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود/ 107]، مع الآيات المقتضية لدوام عذاب أهل النار بلا انقطاع، كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [الأنعام/ 128]، فقد بينا هناك أن العذاب لا ينقطع عنهم، وبينا وجه الاستثناء بالمشيئة. وأما وجه الجمع بين الأحقاب المذكورة هنا مع الدوام الأبدي الذي قدمنا الآيات الدالة عليه، فمن ثلاثة أوجه: الأول -وهو الذي مال إليه ابن جرير، وهو الأظهر عندي؛ لدلالة ظاهر القرآن عليه- هو: أن قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} متعلق بما بعده؛ أي: لابثين فيها أحقابًا في حال كونهم {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)}، فإذا انقضت تلك الأحقاب عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق. ويدل لهذا تصريحه تعالى بأنهم يعذبون بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق في قوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص/ 57 - 58]. وغاية ما يلزم على هذا القول تداخل الحال، وهو جائز حتى عند من منع ترادف الحال كابن عصفور ومن وافقه.
(1/337)
وإيضاحه: أن جملة: {لَا يَذُوقُونَ} حال من ضمير اسم الفاعل المستكن، ونعني باسم الفاعل قوله: {لَابِثِينَ} الذي هو حال. ونظيره من إتيان جملة فعل مضارع منفي بـ "لا" حالًا في القرآن قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل/ 78] أي: في حال كونكم لا تعلمون. الثاني: أن هذه الأحقاب لا تنقضي أبدًا. رواه ابن جرير عن قتادة والربيع بن أنس، وقال: إنه أصح مِنْ جعلِ الآية في عصاة المسلمين، كما ذهب إليه خالد بن معدان. الثالث: أنا لو سلمنا دلالة قوله: {أَحْقَابًا (23)} على التناهي والانقضاء، فإن ذلك إنما فُهِمَ من مفهوم الظرف، والتأبيد مُصَرَّحٌ به منطوقًا، والمنطوق مقدم على المفهوم، كما تقرر في الأصول. وقول خالد بن معدان: إن هذه الآية في عصاة المسلمين يرده ظاهر القرآن؛ لأن اللَّه قال: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} وهؤلاء الكفار.
(1/338)
سورة النازعات
قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات/ 30]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت/ 9 - 11]، في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية. قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات/ 45]. تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات الدالة على عموم الإنذار، كقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان/ 1] في سورة يس وغيرها.
(1/339)
سورة عبس
قوله تعالى: {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس/ 2]. عبر اللَّه تعالى عن هذا الصحابي الجليل -الذي هو عبد اللَّه بن أم مكتوم- بلقب يكرهه الناس، مع أنه قال: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات/ 11]. والجواب: هو ما نبه عليه بعض العلماء، من أن السر في التعبير عنه بلفظ "الأعمى" الإشعارُ بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه.
(1/340)
سورة التكوير
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)} [التكوير/ 19]. ظاهر هذه الآية يتوهم منه الجاهل أن القرآن كلام جبريل. مع أن الآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأنه كلام اللَّه، كقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة/ 6]، وكقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود/ 1]. والجواب واضح من نفس الآية؛ لأن الإيهام الحاصل من قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ} يدفعه ذكر الرسول؛ لأنه يدل على أن الكلام لغيره، لكنه أُرْسِلَ بتبليغه، فمعنى قوله: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} أي: تبليغه عمن أرسله من غير زيادة ولا نقص.
(1/341)
سورة الانفطار
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} [الانفطار/ 5]. هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن الذي يَعْلَمُ يوم القيامة ما قَدَّمَ وما أَخَّر نفسٌ واحدة. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن كل نفس تعلم ما قدمت وأخرت، كقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس/ 30]، وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} [الإسراء/ 13]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب: أن المراد بقوله: {نَفْسٌ} كل نفس، والنكرة وإن كانت لا تعم إلا في سياق النفي أو الشرط أو الامتنان -كما تقرر في الأصول- فإن التحقيق أنها ربما أفادت العموم بقرينة السياق من غير نفي أو شرط أو امتنان، كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} في التكوير والانفطار، وقوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} [الأنعام/ 70]، وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا} [الزمر/ 56]. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/342)
سورة التطفيف
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين/ 15]. يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم يوم القيامة. وقد قدمنا وجه الجمع بين هذا المفهوم وبين قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام/ 103].
(1/343)
سورة الانشقاق
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)} الآية [الانشقاق/ 10]. هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يُعْطَ كتابه بيمينه أنه يُعْطَاه وراء ظهره. وقد جاءت آية يفهم منها أنه يؤتاه بشماله، وهو قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي} الآية [الحاقة/ 25]. والجواب ظاهر، وهو: أنه لا منافاة بين أخذه بشماله وإيتائه وراء ظهره؛ لأن الكافر تُغَلُّ يمناه إلى عنقه، وتُجْعَلُ يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.
