عليك بالصوم فإنه لا مثل له
التصنيفات
- فقه >> العبادات >> حكم الصيام وفضله
- دراسات إسلامية >> مناسبات دورية >> شهر رمضان >> فضل رمضان
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
عليك بالصوم
أخي الكريم: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له».. هكذا وصاك النبي ﷺ.. فأرشدك إلى هذه العبادة في عبارة وجيزة تحمل في وجازتها أسرارًا عظيمة لغنائم جليلة فضيلة قل من يكسبها!
ولو تأملت أخي في أسرار تلك الغنائم.. لوقفت متحسرًا على يوم فاتك لم تصمه.. ولدعتك نفسك التواقة إلى الخير إلى الحرص على كل صوم مستحب.
فهذا شهر رمضان لا يخفى عليك أجره وثوابه.. وهو من العظمة والكثرة في منتهى النهايات.. قال رسول الله ﷺ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وصوم رمضان ركن من أركان الإسلام.. أوجبه الله على كل مسلم.. وليس هنا عنه نتكلم.
وإنما الحديث هنا عن الصيام المستحب وما له من فضل وثواب عند الله.. فالصوم في سبيل الله.. جُنة من النار.. وقاية منها كما قال ﷺ: «الصوم جنة يستجن بها العبد من النار».
[صحيح الجامع: 3867]
والصوم شافع لك يوم القيامة.. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. في الحديث قال رسول الله ﷺ: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفعان» [صحيح الترغيب برقم: 984].
وإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها.. فإن الصوم قد أخفى الله ثوابه.. وفي ذلك من الإشارة إلى عظم ثوابه ما لا يخفى.. ففي الحديث القدسي قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. إني صائم» [صحيح الترغيب: 1081].
قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: (يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة ، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام ، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافًا كثيرة بغير حصر عدد).
فإن الصيام من الصبر، وقد قال اله تعالى: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{، ولهذا ورد عن النبي ﷺ أنه سمى رمضان شهر الصبر، وقال ﷺ: «الصوم نصف الصبر».
والصبر على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة.. وصبر على محارم الله.. وصبر على الأقدار المؤلمة.
وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرًا على طاعة الله، وصبرًا عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرًا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه، كما قال الله تعالى في المجاهدين: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [لطائف المعارف لابن رجب ص: 168].
وقال القرطبي رحمه الله: (إن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول: إن الصائم يتقرب إليّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي).
فتأمل أخي في ثواب هذه العبادة.. فهي وقاية من النار. وشافعة يوم المعاد.. ولا يعلم عظم ثوابها إلا رب العباد..
فضل الصيام
وفي فضل الصيام وردت أحادث كثيرة كلها تبين فضائل الصوم العظيمة والتي ما اطلع عليها مؤمن موقن بأخبارها إلا شمر لنيلها.. وسارع لاكتسابها.. وإليك أخي بيان تلك الثمرات:
1- دخول الجنة: فقد قال رسول الله ﷺ: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد».
[رواه البخاري ومسلم]
2- النجاة من النار: وفيه وردت أحاديث كثيرة منها: قوله ﷺ: «من صام يومًا في سبيل الله بعدت منه النار مسيرة مائة عام». [رواه الطبراني/ وانظر صحيح الترغيب 1/414]
وقال ﷺ: «من صام يومًا في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفًا».
[انظر صحيح الجامع برقم: 6334]
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد تقدم أن الصيام جنة يستجن بها العباد من النار.
3- أن الصوم شعار الأبرار: ففي الحديث قال رسول الله ﷺ: «جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار، يقومون الليل، ويصومون النهار، ليسوا بأئمة ولا فجار».
[انظر: صحيح اجامع برقم: 3097]
4- أن دعوة الصائم لا ترد: قال ﷺ: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر» [رواه البيهقي، وانظر: صحيح الجامع: (3030)].
5- تكفير السيئات:قال رسول الله ﷺ: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» [رواه البخاري].
أخي الكريم: فهذه بعض الفضائل العظام لنافلة الصيام: فوز بالجنة.. ونجاة من النار.. واستجابة للدعوة.. وتكفير للخطايا.. وغيرها كثير لا يعلم قدره إلا الله.. فأين من يثخن بطنه طول حياته.. ممن يشتري بجوعة ساعات هذه الكرائم الخالدة..
