×
هذه مقالة نشرت في مجلة البيان في العدد (166) ص(6 – 17)، تبين أثام الربا وأضراره.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    المقدمة

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    أما بعد: فأصل هذه الرسالة المختصرة مقالة نشرت في مجلة البيان في العدد (166) ص(6 – 17)، وقد استحسن بعض من قرأها إفرادها في رسالة مستقلة؛ ليسهل تدوالها ونشرها، وأشاروا علي بذلك، فكانت هذه الرسالة.

    هذا وقد اجتهدت في بيان ما قد يخفى على كثير من المسلمين حيال كبيرة الربا؛ وبعض الاستنباطات ونتائجها لم أجد أحدا كتب عنها ـ فيما وقفت عليه من مصادر ـ فاجتهدت فيها.

    مثل: العلاقة بين الربا والزنى، ولماذا قليل الربا أعظم من كثير الزنى؟ وكذلك العلاقة بين الحرابة والربا.

    فإن وفقت للصواب في ذلك فالفضل لله العليم القدير، فله الحمد والشكر أبدا، وإن جانبني الصواب؛ فأستغفر الله من خطئي، وأرغب ممن عثر عليه أن يرشدني إليه لإصلاحه؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

    إبراهيم بن محمد الحقيل

    ص ب: 27028 الرياض

    الرمز البريدي:11417

    * * * * *

    تمهيد

    بناء النفس والأسرة، وبناء المجتمع والأمة لا يكون إلا باكتساب، ولا اكتساب إلا بعمل. والعمل لا يكون إلا بالتعامل مع الآخرين، سواء كان العمل والاكتساب مشروعا أم غير مشروع، أخلاقيا أم غير أخلاقي.

    وأركام الإسلام لم تكن كنظريات الاشتراكيين التي ألغت الملكية الفردية، وقتلت أبناءها، وأدت بهم إلى العطالة والبطالة. وهي كذلك ليست رأسمالية تعطي الحرية المطلقة في الأموال ليسحق الأقوياء الضعفاء، ويكونوا بمثابة العبيد والخدم لهم، والعمال لديهم.

    كلا! ليست أحكام الإسلام في التعاملات كذلك؛ إذ وازنت بين حق الفرد في الملكية الخاصة وبين حاجة المجتمع بما يحقق التقارب والألفة والأمن، فأعطت الفرد حق تنمية ماله بالكسب المشروع، ولم تحرمه من ابتكارات في التجارة ما دامت في حدود الحلال. وفي الوقت ذاته أغلقت تشريعات الإسلام منافذ الاستبداد المالي، والاحتكار التجاري، واستغلال الطبقات الفقيرة وحاجتها إلى المال، وفتحت أبواب الإحسان والقرض والصدقة، والمضاربة المشروعة... إلخ([1]).

    وفي هذه الرسالة المختصرة عرض لبعض آثام الربا الشرعية، وأضراره الدينية والدنيوية؛ تلك الكبيرة من الذنوب التي عمت وطمت في العصر الرأسمالي، وتمت عولمتها قبل عولمة أي شيء آخر؛ إذ أن الربا انتشر في كل بلاد العالم انتشار النار في الهشيم منذ عشرات السنين، أي: قبل أن يتحدث الناس عن العولمة.

    ومع بالغ الأسف فإن انتشار هذه الجريمة النكراء هون وقعها على القلوب؛ حتى ألفتها فلم تعد تنكرها؛ بل صار الإنكار على من ينكرها في عصر أصبح الباطل فيه حقا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    ومن كان يظن أن هذه الكبيرة المقيتة ستوجد لها المسوغات، وتوضع لها المبررات؟ وممن؟! من شيوخ معممين يحملون أعلى الإجازات العلمية في الدراسات الإسلامية، ويتربعون على سدة مناصب الإفتاء في بلادهم.

    وأضحت اليوم كثير من المعاملات المحرمة بالأمس، تصنع لها المخارج الشرعية، وتتحول تدريجيا من دائرة الحرمة المغلظة إلى الأخف إلى المشتبه، إلى مسائل خلافية يجيزها بعض ويحرمها الأكثر، ثم العكس يجيزها الأكثر ويحرمها بعض، حتى يخفت صوت المحرم لها شيئا فشيئا فتصبح حلالا.

    ولإقناع جمهور الأمة التائه في غابة تلك التعاملات التي تخرج لنا الآلة الرأسمالية كل يوم منها عشرات الصور؛ عمدت كثير من صروح الربا المشهورة ـ التي تحاد الله ورسوله، وتعلن الربا صراحة ـ إلى إقناع الواقفين على عتباتها مترددين بفتاوى تجيز بعض أساليبهم وتعاملاتهم. تصورها وتوزعها وتعلقها على جدران الصرح الربوي الشامخ؛ وإنها لمهزلة أن يكون سند من يجاهر بحرب الله ورسوله فتوى خطتها أنامل من يدعو إلى الله ـ تعالى ـ وإلى سنة رسوله ﷺ‬ !!

    أضرار الربا الشرعية:

    1- الربا من معاملات اليهود والمشركين:

    كان من أعظم أمور الجاهلية، وتعاملاتهم المالية: ممارسة الربا، وكسب الأموال عن طريقه؛ ولذا فإن النبي ﷺ‬ أعلن إلغاءه على مسمع من الناس في حجة الوداع، حينما خطبهم فقال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» ثم قال: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس ابن عبد المطلب فإنه موضوع كله»([2]).

    واليهود يتعاملون بالربا حتى كان أكلهم له سببا من أسباب عقوبتهم كما قال الله ـ تعالى ـ: }فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا{ [النسا: 160، 161].

    قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: "أي أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه"([3]).

    ولم يفارق اليهود عادتهم القديمة؛ فأباطرة الربا في هذا العصر، وملاك كبريات مؤسساته ومصارفه هم من اليهود، وهم الذين أفسدوا اقتصاد العالم، ونشروا المعاملات المحرمة، وحطموا أسعار كثير من العملات، وأفقروا كثيرا من الشعوب.

    فمن تعامل بالربا فقد تشبه بأعداء الله ـ تعالى ـ من المشركين واليهود، وكفى بذلك إثما وخسرانا.

    2- أنه محاربة لله تعالى ولرسوله ﷺ‬ :

    جاء الزجر عن الربا في كتاب الله ـ تعالى ـ عنيفا شديدا؛ إذ هو من الذنوب العظائم القلائل([4]) التي وصف اقترافها بمحاربة الله ورسوله.

    وإذا كان قطاع الطريق يحاربون الله ـ تعالى ـ باشتهار السلاح، وإزهاق الأرواح، واغتصاب الأموال، وترويع الآمنين، وقطع السبيل؛ فإن أكلة الربا يحاربون الله ـ تعالى ـ بدمار المجتمعات، والإفساد في الأموال مما يؤدي إلى الفساد في الأرض، وتوسيع الهوة بين الطبقات مما يلزم منه حدوث الجرائم، وكثرة الخوف، وقلة الأمن.

    إن أكلة الربا لا يرفعون السلاح كما يرفعه قطاع الطريق، ولا يأخذون المال عنوة؛ ولكنهم يمتصون دماء الفقراء وهم يبتسمون لهم!! وينتهبون أموال الناس وهم يربتون على أكتافهم!!

    إنها محاربة ماثلت في بشاعتها محاربة قطاع الطريق؛ ولكنها أوسع نطاقا، وأكثر تنظيما ومخادعة؛ ففاقت في انتشارها وقبحها رفع السلاح، وانتهاب الأموال بالقوة؛ وقد قال الله ـ تعالى ـ محذرا منها: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ{ [البقرة: 278، 279].

    والجامع بين كبيرتي الربا وقطع الطريق: أنهما سبب لاختلال الأمن، وظهور الفساد في الأرض؛ فقاطع الطريق يشهر السلاح، ويستولي على الأموال، وربما أزهق الأرواح، وهذا من أعظم الفساد في الأرض.

    والمتعامل بالربا ينهب الأموال بطريقة أخرى؛ مما يؤدي إلى فقر المجتمعات، ومن ثم كثرة الجرائم من أجل الحصول على المال.

    وويل ثم ويل لمن حارب الله ـ تعالى ـ وهو يمشي على أرضه، ويأكل رزقه، وينعم بفضله. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب"([5]). وعنه ـ رضي الله عنه ـ قوله في معنى الآية: "فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله"([6]).

    وقال قتادة السدوسي ـ رحمه الله تعالى ـ: "أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون؛ فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا"([7])، ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية قد أومأت إلى سوء خاتمة أكلة الربا([8]).

    3- أن فيه كفرا لنعمة المال:

    لم يكتف المتعامل بالربا بما رزقه الله من مال، ولم يشكر نعمة الله ـ تعالى ـ به عليه؛ فأراد الزيادة ولو كانت إثما، فكان كافرا لنعمة ربه عليه؛ فمآل ماله إلى المحق ونزع البركة، كما قال الله ـ تعالى ـ: }يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ{ [البقرة: 276].

    قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: "أي: لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي: أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل"([9]).

    4- أن الربا مُخلّ بالإيمان:

    كل معصية تخل بإيمان العبد، وعلى قدر المعصية يكون اختلال الإيمان؛ إذ إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما تواترت بذلك النصوص، وكما هو مذهب السلف الصالح وأتباعهم بإحسان، وقد قال ـ تعالى ـ في شأن الربا: }وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [البقرة: 278]، قال القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان"([10]).

    5- أنه من المهلكات للأفراد والأمم:

    أما الأفراد فقد عد النبي ﷺ‬ الربا من التسع الموبقات([11])، ثم عده في السبع الموبقات([12]) التي حذر منها، وأمر باجتنابها.

    وأما على مستوى الأمم فقد أخبر النبي ﷺ‬ أنه: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله»([13])، وكفى بذلك زاجرا عنه للأمم التي تود المحافظة على اقتصادها، وتخشى الكوارث والنوازل.

    6- الربا أعظم إثما من الزنا:

    ورد في السنة النبوية أحاديث كشفت حقيقة تلك الجريمة النكراء، وأبانت بشاعتها وقبحها بما يردع كل مؤمن بالله ـ تعالى ـ والدار الآخرة عن مقاربتها بله مقارفتها، ومنها: حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ﷺ‬ قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم»([14]).

    وكذا حديث عبد الله بن حنظلة ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ﷺ‬ : «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية»([15]).

    قال الشوكاني - رحمه الله تعالى: "قوله: أشد من ست وثلاثين.. إلخ" يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنى التي هي من غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها؛ لا شك أنها تجاوزت الحد في القبح"([16]).

    ومن نظر في هذين النصين وشواهدهما من السنة النبوية تبين له أن قليل الربا أعظم من كثير الزنى، مع ما في الزنى من فساد الدين والدنيا؛ حيث سماه الله ـ تعالى ـ فاحشة وساء سبيلا، ونهى عن الاقتراب منه كما قال ـ تعالى ـ: }وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا{ [الإسراء: 32]، وحرمت الشريعة الطرق المفضية إليه، وسدت الذرائع الموصلة له. وفيه خيانة كبرى لزوج المزني بها ووالديها وأسرتها. ويؤدي إلى فساد الأخلاق، وارتفاع الحياء، واختلاط الأنساب، وفشو الأمراض، وحصول الشكوك، وتبرؤ الزوج من نسبة ابن زوجته الزانية وملاعنتها على ذلك، وربما حصل عنده شك في أولاده من زوجته قبل زناها، إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي استوجبت أن يكون حد الزناة المحصنين: الرجم بالحجارة حتى الموت.

    وحد غير المحصنين: الجلد والتغريب، ورد شهادتهم، ووصفهم بالفسق إلا أن يتوبوا، ومصيرهم في البرزخ إلى تنور مسجور تشوى فيه أجسادهم.

    رغم ما تقدم كله فإن الدرهم من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية؛ فإذا كان هذا في درهم واحد فكيف بحال من يأكلون الألوف من الربا بل الملايين والمليارات؟!

    وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا الخبيثة، ومن كانت وظيفته كتابة الربا، أو الدعاية له، أو حراسة مؤسسته؟!

    وما هو مصير جسد ما نبت إلا من ربا، وأولاد ما أطعموا إلا من كسبه الخبيث، وما غذيت أجسادهم إلا عليه، فما ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت؟

    * الصلة بين الربا والزنا:

    إن المتأمل للحديثين السابقين وما في معناهما يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين جريمتي الربا والزنى، وأن الربا أشد جرما من الزنا؛ فما هو السر في ذلك يا ترى؟!

    إن الذي يظهر لي ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن من أهم أسباب انتشار الزنى في الأمم تعامل أفرادها بالربا، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها، أما الزنا فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتهما وولدها، ولا يتعدى ذلك في الغالب إذا لم يكن ثمة مجاهرة به، وإقرار له([17]).

    إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة، والفجوة بين الفقراء والأغنياء التي تزداد اتساعا وانتشارا كلما تعامل الناس بالربا تجعل الفقير كلما اقترض تضاعفت ديونه، وازداد فقره، واشتد جوعه؛ حتى يضعف الفقر والجوع والحاجة غيرته على عرضه، فلا يأبه إن زنت محارمه إذا كان من وراء ذلك عائد مالي يقلل فقره، ويشبع بطنه. وما زنت الزانية المحتاجة أول ما زنت إلا لما جاع بطنها، وصاح رضيعها، احتاج أهلها، ولربما أمرها وليها بالزنا ـ عوذا بالله ـ من أجل أن تطعم أسرتها. وإذا انكسر حياؤها مرة فلن ينجبر أبدا حتى تتخذ الزنى مهنة لها إلا أن يشاء الله تعالى؛ والواقع يشهد لذلك في كل البلاد التي عم فيها الربا، وزال من أفرادها الإحسان؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات المرابين، وأما بقية الناس فيغرقون في ديونهم، ويموتون جوعا وفقرا.