(1/344)
سورة البرج
قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)} [البروج/ 2]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة/ 1]. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)} [البروج/ 17 - 18]. لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من توهم المنافاة بين لفظة: {الْجُنُودِ (17)} مع لفظة {فِرْعَوْنَ}، لأن فرعون ليس جندًا، وإنما هو رجل بعينه. والجواب ظاهر، وهو: أن المراد بفرعون هو وقومه، فاكتفى بذكره لأنهم تبع له وتحت طاعته.
(1/345)
سورة الطارق
قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق/ 17]. هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [التوبة/ 5]. والجواب: أن الإمهال منسوخ بآيات السيف. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/346)
سورة الأعلى
قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [الأعلى/ 6 - 7]. هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ينسى من القرآن ما شاء اللَّه أن ينساه. وقد جاءت آيات كثيرة تدل على حفظ القرآن من الضياع، كقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة/ 16 - 17]، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر/ 9]. والجواب: أن القرآن وإن كان محفوظًا من الضياع، فإن بعضه ينسخ بعضًا، وإنساء اللَّه نبيَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعض القرآن في حكم النسخ، فإذا أنساه آية فكأنه نَسَخَها, ولا بد أن يأتي بخيرٍ منها أو مثلها، كما صرح به تعالى في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106]، وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} الآية [النحل/ 101]. وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} [الأعلى/ 7]. وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى/ 9]. هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير لا يطلب إلا عند مظنة نفعه؛ بدليل "إن" الشرطية.
(1/347)
وقد جاءت آيات كثيرة تدل على الأمر بالتذكير مطلقًا، كقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية/ 21]، وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر/ الآيات: 17]. وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة: منها: أن في الكلام حذفًا؛ أي: إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل/ 81] أي: والبرد. وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم. ومنها: أنها بمعنى: "إذ". وإتيانُ "إنْ" بمعنى "إذ" مذهب الكوفيين خلافًا للبصريين. وجعل منه الكوفيون قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} [المائدة/ 112]، وقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران/ 139]، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة/ 23]، وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح/ 27]. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون". وقول الفرزدق: أتغضبُ إنْ أُذْنَا قتيبة حُزَّتَا ... جهارًا ولم تغضب لقتل ابن خازم وأجاب البصريون عن آيات: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} بأن فيها معنى الشرط، جيء به للتهييج. وعن آية: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} والحديث
(1/348)
بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخبروا عن المستقبل. وعن البيت بجوابين: أحدهما: أنه من إقامة السبب مقام المسبب. والأصل: أتغضب إن افتخر مفتخر بحزِّ أُذُنَيْ قتيبة. إذ الافتخار بذلك يكون سببًا للغضب، ومسبّبًا عن الحَزِّ. الثاني: تغضب إن تبين في المستقبل أن أُذُنَيْ قتيبة حُزَّتا. ومنها: أن معنى {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} الإرشاد إلى التذكير بالأهم، أي: ذَكِّرْ بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه. فيكون المعنى: ذَكِّرْ الكفار -مثلًا- بالأصول التي هي التوحيد، لا بالفروع؛ لأنها لا تنفع دون الأصول، وذَكِّرْ المؤمن التارك لفرضٍ -مثلًا- بذلك الفرض المتروك، لا بالعقائد ونحو ذلك؛ لأنه أنفع. ومنها: أن "إن" بمعنى "قد". وهو قول قطرب. ومنها: أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم. كما قال الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيًا ... ولكن لا حياة لمن تنادي ومنها غير ذلك. والذي يظهر لمقيد هذه الحروف -عفا اللَّه عنه- هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها، وأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد أن يكرر الذكرى تكريرًا تقوم به
(1/349)
حجة اللَّه على خلقه مأمورٌ بالتذكير عند ظن الفائدة، أما إذا علم عدم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه؛ لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه. وقد قال الشاعر: لِمَا نافعٍ يسعى اللبيبُ فلا تكن ... لشيء بعيدٍ نفعُه الدهرَ ساعيا وهذا ظاهر، ولكن الخفاء في تحقيق المناط. وإيضاحه: أن يقال: بأي وجه يتَيقَّنُ عدم إفادة الذكرى، حتى يباح تركُها؟ وبيان ذلك: أنه تارة يعلمه بإعلام اللَّه به، كما وقع في أبي لهب، حيث قال تعالى فيه: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ} الآية [المسد/ 3 - 4]. فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى؛ لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار، بعد تكرار التذكير لهما تكرارًا تقوم عليهما به الحجة، فلا يلزم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء؛ لقوله تعالى في هذه الآية: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)}. وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال، بحيث يبلِّغ على أكمل وجه، ويأتي بالمعجزات الواضحة، فيعلم أن بعض الأشخاص عالمٌ بصحة نبوته، وأنه مصر على الكفر عنادًا ولجاجًا. فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائمًا، بعد أن تكرر عليه تكريرًا تلزمه به الحجة. وحاصل إيضاح هذا الجواب: أن الذكرى تشتمل على ثلاث حِكَم:
(1/350)
الأولى: خروج فاعلها من عهدة الأمر بها. الثانية: رجاء النفع لمن يوعظ بها. وبيَّن اللَّه تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} [الأعراف/ 164]. وبيَّن الأولى منهما بقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} [الذاريات/ 54]، وقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى/ 48]، ونحوها من الآيات. وبيَّن الثانية بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات/ 55]. الثالثة: إقامة الحجة على الخلق. وبيَّنها تعالى بقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]، وبقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} الآية [طه/ 134]. فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة، فإن كان في الثانية طمعٌ استمر على التذكير، وإلا لم يكلف بالدوام. والعلم عند اللَّه تعالى. وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها -مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها، وأن معناها: فذَكِّرْ مطلقًا إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع-؛ لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب اللَّه عن
(1/351)
ظواهره المتبادرة منه إلا لدليل يجب الرجوع له. وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها: أي ذَكِّر حيث تنفع التذكرة. ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه في غير أهله، كما قال علي -رضي اللَّه عنه-: ما أنت بمحدث قومًا حديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال: حدثوا اللَّه الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب اللَّه ورسوله. تنبيه هذا الإشكال الذي في هذه الآية، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب -الذي هو مفهوم المخالفة-، وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطًا كان أو غيره -كأبي حنيفة- فلا إشكال في الآية. وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط -كالباقلاني-، فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع، فيطلب من دليل آخر، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقًا.
