×
نسمة باردة لينة من مَعين تاريخ النساء الصالحات تفوح من هذا الكتاب على وجازة كلماته؛ لتلامس غلاف القلوب لمسة هادئة توقظه من سباته، وتنقله نقلة يستشعر بها قيمة مبادئه وعظمة دينه وعقائده، ويٌبين قدوة في العشرة الزوجية، وفي التربية، والجهاد، وطلب العلم، والزهد والعبادة.

 سلسلة هموم المرأة : عودة إلى الذات


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعــد:

فإن تاريخنا الإسلامي حافل بروائع التحف والطرف في سِيَر نساء السلف ... وإن إطلالة على وقائع حياتهن لتبعث في النفوس حنينًا إلى الدين ... ورغبة في الاقتداء بهديهن الرصين ... هدي الكتاب والسنة والأسلاف الصالحين.

ولو تأملت كل مسلمة في التاريخ وقلَّبت بعين التأمل أوراقه وتمعنت أنساقه، لرأت فيه معالم العزة والسعادة والمجد خفَّاقة ... كيف لا وصنَّاع التاريخ من النساء زوجاتُ النبي ﷺ‬ وزوجاتُ الصحابة والتابعين وأتباع التابعين؟! فشرف سيرتهن من شرف الوحي المنزل، ومجدهن من مجد الهدي المؤثل.

وإنه ليأسف المرء كل الأسف وهو يرى بعض النساء المسلمات قد غُبِِنَّ في تاريخهن ... وأعرضن عن أسلافهن ... وتجاهلن أصولهن ... لاهثات وراء نسوة فاجرات ... قد تفنن في ستر فجورهن ... بغطاء الحرية ... وشعارات صورية ... وقيم قيل عنها حضارية ... وغيرها من المفاهيم المدسوسة ... ما أنزل الله بها من سلطان ...

وهذا الإعجاب الذي ابتلي به بعض النساء ... إنما مرده إلى ضعف الإيمان ... وانهزام النفوس أمام وساوس الشيطان ...}فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ{ [الحج: 46].

وإليك أختي المسلمة

نسمة باردة لينة ... من مَعين تاريخ النساء الصالحات ... تفوح من هذا الكتاب على وجازة كلماته؛ لتلامس غلاف القلوب لمسة هادئة توقظه من سباته ... وتنقله نقلة يستشعر بها قيمة مبادئه ... وعظمة دينه وعقائده ...

ممثلة في النسوة السُّلاف ... الطاهرات الأشراف.


 قدوة في العشرة الزوجية

الحياة الزوجية ... هي نواة الأسرة الصالحة ... وأداة البذرة النافعة الناصحة... ولبنة خيرية المجتمعات... والقيم والحضارات.

ولقد نظم الإسلام العلاقة بين الزوجين تنظيمًا بديعًا عظيمًا ... ينطوي على مبادئ رصينة تشمل سائر الجوانب في الحياة الزوجية ... وتنبئ عن عظيم علم الله سبحانه بأسرار خلقه ... وأسرار النفس البشرية ...}أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{، [الملك: 14].

وإن الباحث في نظام العلاقات الزوجية في الإسلام ليقف منبهرًا أمام ما يجده في قاموس هذا النظام الذي أعطى للمرأة المسلمة حقَّها وبيَّن لها واجباتها تمامًا؛ ليتناسب ذلك مع طبيعتها وأصل خلقتها الجسدية والنفسية والاجتماعية، كما بيَّنَ للزوج دوره في تلك العلاقة، وما له وما عليه ... وما بينهما جميعًا من حقوق مشتركة ...

ولقد كان نساء السلف أفقه النساء بذلك النظام الرباني الحق ... وإليك أختي المسلمة ... لمسات نادرة ... تترامى فيها معاني العشرة بالمعروف بين الزوجين:

* فقد روي أن شريحًا القاضي قابل الشعبي يومًا، فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له: «من عشرين عامًا لم أر ما يغضبني من أهلي».