هذا وفضائل الصيام لا تف عند حد غنائمه الأخروية.. بل له فضائل جليلة تعود على الصائم خيرًا في الدنيا. فمنها:
الأول: صحة الأبدان لقوله ﷺ: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه»، يقول ابن القيم في زاد المعاد: (وله – أي: الصيام – تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها).
الثاني: سلامة الأذهان وتصحيح أفكارها، فإن الحرارة الغريزية يثيرها الجوع والعطش ، فيقوى إدراكها لفهم المعاني ، ويكثر تدبرها لما في الأعمال الصالحة من معان.
الثالث: نهضة القوة الحافظة وتقليل نسيانها ، فإن كثرة الأكل تكثر الرطوبة في الجسد وتوجب البلادة في الطبع.
الرابع: خفة حركة الأعضاء للطاعات، فإن الشبع يرخي الجسد ، ويقتضي التثاقل عن العبادة والإبطاء عن الإجابة إليها.
الخامس: خذلان أعوان الشيطان، ونصر أجناد الرحمن.
السادس: رقة القلب وغزارة الدمع.
السابع: إجابة الدعوة وذلك من علامة اللطف والاعتناء.
الثامن: فرحه عند لقاء ربه بصومه.
التاسع: فرحه عند فطره، وليس المراد بأكله وشربه، وإنما المراد فرحة بتوفير أجره عند تمام صومه وسلامته عن قاطع يقطعه عليه.
العاشر: صيانة جوارحه عن استرسالها في المخالفات.
الحادي عشر: المباهاة به يوم القيامة.
الثاني عشر: اختصاصه بالدخول إلى الجنة من باب الريان [مدارك المرام ص78-81].
الصوم أكبر عون على العبادة
أخي المسلم: اعلم أن الشهوة هي أكبر ما يعوق المسلم عن تحقيق العبودية لله كما يحب.. فهي تغري النفوس بالمعصية.. وهي تدفعها إلى المخالفات.. ولذلك فإن إضعافها وكسرها يعد أكبر عون للمسلم على عبادة الله.
ومن هنا تعلم قيمة الصوم.. فهو من أعظم ما تكبح به الشهوة وتقهر.. وتزكو النفوس وتطهر.. قال رسول الله ﷺ: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
[انظر: صحيح الجامع: 7975]
قال ابن القيم رحمه الله: (لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها وقبول ما تزكو مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب...).
الصوم المبرور
أخي.. إن الصوم المبرور الذي يثمر تلك الفضائل الجليلة.. ليس هو مجرد جوع وعطش من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.. وإنما هو الصوم بمعناه العام.. صوم البطن والفرج عن الطعام والشهوة.. وصوم الجوارح عن المعاصي والمخالفات.. وصوم القلب عن إرادة غير الله.
قال رسول الله ﷺ: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر».
[رواه ابن ماجه]
قال جابر: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء).
وقال ابن الجوزي: (الصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى، وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع).
وقال علي زين العابدين: (حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك، ليسترك به من النار، وهكذا جاء في الحديث: «الصوم جنة من النار»).
الأيام المستحب صومها
وإليك أخي الأيام التي استحب الله لك صومها.. وجعلها مواسم خير.. يظفر بها السابقون إلى الخير.. المتنافسين في الفضل.. }فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ{.
1- صيام شهر محرم: لقوله ﷺ: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» [رواه مسلم].
شهر الحرام مبارك ميمون | ||||
والصوم فيه مضاعف مسنون | ||||
وثواب: صائمه لوجه إلهه | ||||
في الخلد عند مليكه مخزون | ||||
2- صوم شعبان: لقول عائشة رضي الله عنها: «كان أحب الشهور إليه ﷺ أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان».
[رواه النسائي]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما صام النبي ﷺ شهرًا كاملاً قط غير رمضان، ويصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان».
[رواه البخاري ومسلم]
3- صيام ستة أيام من شوال: لقوله ﷺ: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر» [رواه مسلم].
4- صوم عشر ذي الحجة: ففي الحديث: «ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة، ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء».