(1/352)
سورة الغاشية
قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)} [الغاشية/ 6]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} [الحاقة/ 36]. قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)} [الغاشية/ 12]. ظاهر هذه الآية: أن الجنة فيها عين واحدة. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} [الذاريات/ 15]. والجواب: هو ما تقدم في الجمع بين قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر/ 54] مع قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية [محمد/ 15]. فالمراد بالعين: العيون، كما تقدم نظيره في سورة البقرة وغيرها.
(1/353)
سورة الفجر
قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر/ 22] يوهم أنه ملك واحد، وقوله: {صَفًّا صَفًّا} يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة. والجواب: أن قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ} معناه: والملائكة. ونظيره قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة/ 17]. وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} الآية [البقرة/ 29].
(1/354)
سورة البلد
قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد/ 1]. هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد -الذي هو مكة المكرمة-، مع أنه تعالى أقسم به في قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين/ 3]. والجواب من أربعة وجوه: الأول -وعليه الجمهور-: أن "لا" هنا صلةٌ، على عادة العرب؛ فإنها ربما لفظت بلفظة "لا" من غير قصد معناها الأصلي، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده، كقوله: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه/ 92 - 93] يعني: أن تتبعني، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف/ 12] أي: تسجد -على أحد القولين-، ويدل له قوله في سورة "ص": {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ} الآية [ص/ 75]، وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد/ 29] أي: ليعلم أهل الكتاب، وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء/ 65] أي: فوربك، وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت/ 34] أي: والسيئة، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء/ 95] على أحد القولين، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام/ 109] على أحد القولين، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} [الأنعام/ 151] على أحد الأقوال الماضية.
(1/355)
وكقول أبي النجم: فما ألومُ البِيض ألّا تسخرا ... لما رأينَ الشَّمَطَ القَفندَرا يعني: أن تسخر. وكقول الشاعر: ويَلْحِينَنِي في اللهو أن لا أحبه ... ولِلَّهْوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ يعني: أن أحبه. و"لا" زائدة. وقول الآخر: أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ به ... نَعَمْ مِنْ فتًى لا يمنع الجودَ قاتلُه يعني: أبى جودُه البخلَ. و"لا" زائدة، على خلافٍ في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولاسيما على رواية "البخلِ" بالجر؛ لأن "لا" عليها مضاف بمعى لفظة "لا"، فليست زائدة على رواية الجر. وقول امرئ القيس: فلا وأبيك ابنةَ العامريِّ ... لا يدعي القومُ أني أَفِرّ يعني: وأبيك. وأنشد الفراء لزيادة "لا" في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر: ما كان يرضى رسولُ اللَّه دينهم ... والأطيبانِ أبو بكرٍ ولا عمرُ
(1/356)
يعني: وعمر. و"لا" صلة. وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج: في بئرِ لا حُورَ سرى وما شَعَر ... بإفكه حتى رأى الصبحَ جَشَر فالحُور: الهلكة. يعني: في بئرٍ هلكة. و"لا" صلة. قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي: أفعَنْكَ لا برقٌ كأنَّ وميضَه ... غابٌ تسنَّمه ضرامٌ مُثقبُ ويروي: "أفمنك" و"تشيمه" بدل: "أفعنك" و"تسنمه". يعني: أعنك برقٌ. و"لا" صلة. ومن شواهد زيادتها قول الشاعر: تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ ... وكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: كاد يتقطع. وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ: أعائشُ ما لقومك لا أراهم ... يُضِيعون الهِجانَ مع الضيع فغلطٌ منه؛ لأن "لا" في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده: أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون مالهم، أى: لا أرى قومك يضيعيون مالهم وأنتِ تعاتبينني في حفظ مالي.