قال له: «وكيف ذلك؟»

قال شريح: «من أول ليلة دخلت على امرأتي رأيت فيها حسنًا فاتنًا ... وجمالاً نادرًا، قلت في نفسي: فلأطَهّر وأصلي ركعتين شكرًا لله، فلما سلمت وجدت زوجتي تصلي بصلاتي ... وتسلم بسلامي ... فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمت إليها، فمددت يدي نحوها.

فقالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت. ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبيِّن لي ما تحبه فآتيه ... وما تكره، فأتركه. وقالت: إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال من هو كفء لي، ولكن إذا قضى الله أمرًا كان مفعولاً، وقد ملكت؛ فاصنع ما أمرك الله به: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا ... وأستغفر الله لي ولك ...

قال شريح: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وسلم، وبعد: فإنك قلت كلامًا إن ثبتَّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها.

فقالت: كيف محبتك لزيارة أهلي؟

قلت: ما أحب أن يملّني أصهاري.

فقالت: فمن تحبه من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له؟ ومن تكره فأكره؟

قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء.

قال شريح: فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حولاً لا أرى إلا ما أحب. فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت، قلت: من هي؟ قالوا: ختنك! – أي أم زوجك – فالتفتت إليَّ، وسألتني: كيف رأيت زوجتك؟ قلت: نعم الزوجة. قالت: يا أبا أمية؛ إن المرأة تكون أسوأ حالاً منها في حالين: إذا ولدت غلامًا أو حضيت عند زوجها، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرًا من المرأة المدللة، فأدِّب ما شئت أن تؤدِّب، وهذِّب ما شئت أن تهذِّب.

فمكثت معي عشرين عامًا لم أعقِّب عليها في شيء إلا مرة، وكنت لها ظالمًا»([1]).

هكذا – أختي المسلمة – كان فقه نساء السلف للعشرة الزوجية, كانت حياتهن مع أزواجهن تجسيدًا عمليًا لقول الله تعالى: }وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ [الروم: 21].

فالمودة والرحمة بين الزوجين تقتضي حرص كلا الزوجين على مصلحة الآخر، والارتقاء بالحياة الزوجية إلى المستوى العالي من الأخلاق, وذلك بقيام كل من الزوجين بما أمره الله جل وعلا به تجاه الآخر.

وفي قصة شريح ما يدل على أن نساء السلف نبراسًا وقدوة لكل مسلمة في عشرتها لزوجها.

من خير ما يتخذ الإنسان في

دنياه كيما يستقيم دينه

قلب شكور ولسان ذاكر

وزوجة صالحة تعينه


 قدوة في التربية

لم يكن النبوغ الذي عرفه المسلمون في صدر الإسلام وطيلة عصوره الأولى، محض صدفةٍ ألقى بها الزمان, وإنما كان ذلك من عظيم قدر الله إذ هدى المسلمين إلى أفضل طرق التربية وأزكى أساليبها, فكان ذلك النبوغ ثمرة من ثمار الجهود التربوية التي تكد لأجلها الأسرة المسلمة .. وإن المتتبع لأحوال أمهات العلماء والمجاهدين وعباقرة المسلمين عبر التاريخ ليدرك تمام الإدراك طبيعة الدور الريادي التربوي الذي كانت تمتلكه نساء السلف – فكن خير المربيات .. وخير الأمهات.

وهذا (ربيعة الرأي) شيخ الإمام مالك، وإمام الفقهاء؛ ونبع المدارس الفقهية، تربيه وتُبدع في إنشائه النشأة العلمية، أمه في غياب أبيه.

«فقد خرج (فروُّخ أبو ربيعة) في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية، وربيعة حمْل في بطن أمه وخلّف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسًا، وفي يده رمح، فنزل، ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: «يا عدو الله، أتهجم على منزلي».