[رواه مسلم]
وكان ابن سيرين وقتادة يقولان: (صوم كل يوم من العشر يعدل سنة).
5- صيام يوم عرفة: قال رسول الله ﷺ: «صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة».
وقال ﷺ: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» [رواه مسلم].
6- صيام يوم عاشوراء: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما رأيت النبي ﷺ يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان» [رواه البخاري].
7- صوم أيام البيض: وهي ثلاثة عشر وأربع عشر وخمس عشرة من كل شهر، لقوله ﷺ: «إن كنت صائمًا فصم أيام الغر». [رواه ابن حبان].
وقال ﷺ: «إذا صمت من الشهر ثلاثًا فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة» [رواه الترمذي].
8- صوم الاثنين والخميس: فعن أبي هريرة t قال: كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس. فقيل له؟ فقال: الأعمال تعرض كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل مسلم إلا المتهاجرين فيقول: أخروهما» [رواه أحمد].
وعن عائشة رضي الله عنها: «إن النبي ﷺ كان يتحرى صيام الإثنين والخميس» [رواه أبو داود].
9- صوم يوم وإفطار يوم: فقد قال رسول الله ﷺ: «أفضل الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يوما ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى» [رواه النسائي].
فهذه أخي جملة من الأيام المستحب صيامها.. قد يظهر لك فضلها.. واتضحت لك ثمارها.. فشمر عن ساعد الجد في اغتنامها.. فأنت في الدنيا دار العمل والسباق.. تحر الإثنين والخميس.. والأيام البيض.. فإن صيامهن يذهب وحر الصدر.. ويضاعف الله به الثواب والأجر.. واغتنم مواسم الخير كصيام الأيام العشر.. فإنها أفضل أيام الدنيا.. يضاعف الله فيها الأعمال.. ويجزل فيها الثواب.. لمن تعبد فيها وأناب..
وإليك بعض أخبار السلف.. الذين فقهوا أسرار الصيام فكابدوا شهواتهم.. ورفعوا عند الله درجاتهم.
فعن أيوب قال: (كان محمد بن سيرين يصوم يومًا ويفطر يومًا). وقال ابن عون: (كان محمد بن سيرين أشد الناس إزرًا على نفسه).
وعن هشام بن عروة أن أباه كان يسرد الصوم.
وعنه أيضًا أن أباه عروة بن الزبير كان يصوم الدهر إلا يوم الفطر ويوم النحر، ومات وهو صائم.
وروى حماد عن إبراهيم: كان الأسود يصوم حتى سود لسانه من الحر.
وعن عبد الله بن بشر أن علقمة والأسود بن يزيد حجّا، وكان الأسود صاحب عبادة، وصام يومًا فكان الناس بالهجير وقد تربد وجهه، فأتاه علقمة فضرب على فخذه فقال: ألا تتق الله يا أبا عمرو في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل: الجد الجد.
أخي.. فهذا غيض من فيض.. وإلا فمن اطلع على سيرة السلف وصيامهم تملكه العجب.. وأخذته الدهشة.. وعلم ما عليه الخلف من الغبن في غنائم الصيام العظيمة.
أخي.. عليك بالصوم فإنه لا مثل له.. يكفر به ذنب.. ويستر به عيب.. ويورث به الجنة.. ويباعد به وجهك عن النار.. ويكسوك به مهابة الطاعة.. وحلاوة الحسنة.
ساعات الشبع فائتة.. ولحظات الشهوة منقضية.. وأكثر الناس شبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا في الآخرة.
ولجوعة توجب النجاة والجنة.. خير من لقمة تورث القساوة والتخمة.
أين الذين ملؤوا البطون.. وتلذذوا بأنواع الطعام مما يشتهون.. أليسوا في حفرة هم أحوج فيها إلى الحسنات.. وأفقر فيها إلى الدرجات.. فالبدار البدار.. إلى غنائم المواسم في هذه الدار.. فما جاع الصائم.. إلا كما يجوع الطاعم.. يد أن جوعة الصائم له.. وجوعة الطاعم لنفسه.. مع أن فرحة الصائم بفطره فرحتان.. وليس للطاعم إلا فرحة واحدة.. فتأمل.
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *