×
مفتاح دار السعادة : كتاب نفيس للإمام ابن القيم - رحمه الله - فيه فوائد مرسلة، يقتبس من مجموعها معرفة العلم وفضله، ومعرفة قدر الشريعة، ومعرفة أصول نافعة جامعة مما تكمل به النفس البشرية.

 مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة

تأليف الإمام العلامة محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (691 - 751) تحقيق عبد الرحمن بن حسن بن قائد

(المقدمة/1)


 - أ - مقدمة الطبعة الثانية

أما بعد حمد الله أهل الثناء والمجد على سابغ فضله، فهذه أيدك الله بتوفيقه تقدمةٌ للطبعة الثانية من مفتاح دار السعادة، ذكرتُ فيها ما تيسَّر من الاستدراكات على عملي في الكتاب؛ ليضيفها من شاء إلى نسخته من الطبعة الأولى [*]، قيدتها مما مرَّ بي في مطالعاتي عفوًا دون تتبع, وأنت عليمٌ بأن سبيل الزيادة في التعليق على النصوص لو قصد إليه المرء لم ينته إلى غاية، ونسأل الله سداد الرأي وخير المنقلب. • (ص: 46 من مقدمة التحقيق) يضاف للسطر الأول: ومن كتابه في أقسام اللذات في مواضع كثيرة (ص: 369 - 383)، بتصرفٍ واختصارٍ حينًا، وبألفاظه وسياقه حينًا، وصرَّح باسمه في موضع واحد (ص: 410)، ويقابلها في كتاب الرازي (ص: 214 - 251 نشرة ليدن). • (ص: 47 من مقدمة التحقيق) يضاف للحاشية (1): وقد وصل إليه عن طريق الشيخ أحمد بن عيسى رحمهما الله, وهو أول كتاب يصله منه, فتفاءل باسمه. انظر: الرسائل المتبادلة بينهما (78, 80, 86, 89, 92). • (ص: 53 من مقدمة التحقيق) السطر الأخير: ثلاث. تصحَّح إلى: ثلاثًا. • (ص: 75 من مقدمة التحقيق) يضاف: ومن نسخ المفتاح التي لم تصلنا: نسخة أوقفها يوسف بن عبد الهادي فيما أوقف من كتبه. انظر: فهرست كتبه الموقوفة (ق 8/و). • (ص: 78 من مقدمة التحقيق) يضاف: استخرج نصَّ رسالة أبي القاسم عيسى بن علي في الرد على المنجمين التي أوردها ابن القيم د. سحبان __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وقد استدركناها جميعا (في هذه النسخة الإلكترونية) في مواضعها [بين معكوفين]، إذ لم ترد في النسخة الورقية لهذه الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)

(المقدمة/2)


- ب - خليفات، ونشرها في مجلة مجمع اللغة الأردني, السنة 11, العدد 32، سنة 1407, واعتمد فيها على مطبوعة مكتبة الأزهر. • (ص: 53) يضاف للحاشية (1): وكذلك في كتاب "الأصول والفروع" (111 - 112). • (ص: 290) يضاف للحاشية (1): و"الأنس والعرس" للآبي (175). • (ص: 293) تصحَّح الحاشية (1) من: "والحنائي في الفوائد" إلى: والنخشبي في تخريج فوائد الحنائي. • (ص: 410) تغيَّر الحاشية (3) إلى: (ص: 263) باختلاف يسير, وكذا نقله شيخ الإسلام في مواضع، ولعله نقلٌ بالمعنى أو من نسخة أخرى. • (ص: 444) يضاف للحاشية (3): و"المجموع" (1/ 26). • (ص: 448) تصحَّح الحاشية (1) إلى: "الرد على المنطقيين"، وكتاب مختصر لم يصلنا. انظر: مقدمتي لـ "الانتصار لأهل الأثر" (5، 14 - 25). • (ص: 449) تضاف حاشية: الأبيات على ظهر النسخة الخطية الفريدة لكتاب "الرد على المنطقيين" باختلافٍ يسير. • (ص: 491) يضاف للحاشية (2): ونقله ابن عرفة في تفسيره (3/ 56) عن كتاب "الاقتصاد" للغزالي، ولم أجده فيه. • (ص: 1235) يضاف للحاشية (3): وكتابه "تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن" (290). • (ص: 1236) يضاف للحاشية (2): والبيتان في ديوانه (59 - تحقيق

(المقدمة/3)


- جـ - عبد الله الهوني). • (ص: 1236) يضاف للحاشية (4): ولابن الزرقالة رسالة "الشكازية" في الفلك، طبعت بأسبانيا. مجلة دراسات أندلسية (العدد 7، ص: 49). • (ص: 1238) تضاف حاشية: لأبي الصقر عبد العزيز بن عثمان القبيصي نقضٌ على هذه الرسالة. انظر: "تتمة صوان الحكمة" للبيهقي (92). • (ص: 1412) تضاف حاشية: انظر ذكر هاتين الطائفتين في: "المنقذ من الضلال" للغزالي (79 - 81). • (ص: 1521) يضاف للحاشية (2): و"الصاحبي" لابن فارس (62). • (ص: 1562) يضاف للحاشية (4): و"مجموع الفتاوى" (20/ 418). وكتب/ عبد الرحمن بن حسن قائد الرياض 5/ 6 / 1436

(المقدمة/4)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  مقدمة التحقيق

باسمك اللهم نقدِّم كتاب "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة"، ونسألك تبارك اسمُك أن تفتح القلوب للانتفاع به. وهذه فصولٌ قصارٌ بين يدي الكتاب تمهِّد لقارئه الطريق إليه، وتلقي بمفاتحه بين يديه، وهذا برنامجها: - توثيق نسبة الكتاب - تحرير عنوان الكتاب - تاريخ تأليف الكتاب - موضوع الكتاب وتقسيمه - موارد الكتاب - الثناء على الكتاب - وصف الأصول الخطية - طبعات الكتاب ومختصراته - منهج التحقيق - نماذج من صور الأصول الخطية المعتمدة

(المقدمة/5)


 توثيق نسبة الكتاب

هذا هو كتاب "مفتاح دار السعادة" للإمام ابن القيم، نسبةٌ لا يخامرها ريب، ولا يزحزحها توهُّم، بل تتناصر حججُها وتتداعى شواهدُها، وهي بمجموعها قاطعةُ الدلالة، شافيةٌ كافيةٌ لذي نُهْية، وهاهي تجتاز بين يديك: فأولها: ثبوت اسم الكتاب ونسبته إلى الإمام ابن القيم على صفحات عناوين النسخ الأصلية العِتاق المدونة في عصر المصنف، وبعضها مقابلٌ على نسخته التي بخطه، وأجلُّها بخط أحد الأئمة الحفاظ المتحرِّين، وهو إسماعيل بن محمد بن بَرْدِس المتوفى سنة 784، وستأتيك صورها. وثانيها: إحالة المصنف في تواليفه الكبار المشهورة على كتابنا هذا، وذِكره إياه باسمه، وما أحال إليه من المسائل موجودٌ فيه. - قال في "الصواعق المرسلة" (1450): "وعلى هذا الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً في كتاب المفتاح، وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا". وقد استوفى بحث هذه المسألة في كتابنا وحرَّرها تحريرًا بالغًا بما لا يوجد في سائر كتبه. - وذكر مسألة التحسين والتقبيح في "مدارج السالكين" (1/ 91)، ثم قال: "ولهذا الأصل لوازم وفروعٌ كثيرةٌ فاسدة، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة، وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجهًا، وهو كتابٌ بديعٌ في معناه". - وذكرها مرةً أخرى في المدارج (3/ 490)، وقال: "وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاةً في كتاب مفتاح دار السعادة، وذكرنا هناك نحوًا من ستين

(المقدمة/6)


وجهًا تبطل قول من نفى القبح العقلي ... ". - وذكرها في "إغاثة اللهفان" (2/ 135)، وقال: "ومن قال: إن ذلك لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما عرف بمجرد السمع فقوله باطلٌ قد بينا بطلانه في كتاب المفتاح من ستين وجهًا، وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول". - وذكر في "شفاء العليل" (382) قول الأشاعرة بنفي التحسين والتقبيح العقليين، ثم قال: "ولعمر الله إنه لمن أبطل الأقوال وأشدها منافاة للعقل والشرع ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه، وقد بينا بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا في كتاب المفتاح". وردُّه عليهم ومناقشته لأدلتهم مبسوطٌ في الكتاب. - وبحث في "زاد المعاد" (4/ 154) الأحاديث الواردة في العدوى، ثم قال: "وقد أشبعنا الكلام فى هذه المسألة فى كتاب المفتاح بأطولَ من هذا". والكلام في العدوى مشبعٌ في آخر الكتاب. - وقال في "إغاثة اللهفان" (2/ 125): "وأما المكذبون للرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم، وقد أشبعنا الردَّ على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح". وهو كما قال، وردُّه على المنجمين مشبعٌ مستفيض في الكتاب. وثالثها: إحالة ابن القيم فيه على بعض مصنفاته الأخرى. - فمن ذلك قوله (ص: 1102) في مسألة استيفاء القصاص: "وقد ذكرنا أدلة المسألة من الطرفين، وترجيح القول الراجح بالنص والأثر والمعقول في كتاب تهذيب السنن". والمسألة هناك كما قال.

(المقدمة/7)


- وقوله في سبب الإذكار والإيناث (ص: 1259): "وقد أشبعنا الكلام فيها في كتاب الروح والنفس وأحوالها وشقاوتها وسعادتها ومقرها بعد الموت". وهو كتابه الكبير في الروح، غير كتاب "الروح" المطبوع، وانظر تعليقي على هذا في موضعه. - وقوله في مبحث مشاهد العبد في المعصية (ص: 808): "وقد ذكرنا في الفتوحات القدسية مشاهد الخلق في مواقعة الذنب". وهو من أوائل كتبه، ويحيل عليه في مصنفاته، ويقع في وهمي أنه مجموعٌ كبير ضمَّنه أبحاثًا متفرقة كتبها أيام مقامه بمكة ثم عاد فنثرها في كتبه. - وقوله عن صنعة الكيمياء (ص: 633): "وقد ذكرنا بطلانها وبينا فسادها من أربعين وجهًا في رسالة مفردة"، وذكرها له تلميذه ابن رجب في ترجمته من "ذيل طبقات الحنابلة" (5/ 176). - وقوله (ص: 155) عند ذكر الحكمين الداوودي والسليماني: "وقد ذكرت الحكمين الداوودي والسليماني ووجههما، ومن صار من الأئمة إلى هذا ومن صار إلى هذا، وترجيح الحكم السليماني من عدة وجوه وموافقته للقياس وقواعد الشرع في كتاب الاجتهاد والتقليد". وأشار إليه كذلك في "تهذيب السنن" (6/ 341)، فهو على هذا من أوائل مؤلفاته. - ومن ذلك وعده بتصنيف كتابٍ كبيرٍ في المحبة (ص: 127) بقوله: "ثم نتبعه إن شاء الله بعد الفراغ منه كتابًا في الكلام على المحبة وأقسامها وأحكامها وفوائدها وثمراتها وأسبابها وموانعها وما يقويها وما يضعفها، والاستدلال بسائر طرق الأدلة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار والذوق والوجد على تعلقها بالإله الحق ... ". وانظر تعليقي على هذا

(المقدمة/8)


الموضع هناك. - ومن هذا تمنيه (ص: 1068) إفراد محاسن الشريعة بكتاب، وكذلك تمنى في "بدائع الفوائد" (670). ورابعها: ذكره لبعض أحواله التي ذكرها في كتبه الأخرى. - فمن ذلك: حديثُه عن مجاورته بمكة، وذكر أن هذا الكتاب مما فُتِح به عليه هناك، قال (ص: 126): "إذ كان هذا من بعض النُّزُل والتحف التي فتح الله بها عليَّ حين انقطاعي إليه عند بيته". وقصَّ (ص: 1522) حادثة ضياع ابنه منه يوم التروية، ثم وجدانه. وحكى (ص: 657) خبر مجلسٍ حضره بمكة، وجرت فيه مسألة التفضيل بين النخل والعنب. - ومن ذلك: إخباره (ص: 713) عن مرضه أيام مقامه بمكة، واستشفائه بزمزم؛ لعزة الأدوية والأطباء هناك في ذلك العهد، وقد أخبر بذلك في مواطن عدة من كتبه، كما بينته هناك. وانظر لتلك المجاورة كتاب "ابن قيم الجوزية" (57 - 59) للشيخ بكر أبو زيد. وخامسها: نقله عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية مواقف شاهدها بنفسه. فمن ذلك: قوله (ص: 712): "وسمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية رحمه الله يقول، وقد عرض له بعض الألم، فقال له الطبيب: أضرُّ ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر! فقال: ألستم تزعمون أن

(المقدمة/9)


النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوةً تعين بها الطبيعة على دفع العارض، فإنه عدوُّها، فإذا قويت عليه قهرته؟! فقال له الطبيب: بلى، فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم، وظفرت بما يشكل عليها منه، فرحت به وقويت، فأوجب ذلك دفع العارض. هذا أو نحوه من الكلام" (1). وذكر (ص: 844) الاستغفار للمسلمين والمسلمات بلفظٍ أورده، ثم قال: "وسمعت شيخنا يذكره، وذكر فيه فضلًا عظيمًا لا أحفظه، وربما كان من جملة أوراده التي لا يخلُّ بها، وسمعته يقول: إنْ جعَله بين السجدتين جاز". ونقل عنه في مواضع أخرى (ص: 335, 395, 687, 903, 940, 1483). وسادسها: ذِكر مترجميه للكتاب ضمن سياق تصانيفه. فأولهم تلميذه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (5/ 175) ووصفه بأنه مجلدٌ ضخم، والصفدي في "الوافي" (2/ 271)، وابن حجر في "الدرر الكامنة" (4/ 22)، وغيرهم (2). وسابعها: نقل العلماء عنه، واستفادتهم منه، وعزوهم إليهم. وهاك ما وقفتُ عليه من ذلك، مرتَّبين بحسب وفياتهم: 1 - برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (ت: 803) في "مصائب الإنسان من مكايد الشيطان" (38) (3). _________ (1) وذكر هذا الموقف كذلك في "روضة المحبين"، كما بينت هناك. (2) انظر: "ابن قيم الجوزية" للشيخ بكر أبو زيد (301). (3) أفادنيه الشيخ الدكتور سليمان العمير وفقه الله.

(المقدمة/10)


2 - الدَّميري (ت: 808) في "حياة الحيوان" (3/ 36). 3 - الدَّلجي (ت: 838) في "الفلاكة والمفلوكون"، ونصَّ على النقل وسمى الكتاب في (29)، ونقل دون عزو في (23 - 28). 4 - الحافظ ابن حجر (ت: 852) في "فتح الباري" (11/ 296). 5 - الإزنيقي (1) (ت: 885) في "مدينة العلوم" (2). _________ (1) محمد بن قطب الدين، كان تلميذًا لقاضي زاده المتوفى نحو سنة 840، كما في "أبجد العلوم" (1/ 5، 2/ 6). وترجمته في "شذرات الذهب" (9/ 513)، و"الفوائد البهية" (185). وإزنيق أو أزنيك، أو يزنيك كما ينطقها الترك، هي: نيقية nicaea، بلدةٌ قديمة من أعمال القسطنطينية، كان بها مجمع النصارى الشهير، تقع على بحيرةٍ تسمَّى باسمها شرقيَّ بحر مرمرة. انظر: "رحلة ابن بطوطة" (2/ 198)، و"معجم البلدان" (1/ 169)، و"بلدان الخلافة الشرقية" (190)، و"الأعلام" (7/ 50) , ودائرة المعارف الإسلامية (2/ 51). (2) انظر: "أبجد العلوم" (2/ 368). وهذا الكتاب هو أصل "مفتاح السعادة" لطاش كبري زاده، وعلى هذين و"كشف الظنون" بنى صديق حسن خان كتابه "أبجد العلوم". وذكره الكتاني في "التراتيب الإدارية" (2/ 189)، وتحرفت نسبته في مطبوعته، وذكر - على التوهم - أن مصنِّفه كان في المئة العاشرة. وتحرفت نسبته كذلك في مطبوعة كتابه "تاريخ المكتبات الإسلامية" (153) , فترجم محققاه لرجل غيره. وله نسخٌ خطية في خدا بخش والخزانة الملكية الحسنية وغيرها، وبعضها تنسبه لطاش كبري زاده. والغريب أن حاجي خليفة لم يذكره في "كشف الظنون"، على قرب الدار وعلاقته بموضوع كتابه، فأخشى أن يكون الكتابان ــ "مفتاح السعادة" و"مدينة العلوم" ــ إصدارتين لكتاب طاش كبري زاده، ويكون اسم الثاني ونسبته للإزنيقي خطأ قديمًا من أحد النساخ اغترَّ به صديق حسن خان.

(المقدمة/11)


6 - الجلال السيوطي (ت: 911) في "زهر الربى " (3/ 141). 7 - الصالحي الشامي (ت: 942) في "سبل الهدى والرشاد" (9/ 356). 8 - طاش كبري زاده (ت: 968) في "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" (1/ 314، 339). وزعم أن ابن القيم أفرط في الطعن في علم أحكام النجوم. 9 - الملا علي القاري (ت: 1014) في "الأسرار المرفوعة" (282) , نقل عن ابن القيم نصًّا من "المفتاح" دون أن يسمي الكتاب. 10 - حاجي خليفة (ت: 1067) في "كشف الظنون" (1216). 11 - السفاريني (ت: 1188) في "غذاء الألباب" (1/ 41، 42، 76، 79، 247، 251، 442، 445، 2/ 10، 60، 121، 122، 444، 595)، و"لوامع الأنوار البهية" (1/ 62، 286، 331، 333، 357، 2/ 256)، وغيرها. 12 - مرتضى الزبيدي (ت: 1205) في "إتحاف السادة المتقين"، وقد أكثر من النقل عن الكتاب، تارةً بالتصريح باسم الكتاب وابن القيم كما في (1/ 129، 204)، وتاراتٍ بالتصريح بابن القيم فحسب كما في (1/ 100، 105، 135، 138، ... )، وتاراتٍ أخرى بدون تصريح كما في (1/ 137، 157، 158، ... ). 13 - سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت: 1233) في "تيسير العزيز الحميد" (660).

(المقدمة/12)


14 - أبو الثناء الآلوسي (ت: 1270)، ونقل عنه كثيرًا في "روح المعاني"، تارة بالتصريح كما في (17/ 105، 23/ 223، 30/ 131)، ومن مبحث الرد على المنجمين في مواضع كثيرة بلا تصريح. 15 - عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت: 1293) في "عيون الرسائل والأجوبة على المسائل" (2/ 953). 16 - صديق حسن خان (ت: 1307) في "أبجد العلوم" (1/ 97). 17 - نعمان الآلوسي (ت: 1317) في "جلاء العينين" (294). 18 - جمال الدين القاسمي (ت: 1332) في "محاسن التأويل" (3378، 4217، 6171، 6208، 6250). 19 - محمود شكري الآلوسي (ت: 1342). في "صب العذاب" (242)، و"بلوغ الأرب" (3/ 308 - 312)، وغيرهما. ثم كثر النقل واستفاض. وثامنها: توافق كثير من مباحث الكتاب مع ما بحثه في كتبه الأخرى، واتحاد أسلوبه وقلمه. فمن المباحث المتفقة: مسألة التحسين والتقبيح، وقد رأيتَ إحالاته في كتبه على بحثها هنا، وتعليل أفعال الله تعالى، وحكمة إخراج آدم من الجنة، والخلاف في الجنة التي أُسْكِنها، ومشاهد العبد في المعصية، وعجائب خلق الإنسان وغيره، والمراد بالنجوم المقسَم بها في القرآن، ومبحث العدوى والطيرة، وتفضيل العسل على السكر، والمفاضلة بين العنب

(المقدمة/13)


والتمر، إلى آخر ذلك، وقد وصلتُها بكتب المصنف الأخرى في الحواشي. ومن ذلك: ما يستشهدُ به من الشعر، فكثيرٌ من الأبيات يكثر إنشادها في مصنفاته، وطائفةٌ منها يشبه أن تكون له. أما أسلوبه ونظم كلامه، فهو هو المعهودُ المعروفُ منه في عامة كتبه، وقد ألفناه واستأنسنا به في قراءة نصِّ الكتاب. * * *

(المقدمة/14)


تحرير عنوان الكتاب سمَّى المصنف كتابه في مقدمته ــ على شريعته المعهودة بالاحتفال بعناوين مصنفاته والتنوُّق فيها ــ اسمًا مسجوعًا، متخيَّر الألفاظ، دالًّا على المراد دلالةً مجازية، فقال (ص: 126): "وسمَّيتُه: مفتاح دار السَّعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة". وانفردت النسخة (ت) كعادة ناسخها في الإغراب، فوقع فيها: "ومنتهى " بدل "ومنشور"، وهو تصحيفٌ بيِّنٌ لا يبلغ المعنى الذي رامه المصنف، وما وقع في سائر الأصول محض الصواب. وانفردت النسخة (ق)، فزادت: "أهل" قبل "العلم"، وأظنه من سبق قلم الناسخ، وقد كتبه على الجادة في صفحة العنوان. والمنشور: ما يكتبه السلطانُ لأحدهم بالإقطاع أو الولاية أو الحماية أو ما يجري مجراها، ولا يحتاجُ لشرفه إلى ختم (1). فأراد المصنف أن كتابه كذلك في بلوغه بمن قرأه وتحقَّق به ولاية العلم والإرادة، وجلوسه على سرير الإمارة. فالولاية على هذا بكسر الواو، لا بفتحها كما ذهب إليه العلامة الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (2)، ولمذهبه وجهٌ بعيد. _________ (1) ويسمى: الفَرمان. انظر: "التكملة" و"التاج" (نشر)، و"تكملة المعاجم" لدوزي (8/ 61، 10/ 222). وأطال القلقشندي (ت: 821) في "صبح الأعشى " (13/ 162 - 200) القول في الآيين المتصل به لعهده. (2) "ابن قيم الجوزية" (300).

(المقدمة/15)


أما ما نُقِل عن الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع من أن الصواب: "ألوية" (1)، فلا دليل عليه، وليس هو من الصواب في شيء (2). و "المنشور" بهذا المعنى المجازي من الألفاظ التي يكثر دورانها واستعمالها في كتب المصنف (3). ووقعت تسمية الكتاب في "مدارج السالكين" (1/ 91): "مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة". هكذا في مطبوعته، وينبغي أن يُسْتَظهر بأصوله الخطية العتاق. فإن كان كذلك فهي تسميةٌ أخرى، أو وهمٌ ونسيان، والأمران محتملان كثيرا الوقوع، والأول أشبه. وما سماه به المصنف في مقدمة كتابه أولى بالاعتبار بلا ريب. فالاسم العَلَمي إذن هو: "مفتاح دار السَّعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة"، وكذا كتب على لوحة العنوان في النسخ (ق، ح، ن). ووقع في (ت، د، ي): "مفتاح دار السعادة" بالاقتصار على شطره الأول. ويُختصَر عند الإحالة على الكتاب بما يكفي للدلالة عليه في سياقه، فتارةً يكتفى بصدره معرَّفًا بـ "أل": "المفتاح" (4). _________ (1) المصدر السابق (302). (2) وسماه كذلك يوسف سركيس (ت: 1351) في "معجم المطبوعات العربية" (225)، فلعله هو مصدر الشيخ ابن مانع. (3) انظر: "بدائع الفوائد" (1178)، و"عدة الصابرين" (109)، و"مدارج السالكين" (1/ 41، 185، 2/ 423، 512، 3/ 73)، و"الوابل الصيب" (155)، و"الفوائد" (87، 110)، و"حادي الأرواح" (141، 145)، و"الكافية الشافية" (926). (4) انظر: "الصواعق المرسلة" (1450)، و"زاد المعاد" (4/ 154)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 125، 135)، و"شفاء العليل" (382)، و"سبل الهدى والرشاد" (9/ 356).

(المقدمة/16)


وتارةً يُقتصَر على شطره الأول: "مفتاح دار السعادة"، وهو المشهور عند مترجميه في سياقهم لمصنفاته، وغيرهم. أما اختصاره بإسقاط كلمة "دار" (1)، ففيه إخلال، ويشتبه باسم كتاب ابن عربي: "مفتاح السعادة في معرفة المدخل إلى علم الإرادة"، و"مفتاح السعادة ومصباح السيادة" لطاش كبري زاده، و"مفتاح السعادة بشرح الزيادة" للمناوي، و"مفتاح السعادة في فضيلة الوضوء والعبادة" لابن الحبال الدمشقي، وغيرها. ودار السعادة هي الجنة، كما هو ظاهر، ويورده المصنف كثيرًا في كتبه. وكتب ناسخ (ق) فوق العنوان: "يعني: دار الآخرة". وليس كما قال. _________ (1) انظر: "أبجد العلوم" (2/ 395).

(المقدمة/17)


 تاريخ تأليف الكتاب

ليس في الأصول الخطية التي اعتمدنا عليها ما يشير إلى تاريخ تأليف الكتاب، لكن النظر فيما وصلنا من مصنفات ابن القيم رحمه الله يدل على أنه لم يتوفَّر على التصنيف إلا بعد وفاة شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وخروجه من سجن القلعة ثالث عشري ذي الحجة سنة 728 (1). ويشبه أن يكون توجَّه بعد ذلك إلى مكة وجاور بها، وفيها صنَّف "الفتوحات القدسية"، و"التحفة المكية"، وأظنهما مجموعين كما قدمتُ الإشارة لذلك، وأحال في "مفتاح دار السعادة" على الكتاب الأول، ثم "تهذيب السنن" سنة 732، وأحال في "المفتاح" عليه، ثم "المفتاح"، فإنه صرَّح في مقدمته (ص: 126) بأنه من بعض النُّزُل والتحف التي فتح الله بها عليه حين انقطاعه إليه عند بيته، ثم ابتدأ "زاد المعاد" وأحال فيه على "المفتاح". ويشبه كذلك أن يكون تصنيف "المفتاح" قبل "طريق الهجرتين"، ويدل لذلك إحالته في "طريق الهجرتين" (124) على كتابه الكبير في المحبة، وقد وعد في مقدمة "المفتاح" بتأليفه. وحين حكى في "طريق الهجرتين" (808) الخلاف في المفاضلة بين النخيل والعنب قال: " ... وذكرت كلُّ طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها في غير هذا الموضع". وهي مذكورةٌ في "المفتاح" (ص: 656). _________ (1) "أعيان العصر" (4/ 368).

(المقدمة/18)


واستظهر شيخنا الجليل محمد أجمل الإصلاحي في مقدمة تحقيقه لـ "طريق الهجرتين" (20) أنه مؤلف قبل سنة 732، فعلى هذا يكون "المفتاح" مما كُتِب قبل ذلك، لكن يشكل عليه أنه أحال في "المفتاح" على "تهذيب السنن"، فهو متأخرٌ عنه (1). والحاصل أن كتاب "مفتاح دار السعادة" مما صنفه ابن القيم بمكة، وفيها صنف كتبه الأولى، وقد أحال عليه في كتبه الكبار: "زاد المعاد"، و"إغاثة اللهفان"، و"مدارج السالكين"، و"الصواعق المرسلة"، وغيرها. والقول في ترتيب تآليفه زمنيًّا يحتاج إلى استقراءٍ تامٍّ لها، واستخراج الإشارات الهادية، والإحالات الكاشفة، ومقارنة مباحثها وطريقته في معالجتها، وهو جديرٌ بالعناية، فعسى أن يوفق لتحريره من شاء الله من عباده. * * * _________ (1) يلاحظ أيضًا أن هذه الإحالات ليست قاطعة في مسألة التقدم والتأخر؛ لأنه قد يحيل عليه في إخراج جديد للكتاب أو في لحقٍ يضيفه بعد ذلك. (علي العمران). وهو كما قال، وإنما هي قرائن وحسب.

(المقدمة/19)


 موضوع الكتاب وتقسيمه

* افتتح المصنف الكتاب بمقدمةٍ عن الحِكَم والأسرار في إخراج أبينا آدم من الجنة وإسكانه دار الامتحان والابتلاء، وهو بحثٌ عالجه في غير موضع من كتبه، ولما كان ذلك لا يتمُّ إلا على القول بأن تلك الجنة هي جنة الخلد التي وُعِد المتقون، ذكر الخلاف في الجنة التي أُسْكِنها آدم، وأطال في سياق حجج الفريقين من غير انتصابٍ لنصرة أحد القولين؛ لأن المقصود حاصلٌ على كل تقدير, كما قال. * ثم كتب فصولًا في التعليق على العهد الذي عَهِدَه الله إلى آدم وبنيه حين أهبطه بقوله سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123 - 126]. * ثم لما كان ذاك العهد لا يوصَلُ إليه أبدًا إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة بابُ الوصول إليه، والعلم مفتاحُ ذلك الباب المتوقف فتحُه عليه، وكمال كلِّ إنسان إنما يتمُّ بهذين الأمرين= وضَعَ الكتابَ مؤسَّسًا على هاتين القاعدتين؛ للتعريف بشرف هذين الأصلين. وبناءً على هاتين القاعدتين قسَم الكتاب إلى قسمين: القسم الأول: للعلم، والقسم الثاني: للإرادة.

(المقدمة/20)


والإرادة مصطلحٌ صوفي يتضمن معنى المحبة الباعثة على العمل، وهي بدء طريق السالكين وأول منازل القاصدين إلى الله تعالى (1)، وهي مركبُ العبودية وأساس بنائها الذي لا تقومُ إلا عليه، فأكمل الخلق عبوديةً ومحبةً أتمُّهم إرادة (2)، واشتقوا منها اسم: "المريد" للواحد، وأهلها هم أهل الإرادة، واستعماله شائعٌ كثير الوقوع في كتب ابن القيم وشيخه. ولما كان العلمُ إمام الإرادة ومقدَّمًا عليها ومرشدًا لها قدَّم الكلام عليه على الكلام عنها. ونبَّه القارئ على هذا التقسيم وذكَّره به في مواضع من الكتاب. - فقال (ص: 608): "وأحسنُ ما أنفقت فيه الأنفاسُ التفكر في آيات الله وعجائب صنعه, والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته؛ فلذلك عقدنا هذا الكتاب على هذين الأصلين". - وقال (ص: 584) في حديثه عن حِكَم المخلوقات: "ونحن نذكر هنا فصولًا منثورةً من هذا الباب مختصرةً وإن تضمنت بعض التكرار وترك الترتيب في هذا المقام الذي هو من أهم فصول الكتاب, بل هو لبُّ هذا القسم الأول". - وقال (ص: 855): "وقد ذكرنا فصلًا مختصرًا في دلالة خلقه على وحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى، وأردنا أن نختم به _________ (1) "الرسالة القشيرية" (350، 351)، وقال: "فأما حقيقتها فهي نهوض القلب في طلب الحق سبحانه". (2) "طريق الهجرتين" (480).

(المقدمة/21)


القسم الأول من الكتاب، ثم رأينا أن نتبعه فصلًا في دلالة دينه وشرعه على وحدانيته وعلمه وحكمته ... ". - وذكر (ص: 819) من أوجه حِكَم وقوع العبد في الذنب: "أنه سبحانه يستجلب من عبده بذلك ما هو من أعظم أسباب السعادة له من استعاذته واستعانته به ... ، ومن أنواع الدعاء والتضرع والابتهال والإنابة والفاقة ... ، فيحصل للروح بذلك قربٌ خاص لم يكن يحصل بدون هذه الأسباب ... "، ثم قال: "وأسرار هذا الوجه يضيقُ عنها القلب واللسان وعسى أن يجيئك في القسم الثاني من الكتاب ما تقرُّ به عينك إن شاء الله تعالى ". - وذكر (ص: 1085) ظنَّ المتكلمين أن الطاعة تصدر عن خوفٍ غير مقرونٍ بمحبة، بناءً على أصلهم الباطل أن الله لا تتعلق المحبة بذاته وإنما بمخلوقاته مما في الجنة من النعيم، ثم قال: "وسنذكر في القسم الثاني إن شاء الله في هذا الكتاب بطلان هذا المذهب من أكثر من مئة وجه، ... وسيرد عليك بسط الكلام في هذا عن قريب إن شاء الله". - وذكر (ص: 1159) أن كمال العبد بمعرفة أسماء الله وصفاته وما ينبغي له، ومعرفة دينه وأمره، ثم قال: "وهذا هو الذي خلق له، بل وأريد منه، بل ولأجله خلقت السماوات والأرض، واتخذت الجنة والنار، كما سيأتي تقريره من أكثر من مئة وجه إن شاء الله". - وذكر (ص: 813) خبر فرح الواجد راحلته بعد أن أيس منها، ثم قال: "وليس في أنواع الفرح أكمل ولا أعظم من هذا الفرح، كما سنوضح ذلك ونزيده تقريرًا عن قريب إن شاء الله". - وقال (ص: 19): "وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث وذكر

(المقدمة/22)


سرِّ هذا الفرح بتوبة العبد". - وقال (ص: 1161): "وسنبين إن شاء الله عن قريب بالبراهين الشافية أن النفس ليس لها نجاةٌ ولا سعادةٌ ولا كمالٌ إلا بأن يكون الله وحده محبوبها ومعبودها ... ". - وقال (ص: 1164): "وسنذكر إن شاء الله عن قريب معنى تعلق الإرادة به تعالى وكونه مرادًا والعبد مريدٌ له". - وقال (ص: 1166): "وكل حيٍّ شاعر لا صلاح له إلا بأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده وغاية مراده، وسيمرُّ بك إن شاء الله بسطُ القول في ذلك، وإقامة البراهين على هذا المطلوب الأعظم الذي هو غاية سعادة النفوس وأشرف مطالبها". فهل تمَّ بناء الكتاب على تينك القاعدتين؟ وهل أتى الكلام على القسم الثاني المتعلِّق بالإرادة وما ورد في تلك الإحالات؟ أما القسم الأول، وهو ما يتعلق بالعلم، فإنه افتتح القول فيه بعد المقدمة، فساق أكثر من مئة وخمسين وجهًا في بيان فضله وشرفه، ووجوه ذلك، وآثاره، ودلائله، فأمتع وأطرب، وأتى بكل بديع. ثم ما زال يستطرد من موضوع إلى موضوع حتى طال عليه الأمر، وصار الكتاب مجلدًا ضخمًا (1)، ولمَّا يبدأ بعد في القسم الثاني الذي ذكره في _________ (1) قال ابن رجب في سياق ذكر مصنفات ابن القيم: "ومفتاح دار السعادة مجلد ضخم". "ذيل طبقات الحنابلة" (5/ 175). وقال الصفدي في "أعيان العصر" (4/ 369): "مجلد كبير".

(المقدمة/23)


المقدمة وأحال عليه في تلك المواضع، فكفَّ قلمه بعد أن أرخى له الطِّوَل، واختار أن يجعل الكتاب خالصًا للقسم الأول، وهو العلم وما يتصلُ به، فختم الكتاب بقوله: "وليكن هذا آخر الكتاب ... "! وكأنه رأى أن يدع موضوع القسم الثاني لكتابٍ آخر قائم برأسه، فعاد إلى مقدمة الكتاب فألحق بها ــ عند موضع ذكر بناء الكتاب على تينك القاعدتين ــ قوله: "ثم نتبعه إن شاء الله بعد الفراغ منه كتابًا في الكلام على المحبة وأقسامها وأحكامها وفوائدها وثمراتها وأسبابها وموانعها وما يقويها وما يضعفها، والاستدلال بسائر طرق الأدلة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار والذوق والوجد على تعلُّقها بالإله الحق الذي لا إله غيره، بل لا ينبغي أن تكون إلا له ومن أجله، والرد على من أنكر ذلك وتبيين فساد قوله عقلًا ونقلًا وفطرةً وقياسًا وذوقًا ووجدًا". ولعل ذلك الكتاب هو "المورد الصافي والظلُّ الضافي"، أو "قرة عيون المحبين وروضة العارفين"، كما بينتُ في تعليقي هناك. فانظر الآن كيف وقع له ذاك الاستطراد الطويل الغريب! * افتتح القسم الأول المتعلق بالعلم وشرفه بذكر الوجوه الدالة على ذلك، وحين انتهى إلى الوجه الثالث والخمسين بعد المئة، وهو ما ثبت عن بعض السَّلف أنه قال: "تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستِّين سنة"، استطرد إلى الكلام في التفكر ومتعلَّقه ومجاريه، ثم استرسل في فصولٍ كثيرة في بيان عجيب خلق الله وباهر صنعه وتدبيره في خلقه! فهذا موضوعٌ مستقلٌّ كان الأليقُ إفراده بتصنيفٍ خاص، ولابن القيم به عنايةٌ واحتفالٌ في كتبه، خاصة "شفاء العليل"، و"أيمان القرآن"، فلو جمعت

(المقدمة/24)


مادتُه من هذه الكتب الثلاثة وغيرها ورتِّبت لجاءت كتابًا لطيفًا. ومما يتصل بذلك: الكلام في حكمة الله في أمره ونهيه والمحاسن المودعة في شريعته, وخواصُّ العباد يشهدون ذلك أعظم من شهودهم حكمة الخلق, وقد استطرد ببيان الكثير منها, وتمنى إفرادها بالتصنيف, وقال (ص: 1068): "لعل الله أن يساعد بمصنَّف في ذلك". * ولم يزل يتكلم في بدائع الخلق حتى وصل إلى الحكمة في ستر الآجال عن العباد، فاستطرد بذكر خلاف الناس في الحكمة وتعليل أفعال الرب تعالى، وما تشهده كلُّ فرقةٍ في المعصية، وكتب فصولًا بديعةً في مشاهد الخلق في مواقعة الذنب. وهو بابٌ جليل أحسن ابن القيم رحمه الله استفتاحه في كتبه، كما بينتُ في التعليق هناك (ص: 808)، ولو أفرد بالتصنيف لكان أهل ذلك وأحقَّ به. فهذا هو الموضوع الثاني. * ثم عاد إلى القول في حكمة الله تعالى، فكتب فصلًا في حكمته سبحانه في ابتلاء عباده وصفوته، ثم فصلًا في الحكمة من دينه وشريعته، واستطرد بالاستدلال والاحتجاج على حاجة الناس للشريعة وموافقتها للفطر والعقول، فساق فصولًا في بعض الحِكَم لمباني الدين وشرائعه، ولما كان ذلك يفتقر لإثبات أن في ذوات تلك الأحكام صفاتٍ وجوديةً أوجبت حُسْن المأمور به وقُبْح المنهيِّ عنه، وإلا لزم منه لوازم باطلة= استطرد في بحث مسألة التحسين والتقبيح العقليين وذيولها، وأفاض فيها بذكر أقوال الفِرَق واستدلال أصحابها ومسالكهم وما أورد على أدلة كل فريق من الاعتراضات، ثم جلس مجلس الحكومة ليقضي بالحق بينهم، فقرر مذهب

(المقدمة/25)


أهل السنة في هذا الباب أحسن تقرير. فهذا الموضوع الثالث من موضوعات الاستطراد، وهو أشملُ موضعٍ بحث فيه ابن القيم مسألة الحسن والقبح العقليين، وما زال يحيل عليه في كتبه كلما ورد ذكر المسألة كما مرَّ بك في فصل نسبة الكتاب. * ثم لمَّا كان من قول بعض فرق الصابئة المنكري النبوَّات في التحسين والتقبيح العقليين: "إنه لمَّا كانت الموجوداتُ في العالم السفلي مركبةً على تأثير الكواكب والروحانيات التي هي مدبرات الكواكب، وكان في اتصالاتها نظرُ سعدٍ ونحسٍ= وجب أن يكون في آثارها حسنٌ وقبحٌ في الأخلاق والخلق والأفعال، والعقول الإنسانية متساوية في النوع، فوجب أن يدركها كل عقل سليم، ... فنحن لا نحتاج إلى من يعرِّفنا حُسْن الأشياء وقبحها وخيرها وشرها ونفعها وضرها"= استطرد ابن القيم بالردِّ والإبطال لعلم أحكام النجوم الذي يدعي تأثير الكواكب وتدبيرها لأحوال العالم، وأطال في ذلك، وأتى على بنيانهم من القواعد (1). وهذا الموضوع الرابع لا نظير له في كتب ابن القيم رحمه الله، وهو مبحثٌ عظيمُ الفائدة جليل النفع. وحقه أن يستقلَّ بمصنَّفٍ يُعَنْوَن بإبطال التنجيم، على غرار رسالته "إبطال الكيمياء". * ثم لما تصدى لمناقشة احتجاجات الرازي لعلم أحكام النجوم، وكان منها الاحتجاج ببعض حكايات إصابة المنجمين في أحكامهم، أجاب بأنها _________ (1) وقال (ص: 1390): "وهذا هو السبب الذي سُقنا الكلام لأجله معهم لمَّا حكينا قولهم: إنه لمَّا كانت الموجوداتُ في العالم السُّفليِّ ... ".

(المقدمة/26)


ليست بأكثر من الحكايات المنقولة عن أصحاب زجر الطير والعيافة ونحوها من علوم الجاهلية، واستطرد في الكلام عليها وعلى العدوى والشؤم، وما حكي عن العرب فيها من قصصٍ وأشعار، وتفسير ما ورد في الكتاب والسنة بشأنها، ومذاهب الأئمة والسلف في الباب. وهذا خامس الموضوعات، وهو بحثٌ طريفٌ فيه فقهٌ وتاريخٌ وأدب، وهو كما ترى مستقلٌّ بنفسه. وبعد أن فرغ منه ابن القيم ختم الكتاب بقوله: "وليكن هذا آخر الكتاب ... ". فهذه مواقعُ أقدام ذلك الاستطراد الطويل، وتلك هي موضوعاته، وقد كان الأليقُ بصناعة التأليف إفرادها بتصانيفَ مستقلةٍ خاصة، والإحالة عليها إن كانت ناجزة، كما فعل حين جرى ذكر صنعة "الكيمياء" في سياق حديثه عن حكمة خلق الذهب والفضة وعزَّتهما (ص: 633)، فإنه بيَّن بطلانها بكلام موجز، ثم قال: "وقد ذكرنا بطلانها وبينَّا فسادها من أربعين وجهًا في رسالةٍ مفردة"، ألا تراه لو استطرد فذكر تلك الوجوه كما استطرد في المواضع الأخرى، لزادت الموضوعاتُ الخمسة موضوعًا سادسًا؟! أو العزم على إفرادها بالتصنيف، كما صنع (ص: 588) حين مرَّ به دليل التمانع في آيتي الأنبياء والمؤمنون، فإنه أشار إليه بإيجاز، ثم قال: "وسنفرد إن شاء الله كتابًا مستقلًّا لأدلة التوحيد". وكما صنع (ص: 711) حين فاضل بين العسل والسكَّر، ثم قال: "وسنفرد إن شاء الله مقالةً نبين فيها فضل العسل على السكَّر، من طرقٍ عديدةٍ لا تُمْنَع وبراهين كثيرةٍ لا تُدْفَع".

(المقدمة/27)


فلو صنع بباقي الموضوعات صنيعه هذا لأمكنه أن يأتي على القسم الثاني، وهو الكلام في إرادة الله ومحبته، دون أن يطغى طول الكتاب فيصرفه عن إكماله، وكان سيتمُّ بذلك مستوفيًا لغرضه، محققًا لعنوانه. وقد حمل هذا الاستطرادُ المصنفَ على أن يختم كتابه بطريقةٍ غير مألوفةٍ في كتبه، إذ جعلها أشبه بالفهرست لمضامينه، فقال: "وليكن هذا آخرَ الكتاب، وقد جُلِبَت إليك فيه نفائس في مثلها يتنافسُ المتنافسون، وجُلِيَت عليك فيه عرائس إلى مثلهنَّ بادَر الخاطبون. فإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفةَ العلم وفضله، وشدَّة الحاجة إليه، وشرفَه وشرفَ أهله، وعِظَم موقعه في الدارين. وإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفةَ إثبات الصانع بطُرقٍ واضحاتٍ جليَّات تَلِجُ القلوبَ بغير ?ستئذان، ومعرفةَ حكمته في خلقه وأمره. وإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفةَ قَدْر الشريعة، وشدَّةَ الحاجة إليها، ومعرفةَ جلالتها وحكمتها. وإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفة النبوَّة وشدَّةَ الحاجة إليها، بل ضرورة الوجود إليها، وأنه يستحيلُ من أحكم الحاكمين أن يُخْلِيَ العالم عنها. وإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفةَ ما فَطر اللهُ عليه العقولَ من تحسين الحسن وتقبيح القبيح، وأنَّ ذلك أمرٌ عقليٌّ فطري، بالأدلة والبراهين التي ?شتَمل عليها هذا الكتاب ولا توجدُ في غيره. وإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفة الردِّ على المنجِّمين القائلين بالأحكام بأبلغ طرق الردِّ عليهم من نفس صناعتهم وعلمهم، وإلزامهم بالإلزامات المُفْحِمة التي لا جوابَ لهم عنها، وإبداء تناقضهم في صناعتهم،

(المقدمة/28)


وفضائحهم وكذبهم على الخلق والأمر. وإن شئتَ ?قتبستَ منه معرفةَ الطِّيَرة والفأل والزَّجْر، والفرقَ بين صحيح ذلك وباطله، ومعرفةَ مراتب هذه في الشريعة والقَدَر. وإن شئتَ ?قتبستَ منه أصولًا نافعةً جامعةً مما تَكْمُلُ به النفسُ البشرية وتنالُ بها سعادتَها في معاشها ومعادها. إلى غير ذلك من الفوائد التي ما كان منها صوابًا فمن الله وحده هو المانُّ به، وما كان منها خطأً فمن مؤلِّفه ومن الشيطان، والله بريءٌ منه ورسوله ... ". كما حمل ذلك الحاج خليفة على أن يقول عن الكتاب: "وهو كتابٌ كبير الحجم، وليس بمرتَّب، بل فيه فوائدُ مرسلة يقتَبس من مجموعها: معرفة العلم وفضله، ومعرفة إثبات الصانع، ومعرفة قدر الشريعة, ومعرفة النبوة, وشدة الحاجة إلى هذه المذكورات، ومعرفة الرد على المنجمين، ومعرفة الطيرة والفأل والزجر، ومعرفة أصول نافعة جامعة فيما تكمل به النفس البشرية ... إلى غير ذلك من الفوائد" (1). ولعله لذلك أيضًا وصفه نعمان الآلوسي (ت: 1317) بقوله: "وكتاب مفتاح دار السعادة مجلدٌ ضخمٌ غريب الأسلوب" (2). * * * _________ (1) "كشف الظنون" (1761). (2) "جلاء العينين" (294).

(المقدمة/29)


 موارد الكتاب

لابن القيم رحمه الله شغفٌ عظيمٌ بالكتب وولوع، يقول صاحبه ابن كثير، وتلميذه ابن رجب: "اقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيلُ عُشره من كتب السلف والخلف" (1). وقال الصفدي: "ما جمع أحدٌ من الكتب ما جمع؛ لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك، ... وكان عنده من كل شيءٍ في غير ما فنٍّ ولا مذهبٍ بكلِّ كتابٍ نسخٌ عديدة ... " (2). وأثر تلك المكتبة الواسعة في تواليفه واضحٌ مبين. ومن شواهد عنايته بتحصيل الأصول المتقنة العزيزة، في كتابنا: - نقل بعضهم نصًّا عن كتاب "الحيوان" لأرسطو، فقال ابن القيم: "وأما ما حكوه عن أرسطو فنقلٌ محرَّف، ونحن نذكر نصَّه في الكتاب المذكور، فإن لنا به نسخةً مصححة قد اعتني بها ... " ثم ذكره (3). - ونقل مقابسةً طويلة من كتاب "المقابسات" لأبي حيان التوحيدي، من نسخةٍ "بخطِّ رزق الله المنجم، وكان من زعمائهم" (4) أي: زعماء المنجمين. _________ (1) "البداية والنهاية" (18/ 524). وانظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (5/ 174). (2) "أعيان العصر" (4/ 368). (3) (ص: 1256). (4) (ص: 1314).

(المقدمة/30)


وانظر سعة اطلاعه حين يقول في معرض رده على احتجاج الرازي لصناعة التنجيم: "ومن العجب قوله [أي: الرازي]: لو كان هذا العلم فاسدًا لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه! وليس في الفرية أبلغ من هذا ولا في البهتان، أترى هذا الرجل ما وقف على تأليفٍ لأحدٍ من أهل المشرق والمغرب في إبطال هذا العلم والردِّ على أهله؟! فقد رأينا نحن وغيرنا ما يزيد على مئة مصنفٍ في الردِّ على أهله وإبطال أقوالهم، وهذه كتبهم بأيدي الناس، وكثيرٌ منها للفلاسفة الذين يعظِّمهم هؤلاء ويرون أنهم خلاصة العالم، كالفارابي وابن سينا وأبي البركات الأوحد وغيرهم، وقد حكينا كلامهم، وأما الردود في ضمن الكتب حين يُرَدُّ على أهل المقالات فأكثر من أن تذكر، ولعلها أن تزيد على عدَّة الألف، تجد في كل كتابٍ منها الردَّ على هؤلاء وإبطال مذهبهم ... " (1). ومن شواهد سعة اطلاعه: أنه قرَّر شبهةً وردت في "المختصر" لابن الحاجب, ثم قال: "هذا وجه تقرير هذه الشبهة, وإن كان كثيرٌ من شرَّاح المختصر لم يفهموا تقريرها على هذا الوجه ... " (2). وموارده في هذا الكتاب على أقسام أربعة: القسم الأول: ما صرَّح فيه باسم الكتاب ومصنفه. وهاهي مرتبةً على حروف المعجم: - "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم, صرَّح باسم الكتاب في _________ (1) (ص: 1463). (2) (ص: 959). وللمختصر ما ينيف على السبعين شرحًا.

(المقدمة/31)


(ص: 1452) , ونقل منه في موضع آخر مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي, صرَّح به في (ص: 409) , ونقل عنه في مواضع أخرى بدون تصريح, كما سيأتي. - "الأربعة" (المقالات الأربع) لبطليموس (ص: 1311). - "أسرار النجوم" المعروف بـ (المذاكرات) لأبي سعيد شاذان المنجم (ص: 1225). - "أسرار النجوم" لأبي معشر المنجم (ص: 1221). - "أقسام اللذات" للرازي (ص: 410). - "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي (ص: 1206). - "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (ص: 470). - "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (ص: 1553, 1576). - "ترتيب العلم" لثابت بن قرة (ص: 1313). - تفسير الرازي (مفاتيح الغيب) (ص: 54, 56). - تفسير الراغب الأصبهاني (ص: 54). ونقل عنه في موضع آخر دون تصريح, كما سيأتي. - تفسير الرماني (ص: 53). - تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز) (ص: 52). - تفسير الماوردي (النكت والعيون) (ص: 55, 83, 1361).

(المقدمة/32)


- تفسير أبي مسلم الأصبهاني (ص: 52). - تفسير ابن المنذر (ص: 1375). - تفسير المنذر بن سعيد البلوطي (ص: 28, 52). - "تفسير الموطأ" لابن مزين (ص: 82, 389). - "التفهيم إلى صناعة التنجيم" للبيروني (ص: 1234, 1235). - "التمهيد" لابن عبد البر, صرَّح باسم الكتاب في (ص: 1518) , ونقل منه في مواضع أخرى مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "الجامع" للترمذي صرَّح باسم الكتاب في (ص: 69, 73, 620) , ونقل منه في مواضع أخرى مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "الجامع" لابن وهب, صرَّح باسم الكتاب في (ص: 1491, 1527) , ونقل منه في مواضع أخرى مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "الجليس والأنيس" للمعافى بن زكريا الجريري (ص: 472). - "حلية الأولياء" لأبي نعيم الأصفهاني (ص: 348). - "الحيوان" لأرسطو (ص: 1256, 1260). - "الرد على المنطقيين" لابن تيمية (ص: 448). - رسالة أبي القاسم علي بن عيسى في إبطال التنجيم (ص: 1236). - رسالة لابن الهيثم في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد (ص: 1188). - "السماع الطبيعي" لأرسطاطاليس (ص: 1301, 1312). - "السنن" لابن ماجه (ص: 213, 1419, 1484).

(المقدمة/33)


- "السنن" لأبي داود, صرَّح باسم الكتاب في (ص: 1544) , ونقل منه في مواضع أخرى مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد (ص: 292). - "الشفاء" لابن سينا (ص: 1182, 1313). - صحيح البخاري (ص: 46, 48, 202, 402, 736, 1381, 1492, 1493, 1509, 1534, 1540, 1541, 1574). - صحيح ابن حبان (ص: 346, 451) , وسمَّاه (ص: 404): "صحيح أبي حاتم". - صحيح مسلم (ص: 38, 47, 166, 194, 201, 300, 363, 399, 428, 500, 734, 896, 1079, 1485, 1508, 1509, 1511, 1533, 1535, 1540, 1560). - "العلل" لعبد الله بن الإمام أحمد (ص: 483). - "العلل" للخلال (ص: 465). - "العلم" للخلال (ص: 332). - "غريب الحديث" لأبي عبيد, صرَّح باسم الكتاب في (ص: 1486) , ونقل منه في موضع آخر مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "غريب القرآن" لابن قتيبة (ص: 83). - "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي, صرَّح باسم الكتاب في (ص: 326) , ونقل منه في مواضع أخرى مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي.

(المقدمة/34)


- "الفوائد" لتمام, صرَّح باسم الكتاب في (ص: 466) , ونقل منه في موضع آخر مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "القلب والإبدال" لابن السكيت (ص: 1572). - "الكامل" للمبرد (ص: 1201). - كتاب في معرفة الثوابت (صور الكواكب الثمانية والأربعين) لعبد الرحمن بن عمر الصوفي (ص: 1229). - "المجالسة" للدينوري (ص: 172). - "المجمل" لكوشيار بن باشهري الديلمي (ص: 1231). - "محاسن الشريعة" للقفال, ذكره (ص: 964) , ونقل منه في مواضع أخرى دون تصريح, كما سيأتي. - مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (ص: 510). - مسائل حرب (ص: 343, 503). - "المستدرك" للحاكم (ص: 194) , وسمَّاه (ص: 196): "صحيح الحاكم". - مسند الإمام أحمد (ص: 73, 203, 291, 521, 581, 1526, 1544). - مسند أبي يعلى الموصلي (ص: 441). - مصنف لأبي سعيد السيرافي في الرد على المنطق (ص: 446). - مصنف للمنذر بن سعيد البلوطي في مسألة الجنة التي أسكنها آدم (ص: 52).

(المقدمة/35)


- "المعارف" لابن قتيبة (ص: 51). - "المعتبر" لأبي البركات بن ملكا (ص: 1289). - "المعجم" لأبي نعيم, (لعله معجم شيوخه) (ص: 337). - "المفاضلة بين الزرع والنخل" للجاحظ (ص: 656). - "المقابسات" لأبي حيان التوحيدي (ص: 1314). - "مناقب الشافعي" للحاكم (ص: 1440). - "مناقب الشافعي" للرازي (ص: 1440). - "الملل والنحل" (الفِصَل) لابن حزم (ص: 53). - "الموطأ" لمالك, صرَّح باسمه في (ص: 1510, 1588) , ونقل منه في موضع آخر مكتفيًا باسم المصنف, كما سيأتي. - "النجاة" لابن سينا (ص: 1182). القسم الثاني: ما صرَّح فيه باسم المصنِّف دون تسمية كتابه. وسأوردها مرتبةً على المصنِّفين, مع تسمية كتبهم: - الترمذي. (ص: 168, 184, 190, 194, 196, 202, 205, 206, 207, 208, 210, 211, 213, 293, 403, 421, 566, 575, 661, 789). من كتابه "الجامع". - تمَّام. (ص: 422). من كتابه "الفوائد". - ابن أبي حاتم. (ص: 1446). من كتابه "آداب الشافعي ومناقبه".

(المقدمة/36)


- ابن جرير الطبري. (ص: 457, 1396) من تفسيره "جامع البيان", وفي (ص: 1487) من كتابه "تهذيب الآثار". - ابن جني. (ص: 1572). من كتابه "التنبيه على شرح مشكلات الحماسة". - ابن الجوزي. (ص: 1367, 1368, 1369, 1371). من تفسيره "زاد المسير". - الجوهري. (ص: 1487). من كتابه "الصحاح". - الجويني. (ص: 288). من كتابه "البرهان". - الخطابي. (ص: 1553). من "معالم السنن" أو "أعلام الحديث". - الخطيب البغدادي. (ص: 185, 349) من كتابه "الفقيه والمتفقه", وفي (ص: 463, 464) من كتابه "شرف أصحاب الحديث". - أبو داود. (ص: 170, 906, 1531). من كتابه "السنن". - الزجاج. (ص: 244, 253, 254, 486). من كتابه "معاني القرآن". - الزمخشري. (ص: 40). من كتابه "الكشاف". - ابن الصلاح. (ص: 357). ولم يتبين لي موضع النقل من كتبه. - ابن عبد البر. (ص: 483, 502, 508, 509, 510) من "جامع بيان العلم وفضله", وفي (ص: 1524, 1526, 1545, 1546, 1560, 1584, 1588) من "التمهيد". - ابن عبد الحكم. (ص: 1489). من كتابه "سيرة عمر بن عبد العزيز".

(المقدمة/37)


- عبد الملك بن حبيب. (ص: 1563). من كتابه "تفسير غريب الموطأ". - أبو عبيد. (ص: 1585). من كتابه "غريب الحديث". - أبو عبيدة. (ص: 1478). من كتابه "مجاز القرآن", ويحتمل أن يكون منقولًا بواسطة. - ابن عدي. (ص: 186, 195, 212, 463, 466). من كتابه "الكامل". - ابن عطية. (ص: 485, 581, 1367, 1368, 1369, 1370). من تفسيره "المحرر الوجيز". - الغزالي. (ص: 1421). من كتابه "تهافت الفلاسفة". - الفارابي. (ص: 1195, 1431). من رسالته "ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم". - الفراء. (ص: 308, 1478). من كتابه "معاني القرآن", ويحتمل أن يكون منقولًا بواسطة. - أبو القاسم الزجاجي. (ص: 1475). والنص في كتابه "تفسير رسالة أدب الكتاب". - ابن قتيبة. (ص: 478) من كتابه "عيون الأخبار" , وفي (ص: 1507, 1565) من كتاب آخر أحسبه "فضل العرب والتنبيه على علومها", وقد طبع عن نسخة فيها طمسٌ كثير. - مالك بن أنس. (ص: 1492). من كتابه "الموطأ".

(المقدمة/38)


- محمد بن عبد الواحد المقدسي الضياء. (ص: 725) , ولعل المقصود كتابه "النهي عن سب الأصحاب وما ورد فيه من الذم والعقاب". - المدائني. (ص: 1469, 1501, 1503, 1507, 1542) , ويشبه أن يكون النقل من كتابه "القيافة والفأل والزجر", ولم يعثر عليه بعد. - مسدد بن مسرهد. (ص: 1511). والنقل من كتابه "المسند". - النسائي. (ص: 917). من كتابه "السنن". - الواحدي. (ص: 356). من تفسيره "الوسيط" أو "البسيط". - ابن وهب. (ص: 1510, 1518, 1534). من كتابه "الجامع". القسم الثالث: ما صرَّح فيه باسم الكتاب دون تسمية مصنِّفه. وسأوردها مرتبةً على حروف المعجم مع تسمية مصنِّفيها: - "شرح مقالات بطليموس الأربع" (ص: 1312). وقد شرح كتابه غير واحد كما بينتُ هناك. - "الصحاح" (للجوهري) (ص: 438). - الصحيحان (للبخاري ومسلم) (ص: 45, 46, 148, 161, 162, 166, 167, 246, 736, 737, 1482, 1483, 1490, 1508, 1509, 1511, 1516, 1534, 1540, 1541, 1560). - "الكشاف" (للزمخشري) (ص: 487). - "المختصر" (لابن الحاجب) (ص: 959). - "المسند" (لأحمد) (ص: 521, 1542).

(المقدمة/39)


- "الموطأ" (لمالك) (ص: 48, 478, 638, 1493). ويلحق بهذا: - السنن (ص: 46, 230). - الصحيح (ص: 200, 230, 428, 468, 576, 692, 1170, 1493, 1543, 1548). - كتب الحيوان (ص: 716, 1436). - كتب الطب (ص: 664). القسم الرابع: ما لم يصرِّح فيه باسم الكتاب أو مصنِّفه. وسأسوق ما وقفتُ عليه من ذلك مرتبًا حسب وفيات مصنفيها: * عمرو بن بحر الجاحظ (ت: 255): ونقل من كتاب "الدلائل والاعتبار" المنسوب إليه (1) , وكاد أن __________ (1) وهو كتابٌ متنازع النسبة. ولا ريب أن للجاحظ كتابًا في هذا الباب, ذكره في جريدة مصنفاته النديم في "الفهرست" (211) , وياقوت في "إرشاد الأريب" (2119) , وسمياه: "التفكر والاعتبار", لكن بعض المعاصرين ذهب إلى أن ما بين أيدينا اليوم ليس به, وأنه منحولٌ على أبي عثمان لا يشبه أسلوبه, ومن أولئك: حسن السندوبي في "أدب الجاحظ" (44, 153) , ومحمود أبو رية في رسائل الرافعي إليه (147, 208). والمثبتون له المصححون لنسبته أجلُّ, فأولهم: الإمام المحقق المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير (ت: 840) , فقد وقف عليه وأطراه وسماه: "العبر والاعتبار", في "العواصم والقواصم" (4/ 33, 37) , و"إيثار الحق على الخلق" (169). وثانيهم: العلامة الشوكاني (ت: 1250) في "فتح القدير" (5/ 567) , وأثنى عليه كذلك, ومن الكتاب نسخٌ خطية في مكتبات اليمن, وللزيدية هناك عنايةٌ بتراث المعتزلة وتهمُّم, وكثيرٌ منه طبع عن أصول احتفظت بها خزائنهم. وثالثهم: إمام الأدب لعصره مصطفى صادق الرافعي, وحسبك به خبرةً بطرائق الكلام وأنسًا ببيان الجاحظ, فقد كتب لأبي ريه حين طبع الكتاب بحلب سنة 1928 يوصيه به: "طبع للجاحظ كتابٌ جديد اسمه كتاب الدلائل والاعتبار, فلا يفتك هذا الكتاب, وهو من أهم كتب الجاحظ, بل لعله أهمها في الرأي والفكر؛ لأنه أغار فيه على آراء الفلاسفة القدماء في حكمة المخلوقات وجاء بها في عبارة سَرِيَّة, رحم الله هذا الرجل وزمنه وأهل زمنه". "الرسائل" (147). ولم يقنع بذلك صاحبه, فكتب إليه سنة 1931 يسأله رأيه في نسبة الكتاب, فأجابه الرافعي: "لا يمكن إثباتُ كتاب لمؤلف كالجاحظ زوَّر على غيره وزوَّر غيرُه عليه إلا مقابلة الكتاب بأسلوبه في دقائقه وتفاصيله, والراجح أن كتاب دلائل الاعتبار له لولا بعض عبارات ضعيفة تعترض في أثنائه". "الرسائل" (208). طبع الكتاب بمصر قديمًا سنة 1914 بالمطبعة الأميرية ملحقًا بكتاب التاج المنسوب للجاحظ, ولم يشتهر, ثم نشره الشيخ محمد راغب الطباخ في مطبعته العلمية بحلب سنة 1928 بعنوان: "الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير", فاشتهر وذاع, وسقطت مقدمته من النسخة التي اعتمد عليها, ووقف المستشرق الألماني كرنكو على نسخة متأخرة للكتاب في المتحف البريطاني فنشر مقدمتها في "مجلة المجمع العلمي العربي" بدمشق (9/ 558 - 561). وتناهبه النسَّاخ والمؤلفون, ونُسِبَ نِسَبًا شتى: * فنُسِبَ إلى جعفر الصادق رضي الله عنه, وأنه أملاه على المفضَّل بن عمر الجعفي, وانفرد الشيعة بهذه النسبة, وأقدم من نسب الكتاب منهم: النجاشي (ت: 450) في رجاله (1112) , وسماه: كتاب الفكر والحث على الاعتبار, ثم ابن طاووس علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني أبو القاسم (ت: 664) في كتابيه: "كشف المحجة" (ص: 9) و "الأمان من أخطار الأسفار والأزمان" (ص: 91) , وسماه في الأول: كتاب المفضل بن عمر الذي أملاه مولانا الصادق عليه السلام فيما خلق الله جل جلاله من الآثار, وسماه في الثاني: معرفة وجوه الحكمة في إنشاء العالم السفلي وإظهار أسراره. وأثنى عليه كثيرًا. ومن البيِّن أنه لم يكن له اسمٌ علَمي عندهم, ولذا اختلفت عباراتهم عند ذكره. وانظر: "الذريعة" (4/ 482, 6/ 49, 13/ 154, 16/ 300, 18/ 152). وأدرجه المجلسي (ت: 1111) بتمامه في "بحار الأنوار" (3/ 57 - 151) , وفرَّقه في مواضع كثيرة من كتابه وعلَّق عليه وشرح ألفاظه, وشرحه غير واحد منهم. واشتهر عند متأخريهم باسم "توحيد المفضَّل", وبه طبع قديمًا في إيران والهند, وحديثًا في مؤسسة الوفاء ببيروت (الطبعة الثانية: 1406) وهي التي اعتمدت, ونسخه الخطية في الأزهرية وبرنستون ومشهد وغيرها. انظر: "تاريخ الأدب العربي" (1/ 260, 261) , و "تاريخ التراث العربي" (1/ 270, 279). والمفضَّل غالٍ مضطرب الرواية فاسد المذهب عند متقدمي مؤرخي الشيعة, مقبولٌ عند متأخريهم, كما قال المامقاني في "تنقيح المقال" (3/ 240): إن ما كان يعدُّ غلوًّا عند قدماء الشيعة تعدُّه الشيعةُ الآن من ضروريات مذهب التشيع!!. وقد وُضِعَ عليه وزيد شيءٌ كثير باعتراف محققيهم. وانظر لمصادر ترجمته: "الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق" (3/ 291). وأهمها وأقدمها: "اختيار معرفة الرجال" للطوسي (2/ 612) , و "رجال النجاشي" (1112). ودلائل الوضع على هذه النسبة لائحةٌ ظاهرة, وما هو من طريقة جعفر الصادق وأهل عصره بسبيل, وتحامق القوم فجعلوا في أوله قصة ركيكة لسبب إملائه, وألحقوا بآخره مادة رافضية تباين الكتاب روحًا وأسلوبًا, وبنى معاصروهم عليه علالي وقصورًا. وقد عُرِض الكتاب على الشيخ محمد بن إبراهيم سنة 1377, فأجاب بأن في نسبته إلى جعفر الصادق شكًّا, وأن في آخره غلوًّا في أهل البيت, وما فيه من الحق فكتبُ المحققين من الأئمة المقتدى بهم كابن القيم وغيره تغني عنه. "الفتاوى والرسائل" (13/ 124). * ونسب إلى أبي حامد الغزالي, مع إضافات قليلة, وطبع طبعات عديدة بعنوانات مختلفة, منها: "الحكمة في مخلوقات الله", و "أسرار الحكمة في المخلوقات", وأورده الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه "مؤلفات الغزالي" (257) في القسم المشكوك في نسبته, ولم يبين سبب الشك. وقد ذكر السبكي في "الطبقات" (6/ 227) , والزبيدي في "الإتحاف" (1/ 42) وغيرهما من تصانيف أبي حامد: "عجائب صنع الله", فهل أرادوا هذا؟ وهل يحتمل أن تصح نسبته إليه ويكون قد أغار فيه على كتاب الجاحظ؟ * ونسب إلى جبريل بن نوح الأنباري, وهي نسبةٌ مشكلة, ففي مقدمة النُّسخ المنسوبة للجاحظ: "وقد ألَّف مثل كتابنا هذا جماعةٌ من الحكماء المتقدمين, فما أوضحوا معانيه, ولا بينوا المشكل منه, فمنهم: جبريل بن نوح الأنباري؛ لأنه صدَّر كتابه بغير خطبة ولا مقدمة, ورتبه ترتيب الفلاسفة, وصدَّره بكلام منغلق, ونظمه نظمًا غير متسق ... ". ولا ريب أن النسخة التي وقف عليها ابن القيم كانت منسوبة إليه, فقد قال (ص: 632): "قرأت بخط الفاضل جبريل بن نوح الأنباري ... ", ثم نقل نصًّا منه. ولم أجد لجبريل هذا ترجمة. وفي خزانة أيا صوفيا (4836) نسخة من الكتاب منسوبة إليه, وفيها أنه صنفه أيام المتوكل, انظر: "تاريخ الأدب العربي" (3/ 128). فهل هي بخط جبريل؟ وهل هو صاحب الكتاب الأصلي والجاحظ أو غيره ناقلون عنه؟ * وللحارث المحاسبي (ت: 243) كتاب في هذا الباب بعنوان: "التفكر والاعتبار", ذكره النديم في "الفهرست" (236) , وأبدى السندوبي في "أدب الجاحظ" (153) احتمال أن يكون هو أصل كتابنا هذا. ولم يعثر عليه بعد. وأيًّا ما كان, فليس من غرضنا ههنا تحرير نسبة الكتاب, وحسبنا أنه مصدرٌ متقدمٌ معروفٌ قبل زمن ابن القيم اعتمد عليه وأفاد منه.