(1/357)
وما ذكره الفراء من أن لفظة "لا" لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبيٌّ لا يصح على الإطلاق؛ بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها، كهذه الآية على القول بأن "لا" فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي. وما ذكره الزمخشري من زيادة "لا" في أول الكلام دون غيره، فلا دليل عليه. الوجه الثاني: أن "لا" نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقوله: {أُقْسِمُ} إثبات مستأنف. وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء، فليس بوجيه عندي؛ لقوله تعالى في سورة القيامة: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}؛ لأن قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} يدل على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله: {أُقْسِمُ}، واللَّه تعالى أعلم. الوجه الثالث: أنها حرف نفي أيضًا. ووجهه: أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المُقْسَم به، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية، والمراد: أنه لا يَعْظُمُ بالقسم، بل هو في نفسه عظيمٌ أُقْسِمَ به أولًا. وهذا القول ذكره صاحب "الكشاف" وصاحب "روح المعاني"، ولا يخلو عندي مِنْ بُعْدٍ. الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء أُشْبِعَتْ فتحتُها، والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو.
(1/358)
فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي: وتضحكُ مني شيخةٌ عبشميةٌ ... كان لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا فالأصل: كأن لم تر. ولكن الفتحة أشبعت. وقول الراجز: إذا العجوزُ غضبَتْ فطلِّقِ ... ولا تَرَضاها ولا تَمَلَّقِ فالأصل: تَرَضَّها؛ لأن الفعل مجزوم بـ "بلا" الناهية. وقول عنترة في معلقته: يَنْباعُ مِنْ ذِفْرى غَضُوبٍ جَسْرةٍ ... زَيافةٍ مثل الفَنِيق المُكدَمِ فالأصل: ينبع. يعني: أن العرق ينبع من عظم الذِّفرى من ناقته، فأشبع الفتحة فصار ينباع، على الصحيح. وقول الراجز: قلتُ وقد خَرَّتْ على الكلكال ... يا ناقتي ما جُلْتِ من مَجالي فقوله: "الكلكال" يعني: الكلكل. وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة الشعر؛ لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرفٍ يناسبها أسلوبٌ من أساليب اللغة العربية؛ ولأنه مسموع في النثر، كقولهم: كلكال، وخاتام، وداناق. يعنون: كلكلًا وخاتمًا ودانقًا. ومثاله في إشباع الضمة بالواو: قولهم: برقوع ومعلوق.
(1/359)
يعنون: برقعًا ومعلقًا. ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد فالأصل: يأتك؛ لمكان الجازم. وأنشد له الفراء: لا عهد لي بنيضال ... أصبحت كالشن البال ومنه قول امرئ القيس: كأني بفتخاء الجناحين لَقوَةٍ ... على عجلٍ مني أطأطئُ شيمالي ويروى: صَيُودٌ من العقبان طأطأتُ شيمالي. ويروى: دفوف من العقبان. . . الخ. ويروى: "شملال" بدل "شيمال". وعليه فلا شاهد في البيت، إلا أن رواية الياء مشهورة. ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر: هجوت زبان ثم جئتَ معتذرًا ... من هجوِ زبان لم تهجو ولم تدع وقول الآخر: اللَّه أعلم أنَّا في تلفُّتِنا ... يوم الفراق إلى إخواننا صُوْرُ وأنني حيثما يثني الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
(1/360)
يعني: فأنظر. وقول الراجز: لو أن عمرًا هَمَّ أن يرقودا ... فانهض فشدَّ المئزر المعقودا يعني: يرقد. ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل: (لأقسم بهذا البلد) بلام الابتداء، وهو مروي عن البزي والحسن. والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد/ 16]. يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء، فهو أشد فقرًا من مطلق الفقير، كما ذهب إليه مالك وكثير من العلماء. وقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ} الآية [الكهف/ 79] يدل على خلاف ذلك؛ لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار (1). والجواب عن هذا محتاج إليه على كلا القولين: أما على قول من قال: إن المسكين مَن عنده ما لا يكفيه، كالشافعي؛ فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول: المسكين عنده __________ (1) انظر: "الأضواء" (5/ 605).