    فالربا ليس سببا في وقوع الزنا فحسب؛ بل هو سبب لانتشاره في الأمم، وإذا كان الزنا جريمة أخلاقية؛ فإن الربا جريمة أخلاقية مالية تجر إلى كوارث عدة من انتشار البطالة والفقر والجوع والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة، وانعدام الأمن والطمأنينة..

    7- المتعامل بالربا يعذب في قبره وعند نشره:

    الربا من المعاملات التي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمه، الآخذ والمعطي فيه سواء.

    وآكل الربا يبعث يوم القيامة وهو يتخبط في جنونه كما قال الله تعالى: }الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{ [البقرة: 275].

    قال سعيد بن جبير ـ رحمه الله تعالى ـ: "يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق"([18]).

    وقال وهب بن منبه: "يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: }يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ{ [المعارج: 43] إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا؛ فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم؛ فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون"([19]).

    ويشهد لهذا المعنى حديث مرفوع فيه ضعف عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ﷺ‬ : «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها حيات ترى من خارج بطونهم؛ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا»([20]).

    وأما عذابه في البرزخ فكما جاء في حديث المنام عن سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ وفيه: قال النبي ﷺ‬ : «فأتينا على نهر ـ حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم ـ وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، فيأتي ذلك السابح إلى ذلك الذي جمع الحجارة عنده، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً حتى يذهب به سباحة إلى الجانب الآخر» وذكر في تفسيره في آخر الحديث أن ذلك السابح الناقل للحجارة آكل الربا([21]).

    قال ابن هبيرة ـ رحمه الله تعالى ـ: "إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر. وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئا، وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه يمحقه"([22]).

    8- أن المتعامل به ملعون على لسان رسول الله ﷺ‬ :

    عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: "لعن رسول الله ﷺ‬ آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء"([23]).

    قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: "هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابين، والشهادة عليها، وفيه تحريم الإعانة على الباطل"([24]).

    وقال الصنعاني: "أي دعا على المذكورين بالإبعاد عن الرحمة، وهو دليل على إثم من ذكر، وتحريم ما تعاطوه، وخص الأكل؛ لأنه الأغلب في الانتفاع، وغيره مثله"([25]).

    أضرار الربا الدنيوية:

    إذا تلوثت الأجواء أصاب كل من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث، وإذا تكدرت المياه دخل شيء من كدرتها جوف كل شارب منها، وهكذا يقال في كل شيء متلوث يباشره الناس، حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب المتعاملين بها بيعا وشراء، وأخذا وعطاء شيء من خبثها وسحتها؛ فكيف إذا كانت بنية الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث؛ وفقا للنظرية الرأسمالية المبنية على الحرية المطلقة في الأموال، والمقررة أن الغاية تسوغ الوسيلة؟ فلا شك ـ والحال ما ذكر ـ أن تتلوث الأموال عالميا بالكسب الخبيث؛ حتى إن من حاول الاحتراز والتوقي يصيبه رذاذ خبث الأموال، وغبار الربا المتصاعد منها، مصداقا لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ﷺ‬ قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره»([26]).

    وإذا كان الأمر كذلك فإن حصول أضرار دنيوية: اقتصادية واجتماعية وغيرها متحقق، ولا مفر منه في كل أمة انتشر فيها الربا وما يتبعه من كسب خبيث؛ كما دلت على ذلك النصوص، والعقل، وواقع البشر في هذا العصر الذي علا فيها شأن الاقتصاد المبني على الربا على الشؤون الأخرى.

    ومن تلكم الأضرار الدنيوية ما يلي:

    1- أن الربا سبب للعقوبات ومحق البركات:

    قال الله تعالى: }يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ{ [البقرة: 276]، ونظير هذه الآية قوله تعالى: }وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ{ [الروم: 39].

    والآيتان دالتان على مباركة المال بالصدقة لترغيبهم فيها، ومحقه بالربا لترهيبهم وتنفيرهم منه، لاسيما أن النفوس البشرية تحب تملك المال وتنميته وتموله؛ فقد تتقاعس عن الصدقة شحا به، وتتعامل بالربا تنمية له؛ فبين الله ـ تعالى ـ أن البركة تحصل بالصدقة، والمحق يحصل بالربا.

    قال الرازي: "لما بالغ في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات؛ ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده؛ وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا: تحصيل المزيد في الخيرات. والصارف عن الصدقات: الاحتراز عن نقصان الخير؛ فبين ـ تعالى ـ أن الربا وإن كان في زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى. ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل ألا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف؛ بل يعول ما على ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف"([27]).

    والظاهر أن محق الربا للمال يكون في الدنيا والآخرة؛ لعموم النصوص وعدم تخصيصها المحق بدار دون أخرى:

    ومن صور محقه في الدنيا: عدم بركته، وإنفاقه فيما لا يعود على صاحبه بالنفع، بل ينفقه فيما يضره؛ ليقينه أنه كسب خبيث فينفقه في خبيث أيضا، فيكتسب به إثمين: إثما في الاكتساب، وإثما في الإنفاق؛ ذلك أن كسب المال من حرام لا يجيز إنفاقه في الحرام كما يظن كثير ممن يخوضون في الحرام. ثم إن من اشتغل حاجة الفقراء، وأكل أموال الناس بالربا فإنهم يبغضونه ويلعنونه ويدعون عليه؛ مما يكون سببا لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله، وإذا جمع مالا عظيما بالباطل توجهت إليه أطماع الظلمة والغاصبين، ويشجعهم على ذلك أنهم لا يرون أحقيته بالمال، فيسوغون لأنفسهم أخذه منه أو مشاركته فيه، وواقع كثير من أكلة الحرام شاهد على ذلك.

    ومن صور محقه في الآخرة: عدم تسخيره في الطاعة لعلمه أنه محرم، ولو تصدق به أو حج أو أنفق في وجوه البر لكان حريا بالرد وعدم القبول؛ لأن الله ـ تعالى ـ طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم إن ما يحصل له من شدة الحساب والعذاب المرتب على الربا في البرزخ وعند النشر من أعظم المحق؛ ذلك أن الأصل في المال منفعة ينفع صاحبه، والمرابي عاد عليه ماله بالضرر.

    وثبت عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل»([28]).

    قال المناوي ـ رحمه الله ـ: "أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلا يؤول إلى نقص ومحق آجلا بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك؛ فهو مما يكون هباء منثورا. قال الطيببي: والكثرة والقلة صفتان للمال لا للربا؛ فيجب أن يقدر: مال الربا؛ لأن مال الربا ربا"([29]).

    ولا يشك مؤمن أن القليل المبارك من المال خير من الكثير الممحوق البركة، ولو كان الكثير محل إعجاب الناس وتطلعاتهم ورغباتهم؛ ولذا قال الله تعالى: }قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ{ [المائدة: 100].

    والواقع المشاهد يؤكد هذه الحقيقة التي قررتها نصوص الشريعة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي والأممي.

    أما على المستوى الفردي فإن أكثر الناس في هذا العصر ـ عصر الربا ـ يشكون من قلة بركة أموالهم رغم كثرة دخولاتهم، وتعدد سبل كسبها.

    أما على المستوى الأممي ـ العالمي ـ فرغم اختراع الآلة، واستغلال ثروات الأرض، وتنوع الصناعات، وتعدد الزراعات التي أصبح الإنسان المعاصر ينتج منها في اليوم ما لم يستطع إنتاجه من قبل في سنوات؛ حتى صارت أرقام الإنتاج الزراعي والصناعي أرقاما عالية جدا؛ رغم ذلك كله فإن أكثر سكان الأرض يعيشون فقرا، ولا يجدون كفافا، وفي كل يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض؛ فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟ لم لم تسد جوع الملايين من البشر وهي تبلغ ملايين الملايين من الأطنان؟ فما كانت إذن قلة إنتاج؛ ولكنها قلة بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون!!

    وأما حلول العقوبات، فإن المحسوس المشاهد منها، الذي يعاني منه البشر في عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يعد. وهناك عقوبات معنوية يعاني منها أكثر الناس ولم يكتشفوا سر تلك المعاناة، ومنها: استعباد المادة للإنسان بحيث تحولت من كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها، ثم يشقى بحفظها، ويخشى فواتها، وتلك عقوبة أي عقوبة!!

    إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسه الربا يريد الاستغناء بالأشياء، فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجس زوالها؛ فيظل شقيا في تحصيلها، شقيا في الحفاظ عليها. وهل يجد لذة الحياة من نعم جسده، وعذب قلبه، وأي عذاب أعظم من عذاب القلب؟!

    وقد كان الإنسان قبل العصر الرأسمالي يستغني عما لا يستطيع تحصيله، ويقنع بما كتب له؛ فيرتاح بقاله، ويطمئن قلبه.

    2- الربا سبب لازدياد الفقر:

    سيطرة المادة على الناس، وخوفهم من الفقر والحاجة، وانعدام قناعتهم بالضروري من العيش، وتطلعهم إلى كماليات لا يحتاجونها، إلى غير ذلك، انتشر وساد في العصر الرأسمالي الربوي. وكل ذلك وتوابعه ليست أخلاقا ذميمة فحسب؛ بل هي عقوبات وعذاب يتألم الناس من جرائها في زمن انتشار الربا؛ حتى أصبح الفقير يريد الغنى، والغني يريد أن يكون أكثر ثراء، وصاحب الثراء الفاحش يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع، وحب الذات، وكراهية المنافسين، وغير ذلك من الأخلاق الرديئة، وصار في الناس مستورون لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى.

    وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا، وارتباط المعاملات المالية به؛ فإن النهاية المحتومة: ازدياد الفقر والجوع حتى يهلك أكثر البشر، واجتماع المال في خزائن فئة معدودة من كبار المرابين، وهذا ما جعل أحد كبار الاقتصاديين الأوروبيين يطلق على الربا: تجارة الموت؛ فيقول: "الربا تجارة الموت، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيل مضاعفة رأس المال ببيع السلاح"([30]).

    وما حطم قيمة الأوراق النقدية، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي يقوم عبره عصابة من المرابين بضخ المال في عملة من العملات، ثم سحبه من رصيدها لتقع قيمتها من القمة إلى الحضيض، فيصيب الفقر شعوبا وأمما لا تملك سوى عملتها التي ما عادت تساوي شيئا، وليس ببعيد عن الأذهان ما حصل لبعض دول شرق آسيا.

    3- الربا سبب لرداءة النقود وضعفها:

    المتخصصون في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماء الاقتصاد، والنقود السليمة هي التي تجعل الاقتصاد سليما، ولكن نقود العالم الحالية مريضة بالتضخم الناتج عن الربا، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم، ولن يتم علاجه إلا بإلغاء فوائد الربا. ويشخص هذه الحقيقة الاقتصادي الألماني: "جوهان فيليب بتمان" مدير البنك الألماني (فرانكفورت) فيقول: "كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب فإن الفائدة تؤدي على رداءة النقود. قد يبدو الأمر أننا نسوق تعبيرات أدبية، أو أننا نبسط المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقة أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلة سليمة وصحيحة تدل عليها التجربة، ويمكن إثباتها. فالفائدة العالية تدمر قيمة النقود، وتنسف أي نظام نقدي ما دامت تزيد كل يوم، وتتوقف سرعة التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها"([31]).

    وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قل. وهذه صورة من صور المحق التي يسببها الربا لأموال المتعاملين به.

    وبسبب انتشار الربا في المعاملات المالية أضحت البورصات العالمية وكأنها صالة قمار واسعة، ليس الأمر فيها يتصل بالمقامرات غير المحسوبة فحسب! بل إن هناك من يبيع دائما ما لا يملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمنا. ومن يتظاهر بأن هناك أسهما لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر مليارات كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيد من أي نوع، إنها الفائدة الملعونة المسؤولة عن المصائب الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسؤولة عن التضخم، وعن ضياع الأموال، وعن عجز دفع المدنيين ديونهم، كما قرر حقيقة ذلك الاقتصادي الغربي (موريس آليه) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد([32]).

    4- الربا سبب لرفع الأمن وانتشار الخوف:

    تسود الأنانية وحب الذات وانعدام الرحمة كل المجتمعات التي ينتشر فيها الربا؛ فالموسرون المرابون يقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد الربا التي تزداد مع طول المدة وشدة الحاجة، مما يجعلهم عاجزين عن السداد. والنتيجة النهائية: إما أن يسرقوا لسداد القروض الربوية، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين؛ ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس، أو في الملاجئ والدور الاجتماعية؛ مما يكون سببا في قتل كرامتهم، وحرمان المجتمع من عملهم وإنتاجهم.

    إن الربا هو السبب الرئيس لانتحار كثير من المقترضين الذين عجزوا عن سداد ديونهم فالبلاد التي يكثر فيها الانتحار، وهو السبب في انتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رؤوس الأموال وكبار المرابين؛ مما يكون سببا في رفع الأمن، وبسط الخوف والذعر في المجتمعات.

    وواقع كثير من البلدان التي ينتشر فيها الربا شاهد على ذلك، وهل يستطيع إنسان بيع بيته، وشرد هو وأولاده لسداد ما عليه من قروض الربا أن يصبر عن الانتقام؟ وماذا يبقى له في الدنيا إذا كان يريد العيش لها ففقدها فجأة؟!

    وأخيرا.. اجتناب الربا أهون من التخلص منه:

    إن المتعامل بالربا يعز عليه الخلاص منه بعد الغرق فيه؛ ولاسيما إذا كانت تجارته كلها مؤسسة عليه. ولا ينجو من ذلك بعد الانغماس فيه، ويبادر بالتوبة والخلاص منه إلا من هدي للرشاد، ووفق للخير.

    قد يغتر المبتدئ في حياته الوظيفية أو التجارية بالقروض الربوية الميسرة، أو بالفوائد المركبة والبسيطة التي تعلن عنها بين حين وآخر البنوك الربوية؛ بقصد أكل أموال الناس بالباطل، ويتولى إثم الإعلان عنها، والدعاية لها المؤسسات الإعلامية المختلفة من مشاهد ومسموع ومقروء؛ ولكن ذلك المسكين الذي اغتر بها حين يغرق في الربا ربحا أو خسارة فلن ينجو بسهولة، وكان الأسهل عليه أن يجتنب طريقها أولا.

    إنه قد يربح الفوائد من الإيداع، ولكنه سيخسر بركة ماله، ولقمة الحلال ودينه وآخرته، وإن كان مقترضاً فسيجني أغلال الديون مع الإثم والفقر.

    والشاب الذي يغريه راتب الوظيفة الربوية وسيارتها وبعثاتها وميزاتها عليه أن يتذكر أن عاقبة ذلك خسران في الدنيا والآخرة، والرضى بالقليل الحلال خير وأعظم بركة من الكثير من الحرام، ولن يندم عبد تحرى الحلال في كسبه، وإن فاته الكثير من المال؛ لكنه سيندم أشد الندم إن أدخل في جوفه حراماً، وقد يكون ندمه متأخراً لا ينفعه.

    والله تعالى قال: }فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [البقرة: 275].

    أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه.. إنه جواد كريم.

    والحمد لله رب العالمين..

    * * * * *

    الفهرس

    المقدمة 5

    تمهيد 6

    أضرار الربا الشرعية: 8

    الصلة بين الربا والزنا: 15

    الأضرار الدنيوية 20

    الفهرس. 30

    * * * * *

    ([1]) كثير من الاقتصاديين والسياسيين الغربيين مقتنعون بأن من أهم أسباب انتشار الجريمة: اتساع الهوة بين طبقتي الفقراء والأغنياء، ويعزون كثيرا من الثورات والقلاقل وذهاب الأمن إلى هذا السبب؛ ولذلك فإن التشريعات الوضعية الغربية الحديثة لاحظت هذا الأمر، فوضعت قوانين الضرائب بنسب عالية على التجار والصناع وأصحاب الدخولات العالية، وقوانين أخرى تلزم الدولة برعاية المعدمين والفقراء فيما يسمى بالضمان الاجتماعي.. ويلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة الدعوات في البلاد الغربية بإلغاء الفوائد الربوية أو على الأقل خفض نسبتها؛ لأنهم رأوا ما تحدثه على المدى المتوسط والبعيد من فساد اقتصادي وأخلاقي.

    ([2]) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي ﷺ‬ من حديث جابر رضي الله عنه (147).

    ([3]) تفسير ابن كثير 1/889 – 890.

    ([4]) لم يأت إطلاق لفظ المحاربة في الشريعة ـ حسب علمي ـ إلا على ثلاث من الكبائر:

    ‌أ- أكل الربا وفيه قول الله تعالى: }فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ{ [البقرة: 279].

    ‌ب- قطع الطريق وفيه قوله ـ تعالى ـ: }إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا{ [المائدة: 33].

    ‌ج- معاداة أولياء الله ـ تعالى ـ وفيه الحديث القدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب...» أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وجميع الذنوب والمعاصي فيها نوع محاربة لله رسوله؛ لكن نص الشارع على هذه الثلاث من الكبائر؛ لعظيم جرم مرتكبها، فهو مستحق لسخط الله تعالى ومقته.

    ([5]) انظر هذه الآثار في: جامع البيان، للطبري 3/108.

    ([6]) انظر هذه الآثار في: جامع البيان، للطبري 3/108.

    ([7]) انظر هذه الآثار في: جامع البيان، للطبري 3/108.

    ([8]) انظر: محاسن التأويل، للقاسمي 1/63.

    ([9]) تفسير ابن كثير، 1/493.

    ([10]) محاسن التأويل 1/631.

    ([11]) كما في حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه أخرجه أبو داود في الوصايا (2875)، وفيه «هن تسع» وذكر زيادة على السبع المذكورة في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عند الشيخين: «وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» والطحاوي في شرح مشكل الآثار (898) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/95.

    ([12]) أخرجه الشيخان: البخاري في الوصايا (2766)، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([13]) أخرجه أحمد 1/402، وأبو يعلى كما في المقصد العلي (1859)، من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وجود إسناده الهيثمي في الزوائد 4/118، والمنذري في الترغيب 3/194، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا، وصححه ووافقه الذهبي 2/37.

    ([14]) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/37، وأخرجه ابن ماج في التجارات باب التغليظ في الربا مختصرا بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا» (2275) وصححه البوصيري في الزوائد 2/198، وأخرجه البزار في البحر الزخار (1935)، وقال الهيثمي في الزوائد: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح 4/116 – 117، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1851)، وله شاهد عند البيهقي في الشعب (2761) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وفي سنده عبد الله بن زيادة، قال البخاري: منكر الحديث كما في ميزان الاعتدال 2/424، وله شاهد آخر من حديث عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ عزاه الألباني في صحيح الجامع للطبراني (1531).

    ([15]) أخرجه أحمد 5/225، والطبراني في الأوسط (2682)، والدارقطني (92819)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح 4/117، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033).

    ([16]) نيل الأوطار 6/278.

    ([17]) هذا إذا لم ينتشر الزنى في المجتمع، والغالب أنه لا يخلو مجتمع كبير من حالات زنا، وقد وقع ذلك في الزمن الأول من الإسلام وهو أفضل العصور. ورجم رسول الله ﷺ‬ ماعزا والغامدية ـ رضي الله عنهما ـ ولاعن هلال بن أمية زوجته ـ رضي الله عنهما ـ ولعل السبب في ذلك أن الزنى تدفع إليه غريزة قد يضعف العبد حيالها في وقت من الأوقات، وتحجب عقله فيقع المحظور. بخلاف الربا فإنه يتعلق بغريزة حب المال وهي أقل تمكنا من غريزة الشهوة الفطرية. ولذلك لم تقع حالات ربا في عصر النبي ﷺ‬ ـ فيما أعلم ـ بعد ورود النهي عنه رغم أنه كان من معاملاتهم المشهورة في الجاهلية.

    ([18]) وجاء نحوه عن قتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد، وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مثله، وهو قول جمهور المفسرين، وانظر آثارهم في: جامع البيان 3/103، وتفسير ابن كثير 1/487 – 488.

    ([19]) التفسير الكبير للرازي 7/79.

    ([20]) أخرجه ابن ماجة (2273)، والبيهقي مطولا وابن أبي حاتم وأحمد كما في تفسير ابن كثير 1/488، وفي سنده على بن زيد ابن جدعان وهو ضعيف.

    ([21]) رواه البخاري (4047).

    ([22]) فتح الباري، لابن حجر 12/365 وفيه: "والله من ورائه محقه" ولعله خطأ مطبعي.

    ([23]) أخرجه مسلم (1598).

    ([24]) شرح النووي على صحيح مسلم، 11/37.

    ([25]) سبل السلام، 5/109.

    ([26]) أخرجه أبو داود (3331)، والنسائي 7/243، وابن ماجة (2278)، والحاكم 2/11 كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة. وسماع الحسن ـ رحمه الله ـ من أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مختلف فيه، ولذا قال الحاكم بعد روايته: "قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن من أبي هريرة، فإن صح سماعه منه فهذا الحديث صحيح" ا.هـ. والذهبي يرى سماع الحسن لهذا الحديث من أبي هريرة؛ حيث قال: "سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح" انظر: التلخيص (2162)، وتبع الذهبي في تصحيح الحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة 2/444، وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه (3/41) والظاهر أن الألباني ـ رحمه الله ـ لا يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة؛ ولذا ضعفه في ضعيف الجامع (4874)، وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه، وهو من أعلام نبوة محمد ﷺ‬.

    ([27]) التفسير الكبير 7/83، وانظر: محاسن التأويل للقاسمي 1/630.

    ([28]) أخرجه أحمد 1/395، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي 2/37، وصححه السيوطي في الجامع الصغير 2/22، وأحمد شاكر في شرحه على المسند (3754)، والألباني في صحيح الجامع (3542)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    ([29]) فيض القدير 4/50.

    ([30]) مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (91)، جمادي الآخرة، 1409هـ.

    ([31]) ذكر ذلك في دراسة له عنوانها: "كارثة الفائدة"، ترجمها الدكتور/ أحمد النجار، ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (194)، ص54.

    ([32]) مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (184) ص68.