(المقدمة/40)


يستوعبه في الفصول التي عقدها للتفكر في عجائب الخلق (ص: 586 - 806) , وله بين تضاعيفها تعليقاتٌ واستطرادات. * ابن قتيبة (ت: 276):

(المقدمة/43)


ونقل من كتابه "عيون الأخبار" (ص: 477 - 483). * أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310): ونقل من كتابه "تهذيب الآثار" (ص: 1486, 1488, 1537 - 1539). * أبو بكر ابن دريد (ت: 321): ونقل من كتابه "الاشتقاق" (ص: 1521). * القفال الشاشي (ت: 365): ونقل من كتابه "محاسن الشريعة" (ص: 860) , وذكره (ص: 964) وأثنى عليه. * الشريف المرتضى (ت: 436): ونقل من رسالته في الرد على المنجمين (ص: 1191) , ولعله نقل عنها بواسطة. * أبو الحسين القشيري (ت: 465): ونقل من كتابه "الرسالة القشيرية" (ص: 435 - 438, 454). * الراغب الأصفهاني (ت: 502): ونقل من تفسيره (ص: 22). * أبو حامد الغزالي (ت: 505): ونقل من كتبه: - "إحياء علوم الدين", فانتفع بكتاب العلم عند البحث في وجوه فضل

(المقدمة/44)


العلم, مع تعليقاتٍ طوال ونقول من مصادر أخرى , واستوعب كتاب التفكر عند الكلام في التفكر وفضله ومجاريه وعجائب خلق الإنسان وغيره (ص: 515 - 583) (1). - "المستصفى " (ص: 974 - 978, 979 - 982). - "تهافت الفلاسفة" (ص: 1414, 1416, 1418). * الزمخشري (ت: 538). ونقل من كتابه "الكشاف" (ص: 44). * الشهرستاني (ت: 548): ونقل من كتابه "نهاية الأقدام" (ص: 972 - 974, 978, 983 - 988, 990, 991). * ابن الجوزي (ت: 597): ونقل من كتابيه: - "المدهش" (ص: 830). - "زاد المسير" (ص: 1360). * فخر الدين الرازي (ت: 606): ونقل من كتابه "السر المكتوم" (ص: 1179, 1269, 1282, وغيرها) , _________ (1) وأتى الزبيدي في شرحه, فنقل كثيرًا عن المصنف دون تصريح! وصرَّح به في بعض المواضع.

(المقدمة/45)


وأشار إلى تصنيف الرازي له (ص: 1365). [ومن كتابه في أقسام اللذات في مواضع كثيرة (ص: 369 - 383)، بتصرفٍ واختصارٍ حينًا، وبألفاظه وسياقه حينًا، وصرَّح باسمه في موضع واحد (ص: 410)، ويقابلها في كتاب الرازي (ص: 214 - 251 نشرة ليدن)]. * العز بن عبد السلام (ت: 660): ونقل من كتابه "قواعد الأحكام" (ص: 900). * أبو العباس ابن تيمية (ت: 728): ونقل من كتبه: - "الجواب الصحيح" (ص: 1157). - "شرح حديث أبي ذر" (ص: 1138). - فتيا في الجنة التي أسكنها آدم (ص: 77). ومن المواضع التي لا أرتاب في أنها منقولةٌ عن مصدرٍ آخر, لكن لم أهتد إلى ه: سردُ الحوادث التي ظهر فيها كذبُ المنجمين, فإنها من جنس نثر العماد الكاتب والقاضي الفاضل وأضرابهما. ولا ريب أن التصريح بالعزو عند النقل مِن شُكر العلم، وهو المتعيِّن، وخلافُه ليس عُرفًا مقبولًا بحال، بل ما زال أهل العلم ــ ومنهم المصنف في مواضع من كتبه ــ ينصُّون على فضل إضافة الفائدة لقائلها ونسبتها إلى صاحبها، ويتمثَّلونه في كتبهم، وينكرون على من حاد عن محجَّته، فلعل له عذرًا في ترك الإفصاح عن النقل في هذه المواضع. * * *

(المقدمة/46)


 الثناء على الكتاب

أثنى على الكتاب غيرُ واحدٍ من أهل العلم، وهو كما قالوا، وسأسوق بعض عباراتهم ثم أتبعها بعباراتٍ أخرى للمصنف. قال صديق حسن خان (ت: 1307): "وهو كتابٌ نفيسٌ عزيز المقاصد، منَّ الله تعالى به عليَّ وأحسن إلي" (1). وقال أيضًا: "وهو كتابٌ لا يوجد نظيرُه فى الإسلام" (2). وكتب نعمان الآلوسي (ت: 1317) على ظهر نسخته من الكتاب، وقد أوقفها على ذريته: "وهو كتابٌ جليل، ليس له في بابه مثيل". وأثنى المصنف على كتابه، فقال في "مدارج السالكين" (1/ 91): "وهو كتابٌ بديعٌ في معناه". وأثنى في الكتاب على بعض مباحثه (3) , ومن ذلك قوله: "وحسبك بهذا الفصل وعظيم منفعته من هذا الكتاب". وقوله: "فتدبر هذا الفصل، فإنه من الكنوز في هذا الكتاب، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصر". _________ (1) "أبجد العلوم" (1/ 97). [وقد وصل إليه عن طريق الشيخ أحمد بن عيسى رحمهما الله, وهو أول كتاب يصله منه, فتفاءل باسمه. انظر: الرسائل المتبادلة بينهما (78, 80, 86, 89, 92).] (2) "يقظة أولي الاعتبار" (224). (3) (ص: 87, 127, 285, 727, 783, 798, 952, 957, 1135, 1139, 1145, 1601, 1602).

(المقدمة/47)


وقوله: "فهذه مجامع طرق العالم في هذا المقام ألقيت إليك مختصرةً بذكر قواعدها وأدلتها، وترجيح الصواب منها، وإبطال الباطل، ولعلك لا تجد هذا التفصيل والكلام على هذه المذاهب وأصولها في كتابٍ من كتب القوم". ومن ذلك ما وقع في خاتمة الكتاب في الأصول الخطية (د، ق، ت، ص)، وهي أصولٌ عتيقةٌ بعضها منقولٌ من نسخة المصنف وبعضها مقابلٌ عليها، ونظم الكلام يشبه أسلوب ابن القيم، ونصها: "نجز الكتاب المسمى بمفتاح دار السعادة، وهو كتابٌ نفيس، لا يملُّه الجليس، وفيه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد ما لا يوجد ذلك في سواه، وفيه من البحوث ما يستقصي كلَّ علم إلى منتهاه، واسمه مطابقٌ لمسمَّاه، ولفظه موافقٌ لمعناه؛ فإن فيه من الإفادة ما يحدو إلى دار السعادة" (1). * * * _________ (1) انظر لتوجيه ثناء المصنف على كتبه وإشادته بتحريراته ومباحثه مقدمة تحقيق أخي الشيخ علي العمران لـ "بدائع الفوائد" (32، 33).

(المقدمة/48)


 وصف الأصول الخطية

تحتفظ خزائنُ المخطوطات ودور الكتب - فيما تيسر الوقوف عليه - بثلاثة عشر أصلًا خطيًّا لكتاب "مفتاح دار السعادة"، انتخبتُ منها خمسةً هي أصحُّها وأعلاها، واستأنستُ بسادسٍ نُسِخ سنة 786، بالإضافة لأصلٍ من القرن التاسع لأحد مختصرات الكتاب، وسآتي على وصف معتمدي منها، ثم أشير لباقي الأصول، وما نُسِبَ في بعض الفهارس ضِلَّة. * أما الأصول المعتمدة، فهي: 1 - نسخة مكتبة داماد إبراهيم باشا (د): وهي نسخة تامةٌ نفيسة، كتبها الإمام الحافظ إسماعيل بن محمد بن بَرْدِس البعلي (1) سنة 766، بعد وفاة المصنف بخمس عشرة سنة، بخطه المضبوط المجوَّد. وأصلها محفوظٌ بمكتبة داماد إبراهيم باشا، ضمن المكتبة السليمانية بتركيا، برقم (413). _________ (1) أبو الفداء، عماد الدين، ولد سنة 720، وسمع من طائفة، وعني بالحديث، ورحل في طلبه إلى دمشق، وقرأ بنفسه، وكتب الكثير، نظم "النهاية في غريب الحديث" و"طبقات الحفاظ" للذهبي، وغيرها، وتخرَّج به جماعة، وكان أحد الحفاظ المكثرين المصنفين، حسن الخلق، كثير الديانة، توفي في العشر الأواخر من شوال سنة 784. انظر: "الرد الوافر" (161)، و"السحب الوابلة" (1/ 287) وفي حاشيته مصادر ترجمته.

(المقدمة/49)


وعدد أوراقها 325 ورقة، في الصفحة 23 سطرًا، وفي السطر نحو من 17 كلمة. وقد لقيت هذه النسخة ضروبًا من العناية، فأول ذلك ضبطُ ابن بردسٍ نصَّها بالشكل، وعنايته بعلامات الإهمال، فيضع فوق الحرف المهمل علامةً كقلامة الظفر المضجعة، لا يكاد يخلُّ بذلك، ثم مقابلته لها على الأصل وإن لم ينص على ذلك، لكن التصحيحات المثبتة في طرر النسخة المختومة بـ "صح" (ق 3/ ب، أ، 4/ أ، 6/ أ، 8/ أ، 10/ أ، 12/ ب، 14/ أ، 17/ ب، ... )، واللحق واستدراك السقط (ق 2/ ب، 3/ ب، 5/ أ، 10/ أ، ... )، ولا تكاد تخلو منهما ورقة= يدلَّان على المقابلة. وما طغى فيه القلمُ أو الحبر أعاد كتابته في الطرة مجودًا، وفوقه كلمة "بيان"، وربما ختمه بـ "صح" (ق 30/ ب، 39/ أ، 51/ ب، 75/ أ، 80/ ب، ... ). ويميِّز الفصول ونحوها، فيكتبها بخطٍّ كبير محبَّر. وختم النسخة بقوله: "نجز الكتاب المسمى بمفتاح دار السعادة، وهو كتابٌ نفيس، لا يملُّه الجليس، وفيه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد ما لا يوجد ذلك في سواه، وفيه من البحوث ما يستقصي كلَّ علم إلى منتهاه، واسمه مطابقٌ لمسمَّاه، ولفظه موافقٌ لمعناه؛ فإن فيه من الإفادة ما يحدو إلى دار السعادة. وذلك على يد أفقر خلق الله إليه، المتوكل في جميع أحواله عليه، والمعترف بالخطأ والزلل، والمسيء في القول والعمل: إسماعيل بن محمد بن بردس، عفا الله عنه، وكان تمام ذلك في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم عام ستة وستين وسبع مئة من الهجرة النبوية، وحسبنا الله ونعم الوكيل".

(المقدمة/50)


ولم يذكر الأصل الذي نقل عنه، ولا يبعد أن يكون أصل المصنف، لقرب العهد والدار. ولعسر خط المصنف وتعليقه وتركه الإعجام إذا أسرع في الكتابة، كما تراه فيما وصلنا بخطه من مسودة كتابه "طريق الهجرتين"، اشتبهت كثيرٌ من المواضع على نسَّاخ الكتاب، فرسموها رسمًا كما رأوها في الأصل، وأبقوها محتملةً لأكثر من قراءة، وأمثلهم طريقةً في ذلك ابنُ بردس، وفي مواضع ليست بالقليلة اجتهدوا في القراءة فكتبوها محرفةً عن جادة الصواب. ولذا وجدنا ابن بردس يبدي في مواضع كثيرة من الطرر احتمالاتٍ أخرى للقراءة، مبدوءة بـ "لعله"، كما في (ق 21/ أ، 37/ أ، 43/ ب، 73/ أ، 86/ أ، ... ). وفي مراتٍ قليلة (ق 75/ب، 78/ب، 195/ب) رأيته يشير إلى قراءة نسخة أخرى، ويرمز لها بـ "خ". وربما نقل تعليقًا من طرة الأصل، فيما أقدِّر، كما في (ق 124/ أ). وجاء بعده عثمان بن علي بن حميد، ولم أعثر على ترجمته، فقرأ النسخة بقلعة بعلبك، بلد ابن بردس، وقابلها (أو ثلثها الأخير على أقل تقدير) على أصلٍ آخر، واستدرك بعض ما سقط منها وأثبته في الطرر بخطٍّ مهمل من النقط، وأبدى احتمالاتٍ أخرى للقراءة، وصدَّرها كسلفه بـ "لعله". وقد انتفعتُ بهذه القراءات في تحقيق نص الكتاب، وأثبتُّ منها في الحواشي ما رأيته محتملًا للصواب.

(المقدمة/51)


وفي النسخة بياضٌ يسيرٌ في موضعين (ق 3/ ب، 323/ أ). ومن طريقة ابن بردس التي رأيت: تسهيل الهمز في غالب أمره، وتحقيقها أحيانًا، وكذا الأصلان (ق) و (ت)، والأشبه أن المصنف لم يكن مطردًا في التسهيل أو التحقيق وإن كان الأول هو الأغلب عليه، ولذا وجدنا الأصول تتفق على أحدهما حينًا وتختلف حينًا آخر. ومن طريف ما وقع من ذلك كلمة "الجزئية"، فإن المصنف يرسمها بالتسهيل: "الجزوية"، وكثيرٌ من المتقدمين يرسمها كذلك، فجوَّد رسمها ابن بردس في نسخته، ولم يفطن لها نسَّاخ الأصول الأخرى فرسموها رسمًا مشتبهًا، وتحرفت عند الناشرين على ألوان: "الحرورية" و"الحزورية" و"الحرونة"! ومن ذلك: رسم "الأسئلة": "الأسولة". إلى آخره. ومن طريقته أيضًا: كتابة الأبيات مفردةً في وسط السطر غير متصلةٍ بما يليها، ويختم أحيانًا البيت بدائرة، وكثيرٌ من النساخ يخلُّ بذلك. وربما فاته البيتُ بعد البيت مما يدرجه المصنف في مثاني كلامه، فلم يصنع بها صنيعه ذاك، وكذا باقي الأصول، وكُتبت في المطبوعات نثرًا (1). _________ (1) قال العلَّامة عبد القادر بن بدران في "المدخل" (484) وهو يذكر ما يلزم المتفقه معرفتُه: "وقد يذكر الفقهاء كثيرًا من الشروط والواجبات ... منظومةً، ... فإذا كان المريدُ لحفظها جاهلاً بفنَّي العروض والقوافي حَفِظها مختلَّة الوزن غير مستقيمة، وربما كان بحيث لا يفرِّق بين المنظوم والمنثور، ولاسيما إذا كان الناسخ جاهلاً فكتب النظم ككتابته للنثر، فهناك يفُوت المقصود، ويُعَدُّ ذلك من الجهل".

(المقدمة/52)


وقد حظيت النسخة بتعليقات أكثر من قارئ. فأولهم قارئٌ لم يذكر اسمه، له تعليقاتٌ منتشرةٌ في صفحات النسخة بقلم فارسيٍّ دقيق جدًّا، في الطُّرر وبين السطور. وهي على أضرب: فمنها: شرحٌ لبعض الغريب، كما في (ق 36/ ب) يشرح لفظة"صفد"، قال: "الصفَد، بالتحريك، العطاء. جوهري". ومنها: توضيحٌ للضمائر ونحوها، كما في (ق 68/ ب) علَّق على قول المصنف: "وإذا فقدهما" بقوله: "أي: العلم والعقل". ومنها: نقولٌ من كتب التفسير والحديث وغيرها، كما في (ق 72/أ، 95/ ب، 115/ ب، 125/ ب، 127/ أ، ... ). ففي (ق 38/ ب) علَّق على قول المصنف عن النجوم: "إنها رجومٌ للشياطين"، فنقل عن الضحاك أن الكواكب التي تُرى لا يُرجم بها، وإنما يُرجم بالتي لا يراها الناس، ثم نقل عن أبي علي: أن الكواكب أنفسها لا يُرجم بها؛ لأنها ثابتة، وإنما ينفصل عنها شهابٌ يحرق .... وهكذا في (ق 40/ ب) نقلٌ طويلٌ من كتاب "آكام المرجان" للشبلي. وهو يكتبُ بخطِّه الفارسي الدقيق بمدادٍ أحمر عناوين جانبية مختصرة لبعض الفوائد والمسائل (ق 5/ ب، 27/ ب، 38/ ب، 45/ ب، 48/ ب، 51/ ب، 65/ أ، ... ). ويضع خطًّا بالقلم نفسه فوق بدايات المقاطع والوجوه ونحوها، وفي بعض المواضع يضع فواصل بين الجمل، وربما وضع في آخر البيت نقاطًا [ثلاثًا] كالأثافي.

(المقدمة/53)


وعلَّق قارئ ثانٍ في طرة (ق 44/ أ) حين نقل المصنف سنة وفاة سعيد بن المسيب حاشيةً في الأقوال المذكورة في سنة وفاته. وعلَّق ثالثٌ في (ق 141/ أ) بما شاهده من حال الخفاش ليلًا، وأكله الثمار. وهو تعليقٌ طريف، وقد نقلته في موضعه. وكتب العنوان على لوحة الكتاب: "كتاب مفتاح دار السعادة، تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بركة الأنام قدوة السلف طراز الخلف أحد أركان التفسير البحر الغزير، أبي عبد الله محمد بن الشيخ الصالح الزاهد أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم الجوزية، رحمه الله تعالى ورضي عنه وجعل الجنة مثواه، آمين". وتحته كتب أحدهم: "الحمد لله وحده، رحم الله مصنفه، لقد أجاد، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد صنف كتابًا ما سبقه إليه أحدٌ قبله، ولا يدركه أحدٌ بعده". وأسفل منه عن يساره كتب: "مرحوم طاش كوبري زاده". وتحته كلمة لم أقرأها. ولا أدري أهذا خطُّه أم لا؟ وعن يمينه قيد مطالعةٍ للكتاب بخطٍّ مزخرف سنة 880. وعن يساره أسفل الصفحة قيدٌ آخر، أوله: "نظر فيه داعيًا لمالكه ومثنيًا على مصنفه ... ". وفوقه قيد مطالعةٍ آخر. وفي يسار الصفحة في أعلاها ثلاثة تملُّكاتٍ للنسخة. وفي أسفلها من جهة اليمين ختمٌ قديمٌ لم أستطع قراءة نصه.

(المقدمة/54)


أما ختم مكتبة داماد إبراهيم باشا، ففي مواضع من طرر النسخة (ق: 3/أ، 11/ أ، 21/ أ، 31/ أ، 41/ أ، ... )، وفي (ق 159/ أ، 257/ أ) ختمٌ آخر للمكتبة أكبر حجمًا، وظهر لي من كلماته: " ... الصدر الأفخم إبراهيم باشا يسر الله له ... الوزير لحضرة السلطان الغازي أحمد خان خلدت خلافته ... ". أما خاتمة النسخة، فتحت خاتمة ابن بردس: "طالعه وانتخب منه إسماعيل الزرعي، عفا الله عنه وعن مالكه والمسلمين، آمين". وكتب في (ق 28/ ب) قيد مطالعةٍ باسمه. وتحته: "قرأه العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير: عثمان بن علي بن حميد عفا الله عنه، وكتب بتاريخ رابع عشر شهر صفر ... في مقام الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام، بقلعة بعلبك المنصورة، وهو يسأل الله عز وجل ويتوسل بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (1) أن يأخذ حقه ممن ظلمه قريب غير بعيد، إنه على ما يشاء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير". ثم بعدها ثلاث صفحات كتب فيها دعاء الفرج والدعاء عند الكرب وعند الهم والحزن وغيرها. وفي آخر الصفحة الثالثة قيد مطالعةٍ نصُّه: "طالع في هذا الكتاب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد بن محمد الحلبي عفا الله عنه وعن جميع المسلمين". _________ (1) ليس هذا التوسلُ بالمشروع في أصحِّ قولي العلماء.

(المقدمة/55)


2 - نسخة مكتبة الأوقاف العراقية (ق) (1): وهي نسخةٌ جليلةٌ تامة، كتبت سنة 841، بعد أن كتب المصنف كتابه بنحو مئة سنة، وقوبلت على نسخته التي بخطه، ثم طوفت في البلدان ليستقر بها النوى في بلاد الرافدين، وتحتفظ بها مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (5994). وناسخها هو أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل الصعيدي المكي الحنبلي، ولد بمكة قبل سنة 810، ونشأ بها، ثم نزل دمشق، وتفقه هناك وتزوج، ونظم الشعر، ومات بها وهو شابٌّ في الطاعون سنة 841، وهي السنة التي نسخ فيها الكتاب (2). وخطه نسخيٌّ واضح، يضبط أحيانًا بعض الكلمات، ويغلُظ خطُّه في مواضع ويدقُّ في أخرى بحسب القلم الذي يكتب به. تقع في 250 ورقة، وفي الصفحة 27 سطرًا، في السطر نحو 20 كلمة. وفي خاتمتها: "نجز الكتاب المسمى بمفتاح دار السعادة، وهو كتابٌ نفيس، لا يملُّه الجليس، وفيه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد ما لا يوجد ذلك في سواه، وفيه من البحوث ما يستقصي كلَّ علم إلى منتهاه، واسمه مطابقٌ لمسمَّاه، ولفظه موافقٌ لمعناه؛ فإن فيه من الإفادة ما يحدو إلى دار السعادة. وذلك على يد أفقر خلق الله إليه، المتوكل في جميع أحواله عليه، _________ (1) صوَّرها من العراق قبيل غزوه الأخ الكريم د. ماهر الفحل جزاه الله خيرًا. (2) ترجمته في "الضوء اللامع" (2/ 71)، و"السحب الوابلة" (1/ 220)، وفي حاشية الثاني مصادر أخرى.

(المقدمة/56)


والمعترف بالخطأ والزلل، والمسيء في القول والعمل: أحمد بن محمد بالصعيديِّ يُعرَف، المكي، الحنبلي، عفا الله عنه، وكان تمام ذلك في الثاني والعشرين من شهر الله المحرَّم شهر رجب المكرَّم عام أحد وأربعين وثمان مئة من الهجرة النبوية، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وفي طرة الخاتمة بخطٍّ غير معجم: "بلغ مقابلة بحسب الطاقة، ولله الحمد والمنة". ثم تحته بخطٍّ أوضح معجم الحروف: "بلغ مقابلةً وتصحيحًا على نسخة بخط مؤلفه بحسب الجهد والطاقة". والظاهر أن كليهما خط الناسخ، قابل النسخة أول مرة على أصلها الذي انتسخها منه، ثم وقف على نسخة المصنف فقابل الكتاب بها مرة أخرى (1). وآثار المقابلة باديةٌ على صفحات النسخة، فالتصحيحات المختومة بـ (صح)، واللحق واستدراك السقط، لا تكاد تخلو منها ورقة. ومن ذلك: أنه في (ق: 3/ ب) وجد بياضًا في موضعٍ من الأصل الذي ينقل منه، فقدَّر أنه بضع كلمات، فترك له فراغًا بقدر ذلك، وكتب في الطرة: "بياض"، ثم حين قابل نسخته بنسخة المصنف إذا الساقط أكثر مما قدَّر، فاستدركه في موضعه بخطٍّ دقيق وأكمل الباقي في الطرة. _________ (1) وربما تكون المقابلة من غيره، إذا نظرنا إلى أنه انتهى منه في آخر رجب، ومات في رمضان أو ذي القعدة؛ لأن الطاعون بدأ في الشام في شهر رجب واشتد في رمضان، فمقابلته مرة، ثم يحصل على نسخة المؤلف ويقابله أخرى، كل ذلك في نحو شهرين أو ثلاثة قد يُستبعَد، والله أعلم. (علي العمران).

(المقدمة/57)


وكان يعتني بكتابة بلاغات المقابلة في الطرر، كما في (ق: 4/ أ، 6/ ب، 14/ ب، 15/ ب، 25/ أ، 28/ أ، 29/ أ، 36/ أ)، ثم انقطع عن كتابتها حتى (ق: 167/ ب)، فهل قابل ما بين ذلك في جلسة واحدة؟، ثم لم يكتبها بعد إلا مرتين (ق: 200/ ب، 241). ومن مظاهر عنايته: أنه يعيد ما لم يجوِّد كتابته في المتن بحذائه في الطرة، وفوقه كلمة "بيان"، كما في (ق: 4/ ب، 18/ ب، 31/ أ، 34/ ب، 37/ ب) وهكذا إلى آخر الكتاب. وما يخطئ فيه يضرب عليه ضربًا رفيقًا. ويجتهد في رسم الكلمات المشكلة كما وقعت في الأصل الذي ينقل عنه، فلا تتحرر قراءتها، ويبقى الرسم محتملًا لقراءات أخرى، كما صنع ابن بردس، إلا أن الثاني أدقُّ في الرسم وأكثر اجتهادًا. ويجتهد أحيانًا فيقرؤها على خلاف الصواب. وانتقل نظره في مواضع قليلة، فسقطت عليه بعض الجمل، وفاته استدراكها في المقابلة. ويستشكل أحيانًا بعض الكلمات، فيكتبها في الطرة بحذاء موضعها، وفوقها: "كذا". ومن عوائده: أنه يضع خطًّا فوق بدايات الفصول ونحوها مما يريد تنبيه القارئ إليه (1)، كما أنه يكتب تلك الكلمات بخط أغلظ، ويكتب بخطٍّ دقيقٍ _________ (1) وضع الخط فوق ما يراد تنبيه القارئ إليه هو ما جرى عليه عمل أهل العلم ونساخ الكتب والمصاحف، أما وضعها تحته فمن محدثات المستشرقين.

(المقدمة/58)


في الطرة: "فصل" أمام مواضعها في الكتاب. وربما نبَّه أحيانًا على بعض المواضع المهمة، كما في فعل في (ق: 22/ ب) حين كتب في الطرة بحذاء ذكر المصنف لاسم الكتاب: "قف على تسمية الكتاب". ومن عنايته: كتابته للكلمة الأولى من الورقة في ذيل الورقة التي قبلها تحت آخر سطر فيها، لئلَّا يضطرب ترتيب الأوراق، وهو ما يسميه النساخ بالتعقيبات (1). ويشبه أن تكون هذه النسخة منقولة من نسخة ابن بردس (د)، ثم قوبلت على نسخة المصنف، فانظر كيف كتب الناسخ الخاتمة الأخيرة التي كتبها ابن بردس لنسخة (د) بحروفها، وإنما وضع اسمه موضع اسمه وتاريخ نسخه موضع تاريخه، ولم يقع ذلك في نسختي (ت) و (ي)، أما الخاتمة التي فيها الثناء على الكتاب فالأقرب أنها من أصل المصنف كما تقدم، ثم تأمل اشتراكهما في التصحيح والاستدراك لكثيرٍ من اللحق في مواضعه، وتأمل تأثر ناسخ (ق) بقراءات ابن بردس لكثير من الكلمات المشكلة، بخلاف ناسخ (ت)، وأضف إلى ذلك تقدم تاريخ نسخة (د)، وتقارب داريهما. وعلى النسخة تملكاتٌ عديدة: فأقدمها على الصفحة الأولى تحت عنوان الكتاب: "في نوبة الفقير أحمد خورسجي (كذا) أرنوط (لعلها: أرنؤوط) سنة 1191". _________ (1) انظر: "المخطوط العربي" لعبد الستار الحلوجي (167).

(المقدمة/59)


وتحته تملكٌ آخر لم يذكر تاريخه: "في نوبة مالكه السيد الحاج حافظ محمد صادق ... (كلمة لم أقرأها)، بثغر دمياط، عفي عنه وغفر له ولوالديه". وعلى يسار الصفحة نصٌّ مضروبٌ عليه ضربًا شديدًا، لعله رهنٌ ضرب عليه بعد أن افتكَّه صاحبه، كما يقع أحيانًا. ثم رحلت النسخة إلى بغداد العراق، لتدخل بيت الآلوسيين (1)، فنرى أول دخولها سنة 1260 في التملك التالي أسفل الصفحة الأولى: "آل إلى نوبة أفقر العباد إليه عز شأنه: آلوسي (2) زاده شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد (3) (ثلاث كلمات لم أتبينهن) عفي عنهما، وذلك بالشِّرى الشرعي في 27 جمادى سنة 1260". وتحته خاتمه: "السيد محمود". ثم انتقلت بالإرث إلى ابنه نعمان (4)، فكتب بجوار تملك أبيه، بعد 22 _________ (1) انظر لهذا البيت: "تاريخ الأسر العلمية في بغداد" للراوي (181 ــ 236). (2) كذا مضبوطة مجودة في الأصل بمَدَّة على الألف في جميع مواضع ذكرها في هذه التقييدات. وهو المشهور المعروف. انظر: "الأعلام" (1/ 25)، و"محمود شكري الآلوسي وآراؤه اللغوية" لمحمد بهجة الأثري. (3) وهو الآلوسي الكبير، شهاب الدين محمود بن عبد الله، العلامة المفسِّر، تقلد الإفتاء ببغداد سنة 1248، ثم عزل، (ت: 1270). انظر: "الأعلام" (7/ 176)، وفي حاشيته مصادر ترجمته. وقد أفاد من "المفتاح" في كتبه، كما مر في مبحث نسبة الكتاب. (4) أبو البركات، خير الدين، باحث فقيه، من أعلام هذه الأسرة (ت: 1317). انظر ترجمته في "الأعلام" (8/ 42). وأشهر كتبه: "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" ابن تيمية وابن حجر الهيتمي، وقد أفاد من "المفتاح" في كتبه، كما سلف.

(المقدمة/60)


سنة: "ثم وصل إلى ولده الفقير إليه عزَّ شأنه السيد نعمان خير الدين غفر لهما، سنة 1282". وتحته خاتمه: "خير الدين السيد نعمان". وكان نعمان قد كتب تملكه للنسخة في آخرها بعد وفاة والده بسنةٍ واحدة: "للفقير إليه سبحانه وتعالى السيد نعمان بن المبرور (1) السيد محمود أفندي المفتي ببغداد، ابن المرحوم السيد عبد الله أفندي مدرس الأعظمية، الشهير بآلوسي زاده، غُفِر لهم، سنة 1271". ثم ختم المكتبة النعمانية. ثم أوقفها نعمان على ذريته، فكتب على ظهر غلافها الخارجي: "هذا الكتاب موقوفٌ على ذريتي حسب الكتب الموقوفة الحاكم بصحة وقفها حاكم من قضات (2) المسلمين، المختومة بختمه، وهو كتابٌ جليل ليس له في بابه مثيل. الفقير السيد نعمان غفر له". وختم المكتبة النعمانية مبثوثٌ في مواضع من النسخة، على صفحة العنوان، و (ق: 116/ ب، 122/ ب، 151/ ب)، وفي خاتمتها. ونصُّه: "وقف المكتبة النعمانية في المدرسة المرجانية ببغداد" (3). _________ (1) ووصفه بذلك في إجازته لولده (28). (2) كذا كتب التاء مفتوحة. (3) وتقع المدرسة عند مدخل سوق الشورجة بشارع الرشيد ببغداد، بناها أمين الدين مرجان سنة 751، ودرَّس بها أبو الثناء الآلوسي ونعمان الآلوسي وغيرهما من آل الآلوسيين وسواهم، وأقيم موضعها اليوم جامع مرجان، وبقيت من آثارها بقية. وضمت المكتبة النعمانية إلى مكتبة الأوقاف العامة ببغداد سنة 1347.

(المقدمة/61)


وللآلوسي الكبير شهاب الدين تعليقٌ في (ق: 115/ ب) بخطه الفارسي الأنيق، عن الجراد وأنه نثرة حوت، وقد نقلته في موضعه. كما كتب في الطرر بعض العناوين لمهم المسائل، كما في (ق: 116/ ب، 152/ ب). أما نعمان، فله تعليقاتٌ موجزة، أثبتنا المهمَّ منها في مواضعها، ومما لم نثبته لظهوره تعليقه على قول المصنف في (ق 144/ ب): "وهذا اختيار شيخنا" بقوله: "هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدِّس سره"، وأشباه هذا. وكتب في طررها عناوين مختصرة للمباحث، وله عنايةٌ بما يتعلق بالشيعة، فمن ذلك كتب في (ق 68/ أ) عنوانًا في الطرة: "في تكذيب من يقول باختفاء المهدي"، وفي (ق 246/ أ) تعليقٌ عن تشاؤم الرافضة بالعطسة الواحدة، وقد أثبتناه في موضعه. وهو يكتب كلمة "شعر" أحيانًا أمام ما يورده المصنف من الشعر، ويعيد كتابة "فصل" في الطرة حيث وردت بخطٍّ كبير محبَّر. ولأحد القراء تعليقاتٌ على بعض المواضع، منها قوله عند فصل: حاجة الناس إلى الشريعة (ق 137/ ب): "هذا ابتداء النصف الثاني من الكتاب"، وسيأتي التعليق على هذا في وصف النسخة (ح). ومنها تعريفه بالرازي والآمدي عند ذكر المصنف لهما في (ق 147/ ب). وله عناوين مختصرة لبعض المباحث (ق 151/ أ، 157/ ب، 160/ أ، 161/ أ). ورسمت في أواخر النسخة (ق 200/ ب، 207/ ب، 208/ ب، 215/ ب) نجمةٌ خماسية في طرر بعض المواضع، تنبيهًا، ولم يتبين لي

(المقدمة/62)


صاحبها، ويغلب على ظني حداثتها. وكتب عنوان الكتاب في هذه النسخة على الصفحة الأولى: "كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة". وتحته: "تأليف الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته بمنه وكرمه. آمين". وفوق كلمة "دار السعادة" بالقلم نفسه: يعني دار الآخرة. وفي وسط الصفحة كتب نعمان الآلوسي: "قال المؤلف عليه الرحمة في فصل التأمل في الفلك الدوار من كتابه هذا: والمقصود تنبيه القلب من رقدته بالإشارة إلى شيء من بعض آيات الله، ولو ذهبنا نتتبع ذلك لنفد الزمان ولم نحط بتفصيل واحدة من آياته على التمام، ولكن ما لا يدرك جملة لا يترك جملة، وأحسن ما أنفقت فيه الأنفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه، والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته، فلذلك عقدنا هذه الكتاب على هذين الأصلين، إذ هما أفضل ما يكتسبه العبد في هذه الدار". وعن نسخةٍ منقولةٍ من هذه النسخة، عليها علامة المقابلة بخط محمود شكري الآلوسي (ت: 1342) (1)، ونسخةٍ أخرى من تركيا، طُبِع الكتاب في مصر طبعته الأولى سنة 1323 بمطبعة السعادة. 3 - نسخة مكتبة أحمد الثالث (ت): وهي نسخةٌ تامة، مكتوبة سنة 889، بخطٍّ نسخيٍّ واضح قليل الضبط، _________ (1) وهي نسخة المكتبة القادرية الآتي ذكرها.

(المقدمة/63)


وتقع في 309 أوراق، في الصفحة 25 سطرًا، وفي السطر نحو 20 كلمة. وأصلها محفوظٌ بمكتبة أحمد الثالث، ضمن متحف طوبقبو سراي بتركيا، برقم (1/ 1372. أ. 5141). وناسخها: أحمد بن محمد المنذري، ولم أجد له ترجمة. وفي نهايتها: "تم الكتاب المسمى بمفتاح دار السعادة، وهو كتابٌ نفيس لا يمله الجليس (إلى آخر النص الوارد في النسختين السابقتين)، على يد كاتبه أضعف عباد الله وأحوجهم إلى عفوه ومغفرته: أحمد بن محمد المنذري (1) غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالتوبة والمغفرة ... ، بتاريخ الثالث من شهر جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وثمان مئة أحسن الله عاقبتها بمحمد وآله وصحبه وسلم (2)، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه الطيبين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين". وفي هذه النسخة صوابٌ كثير، وتحريفٌ غير قليل وسقط، وأتت على الصواب في مواضع قليلة عزَّ فيها الصواب في سائر النسخ، وتفردت باستدراك بعض السقط في مواضع، وتقع للناسخ تحريفاتٌ طريفةٌ ينفردُ بها قيَّدتُ بعضها في الحواشي، ولا ريب أنها منسوخةٌ عن أصلٍ مختلف عن النسختين السالفتين (د) و (ق). وفي طررها تصحيحاتٌ مختومة بـ (صح)، واستدراكٌ للسقط، بما يدلُّ _________ (1) كتبت في الأصل بنقطة واحدة، والناسخ يهمل النقط أحيانًا. (2) كذا في الأصل، وهو توسلٌ غير مشروع، وإضافة "وسلم" في آخر الجملة ذهولٌ طريف.

(المقدمة/64)


على مقابلتها وإن لم ينصَّ على المقابلة. فمن مواضع التصحيح: (ق 4/ أ، 6/ ب، 21/ ب، 28/ أ، 33/ أ، 34/ أ، 42/ ب، ... ). ومن مواضع اللحق واستدراك السقط: (ق 6/ أ، 12/ أ، 19/ أ، 45/ ب، 49/ ب، ... ). ومن شأن الناسخ أنه يضرب على ما أخطأ فيه بخطٍّ واحد، فيظهر المضروب عليه بجلاء، وربما علَّق في الطرة بإبداء احتمالٍ آخر للقراءة، فيقول: "لعله كذا"، كما في (ق 74/ أ، 174/ ب، 177/ ب)، ولعله من الأصل الذي ينقل عنه. ويضبط أحيانًا بعض الكلمات على غير هدى، فمن ذلك في (ق 6/ أ): "وهو أنه أمَرَّ فيها بمعصية ربه"، كذا ضبط الفعل، وهو خطأ، وصوابه: "أُمِرَ" لما لم يسمَّ فاعله. وفي (ق 16/ أ): "كانوا بجبال المسرَّاة المشرفة ... "، فلم يقنع بإضافة الميم حتى شدَّد الراء!، وإنما هي "الشراة". وهو يرسم بعض الكلمات على طريقة المتقدمين (سفين= سفيان). وكعادة بعض النساخ يقحم كلمة "شعر" قبل ما يسوقه المصنف من الشعر. ويميِّز الفصول والأوجه وأمثالها بخطٍّ أكبر، وربما وضع فوقها خطًّا أحيانًا، وهو يكتبها في معظم أحواله بالحمرة، فلذا لم تظهر جيدًا في التصوير في بعض المواضع. وأقحمت ورقتان طيارتان في الكتاب من غيره، فذهبت ببعض النص

(المقدمة/65)


عند التصوير (ق 179/ أ، ب). وكتب العنوان على لوحة الكتاب داخل مستطيل: "كتاب مفتاح دار السعادة للشيخ العالم العلامة الإمام الرباني والعالم ... شمس الدين محمد أبي عبد الله الشهير بابن قيم الجوزية". وفي أعلى الصفحة كتب مفهرس المكتبة: تصوف. وإلى يسار المستطيل ختم المكتبة وتوقيع قيِّمها. وليس على النسخة تملكاتٌ أو تقييدات. 4 - نسخة حائل (ح): وهي نسخة متأخرة، وناقصة، تمثل نصف الكتاب تقريبًا، وتقع في 207 أوراق، في الصفحة 25 سطرًا، في السطر نحو 14 كلمة. بخط نسخي واضح. وأصلها من مكتبة الشيخ علي بن يعقوب، وهي من محفوظات مكتبة المعهد العلمي بحائل، برقم (45). وقد آلت أخيرًا إلى دارة الملك عبد العزيز بالرياض. وتاريخ نسخها: يوم الأربعاء لثلاث مضين من محرم سنة 1321. وناسخها هو عبد العزيز بن عثمان بن ركبان. ويبدو أنه نسخ الكتاب لغيره، فقد كتب في خاتمة النسخة بعد اسمه: "غفر الله ولوالديه ومشايخه ومن استكتبه وطالع فيه". وقد قوبلت بنسخة أخرى سوى الأصل الذي انتُسِخَت منه، وآثار ذلك

(المقدمة/66)


ظاهرةٌ في استدراك السقط والتصحيحات المنتشرة على طررها المختومة بـ (صح)، وفي الإشارات إلى قراءات النسخة الأخرى التي رمز لها بـ (خ)، وفي بلاغات المقابلة كما في طرة (ق 74/ أ). وكتب في طرة خاتمتها: "بلغ مقابلة على أصله، فصحَّ، اللهم إلا ما زاغ عنه البصر أو طغى القلم فيه". والظاهر أن أصلها قد جالت فيه يد الإصلاح والتغيير والاقتراح في كثير من المواضع، وهو بلا ريب غير أصل النسخ (د، ق، ت)، ويشترك معها غالبًا في التحريف الناشئ عن اشتباه الرسم، ويزيد عليها تحريفًا وسقطًا. وهذه النسخة تتفق كثيرًا مع النسخة النجدية (ن) في الخطأ والصواب، والغالب أنهما يرجعان إلى أصل واحد. وربما أبدى الناسخ في بعض الأحايين احتمالًا لقراءة أخرى في الطرة ويصدر ذلك بقوله: "لعله"، أصاب في بعضها، وأخطأ في أكثرها، ونبهت عليها في مواضعها. وما لم يحرر كتابته في المتن وضع فوقه حرف (ن)، وأعاده في الحاشية محرَّرًا وفوقه كلمة: "بيان" أو حرف (ن). وربما علق في طرة النسخة بنقلٍ متعلِّقٍ بالبحث، أو باستدراكٍ على المصنف، أو بالتنبيه على احتمال وقوع سقط، في مواضع قليلة، وقد أشرت إلى ذلك في حواشي الكتاب. وهو يكتب الفصول وبدايات المقاطع بحرف أغلظ ويميزها بخطٍّ فوقها. ونادرًا ما يضع عناوين في الطرر لمهم المسائل والأقوال.

(المقدمة/67)


وفي آخر النسخة: "تمَّ، ويتلوه إن شاء الله في الجزء الثاني: فصل حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية ... ". فإن كان أراد بالجزء الثاني ما بقي من الكتاب فذاك، وهي تجزئةٌ حادثةٌ لم تقع في الأصول العتيقة، وإن كان توهم أن الباقي هو القسم الثاني الذي أشار إليه المصنف في المقدمة فقد علمتَ أنه ليس كذلك. وكتب على الورقة الأولى عنوان الكتاب على هيئة هرم مقلوب: "كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية". وعلى يساره: "رفع الله منزلته في غرف الجنان العلية، آمين يا رب العالمين". وعلى يمينه: "وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب". 5 - النسخة النجدية (ن): وهي ناقصة كسابقتها، وتنتهي بنهايتها، إلا أنها أقدم منها نسخًا. وأصلها من المكتبة العامة بشقراء، والآن بمكتبة الملك فهد بالرياض برقم (195/ 86). وتقع في 260 ورقة، في الصفحة 18 سطرًا، وفي السطر نحو 12 كلمة. بخط نسخي مقروء. وفي صدر صفحة العنوان: "الجزء الأول من كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، تصنيف الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الصالح أبي بكر المعروف بقيم

(المقدمة/68)


الجوزية، رضي الله عنه وأرضاه وجعل الفردوس مثواه، آمين". وحوالي ذلك كتب الناسخ: "وهذا الكتاب في ملك الفقير إلى ربه، عبده وابن عبده، ومن لا غناء له عنه طرفة عين: حمد بن علي بن سلوم الغنامي غفر الله له ولوالديه (كذا قرأتها) منهم المسلمين (كذا!) وإخوتنا ومشايخنا وكل من عمل بالتوحيد وجاهد من أشرك بالله. كتبته بيدي الفانية، وأرجو من الله النجاة، إنه جواد كريم رؤوف رحيم وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا، سنة 1161". كذا قرأت التاريخ، وفيه اشتباه. وحوله كتب بعض أسامي مصنفات ابن القيم. ومنها: "مفتاح دار السعادة في جزئين"، وقد سلف القول في هذه التجزئة. وفي يسار الصفحة نص وقفية لم يتضح اسم مُوقِفها. والنسخة مقابلة، وعلى طررها بلاغات المقابلة، وتصحيحاتٌ واستدراكاتٌ للسقط، وإشاراتٌ لقراءات نسخة أخرى رمز لها بـ (خ). وفي طرة الخاتمة: "بلغ مقابلة حسب الطاقة 6 ذي الحجة سنة 1296". وفي آخرها: "يتلوه إن شاء الله في الجزء الثاني: فصل حاجة الناس على الشريعة ضرورية ... ". وهي أصح من النسخة (ح)، وإن كانت تتفق معها كثيرًا كما تقدم، والتحريف والسقط فيهما غير قليل.

(المقدمة/69)


6 - نسخة مكتبة أيا صوفيا (ي): وهي نسخةٌ خزائنية، كتبت سنة 786، في 328 ورقة، بخطٍّ نسخيٍّ جميل، لكنه كثير التحريف. وأصلها في مكتبة أيا صوفيا بتركيا، برقم (2085). وأسفل صفحة العنوان: "قد وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم والخاقان المعظَّم ... : السلطان بن السلطان الغازي محمود خان وقفًا صحيحًا شرعيًّا لمن طالع واسترشد، ... حرَّره الفقير أحمد شيخ زاده المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين ... ". ولم يذكر اسم ناسخها، وأشك في تاريخ النسخ المذكور في خاتمة النسخة، ولعله منقولٌ من الأصل الذي نقلت عنه. وليس عليها ما يدل على مقابلتها بأصلها أو بغيره، سوى تصحيحات متناثرة في طررها، ولعلها استدركت أثناء النسخ، أو لعلها كذلك في الأصل المنقول عنه. ولذلك لم أثبت قراءاتها وفروقها في حواشي التحقيق، وعدتُ إليها في المواضع المشكلة وانقلبتُ وما تنديتُ منها بشيء. 7 - نسخة المختصر (ص): واسم الكتاب، كما كتب على لوحة العنوان: "غاية المرام والإرادة المختار من مفتاح دار السعادة تأليف الإمام محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى ".

(المقدمة/70)


اختاره أحمد بن علوي بن حمزة الحنبلي (1)، سنة 818. وقال في مقدمته: "قال العبد المفتقر إلى رحمة ربه العلي أحمد بن علوي الحنبلي: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أطال الله في السعادة بقاءك، وكفاني الأسواء فيك، وجعلني منها فداءك، إني طالعتُ الكتاب المسمى بمفتاح دار السعادة للبحر الغزير محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، جلبب الله ثراه برضوانه، وأسكنه فسيح جنانه، وهو كتابٌ نفيس لا يمله الجليس، وفيه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد ما لا توجد في سواه، [و] من البحوث ما يستقصي كلَّ علم إلى منتهاه، واسمه مطابقٌ لمسمَّاه، ولفظه مطابقٌ لمعناه. فأحببت أن أجمع من فوائده، وألتقط من فرائده، فكتبت منه في هذه الأوراق ما عَذُبَ وراق، وسميته: غاية المرام والإرادة المختار من مفتاح دار السعادة". وعمله اختيارٌ وانتخاب، وإنما أسميته اختصارًا تجوزًا. والنسخة التي بين يدي منقولةٌ عن نسخة المؤلف، كتبها محمود بن محمد بن إبراهيم الحنبلي سنة 871. _________ (1) لم أجد له ترجمة. ومقدمته تدل على فضله واشتغاله، ومما وصلنا بخطه نسخة من كتاب "العاقبة" لعبد الحق الإشبيلي، في المكتبة الأزهرية، منسوخة سنة 815. وأخرى من "عجالة المحتاج" لابن الملقن، بالمكتبة المركزية (محمود الثاني) بنيقوسيا. وقصيدة في مدح ابن تيمية، بالمكتبة المركزية بجامعة أم القرى.

(المقدمة/71)


من محفوظات مكتبة برنستون برقم (644). وكتب في خاتمتها: "تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وهو كتابٌ نفيس لا يمله الجليس (إلى آخر النص المتقدم)، على يد كاتبه أضعف عباد الله وأحوجهم إلى رحمة ربه العلي محمود بن محمد بن إبراهيم الحنبلي، غفر الله له ولوالديه ولمن قرأه أو كتبه أو نظر فيه ودعا لهم بالرحمة والمغفرة ولجميع المسلمين، ووافق الفراغ من كتابته في سابع شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وثمان مئة أحسن الله عاقبتها في خير، ونُسِخ من نسخةٍ بخطِّ مصنفه رحمه الله تعالى مؤرخة في ثاني عشر من شهر رجب الفرد سنة ثمان عشرة وثمان مئة، وهو أحمد بن علوي بن حمزة الحنبلي، كذا وُجِد رحمه الله". وفي طررها تعليقاتٌ قليلة لم أتبين صاحبها, فمن ذلك في (ق 86/ ب) عند كلام ابن القيم عن بطلان حديث "لو أحسن أحدكم الظن في حجر لنفعه", كتب في الطرة: "مهمَّة. لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه, كلام لا أصل له, مع أني سمعت ذلك من بعض شيوخنا, كالرملي عن الشيخ زكريا, وأنه كان يقول: الاعتقاد صبغة, والانتقاد حرمان. وظاهر كلام المصنف أن ذلك كلامٌ باطل. فتأمل". وهي نسخةٌ جيدةٌ، قليلة التحريف، سوى المواضع المشكلة في الرسم، كسائر الأصول الأخرى. وقد استعنتُ بها في النصف الثاني من الكتاب حيث انتهت النسختان (ح) و (ن).

(المقدمة/72)


* أما الأصول التي لم أعتمد عليها، فهي (1): 1 - نسخة مكتبة أحمد الثالث، ضمن متحف طوبقبو سراي، برقم (544)، في 200 ورقة، كتبت سنة 1210 (2). 2 - نسخة المكتبة المحمودية، في مجلد واحد، بخط نسخي، في 450 ورقة، بلا تاريخ نسخ، ومخرومة من آخرها، ومقاسها (31 × 22) (3). 3 - نسخة المكتبة القادرية بالموصل، برقم (1427/ 1)، وتقع في 187 ورقة، كتبت سنة 1303، بخط محمد بن علي بن الملا الحنفي البغدادي. وهي منقولةٌ عن نسخة مكتبة الأوقاف السابقة، وعليها خط محمود شكري الآلوسي (ت: 1342)، وعنها طبع الكتاب طبعته الأولى بمطبعة السعادة. 4 - نسخة المكتبة الخالدية بالقدس، برقم [29 (1)]. 5 - نسخة مكتبة الرياض، وهي الآن في مكتبة الملك فهد الوطنية، برقم (407/ 86)، في 220 ورقة، كتبها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، سنة 1310. وهي _________ (1) استفدت بيانات النسختين (3، 4) من الثبت الذي صنعه أخي الشيخ البحاثة محمد عزير شمس لمؤلفات ابن القيم، ولم يطبع بعد. وفي "خزانة التراث" الصادرة عن مركز الملك فيصل إشارةٌ إلى نسخة للكتاب في المكتبة الأزهرية برقم (489)، وإنما هي مطبوعة السعادة، كما في فهرس المكتبة (3/ 743). (2) "معجم المخطوطات الموجودة في مكتبات استانبول وآناطولي" (1102). (3) "فهرس المحمودية" (75).

(المقدمة/73)


تمثل نصف الكتاب، كالنسختين (ح) و (ن). 6 - نسخة دارة الملك عبد العزيز، بالرياض، برقم (المنيع/ 2) في 136 ورقة، منسوخة سنة 1311، بيد زيد بن عبد الله الناصر، الجزء الأول منه، ينتهي بقوله: "ولكن الله يطلع من شاء من خلقه على من شاء منه، فاعتصم بالله ثم بهذا الأصل"، كالنسخة السابقة. 7 - نسخة دارة الملك عبد العزيز، بالرياض، برقم (السلمان/ 1) في 177 ورقة، منسوخة سنة 1312، بيد عبد الله بن عبد الرحمن بن سلمان، الجزء الأول منه، ينتهي كنهاية النسخ السابقة. * أما ما نُسِب في بعض الفهارس ضِلَّة، فهو: 1 - نسخة مكتبة الأوقاف العامة، ببغداد، برقم (7054)، وأصلها من المكتبة النعمانية. وكتب الناسخ عنوانها هكذا: "كتاب سفر السعادة للإمام ... العلامة ابن قيم الجوزية تغمده الله برحمته آمين". وكتب أحدهم على غلافها الخارجي: "مفتاح دار السعادة للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو في بابه فريد". وإنما هي نسخةٌ متأخرةٌ لكتاب "سفر السعادة" للفيروزابادي. وكتب نعمان الآلوسي أسفل صفحة العنوان: "للفقير نعمان مفتي زاده الآلوسي البغدادي 25 جمادى سنة 1299"، وفوقه بخطٍّ يشبه خطَّه: "الظاهر أنه لصاحب القاموس". وتحته ختم المكتبة النعمانية. 2 - نسخة مكتبة أحمد الثالث، ضمن متحف طوبقبو سراي بتركيا، برقم (2/ 1372. أ. 5141).

(المقدمة/74)


والموجود بهذا الرقم في المكتبة إنما هو كتاب "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" لطاش كبري زاده، وقد تأكدنا من ذلك مرتين، مع أن المفهرس وصفها بأنها مكتوبة سنة 775، وأنها تقع في 275 ورقة، وتبدأ بقوله: "فصل: وفي هذه الآلات مآرب أخرى ... ". فيشبه أن تكون هذه القطعة أعطيت رقمًا جديدًا لم نهتد إليه. [ومن نسخ المفتاح التي لم تصلنا: نسخة أوقفها يوسف بن عبد الهادي فيما أوقف من كتبه. انظر: فهرست كتبه الموقوفة (ق 8/و)]. * * *

(المقدمة/75)


 طبعات الكتاب ومختصراته

* طبعات الكتاب: طبع الكتاب أول مرة بمطبعة السعادة في القاهرة سنة 1323, عن نسختين خطيتين: بعث بالأولى من العراق الشيخ محمود شكري الآلوسي, وعليها علامة المقابلة بخطه, وهي نسخة المكتبة القادرية بالموصل المكتوبة سنة 1303 المنقولة عن نسخة مكتبة الأوقاف, والثانية من دار السعادة العلية (إصطنبول) ولم يذكر تاريخ نسخها ومن أي مكتباتها. وفي هذه الطبعة تحريفٌ كثير وسقطٌ في مواضع عديدة. ثم توالت طبعات الكتاب معتمدة على تلك الطبعة وما نُشِر عنها بعجرها وبجرها, دون معارضته على أصوله الخطية العتيقة, ومقابلة نقوله على مصادرها, وتقويم ما تحرَّف من نصوصه, وخدمته على النهج العلمي في نشر النصوص. ومن تلك الطبعات: - طبعة مكتبة محمد علي صبيح. - طبعة مكتبة الأزهر, تصحيح محمود ربيع. - طبعة مكتبة الرياض الحديثة. - طبعة دار الجيل, تحقيق عصام الحرستاني وحسان عبد المنان. - طبعة المكتبة العصرية, تحقيق الداني بن منير آل زهوي. - طبعة دار الحديث.

(المقدمة/76)


- طبعة دار الكتاب العربي, تحقيق محمد الإسكندراني. - طبعة دار ابن حزم. - طبعة دار الكتب العلمية. - طبعة دار الفكر. وكان من آخر طبعات الكتاب طبعتان: الأولى: طبعة دار ابن عفان, بتحقيق علي حسن الحلبي, واعتمد على طبعة السعادة أو ما نُشِر عنها, فجاءت كهي في التحريف والسقط, وأضاف إليها تحريفات جديدة وأغلاطًا في الضبط وتعليقات ليست من العلم في شيء, ولا أثر في عمله لما زعم أنه رجع إليه من النسخ الخطية على تأخر زمانها. والثانية: طبعة دار ابن خزيمة, بتحقيق عامر علي ياسين, واعتمد كذلك على المطبوعة، وقابل نصفها تقريبًا على قطعة خطية متأخرة من النسخ النجدية, واجتهد في التعليق على القضايا الطبية ونحوها بما استجد من علوم العصر, وحاول إصلاح ما استشكله من عبارات الكتاب, لكنه أسرف في التغيير والزيادة, وبقي السقط والتحريف على حاله في مواضع كثيرة. ولم تعتن الطبعتان بتوثيق النقول ومقابلتها, وتخريج النصوص سوى الأحاديث المرفوعة. وقد أفردتهما بكلمة ضربت فيها بعض المُثل لما أوجزت هنا (1). _________ (1) نشرت في "ملتقى أهل الحديث" و "الألوكة" على شبكة الانترنت.

(المقدمة/77)


* مختصرات الكتاب ومختاراته: - غاية المرام والإفادة المختار من مفتاح دار السعادة , اختاره أحمد بن علوي بن حمزة الحنبلي سنة 818 , وسبق وصف نسخته الخطية. - تنقيح الإفادة المنتقى من مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة لابن قيم الجوزية, بقلم سليم بن عيد الهلالي, مكتبة الصحابة, سنة 1414. - تأملات ابن القيم في الأنفس والآفاق من كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم, لأنس عبدالحميد القوز , دار الهدى للنشر والتوزيع, سنة 1413. - مزيل الإلباس عن معاني حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تصنيف الناس من شروح ابن القيم, ضبط وتخريج وتعليق خالد أبو صالح, دار المعراج الدولية للنشر،. سنة 1415. - العلم فضله وشرفه من درر كلام ابن قيم الجوزية, نسقه وضبط نصه وعلق عليه علي بن حسن الحلبي الأثري. سنة 1416. وهو مأخوذ من نشرته للمفتاح بلا تغيير. -[استخرج نصَّ رسالة أبي القاسم عيسى بن علي في الرد على المنجمين التي أوردها ابن القيم د. سحبان خليفات، ونشرها في مجلة مجمع اللغة الأردني, السنة 11, العدد 32، سنة 1407, واعتمد فيها على مطبوعة مكتبة الأزهر.] * * *

(المقدمة/78)


 منهج التحقيق

قرأتُ النصَّ على مُكث، وعارضتُه بالأصول الخطية التي وصفت، وأثبتُّ ما اتفقت عليه، وانتخبتُ عند اختلافها ما ظننته الصواب منها، وأثبتُّ في الحاشية المحتمل من القراءات الأخرى. أما أخطاء النساخ وأوهامهم وتحريفاتهم فاطَّرحتُها، حاشا ما رأيته قد أثبت منها في طبعات الكتاب السابقة، فأشرتُ إليه في الحاشية ونبهتُ على تحريفه، لئلَّا يغترَّ به أحد، فمن أحبَّ أن يقف على بعض تحريفات تلك الطبعات فليتتبع هذه المواضع. وقد قدمتُ إليك وصف الأصول، واستغلاق بعض المواضع على النسَّاخ لسرعة خط المصنف وتعليقه وقلة احتفاله بالإعجام إذا أسرع في الكتابة (1) , فرسموا أكثرها رسمًا (2) , واجتهد بعضهم فقرأ بعضها على غير الصواب؛ فما اجتمعت الأصول فيه على ما غلب على ظني أنه من خطأ _________ (1) انظر نموذجًا له فيما وصلنا من مسودته لكتاب "طريق الهجرتين" (ص: 79، 80، 81، 82 - مقدمة التحقيق). (2) وفي مثل هذا لا يسوغ أن أكتب بالحروف ما وقع في الأصل، فإن فعلتُ فقد أضللت القارئ، وأضعتُ مراد الناسخ؛ لأنه إنما قصد إلى رسم خط الأصل كما رآه لعجزه عن قراءته، ولو استطاع لكتبه بحروفٍ صحاح، فالرسم محتملٌ لأكثر من قراءة، ولا يغني في هذا إلا تصوير الكلمة ضوئيًّا، كما فعل عبد السلام هارون وغيره في بعض تحقيقاتهم، ولو كان الاعتماد على نسخةٍ واحدة لكان تجشُّم هذا متعيِّنًا، لكنها سبعٌ ثقال، فاكتفيتُ بوصف الكلمة في الحاشية بعدم التحرير.