(1/361)
الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه، فإذا قُيِّدَ بما يقتضي أنه لا شئ عنده فذلك يُعْلَمُ من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين. وعليه، فاللَّه -في هذه الآية- قيد المسكين بكونه ذا متربة، فلو لم يقيده لانصرف إلي من عنده ما لا يكفيه، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقييد. وأما على قول من قال بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير، وأنه لا شيء عنده، فيجاب عن آية الكهف بأجوبة: منها: أن المراد بقوله: {مَسَاكِينَ} أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة، ويزعمون أنهم عشرة، خمسةٌ منهم زَمْنَى. ومنها: أن السفينة لم تكن ملكًا لهم، بل كانوا أجراء فيها، أو أنها عارية، واللام للاختصاص. ومنها: أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحمًا؛ لضعفهم. والذي يظهر لمقيده -عفا اللَّه عنه- أن هذه الأجوبة لا دليل على شئ منها؛ فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها. وما احتج به بعضهم من قراءة عليٍّ -رضي اللَّه عنه- (لمسَّاكين) بتشديد السين، جمع تصحيح لـ "مسَّاك" بمعنى المَلَّاح، أو دابة المُسُوك التي هي الجلود = فلا يخفى سقوطه؛ لضعف هذه القراءة وشذوذها. والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أن مجموع الآيتين دل على أن
(1/362)
لفظ "المسكين" مُشَكِّك؛ لتفاوت أفراده، فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية الكهف، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية البلد، كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما. والمُشَكِّك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشَدِّية انصرف إلى مطلقه. هذا ما ظَهَر، والعلم عند اللَّه تعالى. والفقير -أيضًا- قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال، كقول مالك. ومن شواهده قول راعي نمير: أما الفقير الذي كانت حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ فسماه فقيرًا مع أن عنده حلوبة قدر عياله.
(1/363)
سورة الشمس
قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 8]. يدل على أن اللَّه هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته، كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت/ 17]، وقوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة/ 175]، ونحو ذلك. وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية. أما القدرية، فضلوا بالتفريط؛ حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالًا، من غير تأثير لقدرة اللَّه فيه. وأما الجبرية، فضلوا بالإفراط؛ حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلًا حتى يؤاخذ به. وأما أهل السنة والجماعة، فلم يُفَرِّطُوا ولم يُفْرِطُوا، فأثبتوا للعبد أفعالًا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن اللَّه خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة اللَّه تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة اللَّه تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارًا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما اللَّه فيه، فعلا اختياريًا يثاب عليه ويعاقب. ولو فرضنا أن جبريًّا ناظر سنيًّا، فقال الجبري: حجتي لربي أن
(1/364)
أقول: إني لست مستقلًّا بعمل، وأني لا بدَّ أن تنفذ فيَّ مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي، فأنا مجبور، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعًا تسمع به، وبصرًا تبصر به، وعقلًا تعقل به، وأرسل لك رسولًا، وجعل لك اختيارًا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض، إن أعطاه فَفَضْلٌ، وان منعه فَعَدْلٌ. كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149]، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أُعْطِيَه ففَضْلٌ، ومن مُنِعَه فعَدْلٌ. ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي، قال عبد الجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة اللَّه؛ لأن اللَّه أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم. فقال أبو إسحاق: كلمة حق أُريد بها باطل. ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرًا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟
(1/365)
فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى عليَّ بالردى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكًا لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: واللَّه ما لهذا جواب. وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع اللَّه لي أن يرد عليَّ حمارة سرقت مني. فقال: اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه. فقال له الأعرابي: يا هذا، كف عني دعائك الخبيث؛ إن كانت سرقت ولم يُرِدْ سرقتها فقد يريد ردها ولا تُرَدُّ. وقد رفع اللَّه إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان/ 30]، فأثبت للعبد مشيئة، وصرح بأنه لا مشيئة العبد إلا بمشيئة اللَّه -جل وعلا-، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا، وقولِه (1): {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149]. وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)}: أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال فى الآية. وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء. والعلم عند اللَّه تعالى. __________ (1) السياق: "وقد رفع اللَّه إشكال هذه المسألة بقوله تعالى. . . وقوله. . . ".
(1/366)
سورة الليل
قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} [الليل/ 12]، يدل على أن اللَّه التزم على نفسه الهدى للخلق. مع أنه جاءت آيات كثيرة تدل على عدم هداه لبعض الناس، كقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة/ 108]، وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة/ 258]، وقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا} الآية [آل عمران/ 86]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب هو ما تقدم من أن الهدى يستعمل في القرآن خاصًا وعامًا، فالمثبت العام والمنفي الخاص، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. وأما على قول من قال: إن معنى الآية: أن الطريق الذي يدل علينا وعلى طاعتنا هو الهدى لا الضلال. وقول من قال: إن معنى الآية: أن من سلك طريق الهدى وصل إلى اللَّه = فلا إشكال في الآية أصلًا.
(1/367)
سورة الضحى
قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى/ 7]. هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ضالًا قبل الوحي، مع أن قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم/ 35] يدل على أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فطر على هذا الدين الحنيف. ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه، بل لم يزل باقيًا علي الفطرة حتى بعثه اللَّه رسولًا. ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء، فذلك التعبد قبل نزول الوحى دليل على البقاء على الفطرة. والجواب: أن معنى قوله: {ضَالًّا فَهَدَى (7)} أي: غافلًا عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما تعلم بالوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك. فمعنى الضلال -على هذا القول- الذهاب عن العلم. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة/ 282]، وقوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه/ 52]، وقوله {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف/ 95]، وقول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلًا أراها في الضلال تهيم ويدل لهذا قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}
(1/368)
[الشورى/ 52]؛ لأن المراد بالإيمان: شرائع دين الإسلام، وقوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف/ 3]، وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء/ 113]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص/ 86]. وقيل: المراد بقوله: {ضَالًّا} ذهابه وهو صغير في شعاب مكة. وقيل: ذهابه في سفره إلى الشام. والقول الأول (1) هو الصحيح. واللَّه تعالى أعلم. ونسبة العلم إلى اللَّه أسلم. __________ (1) أي: أن الضلال هو الذهاب عن العلم.
(1/369)
سورة التين
قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين/ 3]. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد/ 1]. قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين/ 4]. هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه؛ لما تقرر في فن المعاني من أن خالي الذهن من التَّردُّد والإنكار لا يؤكَّد له الكلام، ويسمى ذلك ابتدائيًا. والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد، ويسمى طلبيًا. والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره، ويسمى إنكاريًا. واللَّه تعالى في هذه الآية أكد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم بأربعة أقسام، وباللام، وبـ "قد"، فهي ستة تأكيدات. وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان مُنْكِرٌ لأنَّ ربه خلقه. وقد جاءت آيات أخرى صريحة في أن الكفار يقرون بأن اللَّه هو خالقهم، وهي قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف/ 87]. والجواب من وجهين: الأول: هو ما حرره علماء البلاغة من أن المُقرَّ إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار، جُعِلَ كالمُنْكِر، فأُكِّدَ له الخبر؛ كقول حجل بن
(1/370)
نضلة: جاء شقيقٌ عارضًا رمحَه ... إن بني عمِّك فيهم رماح فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماحًا، ولكن مجيئه عارضًا رمحه، أي جاعلًا عرضه جهتهم من غير التفات، أمارة أنه يعتقد أنْ لا رمح فيهم، فأكد له الخبر. فإذا حققت ذلك، فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء، فأكد لهم الإيجاد الأول. ويوضح هذا: أن اللَّه بين أنه المقصود بقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} [التين/ 7]، أي: ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء، بعد علمك أن اللَّه أوجدك أولًا؟ فمن أوجدك أولًا قادر على أن يوجدك ثانيًا، كما قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية [يس/ 79]، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية [الأنبياء/ 104]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية [الروم/ 27]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج/ 5]، والآيات بمثل هذا كثيرة. ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول، بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس/ 78]، وبقوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} [مريم/ 66 - 67].
(1/371)
وقال البعض: معنى {فَمَا يُكَذِّبُكَ}: فمن يقدر على تكذيبك يا نبي اللَّه بالثواب والعقاب، بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأول؟ فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري. الوجه الثاني: أن القَسَمَ شامل لقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} أي: إلى النار. وهم لا يصدقون بالنار؛ بدليل قوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} [الطور/ 14]. وهذا الوجه في معنى قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} أصح من القول بأن معناه الهَرَم والرد إلى أرذل العمر؛ لكون قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين/ 6] أظهر في الأول من الثاني. وإذا كان القسم شاملًا للإنكاري فلا إشكال؛ لأن التوكيد منصبٌّ على ذلك الإنكاري. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/372)
سورة العلق
قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} الآية [العلق/ 16]. أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر، وهي مقدم شعر رأسه. مع أنه أسنده في آيات كثيرة إلى غير الناصية، كقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} [النحل/ 105]. والجواب ظاهر، وهو: أنه هنا أطلق الناصية وأراد صاحبها، على عادة العرب في إطلاق البعض وإرادة الكل. وهو كثير في كلام العرب، وفي القرآن. فمن أمثلته في القرآن هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد/ 1]، يعني: أبا لهب، وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران/ 18] يعني: بما قدمتم. ومن ذلك تسمية العربِ الرقيبَ عينًا. وقوله: {خَاطِئَةٍ (16)} لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب/ 5]؛ لأن الخاطئ هو فاعل الخطيئة أو الخِطْء -بكسر الخاء- وكلاهما الذنب، كما بينه قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح/ 25]، وقوله: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء/ 31]. فالخاطئ: المذنب عمدًا، والمخطئ: من صدر منه الفعل من غير قصد، فهو معذور.
(1/373)
سورة القدر
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر/ 1]. لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان/ 3]؛ لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر، وهي من رمضان بنص قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة/ 185]. فما يزعمه كثير من العلماء من أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان ترده هذه النصوص القرآنية. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/374)
سورة الزلزلة
قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة/ 7 - 8]. هذه الآية الكريمة تقتضي أن كل إنسان -كافرًا كان أو مسلمًا- يجازى بالقليل من الخير والشر. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف هذا العموم: أما ما فعله الكافر من الخير، فالآيات تصرح بإحباطه، كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود/ 16]، وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان/ 23]، وكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} الآية [إبراهيم/ 18]، وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية [النور/ 39]، إلى غير ذلك من الآيات. وأما ما عمله المسلم من الشر، فقد صرحت الآيات بعدم لزوم مؤاخذته به، لاحتمال المغفرة أو لوعد اللَّه بها، كقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/ 48]، وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء/ 31]، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن الآية من العام المخصوص. والمعنى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره إن لم يحبطه الكفر؛ بدليل آيات إحباط الكفر
(1/375)
عمل الكفار. ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره إن لم يغفره اللَّه له؛ بدليل آيات احتمال الغفران والوعد به. الثاني: أن الآية على عمومها، وأن الكافر يرى جزاء كل عمله الحسن في الدنيا، كما يدل عليه قوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية [هود/ 15]، وقوله: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} الآية [الشورى/ 20]، وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور/ 39]، والمؤمن يرى جزاء عمله السيئ في الدنيا بالمصائب والأمراض والآلام. ويدل لهذا ما أخرجه الطبرانى في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب"، وابن أبي حاتم، وجماعة، عن أنس قال: بينا أبو بكر -رضي اللَّه عنه- يأكل مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ نزلت عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية، فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول اللَّه -صلي اللَّه عليه وسلم-، إني لراءٍ ما عملتُ من مثقال ذرة من شر؟ فقال رسول اللَّه -صلي اللَّه عليه وسلم-: "يا أبا بكر، أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر" الحديث. الوجه الثالث: أن الآية -أيضًا- على عمومها، وأن معناها: أن المؤمن يرى كل ما قَدَّمَ من خير وشر، فيغفر اللَّه له الشر ويثيبه بالخير. والكافر يرى كل ما قَدَّمَ من خير وشر، فيحبط ما قدم من خير ويجازيه بما فعل من الشر.
(1/376)
سورة العاديات
قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} الآية [العاديات/ 6 - 7]. هذه الآية تدل على أن الإنسان شاهد على كنود نفسه، أي: مبالغته في الكفر. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف/ 104]، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف/ 37]، وقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر/ 47]. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن شهادة الإنسان بأنه كنود هي شهادةُ حالِه بظهور كنوده، والحال ربما تكفي عن المقال. الثاني: أن شهادته على نفسه بذلك يوم القيامة، كما يدل له قوله: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام/ 130]، وقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك/ 11]، وقوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر/ 71]. الوجه الثالث: أن الضمير في قوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} راجع إلى رب الإنسان، المذكور في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}.
(1/377)
وعليه فلا إشكال في الآية، ولكن رجوعه إلى الإنسان أظهر؛ بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات/ 8]. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/378)
سورة القارعة
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} [القارعة/ 8 - 9]. هذه الآية الكريمة تدل على أن الهاوية وصفٌ لا علمٌ للنار، إذ تنوينها ينافي كونها اسمًا من أسماء النار؛ لأنها على تقدير كونها من أسماء النار يلزم فيها المنع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة/ 10 - 11] يدل على أن الهاوية من أسماء النار. اعلم أولًا: أن في معنى قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} ثلاثة أوجه للعلماء، اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما، والثالث هو الذي فيه الإشكال المذكور. أما اللذان لا إشكال في الآية عليهما، فالأول منهما: أن المعنى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} أي: أم رأسه هاوية في قعر جهنم؛ لأنه يطرح فيها منكوسًا، رأسه أسفل ورجلاه أعلى. وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم. وعلى هذا القول فالضمير في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)} عائد إلى محذوف دل عليه المقام، أي: أم رأسه هاوية في نار، وما أدراك ماهيه، نار حامية.
(1/379)
والثاني: أنه من قول العرب إذا دعوا على الرجل بالهلكة قالوا: هَوَتْ أمُّه؛ لأنه إذا هوى -أي: سقط وهلك- فقد هوت أمه ثكلًا وحزنًا. ومن هذا المعنى قول كعب بن سعد الغنوي: هَوَتْ أمُّه مايبعث الصبحُ غاديًا ... وماذا يَرَدُّ الليلُ حين يؤوب وهذا القول رواية أخرى عن قتادة. وعلى هذا القول فالضمير في قوله: {هِيَهْ} للداهية التي دل عليها الكلام. وذكر الآلوسي في تفسيره أن صاحب "الكشاف" قال: إن هذا القول أحسن. وأن الطيبي قال: إنه أظهر، وقال هو: وللبحث فيه مجال. الثالث الذي فيه الإشكال: أن المعنى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي: مأواه الذي يحيط به ويضمُّه هاوية، وهي النار؛ لأن الأم تؤوي ولدها وتضمه، والنار تضم هذا العاصي، وتكون مأواه. والجواب على هذا القول: هو ما أشار له الآلوسي في تفسيره من أنه نكَّرَ الهاوية في محل التعريف لأجل الإشعار بخروجهم عن المعهود؛ للتفخيم والتهويل، ثم بعد إبهامها لهذه النكتة قررها بوصفها الهائل بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: هذا الجواب الذي ذكره الآلوسي
(1/380)
يدخل في حد نوع من أنواع البديع المعنوي، يسميه علماء البلاغة: التجريد. فحد التجريد عندهم: هو أن يُنْتَزع من أمرٍ ذي صفةٍ آخرُ مثلُه فيها، مبالغةً في كمالها فيه. وأقسامه معروفة عند البيانيين. فمنه ما يكون التجريد فيه بحرف، نحو قولهم: لي من فلان صديقٌ حميم، أي: بلغ من الصداقة حدًّا صح معه أن يُستخلص منه آخرُ مثله فيها، مبالغة في كمالها فيه. وقولهم: "لئن سألته لتسألن به البحر" بالَغَ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرًا في السماحة. ومن التجريد بواسطة الحروف قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت/ 28]، وهو أشبه شيء بالآية التي نحن بصددها؛ لأن النار هي دار الخلد بعينها، لكنه انتزع منها دارًا أخرى وجعلها مُعَدَّةً في جهنم للكفار؛ تهويلًا لأمرها، ومبالغة في اتصافها بالشدة. ومن التجريد ما يكون من غير توسط الحرف، نحو قول قتادة بن سلمة الحنفي: ولئن بقيت لأرحلن بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم يعني: نفسه؛ انتزعَ من نفسه كريمًا، مبالغة في كرمه. فإذا عرفت هذا، فالنار سميت الهاوية لغاية عمقها، وبعد مهواها؛ فقد روي أن داخلها يهوي فيها سبعين خريفًا.
(1/381)
وخصها البعض بالباب الأسفل من النار، فانتزع منها هاوية أخرى مثلها في شدة العمق، وبعد المهوى، مبالغةً في عمقها، وبعد مهواها. والعلم عند اللَّه تعالى.
(1/382)
سورة العصر
قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر/ 1 - 2]. هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن هذا المخبَر عنه أنه في خسرٍ إنسانٌ واحد؛ بدليل إفراد لفظة الإنسان. واستثناؤه من ذلك الإنسان الواحدِ لفظًا بقولِه (1): {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر/ 3] يقتضي أنه ليس إنسانًا واحدًا. والجواب عن هذا: هو أن لفظ الإنسان وإن كان واحدًا فالألف واللام للاستغراق، يصير المفرد بسببهما صيغة عموم. وعليه، فمعنى {إِنَّ الْإِنْسَانَ} أي: إنَّ كل إنسان؛ لدلالة "أل" الاستغراقية على ذلك. والعلم عند اللَّه تعالى. __________ (1) في الأصل المطبوع: قوله. ولعل المثبت هو الصواب.
(1/383)
سورة الماعون
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} الآية [الماعون/ 4]. هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن اللَّه توعد المصلين بالويل. وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر، وهي قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر/ 42 - 43]. والجواب عن هذا في غاية الظهور، وهو: أن التوعد بالويل منصبٌ على قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} الآية [الماعون/ 5 - 6]، وهم المنافقون، على التحقيق. وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال، وظهور الجواب عنه؛ لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية. وقد سمعنا من ثقات وغيرهم: أن رجلًا قال لظالمٍ تاركٍ للصلاة: ما لك لا تصلي؟ فقال: لأن اللَّه توعد على الصلاة بالويل في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)}، فقال له: اقرأ ما بعدها، فقال: لا حاجة لي فيما بعدها، فيها كفاية في التحذير من الصلاة. ومن هذا القبيل قول الشاعر: دع المساجد للعباد تسكنها ... وسِرْ إلى حانة الخَمَّار يسقينا ما قال ربك ويلٌ للأولى سكروا ... وإنما قال ويلٌ للمصلينا
(1/384)
فإذا كان اللَّه تعالى توعد بالويل المصلي الذي هو ساهٍ عن صلاته ويرائي فيها، فكيف بالذي لا يصلي أصلًا، فالويل كل الويل له، وعليه لعائن اللَّه إلى يوم القيامة ما لم يتب.
(1/385)
سورة الكافرون
قوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} [الكافرون/ 5] يدل بظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون اللَّه أبدًا، مع أنه دلت آيات أخر على أن منهم من يؤمن باللَّه تعالى، كقوله: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الآية [العنكبوت/ 47]. والجواب من وجهين: الأول: أنه خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد، فهو خطاب لهم ما داموا كفارًا، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك؛ لأنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون، وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب. واختار هذا الوجه أبو العباس ابن تيمية رحمه اللَّه. الثاني: هو أن الآية من العام المخصوص. وعليه فهي في خصوص الأشقياء المشار إليهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس/ 96] الآية، كما تقدم نظيره مرارًا.
(1/386)
سورة الناس
قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)} [الناس/ 4]. لا يخفى ما بين هذين الوصفين -اللذين وصف بهما اللعين الخبيث- من التنافي؛ لأن الوسواس كثير الوسوسة ليضل بها الناس، والخناس في التأخر والرجوع عن إضلال الناس. والجواب: أن لكل مقام مقالا؛ فهو وسواس عند غفلة العبد عند ذكر ربه، خناس عند ذكر العبد ربه تعالى، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} الآية [الزخرف/ 36]، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [النحل/ 99]. وقد تم -بحمد اللَّه تعالى- ما أردنا جمعه بمدينة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونرجو اللَّه تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين في الأقوال والأفعال، وأن يجعل سعينا خالصًا لوجهه الكريم، إنه قريب مجيب. آمين. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1/387)