فقال فروخ يا عدوّ الله أنت دخلت على حرمي؟» فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس، فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: «لا فارقتك» فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: «أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار».

فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ. فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلّفه وأنا حامل به. فاعتنقا جميعًا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: هذا بني؟ فقالت: نعم، قال: أخرجي المال الذي عندك، قالت: تعرَّص: قد دفنته وأنا أخرجه ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن وأشراف المدينة، وأحدق الناس به، فقالت أمّه لزوجها فروخ: اخرج فصلَِّ في مسجد رسول الله ﷺ‬، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها، فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه، يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل؟ فقيل: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال: لقد رفع الله ابني. ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت: أمه: فأيهما أحب إليك: ثلاثون ألف دينارًا أم هذا الذي هو فيه؟ فقال: لا والله، بل هذا. فقالت: أنفقت المال كله عليه قال: فوالله ما ضيعته»([2]).

فلله در أم ربيعة، ما أصفى إخلاصها، وما أحكم تصرفها، فقد حفظت في الغيبة زوجها، وأحسنت تربية ابنها، بل وربته صابرة محتسبة حتى صار واحدًا من أعلام الإسلام.

فلو كان النساء كما ذكرنا

لفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيب

ولا التذكير فخر للهلال


 قدوة في الجهاد

الجهاد ذروة سنام الإسلام، ومنزلة ينتقي لها الله خيرة الأنام، ويشرفهم بها في الدنيا عزًا وسؤددًا وفي الآخرة عيشًا كريمًا مخلدًا.

ولما كانت النساء شقائق الرجال في الأحكام، فقد سجّل التاريخ من بطولاتهن وصولاتهن في ساح القتال ما لولا أن وقوعه ثابت بالدليل، لعُد عند نساء العصر بل رجالهم من الأكاذيب والأباطيل.

فلم يقتصر دورهن في كثير من الأحيان على إسكان الجروح، وطب القروح بل كنّ وثابات بالسيوف والعصي .. يرتمين على الكفار .. ويسابقن إلى الردى .. في زحمة القتال والوغى.

وهذه الصحابية الجليلة: «أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف رضي الله عنها، تحكي عن جهادها يوم أُحُد فتقول: رأيتني، وانكشف الناس عن رسول الله ﷺ‬، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذُبُّ عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً موليًا ومعه ترس، فقال: ألقِ ترسك إلى من يقاتل، فألقاه، فأخذته فجعلت أترس به عن رسول الله ﷺ‬ وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله.

فيقبل رجل على فرس، فيضربني، وترستُ له، فلم يصنع شيئًا وولى، فأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي ﷺ‬ يصيح: يا ابن عمارة أمك، أمك! قالت: فعاونني عليه، حتى أوردته شعوب ([3])»([4]).

ويقول ابنها عمارة:

جرحت يومئذٍ جرحًا في عضدي اليسرى، فضربني رجل كأنه الرقل، ومضى عني ولم يعرج علي، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله ﷺ‬: «اعصب جرحك» فأقبلت أمي إلي ومعها عصائب في حقويها، قد أعدّتها للجراح، فربطت جرحي، والنبي واقف ينظر إلي، قالت: انهض بني, فضارب القوم، فجعل النبي ﷺ‬ يقول: «ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟» قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله ﷺ‬: «هذا ضارب ابنك» قالت: فاعترضت له فضربتُ ساقه، فبرك، قالت: فرأيت رسول الله ﷺ‬ يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: «استقدت يا أم عمارة» ثم أقبلنا نعُلّه بالسلاح [أي نتابع عليه الضرب] حتى أتينا على نفسه فقال النبي ﷺ‬: «الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك».

وأصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلاثة عشر جرحًا، واحد منها غار في عاتقها فنزف الدم منه، وهي رغم ذلك كالصاعقة الساحقة، تضرب في نحور العدو، وترتمي بين صفوفهم، غير آبهة ولا دارية بالدم الناعر من جسمها، فقال رسول الله ﷺ‬: «أمّك أمّك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان» فلمّا سمعت أمه قالت: «ادع الله أن نرافقك في الجنة» فقال: «اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة» فقالت: ما أبالي ما أصابني في الدنيا»([5]).

ولقد أبلت أم عمارة رضي الله عنها في كثير من المعارك ومنها الحديبية وحنين واليمامة وأدركتها الوفاة إثر نزيف في يدها أصابها في وقعة اليمامة.

وهكذا ساهمت أم عمارة بروحها وأبنائها من أجل الدين .. ومن أجل الذب عن سيد المرسلين .. وقعت شهادتها على الإسلام بدم لا يزال يفوح شذاه من دواوين التاريخ .. ليلفت المسلمات إلى حياة العزة والتمكين .. ويحرضهن على التفاني في نصرة الدين.

أختي المسلمة .. ولك اليوم في البيت متسع للجهاد .. جهاد في النفس .. وجهاد في الزوج .. وجهاد في الدعوة .. وجهاد في الأبناء .. وجهاد في العلم .. فكل هذه الأنواع جهاد ثابت أجره، حسن ثوابه، قال تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ [العنكبوت: 69].


 قدوة في طلب العلم

إن التطور العلمي الذي تعيشه المرأة الغربية المعاصرة ليوهم كثيرًا من الغافلات وليجعلهن يقدسن تحرير المرأة الغربية واقتحامها مجالات العلوم على اختلاف أشكالها وأنواعها.

ورغم أن هذا الوهم الذي تعيشه النساء من ضحايا التغريب؛ ينطوي على كثير من المغالطات التي يمكن ردها بالجدل العقلي إلا أن سرد أنموذج واحد من نماذج النساء العالمات المسلمات ليبهت تلك التقولات بل ويوقف القارئ الكريم على حقيقة الإسلام وما له من تأثير فعال في صناعة العلم والعلماء .. وإن المتتبع لحركة التاريخ الإسلامي ليقف وقفة شاهدة على تلك الحقيقة إذْ ما غاب العلم ولا فشا الجهل إلا بإهمال المسلمين للدين .. واتباعهم سبيل المفسدين.

امرأة تحفظ ثلاثين مجلدة:

هي والدة الفقيه الواعظ المفسر زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا المعروف بـ«ابن نجية» سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الحنبلي. قال ناصح الدين بن الحنبلي: قال لي والدي: زين الدين سعد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير.

قال زين الدين: كنا نسمع من خالي التفسير، ثم أجيء إليها، فتقول: ماذا فسر أخي اليوم؟ فأقول: سورة كذا وكذا، فتقول: ذكر قول فلان؟ وذكر الشيخ الفلاني؟ فأقول: لا، فتقول: ترك هذا، وسمعت والدي يقول: كانت تحفظ كتاب الجواهر، وهو ثلاثون مجلدة، تأليف والدها الشيخ أبي الفرج، وأقعدت أربعين سنة في محرابها»([6]).

فها هي عالمة بالتفسير حافظة لقواعده وأصوله، لم يعقها التزامها بالدين عن تعلم العلوم وسبر أغوارها بل وحفظ ما يعجز جل الرجال عن حفظه: كتاب الجواهر، ثلاثين مجلدة, لم يستلزم منها تعلم ذلك أن تخالط الرجال .. ولا أن تتبرج للرجال .. ولا أن تسحق فطرتها لتتساوى بالرجال .. بل بذلت ما وهبها الله من جهد في الحفظ والمراجعة والدرس والمطالعة، ولم يشغلها طلبها للعلم عن أداء كافة مسؤولياتها في الحياة.

وقد ذكر التاريخ أن كبار العلماء والمحدثين كانوا يتلقون العلوم عن النساء العالمات فمنهم الإمام أبو مسلم الفراهيدي المحدث. فقد كتب العلم عن سبعين امرأة ([7]).

ومنهم الحافظ ابن عساكر الملقب بحافظ الأمة كان شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء ([8]).

وفي زماننا حيث بسط العلم، وانتشرت وسائل الفهم، أصبحت النساء أكثر إعراضًا عن الطلب إلا من رحم الله، وقد قال رسول الله ﷺ‬: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»([9]).

قال ابن حزم رحمه الله: ويجب عليهن [أي النساء] النفار للتفقه في الدين كوجوبه على الرجال وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصيام، وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس كالرجال – ولا فرق -»([10]).


 قدوة في الزهد والعبادة

زوجة رياح القيسي:

قال أبو يوسف البزار:

تزوج رياح القيسي امرأة، فبنى بها، فلما أصبح قامت إلى عجينها، فقال: «لو نظرت إلى امرأة تكفيك هذا»، فقالت: «إنما تزوجت رياحًا القيسي، ولم أرني تزوجت جبارًا عنيدًا» فلما كان الليل نام ليختبرها، فقامت ربع الليل، ثم نادته: «قم يا رياح» فقال: «أقوم» فقامت الربع الآخر، ثم نادته، فقالت: «قم يا رياح» فقال: «أقوم» فلم يقم، فقامت الربع الآخر، ثم نادته فقالت: «قم يا رياح» فقال: «أقوم» فقالت: مضى الليل، وعسكر المحسنون، وأنت نائم، ليت شعري، من غرَّني بك يا رياح؟» قال: وقامت الربع الباقي».

وقال رياح: اغتممت مرة في شيء من أمر الدنيا، فقالت: أراك تغتم لأمر الدنيا غرّني منكم شميط ([11]) ثم أخذت هُدبة من مقنعتها [أي خيطًا من غطاء رأسها] فقالت: الدنيا أهون علي من هذه ([12]).

هكذا كان نساء السلف .. عابدات زاهدات .. صائمات قائمات .. يسارعن إلى الخير ويسابقن إليه .. ويلتمسن السعادة في العبادة .. والطمأنينة في الزهادة .. طمعًا في الجنة والزيادة, يقضين ليلهن في القيام .. ويحرصن على الصيام، ويخدمن أزواجهن بحسن العشرة .. وطيب النظرة .. وحلاوة القدوم .. وعذب الكلام .. وصفاء المودة والوئام .. فكن أطيب الناس حياة.. }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [النحل: 97].

فأين من يقضي ليله قائمًا .. ممن يبيت على المهالك هائمًا .. حائرًا بين المحطات محملقًا في المحرمات.

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب

أختي المسلمة:

كانت تلك دفقة خير تسللت من تاريخ النساء الصالحات .. وسط ركام من كلام .. تنير لك درب الاستقامة .. ومعالم السلامة .. وتنقلك من سفول التغريب ووساوس التجهيل .. إلى رحاب منهج صلبة قواعده .. معينة روافده .. يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.

وتلك الدفقة .. على وجازة حجمها تفتح لك آفاق الاطلاع .. وتهديك لحسن الاتباع والاقتداء والاستماع .. فهل تستجيبين؟!

والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



([1]) انظر: أحكام النساء، لابن الجوزي، ص134.

([2]) من أخلاق العلماء، للشيخ محمد بن سليمان، ص153-154.

([3]) شعوب من أسماء الموت، والمعنى: قتلتُه.

([4]) الطبقات لابن سعد (8/302).

([5]) الطبقات لابن سعد (8/302-303).

([6]) ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (1/440).

([7]) من أخلاق العلماء، ص345 – الهامش.

([8]) المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها (2/138)، عبد الله عفيفي.

([9]) رواه ابن عدي والبيهقي وحسن إسناده السيوطي والمزي وغيرهما.

([10]) الإحكام لابن حزم (1/325).

([11]) هو شميط بن عجلان الذي زوجها من رياح.

([12]) صفة الصفوة لابن الجوزي (4/43-44).