(المقدمة/79)


النساخ تجاسرتُ فأصلحته في المتن وأشرتُ إلى ما في الأصول في الحاشية، وما احتمل من الصواب وجهًا وثمَّ ما هو أقومُ منه أبقيته في المتن على حاله وبينتُ في الحاشية ما أراه أدنى إلى الصواب، فقد عرضتُ لك في الحالين ــ كما ترى ــ ما وقع في الأصول الخطية، لتنظر لنفسك. وانتفعتُ غاية الانتفاع بمقابلة النصوص التي نقلها المصنف على مصادرها، فكشفَت عن وجه الصواب في مواضع كثيرة، وخلَّصت النص من غوائل التحريف، وأثبتُّ المهم من قراءاتها عند الاختلاف، ورمزتُ لبعضها برموز إن طال النقل، كما فعلتُ بكتاب "الدلائل والاعتبار", و"توحيد المفضل", و"المقابسات", وغيرها. وعالجتُ قراءة كثيرٍ من مشكل التراكيب والألفاظ والمصطلحات وغيرها بالمعهود من كلام المصنف في كتبه، وبكشف المظانِّ وغيرها من كتب أهل العلم. واستعنتُ بطبعة الكتاب الأولى الصادرة عن مطبعة السعادة بمصر سنة 1323، ورمزت لها بالحرف (ط)، إذ كانت معتمدةً على نسخة المكتبة القادرية (التي تقدم وصفها) ونسخةٍ تركية أخرى لم يفصحوا عن مصدرها، وأحسب أن من قام على طبعها أعمل قلم التصحيح فيها. وأشرتُ إشاراتٍ مختصرةً إلى ترجمة بعض الأعلام الذين قدَّرتُ أن في ترجمتهم إعانةً للقارئ على فهم النصِّ والإحاطة به، وهكذا صنعتُ في التعريف بالمواضع والبلدان. وخرَّجتُ الأحاديث المرفوعة والآثار والأقوال والأشعار ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا، ولم أتكلف الحكم على أسانيد الأخبار غير المرفوعة إلا ما

(المقدمة/80)


كان فيه مصلحةٌ راجحة. وشرحتُ مِنْ غريب الألفاظ والتراكيب والمصطلحات والأساليب ما رأيته مفتقرًا إلى بيان، وأرجو أن لا أكون أثقلتُ في ذلك وأمللت. ووثقتُ النقول التي صرَّح المصنف بنقلها، واجتهدتُ في الوقوف على ما لم يصرح به، وقابلتُ جميع أولئك بأصوله، كما سلف. ووصلتُ مسائل الكتاب وبحوثه بكتب المصنف وشيخ الإسلام ابن تيمية، وعزوتُ جملةً كثيرةً منها إلى مواضعها في مصنفات أهل العلم وتواليفهم، وبعضها عزيز المنال. وصنعتُ للكتاب فهارس كاشفة تيسر الانتفاع به وتجمع نثار فوائده، وقد أعانني بصنع بعض الفهارس اللفظية الأخوان الفاضلان: نبيل بن نصار السندي وخالد بن محمد جاب الله. وقد بذلتُ الوسع، وتحريتُ الصواب، واجتهدتُ ولم آلُ، إلا أن ابن آدم إلى الضعف ما هو، وأنا طامعٌ في رحمة الله وجميل عفوه، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. وكتب عبد الرحمن بن حسن بن قائد

(المقدمة/81)


نماذج من صور الأصول الخطية

(المقدمة/83)


صفحة العنوان لنسخة (د)

(المقدمة/85)


الصفحة الأولى من نسخة (د)

(المقدمة/86)


الصفحة الأخيرة من نسخة (د)

(المقدمة/87)


الصفحة العنوان من نسخة (ق)

(المقدمة/88)


الصفحة الأولى من نسخة (ق)

(المقدمة/89)


الصفحة الأخيرة من نسخة (ق)

(المقدمة/90)


صفحة العنوان لنسخة (ت)

(المقدمة/91)


الصفحة الأولى من نسخة (ت)

(المقدمة/92)


الصفحة الأخيرة من نسخة (ت)

(المقدمة/93)


صفحة العنوان لنسخة (ح)

(المقدمة/94)


الصفحة الأولى من نسخة (ح)

(المقدمة/95)


الصفحة الأخيرة من نسخة (ح)

(المقدمة/96)


صفحة العنوان من نسخة (ن)

(المقدمة/97)


الصفحة الأولى من نسخة (ن)

(المقدمة/98)


الصفحة الأخيرة من نسخة (ن)

(المقدمة/99)


صفحة العنوان لنسخة (ي)

(المقدمة/100)


الصفحة الأولى من نسخة (ي)

(المقدمة/101)


الصفحة الأخيرة من نسخة (ي)

(المقدمة/102)


صفحة العنوان لنسخة المختصر (ص)

(المقدمة/103)


الصفحة الأولى من نسخة المختصر (ص)

(المقدمة/104)


الصفحة الأخيرة من نسخة المختصر (ص)

(المقدمة/105)


صفحة العنوان للطبعة الأولى (ط)

(المقدمة/106)


الصفحة الأخيرة للطبعة الأولى (ط)

(المقدمة/107)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي سَهَّل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا، وأوضحَ لهم طريقَ الهداية وجعل اتباعَ الرسول عليها دليلا، واتَّخذهم عبيدًا (1) له فأقرُّوا له بالعبودية ولم يتَّخذوا من دونه وكيلا، وكتَب في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم برُوحٍ منه، لمَّا رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولا. والحمدُ لله الذي أقام في أزمنة الفَتَرات من يكونُ ببيان سُنن المرسلين كفيلا، واختصَّ هذه الأمةَ بأنه لا تزالُ فيها طائفةٌ على الحقِّ لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُه ولو اجتَمع الثقلان على حربهم قَبِيلا. يَدْعُون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، ويُحْيُون بكتابه الموتى؛ فهم أحسنُ الناس هديًا وأقومُهم قِيلا. فكم مِنْ قتيلٍ لإبليس قد أحْيَوْه، ومِنْ ضالٍّ جاهلٍ لا يعلمُ طريقَ رُشْدِه قد هَدَوْه، ومِنْ مبتدعٍ في دين الله بشُهب الحقِّ قد رَمَوْه؛ جهادًا في الله، وابتغاءَ مرضاته، وبيانًا لحُجَجه على العالمين وبيِّناته، وطلبًا للزلفى لديه ونَيل رضوانه وجناته، فحارَبوا (2) في الله من خرج عن دينه القويم، وصراطه المستقيم، الذين عَقَدوا ألويةَ البدعة، وأطلقوا أعِنَّةَ الفتنة، وخالفوا الكتاب، _________ (1) (ت): "عبادا". (2) (ت): "يحاربوا". وفي (ح، ن): "وحاربوا".

(1/3)


واختلفوا في الكتاب، واتفقوا على مفارقة الكتاب (1)، ونبذوه وراءَ ظهورهم، وارتضوا غيرَه منه بديلا. أحمدُه وهو المحمودُ على كلِّ ما قدَّره وقضاه، وأستعينُه استعانةَ من يعلمُ أنه لا ربَّ له غيره (2) ولا إله له سواه، وأستهديه سبيلَ الذين أنعَمَ عليهم ممن اختاره لقبول الحقِّ وارتضاه، وأشكرُه والشُّكرُ كفيلٌ بالمزيد من عطاياه، وأستغفرُه من الذُّنوب التي تَحُولُ بين القلب وهُداه، وأعوذُ به من شرِّ نفسي وسيئات عملي استعاذةَ عبد فارٍّ إلى ربِّه بذنوبه (3) وخطاياه، وأعتَصِمُ به من الأهواء المُرْدِية والبدع المُضِلَّة، فما خابَ من أصبح به معتصمًا وبحِمَاه نزيلا. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أشهدُ بها مع الشاهدين، وأتحمَّلها عن الجاحدين، وأدَّخرها عند الله عُدَّةً ليوم الدِّين. وأشهدُ أن الحلال ما حلَّله (4)، والحرامَ ما حرَّمه، والدينَ ما شَرَعَه، وأن السَّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأن اللهَ يبعثُ من في القبور. وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه المصطفى، ونبيُّه المرتضى، ورسولُه الصَّادقُ المصدوق، الذي لا ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، أرسله رحمةً للعالمين، ومَحَجَّةً للسَّالكين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، أرسله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطُّرق وأوضح السُّبل، وافترض على _________ (1) انظر: "الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد (6). (2) (ح، ن): "وأستغيثه استغاثة عبد لا رب له غيره". (3) (ن): "من ذنوبه". (4) (ح): "أحله".

(1/4)


العباد طاعتَه وتعظيمَه، وتوقيرَه وتبجيلَه، والقيامَ بحقوقه، وسَدَّ إليه جميع الطُّرق فلم يَفْتَح لأحدٍ إلا من طريقه، فشَرَحَ له صدرَه، ورَفَعَ له ذِكْرَه، ووَضَع عنه وِزْرَه، وجعَل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمرَه، هدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وبصَّر به من العمى، وأرشدَ به من الغَيِّ، وفتحَ به أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا. فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - قائمًا بأمر الله لا يردُّه عنه رادٌّ، داعيًا إلى الله لا يصدُّه عنه صادٌّ، إلى أن أشرقت برسالته الأرضُ بعد ظلماتها، وتألَّفت به (1) القلوبُ بعد شَتاتها، وسارت دعوتُه مسيرَ الشمس (2) في الأقطار، وبلغ دينُه ما بلغ الليلُ والنَّهار. فلمَّا أكمل الله به الدِّين، وأتمَّ به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به، ونَقَلَه إلى الرفيق الأعلى من كرامته، والمحلِّ الأرفع الأسنى من أعلى جنَّاته، ففارَق الأمةَ وقد تركها على المحجَّة البيضاء، التي لا يزيغُ عنها إلا من كان من الهالكين. فصلى الله عليه وعلى آله الطَّيبين الطَّاهرين، صلاةً دائمةً بدوام السَّماوات والأرضين، مقيمةً عليهم أبدًا لا ترومُ انتقالًا عنهم ولا تحويلا. أمَّا بعد؛ فإنَّ الله سبحانه لما أهبطَ آدمَ أبا البشر ــ عليه السلام ــ من الجنة؛ لِمَا له في ذلك من الحِكَم التي تعجزُ العقولُ عن معرفتها، والألسنُ عن صفتها (3)، فكان إهباطُه منها عَيْنَ كماله، ليعود إليها على أحسن أحواله؛ _________ (1) "به" ساقطة من (ت، ق). (2) (ت، ق): "سير الشمس". (3) بسط المصنف القول في هذه الحكم في "شفاء العليل" (661 - 677).

(1/5)


فأراد سبحانه أن يُذِيقَه وولدَه من تعب الدُّنيا وغمومها وهمومها وأوصابها ما يَعْظُمُ به عندهم مقدارُ دخولهم إليها في الدار الآخرة؛ فإنَّ الضدَّ يُظْهِرُ حُسْنَه الضدُّ، ولو تربَّوا في دار النعيم لم يعرفوا قَدْرَها. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه أراد أمرَهم ونهيَهم، وابتلاءهم واختبارهم، وليست الجنةُ دارَ تكليف؛ فأهبطَهم إلى الأرض، وعَرَّضهم بذلك لأفضل الثواب (1) الذي لم يكن ليُنال بدون الأمر والنَّهي. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلًا، وأولياء وشهداء، يحبُّهم ويحبُّونه، فخلَّى بينهم وبين أعدائه، وامتحنَهم بهم، فلمَّا آثروه وبذلوا نفوسَهم وأموالَهم في مرضاته ومحابِّه نالوا من محبَّته ورضوانه والقُرْب منه ما لم يكن ليُنال بدون ذلك أصلًا؛ فدرجةُ الرسالة والنبوَّة والشَّهادة والحبِّ فيه والبغض فيه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه عنده من أفضل الدَّرجات، ولم يكن يُنالُ هذا (2) إلا على الوجه الذي قَدَّرَه وقضاه مِنْ إهباطه إلى الأرض وجَعْلِ معيشة أولاده فيها. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه له الأسماءُ الحسنى؛ فمِن أسمائه: الغفور، الرحيم، العَفُوُّ، الحليم، الخافض، الرافع، المُعِزُّ، المُذِلُّ، المُحْيِي، المميت، الوارث، الصَّبور (3)؛ ولا بدَّ من ظهور أثر هذه الأسماء؛ فاقتضت _________ (1) (ح): "وعوضهم بذلك أفضل الثواب". (2) (ت): "ولم تكن تنال هذه". (3) ورد هذا الاسم في حديث أبي هريرة الطويل في أسماء الله، الذي أخرجه الترمذي (3507) وغيره. والصواب الذي عليه جماعةٌ من الحفاظ: أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرجٌ من كلام بعض السلف. وذهب بعضهم إلى صحة رفعه. انظر: "صحيح ابن حبان" (808)، و"مستدرك الحاكم" (1/ 16)، و"الأسماء والصفات" للبيهقي (1/ 33)، وجزء أبي نعيم الأصبهاني في طرق هذا الحديث، و"مجموع الفتاوى" (6/ 379، 8/ 96، 22/ 482)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 1517)، و"فتح الباري" (11/ 215)، و"الأمالي المطلقة" (227 - 245). كما ورد الاسم في حديثٍ آخر أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7475)، ولا يصحُّ.

(1/6)


حكمتُه سبحانه أن يُنْزِل آدمَ وذريَّته دارًا يظهَرُ عليهم فيها أثرُ أسمائه الحسنى، يَغْفِرُ فيها لمن يشاء، ويرحمُ من يشاء، ويخفض من يشاء، ويرفعُ من يشاء، ويُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، وينتقمُ ممن يشاء، ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه الملكُ الحقُّ المبين، والملكُ هو الذي يأمرُ وينهى، ويثيبُ ويعاقب، ويُهِينُ ويُكْرِم، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، فاقتضى ملكُه سبحانه أن أنزل آدمَ وذريَّته دارًا تجري عليهم فيها أحكامُ الملك، ثمَّ ينقلُهم إلى دارٍ يُتِمُّ عليهم فيها ذلك. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه أنزلهم إلى دارٍ يكونُ إيمانُهم فيها بالغيب، والإيمانُ بالغيب هو الإيمانُ النَّافع (1)، وأمَّا الإيمانُ بالشَّهادة فكلُّ أحدٍ يؤمنُ يوم القيامة، يوم لا ينفعُ نفسًا إلا إيمانُها في الدنيا؛ فلو خُلِقوا في دار النعيم لم ينالوا درجةَ الإيمان بالغيب، واللَّذةُ والكرامةُ الحاصلة بذلك لا تحصُل بدونه، بل كان الحاصلُ لهم في دار النعيم لذَّةً وكرامةً غير هذه. * وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه خلق آدمَ من قبضةٍ قَبَضها من جميع الأرض، والأرضُ فيها الطيبُ والخبيث، والسَّهْل والحَزْن، والكريمُ واللئيم؛ فعَلِم _________ (1) "والإيمان بالغيب" ساقط من (ح، ن).

(1/7)


سبحانه أنَّ في ظهره من لا يصلحُ لمساكنته في داره، فأنزلَه إلى دارٍ استخرَجَ فيها الطيبَ والخبيثَ من صُلْبه، ثم ميَّزهم سبحانه بدارَين؛ فجعَل الطيِّبين أهلَ جِواره ومساكنته في داره، وجعَل الخبيثين أهلَ دارِ الشَّقاء دارِ الخبثاء. قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. فلمَّا عَلِمَ سبحانه أنَّ في ذريَّته من ليس بأهلٍ (1) لمجاورته، أنزلَهم دارًا استخرَجَ منها أولئك وألحقَهم بالدار التي هم لها أهل؛ حكمةً بالغة، ومشيئةً نافذة، ذلك تقديرُ العزيز العليم. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه لما قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، أجابهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. ثم أظهَر سبحانه علمَه لعباده ولملائكته، بما جعَله في الأرض من خواصِّ خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه، ومن يتقرَّبُ إليه ويَبْذُل نفسَه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته وهواه، فيتركُ محبوباته تقربًا إليَّ (2)، ويتركُ شهواته ابتغاءَ مرضاتي، ويَبْذُل دمَه ونفسه في محبتي، وأخُصُّه بعلمٍ لا تَعْلَمونه، يُسَبِّحُ بحمدي آناءَ الليل وأطرافَ النَّهار، ويعبدُني مع مُعارَضات (3) الهوى والشَّهوة _________ (1) (ح): "أهلا". (2) كذا في الأصول. وهو التفات. (3) (ت): "معارضة".

(1/8)


والنفس والعدوِّ، إذ تعبدونني أنتم من غير مُعارِضٍ يعارضُكم، ولا شهوةٍ تعتريكم، ولا عدوٍّ أسلِّطه (1) عليكم، بل عبادتكم لي بمنزلة النَّفَس لأحدهم. * وأيضًا؛ فإني أريدُ أن أُظْهِرَ ما خفي عليكم من شأن عدوِّي ومحاربته لي، وتكبُّره عن أمري، وسعيه في خلاف مرضاتي. وهذا وهذا كانا كامنَين مستترَين في أبي البشر وأبي الجنِّ، فأنزَلهم إلى دارٍ ظَهَر فيها (2) ما كان الله سبحانه منفردًا بعلمه لا يعلمُه سواه، وظهرت حكمتُه وتمَّ أمرُه، وبدا للملائكة مِنْ علمه ما لم يكونوا يعلمون. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه لما كان يحبُّ الصَّابرين، ويحبُّ المحسنين، ويحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيانٌ مرصوص، ويحبُّ التوابين، ويحبُّ المتطهِّرين، ويحبُّ الشاكرين، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات= اقتضت حكمتُه أن أسكَنَ آدمَ وبنيه دارًا يأتون فيها بهذه الصِّفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبَّته؛ فكان إنزالُهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم، والله يختصُّ برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه أراد أن يتَّخذ من آدمَ ذريةً يواليهم ويودُّهم، ويحبُّهم ويحبُّونه؛ فمحبتُهم له هي غايةُ كمالهم ونهايةُ شرفهم، ولم تكن لتتحقَّق (3) هذه المرتبةُ السَّنيةُ إلا بموافقة رضاه واتباع أمره، وتركِ إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبُهم؛ فأنزلهم دارًا أمَرهم فيها ونهاهم؛ فقاموا بأمره ونهيه؛ فنالوا درجة محبَّتهم له؛ فأنالَهم درجةَ حبِّه إياهم، وهذا _________ (1) (ن): "سلطته". (2) (ق): "فأنزلهم دارا أظهر فيها". (3) (ق): "ولم يمكن تحقيق".

(1/9)


من تمام حكمته وكمال رحمته، وهو البَرُّ الرحيم. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه لما خلَق خلقَه أطوارًا وأصنافًا، وسبَق في حكمه (1) تفضيلُه آدمَ وبنيه على كثيرٍ من مخلوقاته= جعَل عبوديَّته أفضلَ درجاتهم، أعني العبوديةَ الاختيارية التي يأتونَ بها طوعًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا. وقد ثبت أنَّ الله سبحانه أرسل جبريلَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخيِّره بين أن يكون مَلِكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا، فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأشار إليه أنْ تواضعْ، فقال: "بل أكونُ عبدًا نبيًّا" (2)؛ فذَكَره سبحانه باسم عبوديَّته في أشرف مقاماته: في مقام الإسراء، ومقام الدَّعوة، ومقام التحدِّي. فقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، ولم يقل: "برسوله"، ولا: "نبيه"؛ إشارةً إلى أنه نال هذا المقامَ الأعظم بكمال عبوديَّته لربه. وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]. _________ (1) (ت): "حكمته". (2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (6710) - ومن طريقه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (5/ 338)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -" (611) من حديث ابن عباس بإسنادٍ منقطع. وانظر: "النكت الظراف" (5/ 232). وروي نحوه من حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 231)، وأبو يعلى (6105)، والبزار (3/ 155 ــ كشف الأستار). وصححه ابن حبان (6365).

(1/10)


وقال في مقام التحدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. وفي "الصحيحين" في حديث الشَّفاعة، وتراجُع الأنبياء فيها، وقول المسيح - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا إلى محمد؛ عبد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر" (1)، فدلَّ ذلك على أنه نال ذلك المقام الأعظم (2) بكمال عبوديته لله، وكمال مغفرة الله له. وإذا كانت العبوديةُ عند الله بهذه المنزلة، اقتضت حكمتُه أن أسكَنَ آدمَ وذريَّته دارًا ينالون فيها هذه الدرجةَ بكمال طاعتهم لله، وتقرُّبهم إليه بمحابِّه، وتَرْك مألوفاتهم من أجله؛ فكان ذلك من تمام نعمته عليهم وإحسانه إليهم. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه أراد أن يعرِّف عبادَه الذين أنعم عليهم تمامَ نعمته عليهم، ويعرِّفهم قَدْرَها؛ ليكونوا أعظم محبةً له، وأكثر شكرًا، وأعظمَ التذاذًا بما أعطاهم من النعيم؛ فأراهم سبحانه فِعْلَه بأعدائه، وما أعدَّ لهم من العذاب وأنواع الآلام، وأشهَدَهم تخليصَهم من ذلك، وتخصيصَهم بأعلى أنواع النعيم؛ ليزداد سرورُهم، وتكمُل غبطتُهم، ويعظُم فرحُهم، وتتمَّ لذتُهم، وكان ذلك من إتمام الإنعام عليهم ومحبَّتهم. ولم يكن بدٌّ في ذلك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم واختبارهم، وتوفيق من شاء منهم رحمةً منه وفضلًا، وخذلان من شاء حكمةً منه وعدلًا، وهو العليم الحكيم. _________ (1) "صحيح البخاري" (4476)، و"صحيح مسلم" (193) من حديث أنس. (2) (ت، ن): "العظيم".

(1/11)


ولا ريب أن المؤمنَ إذا رأى عدوَّه وعدوَّ محبوبه ــ الذي هو أحبُّ الأشياء إليه ــ في أنواع العذاب والآلام، وهو يتقلَّبُ في أنواع النعيم واللذة= ازدادَ بذلك سرورُه، وعَظُمَت لذتُه وكَمُلت نعمتُه. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته، وهي الغايةُ المطلوبة منهم، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ومعلومٌ أن كمال العبودية المطلوبَ من الخلق لا يحصُل في دار النعيم والبقاء، إنما يحصُل في دار المحنة والابتلاء، وأما دار البقاء فدار لذَّةٍ ونعيم، لا دار ابتلاءٍ وامتحانٍ وتكليف. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه اقتضت حكمتُه خلقَ آدم وذريَّته في تركيبٍ (1) مستلزمٍ لداعي الشَّهوة والغضب، وداعي العقل والعلم؛ فإنه سبحانه خلق فيه العقل (2) والشَّهوة ونَصَبَهما داعيَين لمقتضياتهما (3)؛ ليتمَّ مراده، ويظهر لعباده عزَّته في حكمته (4) وجبروته، ورحمته وبرِّه، ولطفه في سلطانه وملكه. فاقتضت حكمتُه ورحمتُه أنْ أذاقَ أباهم وَبِيلَ مخالفته، وعرَّفه ما تجني عواقبُ إجابة الشَّهوة والهوى؛ ليكون أعظم حذرًا فيها (5) وأشدَّ هروبًا. _________ (1) (ق): "من تركيب". (2) من قوله: "وأيضا فإنه سبحانه" إلى هنا بياض في (د). (3) (ق): "بمقتضياتهما". (4) (ت): "عزته وحكمته". (5) أي: الإجابة. (ت): "فيهما" أي: الهوى والشهوة.

(1/12)


وهذا كحال رجلٍ سائرٍ على طريقٍ قد كَمَنت الأعداءُ في جَنَباته، وخلفه وأمامه، وهو لا يشعرُ بها (1)، فإذا أصيب منها مرةً بمصيبةٍ استعدَّ في سيره، وأخذ أُهْبَةَ عدوِّه، وأعدَّ له ما يدفعُه به. ولولا أنه ذاق ألم إغارة عدوِّه عليه وتبييته له لما سمحت نفسُه بالاستعداد والحذر وأخذ العُدَّة. فمِن تمام نعمة الله على آدم وذريَّته أنْ أراهم ما فعَل العدوُّ بهم وبأبيهم فاستعدُّوا له وأخذوا أُهْبتَه. فإن قيل: كان من الممكن أن لا يسلِّط عليهم العدوَّ. قيل: قد تقدَّم أنه سبحانه خلق آدمَ وذريَّته على بِنْيةٍ وتركيبٍ مستلزمٍ لمخالطتهم لعدوِّهم وابتلائهم به، ولو شاء لخلقَهم كالملائكة الذين هم عقولٌ بلا شهوات (2)، فلم يكن لعدوِّهم طريقٌ إليهم، ولكن لو خُلِقوا هكذا لكانوا خلقًا آخرَ غيرَ بني آدم؛ فإنَّ بني آدم قد رُكِّبوا على العقل والشَّهوة. * وأيضًا؛ فإنه لما كانت محبةُ الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة بدونها أصلًا، وكانت المحبةُ الصَّادقةُ إنما تتحقَّقُ (3) بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس، واحتمال أعظم المشاقِّ في طاعته ومرضاته، فبهذا تتحقَّق المحبةُ ويُعْلَمُ ثبوتُها في القلب= اقتضت حكمتُه سبحانه إخراجَهم إلى هذه الدَّار المحفوفة بالشهوات ومحابِّ النفوس، التي بإيثار المحبوب (4) الحقِّ عليها والإعراض عنها _________ (1) "بها" ليست في (ق). (2) (ح): "شهوة". (3) التاء الأولى مضبوطةٌ بالضم في (ق) في الموضعين. (4) (ت): "النفوس". وساقطة من (د، ق).

(1/13)


يتحقَّقُ حبُّهم له وإيثارهم إيَّاه على غيره. وكذلك بتحمُّل (1) المشاقِّ الشديدة، وركوب الأخطار، واحتمال المَلامة، والصبر على دواعي الغيِّ والضلال، ومجاهدتها (2) = يقوى سلطانُ المحبة، وتثبُت (3) شجرتُها في القلب، وتَعْظُم (4) ثمرتُها على الجوارح؛ فإنَّ المحبة الثابتة اللازمة على كثرة الموانع والعوارض والصَّوارف هي المحبةُ الحقيقيةُ النافعة، وأمَّا المحبةُ المشروطة بالعافية والنعيم واللذَّة وحصول مراد المحبِّ من محبوبه فليست محبةً صادقة، ولا ثباتَ لها عند المعارضات والموانع؛ فإنَّ المعلَّق على الشرط عدمٌ عند عدمه، ومَنْ وَدَّك لأمرٍ ولَّى عند انقضائه. وفرقٌ بين من يعبدُ الله على السرَّاء والرخاء والعافية فقط، وبين من يعبده على السرَّاء والضرَّاء، والشدَّة والرخاء، والعافية والبلاء. * وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه له الحمدُ المطلقُ الكاملُ الذي لا نهاية بعده، فكان ظهورُ الأسباب التي يُحْمَدُ عليها مِنْ مقتضى كونه محمودًا، وهي من لوازم حمده تعالى، وهي نوعان: فضلٌ، وعدل؛ إذ هو سبحانه المحمودُ على هذا وعلى هذا، فلا بدَّ من ظهور أسباب العدل واقتضائها لمسمَّياتها، ليترتَّب عليها (5) كمالُ الحمد الذي هو أهلُه. _________ (1) (د): "تتحمل". (ت): "ولذلك تتحمل". (ح، ن): "ولذلك يتحمل". (2) (ح، ن): "وبمجاهدتها". (3) (ن): "وتنبت". (4) (د، ق، ن، ح): "وتطعم". (5) (ح): "المرتب عليها".

(1/14)


فكما أنه سبحانه محمودٌ على إحسانه وبرِّه، وفضله وثوابه، فهو محمودٌ على عدله وانتقامه وعقابه، إذ مَصْدَرُ (1) ذلك كلِّه عن عزَّته وحكمته. ولهذا ينبِّه سبحانه وتعالى على هذا كثيرًا، كما في سورة الشعراء، حيث يذكرُ في آخرِ كلِّ قصَّةٍ من قصص الرسل وأممهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 8 - 9]؛ فأخبر سبحانه أنَّ ذلك صادرٌ عن عزَّته المتضمِّنة كمالَ قدرته، وحكمته المتضمِّنة كمالَ علمه ووضعه الأشياءَ مواضعها اللائقة بها (2). فما وَضعَ نعمتَه وإنجاءه (3) لرسله ولأتباعهم، ونقمتَه وإهلاكَه لأعدائهم، إلا في محلِّها اللائق بها؛ لكمال عزَّته وحكمته. ولهذا قال سبحانه عقبَ إخباره عن قضائه بين أهل السَّعادة والشَّقاوة، ومصير كلٍّ منهم إلى ديارهم التي لا يليقُ بهم غيرُها، ولا تقتضي حكمتُه سواها: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه اقتضت حكمتُه وحمدُه أنْ فاوتَ بين عباده أعظمَ تفاوتٍ وأبينَه؛ ليشكره منهم من ظهرت عليه نعمتُه وفضلُه، ويعرفَ أنه قد حُبِيَ بالإنعام، وخُصَّ دونَ غيره بالإكرام. _________ (1) (ق): "إذ يصدر". (2) كذا في الأصول. وهو سهوٌ من المصنف؛ فليس في الآية ذكرٌ للحكمة، وإنما هي الرحمة. وتنبَّه لذلك في "شفاء العليل" (562)، و"مدارج السالكين" (3/ 492)، فقال: "فصدور هذا الإهلاك عن عزته وذلك الإنجاء عن رحمته". (3) في الأصول: "ونجاته". كأن المصنف رسمها: "وإنجائه". والإهلاك يقابله: الإنجاء. وانظر: "المدارج" (الموضع السابق).

(1/15)


ولو تساووا جميعُهم في النعمة والعافية لم يعرِف صاحبُ النعمة قدرَها، ولم يبذل شكرَها إذ لا يرى أحدًا إلا في مثل حاله. ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخراجًا له من العبد: أن يرى غيرَه في ضدِّ حاله الذي هو عليها من الكمال والفلاح. وفي الأثر المشهور: أنَّ الله سبحانه لما أرى آدمَ ــ عليه السلام ــ ذريتَه، وتفاوتَ مراتبهم (1)، قال: يا ربِّ! هلَّا سوَّيتَ بين عبادك. قال: "إني أحبُّ أن أُشْكَر" (2). فاقتضت محبتُه سبحانه لأن يُشْكَر خَلْقَ الأسباب التي يكونُ شكرُ الشَّاكرين عندها أعظمَ وأكمل، وهذا هو عينُ الحكمة الصَّادرة عن صفة الحمد. _________ (1) (ح، ن): "فرأى تباينهم وتفاوت مراتبهم". (2) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (5/ 135)، والطبري في "التفسير" (13/ 238)، والفريابي في "القدر" (51، 52)، وابن منده في "الرد على الجهمية" (30)، وابن عبد البر في "التمهيد" (18/ 91)، وغيرهم من طرقٍ يصحُّ بها عن أبيِّ ابن كعبٍ موقوفًا في سياقٍ طويل. وصححه الحاكم في "المستدرك" (2/ 323) ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في "المختارة" (3/ 364). وانظر: "الروح" للمصنف (435، 445). وروي نحوه من حديث أبي هريرة عند ابن أبي حاتم في "التفسير"، ولا يصحُّ. انظر: "تفسير ابن كثير" (4/ 1508). وروي من مرسل الحسن البصري عند عبد الرزاق في "المصنف" (10/ 424)، وابن أبي شيبة (13/ 508)، وابن أبي الدنيا في "الشكر" (165) من طرق.

(1/16)


* وأيضًا؛ فإنه سبحانه لا شيء أحبَّ إليه من العبد مِنْ تذلُّله بين يديه، وخضوعه وافتقاره، وانكساره وتضرُّعه إليه. ومعلومٌ أنَّ هذا المطلوبَ من العبد إنما يتمُّ بأسبابه التي يتوقَّف عليها، وحصولُ هذه الأسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة ممتنع؛ إذ هو مستلزمٌ للجمع بين الضدَّين. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه له الخلقُ والأمر، والأمرُ هو شرعُه وأمرُه ودينُه الذي بعث به رسلَه، وأنزل به كتبه، وليست الجنةُ دار تكليفٍ تجري عليهم فيها أحكامُ التكليف ولوازمُها، وإنما هي دارُ نعيمٍ ولذَّة؛ فاقتضت حكمتُه سبحانه إخراجَ آدمَ (1) وذريَّته إلى دارٍ تجري عليهم [فيها] (2) أحكامُ دينه وأمره؛ ليظهرَ فيهم مقتضى الأمر ولوازمُه؛ فإنَّ الله سبحانه كما أنَّ أفعاله وخلقَه من لوازم كمال أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فكذلك أمرُه وشرعُه وما يترتبُ عليه من الثواب والعقاب. وقد أرشدَ سبحانه إلى هذا المعنى في غير موضعٍ من كتابه، فقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، أي: مهملًا معطَّلًا لا يؤمرُ ولا يُنهى، ولا يثابُ ولا يعاقَب. وهذا يدلُّ على أنَّ هذا منافٍ لكمال حكمته، وأنَّ ربوبيته وعزَّته وحكمته تأبى ذلك، ولهذا أخرجَ الكلامَ مخرجَ الإنكار على من زعم ذلك، وهو يدلُّ على أنَّ حُسْنَه مستقرٌّ في الفِطر والعقول، وقُبحَ تركه سدًى معطَّلًا مستقرٌّ في _________ (1) (ت، ق): "استخراج آدم". (2) ليست في الأصول. والسياق يقتضيها.

(1/17)


الفِطر، فكيف يُنْسَبُ إلى الربِّ ما قبحُه مستقرٌّ في فطركم وعقولكم؟! وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]؛ نزَّه نفسه سبحانه عن هذا الحُسْبان (1) الباطل المضادِّ لمُوجَب أسمائه وصفاته، وأنه لا يليقُ بجلاله نسبتُه إليه. ونظائرُ هذا في القرآن كثيرة. * وأيضًا؛ فإنه سبحانه يحبُّ من عباده أمورًا يتوقَّفُ حصولُها منهم على حصول الأسباب المقتضية لها، ولا تحصُل إلا في دار الابتلاء والامتحان؛ فإنه سبحانه يحبُّ الصابرين، ويحبُّ الشاكرين، ويحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا، ويحبُّ التَّوابين، ويحبُّ المتطهِّرين، ولا ريبَ أنَّ حصول هذه المحبوبات بدون أسبابها ممتنع، كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه، والله سبحانه أفرحُ بتوبة عبده حين يتوبُ إليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في أرضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكةٍ إذا وجدَها. كما ثبت في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ في أرضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكةٍ معه راحلتُه، عليها طعامُه وشرابُه، فنام، فاستيقَظ وقد ذهبَت، فطلبها حتى أدركَه العطش، ثم قال: أرجعُ إلى المكان الذي كنتُ فيه، فأنامُ حتى أموت، فوضع رأسَه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلتُه، عليها زادُه وطعامُه وشرابُه، فالله _________ (1) بكسر الحاء في (ق). والوجهان جائزان. وفي (ح، ن): "الحساب". وفي هامش (ح) إشارة إلى أن في نسخة: "الحسبان".

(1/18)


أشدُّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته" (1). وهذا غايةُ ما يكونُ من الفرح وأعظمُه، ومع هذا فالله سبحانه أشدُّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من فرح هذا براحلته (2). وسيأتي ــ إن شاء الله ــ الكلامُ على هذا الحديث (3)، وذكرُ سرِّ هذا الفرح بتوبة العبد (4). والمقصودُ أنَّ هذا الفرحَ المذكورَ إنما يكونُ بعد التوبة من الذنب، فالتوبةُ والذنبُ لازمان لهذا الفرح، ولا يوجد الملزومُ بدون لازمه، وإذا كان هذا الفرحُ المذكورُ إنما يحصُل بالتوبة المستلزمة للذنب، فحصولُه في دار النعيم التي لا ذنبَ فيها ولا مخالفة ممتنع. ولما كان هذا الفرحُ أحبَّ إلى الربِّ سبحانه من عدمه اقتضت محبتُه له خلقَ الأسباب المُفْضِية إليه؛ ليترتَّب عليها المُسَبَّبُ الذي هو محبوبٌ له. * وأيضًا؛ فإن الله سبحانه جعل الجنةَ دار جزاءٍ وثواب، وقسَّم منازلها بين أهلها على قَدْرِ أعمالهم، وعلى هذا خلقها سبحانه؛ لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها أسماؤه وصفاتُه؛ فإنَّ الجنة درجاتٌ بعضُها فوق _________ (1) "صحيح البخاري" (6308)، و"صحيح مسلم" (2744) من حديث ابن مسعود. والدَّوِيَّة: الأرض القفر الخالية. والمَهْلكة (بفتح اللام وكسرها): موضع خوف الهلاك. (2) من قوله: "وهذا غاية" إلى هنا ليس في (ح، ن). (3) لم يقع ذلك في باقي الكتاب، وانظر ما سيأتي (ص: 813)، وراجع ما كتبناه في المقدمة. (4) (ت): "الفرح بهذا العبد".

(1/19)


بعض، وبين الدرجتين كما بين السَّماء والأرض؛ كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الجنةَ مئة درجة، بين كلِّ درجتين كما بين السَّماء والأرض" (1). وحكمةُ الربِّ سبحانه مقتضيةٌ لعمارة هذه الدَّرجات كلِّها، وإنما تُعْمَرُ ويقعُ التفاوتُ فيها بحسب الأعمال، كما قال غيرُ واحدٍ من السلف: "ينجونَ من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلونَ الجنة بفضله ونعمتِه (2)، ويتقاسمونَ المنازلَ بأعمالهم" (3). وعلى هذا حملَ غيرُ واحدٍ ما جاء من إثبات دخول الجنة بالأعمال، كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. قالوا: وأما نفيُ دخولها بالأعمال كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يَدْخُل الجنةَ أحدٌ بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا" (4)، فالمرادُ به نفيُ أصل الدخول. _________ (1) "صحيح البخاري" (2790) من حديث أبي هريرة. (2) (ق): "ونعمته ومغفرته". (3) أخرجه هناد في "الزهد" (1/ 404) عن ابن مسعود موقوفًا بإسنادٍ ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 246)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (47/ 74) عن عون بن عبد الله. وروي مرفوعًا من حديث أنس بن مالك عند ابن أبي الدنيا بإسنادٍ ضعيف، ساقه ابن كثير في "النهاية" (20/ 101) ثم قال: "وهذا حديث غريب". (4) أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة.

(1/20)


وأحسنُ من هذا أن يقال: الباءُ المقتضيةُ للدخول غيرُ الباء التي نُفِيَ معها الدخول؛ فالمقتضيةُ هي باءُ السببية الدالَّة على أن الأعمال سببٌ للدخول مقتضيةٌ له كاقتضاء سائر الأسباب لمُسَبَّباتها (1)، والباءُ التي نُفِيَ بها الدخولُ هي باءُ المُعاوَضة والمقابلة التي في نحو قولهم: اشتريتُ هذا بهذا (2). فأخبَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ دخولَ الجنة ليس في مقابل عمل أحد، وأنه لولا تغمُّد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة، فليس عملُ العبد ــ وإن تناهى ــ مُوجِبًا بمجرَّده لدخول الجنة، ولا عِوَضًا لها، فإنَّ أعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبُّه الله ويرضاه فهي لا تقاوِمُ نعمةَ الله التي أنعَم بها عليه في دار الدنيا، ولا تُعادِلها، بل لو حاسَبه لوقعَت أعمالُه كلُّها في مقابلة اليسير من نِعَمه، وتبقى بقيةُ النعم مقتضيةً لشكرها، فلو عذَّبه في هذه الحالة لعذَّبه وهو غيرُ ظالمٍ له، ولو رحمَه لكانت رحمتُه خيرًا له من عمله؛ كما في "السنن" من حديث زيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وغيرهما مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الله لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحمَهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم" (3). _________ (1) (ت): "سائر الأسباب المسبب إليها". (2) انظر تقرير هذا المعنى في "جامع الرسائل" (1/ 143)، و"مجموع الفتاوى" (1/ 217، 8/ 70)، و"مدارج السالكين" (1/ 106)، و"حادي الأرواح" (177)، و"الكافية الشافية" (1034)، وما سيأتي من الكتاب (ص:1091). (3) أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد (5/ 185، 189)، وغيرهم. وصححه ابن حبان (727)، والمصنف في "شفاء العليل" (113). وقال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (422): "وفي هذا الحديث نظر؛ ووهب بن خالد ليس بذاك المشهور بالعلم، وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم لقدَّر لهم ما يعذِّبهم عليه، فيكون غير ظالمٍ لهم حينئذ". وفيما قال ابن رجب رحمه الله نظر؛ فإنَّ وهب بن خالد - على ثقته - لم ينفرد بالحديث، فقد أخرجه الفريابي في "القدر" (190، 191) - ومن طريقه الآجري في "الشريعة" (373، 424) -، وابن بطة في "الإبانة" (1588 - القدر) من وجهٍ آخر لا بأس به. ثم إنَّ ما ذكره من التوجيه ليس بجيد. وانظر لتحقيق معنى الحديث، وغلط الطوائف في فهمه: "شفاء العليل" (343)، و"طريق الهجرتين" (621)، و"عدة الصابرين" (266)، وما سيأتي من الكتاب (ص: 1132).

(1/21)


والمقصودُ أنَّ حكمتَه سبحانه اقتضت خلقَ الجنة درجاتٍ بعضُها فوق بعض، وعمارتَها بآدم وذريته، وإنزالَهم فيها بحسب أعمالهم. ولازمُ هذا إنزالُهم إلى دار العمل والمجاهدة. * وأيضًا (1)؛ فإنه سبحانه خلق آدمَ وذريته ليستخلفَهم في الأرض، كما أخبر سبحانه في كتابه بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]. فأراد سبحانه أن ينقلَه وذريَّته من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنةَ الخلد، وعَلِمَ سبحانه بسابق علمه أنه لضعفه وقصور نظره قد يختارُ العاجلَ الخسيسَ على الآجل النفيس؛ فإنَّ النفسَ مُولَعةٌ بحبِّ العاجلة وإيثارها على الآخرة، وهذا من لوازم كونه خُلِقَ من عَجَل وخُلِقَ عجولًا (2). _________ (1) انظر: "تفسير الراغب الأصبهاني" (ق 40/أ). (2) (ق): "من لوازم قوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، وقوله: وخلق الإنسان". والإشارة إلى الآيتين من سورة الأنبياء: 37، والإسراء: 11، إلا أن صواب الآية الثانية: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}.

(1/22)


فعلمَ سبحانه ما في طبيعته من الضَّعف والخَوَر، فاقتضت حكمتُه أنْ أدخلَه الجنة ليعرفَ النعيمَ الذي أُعِدَّ له عيانًا؛ فيكون إليه أشوَق (1)، وعليه أحرَص، وله أشدَّ طلبًا؛ فإنَّ محبةَ الشيء وطلبه والشَّوق إليه من لوازم تصوُّره، فمن باشر طِيبَ شيءٍ ولذَّته وتذوَّق به (2) لم يكد يصبرُ عنه؛ وهذا لأنَّ النفسَ ذوَّاقةٌ توَّاقة، فإذا ذاقَت تاقَت، ولهذا إذا ذاق العبدُ طعمَ الإيمان وخالطت (3) بشاشتُه قلبَه رسخَ فيه حبُّه، ولم يُؤْثِر عليه شيئًا أبدًا. وفي "الصحيح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ يسألُ الملائكة، فيقول: ما يسألني عبادي؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا ربِّ، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشدَّ لها طلبًا" (4). فاقتضت حكمتُه أنْ أراها أباهم وأسكنَه إيَّاها، ثم قَصَّ على بنيه قصَّتَه فصاروا كأنهم مشاهِدون لها حاضرون (5) مع أبيهم، فاستجاب من خُلِقَ لها وخُلِقَت له، وسارع إليها، ولم يَثْنِه عنها العاجلة، بل يَعُدُّ نفسَه كأنه فيها ثم سَباه العدوُّ، فيراها وطنه الأوَّل وقد أُخرِجَ منه، فهو دائمُ الحنين إلى وطنه، _________ (1) (ت): "أشوف". (2) كذا في الأصول. عدى الفعل بالباء. (3) (ق): "وخالط"، وفي (ح، ن): "وخالط بشاشة". (4) "صحيح البخاري" (6408)، و"صحيح مسلم" (2689). (5) (ق، ت): "مشاهدين لها حاضرين".

(1/23)


لا يقرُّ قرارُه حتى يرى نفسه فيه (1)، كما قيل (2): نَقِّل فُؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأوَّلِ كم منزلٍ في الأرضِ يَألَفُه الفتى ... وحنينُه أبدًا لأوَّلِ منزل ولي من أبياتٍ تُلِمُّ بهذا المعنى: وحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنها ... منازلُك الأولى وفيها المُخَيَّمُ ولكنَّنا سبيُ العدوِّ فهل تُرى ... نعودُ إلى أوطانِنا ونُسَلَّمُ (3) * فسِرُّ هذه الوجوه أنه سبحانه وتعالى سبق في حُكمه وحكمته أنَّ الغاياتِ المطلوبة لا تُنال إلا بأسبابها التي جعلها اللهُ أسبابًا مفضيةً إليها، ومن تلك الغايات أعلى أنواع النعيم وأفضلُها وأجلُّها، فلا تُنال إلا بأسبابٍ نَصَبَها مفضيةً إليها. وإذا كانت الغاياتُ التي هي دون ذلك لا تُنال إلا بأسبابها ــ مع ضعفها وانقطاعها ــ، كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا؛ فكيف يُتَوهَّم حصولُ أعلى الغايات وأشرف المقامات بلا سببٍ يفضي إليه؟! ولم يكن (4) تحصيلُ تلك الأسباب إلا في دار المجاهدة والحرث (5)؛ _________ (1) (ق، ت): "فيها". (2) البيتان لأبي تمام في ديوانه (4/ 253)، و"أخباره" للصولي (205) وغيرهما. (3) القصيدة بتمامها في "طريق الهجرتين" (108 - 115). والمصنف كثيرُ الاستشهاد بالبيتين في كتبه. (4) كذا في الأصول بتقدير الخبر: ممكنًا. ولعلها: يمكن. (5) (د، ق): "والحرب". وهي قراءة محتملة، والمثبت أشبه.

(1/24)


فكان إسكانُ آدمَ وذريته هذه الدارَ التي ينالون فيها الأسبابَ الموصلةَ إلى أعلى المقامات من تمام إنعامه عليهم. * وسِرُّها أيضًا: أنه سبحانه جعل الرسالةَ والنبوة، والخُلَّةَ والتكليم، والولايةَ والعبودية، من أشرف مقامات (1) خلقِه ونهاياتِ كمالهم؛ فأنزلهم دارًا أخرجَ منهم الأنبياء، وبعث فيها الرسل، واتَّخذ منهم من اتَّخذ خليلًا، وكلَّم موسى تكليمًا، واتَّخذ منهم أولياءَ وشهداء، وعبيدًا وخاصَّة، يحبُّهم ويحبُّونه، وكان إنزالُهم إلى الأرض من تمام الإنعام والإحسان. * وسِرُّها أيضًا: أنه أظهَر لخلقه من آثار أسمائه وصفاته وجَرَيان أحكامها عليهم ما اقتضته حكمتُه ورحمتُه وعلمُه. * وسِرُّها أيضًا: أنه تعرَّف إلى خلقه بأفعاله وأسمائه وصفاته، وما أحدَثه في أوليائه وأعدائه، مِن كرامته وإنعامه على الأولياء، وإهانته وإشقائه (2) للأعداء، ومِن إجابته دعواتهم، وقضائه حوائجَهم، وتفريج كرباتهم، وكشفِ بلائهم، وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء، وتقليبهم في أنواع الخير والشر؛ فكان في ذلك أعظم دليلٍ لهم على أنه ربُّهم ومليكُهم، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه العليمُ الحكيم، السميع البصير، وأنه الإلهُ الحقُّ وكلُّ ما سواه باطل. فتظاهرت أدلةُ ربوبيته وتوحيده في الأرض، وتنوَّعت، وقامت من كلِّ جانب؛ فعرفَه الموفَّقون من عباده، وأقرُّوا بتوحيده إيمانًا وإذعانًا، وجحدَه _________ (1) (ح، ن): "أشرف مقامات". بدون "من". (2) (د، ق، ت): "وانتقامه".

(1/25)


المخذولون من خليقته، وأشركوا به ظلمًا وكفرانًا، فهلكَ من هلكَ عن بينةٍ وحيَّ من حيَّ عن بينة، والله سميعٌ عليم. ومن تأمَّل آياته المشهودة والمسموعة في الأرض، ورأى آثارَها، عَلِمَ تمامَ حكمته في إسكانِ آدمَ وذريته في هذه الدار إلى أجلٍ معلوم؛ فالله سبحانه إنما خلقَ الجنة لآدمَ وذريته، وجعل الملائكةَ فيها خَدَمًا لهم، ولكن اقتضت حكمتُه أنْ خلقَ لهم دارًا يتزوَّدون منها إلى الدار التي خُلِقَت لهم، وأنهم لا ينالونها إلا بالزَّاد، كما قال تعالى في هذه الدار: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7]، فهذا شأنُ الانتقال في الدنيا من بلدٍ إلى بلد، فكيف الانتقالُ من الدنيا إلى دار القرار؟! وقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. فباع المغبونون منازلَهم منها بأبخس الحظِّ وأنقص الثمن، وباع الموفَّقون نفوسَهم وأموالهم من الله، وجعلوها ثمنًا للجنة؛ فربحت تجارتُهم، ونالوا الفوز العظيم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. فهو سبحانه ما أخرجَ آدمَ منها إلا وهو يريدُ أن يعيدَه إليها أكملَ إعادة (1)، كما قيل على لسان القدر (2): يا آدم! لا تجزَع من قولي لك: اخرُج _________ (1) (ت): "يعيده إليها فلذلك خلقها ليعيده إليها على أكمل إعادة". (2) أي: لسان الحال. كما عبَّر به المصنف في "مدارج السالكين" (1/ 326). وانظر: "بدائع الفوائد" (1198)، و"الفوائد" (51)، و"عدة الصابرين" (109)، وما سيأتي من الكتاب (ص: 830). وهو أسلوبٌ معروفٌ في تصوير المعاني، واستعمال العلماء له لا يكادُ يأتي عليه الحصر. انظر: درء التعارض (10/ 200)، ومجموع الفتاوى (12/ 405).

(1/26)


منها، فلك خلقتُها، فإني أنا الغنيُّ عنها وعن كلِّ شيء، وأنا الجوادُ الكريم، وأنا لا أتمتَّع فيها؛ فإني أُطْعِمُ ولا أُطْعَم، وأنا الغنيُّ الحميد، ولكن انزِل إلى دار البَذْر، فإذا بذَرْتَ فاستوى الزَّرعُ على سُوقه وصار حَصِيدًا، فحينئذٍ فتعال فاسْتَوْفِه (1) أحوجَ ما أنت إليه، الحبة (2) بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعافٍ كثيرة، فإني أعلمُ بمصلحتك منك، وأنا العليمُ الحكيم. فإن قيل: ما ذكرتموه من هذه الوجوه وأمثالها إنما يتمُّ إذا قلتم (3): إنَّ الجنة التي أُسْكِنَها آدمُ وأُهْبِط منها جنةُ الخلد التي أُعِدَّت للمتقين المؤمنين يوم القيامة، وحينئذٍ يظهرُ سرُّ إهباطه (4) وإخراجه منها. ولكن قد قالت طائفةٌ ــ منهم أبو مسلم (5)، ومنذرُ بن سعيد البلُّوطي (6)، وغيرهما ــ: إنها _________ (1) (ت): "فأسوقه". (2) (ت): "الحسنة". (3) (ق): "قيل". (4) (ح): "إهباط آدم". (5) محمد بن بحر الأصبهاني المعتزلي (ت: 322)، له تفسيرٌ كبير، لم يصلنا. انظر: "معجم الأدباء" (6/ 2436)، و"الوافي بالوفيات" (2/ 244). (6) قاضي الجماعة بقرطبة (ت: 355)، ترجمته في "السير" (16/ 173)، ومصادرها في حاشيته. وكتابه في التفسير لم يعثر عليه بعد. وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 176) أن له مصنفًا مفردًا في هذه المسألة، ولعله من مصادر المصنف. وقد كان متَّهمًا بالاعتزال كما ذكر ابن حزم في "طوق الحمامة" (45)، منحرفًا إلى مذهب أهل الكلام كما ذكر ابن الفرضي في "تاريخ علماء الأندلس" (2/ 144). ولا أراه كذلك، ولا أحسب التهمة لحقته إلا من قِبَل قوله بهذه المسألة ونظائرها مما وافق اجتهادُه فيه مقالاتٍ اشتهرت عن المعتزلة وليست من أصولهم، وقد ذُكِر أن له تصانيف في الرد على أهل الأهواء والبدع، كما في "مطمح الأنفس" (238)، و"نفح الطيب" (1/ 372)، ومنها فتوى في الردِّ على القول بخلق القرآن، نشرها عبد الرحمن الهيباوي ملحقةً بترجمته التي صنعها له (ص: 145).

(1/27)


إنما كانت جنةً في الأرض في موضعٍ عالٍ منها، لا أنها جنةُ المأوى التي أعدَّها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة. وذكر منذر بن سعيد هذا القول في "تفسيره" عن جماعة، فقال: "وأما قولُه لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}: فقالت طائفة: أسكن اللهُ تعالى آدمَ - صلى الله عليه وسلم - جنةَ الخلد التي يدخلُها المؤمنون يوم القيامة. وقال آخرون: هي جنةٌ غيرُها جعلها الله له، وأسكنه إيَّاها، ليست جنة الخلد". قال: "وهذا قولٌ تكثرُ الدلائلُ الشاهدة له، والموجبةُ للقول به؛ لأنَّ الجنةَ التي تُدْخَلُ بعد القيامة هي من حيِّز الآخرة (1)، وفي اليوم الآخر تُدْخَل؛ ولم يأتِ بعد، وقد وصفها الله لنا في كتابه بصفاتها، ومحالٌ أن يصفَ الله شيئًا بصفةٍ ثمَّ يكون ذلك الشيءُ بغير تلك الصفة التي وصفها به، والقولُ بهذا دافعٌ لما أخبر اللهُ به". قالوا: وجدنا الله تبارك وتعالى وصَف الجنة التي أعدَّت للمتقين بعد قيام القيامة بدار المُقامة، ولم يُقِم آدمُ فيها. _________ (1) (ق، ت): "خير الآخرة".

(1/28)


ووصَفها بأنها جنةُ الخلد، ولم يخلَّد آدمُ فيها. ووصَفها بأنها دارُ جزاء، ولم يقل: إنها دارُ ابتلاء، وقد ابتلي آدمُ فيها بالمعصية والفتنة. ووصَفها بأنها ليس فيها حَزَن، وأنَّ الداخلين إليها يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]، وقد حَزِنَ فيها آدم. ووجدناه سمَّاها: {دَارُ السَّلَامِ}، ولم يَسْلَم فيها آدمُ من الآفات التي تكونُ في الدنيا. وسمَّاها: {دَارُ الْقَرَارِ}، ولم يستقرَّ فيها آدم. وقال فيمن يدخلها: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحِجْر: 48]، وقد أُخرِجَ منها آدمُ بمعصيته. وقال: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحِجر: 48]، وقد نَدَّ (1) آدمُ فيها هاربًا فارًّا عند إصابته المعصية، وطَفِقَ يخصِفُ ورَقَ الجنة على نفسه، وهذا النَّصَبُ بعينه الذي نفاه الله عنها. وأخبَر أنه لا يُسْمَعُ فيها لغوٌ ولا تأثيم، وقد أَثِمَ فيها آدم، وأُسْمِعَ فيها ما هو أكبر من اللغو، وهو أنه أُمِرَ فيها بمعصية ربه. وأخبَر أنه لا يُسْمَعُ فيها لغوٌ ولا كِذَّاب (2)، وقد أسمعه فيها إبليسُ الكذب، وغرَّه وقاسمه عليه أيضًا بعد أن أسمعه إياه. _________ (1) مضبوطة في (د، ق). ندَّ البعيرُ: شَرَد وذهب على وجهه. (2) (ح): "كذابا". وفي (ق): "كذب".

(1/29)


وقد شربَ آدمُ من شرابها الذي سمَّاه في كتابه: {شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، أي: مُطهَّرًا من جميع الآفات المذمومة، وآدمُ لم يطهَّر من تلك الآفات. وسمَّاها الله تعالى: {مَقْعَدِ صِدْقٍ}، وقد كَذَبَ إبليسُ فيها آدمَ، ومقعدُ الصِّدق لا كذبَ فيه. وعِلِّيُّون لم يكن فيها استحالةٌ قطُّ ولا تبديل، ولا يكونُ بإجماع المصلِّين، والجنةُ في أعلى عليين. والله تعالى فإنما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، ولم يقل: إني جاعلٌ (1) في جنة المأوى، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، والملائكةُ أتقى لله من أن تقول ما لا تعلم، وهم القائلون: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الله قد كان أعلَمهم أنَّ بني آدم سيفسدون في الأرض، وإلا فكيف كانوا يقولون ما لا يعلمون، والله تعالى يقول ــ وقوله الحق ــ: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، والملائكةُ لا تقول ولا تعمل إلا بما تؤمرُ به لا غير، قال الله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. والله تعالى أخبرنا أنَّ إبليس قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، فإن كان الله أسكن آدمَ جنةَ الخلد والمُلكَ الذي لا يبلى، فكيف لم يردَّ عليه نصيحتَه ويكذِّبه في قوله، فيقول: وكيف تدلُّني على شيءٍ أنا فيه وقد أُعطِيتُه واحتزتُه (2)؟! _________ (1) (ت، د، ن): "جاعله". (2) مهملة في (د، ق). وساقطة من (ت). والمثبت من (ح، ن).

(1/30)


بل كيف لم يَحْثُ الترابَ في وجهه ويسبَّه؟!؛ لأنَّ إبليس ليس كان يكون بهذا الكلام مُغْوِيًا له، إنما كان يكون زاريًا عليه (1)؛ لأنه إنما وعده على معصية ربه بما كان فيه لا زائدًا عنه، ومثلُ هذا لا يخاطَبُ به إلا المَجانين الذين لا يعقِلون؛ لأنَّ العِوَض الذي وعَده به بمعصية ربه قد كان أحرزه، وهو الخلدُ والمُلْكُ الذي لا يبلى. ولم يخبر اللهُ آدمَ إذ أسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين، ولو كان فيها من الخالدين لما رَكَنَ إلى قول إبليس، ولا قَبِلَ نصيحتَه، ولكنه لما كان في غير دار خلودٍ غَرَّه بما أطمَعه فيه من الخُلد، فقَبِل منه، ولو أخبر اللهُ آدمَ أنه في دار الخُلد ثمَّ شكَّ في خبر ربه لسمَّاه كافرًا، ولما سمَّاه عاصيًا؛ لأن من شكَّ في خبر الله فهو كافر، ومن فعَل غيرَ ما أمره الله به وهو معتقدٌ للتصديق لخبر ربه فهو عاصٍ، وإنما سمَّى اللهُ آدمَ عاصيًا ولم يسمِّه كافرًا. قالوا: فإن كان آدمُ أُسكِن جنة الخُلد، وهي دارُ القُدس التي لا يدخلها إلا طاهرٌ مقدَّس؛ فكيف توصَّل إليها إبليسُ الرجسُ النجسُ الملعونُ المذمومُ المدحور حتى فَتَنَ فيها آدم؟! وإبليسُ فاسقٌ قد فسق عن أمر ربه، وليست جنةُ الخلد دارَ الفاسقين، ولا يدخلها فاسقٌ بتَّةً، إنما هي دارُ المتقين، وإبليس غيرُ تقيٍّ، فبعد أن قيل له: اهبِط (2) منها فما يكونُ لك أن تتكبَّر فيها، أيُفْسَحُ له (3) أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط والإبعاد له بالعُتُوِّ والاستكبار؟! _________ (1) أي: عائبًا محتقرًا له، مستخفًّا به. (2) كذا في الأصول، على سبيل الاستشهاد، لا التلاوة. (3) (ق): "انفسح له".

(1/31)


هذا مضادٌّ لقوله تعالى: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، فإن كانت مخاطبتُه آدمَ بما خاطبه به وقاسمه عليه ليس تكبُّرًا فليس تَعْقِلُ العربُ التي نزل القرآن بلسانها ما التكبُّر! ولعل من ضَعُفَت رويَّته وقَصُرَ بحثُه (1) أن يقول: إنَّ إبليسَ لم يَصِل إليها، ولكنَّ وسوستَه وصلت! فهذا قولٌ يُشْبِهُ قائلَه، ويُشاكِلُ مُعتقِدَه، وقولُ الله تعالى حكمٌ بيننا وبينه، وقولُه تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا} يردُّ ما قال؛ لأنَّ المقاسَمة ليست وسوسة، ولكنَّها مخاطبةٌ ومشافَهة، ولا تكونُ إلا من اثنين، شاهدَين (2) غير غائبَين، ولا أحدهما. ومما يدلُّ على أنَّ وسوستَه كانت مخاطبةً قولُ الله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} الآية، فأخبر أنه قال له، ودلَّ ذلك على أنه إنما وسوسَ إليه مخاطبةً، لا أنه أوقَع ذلك في نفسه (3) بلا مقاوَلة، فمن ادَّعى على الظاهر تأويلًا ولم يُقِم عليه دليلًا لم يجب قبولُ قوله. وعلى أنَّ الوسوسة قد تكونُ كلامًا مسموعًا أو صوتًا قال رؤبة (4): * وَسْوَسَ يدعو مُخْلِصًا ربَّ الفَلَق * _________ (1) (ت، ن، ح): "وقصر به بحثه". (2) (ق): "وشاهدين". (3) (ت، ح، ن): "بنفسه". (4) ديوانه (108).

(1/32)


وقال الأعشى (1): تَسْمَعُ للحَلْيِ وَسْواسًا إذا انصَرَفَتْ ... كما استعانَ بريحٍ عِشْرقٌ زَجِلُ قالوا: وفي قول إبليس لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20] دليلٌ على مشاهدته لهما وللشجرة. ولما كان آدمُ خارجًا من الجنة وغير ساكنٍ فيها قال الله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، ولم يقل: "عن هذه الشجرة"، كما قال له إبليس؛ لأنَّ آدم لم يكن حينئذٍ في الجنة ولا مشاهدًا للشجرة. مع قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]؛ فقد أخبَر سبحانه خبرًا محكمًا غير مشتبهٍ أنه لا يصعدُ إليه إلا كلمٌ طيبٌ وعملٌ صالح، وهذا مما قدَّمنا ذكرَه، أنه لا يَلِجُ المقدَّسَ المطهَّر إلا مقدَّسٌ مطهَّرٌ طيِّب، ومعاذَ الله أن تكون وسوسةُ إبليسَ مقدَّسةً أو طاهرةً أو خيرًا، بل هي شرٌّ كلُّها، وظلمةٌ وخبثٌ ورجس. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وكما أنَّ أعمال الكافرين لا تَلِجُ القُدسَ الطاهرَ ولا تَصِلُ إليه؛ لأنها خبيثةٌ غيرُ طيبة، كذلك لا تَصِلُ ــ ولم تَصِل ــ وسوسةُ إبليس، ولا ولجت القُدس؛ قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]. _________ (1) ديوانه (55)، من معلَّقته. والوسواس: صوت جَرْسِ الحلي. والعِشْرِق: نبتٌ له ورق، إذا يبس أطارته الريحُ، فأسمعَتْ له زجلًا (صوتًا).

(1/33)


وقد رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ آدم نامَ في جنته (1)، وجنةُ الخلد لا نوم فيها بإجماع المسلمين (2)؛ لأنَّ النومَ وفاة، وقد نطق به القرآن (3)، والوفاةُ تقلُّب حال، ودارُ السَّلام مسلَّمةٌ من تقلُّب الأحوال، والنائمُ ميِّتٌ أو كالميِّت. قالوا: وقد رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأمِّ حارثة لما قالت له: يا رسول الله، إنَّ حارثة قُتِلَ معك، فإن كان صار إلى الجنة صبرتُ واحتسبت، وإن كان صار إلى ما سوى ذلك رأيتَ ما أفعل، فقال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو جنةٌ واحدةٌ هي؟!، إنما هي جِنانٌ كثيرة" (4). فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ لله جنَّاتٍ كثيرة؛ فلعلَّ آدم أسكنه الله جنةً من جناته ليست هي جنة الخلد. _________ (1) لم أقف عليه مرفوعًا. وورد موقوفًا على بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه السدي في تفسيره، ومن طريقه الطبري (1/ 513)، وابن منده في "التوحيد" (1/ 218)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وغيرهم. وفي تفسير السدي نظر، وقد استعظم الإمام أحمد صنيعه في سياق أسانيده، ثم إن في راويه عنه أسباط بن نصر ضعفًا. انظر: "الضعفاء" للعقيلي (1/ 88)، ومنتخب "الإرشاد" للخليلي (398). ولم يعبأ بذلك ابن منده، فقال: "هذا إسنادٌ ثابت". وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على "تفسير الطبري" (1/ 156 - 160). وورد مقطوعًا من قول مجاهد، ومحمد بن إسحاق، والسدي، عند الطبري في "التفسير" (1/ 514، 7/ 515)، و"التاريخ" (1/ 104). (2) (ق، ح، ن): "من المسلمين". (3) يشير إلى قوله تعالى في سورة الزمر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الآية: 42]. (4) أخرجه البخاري (2809، 3982) من حديث أنس.

(1/34)


قالوا (1): وقد جاء في بعض الأخبار أنَّ جنة آدم كانت بأرض الهند (2). قالوا: وهذا وإن كان لا يصحِّحه رواةُ الأخبار ونقلة الآثار، فالذي تقبلُه الألبابُ ويشهدُ له ظاهرُ الكتاب أنَّ جنة آدم ليست جنةَ الخلد ولا دارَ البقاء، وكيف يجوزُ أن يكون اللهُ أسكنَ آدمَ جنةَ الخلد ليكون فيها من الخالدين، وهو القائل للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}؟! وكيف أخبَر الملائكةَ أنه يريدُ أن يجعل في الأرض خليفة، ثم يُسْكِنُه دارَ الخلود، ودارُ الخلود لا يدخلُها إلا من يخلُد فيها، كما سُمِّيت بدار الخلود؟! (3) فقد سمَّاها الله بالأسماء التي تقدَّم ذِكْرُنا لها (4) تسميةً مطلقةً لا خصوص فيها، فإذا قيل للجنة: "دار الخُلد" لم يَجُزْ أن يُنْقَض مسمَّى هذا الاسم بحال. _________ (1) في (ت، ن) ههنا زيادة: "وقد جاء في الأخبار أنها ليست جنة الخلد". والسياقُ يأباها. (2) لم أقف على شيءٍ منها. لكن وردت آثارٌ عن جماعةٍ من الصحابة والتابعين في أن الهند هي الموضعُ الذي أُهبِط آدمُ إليه من الأرض، ولعلها من أخبار أهل الكتاب. انظر: "مستدرك الحاكم" (2/ 542)، و"مصنف عبد الرزاق" (5/ 93، 116)، و"تاريخ الطبري" (1/ 121)، و"الدر المنثور" (1/ 55). وروي في ذلك شيءٌ مرفوع، لكنه لم يثبت. انظر: "تاريخ دمشق" (7/ 437)، و"كنز العمال" (2/ 358)، و"السلسلة الضعيفة" (403). (3) كذا قرأتُ الجملة الأخيرة. ويحتمل أن تكون متعلِّقة بما بعدها. (4) وهي: "دار الخلود" و"دار السلام" و"دار القرار" و"مقعد صدق".

(1/35)


فهذا بعضُ ما احتجَّ به القائلون بهذا المذهب. وعلى هذا، فإسكانُ آدمَ وذريته في هذه الجنة لا ينافي كونهم في دار الابتلاء والامتحان، وحينئذٍ فكانت (1) تلك الوجوهُ والفوائدُ التي ذكرتموها ممكنةَ الحصول في الجنة. فالجوابُ أن يقال: هذا فيه قولان للناس، ونحن نذكرُ القولين، واحتجاجَ الفريقين، ونبينُ ثبوتَ الوجوه التي ذكرناها وأمثالها على كلا القولين. ونذكرُ أوَّلًا قول من قال: إنها جنةُ الخلد التي وَعَدَها الله المتقين، وما احتجُّوا به، وما نقضوا به حججَ من قال: إنها غيرها، ثمَّ نتبعُه مقالةَ الآخرين وما احتجُّوا به، وما أجابوا به عن حجج منازعيهم، من غير انتصابٍ لنصرةِ أحد القولين وإبطال الآخر؛ إذ ليس غرضُنا ذلك، وإنما الغرضُ ذكرُ بعض الحِكَم والمصالح المقتضية لإخراج آدمَ من الجنة، وإسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان. وكان الغرضُ بذلك الردَّ على من زعم أنَّ حكمة الله سبحانه تأبى إدخالَ آدمَ الجنة وتعريضَه للذنب الذي أُخْرِجَ منها به، وأنه أيُّ فائدةٍ في ذلك، والردَّ على من أبطل أن يكون له في ذلك حكمة، وإنما هو صادرٌ عن محض المشيئة التي لا حكمة وراءها. ولما كان المقصودُ حاصلًا على كلِّ تقدير ــ سواءٌ كانت جنةَ الخلد أو غيرها ــ بنَينا الكلامَ على التقديرين، ورأينا أنَّ الردَّ على هؤلاء بدبُّوس _________ (1) (ق، ن): "كانت".

(1/36)


الشِّلاق (1) لا يحصِّلُ غرضًا (2) ولا يزيلُ مرضًا، فسلكنا هذا السبيلَ ليكون قولهم مردودًا على كلِّ قولٍ من أقوال الأمة (3)، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فنقول: أما ما ذكرتموه من كون الجنة التي أُهبِط منها آدمُ ليست جنةَ الخلد، وإنما هي جنةٌ غيرها، فهذا مما قد اختلف فيه الناس (4)، والأشهَر عند الخاصَّة والعامة الذي لا يخطرُ بقلوبهم سواه أنها جنة الخُلد التي أُعِدَّت للمتقين، وقد نصَّ غيرُ واحدٍ من السَّلف على ذلك. _________ (1) سيأتي تفسيره (ص: 1035). (2) (ق): "يحصل غرضًا"، بالإثبات. والصواب المثبت. (3) (ق): "الأئمة". (4) انظر: "حادي الأرواح" (45 - 90)، و"البداية والنهاية" (1/ 175 - 180)، و"سير أعلام النبلاء" (15/ 558)، و"تأويلات أهل السنة" للماتريدي (1/ 106)، و"حقائق التأويل" للشريف الرضي (246)، و"أعلام النبوة" للماوردي (54)، و"مفاتيح الأسرار" للشهرستاني (1/ 282، 287)، و"التبيان" للطوسي (1/ 135، 156، 4/ 367)، و"تفسير القرطبي" (1/ 302)، و"البحر المحيط" (1/ 156)، و"روح المعاني" (1/ 234)، و"التحرير والتنوير" (1/ 430)، و"تفسير المنار" (1/ 277)، و"محاسن التأويل" (2/ 111)، و"إكمال المعلم" (6/ 306، 8/ 138)، و"فتح الباري" (11/ 520)، و"التيجان" لابن هشام (18)، و"شمس العلوم" لنشوان (6859)، و"البدء والتاريخ" (2/ 84)، و"اللمعة البيضاء" للتبريزي (422)، وفي حاشية الأخير مواضع المسألة في كتب الشيعة. وانظر المصادر الآتية في التعليقات. وهو خلافٌ ينبغي فصلُه والخروجُ منه، كما قال ابن كثير، وإن لم تكن المسألة من أصول العلم.

(1/37)


واحتجَّ من نصر هذا بما رواه مسلمٌ في "صحيحه" (1) من حديث أبي مالكٍ الأشجعيِّ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. وأبي مالك عن رِبْعِيِّ بن حِرَاش، عن حذيفة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمعُ الله عز وجل النَّاس، فيقومُ المؤمنون حتى تُزْلَفَ لهم الجنة، فيأتون آدمَ عليه السلام، فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجَكم من الجنة إلا خطيئةُ أبيكم آدم؟ ... " وذكر الحديث. قالوا: فهذا يدلُّ على أنَّ الجنة التي أُخْرِج منها آدمُ هي بعينها التي يُطلبُ منه أن يستفتحها لهم. قالوا: ويدلُّ عليه أنَّ الله سبحانه قال: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، فهذا يدلُّ على أنَّ هبوطَهم (2) كان من الجنة إلى الأرض، من وجهين: أحدهما: من لفظ قوله: {اهْبِطُوا}، فإنَّ الهبوطَ نزولٌ من عُلْوٍ إلى سُفْل (3). والثاني: قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} عقيب قوله: {اهْبِطُوا}، فدلَّ على أنهم لم يكونوا أوَّلًا في الأرض. وأيضًا؛ فإنه سبحانه وصَف الجنةَ التي أُسْكِنَها آدمُ بصفاتٍ لا تكونُ في الجنة الدنيوية، فقال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ _________ (1) (195). (2) (ق): "هبوطه". (3) (ق، ن): "سفول". (ح): "أسفل".

(1/38)


فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119]، وهذا لا يكونُ في الدنيا أصلًا، ولو كان الرجلُ في أطيب منازلها فلا بدَّ أن يَعْرِض له الجوعُ والظَّمأُ والعُرْي (1) والضُّحِيُّ للشمس. وأيضًا؛ فإنها لو كانت الجنةُ في الدنيا لعَلِمَ آدمُ كذبَ إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}؛ فإنَّ آدمَ كان يعلم أنَّ الدنيا منقضيةٌ فانية، وأنَّ مُلْكَها يبلى. وأيضًا؛ فإنَّ قصَّة آدمَ في "البقرة" ظاهرةٌ جدًّا في أنَّ الجنة التي أُخْرِجَ منها فوق السَّماء؛ فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 34 - 37]، فهذا إهباطُ آدمَ وحوَّاءَ وإبليسَ من الجنة، ولهذا أتى فيه بضمير الجمع (2). وقيل: إنه خطابٌ لهم (3) وللحيَّة. وهذا يحتاجُ إلى نقلٍ ثابت؛ إذ لا ذكر للحية في شيءٍ من قصَّة آدم وإبليس. وقيل: خطابٌ لآدم وحوَّاء، وأتى فيه بلفظ الجمع؛ كقوله تعالى: _________ (1) (ق): "والتعري". (2) (د، ت): "بصيغة الجمع". (3) (ت): "لآدم وحواء".

(1/39)


{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]. وقيل: لآدم وحوَّاء وذريتهما. وهذه الأقوالُ ضعيفةٌ غير الأول؛ لأنها بين قولٍ لا دليل عليه، وبين ما يدلُّ ظاهرُ الخطاب على خلافه؛ فثبت أنَّ إبليس داخلٌ في هذا الخطاب، وأنه من المُهْبَطين من الجنة. ثم قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وهذا الإهباطُ الثاني لا بدَّ أن يكون غيرَ الأوَّل، وهو إهباطٌ من السماء إلى الأرض؛ وحينئذٍ فتكون الجنةُ التي أُهْبِطوا منها أوَّلًا فوق السماء، وهي جنةُ الخلد. وقد ذهبت طائفةٌ ــ منهم الزمخشريُّ ــ إلى أنَّ قوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} خطابٌ لآدم وحوَّاء خاصَّة، وعبَّر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذريَّاتهما (1). قال: "والدليلُ عليه قولُه تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ". قال: "ويدلُّ على ذلك قولُه: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38 - 39]، وما هو إلا حكمٌ يعمُّ الناسَ كلهم، ومعنى {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ _________ (1) (ح، ن): "ذريتهما".

(1/40)


عَدُوٌّ} ما عليه الناسُ من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض" (1). وهذا الذي اختاره أضعفُ الأقوال في الآية؛ فإنَّ العداوةَ التي ذكرها اللهُ في كتابه (2) إنما هي بين آدم وإبليس وذرياتهما، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] (3)، وأمَّا آدمُ وزوجُه فإنَّ الله سبحانه أخبر في كتابه أنه خلقها منه ليَسْكُنَ إليها، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فهو سبحانه جعَل المودةَ بين الرجل وزوجه، وجعل العداوة بين آدمَ وإبليسَ وذرياتهما. ويدلُّ عليه ــ أيضًا ــ عَوْدُ الضَّمير إليهم بلفظ الجمع، وقد تقدَّم ذكرُ آدمَ وزوجه وإبليس في قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، فهؤلاء ثلاثة: آدم، وزوجه، وإبليس؛ فلماذا يعودُ الضميرُ على بعض المذكور (4) مع منافرته لطريق الكلام، ولا يعودُ على جميع المذكور مع أنه وَجْهُ الكلام؟! فإن قيل: فما تصنعون بقوله في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، وهذا خطابٌ لآدم وحوَّاء، وقد أخبر بعداوة بعضهم بعضًا؟ _________ (1) "الكشاف" (1/ 128). (2) "في كتابه" من (ت) فقط. (3) في (ق) هنا زيادة: "ولا عدو" ولا معنى لها. (4) (ت): "المذكورين". وضرب على الياء والنون في (د).

(1/41)


قيل: إما أن يكون الضميرُ في قوله: {اهْبِطَا} راجعًا إلى آدمَ وزوجِه، أو يكون راجعًا إلى آدم وإبليس، ولم يذكر الزوجةَ لأنها تَبَعٌ له. وعلى الثاني؛ فالعداوةُ المذكورةُ للمخاطَبين بالإهباط، وهما آدمُ وإبليس. وعلى الأول؛ تكون الآيةُ قد اشتملت على أمرين: أحدهما: أمرُه لآدمَ وزوجِه بالهبوط. والثاني: جعلُه العداوةَ بين آدمَ وزوجه وإبليس. ولا بدَّ أن يكون إبليس داخلًا في حكم هذه العداوة قطعًا، كما قال تعالى له (1): {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]، وقال لذريته: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. وتأمَّل كيف اتفقت المواضعُ التي فيها العداوةُ على ضمير الجمع دونَ التثنية، وأما ذِكرُ الإهباط فتارةً يأتي بلفظ ضمير الجمع، وتارةً بلفظ التثنية، وتارةً يأتي بلفظ الإفراد لإبليسَ وحده، كقوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، فهذا الإهباطُ لإبليس وحده، والضميرُ في قوله: {مِنْهَا} قيل: إنه عائدٌ إلى الجنة. وقيل: عائدٌ إلى السماء. وحيث أتى (2) بصيغة الجمع، كان لآدمَ وزوجِه وإبليس؛ إذ مدارُ القصَّة عليهم. _________ (1) أي: لآدم. وسقطت "له" من (ق). (2) أي: الضمير في ذكر الإهباط.

(1/42)


وحيثُ أتى بلفظ التثنية، فإمَّا أن يكون لآدمَ وزوجِه ــ إذ هما اللذان باشرا الأكلَ من الشجرة وأقدما على المعصية ــ، وإمَّا أن يكون لآدمَ وإبليس ــ إذ هما أبوَا الثقلين ــ، فذكر حالهما وما آل إليه أمرُهما؛ ليكون عظةً وعبرةً لأولادهما. والقولان محكيَّان في ذلك. وحيث أتى بلفظ الإفراد، فهو لإبليسَ وحدَه. وأيضًا؛ فالذي يوضِّح أنَّ الضمير في قوله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} لآدمَ وإبليس: أنَّ الله سبحانه لمَّا ذكَر المعصية أفردَ بها آدمَ دون زوجِه، فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا}، وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطَب بالإهباط هو آدمُ ومن زيَّن له المعصية، ودخلت الزوجةُ تبعًا. وهذا لأنَّ المقصودَ إخبارُ الله تعالى لعباده المكلفين من الجنِّ والإنس بما جرى على أبويهما من شُؤم المعصية ومخالفة الأمر؛ لئلَّا يقتدوا بهما في ذلك؛ فذِكْرُ أبوي الثَّقلين أبلغُ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط. وقد أخبَر الله سبحانه عن الزوجة أنها أكلت مع آدم، وأخبَر أنه أهبطَه وأخرجَه (1) من الجنة بتلك الأكلة؛ فعُلِمَ أنَّ هذا اقتضاءُ حكم الزوجة، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم؛ فكان تجريدُ العناية إلى ذِكر حال الأبوين اللذين هما أصلُ الذرية أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس وأمِّهم، والله أعلم. _________ (1) (ح): "أهبطها وأخرجها".

(1/43)


وبالجملة؛ فقولُه: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ظاهرٌ في الجمع، فلا يسوغُ حملُه على الاثنين في قوله: {اهْبِطَا}. قالوا: وأمَّا قولكم: إنه كيف وسوسَ لهما بعد إهباطه من الجنة؟ ومحالٌ أن يصعدَ إليها بعد قوله تعالى له: {اهْبِطْ مِنْهَا}. فجوابُه من وجوه (1): أحدها: أنه أُخرِجَ منها ومُنِعَ من دخولها على وجه السُّكنى والكرامة واتخاذها دارًا، فمن أين لكم أنه مُنِعَ من دخولها على وجه الابتلاء والامتحان لآدمَ وزوجِه؟! ويكونُ هذا دخولًا عارضًا كما يدخل الشُّرَطُ دارَ من أُمِروا بابتلائه ومحنته، وإن لم يكونوا أهلًا لسكنى تلك الدار. الثاني: أنه كان يدنو من السماء فيكلِّمُهما ولا يدخلُ عليهما دارَهما. الثالث: أنه لعله قام على الباب فناداهما وقاسَمَهما ولم يَلِج الجنة. الرابع: أنه قد رُوِي أنه أراد الدخولَ عليهما، فمنعته الخَزَنة، فدخل في فم الحيَّة حتى دخلت به عليهما، ولا يشعرُ الخزنةُ بذلك (2). قالوا: ومما يدلُّ على أنها جنةُ الخلد بعينها أنها جاءت مُعَرَّفةً بلام التعريف في جميع المواضع، كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، ولا جنةَ يعهدُها المخاطَبون ويعرفونها إلا جنةَ الخُلدِ التي وَعَدَ الرحمنُ عبادَه _________ (1) هذا جواب الزمخشري في "الكشاف" (1/ 128). (2) أخرجه الطبري في "التفسير" (1/ 227) عن ابن عباسٍ وابن مسعودٍ من وجهٍ لا يثبت. وانظر تعليق الطبري على ما تضمنته هذه الرواية في (1/ 532).

(1/44)


بالغيب، فقد صار هذا الاسمُ عَلَمًا عليها بالغَلَبة، وإن كان في أصل الوضع (1) عبارةً عن البستان ذي الثمار والفواكه، وهذا كالمدينة لـ "طيبة" والنجم لـ "الثريا"، ونظائرها. فحيثُ ورد اللفظُ معرَّفًا بالألف واللام انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين، وأما إن أريد به جنةٌ غيرها فإنها تجيء منكَّرة، كقوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32]، أو مقيَّدةً بالإضافة، كقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف: 39]، أو مقيَّدةً من السِّياق بما يدلُّ على أنها جنةٌ في الأرض، كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] الآيات؛ فهذا السِّياقُ والتقييدُ يدلُّ على أنها بستانٌ في الأرض. قالوا: وأيضًا؛ فإنه قد اتفق أهلُ السنة والجماعة على أنَّ الجنة والنار مخلوقتان، وقد تواترت الأحاديثُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، كما في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ أحدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مقعدُه بالغداة والعشيِّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدُك حتى يبعثك الله يوم القيامة" (2). وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختصمت الجنةُ والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلُني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم؟ وقالت النار: ما لي لا يدخلُني إلا الجبَّارون والمتكبِّرون؟ فقال _________ (1) (ت): "في نفس الأمر". (2) "صحيح البخاري" (1379)، و"صحيح مسلم" (2866).

(1/45)


للجنة: أنت رحمتي أرحمُ بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذِّبُ بك من أشاء" الحديث (1). وفي "السنن" عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما خلق الله الجنةَ والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها. قال: فذهبَ فنظر إليها وإلى ما أعدَّ الله لأهلها ... " الحديث (2). وفي "الصحيحين" (3) في حديث الإسراء: "ثمَّ رُفِعَت لي سِدْرةُ المنتهى، فإذا ورقُها مثل آذان الفُيول، وإذا نَبِقُها مثل قِلال هَجَر، وإذا أربعةُ أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أمَّا النهران الظاهران فالنيلُ والفرات، وأمَّا الباطنان فنهران في الجنة". وفيه أيضًا: "ثمَّ أُدْخِلتُ الجنة، فإذا جَنابِذُ اللؤلؤ (4)، وإذا ترابها المسك" (5). وفي "صحيح البخاري" (6) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا أسيرُ في الجنة إذا أنا بنهرٍ حافَتاه قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّف، قال: قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الذي أعطاك ربُّك. فضرب المَلَكُ بيده فإذا طينُه _________ (1) "صحيح البخاري" (4850)، و"صحيح مسلم" (2846). (2) أخرجه أبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (3772)، وصححه الترمذي، وابن حبان (7394)، والحاكم (1/ 26) ولم يتعقبه الذهبي. (3) "البخاري" (3207)، و"مسلم" (164) من حديث مالك بن صعصعة. (4) جمع جُنْبُذَة. وهي القُبَّة. "النهاية" (1/ 305). (5) "البخاري" (349)، و"مسلم" (163) من حديث أبي ذر. (6) (6581).

(1/46)


مِسكٌ أَذْفَر". وفي "صحيح مسلم" (1) في حديث صلاة الكسوف أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتقدَّمُ ويتأخَّرُ في الصلاة، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "إنه عُرِضَت عليَّ الجنةُ والنار، فقُرِّبت منِّي الجنة حتى لو تناولتُ منها قِطْفًا لأخذتُه، فلو أخذتُه لأكلتُم منه ما بَقِيَت الدنيا". وفي "صحيح مسلم" (2) عن ابن مسعودٍ في قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]: أنَّ "أرواحهم في جوف طيرٍ خُضر، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرش، تسرَحُ من الجنة حيث شاءت، ثمَّ تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع عليهم ربُّك اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا؟! ... " الحديث. وفي الصحيح (3) من حديث ابن عباس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما أصيبَ إخوانُكم بأحدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ تَرِدُ أنهارَ _________ (1) (901، 904، 907) بنحوه. وورد الحديث في (ت، ق) مختصرًا. (2) (1887). والظاهر أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصرِّح بذلك ابن مسعود لظهور العلم به وأن الوهم لا يذهب إلى سواه، ثم لشدة احتياطه وتحريه في رفع الحديث. انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 34)، و"تهذيب سنن أبي داود" للمصنف (7/ 140)، و"المغني عن حمل الأسفار" للعراقي (2/ 255). وقال المزي في "تحفة الأشراف" (7/ 145): "موقوف". (3) (ت): "الصحيحين". ولم أقف على الحديث فيهما. وقد استدركه الحاكم كما سيأتي. فلعل المصنف أراد صحة الحديث فحسب.

(1/47)


الجنة، وتأكلُ من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلَّقةٍ في ظلِّ العرش، فلما وجدوا طِيبَ مأكلهم ومشربهم ومَقِيلهم، قالوا: من يُبَلِّغ عنَّا إخواننا أنَّا في الجنة نُرزَق؛ لئلَّا يزهَدوا في الجهاد، ولا يَنْكُلوا عن الحرب؟ فقال الله: أنا أبلِّغُهم عنكم؛ فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية" (1). وفي "الموطأ" (2) من حديث كعب بن مالكٍ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما نَسَمةُ المؤمن طائرٌ يَعْلقُ في الجنَّة حتى يُرْجِعَه اللهُ إلى جسده يوم يبعثُه". وفي "البخاري" (3) أنَّ إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما توفِّي قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ له مُرْضِعًا في الجنة". وفي "صحيح البخاري" (4) عن عمران بن حصين، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اطَّلعتُ في الجنة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها النساء". _________ (1) أخرجه أبو داود (2520)، وأحمد (1/ 266)، وغيرهما. وصححه الحاكم (2/ 88) على شرط مسلم ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في "المختارة" (10/ 349). وحديث ابن مسعود السابق يشهد له. (2) (1/ 328)، ومن طريقه أحمد (3/ 455)، والنسائي (2072)، وغيرهما بإسنادٍ صحيح. وصححه ابن حبان (4657). وانظر: "تفسير ابن كثير" (2/ 808، 7/ 3414). (3) (1382). (4) (3241).

(1/48)


والآثارُ في هذا الباب أكثر من أن تُذْكَر (1). وأمَّا القولُ بأنَّ الجنة والنار لم تخلقا بعد، فهو قولُ أهل البدع من ضُلَّال المعتزلة ومن قال بقولهم (2)، وهم الذين يقولون: إنَّ الجنة التي أُهْبِطَ منها آدمُ إنما كانت جنةً بشرقيِّ (3) الأرض. وهذه الأحاديثُ وأمثالُها تردُّ قولهم. قالوا: وأمَّا احتجاجُكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة، وأنها منتفيةٌ في الجنة التي أُسكِنَها آدم، من اللغو والكذب، والنَّصَب والعُرْي، وغير ذلك؛ فهذا كلُّه حقٌّ، لا ننكره نحن ولا أحدٌ من أهل الإسلام؛ ولكن هذا إنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدلُّ عليه سياقُ الكلام، وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين آدم وإبليسَ ما حكاه الله عز وجل من الامتحان والابتلاء، ثم (4) يصيرُ الأمرُ عند دخول المؤمنين إليها إلى ما أخبر الله عز وجل به؛ فلا تنافي بين الأمرين. قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الجنة دارُ جزاءٍ وثواب، وليست دار تكليف، وقد كلَّف الله سبحانه آدمَ فيها بالنهي عن الشجرة. فجوابُه من وجهين: _________ (1) انظر: "حادي الأرواح" (33 - 45)، و"التيجان" لابن هشام (20)، و"نظم المتناثر" للكتاني (232). (2) انظر: "أوائل المقالات" للمفيد (124، 220)، و"حقائق التأويل" للشريف الرضي (245)، و"الفِصَل" (4/ 141)، و"الانتصار" للعمراني (659). (3) مهملة في (د). وفي (ت، ق): "تسير في". (4) (ت): "حتى".

(1/49)


أحدهما: أنها إنما يمتنعُ أن تكون دارَ تكليفٍ إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، فحينئذٍ ينقطعُ التكليف، وأما امتناعُ وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل عليه. الثاني: أنَّ التكليفَ فيها لم يكن بالأعمال التي يُكلَّف بها الناسُ في الدنيا، من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها، وإنما كان حَجْرًا عليه في شجرةٍ من جملة أشجارها (1)، وهذا لا يمتنعُ وقوعُه في جنة الخلد، كما أنَّ كلَّ أحدٍ محجورٌ عليه أن يَقْرَبَ أهلَ غيره فيها. فإن أردتم بأنَّ الجنة ليست دارَ تكليفٍ امتناعَ وقوع مثل هذا فيها في وقتٍ من الأوقات فلا دليل لكم عليه، وإن أردتم أنَّ غالبَ التكاليف التي تكونُ في الدنيا منتفيةٌ فيها فهو حقٌّ ولكن لا يدلُّ على مطلوبكم. قالوا: وهذا كما أنه مُوجَبُ الأدلة، فهو قولُ (2) سلف الأمة، فلا نعرفُ (3) بقولكم قائلًا من أئمة العلم، ولا يُعَرَّجُ عليه، ولا يُلْتفَت إليه. وقال الأولون: الجوابُ عمَّا ذكرتم من وجهين؛ مجمل ومفصَّل: أما المجمل: فإنكم لم تأتوا على قولكم بدليلٍ يتعيَّنُ المصيرُ إليه، لا من قرآنٍ، ولا من سنَّة، ولا من أثرٍ ثابتٍ عن أحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا التابعين، لا مسندًا ولا مقطوعًا. ونحن نُوجِدُكم من قال بقولنا: _________ (1) (ت): "من بعض جملة أشجارها". (2) في الأصول: "وقول". والمثبت أشبه بالسياق. (3) (ق، د، ح، ن): "يعرف".

(1/50)


هذا أحدُ أئمة الإسلام سفيانُ بن عيينة، قال في قوله عز وجل: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} قال: "يعني في الأرض" (1). وهذا عبد الله بن مسلم بن قتيبة، قال في "معارفه" (2) ــ بعد أن ذكر خلقَ الله لآدم وزوجه ــ: "إنَّ الله سبحانه أخرجه من مشرق جنة عدنٍ إلى الأرض التي منها أُخِذ". وهذا أُبيٌّ قد حكى الحسنُ عنه أنَّ آدم لما احتضرَ اشتهى قِطْفًا من قِطْف الجنة، فانطلقَ بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة، فقالوا: أين تريدون يا بني آدم؟ قالوا: إنَّ أبانا اشتهى قِطْفًا من قِطْف الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد كُفِيتُموه، فانتهوا إليه، فقبضوا روحَه، وغسَّلوه، وحنَّطوه، وكفَّنوه، وصلَّى عليه جبريلُ وبنوه خلفَ الملائكة، ودفنوه، وقالوا: هذه سنَّتكم في موتاكم (3). _________ (1) ذكره في "حادي الأرواح" (52)، ولم أقف عليه مسندًا. (2) (14)، إلا أن هذا ليس قول ابن قتيبة، وإنما هو مِن فصلٍ طويلٍ نقله من التوراة، صرَّح بذلك في فاتحة كلامه وخاتمته؛ فلا تصحُّ نسبته إليه. وانظر: (سفر التكوين: الإصحاح الثاني: 8 - 22). (3) أخرجه الطيالسي (551)، وعبد الله بن أحمد في زوائد "المسند" (5/ 136)، وابن المنذر في "الأوسط" (5/ 370)، وغيرهم. وفي إسناده اختلافٌ كثير، في رفعه ووقفه، ووصله وانقطاعه. وصححه مرفوعًا الحاكم (1/ 344، 2/ 545) ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في "المختارة" (1251). وقال ابن كثير في "التفسير" (3/ 1415): "الموقوف أصحُّ إسنادًا"، وقال في (5/ 2298): "وفي رفعه نظر". وانظر: "التهذيب" (1/ 232). وانظر تخريجه موسَّعًا في "المرسل الخفي" لشيخنا الشريف العوني (2/ 603 - 629)، وخلص إلى صحَّته مرفوعًا.

(1/51)


وهذا أبو صالحٍ قد نقَل عن ابن عباس في قوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا}، قال: "هو كما يقال: هَبَط فلانٌ في أرض كذا وكذا" (1). وهذا وهبُ بن منبه يذكرُ أنَّ آدم خُلِقَ في الأرض، وفيها سَكَن، وفيها نُصِبَ له الفردوس، وأنه كان بِعَدَن، وأن سَيْحُون وجَيْحُون والفرات انقسمت من النهر الذي كان في وسط الجنة، وهو الذي كان يسقيها (2). وهذا منذرُ بن سعيد البلُّوطي، اختاره في "تفسيره"، ونصَره بما حكيناه عنه، وحكاه في غير التفسير (3) عن أبي حنيفة رضي الله عنه ومن قال بقوله، والذين ردُّوا عليه مقالتَه لم يُنكِروا نسبتَه إلى أبي حنيفة، وإنما ناقضوه بكونه خالف أبا حنيفة فيما خالفه فيه، فَلِمَ قال بقوله في هذه المسألة؟! وهذا أبو مسلمٍ الأصبهانيُّ صاحبُ "التفسير" وغيره، أحدُ الفضلاء المشهورين، قال بهذا وانتصر له واحتجَّ عليه بما هو معروفٌ في كتابه. وهذا أبو محمَّد عبد الحقِّ بن عطية ذكر القولين في "تفسيره" (4) في قصَّة آدم في البقرة. _________ (1) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة (46). (2) لم أقف عليه. ونقلُ وهبٍ عن كتب بني إسرائيل معلوم. وانظر ما تقدم قبل قليل في التعليق على كلام ابن قتيبة. (3) ذكر ابنُ كثير في "البداية" (1/ 176) أن له مصنفًا مفردًا في هذه المسألة. (4) (1/ 249 - 250).

(1/52)


وهذا أبو محمَّد ابن حزم ذكر القولين في كتاب "الملل والنِّحل" له (1)، فقال: "وكان المنذر بن سعيد القاضي يذهبُ إلى أنَّ الجنةَ والنار مخلوقتان (2)، إلا أنه كان يقول: إنها ليست هي التي كان فيها آدمُ وامرأتُه". وممن حكى القولين أيضًا: أبو عيسى الرُّمَّاني (3) في "تفسيره"، واختار أنها جنة الخلد. ثمَّ قال: "والمذهبُ الذي اخترناه: قولُ الحسن، وعمرو، وواصل (4)، وأكثر أصحابنا، وهو قولُ أبي عليٍّ، وشيخنا أبي بكر، وعليه أهلُ التفسير". _________ (1) (4/ 142 - 143). وقد أورد حجج المنذر بن سعيد وناقشها، وختم البحث بقوله: "فصحَّ أنها لم تكن في الأرض البتة". [وكذلك في كتاب "الأصول والفروع" (111 - 112).] (2) كذا نقل عنه ابن حزم. وحكى عنه ابن عطية في "المحرر الوجيز" (3/ 325) أنه يقول بأن الجنة لم تخلق بعد، وكذلك النار. وابنُ حزمٍ أبصرُ به وأعرف، وفي نقله عنه دلائلُ الضبط، وأخشى أن يكون ابن عطية بنى إحدى المسألتين على الأخرى، وليس بينهما تلازم، كما سيبينه المصنف فيما يأتي (ص: 68). (3) كذا وقعت كنيته في الأصول، و"حادي الأرواح" (19)، وعنهما في "البداية والنهاية" (1/ 176). وهو أبو الحسن الرماني علي بن عيسى (ت: 384) النحوي المعتزلي. ترجمته في "إنباه الرواة" (2/ 294)، و"السير" (16/ 533). وقد عُثِر على أجزاء من تفسيره، ولم تطبع بعد. وشيخه أبو بكر هو ابن الإخشيد، وأبو علي هو الجبائي، وهو كثير النقل عنهما. (4) في الأصول: "وعمرو بن واصل"، تحريف. عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء. وانظر: "التبيان" للطوسي (1/ 156).

(1/53)


وممن ذكر القولين: أبو القاسم الراغب (1) في "تفسيره" (2)، فقال: "واختلف في الجنة التي أُسْكِنَها آدم، فقال بعض المتكلِّمين: كان بستانًا جعله الله تعالى له امتحانًا، ولم يكن جنة المأوى". ثمَّ قال: "ومن قال: لم تكن جنة الخلد (3)؛ لأنه لا تكليفَ في الجنة، وآدمُ كان مكلَّفًا". قال: "وقد قيل في جوابه: إنما (4) لا تكونُ دارَ تكليف (5) في الآخرة، ولا يمتنعُ أن تكون في وقتٍ دارَ تكليفٍ دون وقت، كما أنَّ الإنسانَ يكونُ في وقتٍ مكلَّفًا دون وقت". وممن ذكر الخلافَ في المسألة: أبو عبد الله ابن الخطيب الرازي في "تفسيره" (6)، فذكر هذين القولين، وقولًا ثالثًا ــ وهو التوقُّف ــ، قال: "لإمكان الجميع وعدم الوصول إلى القطع"، كما سيأتي حكايةُ كلامه. ومن المفسرين من لم يذكر غير هذا القول، وهو أنها لم تكن جنة الخلد، إنما كانت حيثُ شاء الله من الأرض. قالوا: وكانت تطلعُ فيها الشمسُ والقمر، وكان إبليسُ فيها ثمَّ أُخرِج. _________ (1) الأصبهاني، المتكلِّم (ت: 425 تقريبًا). انظر: "السير" (18/ 120). (2) (ق 40/أ). (3) (ت، ق): "المأوى". (4) (ق، ح): "إنها". (5) (ن، د، ق، ح): "التكليف". (6) (3/ 3 - 4).

(1/54)


قال (1): ولو كانت جنَّة الخلد لما أُخرِجَ منها. وممن ذكر القولين ــ أيضًا ــ: أبو الحسن الماوردي، فقال في "تفسيره" (2): "واختُلِفَ في الجنة التي أُسْكِناها (3) على قولين: أحدهما: أنها جنة الخلد. الثاني: أنها جنةٌ أعدَّها اللهُ لهما، وجعلها دارَ ابتلاء، وليست جنةَ الخلد التي جعلها اللهُ دارَ جزاء. ومن قال بهذا اختلفوا فيه على قولين: أحدُهما: أنها في السماء؛ لأنه أهبطهما منها. وهذا قولُ الحسن. الثاني: أنها في الأرض؛ لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نُهِيا عنها دون غيرها من الثمار. وهذا قولُ ابن بحر (4). _________ (1) كذا في الأصول. (2) (1/ 104، 2/ 208، 209). وسقط من مطبوعته ذكر الخلاف الثاني. والماورديُّ يحكي في كتابه كثيرًا أقوال المعتزلة دون تعقُّب، ويوافقهم في بعضها، ومن هنا اتهمه ابن الصلاح بالاعتزال، وحذَّر من تفسيره، وتبعه الذهبي، ودافع عنه ابن حجر بأن المسائل التي وافق اجتهادُه فيها مقالاتِ المعتزلة معروفةٌ معدودة، ولا ينبغي أن يطلق عليه بها اسم الاعتزال. انظر: "طبقات الشافعية" لابن الصلاح (2/ 638)، و"الميزان" (3/ 155)، و"لسان الميزان" (4/ 260)، و"إرشاد الأريب" (1955). (3) (ت، ح): "أسكنها". (4) في الأصول، ومعظم نسخ "البداية والنهاية" (1/ 177): "ابن يحيى". وفي نسخة من "البداية والنهاية": "ابن جبير". وكله تحريف. ووقع على الصواب في "حادي الأرواح" (48). وهو أبو مسلم الأصبهاني، محمد بن بحر (تقدمت ترجمته)، مشهورٌ بهذه النسبة، ويذكره بها كثيرًا الماورديُّ في تفسيره (انظر: 2/ 204، 450، 4/ 83، 213، وغيرها)، وابنُ الجوزي في "زاد المسير"، والقرطبي، وغيرهم.

(1/55)


وكان ذلك بعد أن أُمِرَ إبليسُ بالسُّجود لآدم. والله أعلمُ بصواب ذلك". هذا كلامه. وقال ابنُ الخطيب في "تفسيره" (1): "اختلفوا في أنَّ الجنةَ المذكورة في هذه الآية: هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السماء، فهل هي الجنةُ التي هي دارُ الثواب وجنةُ الخلد أو جنةٌ أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي (2) وأبو مسلم الأصبهاني: هذه الجنةُ في الأرض. وحملا الإهباطَ على الانتقال من بقعةٍ إلى بقعة، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا}. القول الثاني ــ وهو قولُ الجُبَّائي ــ: أنَّ تلك الأرض كانت في السماء السابعة". قال: "والدليلُ عليه قولُه: {اهْبِطُوا}. ثمَّ إنَّ الإهباطَ الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى، والإهباطُ الثاني كان من السماء إلى الأرض". قال: "والقولُ الثالث ــ وهو قول جمهور أصحابنا ــ: أنَّ هذه الجنةَ هي _________ (1) (3/ 3). (2) عبد الله بن أحمد بن محمود (ت: 319)، من متكلِّمي المعتزلة البغداديين، وله تصانيف. انظر: "طبقات المعتزلة" (88)، و"السير" (14/ 313).

(1/56)


دارُ الثواب. والدليلُ عليه: أنَّ الألف واللَّام في لفظ "الجنة" لا يفيدُ العموم؛ لأنَّ سُكنى آدمَ جميعَ الجِنان (1) مُحال، فلا بدَّ من صرفها إلى المعهود السابق، والجنةُ التي هي المعهودةُ المعلومة بين المسلمين هي دارُ الثواب؛ فوَجَب صرفُ اللَّفظ إليها". قال: "والقولُ الرابع: أنَّ الكلَّ ممكن، والأدلةُ النقليةُ ضعيفةٌ ومتعارضة؛ فوجبَ التوقُّفُ وتركُ القطع". قالوا: ونحن لا نقلِّدُ هؤلاء، ولا نعتمدُ على ما حُكِيَ عنهم، والحجةُ الصحيحةُ حَكَمٌ بين المتنازعين. قالوا: وقد ذكرنا من الأدلَّة على هذا القول ما فيه كفاية. أمَّا الجوابُ المفصَّل: فنحن نتكلَّم على ما ذكرتم من الحُجَج؛ لينكشفَ وجه الصَّواب، فنقولُ وبالله التوفيق: أما استدلالُكم بحديث أبي هريرة وحذيفة حين يقولُ الناس لآدم: "استفتِح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم منها إلا خطيئةُ أبيكم؟ " (2)؛ فهذا الحديثُ لا يدلُّ على أنَّ الجنةَ التي طلبوا منه أن يستفتحها لهم هي التي أُخرِجَ منها بعينها؛ فإنَّ الجنة اسمُ جنس، فكلُّ بستانٍ (3) يُسمَّى جنة، كما قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ _________ (1) (د، ح، ن): "سكنى جميع الجنان". (2) أخرجه مسلم (195). (3) (ت، ن، ح): "لكل بستان".

(1/57)


جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} [الإسراء: 90 - 91]، وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]، وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} إلى قوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 32 - 39]. فالجنةُ اسمُ جنس؛ فهُم لمَّا طلبوا من آدم أن يستفتحَ لهم جنةَ الخُلد أخبرهم بأنه لا يَحْسُنُ منه أن يُقْدِم على ذلك وقد أخرجَ نفسَه وذريتَه من الجنة التي أسكنه اللهُ إياها بذنبه وخطيئته. هذا الذي دلَّ عليه الحديث. وأمَّا كونُ الجنة التي أُخرِجَ منها هي بعينها التي طلبوا منه أن يستفتحها لهم؛ فلا يدلُّ الحديثُ عليه بشيءٍ من وجوه الدَّلالات الثلاث (1)، ولو دلَّ عليه لوجبَ المصيرُ إلى مدلول الحديث، وامتنع القولُ بمخالفته، وهل مدارُنا إلا على فهم مقتضى كلام الصَّادق المصدوق صلواتُ الله وسلامه عليه؟! قالوا: وأمَّا استدلالكم بالهبوط، وأنه نزولٌ من عُلْوٍ إلى سُفْل، فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ الهبوط قد استُعمِل في النُّقْلة من أرضٍ إلى أرض، كما يقال: "هبَط فلانٌ بلدَ كذا وكذا"، وقال تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا _________ (1) المطابقة، والتضمُّن، والالتزام. و"الثلاث" ليست في (ت).

(1/58)


سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]، وهذا كثيرٌ في نظم العرب ونثرها، قال: أنْ تَهبِطينَ بلادَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ من الطِّلاح (1) وقد روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "هو كما يقال: هبَط فلانٌ أرضَ كذا وكذا" (2). الثاني: أنَّا لا ننازعكم في أنَّ الهبوط حقيقةً ما ذكرتموه، ولكن من أين يلزمُ أن تكون الجنةُ التي منها الهبوطُ فوق السماوات؟! فإذا كانت في أعلى الأرض أما يصحُّ أن يقال: هبَط منها، كما يهبطُ الحجرُ من أعلى الجبل إلى أسفله، ونحوه؟! وأما قولُه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36، والأعراف: 24] فهذا يدلُّ على أنَّ الأرض التي أُهبِطوا إليها لهم فيها مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين، ولا يدلُّ على أنهم لم يكونوا في جنةٍ عاليةٍ أعلى من الأرض التي أُهبِطوا إليها تخالفُ تلك الأرض في صفاتها وأشجارها ونعيمها وطِيبها؛ فإنَّ الله سبحانه فاوَتَ بين بقاع الأرض أعظمَ تفاوتٍ وأبينَه، وهذا مشهودٌ بالحسِّ. فمِن أين لكم أنَّ تلك لم تكن جنةً تميَّزت عن سائر بقاع الأرض بما لا يكونُ إلا فيها، ثم أُهبِطُوا منها إلى الأرض التي هي محلُّ التعب والنَّصَب _________ (1) أنشده القاسم بن معن قاضي الكوفة، في "معاني القرآن" للفراء (1/ 136)، و"خزانة الأدب" (8/ 421). ودون نسبة في "الخصائص" (1/ 389)، و"شرح المفصَّل" (7/ 9)، وغيرهما. (2) تقدم قريبًا.

(1/59)


والابتلاء والامتحان؟! وهذا بعينه هو الجوابُ عن استدلالكم بقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} إلى آخر ما ذكرتموه (1). مع (2) أنَّ هذا حكمٌ معلَّقٌ بشرط، والشرطُ لم يحصل؛ فإنه سبحانه إنما قال ذلك عقيب قوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}؛ فقولُه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} هو صيغةُ وعدٍ مرتبطةٌ بما قبلها، والمعنى: إن اجتنبتَ الشجرةَ التي نهيتُك عنها، ولم تقرَبها، كان لك هذا الوعد. والحكمُ المعلَّقُ بالشرط عدمٌ عند عدم الشرط؛ فلما أكل من الشجرة زال استحقاقُه لهذا الوعد. قالوا: وأما قولكم: إنه لو كانت الجنةُ في الدنيا لعلمَ آدمُ كذبَ إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] إلى آخره؛ فدعوى لا دليل عليها؛ لأنه لا دليل لكم على أنَّ الله سبحانه كان قد أعلَم آدمَ حين خلقه أنَّ الدنيا منقضيةٌ فانية، وأنَّ مُلْكَها يبلى ويزول. وعلى تقدير أن يكون آدمُ حينئذٍ قد أُعلِمَ ذلك، فقولُ إبليس: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} لا يدلُّ على أنه أرادَ بالخُلد ما لا يتناهى، فإنَّ الخُلدَ في لغة العرب هو اللُّبثُ الطويل، كقولهم: قَيْدٌ مُخَلَّد، وحبسٌ مُخَلَّد، وقد قال تعالى لعادٍ (3): {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) _________ (1) (ص: 38). (2) (د، ق): "من". تحريف. (3) (ت، د): "لثمود"، وهو خطأ. وفي (ق): "لثمود"، وصُحِّحت في الطُّرة. وفي (ن): "لثمود"، وصُحِّحت في الطُّرة إلى: "لقوم ثمود"!

(1/60)


وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]؛ وكذلك قولُه: {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} يرادُ به المُلكُ الطويلُ الثابت. وأيضًا؛ فلا وجه للاعتذار (1) عن قول إبليس مع تحقُّق كذبه، ومُقاسَمته آدمَ وحوَّاء على الكذب، والله سبحانه قد أخبَر أنه قاسَمَهما ودَلَّاهما بغرور، وهذا يدلُّ على أنهما اغترَّا بقوله، فغرَّهما بأن أطمَعهما في خُلد الأبد والمُلك الذي لا يبلى. وبالجملة؛ فالاستدلالُ بهذا على كون الجنة التي أُسكِنَها آدمُ هي جنةَ الخُلد التي وُعِدَها المتقون غيرُ بيِّن. ثمَّ نقول: لو كانت الجنةُ هي جنةَ الخُلد التي لا يزولُ مُلكُها لكانت جميعُ أشجارها شجرَ الخُلد؛ فلم يكن لتلك الشجرة اختصاصٌ (2) من بين سائر الشجر بكونها شجرة الخُلد، وكان آدمُ يَسْخَرُ من إبليس؛ إذ قد عَلِمَ أنَّ الجنةَ دارُ الخُلد. فإن قلتم: لعلَّ آدم لم يعلم حينئذٍ ذلك، فغرَّه الخبيثُ وخدَعه بأنَّ هذه الشجرة وحدها هي شجرةُ الخُلد= قلنا: فاقنعوا منَّا بهذا الجواب بعينه عن قولكم: "لو كانت الجنةُ في الدنيا لعلمَ آدمُ كذبَ إبليس في ذلك"؛ فإنَّ قولَه كان خداعًا وغرورًا محضًا على كلِّ تقدير. فانقلبَ دليلُكم حجةً عليكم، وبالله التوفيق. قالوا: وأما قولكم: "إنَّ قصةَ آدمَ في البقرة ظاهرةٌ جدًّا في أنَّ جنة آدمَ _________ (1) (ح، ن): "للاعتبار". (2) (ح): "واختصاصها".

(1/61)


كانت فوق السماء"؛ فنحن نطالبكم بهذا الظُّهور، ولا سبيل لكم إلى إثباته. قولُكم (1): "إنه كرَّر فيه ذكر الهبوط مرتين، ولا بدَّ أن يفيدَ الثاني غيرَ ما أفاد الأول، فيكونُ الهبوطُ الأول من الجنة، والثاني من السماء"= فهذا فيه خلافٌ بين أهل التفسير: فقالت طائفةٌ هذا القول الذي ذكرتموه. وقالت طائفةٌ ــ منهم النقَّاشُ (2) وغيره ــ: إنَّ الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والهبوطُ الأولُ إلى الأرض، وهو آخرُ الهبوطَيْن في الوقوع وإن كان أوَّلهما في الذِّكر. وقالت طائفة: أتى به على جهة التغليظ والتأكيد، كما تقول للرجل: اخرُج، اخرُج. وهذه الأقوالُ ضعيفة. فأمَّا القولُ الأول، فيظهرُ ضعفُه من وجوه: أحدها: أنه مجردُ دعوى لا دليل عليها من اللفظ ولا من خبرٍ يجبُ المصيرُ إليه، وما كان هذا سبيلُه لا يُحْمَلُ القرآنُ عليه. الثاني: أنَّ الله سبحانه قد أهبط إبليسَ لما امتنع من السجود لآدم إهباطًا كونيًّا قدريًّا لا سبيل إلى التخلُّف عنه، فقال تعالى: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ _________ (1) أي: وأما قولكم. وفي (ت): "بقولكم". (2) محمد بن الحسن الموصلي، أبو بكر (ت: 351)، له: "شفاء الصدور" تفسيرٌ مشهور، والنقل عنه مستفيض، ولم يطبع بعد، والمصنف ينقل هنا عن "المحرر الوجيز" (1/ 162).

(1/62)


تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]، وقال في موضعٍ آخر: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحِجر: 34 - 35]، وفي موضعٍ آخر: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18]. وسواءٌ كان الضميرُ في قوله: {مِنْهَا} راجعًا إلى السماء، أو إلى الجنة، فهذا صريحٌ في إهباطه وطرده ولعنته وإدحاره. والمَدْحُور: المَبْعُود (1). وعلى هذا، فلو كانت الجنةُ فوق السماوات لكان قد صَعِدَ إليها بعد إهباط الله له. وهذا وإن كان ممكنًا فهو في غاية البعد عن حكمة الله (2)، ولا يقتضيه خبرُه (3)؛ فلا ينبغي أن يصار إليه. وأما الوجوه الأربعةُ التي ذكرتموها مِن صعوده للوسوسة؛ فهي ــ مع أمر الله تعالى له بالهبوط مطلقًا وطرده ولعنته ودُحوره ــ لا دليل عليها، لا من اللفظ، ولا من الخبر الذي يجبُ المصيرُ إليه، وما هي إلا احتمالاتٌ مجرَّدة، وتقديراتٌ لا دليل عليها. الثالث: أنَّ سياقَ قصة إهباط الله تعالى لإبليس ظاهرةٌ (4) في أنه إهباطٌ إلى الأرض، مِن وجوه: أحدُها: أنه سبحانه نبَّه على حكمة إهباطه بما قام به من التكبُّر المقتضي _________ (1) كذا في الأصول. وانظر: "طريق الهجرتين" (393) والتعليق عليه. (2) (ن، ح): "عن حكمه". (3) (ت): "خبر غيره". (4) كذا في الأصول. والوجه: "ظاهرٌ"؛ لأن الكلام عن السياق.

(1/63)


غايةَ ذُلِّه وطرده ومعاملته بنقيض قصده، وهو إهباطُه من فوق السماوات إلى قرار الأرض، ولا تقتضي الحكمةُ أن يكون فوق السماء مع كِبْرِه (1) ومنافاة حاله لحال الملائكة الأكرمين. الثاني: أنه قال: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، وكونُه رجيمًا ملعونًا ينفي أن يكون في السماء بين (2) المقرَّبين المطهَّرين. الثالث: أنه قال: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، وملكوتُ السماوات لا يَعْلُوه المَذؤومُ المدحورُ أبدًا. وأما القولُ الثاني؛ فهو القولُ الأولُ بعينه، مع زيادة ما لا يدلُّ عليه السِّياق بحال، من تقديم ما هو مؤخَّرٌ في الواقع، وتأخير ما هو مقدَّمٌ فيه؛ فيُرَدُّ بما رُدَّ به القولُ الذي قبله. وأما القولُ الثالث، وهو أنه للتأكيد؛ فإن أريدَ التأكيدُ اللفظيُّ المجرَّدُ فهذا لا يقعُ في القرآن، وإن أريدَ به أنه مستلزمٌ للتغليظ والتأكيد مع ما يشتملُ عليه من الفائدة فصحيح. فالصوابُ أن يقال: أعيدَ الإهباطُ مرةً ثانيةً لأنه علَّق عليه حكمًا غير المعلَّق على الإهباط الأول؛ فإنه علَّق على الأول عداوةَ بعضهم بعضًا، فقال: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، وهذه جملةٌ حاليَّة، وهي اسميَّةٌ بالضمير وحده عند الأكثرين، والمعنى: "اهبطوا مُتعَادِين"، وعلَّق على الهبوط الثاني حكمين آخرين: _________ (1) (ت): "التكبر". (2) (ت): "مع".

(1/64)


أحدهما: هبوطُهم جميعًا (1). والثاني: قولُه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فكأنه قيل: اهبطوا بهذا الشرط، مأخوذًا عليكم هذا العهد، وهو أنه مهما جاءكم مني هدًى فمن اتبعه منكم فلا خوفٌ عليه ولا حزنٌ يلحقُه. ففي الإهباط الأول إيذانٌ بالعقوبة ومقابلتهم على الجريمة، وفي الإهباط الثاني روحُ التسلية والاستبشار بحُسْن عاقبة هذا الهبوط لمن تَبِعَ هداي، ومصيره إلى الأمن والسُّرور المُضادِّ للخوف والحزن. فكَسَرَهُم بالإهباط الأول، وجَبَرَ من اتبعَ هداه بالإهباط الثاني، على عادته سبحانه ولطفه بعباده وأهل طاعته، كما كَسَرَ آدمَ بالإخراج من الجنة، وجَبَرَه بالكلمات التي تلقَّاها منه، فتابَ عليه وهداه. ومن تدبَّر حكمته سبحانه، ولطفَه وبرَّه بعباده وأحبابه (2)، في كَسْرِه لهم ثم جَبْرِه بعد الانكسار، كما يَكْسِرُ العبدَ بالذَّنب ويُذِلُّه به ثم يَجْبُره بتوبته عليه ومغفرته له، وكما يَكْسِرُه بأنواع المصائب والمحن ثمَّ يَجْبُره بالعافية والنعمة= انفتحَ له بابٌ عظيمٌ من أبواب معرفته ومحبته (3)، وعَلِمَ أنه أرحمُ _________ (1) (ح): "هبوطهما جميعا". (2) (ق): "وأحبابه وأهل طاعته". (3) انظر هذا المعنى الجليل في "زاد المعاد" (3/ 221، 477)، و"الوابل الصيب" (9، 10)، و"مدارج السالكين" (1/ 187، 299)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 189)، و"حادي الأرواح" (765)، وسيأتي مبسوطًا (ص: 88، 819، 822).

(1/65)


بعباده من الوالدة بولدها، وأن ذلك الكسرَ هو نفسُ رحمته به وبرِّه ولطفه، وهو أعلمُ بمصلحة عبده منه، ولكنَّ العبدَ لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكادُ يشعرُ بذلك، ولا يُنالُ رضا المحبوب وقربُه والابتهاجُ والفرحُ بالدُّنوِّ منه والزلفى لديه إلا على جسرٍ من الذُّل والمسكنة، وعلى هذا قام أمرُ المحبة، فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك، كما قيل (1): تَذلَّلْ لمن تَهْوى لِتَحْظى بِقُرْبِه ... فكم عِزَّةٍ قد نالها العبدُ بالذُّلِّ إذا كان من تهوى عزيزًا ولم تكن ... ذليلًا له فاقْرَ السَّلامَ على الوَصْل وقال آخر: اخْضَعْ وذِلَّ لمن تحبُّ فليس في ... شرعِ الهوى أنفٌ يُشَالُ ويُعْقَدُ (2) وقال آخر: وما فَرِحَتْ بالوصل نفسٌ عزيزةٌ ... وما العِزُّ إلا ذُلُّها وانكسارُها (3) قالوا: وإذا عُلم أنَّ إبليس أُهبِط من دار العزِّ عقبَ امتناعه وإبائه من _________ (1) البيتان للحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، من شيوخ البخاري، وله ديوان شعر (ت: 260) في "معجم أصحاب الصدفي" (84). والأول لعليَّة بنت المهدي في أشعار أولاد الخلفاء من "الأوراق" للصولي (75)، ودون نسبة في "المذاكرة في ألقاب الشعراء" (168)، و"الواضح المبين" (105). (2) قاله أبو تراب هبة الله بن السريجي، على البديهة، في "بدائع البدائه" (9). (3) يشبه نظم المصنف، ولم يذكره في الفصل الذي عقده لهذا المعنى في "روضة المحبين" (328). وانظر: "طريق الهجرتين" (109).

(1/66)


السجود لآدم، ثبتَ أنَّ وسوستَه له ولزوجه كانت في غير المحلِّ الذي أُهبِط منه، والله أعلم. قالوا: وأما قولُكم: "إن الجنة إنما جاءت معرَّفةً باللام، وهي تنصرفُ إلى الجنة التي لا يعهدُ بنو آدم سواها"؛ فلا ريب أنها جاءت كذلك، ولكنَّ العهدَ وقع في خطاب الله تعالى آدمَ لسكناها بقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، فهي كانت معهودةً عند آدم، ثم أخبَرنا سبحانه عنها معرِّفًا لها بلام التعريف، فانصرف المعرّفُ بها (1) إلى تلك الجنة المعهودة في الذِّهن، وهي التي سكنها آدمُ ثمَّ أُخرِج (2)، فمن أين في هذا ما يدلُّ على محلِّها وموضعها بنفيٍ أو إثبات؟! وأما مجيءُ جنة الخُلد معرَّفةً باللام؛ فلأنها الجنةُ التي أخبَرت بها الرسلُ لأممهم، ووَعَدَها الرحمنُ عبادَه بالغيب، فحيث ذُكِرت انصرف الذِّهنُ إليها دون غيرها؛ لأنها قد صارت معلومةً في القلوب مستقرةً فيها، ولا ينصرفُ الذِّهنُ إلى غيرها، ولا يتوجَّه الخطابُ إلى سواها. وقد جاءت الجنةُ في القرآن معرَّفةً باللام، والمرادُ بها بستانٌ في بقعة من الأرض؛ كقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]، فهذا لا ينصرفُ الذِّهنُ فيها لا إلى جنة الخُلد ولا إلى جنة آدم بحال. قالوا: وأما قولُكم: إنه قد اتفق أهلُ السنة والجماعة على أنَّ الجنةَ _________ (1) (ح): "المعروف بها". (ق): "المعرف لها". (2) (ن): "أخرج منها".

(1/67)


والنار مخلوقتان، وأنه لم ينازع في ذلك إلا بعضُ أهل البدع والضلال، واستدلالُكم على وجود الجنة الآن= فحقٌّ لا ننازعُكم فيه، وعندنا من الأدلَّة على وجودها أضعافُ ما ذكرتم، ولكن أيُّ تلازمٍ بين أن تكون جنةُ الخُلد مخلوقةً وبين أن تكون هي جنة آدم بعينها؟! فكأنكم تزعمون أنَّ كلَّ من قال: إنَّ جنةَ آدم هي جنةٌ في الأرض، فلا بدَّ له أن يقول: إنَّ الجنةَ والنار لم يُخْلَقا بعد. وهذا غلطٌ منكم، منشؤه من توهُّمكم أنَّ كلَّ من قال بأنَّ الجنة لم تُخْلَق بعد فإنه يقول: إنَّ جنةَ آدم هي في الأرض، وكذلك بالعكس، أنَّ كلَّ من قال: إنَّ جنة آدم في الأرض فيقول: إنَّ الجنة لم تُخْلَق بعد (1). فأما الأولُ فلا ريب فيه، وأما الثاني فوهمٌ، لا تلازم بينهما، لا في المذهب ولا في الدليل بحال؛ فأنتم نَصَبتم دليلَكم مع طائفةٍ نحن وأنتم متفقون على إنكار قولهم وردِّه وإبطاله، ولكن لا يلزمُ من هذا بطلانُ هذا القول الثالث. وهذا واضح. قالوا: وأمَّا قولُكم: إنَّ جميع ما نفاه الله سبحانه عن الجنة من اللَّغو والكذب وسائر الآفات التي وُجِدَ بعضُها من إبليس عدوِّ الله، فهذا إنما يكونُ بعد القيامة إذا دخلها المؤمنون، كما يدلُّ عليه السِّياق. فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ ظاهر الخبر يقتضي نفيه مطلقًا؛ لقوله تعالى (2): {لَا لَغْوٌ _________ (1) "بعد" ليست في (ح، ن). (2) (ق): "كقوله تعالى". في الموضعين.

(1/68)


فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23]، ولقوله تعالى: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11]، فهذا نفيٌ عامٌّ لا يجوزُ تخصيصُه إلا بمخصِّصٍ بيِّن، والله سبحانه قد حكم بأنها دارُ الخُلد حكمًا مطلقًا، فلا يدخلُها إلا خالدٌ فيها، فتخصيصُكم هذه التسمية بما بعد القيامة خلافُ الظَّاهر. الثاني: أنَّ ما ذكرتُم إنما يصارُ إليه إذا قام الدليلُ السالمُ عن المُعارِض المقاوِم أنها جنةُ الخُلد بعينها، وحينئذٍ يتعيَّن المصيرُ إلى ما ذكرتم. فأما إذا لم يَقُم دليلٌ سالمٌ على ذلك، ولم تُجْمِع الأمَّةُ عليه، فلا يسوغُ مخالفةُ ما دلَّت عليه النصوص البيِّنة (1) بغير مُوجِب، والله أعلم. قالوا: ومما يدلُّ على أنها ليست جنةَ الخُلد التي وُعِدَها المتَّقون أنَّ الله سبحانه لما خلق آدم أعلَمه أنَّ لِعُمْرِه أجلًا ينتهي إليه، وأنه لم يخلقه للبقاء. ويدلُّ على هذا ما رواه الترمذيُّ في "جامعه" (2) قال: حدثنا محمد بن بشَّار، قال: حدثنا صفوان بن عيسى: حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة رضي الله عنه _________ (1) (ت): "المبينة". (2) (3368)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (218)، وغيرهما. وصححه ابن حبان (6167)، وأخرجه شيخه ابن خزيمة في "التوحيد" (1/ 160) ولم يُعِلَّه، وصححه الحاكم (1/ 64) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: "علل الدارقطني" (8/ 147). والأشبه أنه خطأ، والصواب: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام موقوفًا. وإلى ذلك ذهب النسائي وأحمد في "العلل" (3/ 372) رواية عبد الله. إلا أن موضع الشاهد مرويٌّ من وجوه أخرى، كما سيأتي.

(1/69)


قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلقَ اللهُ آدمَ ونفخَ فيه الروحَ عَطَس، فقال: الحمد لله، [فحمد الله] (1) بإذنه، فقال له ربُّه: يرحمُك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملإٍ منهم جلوس، فقل: السلام عليكم. فقالوا: وعليك السلام. ثم رجع إلى ربِّه، فقال: إنَّ هذه تحيَّتك وتحيَّةُ بنيك بينهم. فقال الله له ــ ويداه مقبوضتان ــ: اختر أيتهما شئت. فقال: اخترتُ يمين ربِّي ــ وكلتا يدي ربي يمينٌ مباركة ــ، ثم بسَطها، فإذا فيها آدمُ وذريته، قال: أي ربِّ، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فإذا كلُّ إنسانٍ مكتوبٌ عمره بين عينيه، فإذا رجلٌ أضوؤهم ــ أو: مِن أضوئهم ــ، قال: يا ربِّ، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، وقد كتبتُ له عمر أربعين سنة. قال: يا ربِّ، زِدْ في عمره. قال: ذاك الذي كتبتُ له. قال: أي ربِّ، فإني قد جعلتُ له من عمري ستِّين سنة. قال: أنت وذاك. قال: ثم أُسْكِنَ الجنةَ ما شاء الله، ثمَّ أُهبِط منها، وكان آدمُ يَعُدُّ لنفسه، فأتاه ملكُ الموت، فقال له آدم: قد عجلتَ، أليس قد كُتِبَت لي ألفُ سنة؟! قال: بلى، ولكنك جعلتَ لابنك داود ستِّين سنة. فجَحَدَ فجحدَت ذريتُه، ونسي فنسيَت ذريتُه. قال: فمِن يومئذٍ أُمِرَ بالكتاب والشهود". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه، ورُوِي من غير وجهٍ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). _________ (1) ساقطة من الأصول. واستدركتها من "جامع الترمذي". وهي لازمة. (2) من أحسنها ما أخرجه الترمذي (3076)، وابن سعد في "الطبقات" (1/ 27) وغيرهما من حديث هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الترمذي، والحاكم (2/ 325) ولم يتعقبه الذهبي.

(1/70)


قالوا: فهذا صريحٌ في أنَّ آدم لم يكن مخلوقًا في دار الخُلد التي لا يموتُ من دخلها، وإنما خُلِقَ في دار الفناء التي جعل اللهُ لها ولأهلها أجلًا معلومًا، وفيها أُسْكِن. فإن قيل: فإذا كان آدمُ قد عَلِمَ أنَّ له عمرًا ينتهي إليه، وأنه ليس من الخالدين، فكيف لم يكذِّب إبليسَ ويعلَم بطلانَ قوله حيثُ قال له: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، بل جوَّز ذلك وأكلَ من الشجرة طمعًا في الخُلد؟! فالجوابُ (1) ما تقدَّم من الوجهين: إمَّا أن يكون المرادُ بالخُلد المُكثَ الطَّويل، لا أبدَ الأبد (2)، أو يكون عدوُّه إبليسُ لما قاسَمه وزوجَه وغرَّهما وأطمَعهما بدوامهما في الجنة نسي ما قُدِّرَ له من عمره. قالوا: والمعوَّلُ عليه في ذلك قولُه تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وهذا الخليفةُ هو آدمُ باتفاق الناس، ولما عَجِبَت الملائكةُ من ذلك وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} عرَّفهم سبحانه أنَّ هذا الخليفةَ الذي هو جاعلُه في الأرض ليس حالُه كما توهَّمتم من الفساد، بل أعلِّمه من علمي ما لا تعلمونه، فأَظْهَرَ فضلَه وشرفَه بأنْ علَّمه الأسماء كلَّها، ثمَّ عرضهم على _________ (1) (ت): "فالمختار". (2) (ح): "الآباد".

(1/71)


الملائكة، فلم يعرفوها وقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. وهذا يدلُّ على أن هذا الخليفة الذي سبق به إخبارُ الربِّ تعالى لملائكته، وأظهرَ تعالى فضلَه وشرفَه وعِلْمه بما لم تعلمه الملائكة، هو خليفةٌ مجعولٌ في الأرض لا فوق السماء. فإن قيل: قولُه تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إنما هو بمعنى: سأجعلُه في الأرض، فهي مآلُه ومصيره. وهذا لا ينافي أن يكون في جنة الخُلد فوق السَّماء أوَّلًا، ثم يصير إلى الأرض للخلافة التي جعلها الله له. واسمُ الفاعل هنا بمعنى الاستقبال، ولهذا انتصبَ عنه المفعول. فالجواب: أنَّ الله سبحانه أعلمَ ملائكتَه بأنه يخلقُه لخلافة الأرض، لا لسكنى جنة الخلود، وخبرُه الصِّدق، وقولُه الحقُّ، وقد علمَت الملائكةُ أنه هو آدم، فلو كان قد أسكنه دارَ الخلود فوق السماء لم يَظهر للملائكة وقوعُ المُخْبَر، ولم يحتاجوا إلى أن يبيِّن لهم فضلَه وشرفَه وعِلمَه المتضمِّن ردَّ قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}؛ فإنهم إنما سألوا هذا السؤال في حقِّ الخليفة المجعول في الأرض، فأما من هو في دار الخُلد فوق السماء فلم تتوهَّم الملائكةُ منه سفكَ الدِّماء والفسادَ في الأرض، ولا كان إظهارُ فضله وشرفه وعلمه (1) ــ وهو فوق السماء ــ برادٍّ لقولهم وجوابًا لسؤالهم، بل الذي يحصلُ به جوابهم وضدُّ ما توهَّموه إظهارُ تلك الفضائل _________ (1) في (ح، ن) هنا زيادة: "ظاهر في أنه في أول الأمر جعله خليفة في الأرض". وستأتي في موضعها الصحيح بعد قليل.

(1/72)


والعلوم منه وهو في محلِّ خلافته التي خُلِقَ لها وتوهَّمت الملائكة أنه لا يحصلُ منه هناك إلا ضدُّها من الفساد وسفك الدِّماء. وهذا واضحٌ لمن تأمَّله. وأمَّا اسمُ الفاعل وهو {جَاعِلٌ} وإن كان بمعنى الاستقبال، فلأنَّ هذا إخبارٌ عمَّا سيفعلُه الربُّ تعالى في المستقبل مِنْ جَعْلِه الخليفة في الأرض، وقد (1) صدقَ وعدَه، ووقع ما أخبر به، وهذا ظاهرٌ في أنه من أوَّل الأمر جعله خليفةً في الأرض. وأمَّا جعلُه في السماء أوَّلًا ثم جعلُه خليفةً في الأرض ثانيًا، وإن كان مما لا ينافي الاستخلافَ المذكور، فهو مما لا يقتضيه اللفظُ بوجه، بل يقتضي ظاهرُه خلافَه، فلا يصارُ إليه إلا بدليلٍ يُوجِبُ المصيرَ إليه؛ وحوله ندندن. قالوا: وأيضًا؛ فمن المعلوم الذي لا يخالفُ فيه مسلمٌ أنَّ الله سبحانه خلقَ آدمَ من تراب، وهو ترابُ هذه الأرض بلا ريب. كما روى الترمذيُّ في "جامعه" (2) من حديث عوف، عن قَسَامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله تبارك وتعالى خلقَ آدمَ من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْرِ الأرض، فجاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهْل والحَزْن، والخبيث والطَّيب". قال الترمذي: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيح". وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" من طرقٍ عدَّة. _________ (1) (ح، ن): "وبه". (2) (2955)، وأبو داود (4693)، وأحمد (4/ 400)، وغيرهم. وصححه ابن حبان (6160، 6181)، والحاكم (2/ 261 ـ 262) ولم يتعقبه الذهبي.

(1/73)


وقد أخبر سبحانه أنه خلقه من تراب، وأخبر أنه خلقه من سُلالةٍ من طين، وأخبر أنه خلقه من صلصالٍ من حَمَأٍ مسنون. والصَّلصال، قيل فيه: هو الطِّينُ اليابسُ الذي له صلصلةٌ ما لم يُطْبَخ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار. وقيل فيه: هو المتغيِّر الرائحة، من قولهم: صَلَّ، إذا أنتن. والحمأ: الطِّينُ الأسود المتغيِّر. والمَسْنُون، قيل: المصبوب، مِن: سَنَنْت الماء، إذا صببته. وقيل: المُنْتِنُ (1)، مِن قولهم: سَنَنْت الحَجَر على الحَجَر، إذا حككته، فإذا سال بينهما شيءٌ فهو سَنِينٌ، ولا يكونُ إلا منتنًا. وهذه كلُّها أطوارٌ للتراب الذي هو مبدؤه الأول (2). كما أخبر عن خلقِ الذرِّية من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة (3)، وهذه أحوالُ النطفة التي هي مبدأ الذرِّية. ولم يُخْبِر سبحانه أنه رفعه من الأرض إلى فوق السموات، لا قبل التَّخليق ولا بعده، وإنما أخبر عن إسجاد الملائكة له، وعن إدخاله الجنة، وما جرى له مع إبليس بعد خلقه، فأخبر سبحانه بالأمور الثلاثة في نَسَقٍ واحد، مرتبطًا بعضُها ببعض. قالوا: فأين الدليلُ الدَّالُّ على إصعاد مادَّته، وإصعاده بعد خلقه إلى فوق _________ (1) مهملة في (د، ق، ت، ن). (ح): «المنتن المسن». (2) انظر: «تفصيل النشأتين» للراغب (72). (3) (د، ح، ت، ن): «من نطفة ومن علقة ومن مضغة».

(1/74)


السموات؟ هذا مما لا دليلَ لكم عليه أصلًا، ولا هو لازمٌ من لوازم ما أخبر اللهُ به. قالوا: ومن المعلوم أنَّ ما فوق السموات ليس بمكانٍ للطِّين الأرضي، المتغيِّر الرائحة، الذي قد أنتَن من تغيُّره، وإنما محلُّ هذا الأرض التي هي محلُّ المتغيِّرات والفاسدات (1)، وأما ما كان فوق الأفلاك فلا يلحقُه تغيُّرٌ ولا نَتَن، ولا فسادٌ ولا استحالة. قالوا: وهذا أمرٌ لا يرتابُ فيه العقلاء. قالوا: وقد قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، فأخبَر سبحانه أنَّ هذا العطاءَ في جنة الخُلد غير مقطوع، وما أُعطِيَه آدمُ فقد انقطع؛ فلم تكن تلك جنةَ الخُلد. قالوا: وأيضًا؛ فلا نزاع في أنَّ الله تعالى خلق آدمَ في الأرض كما تقدَّم، ولم يذكر في قصَّته أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان هذا أولى بالذِّكر؛ لأنه من أعظم أنواع النعم عليه، وأكبر (2) أسباب تفضيله وتشريفه، وأبلغُ في بيان آيات قدرته وربوبيته وحكمته، وأبلغُ في بيان المقصود من عاقبة المعصية، وهو الإهباطُ من السماء التي نُقِلَ إليها، كما ذكر ذلك في حقِّ إبليس. فحيثُ لم يجئ في القرآن ولا في السنة حرفٌ واحدٌ أنه نقله إلى السَّماء _________ (1) (ت) «والفسادات». (2) (ح، ن): «وأكثر».

(1/75)


ورفعه إليها بعد خلقه في الأرض، عُلِمَ أنَّ الجنةَ التي أُدخِلَها لم تكن هي جنة الخُلد التي فوق السماوات. قالوا: وأيضًا؛ فإنه سبحانه أخبر في كتابه أنه لم يخلق عبادَه عبثًا ولا سدًى، وأنكر على من زعم ذلك؛ فدلَّ على أنَّ هذا منافٍ للحكمة (1)، ولو كانت جنةُ آدم هي جنةَ الخُلد لكانوا قد خُلِقوا في دارٍ لا يُؤمرون فيها ولا يُنْهَون، وهذا باطلٌ بقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، قال الشافعيُّ وغيره: معطَّلًا لا يؤمرُ ولا يُنهى (2)، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، فهو تعالى لم يخلقهم عبثًا، ولا تركهم سدًى، وجنةُ الخُلد لا تكليف فيها. قالوا: وأيضًا؛ فإنه خلقها جزاءً للعاملين، بقوله تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58]، وجزاءً للمتقين، بقوله: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، ودارَ الثواب، بقوله: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 195]، فلم يكن لِيُسْكِنَها إلا مَن خلقَها لهم من العاملين، ومن المتقين، ومَن تَبِعَهم من ذرِّياتهم، وغيرهم من الحُور والولدان. وبالجملة؛ فحكمتُه تعالى اقتضت أنها لا تُنالُ إلا بعد الابتلاء والامتحان، والصَّبر والجهاد، وأنواع الطَّاعات، وإذا كان هذا مقتضى حكمته فإنه سبحانه لا يفعلُ إلا ما هو مطابقٌ لها. _________ (1) (ح، ن): «لحكمته». (2) انظر: «الرسالة» (25)، و «إبطال الاستحسان» (9/ 68 - الأم)، و «تفسير الطبري» (24/ 83).

(1/76)


قالوا: فإذا جُمِعَ ما أخبر اللهُ عزَّ وجلَّ به، مِن أنه خلقه من الأرض، وجعله خليفةً في الأرض، وأنَّ إبليسَ وسوسَ له في مكانه الذي أسكنه فيه بعد أن أهبط إبليسَ من السماء، وأنه أخبر ملائكتَه أنه جاعلٌ في الأرض خليفة، وأنَّ دارَ الخُلدِ لا لغو فيها ولا تأثيم، وأنَّ من دخلها لا يخرجُ منها أبدًا، وأنَّ من دخلها يَنْعَمُ لا يبأس (1)، وأنه لا يخافُ ولا يحزن، وأنَّ الله سبحانه حرَّمها على الكافرين، وعدوُّ الله إبليسُ أكفرُ الكافرين، فمحالٌ أن يدخلها أصلًا، لا دخولَ عبورٍ ولا دخولَ قرار، وأنها دارُ نعيم لا دارُ ابتلاء وامتحان، إلى غير ذلك مما ذكرناه من منافاة أوصاف جنة الخُلد للجنة التي أُسْكِنَها آدم. إذا جُمِعَ ذلك بعضه إلى بعض، ونُظِرَ فيه بعين الإنصاف والتَّجرُّد عن نصرة المقالات، تبيَّن الصَّوابُ من ذلك، والله المستعان. قال الآخرون (2): «بل الجنةُ التي أُسْكِنَها آدمُ عند سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والجماعة هي جنةُ الخُلد، ومن قال: إنها كانت جنةً في الأرض بأرض الهند، أو بأرض جُدَّة، أو غير ذلك، فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة، أو من إخوانهم المتكلِّمين المبتدعين؛ فإنَّ هذا يقولُه من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة، والكتابُ (3) يردُّ هذا القول، وسلفُ الأمة وأئمتها متفقونَ على بطلان هذا القول. _________ (1) كذا في الأصول. بحذف حرف العطف. (2) هذا جواب ابن تيمية في المسألة. انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 347 - 349). وقد صحَّح في «النبوات» (705 - 710) القول بأن جنة آدم لم تكن في السماء، وإنما كانت في مكان عالٍ من الأرض، واحتجَّ له. ولم يتبين لي أيُّ القولين استقر عليه. (3) في «الفتاوى»: «والكتاب والسنة».

(1/77)


قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 34 - 36]؛ فقد أخبَر سبحانه أنه أمرهم بالهبوط، وأنَّ بعضهم لبعض عدوٌّ، ثم قال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}. وهذا يبيِّن أنهم لم يكونوا في الأرض، وإنما أُهبِطُوا إلى الأرض، فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا منها إلى أرضٍ أخرى، كما انتقل قومُ موسى من أرضٍ إلى أرض، كان مستقرُّهم ومتاعُهم إلى حينٍ في الأرض قبل الهبوط، كما هو بعده. وهذا باطل». قالوا: «وقد قال تعالى في سورة الأعراف لما قال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}؛ فقولُه: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} يبيِّن اختصاصَ الجنة التي في السماء بهذا الحكم، بخلاف جنة الأرض، فإنَّ إبليس كان غير ممنوعٍ من التكبُّر فيها. والضميرُ في قوله: {مِنْهَا} عائدٌ إلى معلوم، وإن كان غير مذكورٍ في اللفظ؛ لأنَّ العلمَ به أغنى عن ذِكْره». قالوا: «وهذا بخلاف قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]؛ فإنه لم يذكر هنا (1) ما أُهبِطوا منه، وإنما ذكر ما أُهبِطوا إليه، _________ (1) في «الفتاوى»: «هناك».

(1/78)


بخلاف إهباط إبليس، فإنه ذكر مبدأ هبوطه وهو الجنة، والهبوط يكونُ من عُلْوٍ إلى سُفْل، وبنو إسرائيل كانوا بجبال الشَّراة (1) المُشْرِفة على المِصر _________ (1) (د، ق، ت): «السراة» بالمهملة. و «السراة»: جبالٌ متصلةٌ من أقصى اليمن إلى الشام، كما يقول الهمداني في «صفة جزيرة العرب» (99). وانظر: «الروض المعطار» (821)، و «معجم البلدان» (3/ 205). والمراد هنا أطرافها من جهة الشام، حيث كان بنو إسرائيل. قال المقريزي: «وقد ذُكر أن موسى عليه السلام سار ببني إسرائيل بعد موت أخيه هارون إلى أرض أولاد العيص، وهي التي تعرف بجبال الشراة (في المطبوعة بالمهملة) جنب بلد الشوبك». والشوبك تقع جنوب الأردن، شمال غرب معان. انظر: «المواعظ والاعتبار» (1/ 186)، و «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (511). وقد اصطُلِح على جعل ما كان من جبال السراة في جنوب الجزيرة بالمهملة، وما كان في شمالها بالمعجمة، وتُذكَر مواضع منها في بعض المصادر في مواد مختلفة بالمعجمة وبالمهملة، لتقارب ما بين الحرفين، وكلها أجزاء من تلك الجبال الممتدة، وذكرها من صنَّف فيما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأماكن، كالحازمي وغيره. وهاهنا مذهبٌ آخر غريبُ المنزع في موضع سكنى بني إسرائيل، افترعه الدكتور كمال صليبي (وهو مؤرخٌ ماروني) بكتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» الذي أحدث صخبًا كبيرًا في الأوساط العلمية (ولم تقبل الكثير من دور النشر الأجنبية إصدار الأصل الألماني منه أو ترجمته الإنجليزية)، ذهب فيه إلى أن البيئة التاريخية للتوراة وأحداثها لم تكن في فلسطين، بل في غرب الجزيرة العربية بمحاذاة البحر الأحمر، في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن، واعتمد على المقابلة اللغوية بين أسماء الأماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري وأسماء أماكن تاريخية أو حالية في جنوب الحجاز أو بلاد عسير. وتابعه زياد منى في كتابه «جغرافية التوراة». وردَّ عليه علامة الجزيرة حمد الجاسر وغيره. وانظر: مذكرات كمال صليبي «طائر على سنديانة»، و «مجلة مجمع اللغة العربية» بالقاهرة (العدد: 99). وتحرفت العبارة في «الفتاوى» إلى: «حيال السراة».

(1/79)


الذي يهبطونَ إليه، ومَن هبط من جبلٍ إلى وادٍ قيل له: اهبط (1)». قالوا: «وأيضًا، فبنو إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون، والذي يسيرُ ويرحل إذا جاء بلدةً يقال: نزَل فيها؛ لأنَّ مِن عادته أن يركبَ في مسيره، فإذا وصلَ نزل عن دوابِّه. ويقال: نزل العدوُّ بأرض كذا، ونزل القَفَلُ (2)، ونحوه. ولفظُ النزول كلفظ الهبوط، فلا يستعملُ «نزَل» و «هبَط» إلا إذا كان من عُلْوٍ إلى سُفْل. وقال تعالى عقب قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}؛ فهذا دليلٌ على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في مكانٍ فيه يحيَون وفيه يموتون ومنه يُخْرَجون، وإنما صاروا إليه بعد الإهباط؛ فلو كانوا في الأرض أولًا لكانوا في مكانٍ فيه يحيَون، وفيه يموتون، ومنه يُخْرَجون (3)، والقرآنُ صريحٌ في أنهم إنما صاروا إليه بعد الإهباط». قالوا: «ولو لم يكن في هذا إلا قصةُ آدم وموسى لكانت كافية (4)؛ فإنَّ موسى عليه السلام إنما لام آدم عليه السلام لِمَا حصل له ولذريَّته بالخروج _________ (1) (ن): «هبط». (2) القُفول: الرجوع من السفر. ورجلٌ قافلٌ من قومٍ قُفَّال. والقَفَلُ اسم الجمع. «اللسان» (قفل). (3) من قوله: «وإنما صاروا ... » إلى هنا ساقط من (ق، ح)، لانتقال النظر. (4) أخرجها البخاري (3409)، ومسلم (2652) من حديث أبي هريرة.

(1/80)


من الجنة من النَّكدِ والمشقَّة، فلو كانت بستانًا في الأرض لكان غيرُه من بساتين الأرض يُعَوِّضُ عنه، وموسى أعظمُ قدرًا من أن يلومه على أن أخرج نفسه وذريته من بستانٍ في الأرض». قالوا: «وكذلك قولُ آدم يوم القيامة لمَّا يرغبُ إليه الناسُ أن يستفتحَ لهم باب الجنة، فيقول: «وهل أخرجكم منها إلا خطيئةُ أبيكم؟»؛ فإنَّ ظهورَ هذا في كونها جنةَ الخُلد، وأنه اعتَذر لهم بأنه لا يَحْسُنُ منه أن يستفتحها وقد أُخرِجَ منها بخطيئته، مِن أظهر الأدلَّة». قال الأولون: أما قولكم: «إنَّ من قال: إنها جنةٌ في الأرض، فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة، أو من إخوانهم»، فقد أوجدناكم (1) من قال بهذا، وليس من أحدٍ من هؤلاء. ومشاركةُ أهل الباطل للمُحِقِّ في المسألة لا يدلُّ على بطلانها، ولا تكونُ إضافتها لهم (2) موجبةً لبطلانها ما لم يَخْتَصَّ بها (3). فإن أردتم أنه لم يقل بذلك إلا هؤلاء، فليس كذلك، وإن أردتم أنَّ هؤلاء من جملة القائلين بهذا، لم يُفِدْكم شيئًا. قالوا: وأمَّا قولكم: «وسلفُ الأمة وأئمتُها متفقون على بطلان هذا القول»، فنحن نطالبكم بنقلٍ صحيح عن واحدٍ من الصحابة ومن بعدهم من أئمة السلف، فضلًا عن اتفاقهم. _________ (1) (ت): «أخبرناكم». (2) (ق، ت): «إليهم». (3) أي: أهل الباطل.

(1/81)


قالوا: ولا يوجدُ عن صاحبٍ ولا تابعٍ ولا تابعِ تابعٍ (1) خبرٌ يصحُّ موصولًا ولا شاذًّا ولا مشهورًا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ الله تعالى أسكن آدم جنةَ الخُلد التي هي دارُ المتقين يوم المعاد. قالوا: وهذا القاضي منذرُ بن سعيد قد حكى عن غير واحدٍ من السلف أنها ليست جنةَ الخُلد، فقال: ونحن نُوجِدُكم أنَّ أبا حنيفة فقيهَ العراق ومن قال بقوله قد قالوا: إنَّ جنةَ آدم التي خلقها الله ليست جنةَ الخُلد، وليسوا عند أحدٍ من العالمين (2) من الشاذِّين، بل من رؤساء المخالفين، وهذه الدَّواوينُ مشحونةٌ من علومهم. وقد ذكرنا قول ابن عيينة. وقد ذكر ابن مُزَيْن (3) في «تفسيره» قال: «سألتُ ابن نافع (4) عن _________ (1) (د، ق، ح، ت): «تابع التابع». (2) (ح، ت، ن): «العلماء». (3) يحيى بن إبراهيم بن مزين، الفقيه، الطليطلي الأندلسي (ت: 260)، كان حافظًا لموطأ الإمام مالك، فقيهًا فيه، وصنَّف عليه كتبًا، منها: «تفسير الموطأ»، وهو المراد هنا، والنقل عنه كثيرٌ في كتب المالكية، تارةً بإفراد لفظة «التفسير»، وتارةً بإضافتها إلى «الموطأ». وسيأتي النقل من كتابه (ص: 389). ولا أدري أوقف عليها المصنف أم نقل عنها بواسطة؟ وإن كان النقل الذي هنا يشبه أن يكون عن المنذر بن سعيد. ترجمته في: «تاريخ علماء الأندلس» (2/ 181)، و «ترتيب المدارك» (4/ 238)، وغيرهما. (4) عبد الله بن نافع الزبيري، الفقيه، صاحب مالك (ت: 216). ترجمته في: «ترتيب المدارك» (3/ 145)، و «السير» (10/ 374). ويبعد أن يكون المقصود عبد الله بن نافع الصائغ؛ فإنَّ ابن مزين يصغُر عن لقائه. وكثيرًا ما تختلط رواية الاثنين عند الفقهاء، كما يقول القاضي عياض في مقدمة «ترتيب المدارك» (1/ 17).

(1/82)


الجنة: أمخلوقة؟ فقال: السُّكوت عن هذا أفضل». قالوا: فلو كان عند ابن نافعٍ أنَّ الجنةَ التي أُسْكِنها آدمُ هي جنةُ الخُلد لم يشكَّ أنها مخلوقة، ولم يتوقَّف في ذلك. وقال ابن قتيبة في كتابه «غريب القرآن» (1) في قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا}: «قال ابنُ عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح: هو كما يقال: هَبَط فلان أرضَ كذا وكذا». ولم يذكر في كتابه غيرَه. فأين إجماعُ سلف الأمة وأئمَّتها؟! قالوا: وأما احتجاجُكم بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} عقب قوله: {اهْبِطُوا}؛ فهذا لا يدلُّ على أنهم كانوا في جنة الخُلد؛ فإنَّ أحدَ الأقوال في المسألة أنها كانت جنةً في السماء غيرَ جنة الخُلد، كما حكاه الماورديُّ في «تفسيره»، وقد تقدم. وأيضًا؛ فإنَّ قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} يدلُّ على أنَّ لهم مستقرًّا إلى حينٍ في الأرض المنقطعة عن الجنة ولا بد؛ فإنَّ الجنةَ أيضًا لها أرض، قال الله تعالى عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]، فدلَّ على أنَّ قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أنَّ المراد به الأرض الخالية من تلك _________ (1) (46).

(1/83)


الجنة، لا كلُّ ما يسمَّى أرضًا. وكان مستقرُّهم الأولُ في أرض الجنة، ثم صاروا في أرض الابتلاء والامتحان، ثم يصيرُ مستقرُّ المؤمنين يوم الجزاء أرضَ الجنة أيضًا؛ فلا تدلُّ الآيةُ على أنَّ جنةَ آدم هي جنةُ الخُلد. قالوا: وهذا هو الجوابُ بعينه عن استدلالكم بقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}؛ فإنَّ المرادَ به الأرض التي أُهبِطُوا إليها وجُعِلَت مسكنًا لهم بدلَ الجنة، وهذا تفسيرُ المستقَرِّ المذكور في «البقرة» مع تضمُّنه ذِكْرَ (1) الإخراج منها. قالوا: وأما قولُه تعالى لإبليس: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، وقولُكم: إنَّ هذا إنما هو في الجنة التي في السماء، وإلا فجنةُ الأرض لم يُمْنَع إبليسُ من التكبُّر فيها= فهو دليلٌ لنا في المسألة؛ فإنَّ جنةَ الخُلد لا سبيل لإبليس إلى دخولها والتكبُّر فيها أصلًا، وقد أخبر تعالى أنه وسوسَ لآدمَ وزوجه، وكَذَبهما، وغرَّهما، وخانهما، وتكبَّر عليهما، وحسدهما، وهما حينئذٍ في الجنة، فدلَّ على أنها لم تكن جنةَ الخُلد، ومحالٌ أن يصعدَ إليها بعد إهباطه وإخراجه منها. قالوا: والضمير في قوله: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} إمَّا أن يكون عائدًا إلى السماء، كما هو أحدُ القولين، وعلى هذا فيكونُ سبحانه قد أهبطه من السماء عقب امتناعه من السجود، وأخبر أنه ليس له أن يتكبَّر فيها، ثمَّ تكبَّر وكذب وخان في الجنة؛ فدلَّ على أنها ليست في السماء. أو يكونَ عائدًا إلى الجنة، على القول الآخر، ولا يلزمُ من هذا القول أن _________ (1) (ت): «ذلك».

(1/84)


تكونَ الجنةُ التي كاد فيها آدمَ وغرَّه وقاسَمه كاذبًا هي تلك التي أُهبِط منها، بل القرآنُ يدلُّ على أنها غيرها، كما ذكرناه. فعلى التقديرين، لا تدلُّ الآيةُ على أنَّ الجنةَ التي جرى لآدمَ مع إبليس ما جرى فيها هي جنةُ الخُلد. قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ بني إسرائيل كانوا بجبال الشَّراة المُشْرِفَة على الأرض التي يهبطون إليها، وهم كانوا يسيرون ويرحلون، فلذلك قيل لهم: {اهْبِطُوا} = فهذا حقٌّ لا ننازعكم فيه، وهو بعينه جوابٌ لنا؛ فإنَّ الهبوطَ يدلُّ على أنَّ تلك الجنةَ كانت أعلى من الأرض التي أُهبِطُوا إليها، وأمَّا كونُها جنةَ الخُلد فلا. قالوا: والفرقُ بين قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا} وقوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا} بأنَّ الأول متضمِّنٌ لنهاية الهبوط وغايته، و {اهْبِطُوا مِنْهَا} متضمِّنٌ لمبدئه وأوله= لا تأثير له فيما نحن فيه؛ فإنَّ «هبَط من كذا إلى كذا» يتضمنُ معنى الانتقال من مكانٍ عالٍ إلى مكانٍ سافل، فأيُّ تأثيرٍ لابتداء الغاية ونهايتها في تعيين محلِّ الهبوط بأنه جنةُ الخُلد؟! قالوا: وأمَّا قصةُ موسى ولَوْمِه لآدم على إخراجه من الجنة، فلا يدلُّ على أنها جنةُ الخُلد. وقولُكم: «لا يُظَنُّ بموسى أنه يلومُ آدمَ على إخراجه نفسَه وذريتَه من بستانٍ في الأرض» تشنيعٌ لا يفيد شيئًا؛ أفترى كان ذلك بستانًا مثل آحاد هذه البساتين المقطوعة الممنوعة، التي هي عُرْضةُ الآفات، والتعب والنَّصَب، والظَّمأ والضُّحِيِّ (1)، والسَّقي والتلقيح، وسائر وجوه النَّصَب الذي يلحقُ _________ (1) ضحا الرجلُ، يَضْحَى، ضُحِيًّا: إذا أصابه حرُّ الشمس. «اللسان» (ضحا).

(1/85)


هذه البساتين؟! ولا ريب أنَّ موسى عليه الصلاةُ والسلام أعلمُ وأجلُّ من أن يلوم آدم على خروجه وإخراج بنيه من بستانٍ هذا شأنه، ولكنْ من قال بهذا؟! وإنما كانت جنةً لا تلحقُها آفة، ولا تنقطعُ ثمارُها، ولا تغورُ أنهارُها، ولا يجوعُ ساكنُها ولا يظمى، ولا يضحى للشمس ولا يعرى، ولا يمسُّه فيها التعبُ والنصبُ والشقاء، ومثلُ هذه الجنة يَحْسُنُ لومُ الإنسان على التسبُّب في خروجه منها. قالوا: وأما اعتذارُ آدم - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة لأهل الموقف بأنَّ خطيئتَه هي التي أخرجتهم (1) من الجنة، فلا يَحْسُنُ أن يستفتحَها لهم؛ فهذا لا يستلزمُ أن تكونَ هي بعينها التي أُخرِجَ منها، بل إذا كانت غيرَها كان أبلغَ في الاعتذار؛ فإنه إذا كان الخروجُ من غير جنة الخُلد حصل بسبب الخطيئة، فكيف يليقُ استفتاحُ جنة الخُلد والشفاعةُ فيها وقد خَرَج من غيرها بخطيئة؟! فهذا موقفُ نظر الفريقين، ونهايةُ أقدام الطائفتين، فمن كان عنده (2) فضلُ علمٍ في هذه المسألة فَلْيَجُدْ به، فهذا وقتُ الحاجة إليه، ومن عَلِمَ منتهى خطوته، ومقدار بضاعته، فَلْيكِل الأمرَ إلى عالمه، ولا يرضى لنفسه بالتنقُّصِ (3) والإزراء عليه، وليكن من أهل التُّلول الذين هم نَظَّارةُ الحرب، _________ (1) كذا في الأصول. وفي (ط): «أخرجته». (2) (ق): «له». (3) (ق): «بالتنقيص». وفي (ت): «بالنقيص والإزارء بالنقص عليه».

(1/86)


إذا لم يكن من أهل الكرِّ والفرِّ والطَّعن والضَّرب، فقد تلاقت الفحول، وتطاعنت الأقران، وضاق بهم المجالُ في حلبة هذا الميدان. إذا تلاقى الفحولُ في لَجَبٍ ... فكيف حالُ البعوض في الوَسَطِ (1) فهذه معاقدُ حجج الطائفتين مُجْتازةٌ ببابك، وإليك تُساق، وهذه بضائعُ تجَّار العلماء ينادى عليها في سوق الكساد، لا في سوق النَّفاق، فمن لم يكن لديه شيءٌ من أسباب البيان والتبصرة، فلا يَعْدَم مَنْ قد استفرغ وُسْعَه وبذل جهدَه منه التصويبَ أو المعذرة، ولا يرضى لنفسه بشرِّ الخُطَّتين، وأبخس الحظَّين: جهلِ الحقِّ وأسبابه، ومعاداةِ أهله وطُلَّابه. وإذا عَظُمَ المطلوب، وأعْوَزَكَ الرفيقُ الناصحُ العليم، فترحَّل (2) بهمَّتك من بين الأموات، وعليك بمعلِّم إبراهيم؛ فقد ذكرنا في هذه المسألة من النقول والأدلَّة والنُّكت البديعة ما لعلَّه لا يوجدُ في شيءٍ من كتب المصنِّفين، ولا يعرفُ قدرَه إلا من كان من الفضلاء المُنْصِفين. ومن الله سبحانه الاستمداد، وعليه التوكُّل وإليه الاستناد، فإنه لا يخيبُ من توكَّل عليه، ولا يضيعُ من لاذَ به وفوَّض أمرَه إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فصل ولمَّا أهبط الله آدمَ من الجنة، وعرَّضه وذريتَه لأنواع المحن والبلاء؛ _________ (1) البيت في «الحيوان» (7/ 90)، و «عيون الأخبار» (2/ 128)، و «التمثيل والمحاضرة» (333) لبعض المولدين. وفي جميعها: «الفيول وازدحمت». (2) (ق، د): «فارحل».

(1/87)


أعطاهم أفضلَ مما منعهم، وهو عهدُه الذي عَهِدَ إليه وإلى بنيه، وأخبر أنه من تمسَّك به منهم صار إلى رضوانه ودار كرامته. قال تعالى عقب إخراجه منها: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وفي الآية الأخرى قال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123 - 126]. فلمَّا كَسَرَه سبحانه بإهباطه من الجنة جَبَرَه وذريتَه بهذا العهد الذي عَهِدَه إليهم، فقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}، وهذه هي «إنْ» الشرطية المؤكَّدة بـ «ما» الدالَّة على استغراق الزمان، والمعنى: أيَّ وقتٍ وأيَّ حينٍ أتاكم منِّي هدى. وجُعِلَ جوابُ هذا الشرط جملةً أخرى شرطية، وهي قولُه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}، كما تقول: إنْ زرتني فمن بشَّرني بقدومك فهو حُرٌّ. وجوابُ الشرط يكونُ جملةً تامَّة: * إمَّا خبرًا محضًا، كقولك: إن زرتني أكرمتُك، أو خبرًا مقرونًا بالشرط كهذا، أو مؤكَّدًا بالقسم، أو بـ «إنْ» واللام، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].

(1/88)


* وإمَّا طلبًا، كقول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله» (1)، وقوله: «وإذا لَقِيتُموهم فاصبروا» (2)، وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وأكثرُ ما يأتي هذا النوعُ مع «إذا» التي تفيدُ (3) تحقيقَ وقوع الشرط؛ لِسِرٍّ (4)، وهو إفادتُه تحقيقَ الطَّلب عند تحقُّق الشرط، أي: فمتى تحقَّق الشرطُ فالطَّلبُ متحقِّق، فأتى بـ «إذا» الدالَّة على تحقُّق (5) الشرط، فعُلِمَ تحقُّقُ الطَّلب عندها. وقد يأتي مع «إنْ» قليلًا، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41]. * وإمَّا جملةً إنشائية، كقوله لعبده الكافر: إن أسلمتَ فأنت حرٌّ، ولامرأته: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق، فهذا إنشاءٌ للعتق والطلاق عند وجود الشرط ــ على رأي ــ، أو إنشاءٌ له حال التعليق، ويتأخَّرُ نفوذُه إلى حين وجود _________ (1) أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) من حديث ابن عباس. قال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (3/ 53، 178، 398، 4/ 426)، و «جامع العلوم والحكم» (345)، و «نور الاقتباس» (31). (2) أخرجه البخاري (2966)، ومسلم (1742) من حديث ابن أبي أوفى. (3) (ح): «تقيد». (ت): «بقيد». (4) «لسر» ليست في (ق، ت). (5) (ق): «تحقيق».

(1/89)


الشرط ــ على رأيٍ آخر ــ. وعلى التقديرين، فجوابُ الشرط جملةٌ إنشائية. والمقصودُ أنَّ جواب الشرط في الآية المذكورة جملةٌ شرطية، وهي قولُه تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وهذا الشرطُ يقتضي ارتباط الجملة الأولى بالثانية ارتباطَ العلة بالمعلول، والسبب بالمسبَّب، فيكونُ الشرطُ الذي هو ملزومٌ علَّةً ومقتضيًا للجزاء الذي هو لازم. فإن كان بينهما تلازمٌ من الطرفين كان وجودُ كلٍّ منهما بدون وجود الآخر (1) ممتنعًا، كدخول الجنة بالإسلام، وارتفاع الخوف والحزن والضلال والشقاء مع متابعة الهدى. وهذه عامةُ (2) شروط القرآن والسنة؛ فإنها أسبابٌ وعِلَل، والحكمُ ينتفي بانتفاء علَّته. وإن كان التلازمُ بينهما من أحد الطرفين كان الشرطُ ملزومًا خاصًّا والجزاءُ لازمًا عامًّا، فمتى تحقَّق الشرطُ الملزومُ الخاصُّ تحقَّق الجزاءُ اللازمُ العامُّ، ولا يلزم العكس، كما يقال: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان، وإن كان البيعُ صحيحًا فالملكُ ثابت. وهذا غالبُ ما يأتي في قياس الدَّلالة (3)، حيث يكونُ الشرطُ دليلًا على _________ (1) (ت، ن، ق): «بدون دخول الآخر». (ح): «بدون الآخر». (2) (ت): «هي غاية». (3) وهو أحد أقسام القياس الثلاثة باعتبار العلة. والمرادُ به: ما كان الجامعُ فيه بين الفرع والأصل هو لازم العلة، أو أثرها، أو حكمها. انظر: «اللمع» (288).

(1/90)


الجزاء، فيلزمُ من وجوده وجودُ الجزاء؛ لأنَّ الجزاءَ لازمُه، ووجودُ الملزوم يستلزمُ وجودَ اللازم، ولا يلزمُ من عدمه عدمُ الجزاء. وإن وقعَ هذا الشرطُ بين علَّةٍ ومعلول؛ فإن كان الحكمُ معلَّلًا بعللٍ صحَّ ذلك، وجاز أن يكون الجزاءُ أعمَّ من الشرط، كقولك: إن كان هذا مرتدًّا فهو حلالُ الدَّم؛ فإنَّ حِلَّ الدَّم أعمُّ من حِلِّه بالردَّة، إلا أن يقال: «إنَّ حكمَ العلَّة المعيَّنة ينتفي بانتفائها، وإن ثبتَ الحكمُ بعلَّةٍ أخرى فهو حكمٌ آخر، وأمَّا حكمُ العلَّة المعيَّنة فمحالٌ أن يبقى (1) مع زوالها»، وحينئذٍ فيعودُ التلازمُ من الطرفين، ويلزمُ من وجود كلِّ واحدٍ من الشرط والجزاء وجودُ الآخر، ومن عدمه عدمُه. وتمامُ تحقيق هذا في مسألة تعليل الحكم الواحد بعلَّتين؛ وللناس فيه نزاعٌ مشهور، وفصلُ الخطاب فيها: أنَّ الحكمَ الواحدَ إن كان واحدًا بالنَّوع، كحِلِّ الدَّم، وثبوتِ الملك، ونقض الطَّهارة؛ جاز تعليلُه بالعلل المختلفة. وإن كان واحدًا بالعَيْن، كحِلِّ الدَّم بالردَّة، وثبوت الملك بالبيع أو الميراث، ونحو ذلك؛ لم يجُز تعليلُه بعلَّتين مختلفتين. وبهذا التفصيل يزولُ الاشتباه في هذه المسألة، والله أعلم. ومن تأمَّل أدلَّة الطَّائفتين وجدَ كلَّ ما احتجَّ به من رأى تعليلَ الحكم بعللٍ مختلفةٍ إنما يدلُّ على تعليل الواحد بالنَّوع بها، وكلُّ من نفى تعليلَ الحكم بعلَّتين إنما يتمُّ دليلُه على نفي تعليل الواحد بالعَيْن بهما؛ فالقولان عند التحقيق يرجعان إلى شيءٍ واحد (2). _________ (1) (ت): «تبقى». وفي (ق): «ينفي»، وهو تحريف. (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 167)، و «جامع المسائل» (6/ 90).

(1/91)


والمقصودُ أنَّ الله سبحانه جعل اتباعَ هداه وعَهْده الذي عَهِدَه إلى آدم سببًا ومقتضيًا لعدم الخوف والحزن، والضلال والشقاء، وهذا الجزاءُ ثابتٌ بثبوت الشرط، مُنْتَفٍ بانتفائه، كما تقدَّم بيانُه. ونفيُ الخوف والحزن عن متَّبع الهدى نفيٌ لجميع أنواع الشرور؛ فإنَّ المكروهَ الذي ينزلُ بالعبد متى عَلِمَ بحصوله فهو خائفٌ منه أن يقع به، وإذا وقع به فهو حزينٌ على ما أصابه منه، فهو دائمًا في خوفٍ وحزن، فكلُّ (1) خائفٍ حزينٌ، وكلُّ حزينٍ خائفٌ، وكلٌّ من الخوف والحزن يكونُ على فوت (2) المحبوب وحصول المكروه. فالأقسامُ أربعة: خوفٌ من فَوْت المحبوب وحصول المكروه، وحزنٌ على فَوْت المحبوب وحصول المكروه (3)، وهذا جماعُ الشرِّ كلِّه. فنفى الله سبحانه ذلك عن متَّبع هداه الذي أنزله على ألسنة رسله، وأتى في نفي الخوف بالاسم الدَّالِّ على نفي الثبوت واللزوم (4)، فإنَّ أهلَ الجنة لا بدَّ لهم من الخوف في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة حيثُ يقولُ آدمُ وغيره من الأنبياء: «نفسي، نفسي»؛ فأخبر سبحانه أنهم وإن خافوا فلا خوفٌ عليهم، أي: لا يلحقُهم الخوفُ الذي خافوا منه. وأتى في نفي الحزن بالفعل المضارع الدَّالِّ على نفي التجدُّد _________ (1) (ت، ق): «وكل». (2) في الأصول: «فعل». وهو تحريف. وسيأتي على الصواب. (3) قوله: «وحزن على فوت المحبوب وحصول المكروه» من (ت). (4) في قوله عزَّ شأنه: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38].

(1/92)


والحدوث (1)، أي: لا يلحقُهم حزنٌ ولا يحدُث لهم إذا تذكَّروا ما سلفَ منهم، بل هم في سرورٍ دائم لا يَعْرِضُ لهم حزنٌ على ما فات. وأمَّا الخوف؛ فلمَّا كان تعلُّقه بالمستقبل دون الماضي نفى لحوقَه لهم جملةً، أي: الذي خافوا منه لا ينالُهم ولا يلمُّ بهم. والله أعلم. فالحزينُ إنما يحزنُ في المستقبل على ما مضى، والخائفُ إنما يخافُ في الحال مما يستقبل، فلا خوفٌ عليهم (2)، أي: لا يلحقُهم ما خافوا منه، ولا يعرضُ لهم حزنٌ على ما فات. وقال في الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}، فنفى عن متَّبع هداه أمرين: الضلال، والشقاء. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآنَ وعملَ بما فيه أن لا يضلَّ في الدُّنيا، ولا يشقى في الآخرة»، ثمَّ قرأ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (3). والآيةُ نفَت مسمَّى الضلال والشقاء عن متَّبع الهدى مطلقًا، فاقتضت _________ (1) في قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. (2) (ت، ن): «فقال لا خوف عليهم». (3) أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 467، 13/ 371)، وعبد الرزاق (3/ 382)، والطبري (18/ 389)، وغيرهم من طرقٍ يصحُّ بها. وصححه الحاكم (2/ 381) ولم يتعقبه الذهبي. وروي مرفوعًا عند الطبراني في «الأوسط» (5466)، و «الكبير» (12/ 48)، ولا يصح.

(1/93)


الآيةُ أنه لا يضلُّ في الدُّنيا ولا يشقى فيها، ولا يضلُّ في الآخرة ولا يشقى فيها؛ فإنَّ المراتبَ أربعة: هدًى وسعادةٌ (1) في الدُّنيا، وهدًى وسعادة (2) في الآخرة. لكنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما ذكَر في كلِّ دارٍ (3) أظهرَ مرتبتَيها؛ فذكَر الضلال في الدُّنيا إذ هو أظهرُ لنا وأقربُ من ذكر الضلال في الآخرة، وذكَر الشَّقاء في الآخرة إذ هو أظهرُ عند الناس من الضلال فيها، بل كثيرٌ من الناس لا يحصُل في ذهنه حقيقةُ الضلال في الآخرة. وأيضًا؛ فضلالُ الدُّنيا أصلُ ضلال الآخرة، وشقاءُ الآخرة مستلزمٌ للضلال فيها. فنبَّه بكلِّ مرتبةٍ على الأخرى؛ فنبَّه بنفي ضلال الدُّنيا على نفي ضلال الآخرة؛ فإنَّ العبدَ يموتُ على ما عاش عليه، ويُبْعَثُ على ما مات عليه؛ قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126]. وقال في الآية الأخرى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]، فأخبر أنَّ من كان في هذه الدَّار ضالًّا فهو في الآخرة أضلُّ. _________ (1) (ح، ن): «وشقاوة». وفي طرة (د): «لعله: وضلال». (2) (ق، د، ح، ن): «وشقاوة». والمثبت في الموضعين هو الأشبه بالسياق، ومقابل الهدى: الضلال، ومقابل السعادة: الشقاء. (3) (ح، ن): «من كل دار».

(1/94)


وأمَّا نفيُ شقاء الدُّنيا، فقد يقال: إنه لما انتفى عنه الضلالُ فيها (1)، وحصلَ له الهدى، والهدى فيه مِن بَرْدِ اليقين، وطمأنينة القلب، وذَوْقِ طعم الإيمان، وَوَجْدِ (2) حلاوتِه، وفرحة القلب به، وسروره، والتنعُّم به، ومصير القلب حيًّا بالإيمان، مستنيرًا به، قويًّا به، قد نال به غذاءه ودواءه، وشفاءه وحياته، ونورَه وقوَّته، ولذَّتَه ونعيمَه= ما هو أجلُّ أنواع النعيم (3)، وأطيبُ الطيبات، وأعظمُ اللذات. قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فهذا خبرُ أصدق الصادقين، ومَخْبَرُه عند أهله عينُ اليقين، بل حقُّ اليقين؛ فلا بدَّ لكلِّ من عمل صالحًا وهو مؤمنٌ (4) أن يُحْيِيَه اللهُ حياةً طيبةً بحسب إيمانه وعمله. ولكن يغلطُ الجفاةُ الأجلافُ في مسمَّى الحياة الطيِّبة، حيث يظنُّونها التنعُّمَ بأنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، أو لذةَ الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنُّن بأنواع الشهوات؛ ولا ريب أنَّ هذه لذةٌ مشتركةٌ بين _________ (1) لم يُذْكَر جوابُ «لمَّا»؛ لدلالة الكلام عليه. كقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} [يوسف: 15]، وبعضهم يجعل قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} هو الجواب، والواو زائدة. ويقابله هنا قوله: «وحصل له الهدى». (2) (ق): «فوجد». وليست في (ت). وانظر: «مدارج السالكين» (3/ 24 - تحقيق د. عبد الحميد مدكور). (3) السياق: والهدى فيه من برد اليقين ... ما هو أجل أنواع النعيم. (4) «وهو مؤمن» ساقطة من (ت، ق).

(1/95)


البهائم، بل قد يكونُ حظُّ كثير من البهائم منها أكثر من حظِّ الإنسان؛ فمن لم يكن عنده لذةٌ إلا اللذةُ التي تشاركهُ فيها السِّباعُ والدوابُّ والأنعامُ فذلك ممن يُنادى من مكانٍ بعيد (1). ولكن أين هذه اللذةُ من اللذة بأمرٍ إذا خالط بشاشتُه القلوبَ سَلا عن الأبناء والنساء، والأوطان والأموال، والإخوان والمساكن، ورضي بتركها كلِّها والخروج منها رأسًا، وعرَّض نفسَه لأنواع المكاره والمشاقِّ، وهو متحملٌ لهذا (2)، منشرحُ الصدر به، يطيبُ له قتلُ ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه، لا تأخذُه في ذلك لومةُ لائم. حتى إنَّ أحدَهم (3) ليتلقَّى الرمحَ بصدره وهو يقول: «فزتُ وربِّ الكعبة». ويستطيلُ الآخرُ (4) حياتَه حتى يلقي قُوتَه من يده، ويقول: «إنها لحياةٌ طويلةٌ إن صبرتُ حتى آكلها»، ثم يتقدَّمُ إلى الموت فَرِحًا مسرورًا. ويقول الآخر (5) ــ مع فقره ــ: «لو علم الملوكُ وأبناء الملوك ما نحن _________ (1) قال الفراء في «معاني القرآن» (3/ 20): «تقول للرجل الذي لا يفهم قولك: أنت تُنادى من مكانٍ بعيد. وتقول للفَهِم: إنك لتأخذُ الشيء من قريب». وانظر: «معاني القرآن» للنحاس (6/ 281). (2) غير محررة في (د، ت). (ق): «مستحل بهذا». (ن): «متحمل بهذا». (3) هو حرام بن ملحان رضي الله عنه. أخرجه البخاري (4092)، ومسلم (677). (4) هو عمير بن الحمام رضي الله عنه. أخرج خبره مسلم (1901). (5) هو إبراهيم بن أدهم. أخرج قوله أبو نعيم في «الحلية» (7/ 370)، والبيهقي في «الزهد» (80)، وغيرهما.

(1/96)


عليه لجالدونا عليه بالسُّيوف». ويقول الآخر (1): «إنه لتمرُّ بالقلب أوقاتٌ يرقصُ فيها طربًا». وقال بعضُ العارفين (2): «إنه لتمرُّ بي أوقاتٌ، أقولُ فيها: إن كان أهلُ الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيِّب» (3). ومن تأمَّل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نهاهم عن الوِصَال، فقالوا: إنك تُواصِل فقال: «إني لستُ كهيئتكم، إني أظلُّ عند ربي يطعمني ويسقيني» (4)؛ عَلِمَ أنَّ هذا طعامُ الأرواح وشرابها، وما يفيضُ عليها من أنواع البهجة واللذَّة والسرور والنعيم الذي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الذروة العليا منه، وغيرُه إذا تعلَّق بغباره رأى مُلْكَ الدُّنيا ونعيمَها بالنسبة إليه هباءً منثورًا، بل باطلًا وغرورًا. وغَلِط من قال: إنه كان يأكلُ ويشربُ طعامًا وشرابًا يغتذي به بدنُه؛ لوجوه (5): أحدُها: أنه قال: «أظلُّ عند ربي يطعمني ويسقيني»، ولو كان أكلًا وشربًا لم يكن وصالًا ولا صومًا. _________ (1) هو أبو سليمان الداراني. في «البداية والنهاية» (14/ 152). وانظر: «تاريخ دمشق» (34/ 147). (2) هو أبو سليمان الداراني. نسبه إليه ابن كثير في الموضع السابق. (3) وفي (ح): «إنهم لفي النعيم». وفي (ن): «لفي أنعم عيش». (4) أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103) من حديث أبي هريرة. (5) انظر: «جامع المسائل» (1/ 122)، و «مدارج السالكين» (3/ 88)، و «زاد المعاد» (2/ 32، 4/ 94)، و «أيمان القرآن» (579)، و «الداء والدواء» (460)، و «شرح مسلم» للنووي (4/ 220)، و «فتح الباري» (4/ 207)، و «لطائف المعارف» (344).

(1/97)


الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أنهم ليسوا كهيئته في الوصال، فإنهم إذا واصلوا تضرَّروا بذلك، وأمَّا هو - صلى الله عليه وسلم - فإنه إذا واصلَ لا يتضررُ بالوصال. فلو كان يأكلُ ويشربُ لكان الجواب: «وأنا أيضًا لا أواصل، بل آكلُ وأشربُ كما تأكلون وتشربون»، فلمَّا قرَّرهم على قولهم: إنك تواصل، ولم ينكره عليهم، دلَّ على أنه كان مواصلًا، وأنه لم يكن يأكلُ أكلًا وشربًا يُفَطِّرُ الصَّائم. الثالث: أنه لو كان أكلًا وشربًا يُفَطِّرُ الصَّائمَ لم يصحَّ الجوابُ بالفارق بينهم وبينه، فإنه حينئذٍ يكون - صلى الله عليه وسلم - هو وهم مشتركون (1) في عدم الوصال، فكيف يصحُّ الجوابُ بقوله: «لستُ كهيئتكم»؟! وهذا أمرٌ يعلمُه غالبُ الناس، أنَّ القلبَ متى حصلَ له ما يُفْرِحُه ويسرُّه من نيل مطلوبه، ووصال حبيبه، أو ما يغمُّه ويسوؤه ويحزنُه، شُغِل عن الطعام والشراب، حتى إنَّ كثيرًا من العشَّاق تمرُّ به الأيامُ لا يأكلُ شيئًا، ولا تطلبُ نفسه أكلًا. وقد أفصح القائلُ في هذا المعنى: لها أحاديثُ مِنْ ذكراكَ تَشْغَلُها ... عن الشَّرابِ وتُلْهِيها عن الزَّادِ لها بوجهكَ نورٌ تستضيءُ به ... ومِنْ حديثك في أعقابها حادِي إذا اشْتكَتْ مِنْ كَلالِ السَّيْرِ أوعدها ... رَوْحَ القُدومِ فتحيا عند ميعادِ (2) _________ (1) كذا في الأصول، بالرفع. والجادة النصب. (2) الأول والثاني: لإدريس بن أبي حفصة، يَذْكُر إبلًا، في «ديوان المعاني» (1/ 191)، و «الأنوار» (1/ 400)، و «الحماسة البصرية» (1/ 157)، و «زهر الآداب» (1/ 507). والثالث: أنشده الغزالي في «رسالة الطير» (72 - مقالات فلسفية نشرها لويس شيخو»، وأنشده إسماعيل بن إبراهيم المعرِّي في «ذيل مرآة الزمان» لليونيني (3/ 43).

(1/98)


والمقصودُ أنَّ الهدى مستلزمٌ لسعادة الدُّنيا، وطِيب الحياة، والنعيم العاجل، وهو أمرٌ يشهدُ به الحِسُّ والوَجْد، وأما سعادةُ الآخرة فغيبٌ يُعْلَمُ بالإيمان، فذكرها ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما لكونها أهمَّ، وهي الغايةُ المطلوبة، وضلالُ الدُّنيا أظهر، وبالنجاة منه ينجو من كلِّ شرٍّ، وهو أصلُ ضلال الآخرة وشقائها، فلذلك ذكره وحده. والله أعلم. فصل وهذان الأصلان (1) ــ أعني: الضلال والشَّقاء ــ يذكرهما سبحانه كثيرًا في كلامه، ويخبرُ أنهما حظُّ أعدائه، ويذكرُ ضدَّهما ــ وهما: الهدى والفلاح ــ كثيرًا، ويخبرُ أنهما حظُّ أوليائه. أما الأول؛ فكقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، فالضلالُ الضلال، والسُّعُر هو الشقاءُ والعذاب، وقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45]. وأما الثاني؛ فكقوله تعالى في أول «البقرة» ــ وقد ذكر المؤمنين وصفاتهم ــ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وكذلك في أول «لقمان»، وقال في «الأنعام»: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. ولما كانت سورةُ أمِّ القرآن أعظمَ سورةٍ في القرآن، وأفرضَها قراءةً على الأمَّة، وأجمَعها لكلِّ ما يحتاجُ إليه العبد، وأعمَّها نفعًا= ذكَر فيها الأمرين: _________ (1) (ت، د، ق): «الضلالان».

(1/99)


فأمرنا أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، فذكر الهدايةَ والنعمة، وهما الهدى والفلاح. ثمَّ قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فذكر المغضوبَ عليهم وهم أهلُ الشقاء، والضَّالِّين وهم أهلُ الضلال، وكلٌّ من الطائفتين له الضَّلالُ والشقاء، لكنْ ذَكَر الوصفين معًا لتكونَ الدَّلالةُ على كلٍّ منهما بصريح لفظِه. وأيضًا؛ فإنه ذكر ما هو أظهرُ الوصفين في كلِّ طائفة، فإنَّ الغضب على اليهود أظهر؛ لعنادهم الحقَّ بعد معرفته، والضلال في النصارى أظهر؛ لغلبة الجهل فيهم، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اليهودُ مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالُّون» (1). فصل وقولُه تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} هو خطابٌ لمن أهبطه (2) من الجنة بقوله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، ثم قال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}. _________ (1) أخرجه الترمذي (2953، 2954)، وأحمد (4/ 378)، وغيرهما. قال الترمذي: «حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب». وصححه ابن حبان (6246، 7206، 7365). وروي من وجهٍ آخر أصحَّ من هذا الوجه. انظر: «مسند الطيالسي» (2/ 372)، و «بيان الوهم والإيهام» (4/ 51، 668)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 164)، و «فتح الباري» (8/ 159). (2) (ح، ن): «أهبط».

(1/100)


وكلا الخطابين لأبوي الثَّقلين. وهو دليلٌ على أنَّ الجنَّ مأمورون منهيُّون، داخلون تحت شرائع الأنبياء، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمَّة، وأنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إليهم كما بُعِثَ إلى الإنس، كما لا خلاف بينها أنَّ مسيئهم مستحقٌّ للعقاب. وإنما اختلف (1) علماءُ الإسلام في المسلم منهم: هل يدخل الجنة (2)؟ فالجمهورُ على أنَّ محسنهم في الجنة، كما أن مسيئهم في النار. وقيل: بل ثوابهم سلامتُهم من الجحيم، وأمَّا الجنة فلا يدخلُها أحدٌ من أولاد إبليس، وإنما هي لآدم (3) وصالحي ذريته خاصَّة. وحُكِيَ هذا القولُ عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى (4). واحتجَّ الأولون بوجوه: أحدها: هذه الآية؛ فإنه سبحانه أخبر أنَّ من اتبعَ هداه فلا يخافُ ولا _________ (1) (ق، ت): «اختلفت». (2) انظر: «العظمة» لأبي الشيخ (5/ 1696)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 233، 11/ 306، 13/ 86)، و «النبوات» (1010)، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (187)، و «إيضاح الدلالة في عموم الرسالة» (19/ 38 - مجموع الفتاوى)، و «طريق الهجرتين» (910)، و «سير أعلام النبلاء» (17/ 8)، و «تفسير ابن كثير» (7/ 3209)، و «آكام المرجان» للشبلي (67)، و «فتح الباري» (6/ 246)، و «عمدة القاري» (15/ 184)، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي (1/ 505)، و «الفروع» (1/ 603)، و «المبدع» (2/ 58)، و «أضواء البيان» (7/ 401)، و «دفع إيهام الاضطراب» (284). (3) (ن، د، ق): «لبني آدم». وهو خطأ. (4) انظر: «غمز عيون البصائر» (3/ 406، 415).

(1/101)


يحزن، ولا يضلُّ ولا يشقى، وهذا مستلزمٌ لكمال النعيم. ولا يقال: إنَّ الآية إنما تدلُّ على نفي العذاب فقط، ولا خلافَ أنَّ مؤمنيهم لا يعاقبون؛ لأنَّا نقول: لو لم تدلَّ الآيةُ إلا على أمرٍ عدميٍّ فقط لم يكن مدحًا لمؤمني الإنس، ولمَا كان فيها إلا مجردُ أمرٍ عدميٍّ، وهو عدمُ الخوف والحزن. ومعلومٌ أنَّ سياقَ الآية ومقصودَها إنما أريدَ به أنَّ من اتبعَ هدى الله الذي أنزله حصل له غايةُ النعيم، واندفعَ عنه غايةُ الشقاء، وعبَّر عن هذا المعنى المطلوب بنفي الأمور المذكورة؛ لاقتضاء الحال لذلك، فإنه لما أُهبِط آدمُ من الجنة حصل له من الخوف والحزن والشقاء ما حصل، فأخبره سبحانه أنه مُعْطِيه وذريته عهدًا من اتبعه منهم انتفى عنه الخوف والحزن والضلال والشقاء، ومعلومٌ أنه لا ينتفي (1) ذلك كلُّه إلا بدخول دار النعيم (2)، ولكنَّ المقام بذكر التصريح بنفي غاية (3) المكروهات أولى. الثاني: قولُه تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 31]. _________ (1) (ن): «ينبغي». (2) (ح، ن): «إلا في دار النعيم». (3) (ح، ن): «غلبة».

(1/102)


فأخبرَ سبحانه عن نذيرهم ــ إخبار مقرٍّ له (1) ــ: أنَّ من أجابَ داعيه غَفَر له وأجارَه من العذاب. ولو كانت المغفرةُ لهم إنما ينالونَ بها مجردَ النجاة من العذاب كان ذلك حاصلًا بقوله: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، بل تمامُ المغفرة دخولُ الجنة والنجاةُ من النار، فكلُّ من غُفِرَ له فلا بدَّ له من دخول الجنة. الثالث: قولُه تعالى في الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56، 74]؛ فهذا يدلُّ على أنَّ مؤمني الجنِّ والإنس يدخلون الجنة، وأنه لم يسبق من أحدٍ منهم طَمْثٌ لأحدٍ من الحُور، فدلَّ على أنَّ مؤمنيهم يتأتَّى منهم طمثُ الحور العين بعد الدخول، كما يتأتَّى من الإنس، ولو كانوا ممَّن لا يدخلُ الجنةَ لمَا حَسُنَ الإخبارُ عنهم بذلك (2). الرابع: قولُه تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 24 - 25]. والجنُّ منهم مؤمنٌ ومنهم كافر، كما قال صالحوهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14]، فكما دخلَ كافرُهم في الآية الثانية (3) _________ (1) (ح): «مقرر له». (ت): «اخبار بقوله». (2) انظر: «تفسير الطبري» (23/ 65)، و «حادي الأرواح» (484). (3) وهي قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]. والأولى هي قوله قبلها: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14].

(1/103)


وجبَ أن يدخلَ مؤمنُهم في الآية الأولى (1). الخامس: قولُه عن صالحيهم: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، والرَّشَدُ هو الهدى والفلاح، وهو الذي يهدي إليه القرآن، ومن لم يدخل الجنة لم يَنَلْ غايةَ الرشد، بل لم يحصل له من الرشد إلا مجردُ العدم. السادس: قولُه تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، ومؤمنُهم ممَّن آمن بالله ورسله؛ فيدخل في المبشَّرين، ويستحقُّ البشارة. السابع: قولُه تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، عَمَّ سبحانه بالدعوة، وخَصَّ بالهداية المُفْضِية إليها، فمن هداه إليها فهو ممَّن دعاه إليها؛ فمن اهتدى من الجنِّ فهو من المَدْعُوِّين إليها. الثامن: قولُه تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ _________ (1) سقط من (ح، ن) قوله: «فكما دخل كافرهم» إلى آخر الآية في الوجه الخامس.

(1/104)


رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 128 - 132]، وهذا عامٌّ في الجنِّ والإنس، فأخبر (1) تعالى أنَّ لكلِّهم درجاتٍ من عمله، فاقتضى أن يكون لِمُحْسِنهم درجاتٌ من عمله كما لِمُحْسِن الإنس. التاسع: قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 - 14] (2). ووجهُ التمسُّك بالآية من وجوهٍ ثلاثة: أحدها: عمومُ الاسم الموصول فيها. الثاني: ترتيبُه الجزاء المذكور على الصِّلة (3)؛ ليَدُلَّ على أنه مُسْتَحَقٌّ بها، وهو قول: {رَبُّنَا اللَّهُ} مع الاستقامة، والحكمُ يعمُّ بعموم علَّته؛ فإذا كان دخولُ الجنة مرتَّبًا على الإقرار بالله وربوبيته مع الاستقامة على أمره، فمن أتى بذلك (4) استحقَّ الجزاء. _________ (1) (ق): «فأخبرهم». (2) (ح): «التاسع: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، وفي الآية الأخرى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}». (3) صلة الموصول. وانظر: «بدائع الفوائد» (418)، و «طريق الهجرتين» (797). وفي (ن، ح): «على المسألة». وهو خطأ. ويحتمل أن تقرأ: «العلة»، بدلالة ما بعدها. (4) (د، ن، ق): «ذلك».

(1/105)


الثالث: أنه قال: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فدلَّ على أنَّ كلَّ من لا خوف عليه ولا حزن فهو من أهل الجنة. وقد تقدَّم في أول الآيات قولُه تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وأنه متناولٌ للفريقين، ودلَّت هذه الآية على أنَّ من لا خوف عليه ولا حزن فهو من أهل الجنة. العاشر: أنه إذا دخلَ مسيئُهم النارَ بعدل الله، فدخولُ محسنهم الجنةَ بفضله ورحمته أولى؛ فإنَّ رحمتَه سبقت غضبَه، والفضلُ أغلبُ من العدل. ولهذا لا يُدْخِلُ النارَ إلا مَن عَمِل أعمالَ أهل النار، وأما الجنةُ فيُدخِلُها من لم يعمل خيرًا قطُّ (1)، بل ينشاءُ لها أقوامًا يُسْكِنُهم إياها من غير عملٍ عملوه، ويرفعُ فيها درجات العبد من غير سعيٍ منه، بل بما يصلُ إليه من دعاء المؤمنين وصلاتهم وصدقتهم وأعمال البرِّ التي يُهْدُونها إليه (2)، بخلاف النار (3) فإنه لا يُعَذَّبُ فيها بغير عملٍ أصلًا. وقد ثبت بنصِّ القرآن وإجماع الأمَّة أنَّ مسيء الجنِّ في النار بعدل الله وبما كانوا يكسبون، فمحسنُهم في الجنة بفضل الله وبما كانوا يعملون. لكن قيل: إنهم يكونون في رَبَض الجنة، يراهم أهلُ الجنة ولا يرونهم، _________ (1) انظر: «التوحيد» لابن خزيمة (2/ 732). (2) انظر: «التقريب لعلوم ابن القيم» (172). (3) (ن، ح): «أهل النار». وهو خطأ.

(1/106)


كما كانوا في الدُّنيا يرونَ بني آدم من حيثُ لا يرونهم (1). ومثلُ هذا لا يُعْلَمُ إلا بتوقيفٍ تنقطعُ الحجةُ عنده، فإن ثبتت حجةٌ يجب اتباعُها وإلا فهو مما يحكى ليُعْلَم، وصحتُه موقوفةٌ على الدليل، والله أعلم. فصل ومتابعةُ هدى الله التي رتَّب عليها (2) هذه الأمور هي: * تصديقُ خبره من غير اعتراض شبهةٍ تقدحُ في تصديقه. * وامتثالُ أمره من غير اعتراض شهوةٍ تمنعُ امتثالَه. وعلى هذين الأصلين مدارُ الإيمان، وهما: تصديقُ الخبر، وطاعةُ الأمر (3). _________ (1) يروى عن بعض السف. انظر: «طريق الهجرتين» (911)، و «فتح الباري» (6/ 247)، و «عمدة القاري» (15/ 184). وذكر ابن تيمية في «الفتاوى» (13/ 86) أنه ورد به حديثٌ رواه الطبراني في «المعجم الصغير»، وقال: «يحتاج إلى النظر في إسناده». قلت: لم أجده فيه، ولا في سائر مصنفات الطبراني المطبوعة. وأخرج ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (63/ 298)، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (1017)، و «السير» (17/ 8) عن أنس مرفوعًا: أن مؤمني الجن يكونون على الأعراف، وليس في الجنة مع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن الأعراف حائط الجنة تجري فيه الأنهار .... قال الذهبي: هذا حديثٌ منكرٌ جدًّا. (2) (ح، ن): «الذي رتب عليها». (3) انظر: «الصارم المسلول» (967)، و «الإيمان الكبير» (7/ 59، 142 - مجموع الفتاوى)، و «قاعدة في المحبة» (155)، و «أيمان القرآن» (62)، و «الصلاة وحكم تاركها» (58).

(1/107)


ويتبعُهما أمران آخران، وهما: * نفيُ شبهات الباطل الواردة عليه، المانعة من كمال التصديق (1)، وأن لا يَخْمِشَ بها وجهَ تصديقه. * ودفعُ شهوات الغيِّ الواردة عليه، المانعة من كمال الامتثال. فهنا أربعةُ أمور: أحدها: تصديقُ الخبر. الثاني: بذلُ الاجتهاد في ردِّ الشبهات التي تُوحيها شياطينُ الجنِّ والإنس في معارضته. الثالث: طاعةُ الأمر. الرابع: مجاهدةُ النفس في دفع الشهوات التي تحولُ بين العبد وبين كمال الطاعة. وهذان الأمران ــ أعني: الشُّبهات، والشَّهوات ــ أصلُ فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده (2)، كما أنَّ الأصلين الأوَّلين ــ وهما: تصديقُ الخبر، وطاعةُ الأمر ــ أصلُ سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده. وذلك أنَّ العبدَ له قوَّتان: * قوةُ الإدراك والنظر، وما يتبعُها من العلم والمعرفة والكلام. * وقوةُ الإرادة والحبِّ وما يتبعُها من النِّية والعزم (3) والعمل. فالشبهةُ _________ (1) (ح): «الامتثال». (ن): «الامتثال الخبر». وكلاهما خطأ. (2) انظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 165)، و «الصواعق المرسلة» (510). (3) (ح): «والعلم». تحريف.

(1/108)


تؤثِّر (1) فسادًا في القوة العلمية النظرية ما لم يُداوِها بدفعها، والشهوةُ تؤثِّر فسادًا في القوة الإرادية العملية ما لم يُداوِها بإخراجها. قال الله تعالى في حقِّ نبيِّه يذكرُ ما مَنَّ به عليه مِن نزاهته وطهارته مما يلحقُ غيرَه من ذلك: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1 - 2]؛ فـ {مَا ضَلَّ} دليلٌ على كمال علمه ومعرفته، وأنه على الحقِّ المبين، {وَمَا غَوَى} دليلٌ على كمال رشده وأنه أبرُّ العالمين؛ فهو الكاملُ في علمه وفي عمله. وقد وصفَ - صلى الله عليه وسلم - بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتِّباعهم على سنَّتهم (2)، فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي» رواه الترمذيُّ وغيره (3)؛ فالراشدُ ضدُّ الغاوي، والمهديُّ ضدُّ الضالِّ. وقد قال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، فذكر تعالى _________ (1) (ت): «تورث». (2) (ح): «سننهم». (3) أخرجه الترمذي (2676)، وابن ماجه (44)، وأحمد (4/ 126)، وغيرهم من حديث العرباض بن سارية. وصححه الترمذي، وابن حبان (5)، والحاكم (1/ 95) ولم يتعقبه الذهبي، والبزار، وأبو نعيم، والضياء المقدسي، وابن تيمية، وغيرهم. انظر: التعليق على «ذم الكلام» للهروي (3/ 125 - 148 طبعة الغرباء).

(1/109)


الأصلين، وهما داءُ الأولين والآخرين (1): أحدهما: الاستمتاعُ بالخَلاق، وهو النصيبُ من الدُّنيا، والاستمتاعُ به متضمِّنٌ لنيل الشهوات المانعة من متابعة الأمر، بخلاف المؤمن فإنه وإن نال من الدُّنيا وشهواتها فإنه لا يستمتعُ بنصيبه كلِّه، ولا يُذْهِبُ طيِّباته في حياته الدُّنيا، بل ينالُ منها ما ينالُ ليتقوَّى به على التزوُّد لمعاده. والثاني: الخوض بالشبهات الباطلة، وهو قولُه: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، وهذا شأنُ النفوس الباطلة التي لم تُخْلَقْ للآخرة، لا تزالُ ساعيةً في نيل شهواتها، فإذا نالتها فإنما هي في خوضٍ بالباطل (2) الذي لا يُجْدِي عليها إلا الضررَ العاجل والآجل. ومِنْ تمام حكمة الله تعالى أنه يبتلي هذه النفوسَ بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها، فلا تتفرغُ للخوض بالباطل إلا قليلًا، ولو تفرَّغت هذه النفوسُ الباطوليَّة (3) لكانت أئمَّةً تدعو إلى النار، وهذا حالُ من _________ (1) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 25)، و «الاستقامة» (1/ 454)، و «إعلام الموقعين» (1/ 136)، و «الصواعق المرسلة» (1210)، و «رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه» (18)، و «الكلام على مسألة السماع» (173). (2) (ح): «في الباطل». (3) المتَّبعة للشَّهوات، نسبةً إلى البَطالة، أو الباطل، على غير قياس. وقد وردت هذه النسبة الغريبة في مواضع من كتب المصنف. انظر: «تهذيب السنن» (3/ 81)، و «بدائع الفوائد» (846)، و «الكلام على مسألة السماع» (221)، وما سيأتي (ص: 528). كما وردت في كلام بعض أهل عصره بالدلالة نفسها. انظر: «الوافي» للصفدي (13/ 334) فيما نقله عن ابن تيمية، و «النصيحة الذهبية» (المنسوبة للذهبي) (86).

(1/110)


تفرَّغ منها كما هو مشاهدٌ بالعيان. وسواءٌ كان المعنى: «وخضتم كالحزب الذي خاضوا»، أو: «كالفريق الذي خاضوا»؛ فإنَّ «الذي» يكونُ للواحد والجمع، ونظيرُه قولُه تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 33 - 34]، لكن لا يجري على جمع تصحيح، فلا يجيء: «المسلمون الذي جاؤوا»، وإنما يجيءُ غالبًا في اسم الجمع، كالحزب، والفريق، أو حيثُ لا يُذْكَرُ الموصوفُ وإن كان جمعًا، كقول الشاعر (1): وإنَّ الذي حانت بفَلْجٍ (2) دماؤهم ... همُ القومُ كلُّ القوم يا أمَّ خالد أو حيثُ يرادُ الجنسُ دون الواحد والعدد، كقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، ونظيره الآية التي نحن فيها، وهي قولُه: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}. = أو كان المعنى على القول الآخر: «وخضتم خوضًا كالخوض الذي _________ (1) أشهب بن رميلة، في «الكتاب» (1/ 187)، و «المقتضب» (4/ 146)، و «اللآلي» (1/ 35)، وغيرها. ويروى في بعض المصادر: «وإن الألى» كما في «البيان والتبين» (4/ 55)، وفي بعضها: «وإن التي» كما في «الخزانة» (6/ 29)، وعلى هاتين الروايتين فلا شاهد فيه. (2) وادٍ في طريق البصرة إلى مكة. «معجم ما استعجم» (3/ 1207). وهو المسمى اليوم بوادي الباطن، وتقع فيه مدينة «حفر الباطن» شمال شرق المملكة العربية السعودية. «المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية» للجاسر (3/ 1315).

(1/111)


خاضُوا»؛ فيكونُ صفةً لمصدرٍ محذوف، كقولك: اضرب كالذي ضَرَبَ، وأحسِنْ كالذي أحسَن، ونظائره. وعلى هذا فيكونُ العائدُ منصوبًا محذوفًا، وحذفُه في مثل ذلك قياسٌ مطَّرد (1). وعلى القولين، فقد ذمَّهم سبحانه على الخوض بالباطل واتباع الشهوات، وأخبر أنَّ من كانت هذه حالتُه فقد حَبِط عملُه في الدُّنيا والآخرة، وهو من الخاسرين. ونظيرُ هذا قولُ أهل النار لأهل الجنة، وقد سألوهم: كيف دخلوها: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 43 - 46]، فذكروا الأصلين: الخوض بالباطل وما يتبعه من التكذيب بيوم الدِّين، وإيثار الشهوات وما يستلزمُه (2) من ترك الصَّلوات وإطعام ذوي الحاجات. فهذا الأصلان هما ما هما. والله وليُّ التوفيق. فصل والقلبُ السليمُ الذي لا ينجو من عذاب الله إلا من أتى اللهَ به (3) هو القلبُ الذي قد سَلِمَ من هذا وهذا؛ فهو القلبُ الذي قد سلَّم لربِّه، وسلَّم لأمره، ولم تبق فيه منازعةٌ لأمره، ولا معارضةٌ لخبره، فهو سليمٌ مما سوى _________ (1) انظر: «الدر المصون» (6/ 83)، و «التبيان» للعكبري (650)، و «شرح المفصَّل» (3/ 156). (2) (ت): «تستلزمه». (3) (ن، ح): «والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله».

(1/112)


الله وأمرِه، لا يريدُ إلا الله، ولا يفعلُ إلا ما أمره الله، فالله وحده غايتُه، وأمرُه وشرعُه وسيلتُه وطريقتُه، لا تعترضه شبهةٌ (1) تحولُ بينه وبين تصديق خبره، لكنْ (2) لا تمرُّ عليه إلا وهي مُجْتازة، تعلمُ أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحولُ بينه وبين متابعة رضاه. ومتى كان القلبُ كذلك فهو سليمٌ من الشرك، وسليمٌ من البدع، وسليمٌ من الغيِّ، وسليمٌ من الباطل، وكلُّ الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك ينتظمُها (3). وحقيقتُه أنه القلبُ الذي قد سَلَّمَ لعبودية ربِّه حبًّا وخوفًا ورجاءً؛ ففَنِيَ بحبِّه (4) عن حبِّ ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله تصديقًا وطاعة، كما تقدَّم، واستسلَم لقضائه وقدره فلم يتَّهِمْه ولم يُنازِعْه ولم يتسخَّط لأقداره. فأسلمَ لربِّه انقيادًا وخضوعًا، وذُلًا وعبودية، وسلَّم جميعَ أحكامه (5) _________ (1) (ن، ح): «شبه». (2) كذا في الأصول. أي: «وقد تعترضه شبهة، لكن لا تمر ... » على الاستدراك، وهو بابُ «لكنْ». فإن كانت للإضراب - وقد تأتي له، انظر: «رصف المباني» (192) - فالمعنى ظاهر. (3) (ح، ن): «يتضمنها». وانظر: «طريق الهجرتين» (75)، و «مدارج السالكين» (2/ 68، 3/ 122، 487)، و «الروح» (605)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 7)، و «بدائع الفوائد» (600). (4) (ح، ن): «فهو غني». (5) (ن، ح): «أحواله».

(1/113)


وأقواله وأعماله وأذواقه ومَواجِيده ظاهرًا وباطنًا مِنْ (1) مشكاة رسوله، وعَرَض ما جاء من سواها عليها، فما وافقها قَبِلَه، وما خالفها ردَّه، وما لم يتبيَّن له فيه موافقةٌ ولا مخالفةٌ وقَفَ أمرَه وأرجأه إلى أن يتبيَّن له، وسالَم أولياءه وحزبه المفلحين الذَّابِّين عن دينه وسنة نبيه، القائمين بها، وعادى أعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه، الخارجين عنهما، الدَّاعين إلى خلافهما (2). فصل وهذه المتابعةُ هي التلاوةُ التي أثنى الله على أهلها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29]، وفي قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]، والمعنى: يتبعون كتاب الله حقَّ اتباعه، وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91 - 92]. فحقيقةُ التِّلاوة في هذه المواضع هي التِّلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوةُ اللفظ والمعنى؛ فتلاوةُ اللفظ جزءُ مسمَّى التِّلاوة المطلقة، وحقيقةُ اللفظ إنما هي الاتِّباع، يقال: اتلُ أثر فلان، وتلوتُ أثره وقفوتُه وقصصتُه بمعنى تبعتُه خلفَه، ومنه قولُه تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 1 - 2]، أي: تَبِعَها في الطلوع بعد غيبتها، ويقال: جاء القومُ يتلو بعضُهم بعضًا، أي: يَتْبع. _________ (1) كذا في الأصول. كأنه ضمَّن «سَلَّم» معنى «أخذ» ونحوه. (2) (ح، ن): «المخالفين لسنة نبيه ... عنها ... خلافها».

(1/114)


ويسمَّى تالي الكلام: تاليًا؛ لأنه يُتْبِعُ بعضَ الحروف بعضًا، لا يُخْرِجُها جملةً واحدة، بل يُتْبِعُ بعضَها بعضًا مرتَّبة، كلما انقضى حرفٌ أو كلمةٌ أتبعه بحرفٍ آخر وكلمةٍ أخرى. وهذه التِّلاوة وسيلةٌ وطريق، والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقية، وهي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه (1)؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً عن نهيه، وائتمامًا به، حيثُ ما قادك انقَدتَ معه. فتلاوةُ القرآن تتناولُ تلاوةَ لفظه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مجرَّد تلاوة اللفظ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة، فإنهم أهلُ متابعةٍ وتلاوةٍ حقًّا. فصل ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2). لمَّا أخبر سبحانه عن حال من اتبعَ هداه في معاشه ومعاده أخبَر عن حال من أعرَض عنه ولم يَتَّبِعْه، فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، أي: عن الذِّكر الذي أنزلتُه (3). فالذكرُ هنا مصدرٌ مضافٌ إلى الفاعل، كـ «قيامي» و «قراءتي»، لا إلى _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 167، 10/ 176، 15/ 70، 390)، و «شرح العمدة» (88 - الصلاة). (2) وما مضى من (ص: 88) إلى هنا كلُّه متعلِّقٌ بالآية التي قبلها. (3) (ح، ن): «أنزله».

(1/115)


المفعول (1). وليس المعنى: «ومن أعرض عن أن يذكرني»، بل هذا لازمُ المعنى ومقتضاه من وجهٍ آخر سنذكره. وأحسنُ من هذا الوجه أن يقال: الذِّكرُ هنا مضافٌ إضافة الأسماء، لا إضافةَ المصادر إلى معمولاتها، والمعنى: «ومن أعرض عن كتابي ولم يتَّبعْه»؛ فإنَّ القرآن يسمَّى ذكرًا، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] وقال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} [يس: 11]. وعلى هذا، فإضافتُه كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يُقْصَدُ بها إضافةُ العامل إلى معموله. ونظيرُه في إضافة اسم الفاعل: «غافر الذَّنب، وقابل التَّوب، شديد العقاب»، فإنَّ هذه الإضافات لم يُقْصَد بها قصدُ الفعل المتجدِّد، وإنما قُصِدَ بها قصدُ الوصف الثابت اللازم؛ ولذلك جرت أوصافًا على أعرف المعارف، وهو اسمُ الله تعالى، في قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 2 - 3]. _________ (1) انظر تقرير هذا الوجه ــ والوجه الآتي الذي هو أحسن منه ــ في: «درء التعارض» (1/ 167)، و «مجموع الفتاوى» (13/ 334)، و «منهاج السنة» (2/ 155)، و «الصواعق المرسلة» (845، 1526)، و «الوابل الصيب» (106)، و «جلاء الأفهام» (620)، و «الفوائد» (246).

(1/116)


فصل وقولُه تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} فسَّرها غيرُ واحدٍ من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآيةَ أحدَ الأدلَّة الدَّالَّة على عذاب القبر (1). ولهذا قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}، أي: تُتْرَكُ في العذاب، كما تركتَ العملَ بآياتنا. فذكرَ عذابَ البرزخ، وعذابَ دار البوار. ونظيرُه قولُه تعالى في حقِّ آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، فهذا في البرزخ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، فهذا في القيامة الكبرى. ونظيرُه قولُه تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، فقولُ الملائكة: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} المرادُ به عذابُ البرزخ، الذي أوَّلُه يومُ القبض والموت. ونظيرُه قولُه تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]، فهذه الإذاقةُ هي في البرزخ، وأوَّلُها حين الوفاة؛ فإنه معطوفٌ على قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ _________ (1) انظر: «تفسير الطبري» (18/ 392)، و «الدر المنثور» (5/ 607).

(1/117)


وَأَدْبَارَهُمْ}، وهو من المَقُول المحذوف قولُه (1) لدلالة الكلام عليه، كنظائره، وكلاهما واقعٌ وقت الوفاة. وفي «الصحيح» (2) عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، قال: «نزلت في عذاب القبر» (3). والأحاديثُ في عذاب القبر تكادُ تبلغُ حدَّ التواتر (4). والمقصودُ أنَّ الله سبحانه أخبر أنَّ من أعرض عن ذكره، وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضلُّ ولا يشقى، فإنَّ له معيشةً ضنكًا، وتكفَّل لمن حفظ عهدَه أن يُحْيِيَه حياةً طيِّبةً ويجزيه أجره في الآخرة، فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. فأخبرَ سبحانه عن فلاح من تمسَّك بعهده علمًا وعملًا، في العاجلة بالحياة الطيِّبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء، وهذا بعكس من له المعيشةُ الضَّنكُ في الدُّنيا والبرزخ، ونسيانُه في العذاب بالآخرة. _________ (1) (ق، د): «القول المحذوف مقوله». (ت): «القول المحذوف فقوله له لا له». وكلاهما خطأ. (2) (ق): «الصحيحين». «صحيح البخاري» (1369)، و «صحيح مسلم» (2871). (3) وانظر للآيات الدالة على عذاب القبر: «مجموع الفتاوى» (4/ 266)، و «عدة الصابرين» (360)، و «الروح» (271 - 273). (4) انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 285)، و «الروح» (228)، و «نظم المتناثر» للكتاني (125).

(1/118)


وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37]، فأخبر سبحانه أنَّ ابتلاءه بقرينه (1) من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعَشْوِه عن ذكره الذي أنزله على رسوله، فكان عقوبةُ هذا الإعراض أنْ قيَّض له شيطانًا يقارنُه، فيصدُّه عن سبيل ربِّه وطريق فلاحه، وهو يحسبُ أنه مهتدٍ، حتى إذا وافى ربَّه يوم القيامة مع قرينه، وعاينَ هلاكَه وإفلاسَه، قال: {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]. وكلُّ من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكرُ الله، فلا بدَّ أن يقول هذا يوم القيامة. فإن قيل: فهل لهذا عذرٌ في ضلاله إذا كان يحسبُ أنه على هدى، كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}؟ قيل: لا عذرَ لهذا وأمثاله من الضُّلَّال الذين منشأ ضلالهم الإعراضُ عن الوحي الذي جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، ولو ظنَّ أنه مهتدٍ، فإنه مفرِّطٌ بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضلَّ فإنما أُتِيَ من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلالُه (2) لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكمٌ آخر، والوعيدُ في القرآن إنما يتناولُ الأول، وأما الثاني فإنَّ الله لا يعذِّبُ أحدًا إلا بعد إقامة الحجَّة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا _________ (1) (ح، ن): «أن من ابتلاه بقرينه». (2) (ح، ن): «من كان على ضلالة».

(1/119)


يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وقال تعالى في أهل النار: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 56 - 59]. وهذا كثيرٌ في القرآن (1). فصل وقولُه تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} اختُلِف فيه: هل هو مِن عمى البصيرة أو مِن عمى البصر؟ (2). والذين قالوا: هو مِن عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قولُه: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38]، وقولُه: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، وقولُه تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى _________ (1) انظر لمبحث العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد عند المصنف: «طريق الهجرتين» (901)، و «الروح» (294، 374، 454)، و «إعلام الموقعين» (2/ 119)، و «مدارج السالكين» (1/ 9، 3/ 489)، وفهرس العقيدة آخر الكتاب. (2) انظر: «بصائر ذوي التمييز» (4/ 301)، و «المفردات» للراغب (588)، و «البرهان» للزركشي (4/ 170)، وما سيأتي (ص: 307).

(1/120)


يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]، وقولُه: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6 - 7]. ونظائرُ هذا مما يُثبِتُ لهم الرؤيةَ في الآخرة، كقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، وقوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 13 - 14]، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]. والذين رجَّحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السِّياقُ لا يدلُّ إلا عليه؛ لقوله (1): {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}، وهو لم يكن بصيرًا في كفره قطُّ، بل قد تبيَّن له حينئذٍ أنه كان في الدُّنيا في عمًى عن الحقِّ، فكيف يقول: وقد كنتُ بصيرًا؟! وكيف يجابُ بقوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}؟! بل هذا الجوابُ فيه تنبيهٌ على أنه من عمى البصر، وأنه جُوزِيَ من جنس عمله؛ فإنه لما أعرض عن الذِّكر الذي بعثَ اللهُ به رسوله، وعَمِيَت عنه بصيرتُه، أعمى الله بصرَه يوم القيامة، وتركَه في العذاب، كما ترك الذِّكر في الدُّنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركِه ذكرَه تركَه في العذاب. وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، وقد _________ (1) (ح، ن): «كقوله».

(1/121)


قيل في هذه الآية أيضًا: إنهم عميٌ وبكمٌ وصمٌّ عن الهدى، كما قيل في قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، قالوا: لأنهم يتكلَّمون يومئذٍ، ويسمعون، ويبصرون. ومن نصر أنه العمى والبَكَم والصَّمم المضادُّ للبصر والسمع والنُّطق، قال بعضهم: هو عمًى وصممٌ وبكمٌ مقيَّدٌ لا مطلق، فهم عُميٌ عن رؤية ما يسرُّهم وسماعِه. وهذا قد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لا يرونَ شيئًا يسرُّهم» (1). وقال آخرون: هذا الحشرُ حين تتوفَّاهم الملائكة، يخرجونَ من الدُّنيا كذلك، وإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك، ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مرويٌّ عن الحسن. وقال آخرون: هذا إنما يكونُ إذا دخلوا النارَ واستقرُّوا فيها، سُلِبوا الأسماعَ والأبصارَ والنطق، حين يقولُ لهم الربُّ تبارك وتعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]؛ فحينئذٍ ينقطعُ الرجاء، وتَبْكَمُ (2) عقولُهم، فيصيرونَ بأجمعهم عُميًا بكمًا صُمًّا؛ لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يُسْمَعُ منهم بعدها إلا الزفيرُ والشهيق. وهذا منقولٌ عن مقاتل (3). والذين قالوا: المرادُ به العمى عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة _________ (1) أخرجه الطبري (17/ 560). (2) على المجاز. وفي (ق): «تبلم». أي: تسكت. (3) انظر: «تفسير مقاتل» (2/ 273، 3/ 519)، و «الكشف والبيان» (6/ 136)، و «زاد المسير» (5/ 90).

(1/122)


لهم، ولم يريدوا أنَّ لهم حجةً هم عُميٌ عنها، بل هم عُميٌ عن الهدى كما كانوا في الدُّنيا؛ فإنَّ العبدَ يموتُ على ما عاش عليه، ويُبْعَثُ على ما مات عليه. وبهذا يظهرُ أنَّ الصوابَ هو القولُ الآخر، وأنه عمى البصر؛ فإنَّ الكافر يعلمُ الحقَّ يوم القيامة عِيانًا، ويُقِرُّ بما كان يجحدُه في الدُّنيا، فليس هو أعمى عن الحقِّ يومئذ (1). وفصلُ الخطاب: أنَّ الحشرَ هو الضمُّ والجمع. ويرادُ به تارةً الحشرُ إلى موقف القيامة؛ كقول (2) النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم محشورون إلى الله حفاةً عراةً غُرلًا» (3)، وكقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]. ويرادُ به الضمُّ والجمعُ إلى دار المستقَرِّ؛ فحشرُ المتقين: جمعُهم وضمُّهم إلى الجنة، وحشرُ الكافرين: جمعُهم وضمُّهم إلى النار. قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]. وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]، فهذا الحشرُ هو بعد حشرهم إلى _________ (1) (ح، ن): «حينئذ». (2) (ح، ن): «لقول». وهو خطأ. (3) أخرجه البخاري (3349)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس.

(1/123)


الموقف، وهو حشرُهم وضمُّهم إلى النار؛ لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: {يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 20 - 21]، ثم قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، وهذا (1) الحشرُ الثاني. وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول ــ من القبور إلى الموقف ــ والحشر الثاني: يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلَّمون (2)، وعند الحشر الثاني: يُحْشَرون على وجوههم عُميًا وبُكمًا وصُمًّا (3). فلكلِّ موقفٍ حالٌ يليقُ به ويقتضيه عدلُ الربِّ تبارك وتعالى وحكمتُه، فالقرآن يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فصل والمقصودُ أنَّ الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمتُه ورحمتُه إخراجَ آدم وذريته من الجنة أعاضهم أفضلَ منها، وهو ما أعطاهم من عَهْده الذي جعله سببًا مُوصِلًا لهم إليه، وطريقًا واضحًا بيِّن الدلالة عليه، من تمسَّكَ به فاز واهتدى، ومن أعرض عنه شَقِيَ وغوى. ولما كان هذا العهدُ الكريم، والصِّراط المستقيم، والنبأ العظيم، لا _________ (1) (ح): «وهو». (2) كذا في الأصول، وهو مستقيم. وفي (ط): «وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار، فعند الحشر الأول يسمعون ويبصرون ... »، من تصرف الناشر، لم يفهم السياق. (3) انظر: «تفسير الطبري» (17/ 559).

(1/124)


يوصلُ إليه أبدًا إلا من باب العلم والإرادة؛ فالإرادةُ بابُ الوصول إليه، والعلمُ مفتاحُ ذلك الباب المتوقِّف فتحُه عليه، وكمالُ كلِّ إنسانٍ إنما يتمُّ بهذين النوعين: هِمَّةٌ ترقِّيه، وعلمٌ يبصِّره (1) ويهديه= فإنَّ مراتبَ السعادةِ والفلاح إنما تفوتُ العبدَ من هاتين الجهتين، أو من إحداهما: * إمَّا أن لا يكون له علمٌ بها، فلا يتحركُ في طلبها. * أو يكون عالمًا بها ولا تنهضُ همَّتُه إليها. فلا يزالُ في حضيض طبعه محبوسًا، وقلبُه عن كماله الذي خُلِقَ له مصدودًا منكوسًا، قد أسامَ نفسَه مع الأنعام راعيًا مع الهَمَل، واستطابَ لُقَيْمات الراحة والبَطالة، واسْتَلانَ فراشَ العجز والكسل، لا كمن رُفِعَ له (2) عَلَمٌ فشمَّر إليه، وبُورِكَ له في تفرُّده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبَتْ غَلَباتُ شوقِه (3) إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقَتَت نفسُه الرفقاءَ إلا ابنَ سبيلٍ يرافقُه في سبيله. ولما كان كمالُ الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرفُ العلم تابعٌ لشرف معلومه، كانت نهايةُ سعادة العبد التي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها أن تكون إرادتُه متعلقةً بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعَزَماتُ همَّته مسافرةً إلى حضرة الحيِّ الذي لا يموت. ولا سبيل له إلى هذا المطلب _________ (1) (ت): «يوصله». (2) (ق): «دفع له». وفي (ت): «وقع له». (3) الغَلَبات: جمع غلبة. مولدة. قال محمد بن داود في «الزهرة» (245) من أبيات: أبَتْ غلَباتُ الشَّوقِ إلا تقرُّبا ... إليكَ ونأيُ العذلِ إلا تجنُّبا وتحرفت العبارة في (ق، ت).

(1/125)


الأسنى والحظِّ الأوفى إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه، الذي بعثه لذلك داعيًا، وأقامه على هذا الطريق هاديًا، وجعله واسطةً بينه وبين الأنام، وداعيًا لهم بإذنه إلى دار السَّلام، وأبى سبحانه أن يفتحَ لأحدٍ منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحدٍ منهم سعيًا إلا أن يكون مبتدئًا منه ومنتهيًا إليه، فالطرقُ كلُّها إلا طريقَه - صلى الله عليه وسلم - مسدودة، والقلوبُ بأسرها إلا قلوبَ أتباعه المنقادة إليه عن الله محبوسةٌ مصدودة. فحقٌّ على من كان في سعادة نفسه ساعيًا، وكان قلبه حيًّا عن الله واعيًا، أن يجعل على هذين الأصلين مدارَ أقواله وأعماله، وأن يُصَيِّرهما آخِيَّتَه (1) التي إليها مفزعُه في حياته ومآله. فلا جَرَمَ كان وضعُ هذا الكتاب مؤسَّسًا على هاتين القاعدتين، ومقصودُه التعريف بشرف هذين الأصلين، وسمَّيتُه: «مفتاح دار السَّعادة ومنشور (2) ولاية العلم (3) والإرادة»؛ إذ كان هذا من بعض النُّزُلِ (4) والتُّحَف التي فتح الله بها عليَّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكينًا ذليلًا، وتعرُّضي لنفحاته في بيته وحوله بكرةً وأصيلًا، فما خابَ من أنزل به حوائجَه، وعلَّق به آمالَه، وأصبح ببابه مقيمًا وبحِمَاه نزيلًا. _________ (1) (ق): «أجنده». والآخيَّة: عودٌ يعرض في الحائط، ويُدْفَنُ طرفاه فيه، ويصير وسطه كالعروة، تُشَدُّ إليه الدابة. وفي الحديث: «مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس في آخيَّته، يجول ثم يرجع إلى آخيَّته، وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان». «النهاية» (1/ 29)، و «صحيح ابن حبان» (616). (2) (ت): «ومنتهى». (3) (ق): «ولاية أهل العلم». (4) وهو ما يهيَّأ للنزيل من الضيافة. «اللسان» (نزل).

(1/126)


ولما كان العلمُ إمام الإرادة، ومقدَّمًا عليها، ومفصِّلًا لها، ومرشدًا إليها، قدَّمنا الكلام عليه على الكلام على المحبة. ثم نُتْبِعُه ــ إن شاء الله ــ بعد الفراغ منه كتابًا في الكلام على المحبة، وأقسامها، وأحكامها، وفوائدها، وثمراتها، وأسبابها، وموانعها، وما يقوِّيها، وما يُضْعِفُها، والاستدلال بسائر طرق الأدلَّة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار والذَّوق والوَجْد على تعلُّقها بالإله الحقِّ الذي لا إله غيره، بل لا ينبغي أن تكونَ إلا له، ومِنْ أجله، والردِّ على من أنكر ذلك، وتبيين فساد قوله عقلًا ونقلًا، وفطرةً وقياسًا، وذوقًا ووَجْدًا (1). فهذا مضمونُ هذه التحفة، وهذه عرائسُ معانيها الآن تُجْلى عليك، وخُودُ أبكارها البديعة الجمال تَرْفُلُ في حُلَلِها وهي تُزَفُّ إليك، فإما «شمسٌ منازلُها بسَعْد الأسعد» (2)، وإما «خَوْدٌ تُزَفُّ إلى ضريرٍ مُقْعَد» (3)، فاختر لنفسك إحدى الخُطَّتين، وأنزِلها فيما شئتَ من المنزلتين، ولا بدَّ لكلِّ _________ (1) وهو كتابه الكبير في المحبة، واسمه: «المورد الصافي والظلُّ الضافي»، ولعله هو «قرة عيون المحبين وروضة العارفين»، أما الصغير فهو «روضة المحبين». انظر: «طريق الهجرتين» (124)، و «مدارج السالكين» (1/ 92، 2/ 54، 3/ 19)، و «ابن القيم» للشيخ بكر أبو زيد (253، 305). وقد بحث المصنف مسائل المحبة كذلك في كتابيه: «الفتوحات القدسية»، و «التحفة المكية»، كما أشار إلى ذلك في «بدائع الفوائد» (95، 845، 846). (2) وهو أحمدُ السُّعود من المنازل. ويقال له: سعد السُّعود. وهو أشهر. (3) الخَوْد: الفتاة الشابة الحسنة الخَلْق. وهذا مثلٌ يكثر دورانه في كتب المصنف، وهو شطر بيتٍ للحسين بن الحجاج (ت: 391) سفيه الأدباء، في «المنتخل» (516)، و «التمثيل والمحاضرة» (118)، و «اليتيمة» (3/ 60). ولم أجده في «درة التاج»، و «تلطيف المزاج».

(1/127)


نعمةٍ من حاسد، ولكلِّ حقٍّ من جاحدٍ ومعاند. هذا، وإنَّ ما أُودِعَ من المعاني والنفائس رهنٌ عند متأمِّله ومُطالِعه، له غُنْمُه وعلى مؤلِّفه غُرْمُه، وله ثمرتُه ومنفعتُه ولصاحبه كَدُّه (1) ومشقَّتُه، مع تعرُّضه لمطاعن الطاعنين، ولاعتراض المنافسين (2)، وعَرْضِه بضاعتَه المزجاة وعقلَه المَكْدُود على عقول العالمين (3)، وإلقائه نفسَه وعِرْضه بين مخالب الحاسدين، وأنياب البغاة المعتدين. فلك أيها القاراء صَفْوُه ولمؤلِّفه كدرُه، وهو الذي تجشَّم غِراسَه وتعبَه ولك ثمرُه، وها هو قد استَهْدَف لسهام الرَّاشقين، واستَعْذَر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم (4) إلى عباده المؤمنين. اللهمَّ، فعياذًا بك ممَّن قَصُرَ في العلم والدِّين باعُه، وطالت في الجهل وأذى عبادك ذراعُه، فهو لجهله يرى الإحسانَ إساءةً والسنةَ بدعةً والعُرْفَ نُكرًا، ولظلمه يجزي بالحسنة سيئةً كاملةً وبالسيئة الواحدة عشرًا. قد اتَّخذ بَطَر الحقِّ وغَمْط (5) الناس سُلَّمًا إلى ما يحبُّه من الباطل ويرضاه، ولا يعرفُ من المعروف ولا ينكرُ من المنكر إلا ما وافقَ إرادتَه أو خالفَ هواه (6). _________ (1) مضبوطة في (ق). وفي (ن، ح): «كدره». (2) (ق): «المناقشين». (د): «المناقسين». (ن، ح): «المتنافسين». (3) (ح، ن): «وهذه بضاعته المزجاة وعقله المكدود يعرض على عقول العالمين». (4) «ثم» ليست في (ت، د، ق). (5) (ق، ت): «وغمض». (د): «وغمص». (6) (ق): «حالف» بالمهملة. تحريف. وفي العبارة لفٌّ ونشرٌ مرتَّب؛ فالمعروف ما وافق إرادته، والمنكر ما خالف هواه.

(1/128)


يستطيلُ على أولياء الرسول وحزبه بأصغرَيْه (1)، ويجالسُ أهلَ الغيِّ والجهالة ويزاحمُهم بركبتَيْه. قد ارتوى من ماءٍ آجنٍ وتضلَّع، واستشرفَ إلى مراتب ورثة الأنبياء وتطلَّع، يركضُ في ميدان جهله مع الجاهلين، ويبرزُ عليهم في الجهالة فيظنُّ أنه من السابقين، وهو عند الله ورسوله والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزِل، وإذا نزل الورثةُ منازلهم منها فمنزلتُه منها أقصى وأبعدُ منزِل. نَزَلوا بمكَّةَ في قبائل هاشمٍ ... ونزلت بالبيداءِ أبعدَ منزلِ (2) وعياذًا بك ممَّن جعلَ الملامةَ بضاعتَه، والعَذْلَ نصيحتَه، فهو دائمًا يُبدي في الملامةِ ويُعِيد، ويكرِّرُ على العَذْل فلا يفيد ولا يستفيد. بل عياذًا بك من عدوٍّ في صورة ناصح، ووليٍّ في مِسْلاخ بعيدٍ كاشِح، يجعلُ عداوتَه وأذاه حذرًا (3) وإشفاقًا، وتنفيرَه وتخذيلَه إسعافًا وإرفاقًا! وإذا كانت العينُ لا تكادُ إلا على هؤلاء تفتَح، والميزانُ بهم يخفُّ ولا يَرْجَح، فما أحرى اللبيبَ بأن لا يُعِيرَهم من قلبه (4) جزءًا من الالتفات، ويسافر في طريق مقصده بينهم سفرَه إلى الأحياء بين الأموات. _________ (1) قلبه ولسانه. (2) البيت ــ باختلافٍ يسير ــ لعمر بن أبي ربيعة في «ديوانه» (320). وأنشده عبيدُ الله بن إسحاق بن سلام في «أمالي القالي» (1/ 202). ودون نسبة في «طبقات الفقهاء» للشيرازي (103)، و «العاقبة» لعبد الحق (177). (3) (د، ت، ن): «حذارا». (4) (ت): «قبله».

(1/129)


وما أحسنَ ما قال القائل (1): وفي الجهلِ قبل الموتِ موتٌ لأهله ... وأجسامُهم قبلَ القبورِ قبورُ وأرواحُهم في وحشةٍ من جُسومِهم ... وليس لهم حتى النُّشورِ نُشورُ اللهمَّ فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، وأنت حسبنا ونعم الوكيل. فلنشرع الآن في المقصود بحول الله وقوته، فنقول: _________ (1) ينسبان لعليٍّ رضي الله عنه في «أنوار العقول من أشعار وصي الرسول» لقطب الدين البيهقي (ت: 576) (192). وأنشدهما الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (37) لبعض أهل عصره، وهو أشبه، ونُسِبا إليه في «سرِّ السرور» للنيسابوري ــ كما في «إرشاد الأريب» (1965) ــ. ولبعض أهل البصرة في «تفسير القرطبي» (7/ 78). ودون نسبة في «نتائج الفكر» (34). وورد صدر البيت الثاني في هذه المصادر برواية مختلفة.

(1/130)


 الأصلُ الأول في العلم وفضله وشرفه، وبيان عُموم الحاجة إليه، وتوقُّف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه

قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. استشهَد سبحانه بأولي العلم على أجلِّ مشهودٍ عليه، وهو توحيدُه، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}. وهذا يدلُّ على فضل العلم وأهله من وجوه: أحدها: استشهادُهم دون غيرهم من البشر. والثاني: اقترانُ شهادتهم بشهادته. والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته. والرابع: أنَّ في ضمن هذا تزكيتَهم وتعديلَهم؛ فإنَّ الله لا يستشهِدُ من خلقه إلا العُدول، ومنه الأثرُ المعروفُ (1) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عُدولُه؛ ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين» (2). وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة: رأيتُ رجلًا قدَّم رجلًا إلى _________ (1) (ت): «المنقول». (2) سيأتي تخريجه مفصَّلًا (ص: 463) حيثُ أفرد له المصنفُ فصلًا.

(1/131)


إسماعيل بن إسحاق القاضي، فادَّعى عليه دعوى، فسأل المدَّعى عليه، فأنكر، فقال للمدَّعي: ألك بيِّنة؟ قال: نعم، فلانٌ وفلان. قال: أمَّا فلانٌ فمِن شهودي (1)، وأمَّا فلانٌ فليس من شهودي. قال: فيعرفُه القاضي؟ قال: نعم. قال: بماذا؟ قال: أعرفه بكَتْب (2) الحديث. قال: فكيف تعرفُه في كَتْبه الحديث؟ قال: ما علمتُ إلا خيرًا. قال: فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدوله»؛ فمن عدَّله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أولى ممَّن عدَّلتَه أنت. فقال: فقُم فهاتِه، فقد قبلتُ شهادتَه (3). وسيأتي ــ إن شاء الله ــ الكلامُ على هذا الحديث في موضعه. الخامس: أنه وصَفهم بكونهم أولي العلم، وهذا يدلُّ على اختصاصهم به، وأنهم أهلُه وأصحابُه، ليس بمستعارٍ لهم. السادس: أنه سبحانه استشهَد بنفسه ــ وهو أجلُّ شاهد ــ، ثمَّ بخيار خلقه ــ وهم ملائكتُه والعلماءُ من عباده ــ، ويكفي بهذا فضلًا وشرفًا. السابع: أنه استشهَد بهم على أجلِّ مشهودٍ به وأعظمِه وأكبره، وهو شهادةُ أن لا إله إلا هو. والعظيمُ القَدْر إنما يستشهِدُ على الأمر العظيم أكابرَ الخلق وساداتهم. _________ (1) كان القضاة (منذ أواخر القرن الثاني) يتخذون لهم شهودًا ثبتت عدالتهم عندهم، فيقبلون شهاداتهم دون غيرهم، وقد ولي الشهادة جماعةٌ من أكابر العلماء. (2) (ت): «يكتب». والحرف الأول مهمل في (د). (3) أخرجه الخطيبُ البغدادي في «شرف أصحاب الحديث» (57). واقرأ خبرًا آخر في «الطالع السعيد» للأدفوي (696، 697).

(1/132)


الثامن: أنه سبحانه جعَل شهادتَهم حجَّةً على المنكرين (1)، فهم بمنزلة أدلَّته وآياته وبراهينه الدَّالَّة على توحيده. التاسع: أنه سبحانه أفردَ الفعلَ المتضمِّنَ لهذه الشهادة الصَّادرة منه ومن ملائكته ومنهم، ولم يعطف شهادتهم بفعلٍ آخر غير شهادته (2)؛ وهذا يدلُّ على شدَّة ارتباط شهادتهم بشهادته، فكأنه سبحانه شهدَ لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم، وأنطقَهم بهذه الشهادة، فكان هو الشاهدَ بها لنفسه إقامةً وإنطاقًا وتعليمًا، وهم الشاهدون بها له إقرارًا واعترافًا وتصديقًا وإيمانًا. العاشر: أنه سبحانه جعَلهم مؤدِّين لحقِّه عند عباده بهذه الشهادة، فإذا أدَّوها فقد أدَّوا الحقَّ المشهودَ به؛ فثبت الحقُّ المشهودُ به؛ فوجب على الخلق الإقرارُ به، وكان في ذلك غايةُ سعادتهم في معاشهم ومعادهم. وكلُّ من ناله هدًى بشهادتهم، وأقرَّ بهذا الحقِّ بسبب شهادتهم، فلهم مثلُ أجره. وهذا فضلٌ عظيمٌ لا يُدْرِكُ قدرَه إلا الله. وكذلك كلُّ من شهدَ بها عن شهادتهم فلهم من الأجر مثلُ أجره أيضًا. فهذه عشرةُ أوجهٍ في هذه الآية. الوجه الحادي عشر في تفضيل العلم وأهله: أنه سبحانه نفى التسوية بين أهله وبين غيرهم، كما نفى التسويةَ بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وهذا يدلُّ على غاية فضلهم وشرفهم. _________ (1) (ح، ن): «المتكبرين». (2) (ح): «على شهادته».

(1/133)


الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعلَ أهلَ الجهل بمنزلة العُميان الذين لا يبصرون، فقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]، فما ثَمَّ إلا عالمٌ أو أعمى، وقد وصفَ سبحانه أهلَ الجهل بأنهم صمٌّ بُكمٌ عُميٌ في غير موضعٍ من كتابه (1). الوجه الثالث عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن أولي العلم بأنهم يرونَ ما أُنزِل إليه من ربِّه حقًّا، وجعَل هذا ثناءً عليهم واستشهادًا بهم، فقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]. الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم، وجَعَل ذلك كالشهادة منهم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وأهلُ الذِّكر هم أهلُ العلم بما أُنزِل على الأنبياء. الوجه الخامس عشر: أنه شهدَ لأهل العلم شهادةً في ضمنها الاستشهادُ بهم على صحَّة ما أنزل على رسوله، فقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114]. الوجه السادس عشر: أنه سبحانه سلَّى نبيَّه بإيمان أهل العلم به، وأمَره أن لا يعبأ بالجاهلين شيئًا، فقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ _________ (1) سورة «البقرة» [الآية: 18، 171].

(1/134)


لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 106 - 108]، وهذا شرفٌ عظيمٌ لأهل العلم، وتحته (1) أنَّ أهلَه العالِمون (2) قد عرفوه وآمنوا به وصدَّقوا، فسواءٌ آمنَ به غيرُهم أو لا. الوجه السابع عشر: أنه سبحانه مدحَ أهلَ العلم، وأثنى عليهم، وشرَّفهم بأن جَعَل كتابَه آياتٍ بيناتٍ في صدورهم، وهذه خاصَّةٌ ومنقبةٌ لهم دون غيرهم، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 47 - 49]. وسواءٌ كان المعنى: أنَّ القرآنَ مستقرٌّ في صدور الذين أوتوا العلم، ثابتٌ فيها، محفوظٌ فيها، وهو في نفسه آياتٌ بينات، فيكونُ قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما: أنه آياتٌ بينات. الثاني: أنه محفوظٌ مستقرٌّ ثابتٌ في صدور الذين أوتوا العلم. أو كان المعنى: أنه آياتٌ بيناتٌ في صدورهم، أي: كونُه آياتٍ بيناتٍ معلومٌ لهم، ثابتٌ في صدورهم. والقولان متلازمان، ليسا بمختلفين. وعلى التقديرين فهو مدحٌ لهم _________ (1) الحرف الأول مهمل في (د). (ق): «وبحثه». (ت): «ومحبته». (2) كذا في الأصول، بالرفع. والجادة النصب.

(1/135)


وثناءٌ عليهم في ضمنه الاستشهادُ بهم. فتأمَّله. الوجه الثامن عشر: أنه سبحانه أمرَ نبيَّه أن يسأله مزيدَ العلم، فقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وكفى بهذا شرفًا للعلم أنْ أمرَ نبيَّه أن يسأله المزيدَ منه. الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. وقد أخبر سبحانه في كتابه برفعة الدَّرجات (1) في أربعة مواضع (2): أحدها: هذا. والثاني: قولُه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]. والثالث: قولُه تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75]. _________ (1) (ت، ح): «برفع الدرجات». (2) سيأتي موضعٌ خامسٌ يذكره المصنفُ في الوجه الثالث والعشرين.

(1/136)


والرابع: قولُه تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95 - 96]. فهذه أربعةُ مواضع، في ثلاثةٍ منها: الرِّفعةُ بالدَّرجات لأهل الإيمان الذي هو العلمُ النافعُ والعملُ الصَّالح، والرابعُ: الرِّفعةُ بالجهاد؛ فعادت رفعةُ الدَّرجات كلُّها إلى العلم والجهاد اللذَين بهما قِوامُ الدِّين. الوجه العشرون: أنه سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار، فقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 55 - 56]. الوجه الحادي والعشرون (1): أنه سبحانه أخبر أنهم أهلُ خشيته، بل خصَّهم من بين الناس بذلك، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، وهذا حصرٌ لخشيته في أولي العلم. وقال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، وقد أخبر أنَّ أهل خشيته هم العلماء؛ فدلَّ على أنَّ هذا الجزاء المذكور للعلماء بمجموع النَّصَّين (2). _________ (1) انظر: «الذخيرة» للقرافي (1/ 41). (2) (ت): «مجموع النصين». وهي قراءةٌ جيدة.

(1/137)


وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا» (1). الوجه الثاني والعشرون: أنه سبحانه أخبر عن أمثاله التي يضربها لعباده ــ يدلُّهم على صحة ما أخبر به ــ أنَّ أهلَ العلم هم المنتفعون بها، المختصُّون بعلمها، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. وفي القرآن بضعةٌ وأربعون مثلًا (2). وكان بعضُ السلف إذا مرَّ بمثلٍ لا يفهمُه (3) يبكي ويقول: لستُ من العالِمين (4). الوجه الثالث والعشرون: أنه سبحانه ذكر مناظرةَ إبراهيم لأبيه وقومه، _________ (1) أخرجه ابن المبا رك في «الزهد» (46)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 291)، والطبراني في «الكبير» (9/ 189)، والبيهقي في «الشعب» (3/ 34)، وغيرهم بإسنادٍ منقطع؛ القاسمُ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من جدِّه، وبذا أعلَّه الهيثميُّ في «المجمع» (5/ 210). (2) وقد أفردها المصنف بتأليفٍ مستقلٍّ ذكره له عامةُ مترجميه. انظر: «ابن القيم» للشيخ بكر (221). وفي مقدمة «الكافية الشافية» (41 - 47) جملةٌ منها. وفي «إعلام الموقعين» (1/ 150 - 190) بحثٌ حافلٌ حولها، وجرَّده بعض علماء نجد وطبعه منفردًا. (3) (ق): «يعرفه». (4) أخرج نحوه ابن أبي حاتم في «التفسير» ــ كما في «تفسير ابن كثير» (6/ 2697) ــ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 95) عن عمرو بن مرَّة.

(1/138)


وغَلَبتَه لهم بالحُجَّة، وأخبر عن تفضيله بذلك، ورفعِه درجتَه بعلم الحُجَّة، فقال تعالى عقيب مناظرته لأبيه وقومه في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}. قال زيدُ بن أسلم رضي الله عنه: «نرفعُ درجاتٍ من نشاء بعلم الحُجَّة» (1). الوجه الرابع والعشرون: أنه سبحانه أخبر أنه خلقَ الخلق، ووضعَ بيتَه الحرام، والشهرَ الحرام، والهَدْي، والقلائد (2)؛ ليعلمَ عبادُه أنه بكلِّ شيءٍ عليم، وعلى كلِّ شيءٍ قدير، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]؛ فدلَّ على أنَّ علمَ العباد بربِّهم وصفاته وعبادتَه وحده هو الغايةُ المطلوبةُ من الخلق والأمر. الوجه الخامس والعشرون: أنَّ الله سبحانه أمر أهلَ العلم بالفرح بما آتاهم، وأخبر أنه خيرٌ مما يجمعُ الناس، فقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، وفُسِّرَ فضلُ الله بالإيمان، _________ (1) أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 63)، و «العلل» (2/ 190 - رواية عبد الله)، وابن وهب في تفسير القرآن من «الجامع» (274)، وغيرهما من طريق مالك عن زيد بن أسلم، قال: «بالعلم». وانظر: «المدخل إلى السنن» للبيهقي (1/ 304)، و «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 218). ولم أجده باللفظ الذي ذكره المصنف. (2) يشير لآية المائدة: 97.

(1/139)


ورحمتُه بالقرآن، والإيمانُ والقرآنُ هما العلمُ النافعُ والعملُ الصالح، وهما الهدى ودينُ الحقِّ، وهما أفضلُ علمٍ وأفضلُ عمل. الوجه السادس والعشرون: أنه سبحانه شهدَ لمن آتاه العلمَ بأنه قد آتاه خيرًا كثيرًا، فقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. قال ابنُ قتيبة والجمهور: الحكمةُ إصابةُ الحقِّ والعملُ به (1). وهي العلمُ النافعُ والعملُ الصالح. الوجه السابع والعشرون: أنه سبحانه عَدَّدَ نِعَمه وفضلَه على رسوله، وجعَل من أجلِّها أنْ آتاه الكتابَ والحكمة، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، فقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. الوجه الثامن والعشرون: أنه سبحانه ذكَّر عبادَه المؤمنين بهذه النِّعمة، وأمرهم بشُكْرها، وأن يذكُروه على إسدائها إليهم، فقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152]. _________ (1) انظر: «غريب القرآن» لابن قتيبة (227)، و «زاد المسير» (1/ 324)، و «الكشاف» (1/ 316)، و «التوقيف» للمناوي (291)، و «المفردات» للراغب (249) وتحرَّف في مطبوعته: «إصابة الحقِّ بالعلم والفعل» إلى: «بالعلم والعقل»، وورد على الصواب فيما نقله اليوسي في «زهر الأكم» (1/ 26).

(1/140)


الوجه التاسع والعشرون: أنه سبحانه لما أخبر ملائكتَه بأنه يريدُ أن يجعلَ في الأرض خليفة، قالوا له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}، إلى آخر قصة آدم وأمرِ الملائكة بالسجود له، وإباءِ (1) إبليس، ولَعْنِه، وإخراجه (2) من السماء. وبيانُ فضل العلم من هذه القصة من وجوه: أحدها: أنه سبحانه ردَّ على الملائكة لما سألوه: كيف يجعلُ في الأرض من هم أطوعُ له منه؟ فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، فأجاب سؤالهم بأنه يعلمُ من بواطن الأمور وحقائقها ما لا يعلمونه، وهو العليمُ الحكيم، فظهرَ من هذا الخليفة مِنْ خيار خلقه، ورسله، وأنبيائه، وصالحي عباده، والشهداء، والصِّدِّيقين، والعلماء، وطبقات أهل الإيمان= من هو خيرٌ من الملائكة، وظهرَ مِنْ إبليس من هو شرُّ العالمين. فأخرَج سبحانه هذا وهذا، والملائكةُ لم يكن لها علمٌ لا بهذا ولا بهذا، ولا بما في خلق آدم وإسكانه الأرضَ من الحِكَم الباهرة. الثاني: أنه سبحانه لما أراد إظهارَ تفضيل آدم وتمييزه فضَّله (3) وميَّزه _________ (1) (ن): «فإباء». (ح): «فأبى». (2) (ت، ح، ن): «واخرجه». (3) (ق، ح، ن): «وفضله». وهو خطأ.

(1/141)


عليهم بالعلم، فعلَّمه الأسماءَ كلَّها، ثمَّ عرضهم على الملائكة، فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. جاء في التفسير أنهم قالوا: لن يخلقَ ربُّنا خلقًا هو أكرمُ عليه منَّا (1)، فظنُّوا أنهم خيرٌ وأفضلُ من الخليفة الذي يجعلُه الله في الأرض، فلمَّا امتحنهم بعلم ما علَّمه لهذا الخليفة أقرُّوا بالعجز وجَهْل ما لم يعلموه، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}، فحينئذٍ أظهرَ لهم فضلَ آدم بما خصَّه به من العلم، فقال: {يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}، فلمَّا أنبأهم بأسمائهم أقرُّوا له بالفضل. الثالث: أنه سبحانه لما عرَّفهم (2) فضلَ آدم بالعلم، وعَجْزَهم عن معرفة ما علَّمه، قال لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فعرَّفهم سبحانه نفسَه بالعلم، وأنه أحاط علمًا بظاهرهم وباطنهم، وبغيب السموات والأرض، فتعرَّف إليهم بصفة العلم، وعرَّفهم فضلَ نبيِّه وكليمه بالعلم، وعجزهم عمَّا آتاه آدم من العلم، وكفى بهذا شرفًا للعلم. الرابع: أنه سبحانه جعلَ في آدم من صفات الكمال ما كان به أفضلَ من غيره من المخلوقات، وأراد سبحانه [أن] يُظْهِرَ لملائكته فضلَه وشرفَه، فأظهرَ لهم أحسنَ ما فيه، وهو علمُه، فدلَّ على أنَّ العلمَ أشرفُ ما في الإنسان، وأنَّ فضلَه وشرفَه إنما هو بالعلم. _________ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (1/ 463)، و «التاريخ» (1/ 100) عن قتادة والحسن والربيع بن أنس، وحكاه قتادة عن ابن عباس. (2) (د، ق، ح): «لما أن عرفهم».

(1/142)


ونظيرُ هذا ما فعله بنبيِّه يوسف عليه السلام، لمَّا أراد إظهارَ فضله وشرفِه على أهل زمانه كلِّهم، أظهرَ للمَلِك وأهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجزَ عنه علماءُ التعبير، فحينئذٍ قدَّمه ومكَّنه وسلَّم إليه خزائنَ الأرض، وكان قبل ذلك قد حبَسه، على ما رآه من حُسْن وجهه وجمال صورته، ولمَّا ظهر له حُسْنُ صورة علمه، وجمالُ معرفته، أطلَقه من الحبس، ومكَّنه (1) في الأرض؛ فدلَّ على أنَّ صورةَ العلم عند بني آدم أبهى وأحسنُ من الصورة الحِسِّيَّة (2)، ولو كانت أجملَ صورة. وهذا وجهٌ مستقلٌّ في تفضيل العلم، مضافٌ إلى ما تقدَّم، فتمَّ به ثلاثون وجهًا. الوجه الحادي والثلاثون: أنه سبحانه ذمَّ أهلَ الجهل في مواضع كثيرةٍ من كتابه: فقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]. وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (3). وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، فلم يقتصر سبحانه على تشبيه الجُهَّال بالأنعام، حتى جعلهم أضلَّ سبيلًا منهم. _________ (1) (ت): «مكن له». (2) (ت): «الصورة الحسنة». (3) في تسعة مواضع: الأنعام: 37، الأعراف: 131، الأنفال: 34، يونس: 55، القصص: 13، 57، الزمر: 49، الدخان: 39، الطور: 47.

(1/143)


وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، أخبرَ أنَّ الجُهَّالَ شرُّ الدَّوابِّ عنده، على اختلاف أصنافها، من الحمير، والسِّباع، والكلاب، والحشرات، وسائر الدَّوابِّ؛ فالجُهَّالُ شرٌّ منهم. وليس على دين الرسل أضرُّ من الجُهَّال، بل هم أعداؤهم على الحقيقة. وقال تعالى لنبيِّه ــ وقد أعاذَه ــ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]. وقال كليمُه موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. وقال لأول رسله نوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]. فهذه حالُ الجاهلين عنده، والأولُ حالُ أهل العلم عنده. وأخبرَ سبحانه عن عقوبته لأعدائه أنه منَعهم علمَ كتابه ومعرفتَه وفِقْهَه؛ فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45 - 46]. وأمرَ سبحانه نبيَّه بالإعراض عنهم، فقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وأثنى على عباده بالإعراض عنهم ومُتارَكَتِهم، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، وقال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. وكلُّ هذا يدلُّ على قُبح الجهل عنده، وبُغْضِه للجهل وأهله، وكذلك هو عند الناس، فإنَّ كلَّ أحدٍ يتبرَّأ منه وإن كان فيه.

(1/144)


الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة، والشرُّ كلُّه سببه عدمُ الحياة والنور، والخيرُ كلُّه سببه النورُ والحياة؛ فإنَّ النورَ يكشفُ عن حقائق الأشياء، ويبيِّنُ مراتبها، والحياةُ هي المصحِّحةُ لصفات الكمال، المُوجِبةُ لتسديد الأقوال والأعمال. وكلُّ ما تصرَّف من الحياة فهو خيرٌ كلُّه؛ كالحياء الذي سببه كمالُ حياة القلب، وتصوُّرُه حقيقةَ القبح ونفرتُه منه، وضدُّه الوقاحةُ والفُحش، وسببه موتُ القلب وعدمُ نفرته من القبيح. وكالحَيَا الذي هو المطرُ الذي به حياةُ كلِّ شيء. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، كان ميتًا بالجهل (1) فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نورًا يمشي به في الناس. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28 - 29]. وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]. _________ (1) (ح، ن): «بالجهل قلبه».

(1/145)


وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]؛ فأخبرَ أنه روحٌ تحصلُ به الحياة، ونورٌ تحصلُ به الإضاءة والإشراق؛ فجمع بين الأصلَين: الحياة، والنور. وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]. وقال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11]. وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]؛ فضربَ سبحانه مثلًا لنوره الذي قَذَفَه في قلب المؤمن، كما قال أبيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه:

(1/146)


«مثلُ نوره في قلب عبده المؤمن» (1)، وهو نورُ القرآن والإيمان الذي أعطاه إياه، كما قال في آخر الآية: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني: نورَ الإيمان على نور القرآن، كما قال بعضُ السلف: «يكادُ المؤمنُ ينطقُ بالحكمة وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمعَ فيها بالأثر كان نورًا على نور» (2). وقد جمعَ اللهُ سبحانه بين ذكر هذين النُّورَين ــ وهما: الكتابُ، والإيمان ــ في غير موضعٍ من كتابه، كقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، ففضلُ الله: الإيمان، ورحمتُه: القرآن. وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. وقد تقدَّمت هذه الآيات. وقال في آية النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}، وهو نورُ القرآن على نور الإيمان (3). وفي حديث النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله _________ (1) لم أقف عليه مسندًا. ونقله ابن تيمية في «الجواب الصحيح» (3/ 145، 368، 4/ 322)، والقرطبي في تفسيره (12/ 260)، وغيرهما. وانظر: «الوابل الصيب» (119) والتعليق عليه. (2) ورد بمعناه عن ابن عباس عند الطبري في «التفسير» (19/ 182)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 201) من رواية علي بن أبي طلحة عنه. (3) (ق): «وهو نور الإيمان على نور القرآن».

(1/147)


ضرب مثلًا، صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفَي الصِّراط (1) سُوران لهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب سُتور، وداعٍ يدعو على الصِّراط، وداعٍ يدعو فوقه، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، والأبوابُ التي على كَنَفَي الصِّراط حدودُ الله، فلا يقعُ أحدٌ في حدود الله حتى يكشفَ السِّتر، والذي يدعو من فوقه واعظُ ربِّه». رواه الترمذيُّ ــ وهذا لفظُه ــ، والإمامُ أحمد ولفظُه: « ... والدَّاعي على رأس الصِّراط كتابُ الله، والداعي فوق الصِّراط واعظُ الله في قلب كلِّ مؤمن» (2). فذكرَ الأصلين؛ وهما: داعي القرآن، وداعي الإيمان. وقال حذيفة: «حدثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرِّجال، ثمَّ نزل القرآن، فعَلِمُوا من الإيمان، ثمَّ عَلِمُوا من القرآن» (3). وفي «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن _________ (1) الكنف: الجانب والناحية. «النهاية» (كنف). وفي (ت) وبعض مصادر الحديث: «كتفَي» بالتاء، وهي بمعنى المثبت. (2) أخرجه أحمد (4/ 182، 183)، والترمذي (2958)، والنسائي في «التفسير» من «الكبرى» (11169)، وغيرهم من طرق. قال الترمذي ــ كما في «تحفة الأشراف» (9/ 61) ــ: «حسن غريب»، وقال ابن كثير في «التفسير» (1/ 161): «هذا إسناد حسن صحيح»، وقال الحاكم (1/ 73) عن أحد طرقه: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه». ولم يتعقبه الذهبي. (3) أخرجه البخاري (6496)، ومسلم (143).

(1/148)


النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآنَ كمثل الأُترُجَّة، طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّب، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآنَ كمثل التمرة، طعمُها طيِّب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ، ومثلُ المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمُها مرٌّ ولا ريحَ لها» (1). فجعل الناسَ أربعةَ أقسام: الأول: أهلُ الإيمان والقرآن؛ وهم خيارُ الناس. والثاني: أهلُ الإيمان الذين لا يقرؤونَ القرآن؛ وهم دونهم. فهؤلاء هم السعداء. والأشقياء قسمان: أحدهما: من أوتي قرآنًا بلا إيمان، فهو منافق. والثاني: من لا أوتي قرآنًا ولا إيمانًا. والمقصود: أنَّ القرآنَ والإيمانَ هما نورٌ يجعلُه الله في قلب من يشاءُ من عباده، وأنهما أصلُ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وعلمُهما أجلُّ العلوم (2) وأفضلُها، بل لا علمَ في الحقيقة ينفعُ صاحبه إلا علمُهما، والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم. الوجه الثالث والثلاثون: أنَّ الله سبحانه جعَل صيدَ الكلب الجاهل ميتةً يحرمُ أكلُها، وأباحَ صيدَ الكلب المعلَّم. _________ (1) «صحيح البخاري» (5020)، و «صحيح مسلم» (797). (2) (د، ق): «أصل العلوم».

(1/149)


وهذا أيضًا من شرف العلم: أنه لا يباحُ إلا صيدُ الكلب العالِم، وأما الكلبُ الجاهلُ فلا يحلُّ أكلُ صيده؛ فدلَّ على شرف العلم وفضله، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]، ولولا مزيَّةُ العلم والتعليم وشرفُهما كان صيدُ الكلب المعلَّم والجاهل سواءً. الوجه الرابع والثلاثون: أنَّ الله سبحانه أخبرنا عن صفيِّه وكليمه الذي كتبَ له التوراة بيده وكلَّمه منه إليه، أنه رَحَل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلَّمُ منه، ويزدادُ علمًا إلى علمه، وقال لفتاه: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (1)؛ حرصًا منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلُّم منه، فلما لقيه سلكَ معه مسلكَ المتعلِّم مع معلِّمه، وقال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (2)، فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتَّبعُه إلا بإذنه (3)، وقال: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، فلم يجاء مُسْتَمْحِنًا ولا متعنِّتًا، وإنما جاء متعلِّمًا مستزيدًا علمًا إلى علمه. وكفى بهذا فضلًا وشرفًا للعلم؛ فإنَّ نبيَّ الله وكليمَه سافر ورحل حتى لقي النَّصَب من سفره في تعلُّم ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، ولمَّا سمعَ به لم يقرَّ له قرارٌ حتى لقيه وطلب منه متابعتَه وتعليمَه. _________ (1) كما في سورة الكهف: 60. (2) سورة الكهف: 66. (3) (ح، ن): «بإذنه وأمره».

(1/150)


وفي قصَّتهما عبرٌ وآياتٌ وحِكَمٌ ليس هذا موضع ذكرها (1). الوجه الخامس والثلاثون: قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وندبَ تعالى المؤمنين إلى التفقُّه في الدِّين ــ وهو تعلُّمه ــ، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم ــ وهو التعليم ــ. وقد اختُلِف في الآية (2): فقيل: المعنى: أنَّ المؤمنين لم يكونوا لينفروا كلُّهم للتفقُّه والتعلُّم، بل ينبغي أن ينفر من كلِّ فرقةٍ منهم طائفة، تتفقَّه تلك الطائفةُ ثم ترجع تعلِّم القاعدين؛ فيكونُ النفيرُ على هذا نفيرَ تعلُّم، والطائفةُ تقالُ على الواحد فما زاد. قالوا: فهو دليلٌ على قبول خبر الواحد. وعلى هذا حمَلها الشافعيُّ وجماعة (3). وقالت طائفةٌ أخرى: المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد كلُّهم، بل ينبغي أن تنفرَ طائفةٌ للجهاد، وفرقةٌ تقعدُ تتفقَّه في الدِّين، فإذا جاءت الطائفةُ التي نفرت فقَّهَتها القاعدةُ وعلَّمتها ما أنزل من الدِّين والحلال والحرام. _________ (1) انظر لها فصلًا ماتعًا في «تيسير الكريم الرحمن» للسعدي (483 - 485). (2) انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 252)، و «بدائع الفوائد» (1636). (3) انظر: «الفقيه والمتفقه» (1/ 279)، و «الواضح» لابن عقيل (4/ 367)، و «الفصول» للجصاص (3/ 75، 94، 147). والمنقول عن الشافعي الاستدلال بالآية على قبول خبر الواحد، مع اعتبار النفير على بابه نفيرَ جهاد. انظر: «المجموع» (4/ 305)، و «فتح الباري» (13/ 244)، و «الرسالة» (988)، و «الأم» (5/ 368، 384).

(1/151)


وعلى هذا، فيكونُ قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} و {وَلِيُنْذِرُوا} للفرقة التي نفرت منها طائفة. وهذا قولُ الأكثرين (1). وعلى هذا، فالنفيرُ نفيرُ جهادٍ ــ على أصله ــ؛ فإنه حيثُ استُعمِل إنما يُفْهَمُ منه الجهاد، قال الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفِرتُم فانفروا» (2)، وهذا هو المعروفُ من هذه اللفظة. وعلى القولين، فهو ترغيبٌ في التفقُّه في الدِّين، وتعلُّمه، وتعليمه؛ وأنَّ ذلك (3) يعدلُ الجهاد، بل ربما يكونُ أفضلَ منه، كما سيأتي تقريره في الوجه الثامن والمئة إن شاء الله تعالى. الوجه السادسُ والثلاثون: قولُه تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، قال الشافعي رضي الله عنه: «لو فكَّر الناسُ كلُّهم في هذه السورة لكفتهم» (4). وبيانُ ذلك: أنَّ المراتب أربعة (5)، وباستكمالها يحصلُ للشخص غايةُ كماله: _________ (1) انظر: «زاد المسير» (3/ 517)، و «تفسير القرطبي» (8/ 294). (2) أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1864) عن ابن عباس. (3) (ق): «فإن ذلك». (4) انظر: «تفسير ابن كثير» (8/ 3852). (5) كذا في الأصول، في الموضعين، من باب الحمل على المعنى.

(1/152)


أحدها: معرفةُ الحقِّ. الثانية: عملُه به. الثالثة: تعليمُه من لا يحسنُه. الرابعة: صبرُه على تعلُّمه، والعمل به، وتعليمه. فذكر تعالى المراتبَ الأربعة في هذه السورة: * فأقسمَ سبحانه بالعصر أنَّ كلَّ أحدٍ في خُسْرٍ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، وهم الذين عرفوا الحقَّ وصدَّقوا به. فهذه مرتبة. * {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وهم الذين عملوا بما علموا من الحقِّ. فهذه مرتبةٌ أخرى. * {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} وصَّى به بعضُهم بعضًا؛ تعليمًا وإرشادًا. فهذه مرتبةٌ ثالثة. * {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} صبروا على الحقِّ، ووصَّى بعضُهم بعضًا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبةٌ رابعة. وهذا نهايةُ الكمال؛ فإنَّ الكمال أن يكون الشخصُ كاملًا في نفسه، مكمِّلًا لغيره، وكمالُه بإصلاح قُوَّتيه العلمية والعملية، فصلاحُ القوة العلمية بالإيمان، وصلاحُ القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميلُه غيرَه بتعليمه إيَّاه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورةُ ــ على اختصارها ــ هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، والحمدُ لله الذي جعل كتابه كافيًا من كلِّ ما سواه، شافيًا من كلِّ

(1/153)


داء، هاديًا إلى كلِّ خير. الوجه السابع والثلاثون: أنه سبحانه ذكر فضله ومِنَّته على أنبيائه ورسله وأوليائه وعباده، بما آتاهم من العلم. فذكر نعمتَه على خاتم أنبيائه ورسله بقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقد تقدَّمت هذه الآية. وقال في يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]. وقال في كليمه موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]. ولمَّا كان الذي آتاه موسى من ذلك أمرًا عظيمًا خصَّه به على غيره، ولا يثبتُ له إلا الأقوياءُ أولو العزم= هيَّأه له بعد أن بلغَ أشدَّه واستوى، يعني: تمَّ وكَمُلَت قوَّته. وقال في حقِّ المسيح: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110]. وقال في حقِّه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]، فجَعَل تعليمَه مما بشَّر به أمَّه، وأقرَّ عينها به. وقال في حقِّ داود: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20].

(1/154)


وقال في حقِّ الخَضِر صاحب موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ فذكر مِن نعمه عليه تعليمَه، وما آتاه من رحمته. وقال تعالى يذكرُ نعمتَه على داود وسليمان: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]، فذكَر النبيَّين الكريمَين، وأثنى عليهما بالحُكم والعلم، وخَصَّ بفهم القضيَّة أحدَهما. وقد ذكرتُ الحُكمَين الداووديَّ والسُّليمانيَّ، ووجهَيهما (1)، ومن صار من الأئمَّة إلى هذا ومن صار إلى هذا، وترجيحَ الحكم السُّليمانيِّ من عدَّة وجوه، وموافقتَه للقياس وقواعد الشرع، في كتاب «الاجتهاد والتقليد» (2). وقال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} (3)، يعني: الذي أنزله. جعَل سبحانه تعليمَهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم دليلًا على صحة (4) _________ (1) (د، ت، ق، ن): «ووجههما». (2) لم يذكره مترجمو المصنف ضمن كتبه، وأشار هو إليه في «تهذيب السنن» (6/ 341). انظر: «ابن القيم» للشيخ بكر (200). وفي «إعلام الموقعين» (1/ 326 - 330) بحثٌ حول الحُكمَين المذكورَين. (3) سورة الأنعام [الآية: 91]. (4) (ت): «حجة»، في الموضعين.

(1/155)


النبوَّة والرسالة؛ إذ لا يُنالُ هذا العلمُ إلا من جهة الرسل، فكيف يقولون: ما أنزل اللهُ على بشرٍ من شيء؟! وهذا مِن فضل العلم وشرفه، أنه دليلٌ على صحة النبوَّة والرسالة، والله الموفِّق للرشاد. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]، يعني: وبَعَثَ في آخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم. وقد اختُلِفَ في هذا اللَّحاق المنفيِّ؛ فقيل: هو اللَّحاقُ في الزمان، أي: يتأخَّر زمانهم عنهم. وقيل: هو اللَّحاقُ في الفضل والسَّبق. وعلى التقديرين، فامتنَّ عليهم سبحانه بأنْ علَّمهم بعد الجهل، وهداهم بعد الضلالة، ويا لها من منَّةٍ عظيمةٍ فاتت المِنَن، وجلَّت أن يقدرَ العبادُ لها على ثمن. الوجه الثامن والثلاثون: أنَّ أول سورةٍ أنزلها الله في كتابه سورة القلم (1)؛ فذكر فيها ما مَنَّ به على الإنسان من تعليمه ما لم يعلم، فذكر فيها _________ (1) كذا في الأصول. وهو من أسماء سورة العلق. انظر: «زاد المسير» (9/ 175)، و «الدر المصون» (11/ 54).

(1/156)


فضلَه بتعليمه، وتفضيلَه الإنسانَ بما علَّمه إياه، وذلك يدلُّ على شرف التعليم والعلم. فقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]. فافتتحَ السورة بالأمر بالقراءة الناشئة عن العلم. وذَكَر خلقَه خصوصًا وعمومًا، فقال: {الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}، وخصَّ الإنسان من بين المخلوقات؛ لِمَا أودعه من عجائبه وآياته الدَّالَّة على ربوبيَّته وقدرته وعلمه وحكمته وكمال رحمته، وأنه لا إله غيره ولا ربَّ سواه. وذكر هنا مبدأ خلقه من علقٍ لكون العلقة مبدأ الأطوار التي انتقلت إليها النُّطفة، فهي مبدأ تعلُّق التخليق (1). ثمَّ أعادَ الأمرَ بالقراءة، مخبرًا عن نفسه بأنه الأكرم، وهو الأفعل (2) من الكرم، وهو كثرةُ الخير، ولا أحد أولى بذلك منه سبحانه؛ فإنَّ الخيرَ كلَّه بيديه، والخيرُ كلُّه منه، والنِّعمُ كلُّها فهو وليُّها، والكمالُ كلُّه والمجدُ كلُّه له؛ فهو الأكرمُ حقًّا. ثمَّ ذكر تعليمَه عمومًا وخصوصًا، فقال: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، فهذا يدخلُ فيه تعليم الملائكة والناس. ثمَّ ذكر تعليمَ الإنسان خصوصًا، فقال: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. _________ (1) (د، ت، ق): «تعليق الخلق». وانظر: «تهذيب السنن» (12/ 313). (2) أي أن «الأكرم» على صيغة «أفعل»، التي هي من صيغ المبالغة.

(1/157)


فاشتملت هذه الكلماتُ على أنه معطي الموجودات كلِّها بجميع أقسامها؛ فإنَّ الوجودَ (1) له مراتبُ أربع (2): إحداها: مرتبتُها الخارجية، المدلولُ عليها بقوله: {خَلَقَ}. المرتبة الثانية: الذِّهنية، المدلولُ عليها بقوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. المرتبة الثالثة والرابعة: اللفظية والخطِّيَّة، فالخطِّيَّة مصرَّحٌ بها في قوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، واللفظيةُ من لوازم التعليم بالقلم؛ فإنَّ الكتابةَ فرعُ النطق، والنطقُ فرعُ التصوُّر. فاشتملت هذه الكلماتُ على مراتب الوجود كلِّها، وأنه سبحانه هو معطيها بخلقه وتعليمه، فهو الخالقُ المعلِّم؛ فكلُّ شيءٍ في الخارج فبخَلْقِه وُجِد، وكلُّ علمٍ في الذِّهن فبتعليمه حَصَل، وكلُّ لفظٍ في اللِّسان أو خطٍّ في البنان فبإقداره وخلقه وتعليمه. وهذا من آيات قدرته، وبراهين حكمته، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. والمقصودُ أنه سبحانه تعرَّف إلى عباده بما علَّمهم إياه ــ بحكمته ــ من الخطِّ واللفظ والمعنى؛ فكان العلمُ أحدَ الأدلَّة الدَّالَّة عليه، بل من أعظمها وأظهرها، وكفى بهذا شرفًا وفضلًا له. الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو حجَّة» (3)، وهذا _________ (1) (د، ت، ق): «الموجود». (2) (ق، د، ن): «أربعة». (3) علقه البخاري في «الصحيح» (6/ 104)، ووصله ابن عيينة في «تفسيره»، ومن طريقه ابن أبي حاتم ــ كما في «تفسير ابن كثير» (3/ 1041) ــ، والخطيب في «التاريخ» (10/ 151)، وإسناده على شرط الصحيح، كما قال ابن حجر في «الفتح» (8/ 391). وصححه ابن كثير. ورُوِي من وجهٍ آخر عند الطبري (19/ 444)، والفريابي - كما في «تغليق التعليق» (4/ 239) -.

(1/158)


كقوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]، يعني: ما عندكم مِن حجَّةٍ بما قلتم، إنْ هو إلا قولٌ على الله بلا علم. وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، يعني: ما أنزل الله بها حجَّةً ولا برهانًا، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقال تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 156 - 157]، يعني: حجَّةً واضحة، فأتوا بها إن كنتم صادقين في دعواكم. إلا موضعًا واحدًا اختُلِفَ فيه، وهو قولُه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]، فقيل: المرادُ به القدرةُ والمُلك، أي: ذهبَ عني مالي ومُلكي (1)، فلا مال لي ولا سلطان. وقيل: هو على بابه (2)، أي: _________ (1) (ت): «سلطاني ومالي». (2) (ح، ن): «من بابه».

(1/159)


انقطعت حُجَّتي وبطلَت، فلا حجة لي. والمقصودُ أنَّ الله سبحانه سمَّى علم الحجَّة: سلطانًا؛ لأنها تُوجِبُ تسلُّطَ صاحبها واقتدارَه، فله بها سلطانٌ على الجاهلين. بل سلطانُ العلم أعظمُ من سلطان اليد، ولهذا ينقادُ الناسُ للحجَّة ما لا ينقادونَ لليد؛ فإنَّ الحجَّةَ تنقادُ لها القلوب، وأما اليدُ فإنما ينقادُ لها البدن، فالحجَّةُ تأسِرُ القلبَ وتَقُودُه، وتُذِلُّ المخالف، وإن أظهرَ العنادَ والمكابرة فقلبُه خاضعٌ لها، ذليلٌ مقهورٌ تحت سلطانها، بل سلطانُ الجاه إن لم يكن معه علمٌ يُساسُ به فهو بمنزلة سلطان السِّباع والأُسود ونحوها، قدرةٌ بلا علمٍ ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجَّة، فإنه قدرةٌ بعلمٍ ورحمةٍ وحكمة، ومن لم يكن له اقتدارٌ في علمه فهو إمَّا لضعفٍ حجَّته وسلطانه، وإمَّا لقهر سلطان اليد والسَّيف له، وإلا فالحجَّةُ ناصرةٌ نفسَها، ظاهرةٌ على الباطل قاهرةٌ له. الوجه الأربعون: أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ أهلَ النار بالجهل، وأخبرَ أنه سَدَّ عليهم طرقَ العلم، فقال تعالى حكايةً عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10 - 11]، فأخبروا (1) أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون. والسمعُ والعقلُ هما أصلُ العلم، وبهما يُنال. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، فأخبرَ سبحانه أنهم لم يحصُل _________ (1) (ت، ح): «فأخبر».

(1/160)


لهم علمٌ من جهةٍ من جهات العلم الثلاث، وهي العقلُ والسمعُ والبصر، كما قال في موضعٍ آخر: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]. فقد وصفَ أهلَ الشقاء ــ كما ترى ــ بعدم العلم، وشبَّههم تارةً بالأنعام، وتارةً بالحمار الذي يحملُ الأسفار، وتارةً جعلهم أضلَّ من الأنعام، وتارةً جعلهم شرَّ الدوابِّ عنده، وتارةً جعلهم أمواتًا غير أحياء، وتارةً أخبرَ أنهم في ظلمات الجهل والضلال، وتارةً أخبرَ أنَّ على قلوبهم أكنَّة (1)، وفي آذانهم وقرًا، وعلى أبصارهم غشاوة. وهذا كلُّه يدلُّ على قبح الجهل، وذمِّه أهلَه (2)، وبغضه لهم، كما أنه يُحِبُّ أهلَ العلم ويمدحُهم ويثني عليهم، كما تقدَّم، والله المستعان. الوجه الحادي والأربعون: ما في «الصحيحين» من حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يُرِد الله به خيرًا يُفَقِّهه في الدِّين» (3)، وهذا يدلُّ على أنَّ من لم يفقِّهه في دينه لم يُرِد به خيرًا، كما أنَّ _________ (1) (ح، ن): «أكنة أن يفقهوه». (2) (ح): «وذم أهله». (3) «صحيح البخاري» (71)، و «صحيح مسلم» (1037).

(1/161)


من أرادَ به خيرًا فقَّهه في دينه، ومن فقَّهه في دينه فقد أراد به خيرًا= إذا أريدَ بالفقه العلمُ المستلزمُ للعمل. وأمَّا إن أريدَ به مجردُ العلم فلا يدلُّ على أنَّ من فَقُهَ في الدِّين فقد أُرِيدَ به خيرًا؛ فإنَّ الفقه حينئذٍ يكونُ شرطًا لإرادة الخير، وعلى الأول يكونُ موجِبًا، والله أعلم. الوجه الثاني والأربعون: ما في «الصحيحين» أيضًا من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مَثَل ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ قَبِلَت الماء، فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفعَ اللهُ بها الناس، فشربوا منها وسَقوا وزرَعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً؛ فذلك مثَلُ من فَقُهَ في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّم، ومثَلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به» (1). شبَّهَ - صلى الله عليه وسلم - العلمَ والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لِمَا يحصلُ بكلِّ واحدٍ منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر. وشبَّه القلوبَ بالأراضي التي تقعُ عليها المطر؛ لأنها المحلُّ الذي يمسكُ الماء، فينبتُ سائر أنواع النبات النافع، كما أنَّ القلوبَ تعي العلمَ فيثمرُ فيها ويزكو، وتظهرُ بركتُه (2) وثمرتُه. _________ (1) «صحيح البخاري» (79)، و «صحيح مسلم» (2282). (2) (ت): «تزكيته».

(1/162)


ثمَّ قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام (1)، بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه، وفهم معانيه، واستنباط أحكامه، واستخراج حِكَمه وفوائده: أحدها: أهلُ الحفظ والفهم، الذين حَفِظُوه وعَقَلوه، وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوهَ الأحكام والحِكَم والفوائد منه؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قَبِلَت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ. فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وهذا هو الفهمُ فيه والمعرفةُ والاستنباط؛ فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء. فهذا مثَلُ الحفَّاظ الفقهاء، أهل الرواية والدراية. القسم الثاني: أهلُ الحفظ، الذين رُزِقوا حفظَه ونقلَه وضبطَه، ولم يُرزقوا تفقُّهًا في معانيه، ولا استنباطًا ولا استخراجًا لوجوه الحِكَم والفوائد منه؛ فهم بمنزلة من يقرأ القرآنَ ويحفظُه، ويراعي حروفَه وإعرابَه، ولم يُرْزَق فيه فهمًا خاصًّا عن الله، كما قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «إلا فهمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابه» (2). والناسُ متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظمَ تفاوت، فرُبَّ شخصٍ يفهمُ من النصِّ حكمًا أو حكمين، ويفهمُ منه الآخرُ مئةً أو مئتين. فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماءَ للناس، فانتفعوا به؛ هذا يشربُ منه، وهذا يسقي، وهذا يزرع. فهؤلاء القسمان هم السُّعداء، والأولون أرفعُ درجةً وأعلى قدرًا، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. _________ (1) انظر: «الوابل الصيب» (135 - 141) والتعليق عليه. (2) أخرجه البخاري (111).

(1/163)


القسم الثالث: الذين لا نصيبَ لهم منه؛ لا حفظًا ولا فهمًا، ولا روايةً ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعانٌ لا تنبتُ ولا تمسكُ الماء، وهؤلاء هم الأشقياء. والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم، كلٌّ بحسب ما قَبِلَه ووصلَ إليه؛ فهذا يعلِّمُ ألفاظَ القرآن ويحفظُها، وهذا يعلِّمُ معانيه وأحكامَه وعلومَه. والقسمُ الثالث لا علمَ ولا تعليم؛ فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا، ولم يقبلوه، وهؤلاء شرٌّ من الأنعام، وهم وقودُ النار. فقد اشتملَ هذا الحديثُ الشريفُ العظيمُ على التنبيه على شرف العلم والتعليم، وعِظَم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيِّهم وسعيدهم، وتقسيم سعيدهم إلى سابقٍ مُقَرَّبٍ وصاحبِ يمينٍ مُقْتَصِد. وفيه دلالةٌ على أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلمَ فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث. قال الإمام أحمد: «الناسُ محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ يُحتاجُ إليه في اليوم مرةً أو مرتين والعلمُ يُحتاجُ إليه بعدد الأنفاس» (1). وقد قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ _________ (1) انظر: «مسائل حرب» (343)، و «طبقات الحنابلة» (1/ 390)، و «الآداب الشرعية» (2/ 44).

(1/164)


وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]؛ شبَّه سبحانه العلمَ الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء؛ لِمَا يحصُل بكلِّ واحدٍ منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم. ثمَّ شبَّه القلوبَ بالأودية؛ فقلبٌ كبيرٌ يسع علمًا كثيرًا، كوادٍ عظيمٍ يسعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ إنما يسعُ علمًا قليلًا، كوادٍ صغيرٍ إنما يسعُ ماءً قليلًا؛ فقال: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}. {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للعلم حين تخالِطُ القلوبَ بشاشتُه؛ فإنه يستخرجُ منها زَبَدَ الشُّبهات الباطلة، فيطفو (1) على وجه القلب، كما يستخرجُ السَّيلُ من الوادي زَبَدًا يعلو فوق الماء. وأخبرَ سبحانه أنه رابٍ، أي: يطفو ويعلو على الماء، لا يستقرُّ في أرض الوادي، كذلك الشُّبهاتُ الباطلةُ إذا أخرجها العلمُ رَبَتْ فوق القلب وطَفَتْ، فلا تستقرُّ فيه، بل تُجفى وتُرمى، ويستقرُّ في القلب ما ينفعُ صاحبَه والناسَ من الهدى ودين الحقِّ، كما يستقرُّ في الوادي الماءُ الصافي، ويذهبُ الزَّبدُ جفاءً، وما يعقِلُ عن الله أمثالَه إلا العالِمون (2). ثمَّ ضربَ سبحانه لذلك مثلًا آخر، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} يعني: أنَّ مما يُوقِدُ عليه بنو آدم من الذهب والفضَّة والنحاس والحديد يخرجُ منه خَبَثُه، وهو الزَّبدُ الذي تلقيه النارُ وتُخْرِجُه _________ (1) (ت): «فتطفوا». (2) انظر لهذا المثل المائيِّ، والمثل الناريِّ الذي بعده: «الوابل الصيب» (133 - 134، 143).

(1/165)


من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها، فإنه يُقْذَفُ ويلقى به، ويستقرُّ الجوهرُ الخالصُ وحده. وضربَ سبحانه مثلًا بالماء؛ لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلًا بالنار؛ لما فيها من الإضاءة والإشراق والإحراق، فآياتُ القرآن تحيي القلوبَ كما تحيى الأرضُ بالماء، وتُحْرِقُ خبثَها وشبهاتها وشهواتها وسخائمَها كما تُحْرِقُ النارُ ما يلقى فيها، وتميِّزُ زَبَدَها من زُبَدِها (1) كما تميِّزُ النارُ الخبثَ من الذهب والفضَّة والنحاس ونحوه منه. فهذا بعض ما في المثل العظيم من العبرة والعلم، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. الوجه الثالث والأربعون: ما في «الصحيحين» أيضًا من حديث سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ رضي الله عنه: «لأنْ يهديَ بك اللهُ رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم» (2). وهذا يدلُّ على فضل العلم والتعليم، وشرف منزلة أهله، بحيث إذا اهتدى رجلٌ واحدٌ بالعالِم كان ذلك خيرًا له من حُمْرِ النَّعَم ــ وهي خيارُها وأشرفُها عند أهلها ــ، فما الظَّنُّ بمن يهتدي به كلَّ يومٍ طوائفُ من الناس؟! الوجه الرابع والأربعون: ما روى مسلمٌ في «صحيحه» من حديث أبي _________ (1) كذا في الأصول. مضبوطة في (د، ح). و «الزُّبَد» جمعُ زُبدة، وهي الخالصُ من الشيء. وأصلُها ما خَلَص من اللبن إذا مُخِض. (2) «صحيح البخاري» (2942)، و «صحيح مسلم» (2406).

(1/166)


هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه، لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه، لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئًا» (1). أخبرَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المتسبِّبَ إلى الهدى بدعوته له مثلُ أجر من اهتدى به، والمتسبِّبَ إلى الضلالة بدعوته عليه مثلُ إثم من ضلَّ به؛ لأنَّ هذا بذلَ قدرتَه في هداية الناس، وهذا بذلَ قدرتَه في ضلالهم، فنُزِّل كلُّ واحدٍ منهما بمنزلة الفاعل التَّام. وهذه قاعدةُ الشريعة، كما هو مذكورٌ في غير هذا الموضع (2)؛ قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]. وهذا يدلُّ على أنَّ من دعا الأمَّة إلى غير سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو عدوُّه حقًّا؛ لأنه قَطَعَ وصولَ أجر من اهتدى بسنَّته إليه (3)، وهذا من أعظم معاداته، نعوذُ بالله من الخذلان. الوجه الخامس والأربعون: ما خرَّجا في «الصحيحين» من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل _________ (1) «صحيح مسلم» (2674). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 724)، و «طريق الهجرتين» (785). (3) (ح، ن): «بسببه». (ت): «بسنة الله».

(1/167)


آتاه اللهُ مالًا فسلَّطه على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجل آتاه اللهُ الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها» (1). فأخبرَ - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يحسدَ أحدًا ــ يعني: حسدَ غِبْطة ــ ويتمنَّى مثلَ حاله من غير أن يتمنَّى زوال نعمة الله عنه= إلا في واحدةٍ من هاتين الخصلتين، وهي الإحسانُ إلى الناس بعلمه، أو بماله. وما عدا هذين فلا ينبغي غبطتُه ولا تمنِّي مثل حاله؛ لقلَّة منفعة الناس به. الوجه السادس والأربعون: قال الترمذي: «حدثنا محمد بن عبد الأعلى: حدثنا سلمةُ بن رجاء: حدثنا الوليدُ بن جميل: حدثنا القاسم، عن أبي أمامة الباهليِّ قال: ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان، أحدُهما عابد، والآخرُ عالم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فضلُ العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السموات والأرض، حتى النملة في جُحْرها، وحتى الحوتَ في بَحْره، ليصلُّون على معلِّم الناس الخير» (2). قال الترمذي: «وهذا حديثٌ حسنٌ غريب، سمعتُ أبا عمار الحسين بن _________ (1) «صحيح البخاري» (73)، و «صحيح مسلم» (816). (2) أخرجه الترمذي (2685)، والطبراني في «الكبير» (8/ 233)، وغيرهما بإسنادٍ فيه ضعف. وفي نسخة الكروخي (ق 177/أ) و «تحفة الأشراف» (4/ 177): «حسن غريب صحيح». وفي المطبوعة: «حسن غريب». ولأول الحديث شاهدٌ من مرسل مكحول والحسن عند الدارمي (294، 346)، ولآخره شاهد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وسيأتي.

(1/168)


حُرَيْثٍ الخزاعي، قال: سمعتُ الفضيلَ بن عياضٍ يقول: عالمٌ عاملٌ معلِّمٌ يُدْعى كبيرًا في ملكوت السموات». وهذا مرويٌّ عن الصحابة؛ قال ابن عباس: «علماءُ هذه الأمَّة رجلان, فرجلٌ أعطاه الله علمًا، فبذَله للناس ولم يأخذ عليه صَفَدًا (1)، ولم يَشْتَر به ثمنًا، أولئك يصلِّي عليهم طيرُ السماء، وحيتانُ البحر، ودوابُّ الأرض، والكرامُ الكاتبون، ورجلٌ آتاه الله علمًا فضنَّ به عن عباده، وأخذ به صَفَدًا، واشترى به ثمنًا؛ فذلك يأتي يوم القيامة مُلْجَمًا بلجامٍ من نار». ذكره ابن عبد البرِّ مرفوعًا، وفي رفعه نظر (2). وقولُه: «إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السموات والأرض يصلُّون على معلِّم الناس الخير»؛ لمَّا كان تعليمُه الناسَ الخيرَ سببًا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم، جازاه الله من جنس عمله، بأنْ جعَل عليه مِن صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكونُ سببًا لنجاته وسعادته وفلاحه. وأيضًا؛ فإنَّ معلِّمَ الناس الخيرَ لمَّا كان مُظْهِرًا لدين الربِّ وأحكامه، ومعرِّفًا لهم بأسمائه وصفاته، جعَل الله مِن صلاته وصلاة أهل سماواته وأرضه عليه ما يكونُ تنويهًا به، وتشريفًا له، وإظهارًا للثناء عليه بين أهل السماء والأرض. _________ (1) يعني: عطاءً. وفي «الأوسط»، و «الترغيب والترهيب» للمنذري (1/ 129، 157)، و «مجمع الزوائد»: «طمعًا». وفي «جامع بيان العلم»: «صفرًا». (2) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 172)، والطبراني في «الأوسط» (7187) من طريقين ضعيفين عن ابن عباس به مرفوعًا. وضعَّف العراقيُّ في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 39) إسناد الطبراني. وانظر: «مجمع الزوائد» (1/ 124).

(1/169)


الوجه السابع والأربعون: ما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سلكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سلكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وإنَّ العالِم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر» (1). وقد رواه الوليدُ بن مسلم، عن خالد بن يزيد، عن عثمان بن أيمن، عن أبي الدرداء، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من غدا لعلمٍ يتعلَّمُه فتح الله له به طريقًا إلى الجنة، وفرشت له الملائكةُ أكنافَها، وصلَّت عليه ملائكةُ السماء وحيتانُ البحر، وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلةَ البدر على سائر الكواكب، والعلماءُ ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذَ بالعلم أخذَ بحظٍّ وافر، وموتُ العالم مصيبةٌ لا تُجْبَر، وثُلمةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِس، وموتُ قبيلةٍ أيسرُ من موت _________ (1) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/ 196)، وغيرهم. وفي إسناده اضطرابٌ، وجهالة. ورُوِيَ من أوجهٍ أخر غير محفوظة. انظر: «العلل» للدارقطني (6/ 216)، و «جامع الترمذي» (5/ 48) عقب الحديث، و «جامع بيان العلم» (1/ 162)، و «تحفة الأشراف» (8/ 230)، و «الميزان» (2/ 4). وصححه ابن حبان (88)، وقال ابن حجر في «الفتح» (1/ 193): «له شواهد يتقوى بها».

(1/170)


عالِم»، وهذا حديثٌ حسن (1). والطريقُ التي يسلُكها إلى الجنة جزاءٌ على سلوكه في الدنيا طريقَ العلم الموصلة إلى رضا ربِّه. ووَضعُ الملائكة أجنحتها له تواضعًا وتوقيرًا وإكرامًا لما يحملُه من ميراث النبوَّة ويطلبُه، وهو يدلُّ على المحبة والتعظيم، فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضعُ أجنحتها له؛ لأنه طالبٌ لما به حياةُ العالَم ونجاتُه، ففيه شبهٌ من الملائكة، وبينه وبينهم تناسُب، فإنَّ الملائكةَ أنصحُ خلق الله وأنفعُهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصلَ لهم كلُّ سعادةٍ وعلمٍ وهدى. ومِنْ نفعهم لبني آدم ونُصْحِهم أنهم يستغفرون لمسيئهم، ويُثَبِّتون (2) مؤمنيهم، ويعينونهم على أعدائهم من الشياطين، ويحرصون على مصالح العبد أضعافَ حرصه على مصلحة نفسه، بل يريدون له من خير الدنيا والآخرة ما لا يريدُ العبدُ ولا يخطرُ له ببال؛ كما قال بعض التابعين: «وجدنا _________ (1) أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير»، كما في «المطالب العالية» (3/ 332)، و «إتحاف الخيرة» (1/ 210)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 331)، ومن طريقه الرافعي في «التدوين» (3/ 461). وخالد بن يزيد ضعيف، واتهمه بعضهم. انظر: «التهذيب» (3/ 127). وعثمانُ بن أيمن لم أر من وثقه، وترجمه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (38/ 318) وخرَّج له هذا الحديث، ولم يَحْكِ فيه جرحًا ولا تعديلًا. وانظر: «مجمع الزوائد» (1/ 202). والوليدُ مشهورٌ بالتدليس ولم يصرِّح بالتحديث. ولعل المصنف أراد بتحسين الحديث حُسْنَ معناه وسياقته. (2) (ق): «ويثنون على».

(1/171)


الملائكةَ أنصحَ خلق الله لعباده، ووجدنا الشياطين أغشَّ الخلق للعباد» (1). وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. فأيُّ نصحٍ للعباد مثلُ هذا إلا نصح الأنبياء! فإذا طلبَ العبدُ العلمَ فقد سعى في أعظم ما ينصحُ به عبادَ الله؛ فلذلك تحبُّه الملائكة وتعظِّمُه، حتى تضعَ أجنحتَها له رضًا ومحبةً وتعظيمًا. وقال أبو حاتم الرازي: سمعتُ ابن أبي أويس يقول: سمعتُ مالك بن أنس يقول: معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تضعُ أجنحتها» يعني: تبسُطها بالدُّعاء لطالب العلم، بدلًا من الأيدي (2). وقال أحمدُ بن مروان المالكي في كتاب «المجالسة» له: حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري، قال: سمعتُ أحمد بن شعيب يقول: كنَّا عند بعض المحدِّثين بالبصرة، فحدَّثنا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها لطالب العلم»، وفي المجلس معنا رجلٌ من المعتزلة، فجعل _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 178)، والطبري (21/ 357)، وغيرهما عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. (2) انظر: «التمهيد» (19/ 43).

(1/172)


يستهزاءُ بالحديث، فقال: والله لأقْطُرَنَّ غدًا نعلي (1)، فأطأُ بها أجنحةَ الملائكة. ففعَل، ومشى في النَّعلين؛ فجفَّت رجلاه جميعًا، ووقعَت في رِجْلَيْه الآكِلَة» (2). وقال الطبراني: سمعتُ أبا يحيى زكريا بن يحيى السَّاجي قال: كنَّا نمشي في بعض أزقَّة البصرة إلى باب بعض المحدِّثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجلٌ ماجنٌ متَّهمٌ في دينه، فقال: «ارفعوا أرجلَكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها»، كالمستهزاء؛ فما زال من موضعه حتى جفَّت رجلاه وسَقَط (3). وفي «السنن» و «المسانيد» من حديث صفوان بن عسَّال، قال: قلت: يا رسول الله ــ - صلى الله عليه وسلم - ــ، إني جئتُ أطلبُ العلم، قال: «مرحبًا بطالب العلم؛ إنَّ طالبَ العلم لتَحُفُّ به الملائكةُ وتُظِلُّه بأجنحتها، فيركبُ بعضُها بعضًا حتى تبلغَ السماء الدنيا، مِنْ حبِّهم لما يطلب»، وذكر حديثَ المسح على _________ (1) كذا في الأصول، و «المجالسة». لعله مِن: قَطَرْت البعيرَ، إذا طَلَيته بالقَطِران. «الصحاح» (قطر). وفي (ح): «لأقطرن نعلي بمسامير»، وفي طُرَّتها إشارةٌ إلى أن في نسخة: «لأطرقن»، ووردت بمعناها في بعض المصادر. (2) «المجالسة» (2154). والخبر في «الطيوريات» (198)، و «بستان العارفين» للنووي (112)، و «مشيخة ابن الحطاب الرازي» (9)، وفي حاشية الأخير مزيد تخريج. (3) أخرجه الطبراني في كتاب «السُّنَّة»، كما ذكر شيخ الإسلام في «الفتاوى» (4/ 539)، ومن طريقه الخطيب في «الرحلة» (8)، والهروي في «ذم الكلام» (4/ 369)، والنووي في «بستان العارفين» (111). وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: «إسناد هذه الحكاية كالأخذ باليدين، أو كرأي العين؛ لأن رواتها أعلام، وراويها إمام». انظر: «فيض القدير» (2/ 393).

(1/173)


الخفَّين (1). قال أبو عبد الله الحاكم: إسناده صحيح. وقال ابن عبد البر: هو حديثٌ صحيحٌ حسنٌ ثابتٌ محفوظٌ مرفوع، ومثلُه لا يقالُ بالرأي. ففي هذا الحديث حَفُّ الملائكة له بأجنحتها إلى السماء، وفي الأول وضعُها أجنحتَها له؛ فالوضعُ تواضعٌ وتوقيرٌ وتبجيل، والحَفُّ بالأجنحة حفظٌ وحمايةٌ وصيانة. فتضمَّنَ الحديثان تعظيمَ الملائكة له، وحبَّها إياه، وحياطتَه وحفظَه؛ فلو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظُّ الجزيلُ لكفى به شرفًا وفضلًا. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ العالم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء»؛ فإنه لمَّا كان العالِمُ سببًا في حصول العلم الذي به نجاةُ النفوس من أنواع الهَلَكات، وكان سعيُه مقصورًا على هذا، وكانت نجاةُ العباد على يديه= جُوزِيَ من جنس عمله، وجُعِل من في السموات والأرض ساعيًا في نجاته من أسباب الهَلَكات، باستغفارهم له؛ وإذا كانت الملائكةُ تستغفرُ للمؤمنين، فكيف لا تستغفرُ لخاصَّتهم وخُلاصتهم؟! وقد قيل: إنَّ «من في السموات ومن في الأرض» المستغفرين للعالِم _________ (1) أخرجه الترمذي (3535، 3536)، والنسائي (158)، وابن ماجه (226)، وأحمد (4/ 239)، والطيالسي (1262)، وغيرهم. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وصححه ابن خزيمة (17، 193)، وابن حبان (85، 1100، 1319)، والحاكم (1/ 101)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 159) ــ ونقل المصنفُ عبارته ــ، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (23، 30).

(1/174)


عامٌّ في الحيوانات، ناطقِها وبهيمِها، طيرِها وغيره. ويؤكِّدُ هذا قولُه: «حتى الحيتان في الماء، وحتى النملةُ في جُحْرها». فقيل: سببُ هذا الاستغفار أنَّ العالِمَ يعلِّمُ الخلقَ مراعاةَ هذه الحيوانات، ويعرِّفُهم ما يحلُّ منها وما يحرُم، ويعرِّفُهم كيفيةَ تناولها، واستخدامها، وركوبها، والانتفاع بها، وكيفيةَ ذبحها على أحسن الوجوه وأرفقها بالحيوان، والعالِمُ أشفقُ الناس على الحيوان، وأقومُهم ببيان ما خُلِقَ له (1). وبالجملة؛ فالرحمةُ والإحسانُ التي خُلِقَ بهما ولهما الحيوان، وكُتِبَ لهما حظُّهما منه، إنما يُعْرَفُ بالعلم، فالعالِمُ مُعرِّفٌ لذلك؛ فاستحقَّ أن تستغفر له البهائم، والله أعلم. وقولُه: «وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» تشبيهٌ مُطابِقٌ لحال القمر والكواكب؛ فإنَّ القمرَ يضيءُ الآفاق، ويمتدُّ نورُه في أقطارِ العالَم (2)، وهذه حالُ العالِم. وأما الكوكبُ فنورُه لا يجاوزُ نفسَه، أو ما قَرُبَ منه، وهذه حالُ العابد الذي يضيءُ نورُ عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نورُ عبادته غيرَه فإنما يجاوزُه غير بعيد، كما يجاوزُ ضوءُ الكوكب له مجاوزةً يسيرة. ومن هذا الأثرُ المرويُّ: «إذا كان يومُ القيامة يقولُ الله للعابد: ادخل الجنة، فإنما كانت منفعتُك لنفسك، ويقالُ للعالِم: اشفَع تُشَفَّع، فإنما كانت _________ (1) انظر: «الكاشف عن حقائق السنن» للطِّيبي (1/ 372)، و «الميسَّر» للتوربشتي (1/ 104)، و «تذكرة السامع والمتكلم» لابن جماعة (31). (2) (ت، ح): «في العالم».

(1/175)


منفعتُك للناس» (1). وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا كان يومُ القيامة يؤتى بالعابد والفقيه، فيقال للعابد: ادخُل الجنة، ويقال للفقيه: اشفَع» (2). وفي التشبيه المذكور لطيفةٌ أخرى: وهو أنَّ الجهلَ كالليل في ظلمته وحِنْدِسِه، والعلماءُ والعُبَّادُ بمنزلة القمر والكواكب الطَّالعة في تلك الظُّلمة، وفضلُ نور العالِم فيها على نور العابد كفضل نور القمر على الكواكب. وأيضًا؛ فالدِّينُ قِوامُه وزينتُه وأمَنَتُه بعلمائه وعُبَّاده؛ فإذا ذهبَ علماؤه وعُبَّاده ذهب الدِّين، كما أنَّ السماءَ أمَنَتُها وزينتُها بقمرها وكواكبها؛ فإذا خَسَفَ قمرُها وانتثرت كواكبُها أتاها ما تُوعَد، وفضلُ علماء الدِّين على العُبَّاد كفضل ما بين القمر والكواكب. فإن قيل: فكيف وقعَ تشبيهُ العالم بالقمر دون الشمس، وهي أعظمُ نورًا؟ _________ (1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 111) من حديث أنسٍ مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وبنحوه أخرجه ابنُ عدي في «الكامل» (2/ 412، 6/ 438)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 346)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 108) عن جابرٍ مرفوعًا بإسنادين شديدَي الضعف. (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 112) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. وأخرجه أبو القاسم التيمي في «الترغيب والترهيب» (2157) من حديث أبي أمامة مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف.

(1/176)


قيل: فيه فائدتان (1): إحداهما: أنَّ نور القمر لما كان مستفادًا من غيره كان تشبيهُ العالِم الذي نورُه مستفادٌ من شمس الرسالة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس. الثانية: أنَّ الشمسَ لا يختلفُ حالها في نورها، ولا يلحقُها محاقٌ (2) ولا تفاوتٌ في الإضاءة، وأمَّا القمرُ فإنه يقلُّ نوره ويكثُر ويمتلاءُ وينقصُ؛ كما أنَّ العلماءَ في العلم على مراتبهم من كثرته وقلَّته، فيفضَّلُ كلٌّ منهم في علمه بحسب كثرته وقلَّته، وظهوره وخفائه، كما يكونُ القمرُ كذلك، فعالِمٌ كالبدر ليلة تِمِّه (3)، وآخرُ دونه بليلةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ وما بعدها إلى آخر مراتبه، وهم درجاتٌ عند الله. فإن قيل: تشبيهُ العلماء بالنجوم أمرٌ معلوم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أصحابي كالنجوم» (4)، ولهذا هي في تعبير الرؤيا عبارةٌ عن العلماء (5)، فكيف وقعَ _________ (1) انظر: «الذخيرة» للقرافي (1/ 43). (2) مثلَّثة الميم. أي: نقصانُ ضوء. والمحاق: آخرُ الشهر إذا انمحقَ الهلالُ فلم يُرَ، سُمِّي بذلك لأنه طلع مع الشمس فمَحَقَته. «اللسان» (محق). (3) أي: اكتماله وتمامه. وهذا التركيب كثيرُ الورود في الشِّعر. (4) جاء من حديث جماعةٍ من الصحابة بألفاظٍ مختلفة. ولا يصحُّ منها شيء. وقد حكم بردِّه الإمام أحمد، والبزار، وغيرُ واحدٍ من المتأخرين. انظر: «المنتخب من العلل للخلال» (143)، و «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 923)، و «تحفة الطالب» لابن كثير (166)، و «موافقة الخُبْر الخَبر» (1/ 145)، و «التلخيص الحبير» (4/ 190)، و «السلسلة الضعيفة» (58). (5) انظر: «تعبير الرؤيا» لابن قتيبة (112)، و «البدر المنير» للشهاب العابر المقدسي (217)، و «حلية الأولياء» (2/ 277).

(1/177)


تشبيهُهم هنا بالقمر؟ قيل: أما تشبيهُ العلماء بالنجوم؛ فلأنَّ النجومَ يهتدى بها في ظلمات البرِّ والبحر، وكذلك العلماء. والنجومُ زينةٌ للسماء، وكذلك العلماءُ زينةٌ للأرض. وهي رجومٌ للشياطين حائلةٌ بينهم وبين استراق السَّمع؛ لئلا يَلبِسوا (1) بما يَسْتَرِقُونه من (2) الوحي الوارد إلى الرسل من الله على أيدي ملائكته، وكذلك العلماءُ رجومٌ لشياطين الإنس (3) الذين يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القول غرورًا؛ فالعلماءُ رجومٌ لهذا الصِّنف من الشياطين، ولولاهم لطُمِسَت معالمُ الدِّين بتلبيس المضلِّين، ولكنَّ الله سبحانه أقامهم حُرَّاسًا وحَفَظةً لدينه، ورجومًا لأعدائه وأعداء رسله. فهذا وجهُ تشبيههم بالنجوم. وأمَّا تشبيهُهم بالقمر؛ فذلك إنما كان في مقام تفضيلهم على أهل العبادة المجرَّدة، وموازنة ما بينهما من الفضل. والمعنى: أنهم يَفْضُلونَ العُبَّادَ الذين ليسوا بعلماء، كما يَفْضُلُ القمرُ سائرَ الكواكب. فكلٌّ من التشبيهين لائقٌ بموضعه، والحمدُ لله. وقولُه: «إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء»، هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإنَّ الأنبياءَ خيرُ خلق الله، فورثتُهم خيرُ الخلق بعدهم، ولما كان كلُّ _________ (1) (ت): «يشتبه». (2) «من» ليست في (ح، ن). (3) (ق): «الإنس والجن». وهو خطأ وسبق قلم.

(1/178)


موروثٍ (1) ينتقلُ ميراثُه إلى ورثته؛ إذ هم الذين يقومون مقامَه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقومُ مقامَهم في تبليغ ما أُرسِلوا به إلا العلماء= كانوا أحقَّ الناس بميراثهم. وفي هذا تنبيهٌ على أنهم أقربُ الناس إليهم؛ فإنَّ الميراثَ إنما يكونُ لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابتٌ في ميراث الدِّينار والدِّرهم، فكذلك هو في ميراث النبوَّة، والله يختصُّ برحمته من يشاء. وفيه ــ أيضًا ــ إرشادٌ وأمرٌ للأمَّة بطاعتهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم وإجلالهم؛ فإنهم ورثةُ مَنْ هذه بعضُ حقوقهم على الأمَّة، وخلفاؤهم فيهم. وفيه تنبيهٌ على أنَّ محبَّتهم من الدِّين، وبغضَهم منافٍ للدِّين، كما هو ثابتٌ لموروثهم (2). وكذلك معاداتُهم ومحاربتُهم معاداةٌ ومحاربةٌ لله كما هو في موروثهم. قال عليٌّ رضي الله عنه: «محبةُ العلماء دينٌ يُدانُ اللهُ به» (3). وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجل: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة» (4)، وورثةُ الأنبياء ساداتُ أولياء الله عزَّ وجل. _________ (1) (ت): «مورث». وكلاهما صحيح. (2) (ت): «لمورثهم». والوجهان صحيحان كما سبق. (3) جزءٌ من وصيَّته لكُمَيْل بن زياد. وسيأتي تخريجها عند سياق المصنف لها (ص: 348). ووردت الجملة في بعض المصادر: «محبة العلم ... ». (4) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة.

(1/179)


وفيه تنبيهٌ للعلماء على سلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ؛ من الصَّبر، والاحتمال، ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان، والرِّفق بهم، واستجلابهم إلى الله بأحسن الطُّرق، وبذل ما يمكنُ من النصيحة لهم؛ فإنه بذلك يحصلُ لهم نصيبُهم من هذا الميراث العظيم قدرُه، الجليل خَطَرُه. وفيه ــ أيضًا ــ تنبيهٌ لأهل العلم على تربية الأمَّة كما يربِّي الوالدُ وَلَدَه؛ فيربُّونهم بالتدريج والترقِّي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون، كما يفعلُ الأبُ بولده الطفل في إيصال (1) الغذاءَ إليه؛ فإنَّ أرواحَ البشر بالنسبة إلى الأنبياء والرسل كالأطفال بالنسبة إلى آبائهم، بل دون هذه النسبة بكثير، ولهذا كلُّ روحٍ لم يربِّها الرسولُ (2) لم تُفْلِح ولم تَصْلُح لصالحة؛ كما قيل: ومن لا يُرَبِّيه الرسولُ ويَسْقِهِ ... لِبانَ هُدًى (3) قد دَرَّ مِنْ ثَدْيِ قُدْسِهِ فذاكَ لَقِيطٌ ما له نِسْبةُ الوَلَا ... ولا يتعدَّى طَوْرَ أبناءِ جِنْسِه وقولُه: «إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم»، هذا من كمال الأنبياء وعِظَم نصحهم للأمم، وتمام نعمة الله عليهم وعلى أممهم؛ أنْ أزاحَ جميعَ العلل، وحسَم جميعَ الموادِّ التي تُوهِمُ بعض النفوس أنَّ الأنبياء من جنس الملوك الذين يريدون الدنيا ومُلْكَها؛ فحماهم سبحانه وتعالى من ذلك أتمَّ الحماية. _________ (1) (ن، ح): «إيصاله». (2) (ن): «تربها الرسل». (3) (ح، ن): «لبانًا له». والبيتان لم أعثر عليهما في مصدرٍ آخر.

(1/180)


ثمَّ لما كان الغالبُ على الناس أنَّ أحدهم يريد الدنيا لولده من بعده، ويسعى ويتعبُ ويَحْرِمُ نفسَه لولده= سدَّ هذه الذَّريعة عن أنبيائه ورسله، وقطعَ هذا الوهمَ الذي عساه أن يخالط كثيرًا من النفوس التي تقول: فلعله إن لم (1) يطلب الدنيا [لنفسه] فهو يحصِّلها (2) لولده= فقال - صلى الله عليه وسلم -: «نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا فهو صدقة» (3). فلم تُورِّث الأنبياءُ دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم. وأما قولُه تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فهو ميراثُ العلم والنبوَّة، لا غير، وهذا باتفاق أهل العلم من المفسِّرين وغيرهم (4)، وهذا لأنَّ داود عليه السلام كان له أولادٌ كثيرٌ سوى سليمان، فلو كان الموروثُ هو المال لم يكن سليمان يختصُّ به (5). وأيضًا؛ فإنَّ كلامَ الله يصانُ عن الإخبار بمثل هذا؛ فإنه بمنزلة أن يقال: «مات فلانٌ وورثه ابنُه»، ومن المعلوم أنَّ كلَّ أحدٍ يرثُه ابنُه، وليس في الإخبار بمثل هذا فائدة. وأيضًا؛ فإنَّ ما قبل الآية وما بعدها يبيِّنُ أنَّ المرادَ بهذه الوِراثة وراثةُ العلم والنبوَّة، لا وراثةُ مال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا _________ (1) (ت، د، ق): «فلعله لم». (2) (ت): «تحصيله». وما بين المعكوفين يقتضيه السياق، وليس في الأصول. (3) أخرجه البخاري (3093، 6726)، ومسلم (1757 - 1759). (4) انظر: «تأويل مختلف الحديث» (188)، و «شرح مشكل الآثار» (3/ 12)، و «التمهيد» (8/ 174)، و «فتح الباري» (12/ 10)، و «روح المعاني» (10/ 166). (5) (ق): «مختصا به».

(1/181)


وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 15 - 16]، وإنما سِيقَ هذا لبيان (1) فضل سليمان وما خصَّه الله به من كرامته وميراثه ما كان لأبيه من أعلى المواهب، وهو العلم والنبوَّة، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]. وكذلك قولُ زكريا - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 - 6]، فهذا ميراثُ العلم والنبوَّة والدعوة إلى الله، وإلا فلا يُظَنُّ بنبيٍّ كريمٍ أنه يخافُ عصبتَه أن يرثوه مالَه، فيسألُ الله العظيمَ ولدًا يمنعهم ميراثه (2)، ويكونُ أحقَّ به منهم. وقد نزَّه الله أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله. فبُعْدًا لمن حرَّف كتاب الله وردَّ على رسوله كلامَه، ونسبَ الأنبياءَ إلى ما هم أبرياءُ منزَّهون عنه، والحمدُ لله على توفيقه وهدايته. ويُذْكرُ عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه أنه مرَّ بالسوق، فوجدهم في تجاراتهم وبِيَاعاتهم (3)، فقال: أنتم هاهنا فيما أنتم فيه وميراثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسَّمُ في مسجده! فقاموا سِراعًا إلى المسجد، فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذِّكر ومجالس العلم، فقالوا: أين ما قلتَ يا أبا هريرة؟ فقال: هذا ميراثُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يقسَّمُ بين ورثته، وليس بمواريثكم ودنياكم (4). أو كما قال. _________ (1) (ت): «سبق هذا البيان». (2) (ت): «يرثهم ميراثهم». (3) البِيَاعات: الأشياء التي يُتبايَع بها في التجارة. «اللسان» (بيع). (4) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1429) بإسنادٍ فيه من لا يُعْرَف. وحسَّنه المنذري في «الترغيب» (1/ 134)، والهيثمي في «المجمع» (1/ 124).

(1/182)


وقولُه: «فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر»، أعظمُ الحظوظ وأجداها ما نفَع العبدَ ودام نفعُه له، وليس هذا إلا حظَّه من العلم والدِّين؛ فهو الحظُّ الدائمُ النافعُ الذي إذا انقطعت الحظوظُ لأربابها فهو موصولٌ له أبد الآبدين؛ وذلك لأنه موصولٌ بالحيِّ الذي لا يموت، فلذلك لا ينقطعُ ولا يفوت، وسائرُ الحظوظ تُعْدَم وتتلاشى بتلاشي متعلَّقاتها، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]؛ فإنَّ الغايةَ لما كانت منقطعةً زائلةً تبعتها أعمالهم، فانقطعت عنهم أحوجَ ما يكونُ العاملُ إلى عمله. وهذه هي المصيبةُ التي لا تُجْبَر، عياذًا بالله، واستعانةً به، وافتقارًا إليه، وتوكُّلًا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقولُه: «موتُ العالم مصيبةٌ لا تُجْبَر، وثُلْمةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِس، وموتُ قبيلةٍ أيسرُ من موت عالم»، لمَّا كان صلاحُ الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناسُ كالبهائم، بل أسوأ حالًا؛ كان موتُ العالم مصيبةً لا يَجْبُرها إلا خلفُ غيره له. وأيضًا؛ فإنَّ العلماءَ هم الذين يَسُوسونَ العبادَ والبلادَ والممالك، فموتُهم فسادٌ لنظام العالم؛ ولهذا لا يزالُ الله يغرسُ في هذا الدِّين منهم خالفًا عن سالف، يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه. وتأمَّل: إذا كان في الوجود رجلٌ قد فاقَ العالَم في الغنى والكرم، وحاجتُهم إلى ما عنده شديدة، وهو محسنٌ إليهم بكلِّ ممكن، ثمَّ مات وانقطعت عنهم تلك المادَّة؛ فموتُ العالم أعظمُ مصيبةً من موت مثل هذا بكثير، ومثلُ هذا يموتُ بموته أممٌ وخلائق، كما قيل:

(1/183)


تَعَلَّمْ ما الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ ... ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ ولكنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ حُرٍّ ... يموتُ بموته بشرٌ كثيرُ (1) وقال آخر: فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنَّه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما (2) الوجه الثامن والأربعون: ما روى الترمذيُّ من حديث الوليد بن مسلم حدثنا رَوْحُ بن جناح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فقيهٌ (3) أشدُّ على الشيطان من ألف عابد» (4). _________ (1) البيتان لأعرابية في «أمالي القالي» (1/ 272). ولمُلَيْل بن الدهقانة التغلبي في «معجم الشعراء» للمرزباني (445)، و «الحماسة البصرية» (2/ 634). ودون نسبة في «الزهرة» (527). وفي (ت): «يموت لموته خلق كثير». وهو كذلك في بعض المصادر. (2) البيت لعَبْدة بن الطبيب، من أبياتٍ ثلاثة يرثي فيها سيد أهل الوبر قيس بن عاصم المِنقري، في «الحماسة» بشرح المرزوقي (790)، و «الشعر والشعراء» (2/ 728)، وغيرهما، وهي في «شعره» المجموع (12). وقال أبو عمرو بن العلاء: «هذا أرثى بيتٍ قالته العرب». «ديوان المعاني» (3/ 966). (3) في رواية ابن ماجه والطبراني وابن المنذر: «فقيه واحد». (4) أخرجه الترمذي (2681)، وابن ماجه (222)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 308)، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 135)، والطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 78)، وغيرهم. ورَوْحُ بن جناح ضعيف، وقد استنكر حديثه هذا ابنُ عدي في «الكامل» (3/ 145)، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 300) واستدلَّ به على ضعفه. وقال الساجي ــ كما في «التهذيب» (3/ 293) ــ: «هو حديث منكر».

(1/184)


قال الترمذي: «غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوليد بن مسلم». قلت: قد رواه أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي اليقطيني: حدثنا عمر بن سعيد بن سنان: حدثنا هشام بن عمار: حدثنا الوليدُ بن مسلم: حدثنا رَوْحُ بن جناح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). قال الخطيب (2): «والأولُ هو المحفوظ عن رَوْح، عن مجاهد، عن ابن عباس، وما أرى الوهمَ وقع في هذا الحديث إلا من أبي جعفر؛ لأنَّ عمر بن سنان عنده: عن هشام بن عمار، عن الوليد، عن رَوْح، عن الزهري، عن سعيد: حديثُ: «في السماء بيتٌ يقالُ له: البيتُ المعمورُ حِيال الكعبة» (3)، وحديثُ ابن عباس، [فيُشْبِهُ أن يكونا] (4) كانا في كتاب ابن _________ (1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 122). وهو وهمٌ، كما بيَّنه الدارقطنيُّ في «العلل» (9/ 132)، وزاد إيضاحه الخطيب، ونقل المصنفُ كلام الأخير. (2) (د، ت، ق): «الدارقطني». والنصُّ - بتصرُّف - في كتاب الخطيب. (3) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 59)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 144)، وغيرهما بطوله. وقد استنكر الأئمةُ على رَوْحٍ هذا الحديث، وحكم بعضُهم بوضعه. انظر: «أحوال الرجال» للجوزجاني (271)، و «الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 219)، و «تاريخ دمشق» (18/ 232)، وتعليق المعلمي على «الفوائد المجموعة» (465). (4) زيادة يقتضيها السياق، وهي في كتاب الخطيب.

(1/185)


سنانٍ عن هشام يتلو أحدَهما الآخر؛ فكتبَ أبو جعفر إسنادَ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثمَّ عارضه سهوٌ أو زاغ نظرُه، فنزل إلى متن حديث ابن عباس، فركَّبَ متنَ هذا على إسناد هذا، وكلُّ واحدٍ منهما ثقةٌ مأمون، بريءٌ من تعمُّد الغلط». وقد رواه أبو أحمد بن عدي عن محمد بن سعيد بن مهران: حدثنا شيبان: حدثنا أبو الربيع السَّمَّان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكلِّ شيءٍ دِعامة، ودِعامةُ الإسلام الفقهُ في الدِّين، والفقيهُ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد» (1). ولهذا الحديث علَّة؛ وهو أنه رُوِي من كلام أبي هريرة، وهو أشبه: رواه هاناء بن يحيى: حدثنا يزيدُ به عياض: حدثنا صفوانُ بن سليم، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما عبد اللهُ بشيءٍ أفضلَ من فقهٍ في الدِّين». قال: وقال أبو هريرة: «لأَنْ أَفْقَهَ ساعةً أحبُّ إليَّ من أن أُحْيِيَ ليلةً أصلِّيها حتى أُصْبِح، والفقيهُ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، ولكلِّ شيءٍ دِعامة، ودِعامةُ الدِّين الفقه» (2). _________ (1) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 377) في ترجمة أبي الربيع، وعَدَّه مِن أنكر ما حدَّث به. (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 123)، و «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/ 151)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 192) من طريق هاناء بن يحيى، عن يزيد بن عياض، به. وأخرجه الدارقطني في «السنن» (3/ 79)، والطبراني في «الأوسط» (6166)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 342)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1/ 150) من طريق يزيد بن هارون، عن يزيد بن عياض، به، وجعله جميعَه مرفوعًا. وعلى الوجهين، فيزيد بن عياض منكر الحديث.

(1/186)


وقد رُوِي بإسنادٍ فيه من لا يحتجُّ به من حديث عاصم بن أبي النَّجود، عن زِرِّ بن حُبيش، عن عمر بن الخطاب يرفعُه: «إنَّ الفقيهَ أشدُّ على الشيطان من ألف وَرِع، وألف مجتهد، وألف متعبِّد» (1). وقال المزني: «رُوِي عن ابن عباس أنه قال: إنَّ الشياطين قالوا لإبليس: يا سيِّدنا، ما لنا نراكَ تفرحُ بموت العالِم ما لا تفرحُ بموت العابد والعالِمُ لا نُصِيبُ منه والعابدُ نُصِيبُ منه؟! (2)، قال: انطلقوا. فانطلقوا إلى عابد، فأتوه في عبادته فقالوا: إنَّا نريدُ أن نسألك. فانصرَف. فقال إبليس: هل يقدرُ ربُّك أن يجعلَ الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: لا أدري. فقال: أترونه كَفَر في ساعة؟! ثمَّ جاؤوا إلى عالِمٍ في حَلْقته يُضاحِكُ أصحابَه ويحدِّثهم، فقالوا: إنَّا نريدُ أن نسألك. فقال: سَلُوا. فقالوا: هل يقدرُ ربُّك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ قال: نعم. قالوا: كيف؟ قال: يقول: كُن فيكون؛ فقال: أترونَ ذلك لا يَعْدُو نفسَه، وهذا يُفسِدُ عليَّ عالَمًا كثيرًا؟!» (3). _________ (1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 124). وهو كما قال المصنف. (2) في طرَّة (ح): «لعله: العالم نصيب منه، والعابد لا نصيب منه». (3) أخرجها الخطيبُ في «الفقيه والمتفقه» (1/ 124). وبين المزنيِّ وابنِ عباسٍ مفاوز. وعلَّقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 129). ورواها ابن أبي الدنيا عن بعض البصريين. انظر: «آكام المرجان» (206).

(1/187)


وقد رُوِيَت هذه الحكايةُ على وجهٍ آخر، وأنهم سألوا العابد فقالوا: هل يقدرُ ربُّك أن يخلقَ مثل نفسه؟ فقال: لا أدري. فقال: أترونه لم تنفعه عبادتُه مع جهله؟! وسألوا العالِمَ عن ذلك، فقال: هذه المسألةُ مُحال؛ لأنه لو كان مثله لم يكن مخلوقًا، فكونُه مخلوقًا وهو مثلُ نفسه مستحيل، فإذا كان مخلوقًا لم يكن مثلَه، بل كان عبدًا من عبيده، وخلقًا من خلقه. فقال: أترونَ هذا يهدمُ في ساعةٍ ما أبنيه في سنين؟! أو كما قال. ورُوِي عن عبد الله بن عمر (1): «فضلُ العالم على العابد سبعين درجة، بين كلِّ درجتين حُضْرُ الفَرَس (2) سبعين عامًا؛ وذلك أنَّ الشيطان يضعُ البدعة، فيبصرُها العالِمُ فينهى عنها، والعابدُ مقبلٌ على عبادة ربِّه لا يتوجَّهُ لها ولا يعرفُها» (3). _________ (1) (د، ق، ح، ن) ومطبوعة «المغني» للعراقي: «عمرو». والمثبت من (ت) ومطبوعتي «الترغيب والترهيب» للأصبهاني والمنذري. (2) وهو ارتفاعُه في عَدْوِه. «اللسان» (حضر). (3) أخرجه أبو القاسم التيمي الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2143) عن ابن عمر مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف، وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 15). وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 133): «وعَجُزُ الحديث يُشْبِهُ المُدْرَج». قلت: وهو كما قال، وقد ورد بدونه من حديث أبي هريرة مرفوعًا عند ابن عدي في «الكامل» (4/ 134)، والخطيب في «الموضح» (2/ 196)، وقال ابن عدي: «وهذا بهذا الإسناد منكر». ورُوِي من وجهٍ آخر مرسلًا، قال الدارقطني في «العلل» (9/ 267): «والمرسل أصح».

(1/188)


وهذا معناه صحيح؛ فإنَّ العالِمَ يُفْسِدُ على الشيطان ما يسعى فيه، ويهدمُ ما يبنيه، فكلما أراد إحياءَ بدعةٍ وإماتةَ سُنَّةٍ حالَ العالِمُ بينه وبين ذلك، فلا شيء أشدُّ عليه من بقاء العالِم بين ظهراني الأمَّة، ولا شيء أحبُّ إليه من زواله من بين أظهرهم؛ ليتمكَّن من إفساد الدِّين وإغواء الأمَّة، وأما العابدُ فغايته أن يجاهدَه ليسلَم منه في خاصَّة نفسه، وهيهات له ذلك. الوجه التاسع والأربعون: ما روى الترمذيُّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرُ الله وما والاه وعالمٌ ومتعلِّم» (1). قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسن» (2). ولمَّا كانت الدنيا حقيرةً عند الله لا تساوي لديه جناح بعوضة، كانت ــ وما فيها ــ في غاية البعد منه، وهذا هو حقيقةُ اللَّعنة. _________ (1) أخرجه الترمذي (2322)، وابن ماجه (4112)، وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة. وعبد الرحمن فيه ضعف، وقال العقيلي في «الضعفاء» (2/ 326): «لا يتابعه إلا من هو دونه أو مثله» وانظر: «العلل المتناهية» (2/ 796). وأخرجه البغويُّ في «شرح السنة» (14/ 229) مرسلًا، وهو أصحُّ. ورُوِي من أوجهٍ أخرى معلولة. انظر: «مسند البزار» (5/ 145)، و «علل الدارقطني» (5/ 89)، و «علل ابن أبي حاتم» (2/ 124)، و «جامع العلوم والحكم» (559). (2) وفي «تحفة الأشراف» (10/ 137)، و «تهذيب الكمال» (20/ 110): «حسن غريب».

(1/189)


وهو سبحانه إنما خلقها مزرعةً للآخرة ومَعْبَرًا إليها يتزوَّدُ منها عبادُه إليه، فلم يكن يُقَرِّبُ منها إلا ما كان متضمِّنًا لإقامة ذكره ومُفْضِيًا إلى محابِّه، وهو العلمُ الذي به يُعْرَفُ اللهُ ويُعْبَد، ويُذْكَرُ ويُثنى عليه به ويُمَجَّدُ. ولهذا خلقها وخلق أهلها؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، فتضمَّنت هاتان الآيتان أنه سبحانه إنما خلق السموات والأرض وما بينهما ليُعْرَفَ بأسمائه وصفاته، وليُعْبَد. فهذا المطلوبُ (1) وما كان طريقًا إليه من العلم والتعليم فهو المستثنى من اللَّعنة، واللَّعنةُ واقعةٌ على ما عداه؛ إذ هو بعيدٌ عن الله وعن محابِّه وعن دينه، وهذا هو متعلَّق العقاب في الآخرة؛ فإنه كما كان متعلَّقَ اللَّعنة التي تتضمَّن الذَّمَّ والبغضَ فهو متعلَّقُ العقاب، والله سبحانه إنما يحبُّ من عباده ذكرَه وعبادتَه، ومعرفتَه ومحبَّته، ولوازمَ ذلك وما أفضى إليه، وما عداه فهو مبغوضٌ له، مذمومٌ عنده. الوجه الخمسون: ما رواه الترمذي من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» (2). قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريب، _________ (1) (ت): «فهذا هو المطلوب». (2) أخرجه الترمذي (2647)، والطبراني في «الصغير» (1/ 234)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيف. وأشار الترمذيُّ إلى إعلاله، ونقل المصنفُ عبارته. وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (2/ 17)، و «الميزان» (1/ 648)، و «المختارة» للضياء (2119 - 2121).

(1/190)


رواه بعضُهم فلم يرفعه». وإنما جُعِلَ طلبُ العلم من سبيل الله لأنَّ به قِوامَ الإسلام، كما أنَّ قِوامَه بالجهاد، فقِوامُ الدِّين بالعلم والجهاد. ولهذا كان الجهادُ نوعين: * جهادٌ باليد والسِّنان، وهذا المشاركُ فيه كثير. * وجهادٌ بالحجَّة والبيان، وهذا جهادُ الخاصَّة من أتباع الرسل، وهو جهادُ الأئمَّة، وهو أفضلُ الجهادَين؛ لعظم منفعته، وشدَّة مؤنته، وكثرة أعدائه. قال تعالى في سورة الفرقان ــ وهي مكيَّة ــ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، فهذا جهادٌ لهم بالقرآن، وهو أكبرُ الجهادَين (1)، وهو جهادُ المنافقين أيضًا؛ فإنَّ المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظَّاهر، وربَّما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9]، ومعلومٌ أن جهادَ المنافقين بالحجَّة والقرآن. والمقصودُ أنَّ سبيلَ الله هي الجهادُ وطلبُ العلم ودعوةُ الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذٌ رضي الله عنه: «عليكم بطلب العلم؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشية، _________ (1) (ت): «وهو أكبر الجهادين مؤنة».

(1/191)


ومدارستَه عبادة، ومذاكرتَه تسبيح، والبحثَ عنه جهاد» (1). ولهذا يَقْرِنُ سبحانه بين الكتاب المنزَّل والحديد النَّاصر، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فذكرَ الكتابَ والحديد إذ بهما قِوامُ الدِّين (2)، كما قيل: فما هو إلا الوحيُ أو حَدُّ مُرْهَفٍ ... تُمِيلُ ظُباهُ أخْدَعَيْ كلِّ مائلِ فهذا شفاءُ الدَّاء من كلِّ عاقلٍ ... وهذا دواءُ الدَّاء من كلِّ جاهلِ (3) ولمَّا كان كلٌّ من الجهاد بالسيف والحجَّة يسمَّى: «سبيل الله»، فَسَّرَ الصحابةُ رضي الله عنهم قولَه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] بالأمراء والعلماء (4)؛ فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم. _________ (1) يأتي تخريجه (ص: 337) حيث ساقه المصنف بتمامه. (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 13، 18/ 158، 28/ 232، 396)، و «جامع المسائل» (6/ 314)، و «منهاج السنة» (1/ 531)، و «بدائع الفوائد» (415)، و «هداية الحيارى» (21)، و «طريق الهجرتين» (643)، و «أحكام أهل الذمة» (1305). (3) البيتان لأبي تمام في «ديوانه» بشرح التبريزي (3/ 86). (4) انظر: تفسير القرآن من «الجامع» لابن وهب (1/ 100)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (12/ 212 - 215)، و «تفسير الطبري» (8/ 497 - 500)، و «السنة» للخلال (1/ 106)، و «مستدرك الحاكم» (1/ 123)، وغيرهما. وهذا التفسير يؤخذُ من مجموع أقوالهم، لا من آحادها.

(1/192)


فطلبُ العلم وتعليمُه من أعظم سبيل الله عز وجل. قال كعبُ الأحبار: «طالبُ العلم كالغادِي (1) الرَّائح في سبيل الله عز وجل» (2). وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: «إذا جاء الموتُ طالبَ العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد» (3). وقال سفيان بن عيينة: «من طلب العلمَ فقد بايعَ اللهَ عز وجل» (4). وقال أبو الدرداء: «من رأى الغُدُوَّ والرَّواحَ إلى العلم ليس بجهادٍ فقد نقصَ عقلُه (5) ورأيه». _________ (1) في الأصول: «الغازي». وفي طرَّة (ح): «لعله: كالغادي». وهو كذلك في مصادر الأثر، ويدلُّ عليه السياق. (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 376)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 281). ورُوِي مرفوعًا من حديث أبي الردين. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (41 - زوائده)، والطبراني في «الكبير» (22/ 337) بإسنادٍ فيه من لم أعرفه. وقال ابنُ منده عن أبي الردين: «له ذِكْرٌ في الصحابة، ولم يَثْبُت». «الإصابة» (7/ 138). (3) أخرجه البزار (138 - كشف الأستار)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 121)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 101)، و «تاريخ بغداد» (9/ 247) عن أبي هريرة وأبي ذر مرفوعًا بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (4/ 350)، و «اللسان» (2/ 145). (4) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 280)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (5/ 174) بلفظ: «من طلب الحديث ... ». (5) (د، ت، ح، ن): «نقص في عقله». والمثبت من (ق) و «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 152).

(1/193)


الوجه الحادي والخمسون: ما رواه الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّل اللهُ له طريقًا إلى الجنة». قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسن» (1). قال بعضهم: «ولم يقل في هذا الحديث: صحيح؛ لأنه يقال: دلَّسَ الأعمشُ في هذا الحديث؛ لأنه رواه بعضهم، فقال: حُدِّثتُ عن أبي صالح» (2). والحديثُ رواه مسلم في «صحيحه» (3) من أوجهٍ عن الأعمش عن أبي صالح. قال الحاكم في «المستدرك»: «هو صحيحٌ على شرط البخاري ومسلم، رواه عن الأعمش جماعة، منهم: زائدة، وأبو معاوية، وابن نمير» (4). _________ (1) «جامع الترمذي» (1930، 2646). (2) ذكر هذه العلة الترمذيُّ في «الجامع» (4/ 34، 5/ 195)، ونقل عنه الحافظُ في «الفتح» (1/ 160) و «النكت» (1/ 403) العبارة التي نقلها المصنفُ عن بعضهم، ولم أرها في «جامعه»، ولا رأيتُ من نقلها عنه سواه. ووافق الترمذيَّ غيرُ واحدٍ من الحفَّاظ. انظر: «علل ابن أبي حاتم» (2/ 162)، و «علل أحاديث في كتاب الصحيح لمسلم» لابن عمار الشهيد (136)، و «جامع العلوم والحكم» (632)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 141). وأطال الدارقطنيُّ في بيان الاختلاف فيه في «العلل» (10/ 185). (3) (2699). (4) «المستدرك» (1/ 89) بنحوه ولم يتعقبه الذهبي. وصححه ابن حبان (84).

(1/194)


وقد تقدَّم حديثُ أبي الدرداء في ذلك؛ فالحديث محفوظٌ وله أصل. وقد تظاهرَ الشرعُ والقدرُ على أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فكما سلكَ طريقًا يطلبُ فيه حياةَ قلبه ونجاته من الهلاك، سلكَ اللهُ به طريقًا يحصِّلُ له ذلك. وقد رُوِي من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه ابن عدي من حديث محمد بن عبد الملك الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عنها مرفوعًا، ولفظُه: «أوحى اللهُ إليَّ: إنه من سلك مسلكًا يطلبُ العلمَ سهَّلتُ له طريقًا إلى الجنة» (1). الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة، وهي البهجةُ ونضارةُ الوجه وتحسينُه، ففي الترمذي وغيره من حديث ابن مسعودٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، وحَفِظَها، وبلَّغها، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه، ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ أئمَّة المسلمين، ولزومُ جماعتهم؛ فإنَّ دعوتهم تحيطُ مِنْ ورائهم» (2). _________ (1) أخرجه ابنُ عدي في «الكامل» (6/ 160) مع أحاديث أخرى، ثم قال: «هذه الأحاديث عن الزهري عن عروة عن عائشة بهذا الإسناد مناكيرُ كلُّها، لا يرويها عن الزهري غير محمد بن عبد الملك». وانظر: «شعب الإيمان» للبيهقي (10/ 325). (2) أخرجه الترمذي (2657)، وابن ماجه (232)، وأحمد (1/ 437)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 331)، وغيرهم بإسنادٍ حسن. وصححه الترمذي، وابن حبان (66، 68، 69)، وأبو نعيم. وانظر: «شرف أصحاب الحديث» للخطيب (18)، و «موافقة الخُبْر الخَبَر» لابن حجر (1/ 364).

(1/195)


وروى هذا الأصلَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ابنُ مسعود، ومعاذُ بن جبل، وأبو الدرداء، وجبيرُ بن مُطْعِم، وأنسُ بن مالك، وزيدُ بن ثابت، والنعمانُ بن بشير (1). قال الترمذي: «حديثُ ابن مسعودٍ حديثٌ حسنٌ، وحديثُ زيد بن ثابتٍ حديثٌ حسن» (2). وأخرج الحاكمُ في «صحيحه» حديثَ جبير بن مطعم والنعمان بن بشير، وقال في حديث جبير: «على شرط البخاري ومسلم» (3). ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحدَه لكفى به شرفًا؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن سمعَ كلامَه، ووعاه، وحَفِظه، وبلَّغه. وهذه هي مراتبُ العلم: * أوَّلها: سماعُه. * فإذا سمعه وعاهُ بقلبه (4)؛ أي: عَقَلَه واستقرَّ في قلبه، كما يستقرُّ الشيءُ الذي يُوعى في وعائه ولا يخرجُ منه، وكذلك عَقْلُه هو بمنزلة عَقْلِ البعير والدابَّة ونحوها حتى لا تَشْرُدَ وتَذْهَب، ولهذا كان الوعيُ والعقلُ قدرًا زائدًا على مجرَّد إدراك المعلوم. _________ (1) وغيرُهم، وعَدَّه جماعةٌ من المتواتر. انظر: «قطف الأزهار المتناثرة» (2)، و «مفتاح الجنة» (9) كلاهما للسيوطي، و «لقط اللآلاء المتناثرة» للزبيدي (48)، و «نظم المتناثر» للكتاني (33). (2) «الجامع» (5/ 33). إلا أنَّ فيه قوله عن حديث ابن مسعود: «حسن صحيح»، وكذا هو في «تحفة الأشراف» (7/ 75). (3) «المستدرك» (1/ 86 - 88)، ولم يتعقبه الذهبي. (4) وهذه المرتبةُ الثانية.

(1/196)


* المرتبة الثالثة: تعاهدُه وحفظُه، حتى لا ينساه فيَذْهَب. * المرتبة الرابعة: تبليغُه وبثُّه في الأمَّة؛ ليحصلَ به ثمرتُه ومقصودُه؛ فما لم يُبَلَّغْ ويُبَثَّ في الأمَّة فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا يُنْفَقُ منه، وهو مُعَرَّضٌ لذهابه، فإنَّ العلمَ ما لم يُنْفَقْ منه ويُعَلَّمْ فإنه يوشكُ أن يذهب، فإذا أُنفِقَ منه نما وزكا على الإنفاق. فمن قام بهذه المراتب الأربع دخلَ تحت هذه الدعوة النبويَّة المتضمِّنة لجمال الظاهر والباطن، فإنَّ النَّضرةَ هي البهجةُ والحُسْنُ الذي يُكساهُ الوجهُ من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به، فتظهرُ هذه البهجةُ والسرورُ والفرحةُ نضارةً على الوجه. ولهذا يجمعُ سبحانه بين السُّرور والنَّضرة، كما في قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]؛ فالنَّضرةُ في وجوههم، والسرورُ في قلوبهم. فالنعيمُ وطِيبُ القلب يظهرُ نضارةً في الوجه، كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطفِّفين: 24]. والمقصودُ أنَّ هذه النَّضرةَ في وجه من سمع سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووعاها، وحَفِظها، وبلَّغها، هي أثرُ تلك الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه» تنبيهٌ على فائدة التبليغ، وأنَّ المبلَّغَ قد يكونُ أفهَمَ من المبلِّغ؛ فيحصُل له في تلك المقالة ما لم يحصُل للمبلِّغ.

(1/197)


أو يكونُ المعنى: أنَّ المبلَّغ قد يكونُ أفقهَ من المبلِّغ، فإذا سمع تلك المقالةَ حملها على أحسن وجوهها، واستنبطَ فقهَها، وعَلِمَ المرادَ منها. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم ... » إلى آخره؛ أي: لا يحملُ الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي الغِلَّ والغِشَّ، وهو فسادُ القلب (1) وسخائمُه. فالمخلصُ لله إخلاصُه يمنعُ غِلَّ قلبه، ويخرجُه ويزيلُه جملةً؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربِّه، فلم يبقَ فيه موضعٌ للغِلِّ والغش؛ كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلِصين (2)} [يوسف: 24]، فلمَّا أخلصَ لربِّه صرفَ عنه دواعي السوء والفحشاء؛ فانصرف عنه السوءُ والفحشاء. ولهذا لمَّا علمَ إبليسُ أنه لا سبيلَ له على أهل الإخلاص استثناهُم من شُرْطتِه (3) التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصين} [ص: 82، 83]، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصين} [الحجر: 39، 40]، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ _________ (1) (ح، ن): «وفساد القلب». (2) كذا قرأ أبو عمرو في المواضع الثلاثة، وهي قراءة المصنف، وبها يستقيم احتجاجه. انظر: «الحجة» لابن خالويه (194)، و «السبعة» لابن مجاهد (348)، و «الحجة» لأبي علي (4/ 421)، و «الكشف عن وجوه القراءات السبع» لمكِّي (2/ 10). (3) قال الصَّغاني في «العُباب» و «التكملة» (شرط): «والشُّرْطة ــ بالضمِّ ــ: ما اشْترَطْتَ، يقال: خُذ شُرْطتك». ولم أر هذا الحرفَ عند غيره.

(1/198)


سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. فالإخلاصُ هو سبيلُ الخَلاص، والإسلامُ مركبُ السلامة، والإيمانُ خاتمُ الأمان. وقولُه: «ومناصحةُ أئمَّة المسلمين» هذا أيضًا مُنافٍ للغِلِّ والغِشِّ؛ فإنَّ النصيحةَ لا تجامِعُ الغِلَّ، إذ هي ضدُّه، فمن نصَح الأئمَّة والأمَّة فقد براء من الغِلِّ. وقولُه: «ولزوم جماعتهم» هذا أيضًا مما يطهِّر القلبَ من الغِلِّ والغِشِّ؛ فإنَّ صاحبَه للزومه جماعةَ المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكرهُ لهم ما يكرهُ لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسرُّه ما يسرُّهم. وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطَّعن عليهم، والعَيْب والذَّمِّ لهم؛ كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم؛ فإنَّ قلوبهم ممتلئةٌ غِلًا وغِشًّا، ولهذا تجدُ الرافضة أبعدَ الناس من الإخلاص، وأغشَّهم للأئمَّة والأمَّة، وأشدَّهم بعدًا عن جماعة المسلمين؛ فهؤلاء أشدُّ الناس غِلًا وغِشًّا بشهادة الرسول والأمَّة عليهم، وشهادتِهم على أنفسهم بذلك، فإنهم لا يكونونَ قطُّ إلا أعوانًا وظَهْرًا على أهل الإسلام، فأيُّ عدوٍّ قام للمسلمين كانوا أعوانَ ذلك العدوِّ وبطانتَه، وهذا أمرٌ قد شاهدَته الأمَّةُ منهم، ومن لم يشاهده فقد سمعَ منه ما يُصِمُّ الآذانَ ويُشْجِي القلوب (1). _________ (1) انظر: «منهاج السنة» (5/ 154، 6/ 370، 374، 7/ 414)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 22)، و «البداية والنهاية» (17/ 357 - 360، 379)، و «أصول مذهب الشيعة» للقفاري (3/ 1212 - 1245).

(1/199)


وقولُه: «فإنَّ دعوتهم تحيطُ من ورائهم» هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى؛ شبَّه دعوةَ المسلمين بالسُّور والسِّياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوِّهم عليهم، فتلك الدعوةُ ــ التي هي دعوةُ الإسلام، وهم داخلوها ــ لمَّا كانت سُورًا وسياجًا عليهم أخبر أنَّ من لَزِمَ جماعةَ المسلمين أحاطت به تلك الدعوة ــ التي هي دعوةُ الإسلام ــ كما أحاطت بهم، فالدعوةُ تجمعُ شملَ الأمَّة، وتَلُمُّ شَعَثَها، وتحيطُ بها، فمن دخلَ في جماعتها أحاطت به وشَمِلَته. الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بتبليغ العلم عنه؛ ففي «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بلِّغوا عنِّي ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار» (1). وقال: «ليبلِّغ الشاهدُ منكم الغائب». روى ذلك: أبو بكرة، ووابصةُ بن معبد، وعمارُ بن ياسر، وعبدُ الله بن عمر، وعبدُ الله بن عباس، وأسماءُ بنت يزيد بن السَّكن، وحُجَير (2)، وأبو قُريع (3)، وسَرَّاءُ بنت نبهان، ومعاويةُ بن حيدة القشيري، وعَمُّ أبي حُرَّة (4)، _________ (1) «صحيح البخاري» (3461). (2) ابن أبي حُجَيْر الهلالي. أخرج حديثه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3/ 302)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (386 - زوائده)، وغيرهما، وإسناده صالحٌ كما قال ابن حجر في «الإصابة» (2/ 41). (3) اسمه: شريح. أخرج حديثه ابن منده. «الإصابة» (7/ 332). (4) اسمه: حنيفة. وقيل غير ذلك. انظر: «المعجم الكبير» للطبراني (4/ 53)، و «الإصابة» (2/ 140). وحديثه عند أحمد (5/ 72) وغيره.

(1/200)


وغيرهم (1). فأمرَ - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه؛ لما في ذلك من حصول الهدى بالتبليغ، وله - صلى الله عليه وسلم - أجرُ من بَلَّغَ عنه وأجرُ من قَبِلَ ذلك البلاغ، وكلما كَثُرَ التبليغُ عنه تضاعفَ له الثواب، فله من الأجر بعدد كلِّ مبلَّغٍ وكلِّ مُهْتَدٍ بذلك البلاغ، سوى ما له من أجر عمله المختصِّ به، فكلُّ من هُدِيَ واهتدى بتبليغه فله أجرُه؛ لأنه هو الداعي إليه. ولو لم يكن في تبليغ العلم عنه إلا حصولُ ما يحبُّه - صلى الله عليه وسلم - لكفى به فضلًا، وعلامةُ المحبِّ الصادق أن يسعى في حصول محبوب محبوبه، ويبذلَ جهدَه وطاقته فيها، ومعلومٌ أنه لا شيء أحبُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إيصاله الهدى إلى جميع الأمَّة، فالمبلِّغُ عنه ساعٍ في حصول محابِّه، فهو أقربُ الناس منه وأحبُّهم إليه، وهو نائبُه وخليفتُه في أمَّته، وكفى بهذا فضلًا وشرفًا للعلم وأهله. الوجه الرابع والخمسون: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدَّم بالفضائل العِلْميَّة في أعلى الولايات الدينيَّة وأشرفها، وقدَّم بالعلم بالأفضل (2) على غيره. فروى مسلمٌ في «صحيحه» (3) حديثَ أبي مسعود البدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم _________ (1) وعُدَّ من المتواتر. انظر: «نظم المتناثر» للكتاني (34). وهو في «صحيح البخاري» (67) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. وحديثُ الباقين مشهورٌ لا نطيلُ بتخريجه. (2) (ت): «بالعلم الأفضل». (3) (673).

(1/201)


بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً فأقدمهم سِلْمًا أو سنًّا ... » وذكرَ الحديث. فقدَّم في الإمامة بفضيلة العلم (1) على تقدُّم الإسلام والهجرة، ولما كان العلمُ بالقرآن أفضل من العلم بالسُّنَّة ــ لشرف معلومه على معلوم السُّنَّة ــ قدَّمَ العلمَ به، ثمَّ قدَّمَ العلمَ بالسُّنَّة على تقدُّم الهجرة، وفيه من زيادة العمل ما هو متميِّزٌ به، لكن إنما راعى التقديمَ بالعلم ثمَّ بالعمل، وراعى التقديمَ بالعلم بالأفضل على غيره، وهذا يدلُّ على شرف العلم وفضله، وأنَّ أهلَه هم أهلُ التقدُّم (2) إلى المراتب الدينيَّة. الوجه الخامس والخمسون: ما ثبتَ في «صحيح البخاري» (3) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه». وتعلُّمُ القرآن وتعليمُه يتناولُ تعلُّم حروفه وتعليمَها، وتعلُّمَ معانيه وتعليمَها، وهو أشرفُ قِسْمَي تعلُّمه وتعليمه؛ فإنَّ المعنى هو المقصود، واللفظُ وسيلةٌ إليه، فتعلُّم المعنى وتعليمُه تعلُّمُ الغاية وتعليمُها، وتعلُّمُ اللفظ المجرَّد وتعليمُه تعلُّمُ الوسائل وتعليمُها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل. الوجه السادس والخمسون: ما رواه الترمذي وغيرُه في نسخة عمرو ابن الحارث، عن درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يشبعَ المؤمنُ من خيرٍ يسمعُه حتى يكونَ منتهاه الجنة» (4). _________ (1) (ق): «تفضيله العلم». وهو تحريف. (2) (ت، ن): «التقديم». (3) (5027). (4) أخرجه الترمذي (2686)، والبيهقي في «الشعب» (3/ 430)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (897)، وغيرهم. وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (903)، والحاكم (4/ 129) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابنُ عدي في «الكامل» (3/ 114) في ترجمة دَرَّاج ضمن ما قد يُستنكَر من حديثه.

(1/202)


قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريب». وهذه نسخةٌ معروفةٌ رواها الناس (1). وساق أحمدُ في «المسند» (2) أكثرها أو كثيرًا منها. ولهذا الحديث شواهد. فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّهمةَ في العلم وعدمَ الشِّبع منه من لوازم الإيمان وأوصاف المؤمنين، وأخبرَ أنَّ هذا لا يزالُ دأبَ المؤمن حتى دخوله الجنة. ولهذا كان أئمَّةُ الإسلام إذا قيل لأحدهم: إلى متى تطلب العلم؟ فيقول: إلى الممات. قال نعيمُ بن حماد: سمعتُ عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يقول، وقد عابه قومٌ في كثرة طلبه للحديث؛ فقالوا له: إلى متى تسمَع؟!، قال: إلى الممات (3). _________ (1) واختُلِف في أحاديثها، تبعًا للاختلاف في راويها دَرَّاج؛ فمن الحفَّاظ من لم ير بها بأسًا: كابن معينٍ، وابن حبان، والحاكم، ومنهم من ضعَّفها: كأحمد، وأبي داود. انظر: «تاريخ ابن معين» (4/ 413 - رواية الدوري)، و «سؤالات الأجري» (2/ 166)، و «الكامل» لابن عدي (3/ 112)، و «جامع الترمذي» (2033، 2617، 3093). (2) (3/ 8، 28 - 29، 69، 70 - 71، 75 - 76، 81، 83). (3) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 103). وانظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 406).

(1/203)


وقال الحسنُ بن منصور الجصَّاص: قلت لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: إلى متى يكتبُ الرجلُ الحديث؟ قال: إلى الموت (1). وقال عبد الله بن محمد البغوي: سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: أنا أطلبُ العلمَ إلى أن أدخل القبر (2). وقال محمد بن إسماعيل الصَّائغ: كنت أصُوغُ مع أبي ببغداد، فمرَّ بنا أحمدُ بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخَذ أبي بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟! إلى متى تعدو مع هؤلاء؟! قال: إلى الموت (3). وقال عبد الله بن بشر الطَّالْقاني: أرجو أن يأتيني أمرُ ربِّي والمحبرةُ بين يَدَيَّ، ولم يفارقني القلمُ والمحبرة (4). وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري (5): جاء ابنُ بسطام الحافظُ يسألني عن الحديث، فقلت له: ما أشدَّ حرصك على الحديث! فقال: أو ما أحبُّ أن أكون في قطار آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! (6). _________ (1) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (144). وانظر: «طبقات الحنابلة» (1/ 375)، و «الآداب الشرعية» (2/ 45)، و «المقصد الأرشد» (1/ 338). (2) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (145). وانظر: «الآداب الشرعية» (2/ 58). (3) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 39، 6/ 274). (4) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (27/ 168). (5) (ق، د): «حميد بن يزيد المصري». (6) وورد الجواب أيضًا عن الوزير نظام الملك. «وفيات الأعيان» (2/ 129).

(1/204)


وقيل لبعض العلماء: إلى متى يَحْسُنُ بالمرء أن يتعلَّم؟ قال: ما حَسُنَتْ به الحياة (1). وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة: أيحسُنُ أن يطلب العلم؟ قال: إن كان يَحْسُنُ به أن يعيش (2). الوجه السابع والخمسون: ما رواه الترمذي أيضًا من حديث إبراهيم بن الفضل، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الكلمةُ الحكمةُ (3) ضالَّةُ المؤمن، فحيثُ وجدها فهو أحقُّ بها» (4). قال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المديني المخزومي يُضعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه». _________ (1) رُوِي هذا عن أبي عمرو بن العلاء، والمأمون. وحُكِي عن المسيح عليه السلام، وأنوشروان. انظر: «الفقيه والمتفقه» (2/ 166)، و «جامع بيان العلم» (1/ 406)، و «أمالي ابن الشجري» (1/ 63)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 112)، و «المحاسن والأضداد» (12)، و «الموشى» (50). (2) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (146). وانظر: «الجامع» لابن عبد البر (1/ 407)، و «الفقيه والمتفقه» (2/ 167). (3) كذا في (د، ح، ن) والترمذي وابن ماجه. وفي (ت، ق) و «مسند الشهاب» (52): «كلمة الحكمة». وفي «الضعفاء» للعقيلي، و «الكامل» لابن عدي، و «المجروحين»: «الكلمة الحكيمة ضالة الحكيم». (4) أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيف. وقد بيَّن علَّته الترمذيُّ وغيره. انظر: «الضعفاء» للعقيلي (1/ 60)، و «المجروحين» (1/ 105)، و «الكامل» (1/ 231)، و «العلل المتناهية» (1/ 88).

(1/205)


وهذا أيضًا شاهدٌ لما تقدَّم، وله شواهد (1). والحكمةُ هي العلم؛ فإذا فَقَدَه المؤمنُ فهو بمنزلة من فقدَ ضالَّةً نفيسةً من نفائسه، فإذا وجدها قرَّ قلبُه وفَرِحَت نفسُه بوِجْدانها، كذلك المؤمنُ إذا وجدَ ضالَّةَ قلبه وروحه التي هو دائمًا في طلبها ونِشْدانها والتفتيش عليها. وهذا من أحسن الأمثلة؛ فإنَّ قلبَ المؤمن يطلبُ العلمَ حيث وجده أعظمَ من طلب صاحب الضَّالَّة لها. الوجه الثامن والخمسون: قال الترمذي: حدثنا أبو كريب: حدثنا خلف بن أيوب، عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خصلتان لا يجتمعان (2) في منافق: حُسْنُ سَمْتٍ، وفقهٌ في الدين» (3). _________ (1) مرفوعة، ولا يصحُّ منها شيء، وثبتَ من قول بعض التابعين. انظر: «مسند الروياني» (1/ 75)، و «التدوين» للرافعي (4/ 95)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (14/ 51، 60)، و «المدخل» للبيهقي (2/ 293)، و «مسند الشهاب» (146)، و «حلية الأولياء» (3/ 354)، و «المقاصد الحسنة» (415)، و «تبييض الصحيفة» (21). (2) كذا في الأصول، حملًا على المعنى. وفي كتاب الترمذي وغيره: «تجتمعان». (3) أخرجه الترمذي (2684)، والطبراني في «الأوسط» (8010)، وأبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (1/ 398)، وغيرهم. قال العقيلي في «الضعفاء» (2/ 24): «ليس له أصلٌ من حديث عوف، وإنما يروى هذا عن أنسٍ بإسنادٍ لا يثبت». وخلف بن أيوب جهَّله الترمذي، وهو فقيهٌ زاهدٌ معروف، وضعَّفه يحيى بن معين. انظر: «التهذيب» (3/ 147). وروي من مرسل محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام عند ابن المبارك في «الزهد» (459). وانظر: «مسند الشهاب» (318). وانظر لحديث أنس الذي أشار إليه العقيلي: «ميزان الاعتدال» (4/ 461).

(1/206)


قال الترمذي: «هذا حديثٌ غريب، ولا يُعرفُ هذا الحديثُ من حديث عوفٍ إلا من حديث هذا الشيخ خلف بن أيوب العامري، ولم أر أحدًا يروي عنه غير أبي كُرَيب محمد بن العلاء، ولا أدري كيف هو». وهذه شهادةٌ بأنَّ من اجتمع فيه حُسْنُ السَّمت والفقهُ في الدين فهو مؤمن، وأحرى بهذا الحديث أن يكون حقًّا، وإن كان إسناده فيه جهالة؛ فإنَّ حُسْنَ السَّمت والفقهَ في الدين من أخصِّ علامات الإيمان، ولن يجمعهما الله في منافق؛ فإنَّ النفاق ينافيهما وينافيانه. الوجه التاسع والخمسون: قال الترمذي: حدثنا مسلمُ بن حاتم الأنصاري أبو حاتم البصري (1): حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بنيَّ، إن قَدرتَ أن تصبحَ وتمسي وليس في قلبك غِشٌّ لأحدٍ فافعَل». ثمَّ قال: «يا بنيَّ، وذلك من سنَّتي، ومن أحيا سنَّتي فقد أحبَّني، ومن أحبَّني كان معي في الجنة» (2)، وفي الحديث قصَّةٌ طويلة. _________ (1) (د، ت، ق): «الأنصاري حدثنا أبو حاتم البصري». وهو خطأ. (2) جزءٌ من حديثٍ طويلٍ أخرجه الترمذيُّ هنا (2678) مقتصرًا على هذا القَدْر، وروى طائفةً منه مفرَّقةً في مواضع أخرى، وأخرجه بطوله أبو يعلى (3624)، والطبراني في «الأوسط» (5991)، وغيرهما. وهو حديثٌ معلول، وقد بيَّن الترمذيُّ علَّته، وله طرقٌ أخرى لا يصحُّ منها شيء، ولا تصلحُ لتقويته. انظر: «الضعفاء» للعقيلي (1/ 148، 119، 2/ 106، 3/ 224)، و «علل ابن أبي حاتم» (1/ 52)، و «نتائج الأفكار» (1/ 168).

(1/207)


قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري صدوق، وأبوه ثقة، وعلي بن زيدٍ صدوقٌ إلا أنه ربما يرفعُ الشيء الذي يُوقِفُه غيره، سمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة: حدثنا عليُّ بن زيدٍ وكان رفَّاعًا». قال الترمذي: «ولا يُعْرَفُ لسعيد بن المسيِّب عن أنس روايةٌ إلا هذا الحديثُ بطوله، وقد روى عبَّادُ المِنْقَري هذا الحديثَ عن عليِّ بن زيدٍ عن أنسٍ ولم يذكر فيه: عن سعيد بن المسيِّب، وذاكرتُ به محمد بن إسماعيل فلم يعرِفه، ولم يعرِف لسعيد بن المسيِّب عن أنسٍ هذا الحديثَ ولا غيره. ومات أنسٌ سنة ثلاثٍ وتسعين، وسعيدُ بن المسيِّب سنةَ خمسٍ وتسعين بعده بسنتين». قلت: ولهذا الحديث شواهد. منها: ما رواه الدارميُّ عبد الله: حدثنا محمد بن عيينة، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: «اعلم»، قال: ما أعلمُ يا رسول الله؟ قال: «اعلم، يا بلال»، قال: ما أعلمُ يا رسول الله؟ قال: «إنه من أحيا سُنَّةً من سنَّتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثلُ من عملَ بها من غير أن ينقصَ من أجورهم شيء، ومن ابتدعَ بدعةَ ضلالةٍ لا يرضاها الله ورسولُه كان عليه من الإثم مثلُ آثام من عملَ بها لا ينقصُ ذلك من أوزار الناس شيئًا» (1). _________ (1) أخرجه الترمذي (2677)، وابن ماجه (209)، والبزار (3385)، وغيرهم. وحسَّنه الترمذيُّ على مذهبه في تحسين حديث كثير بن عبد الله، ومن يضعِّفه ــ وهم الأكثر ــ يضعِّفُ الحديثَ به، وهو الصحيح.

(1/208)


رواه الترمذي عنه، وقال: «حديثٌ حسن». قال: «ومحمد بن عيينة مِصِّيصيٌّ شامي، وكثيرُ بن عبد الله هو كثير بن عمرو بن عوف المزني». وفي حديثه (1) ثلاثة أقوالٍ لأهل الحديث (2): منهم من يصحِّحه، ومنهم من يحسِّنه، وهما للترمذي، ومنهم من يضعِّفه ولا يراه حجَّة، كالإمام أحمد وغيره. ولكنَّ هذا الأصل ثابتٌ من وجوه: كحديث: «من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعه» (3)، وهو صحيحٌ من وجوه. وحديث: «من دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعله» (4)، وهو حديثٌ حسنٌ رواه الترمذي وغيره. فهذا الأصلُ (5) محفوظٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالحديثُ الضعيفُ فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات، فلا يضرُّ ذِكْرُه. الوجه الستون: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوصى بطلبة العلم خيرًا، وما ذاك إلا لفضل مطلوبهم وشرفه. _________ (1) أي: حديث كثير بن عبد الله. (2) انظر: «التهذيب» (8/ 422)، و «الميزان» (3/ 406)، و «جامع الترمذي» (490، 536، 1352، 2630). وليعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 350) قولٌ عجيبٌ في من ذهب إلى تضعيفه. (3) تقدم تخريجه (ص: 167). (4) أخرجه مسلم (1893)، والترمذي (2671) من حديث أبي مسعود الأنصاري. (5) وهو فضلُ إحياء السُّنة، والدعوة إليها.

(1/209)


قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا أبو داود الحَفَري، عن سفيان، عن أبي هارون، قال: كنَّا نأتي أبا سعيد فيقول: مرحبًا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الناس لكم تَبَع، وإنَّ رجالًا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقَّهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا». حدثنا قتيبة: حدثنا رَوْح بن قيس، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأتيكم رجالٌ من قِبَل المشرق يتعلَّمون، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرًا». فكان أبو سعيدٍ إذا رآنا قال: «مرحبًا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (1). قال الترمذي: «هذا حديثٌ لا نعرفُه إلا من حديث أبي هارون العَبْدي، عن أبي سعيد. قال أبو بكر العطَّار (2): قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: كان شعبةُ يضعِّف أبا هارون العَبْدي. قال يحيى: وما زال ابنُ عونٍ يروي عن أبي هارون حتى مات. وأبو هارون: اسمه عِمارةُ بن جُوَين». _________ (1) أخرجه الترمذي (2650، 2651)، وابن ماجه (249)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ أبو هارون العبدي متروك. ورُوِي من أوجهٍ أخرى عن أبي سعيد غيرُ محفوظة، إلا طريق شهر بن حوشب فإن ظاهر كلام ابن معين أنه محفوظ. انظر: «مستدرك الحاكم» (1/ 88)، و «سؤالات ابن الجنيد» (17)، و «المنتخب من العلل للخلال» (131)، و «السلسلة الصحيحة» (280)، و «الروض البسام» (1/ 150). (2) سقطت هذه الواسطة من مطبوعة «جامع الترمذي» في هذا الموضع، وثبتت في مواضع أخرى. انظر: (424، 1950).

(1/210)


الوجه الحادي والستون: ما رواه الترمذي من حديث أبي داود، عن عبد الله بن سَخْبَرة، عن سَخْبَرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من طلب العلمَ كان كفَّارةً لما مضى» (1). هذا الأصلُ لم أجد فيه إلا هذا الحديث، وليس بشيء؛ فإنَّ أبا داود هو نُفَيع الأعمى غيرُ ثقة، ولكن قد تقدَّم أنَّ العالِمَ يستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض. وقد رُوِيَت آثارٌ عديدةٌ عن جماعةٍ من الصحابة في هذا المعنى: منها: ما رواه الثوري، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس: «أنَّ مَلَكًا موكَّلًا بطالب العلم حتى يردَّه من حيث أبداه مغفورًا له» (2). ومنها: ما رواه فِطْرُ بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن علي: «ما انتعَل عبد قطُّ ولا تخفَّف ولا لبسَ ثوبًا ليغدو في طلب العلم إلا غُفِرَت ذنوبُه حيث يخطو عند باب بيته» (3). _________ (1) أخرجه الترمذي (2648)، والدارمي (561)، وغيرهما. قال الترمذي: «هذا حديثٌ ضعيفُ الإسناد؛ أبو داود يُضَعَّف، ولا نعرفُ لعبد الله بن سَخْبَرة كبيرَ شيءٍ ولا لأبيه، واسمُ أبي داود نُفَيْع الأعمى، تكلَّم فيه قتادة وغيرُ واحدٍ من أهل العلم». وقال البخاري عن سخبرة: «روى عنه ابنُه عبد الله، حديثُه ليس من وجهٍ صحيح». «التاريخ الكبير» (4/ 210)، و «الضعفاء الصغير» (159). (2) أخرجه أبو الحسن النعالي في جزء من حديثه (41) مرفوعًا، وفي إسناده: الضحاك بن حجوة، وهو منكر الحديث متهمٌ بالوضع. وعبد الكريم هو ابن أبي المخارق، ضعيفُ الحديث. (3) لم أره موقوفًا. وانظر ما يأتي. وقوله: «تخفَّف» أي: لبس خُفَّه.

(1/211)


وقد رواه ابن عدي مرفوعًا (1)، وقال: «ليس يرويه عن فِطْرٍ غير إسماعيل بن يحيى التيمي». قلت: وقد رواه إسماعيل بن يحيى هذا عن الثوري: حدثنا محمد بن أيوب الجُوزْجاني، عن مجالد، عن الشعبي، عن الأسود، عن عائشة مرفوعًا: «من انتعَل (2) ليتعلَّم خيرًا غُفِرَ له قبل أن يخطو» (3). وقد رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن فِطْر، عن أبي الطفيل، عن علي (4). وهذه الأسانيدُ وإن لم تكن بمفردها حجَّةً فطلبُ العلم من أفضل الحسنات، والحسناتُ يُذْهِبْنَ السيئات، فجديرٌ أن يكون طلبُ العلم ابتغاء وجه الله يكفِّر ما مضى من السيِّئات، فقد دلَّت النصوصُ أنَّ إتباعَ السيِّئة _________ (1) في «الكامل» (1/ 307)، والطبراني في «الأوسط» (5722)، وتمام في «الفوائد» (66 - الروض)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8/ 181). قال ابن عدي: «وهذا الحديثُ عن فِطْر بإسناده باطل؛ ليس يرويه ... » العبارة التي نقلها المصنف، وأورده ابن حبان في ترجمة إسماعيل بن يحيى من «المجروحين» (1/ 126) مستدلًّا به على شدَّة ضعفه وروايته للموضوعات عن الثقات. (2) تحرَّف في بعض المصادر إلى: «انتقل» بالقاف، وبه شرحه المناويُّ في «فيض القدير» (6/ 115)! (3) أخرجه ابن شاهين في «الترغيب في فضائل الأعمال» (219)، وابن النجار في «التاريخ المجدِّد لمدينة السلام» (5/ 216)، وغيرهما من حديث إسماعيل عن الثوري عن مجالدٍ به، ليس فيه ذِكْر محمد بن أيوب الجوزجاني. (4) أخرجه عفيف الدين في «فضل العلم» (122/ 2)، كما في «السلسلة الضعيفة» (2676).

(1/212)


الحسنةَ تمحوها، فكيف بما هو من أفضل الحسنات وأجلِّ الطَّاعات؟! فالعمدةُ على ذلك لا على حديث أبي داود (1)، والله أعلم. وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنَّ الرجل ليخرجُ من منزله وعليه من الذنوب مثلُ جبل تهامة، فإذا سمعَ العلمَ خاف ورجعَ وتاب؛ فانصرفَ إلى منزله وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجالسَ العلماء» (2). الوجه الثاني والستون: ما رواه ابن ماجه في «سننه» من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا في المسجد مجلسان: مجلسٌ يتفقَّهون، ومجلسٌ يَدْعُون الله تعالى ويسألونه؛ فقال: «كلا المجلسين إلى خير؛ أمَّا هؤلاء فيَدْعُون الله، وأمَّا هؤلاء فيتعلَّمون ويفقِّهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم أُرْسِلْتُ»، ثمَّ قعدَ معهم (3). الوجه الثالث والستون: أنَّ الله تبارك وتعالى يباهي ملائكتَه بالقوم الذين يتذاكرون العلم، ويذكرون اللهَ ويحمدُونه على ما منَّ عليهم به منه. قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطَّار: حدثنا أبو نَعامة، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، قال: خرج معاويةُ _________ (1) نُفَيع الأعمى، المتقدِّم، وهو: «من طلب العلم كان كفارة لما مضى». (2) أورده الغزالي في «الإحياء» (1/ 349). ولم أجده مسندًا. (3) أخرجه ابن ماجه (229)، وابن المبارك في «الزهد» (1388)، والطيالسي (2365)، والبزار (2458)، وغيرهم بإسنادٍ فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيفُ الحديث، وقد اضطرب في تسمية شيخه.

(1/213)


إلى المسجد فقال: ما يُجْلِسُكم؟ قالوا: جلسنا نذكرُ الله عز وجل، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أمَا إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقلَّ حديثًا عنه منِّي؛ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقةٍ من أصحابه، قال: «ما يُجْلِسُكم؟» قالوا: جلسنا نذكرُ الله ونحمدُه لِمَا هدانا للإسلام ومنَّ علينا بك. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟» قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: «أمَا إني لم أستحلفكم تهمةً لكم؛ إنه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله تعالى يباهي بكم الملائكة» (1). قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو نَعامة السَّعدي اسمه عمرو بن عيسى، وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مُلّ». فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدونَ الله بذكر أوصافه وآلائه، ويُثْنونَ عليه بذلك، ويذكرونَ حُسْنَ الإسلام، ويعترفونَ لله بالفضل العظيم إذ هداهم له ومنَّ عليهم برسوله. وهذا أشرفُ علمٍ على الإطلاق، ولا يُعنى به إلا الراسخون في العلم؛ فإنه يتضمَّنُ معرفة الله وصفاته وأفعاله ودينه ورسوله، ومحبَّة ذلك وتعظيمَه والفرحَ به، وأحرى بأصحاب (2) هذا العلم أن يباهي اللهُ بهم الملائكة. وقد بشَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الرجلَ الذي كان يحبُّ سورةَ الإخلاص، وقال: _________ (1) «جامع الترمذي» (3379). وأخرجه مسلم في «صحيحه» (2701)، وابن حبان في «صحيحه» (813) بالإسناد نفسه. (2) (ن): «وأحر بأصحاب». (ت): «وأجر أصحاب».

(1/214)


أحبُّها لأنها صفةُ الرحمن عز وجل؛ فقال: «حبُّك إيَّاها أدخلك الجنة» (1). وفي لفظٍ آخر: «أخبِروه أنَّ الله يحبُّه» (2)؛ فدلَّ على أنَّ من أحبَّ صفات الله أحبَّه الله وأدخله الجنة. والجهميةُ أشدُّ الناس نفرةً وتنفيرًا عن صفاته ونعوت كماله، يُعاقِبونَ ويذمُّون من يذكرها ويقرؤها ويجمعُها ويعتني بها، ولهذا لهم المَقْتُ والذَّمُّ عند الأمَّة، وعلى لسان كلِّ عالمٍ من علماء الإسلام، والله تعالى أشدُّ بغضًا ومقتًا لهم، جزاءً وفاقًا. الوجه الرابع والستون: أنَّ أفضلَ منازل الخلق عند الله منزلةُ الرسالة والنبوَّة؛ فاللهُ يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس. وكيف لا يكونُ أفضلَ الخلق عند الله من جعلَهم وسائطَ بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته، وتعريف أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، ومَراضِيه ومَساخِطه، وثوابه وعقابه، وخصَّهم بوحيه، واختصَّهم بتفضيله، وارتضاهم لرسالته إلى عباده، وجعلَهم أزكى العالمين نفوسًا، وأشرفَهم أخلاقًا، وأكملَهم علومًا وأعمالًا، وأحسنَهم (3) خِلْقَة، وأعظمَهم محبَّةً وقبولًا في قلوب الناس، وبرَّأهم من كلِّ وَصْمٍ وكلِّ عيبٍ وكلِّ خُلُقٍ دنيء؟! _________ (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (774) تعليقًا مجزومًا به، ووصله أحمد (3/ 141، 150)، والترمذي (2901)، وغيرهما من حديث أنس بن مالك. وصححه الترمذي، وابن خزيمة (537)، وابن حبان (792)، والحاكم (1/ 240)، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1750). وانظر: «الفتح» (2/ 301)، و «التغليق» (2/ 314). (2) أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813) من حديث عائشة. (3) (ت): «وأكرمهم».

(1/215)


وجعَل أشرفَ مراتب الناس بعدهم مرتبةَ خلافتهم ونيابتهم في أممهم؛ فإنهم يخلُفونهم على منهاجهم وطريقتهم: مِنْ نصيحتهم الأمَّة، وإرشادهم الضالَّ، وتعليمهم الجاهل، ونَصْرِهم المظلوم، وأخْذِهم على يد الظَّالم، وأمرِهم بالمعروف وفعلِه، ونَهْيِهم عن المنكر وتركِه، والدَّعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين، والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين، والجدال بالتي هي أحسنُ للمعاندين المعارضين. فهذه حالُ أتباع المرسلين وورثة النبيِّين؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. وسواءٌ كان المعنى: أنا ومن اتبعني على بصيرةٍ وأنا أدعو إلى الله، أو المعنى: أدعو إلى الله على بصيرة (1)؛ فالقولان (2) متلازمان؛ فإنه لا يكون من أتباعه حقًّا إلا من دعا إلى الله على بصيرة، كما كان متبوعُه - صلى الله عليه وسلم - يفعل (3). فهؤلاء خلفاءُ الرسل حقًّا، وورثتُهم دون الناس، وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به: علمًا وعملًا، وهدايةً وإرشادًا، وصبرًا وجهادًا، وهؤلاء هم الصدِّيقون، وهم أفضلُ أتباع الأنبياء، ورأسُهم وإمامُهم الصِّدِّيق الأكبر أبو بكرٍ رضي الله عنه. _________ (1) أي: ومن اتبعني يدعو كذلك. (2) (د، ح، ن): «والقولان». وسقطت من (ت، ق) مع ما بعدها إلى كلمة «بصيرة»؛ لانتقال النظر. (3) انظر: «مدارج السالكين» (2/ 482)، و «الصواعق المرسلة» (1/ 155)، و «جلاء الأفهام» (581)، و «رسالة ابن القيم إلى بعض إخوانه» (25)، وما سيأتي من الكتاب (ص: 434).

(1/216)


قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]، فذكر مراتبَ السُّعداء، وهي أربعة، وبدأ بأعلاهم مرتبة، ثمَّ الذين يلونهم، إلى آخر المراتب. وهؤلاء الأربعةُ هم أهلُ الجنة الذين هم أهلُها، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. الوجه الخامس والستون: أنَّ الإنسانَ إنما يُمَيَّزُ على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان، وإلا فغيرُه من الدَّوابِّ والسِّباع أكثرُ أكلًا منه، وأقوى بطشًا، وأكثرُ جِماعًا وأولادًا، وأطولُ عُمرًا، وإنما مُيِّزَ على الدَّوابِّ والحيوانات بعلمه وبيانه، فإذا عَدِمَ العلمَ بقي معه القدرُ المشتركُ بينه وبين سائر الدَّوابِّ، وهي الحيوانيَّة المحضة، فلا يبقى فيه فضلًا (1) عليهم، بل قد يبقى شرًّا منهم. كما قال تعالى في هذا الصِّنف من الناس: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، فهؤلاء هم الجُهَّال، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، أي: ليس عندهم محلٌّ قابلٌ للخير، ولو كان محلُّهم قابلًا للخير {لَأَسْمَعَهُمْ} أي: لأفهَمَهم. فالسمعُ هاهنا سَمْعُ فهم، وإلا فسمعُ الصَّوت حاصلٌ لهم، وبه قامت حجَّةُ الله عليهم؛ قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]. وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. _________ (1) كذا رُسِمَت في الأصول، بالألف. والوجهُ أن تكون مرفوعة.

(1/217)


وسواءٌ كان المعنى: ومثَلُ داعي الذين كفروا كمثَل الذي يَنْعِقُ بما لا يَسمعُ من الدوابِّ إلا أصواتًا مجرَّدة، أو كان المعنى: ومثلُ الذين كفروا حين يُنادَوْنَ كمثل دوابِّ الذي يَنْعِقُ بها فلا تسمعُ (1) إلا صوتَ الدعاء والنداء؛ فالقولان متلازمان، بل هما واحد، وإن كان التقديرُ الثاني أقربَ إلى اللفظ وأبلغَ في المعنى (2). فعلى التقديرين، لم يحصُل لهم من الدعوة إلا الصوتُ الحاصل للأنعام؛ فهؤلاء لم يحصُل لهم حقيقةُ الإنسانيَّة التي يُمَيَّزُ (3) بها صاحبُها عن سائر الحيوان. والسمعُ يرادُ به: إدراكُ الصوت، ويرادُ به: فهمُ المعنى، ويرادُ به: القبولُ والإجابة. والثلاثةُ في القرآن (4). فمن الأول: قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، وهذا أصرحُ ما يكونُ في إثبات صفة السمع لله؛ ذكَر الماضي والمضارعَ واسمَ الفاعل: {سَمِعَ}، و {يَسْمَعُ}، وهو {سَمِيعٌ}، وله السمع؛ كما قالت عائشةُ رضي الله عنها: «الحمدُ لله الذي وَسِعَ سمعُه الأصوات، لقد جاءت المُجادِلة تشكو إلى _________ (1) (ت): «ينعق به ولا يسمع». (2) انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 182). (3) (ت): «يتميز». (4) انظر: «الوجوه والنظائر» لمقاتل (226)، وللدامغاني (247)، ولابن الجوزي (346)، ومادة (سمع) في «المفردات»، و «بصائر ذوي التمييز»، و «عمدة الحفاظ».

(1/218)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في جانب البيت، وإنه ليخفى عليَّ بعضُ كلامها، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (1). والثاني: سمعُ الفهم؛ كقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، أي: لأفهَمَهم، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، لِمَا في قلوبهم من الكِبْر والإعراض عن قبول الحقِّ. ففيهم آفتان: إحداهما: أنهم لا يفهمونَ الحقَّ لِجَهْلهم، ولو فهموه لتولَّوا عنه لكِبْرِهم (2)، وهذا غايةُ النقص والعيب. والثالث: سمعُ القبول والإجابة؛ كقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، أي: قابلون (3) لهم، مستجيبون. ومنه قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، أي: قابلون له، مستجيبون لأهله. ومنه قول المُصَلي: «سمع الله لمن حمده»؛ أي: أجاب اللهُ حمدَ من حَمِدَه، ودعاءَ من دعاه، وقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الإمام: سمعَ الله لمن _________ (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (9/ 144) تعليقًا مجزومًا به، ووصله أحمد (6/ 46)، والنسائي (3460)، وابن ماجه (188). وصححه الحاكم (2/ 481)، وابن حجر في «التغليق» (5/ 339). (2) فالآفة الأولى: الجهل. والثانية: الكِبْر. (3) (ت، ق): «قايلون»، بتسهيل الهمز. وفي الموضع الثاني بتحقيقها. وهو خطأ محض.

(1/219)


حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم» (1)، أي: يجيبكم. والمقصودُ أنَّ الإنسانَ إذا لم يكن له علمٌ بما يُصْلِحُه في معاشه ومعاده كان الحيوانُ البهيمُ خيرًا منه؛ لسلامته في المعاد مما يُهْلِكُه، دون الإنسان الجاهل. الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء، فكلُّ شيءٍ اختُلِفَ في وجوده وعدمه، وصحَّته وفساده، ومنفعته ومضرَّته، ورجحانه ونقصانه، وكماله ونقصه، ومدحه وذمِّه، ومرتبته في الخير، وجودته ورداءته، وقُرْبه وبُعْده، وإفضائه إلى مطلوب كذا وعدم إفضائه، وحصول المقصود به وعدم حصوله، إلى سائر جهات المعلومات= فإنَّ العلمَ حاكمٌ على ذلك كلِّه، فإذا حكمَ العلمُ انقطعَ النِّزاعُ ووجبَ الاتِّباع. وهو الحاكمُ على الممالك والسِّياسات، والأموال والأقلام، فمُلكٌ لا يتأيَّدُ بعلمٍ لا يقوم، وسيفٌ بلا علمٍ مِخْراقُ لاعِب (2)، وقلمٌ بلا علمٍ حركةُ عابث، والعلمُ مسلَّطٌ حاكمٌ على ذلك كلِّه، ولا يحكُم شيءٌ من ذلك على العلم. وقد اختُلِفَ في تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء وعكسه، وذُكِرَ لكلِّ قولٍ وجوهٌ من التراجيح والأدلَّة (3)، ونفسُ هذا النزاع دليلٌ على تفضيل _________ (1) أخرجه مسلم (404) من حديث أبي موسى الأشعري. (2) تحرفت في (ت). والمخراق: منديلٌ يلوى فيُضرَب به أو يُلفُّ فيفزَّع به، لعبةٌ يلعب بها الصبيان. ووصف السيف به مشهورٌ في كلام العرب. انظر: «اللسان» (خرق)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (1601). (3) انظر: «العلل المتناهية» (1/ 71)، و «كشف الخفاء» (2/ 262، 543)، و «فيض القدير» (6/ 469، 603)، و «إتحاف السادة المتقين» (1/ 111، 119، 137). ولشيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة قاعدةٌ مفردة. انظر: «أسماء مؤلفاته» لابن رُشَيِّق (308 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام).

(1/220)


العلم ومرتبته؛ فإنَّ الحاكمَ في هذه المسألة هو العلم، فبه (1) وإليه وعنده يقعُ التحاكم والتخاصم، والمُفَضَّلُ منهما من حَكَمَ له بالفضل. فإن قيل: فكيف يُقْبَلُ حكمُه لنفسه؟! قيل: وهذا أيضًا دليلٌ على تفضيله وعلوِّ مرتبته وشرفه؛ فإنَّ الحاكمَ إنما لم يَسُغْ أن يحكمَ لنفسه لأجل مَظِنَّة التُّهمة، والعلمُ لا تلحقُه تهمةٌ في حكمه لنفسه؛ فإنه إذا حكمَ حكمَ بما تشهدُ العقولُ والفِطر (2) بصحَّته، وتتلقَّاه بالقبول. ويستحيلُ حكمُه لتهمة؛ فإنه إذا حَكمَ بها انعزل عن مرتبته، وانحطَّ عن درجته، فهو الشاهدُ المُزكَّى المُعَدَّل، والحاكمُ الذي لا يجورُ ولا يُعْزَل. فإن قيل: فماذا حكمُه في هذه المسألة التي ذكرتموها؟ قيل: هذه المسألةُ كثُر فيها الجدال، واتسع المجال، وأدلى كلٌّ منهما بحجَّته، واستعلى بمرتبته، والذي يفصلُ النزاع، ويعيدُ المسألة إلى مواقع الإجماع: الكلامُ في أنواع مراتب الكمال، وذِكْرُ الأفضل منها، والنظرُ في أيِّ هذين الأمرين أولى به وأقرب إليه؛ فهذه الأصولُ الثلاثةُ تبيِّن الصواب، ويقعُ بها فصلُ الخطاب. _________ (1) (ق، ت، ن): «فيه»، بالياء آخر الحروف. (2) (ت، ق): «والنظر».

(1/221)


فأمَّا مراتبُ الكمال فأربع: النبوَّة، والصِّدِّيقيَّة، والشَّهادة، والوَلاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]. وذَكَر تعالى هؤلاء الأربع في سورة الحديد؛ فذكر تعالى الإيمانَ به وبرسوله، ثمَّ نَدَبَ المؤمنين إلى أن تخشعَ قلوبُهم لكتابه ووحيه، ثمَّ ذكر مراتبَ الخلائق شقيِّهم وسعيدهم؛ فقال: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18 - 19]، وذَكَر المنافقين قبل ذلك؛ فاستوعبت هذه الآيةُ أقسامَ العباد شقيِّهم وسعيدهم، والمقصودُ أنه ذَكَر فيها المراتبَ الأربعة: الرسالة، والصِّدِّيقيَّة، والشَّهادة، والوَلاية. فأعلى هذه المراتب: النبوَّةُ والرسالة. ويليها: الصِّدِّيقيَّة؛ فالصِّدِّيقون هم أئمَّة أتباع الرسل، ودرجتُهم أعلى الدرجات بعد النبوَّة (1). فإن جرى قلمُ العالِم بالصدِّيقيَّة وسال مدادُه بها كان أفضلَ من دم الشَّهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصِّدِّيقيَّة، وإن سال دمُ الشَّهيد بالصِّدِّيقيَّة وقَطَرَ عليها كان أفضلَ من مداد العالِم الذي قصَّرَ عنها، فأفضلُهما _________ (1) انظر: «منهاج السنة» (7/ 385)، و «جواب الاعتراضات المصرية» (79)، و «طريق الهجرتين» (764، 765، 768)، و «زاد المعاد» (3/ 221، 4/ 275).

(1/222)


صِدِّيقُهما، فإن استويا في الصِّدِّيقيَّة استويا في المرتبة، والله أعلم. والصِّدِّيقيَّة: هي كمالُ الإيمان بما جاء به الرسول، علمًا وتصديقًا وقيامًا به (1)؛ فهي راجعةٌ إلى نفس العلم، فكلُّ من كان أعلمَ بما جاء به الرسولُ وأكملَ تصديقًا له كان أتمَّ صدِّيقيَّة؛ فالصِّدِّيقيَّةُ شجرةٌ أصولها العلم، وفروعُها التصديق، وثمرتها العمل. فهذه كلماتٌ جامعةٌ في مسألة العالم والشهيد، وأيهما أفضل (2). الوجه السابع والستون: أنَّ النصوصَ النبويَّة قد تواترت بأنَّ أفضلَ الأعمال إيمانٌ بالله (3)، فهو رأسُ الأمر، والأعمالُ بعده على مراتبها ومنازلها. والإيمان له ركنان: أحدُهما: معرفةُ ما جاء به الرسول، والعلمُ به. والثاني: تصديقُه بالقول والعمل. والتصديقُ بدون العلم والمعرفة مُحَال؛ فإنه فرعُ العلم بالشيء _________ (1) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 41، 226، 443، 2/ 148، 270، 273، 397، 3/ 421)، و «الوابل الصيب» (167)، و «جامع المسائل» (4/ 53). (2) نقل الزبيدي في «الإتحاف» (1/ 137) هذا المبحث كله دون عزو. وهكذا في مواضع أخرى، كما أشرت إلى ذلك في المقدمة. (3) أخرج منها البخاري (26، 2518)، ومسلم (83، 84) حديثَي أبي هريرة وأبي ذر. وفي الباب عن جماعةٍ من الصحابة. انظر: «مجمع الزوائد» (1/ 59، 3/ 207، 8/ 151).

(1/223)


المُصَدَّق به، فإذًا العلمُ من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، ولا تقومُ شجرةُ الإيمان إلا على ساق العلم والمعرفة، فالعلمُ إذًا أجلُّ المطالب وأسنى المواهب. الوجه الثامن والستون: أنَّ صفات الكمال كلَّها ترجعُ إلى العلم والقدرة والإرادة، والإرادةُ فرعُ العلم؛ فإنها تستلزمُ الشعور بالمراد، فهي مفتقرةٌ إلى العلم في ذاتها وحقيقتها، والقدرةُ لا تؤثِّرُ إلا بواسطة الإرادة، والعلمُ لا يفتقر في تعلُّقه بالمعلوم إلى واحدةٍ منهما، وأما القدرة والإرادةُ فكلٌّ منهما يفتقرُ في تعلُّقه بالمراد والمقدور إلى العلم، وذلك يدلُّ على فضيلته وشرف منزلته. الوجه التاسع والستون: أنَّ العلمَ أعمُّ الصِّفات تعلُّقًا بمتعلَّقه وأوسعُها؛ فإنه يتعلَّقُ بالواجب والممكن، والمستحيل والجائز، والموجود والمعدوم، فذاتُ الربِّ سبحانه وصفاته وأسماؤه معلومةٌ له، ويعلمُ العبادُ من ذلك ما علَّمهم العليمُ الخبير. وأما القدرةُ والإرادةُ، فكلٌّ منهما خاصٌّ في التعلُّق (1)؛ أما القدرةُ فإنما تتعلَّقُ بالممكن خاصَّة، لا بالمستحيل ولا بالواجب، فهي أخصُّ من العلم من هذا الوجه، وأعمُّ من الإرادة، فإنَّ الإرادة لا تتعلَّقُ إلا ببعض الممكنات، وهو ما أريدَ وجودُه. فالعلمُ أوسعُ وأعمُّ وأشملُ في ذاته ومتعلَّقه. الوجه السبعون: أنَّ الله سبحانه أخبر عن أهل العلم بأنه جعلَهم أئمَّةً _________ (1) (ت): «خاص من التعلق». (ح، ن): «خاص التعلق».

(1/224)


يَهْدُون بأمره، ويأتمُّ بهم من بعدهم، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً (1) يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. وقال في موضعٍ آخر: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، أي: أئمَّةً يقتدي بنا من بعدنا. فأخبر سبحانه أنَّ بالصَّبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين (2)، وهي أرفعُ مراتب الصِّدِّيقين. واليقينُ هو كمالُ العلم وغايتُه، فبتكميل مرتبة العلم تحصلُ إمامةُ الدين، وهي وَلايةٌ آلتُها العلم، يختصُّ الله بها من يشاء من عباده. الوجه الحادي والسبعون: أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم ضروريَّةٌ فوق حاجة الجسم إلى الغذاء؛ لأنَّ الجسمَ يحتاجُ إلى الغذاء في اليوم مرةً أو مرتين، وحاجةُ الإنسان إلى العلم بعدد الأنفاس؛ لأنَّ كلَّ نَفَسٍ من أنفاسه فهو محتاجٌ فيه إلى أن يكون مصاحبًا للإيمان أو حُكْمِه (3)، فإن فارقه _________ (1) في الأصول: «وجعلناهم أئمة». وهي بعض آيةٍ من سورة الأنبياء: 73، لكنَّ تتمَّتها غيرُ تتمة الآية التي ساقها المصنف. (2) هذه العبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية، والمصنفُ كثيرُ الاستشهاد بها في كتبه. انظر: «الرد الوافر» (126)، و «مدارج السالكين» (2/ 154)، و «زاد المعاد» (3/ 10)، و «الصواعق المرسلة» (1073)، و «إعلام الموقعين» (4/ 135)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 167)، و «الداء والدواء» (221)، وغيرها. (3) حكم الإيمان. وذلك في المجنون والمغمى عليه ونحوهما. وقد اختلف الفقهاء في المكره، هل يشترط أن يستحضر البقاء على الإيمان حال التلفظ بالكفر، أو يكفي استصحاب الحكم؟ وجهان. انظر: «المنثور» للزركشي (1/ 188).

(1/225)


الإيمانُ أو حُكْمُه في نَفَسٍ من أنفاسه فقد عَطِبَ وقَرُبَ هلاكُه، وليس إلى حصول ذلك سبيلٌ إلا بالعلم؛ فالحاجةُ إليه فوق الحاجة إلى الطَّعام والشراب. وقد ذكر الإمامُ أحمد هذا المعنى بعينه، فقال: «الناسُ أحوجُ إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ يُحتاجُ إليه في اليوم مرةً أو مرتين، والعلمُ يُحتاجُ إليه في كلِّ وقت» (1). الوجه الثاني والسبعون: أنَّ صاحبَ العلم أقلُّ تعبًا وعملًا، وأكثرُ أجرًا. واعتبِرْ هذا بالشاهد؛ فإنَّ الصُّنَّاعَ والأُجَراء يُعانونَ الأعمالَ الشاقَّةَ بأنفسهم، والأستاذُ المعلِّمُ يجلسُ يأمرُهم وينهاهُم ويُرِيهم كيفيَّة العمل، ويأخذُ أضعافَ ما يأخذونه. وقد أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى حيث قال: «أفضلُ الأعمال إيمانٌ بالله، ثمَّ الجهاد» (2). فالجهادُ فيه بذلُ النفس وغايةُ المشقَّة، والإيمانُ علمُ القلب وعملُه وتصديقُه، وهو أفضلُ الأعمال، مع أنَّ مشقَّةَ الجهاد فوق مشقَّته بأضعافٍ مضاعفة، وهذا لأنَّ العلمَ يُعَرِّفُ مقاديرَ الأعمال ومراتبها، وفاضلَها من مفضولها، وراجحَها من مرجوحها، فصاحبُه لا يختارُ لنفسه إلا أفضلَ الأعمال، والعاملُ بلا علمٍ يظنُّ أنَّ الفضيلةَ في كثرة المشقة، فهو يتحمَّلُ المشاقَّ وإن كان ما يعانيه مفضولًا، ورُبَّ عملٍ فاضلٍ والمفضولُ أكثرُ مشقةً منه. _________ (1) انظر ما مضى (ص: 164). (2) تقدم تخريجه قريبًا.

(1/226)


واعتبِرْ هذا بحال الصِّدِّيق رضي الله عنه؛ فإنه أفضلُ الأمَّة، ومعلومٌ أنَّ فيهم من هو أكثرُ عملًا وحجًّا وصومًا وصلاةً وقراءةً منه، قال أبو بكر بن عياش: «ما سَبقهم أبو بكرٍ بكثرة صومٍ ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وَقَرَ في قلبه» (1). وهذا موضعُ المثل المشهور (2): مَنْ لي بمثل سَيْرِكَ المُدَلَّلِ ... تمشي رُوَيْدًا (3) وتجي في الأول الوجه الثالث والسبعون: أنَّ العلمَ إمامُ العمل وقائدٌ له، والعملُ تابعٌ له ومؤتمٌّ به، فكلُّ عملٍ لا يكونُ خَلْفَ العلم مقتديًا به فهو غيرُ نافعٍ لصاحبه، بل مضرَّةٌ عليه، كما قال بعضُ السَّلف: «من عبد الله بغير علمٍ كان ما يُفْسِدُ _________ (1) أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 41/ب)، و «الصلاة» (80) من قول بكر بن عبد الله المزني بإسنادٍ صحيح. ولم أقف عليه من قول أبي بكر بن عياش. ورفعه بعضهم، ولا أصل له، وذكره المصنفُ فيما وَضَعَتْهُ جهلةُ المنتسبين إلى السُّنَّة في فضائل الصِّدِّيق رضي الله عنه. انظر: «المنار المنيف» (92)، و «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 23). (2) أنشده ابن تيمية، في «مشيخة اليونيني». انظر: «الرد الوافر» (153)، و «المنهل الصافي» (1/ 52). وهو في «مدارج السالكين» (3/ 7، 144)، و «طريق الهجرتين» (504)، و «لطائف المعارف» لابن رجب (432، 449). وفي مثلٍ مشهورٍ يُضْرَبُ للرجل يدرك حاجته في تؤدة ودعة: * يمشي رويدًا ويكون أوَّلا * انظر: «المعاني الكبير» (1/ 76)، و «مجمع الأمثال» (2/ 253). (3) (ح، ن): «الهوينا».

(1/227)


أكثرَ مما يُصْلِح» (1). والأعمالُ إنما تتفاوتُ في القبول والردِّ بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعملُ الموافقُ للعلم هو المقبول، والمخالفُ له هو المردود؛ فالعلمُ هو الميزانُ وهو المِحَكُّ. قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]؛ قال الفضيل بن عياض: «هو أخلصُ العمل وأصوبُه»، قالوا: يا أبا عليٍّ، ما أخلصُه وأصوبُه؟ قال: «إنَّ العملَ إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالصُ أن يكون لله، والصَّوابُ أن يكون على السُّنَّة» (2). وقد قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. فهذا هو العملُ المقبولُ الذي لا يقبلُ الله من الأعمال سواه؛ وهو أن يكون موافقًا لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مرادًا به وجهُ الله. ولا يتمكَّن العاملُ من الإتيان بعملٍ يجمعُ هذين الوصفين إلا بالعلم؛ _________ (1) أخرجه أحمد في «الزهد» (301)، وابن أبي شيبة (13/ 470)، والدارمي (305)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 431)، وغيرهم من طرقٍ عن عمر بن عبد العزيز. وسيأتي من قول الحسن البصري. وروي مرفوعًا في حديثٍ لا يصح، أخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (830 - زوائده)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 303). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الإخلاص والنية» (22)، - ومن طريقه الثعلبي في «الكشف والبيان» (9/ 356) -، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 95).

(1/228)


فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسولُ لم يمكنه قصدُه، وإن لم يعرف معبودَه لم يمكنه إرادتُه وحده، فلولا العلمُ لما كان عملُه مقبولًا؛ فالعلمُ هو الدليلُ على الإخلاص، وهو الدليلُ على المتابعة. وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وأحسنُ ما قيل في تفسير الآية: أنه إنما يتقبلُ عملَ من اتَّقاه في ذلك العمل، وتقواه فيه أن يكون لوجهه، على موافقة أمره (1). وهذا إنما يحصلُ بالعلم. وإذا كان هذا منزلَ العلم (2) وموقعَه عُلِمَ أنه أشرفُ شيءٍ وأجلُّه وأفضلُه، والله أعلم. الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل، ومعلومٌ أنَّ عَطَبَ مثل هذا أقربُ من سلامته، وإن قُدِّرَ سلامتُه اتفاقًا نادرًا فهو غير محمود، بل مذمومٌ عند العقلاء. وكان شيخُ الإسلام ابن تيمية يقول: «من فارق الدليلَ ضلَّ السبيل، ولا دليلَ إلا ما جاء به الرسول» (3). قال الحسن: «العاملُ على غير علمٍ كالسالك على غير طريق، والعاملُ على غير علمٍ يُفْسِدُ أكثرَ مما يُصْلِح، فاطلبوا العلمَ طلبًا لا تُضِرُّوا بالعبادة، _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 322، 11/ 662، 12/ 483)، و «جامع الرسائل» (1/ 257)، و «منهاج السنة» (5/ 296، 6/ 216). (2) (د، ق، ن): «منزلة العلم». (3) بنحوه في «الفتاوى» (6/ 388، 13/ 136)، و «درء التعارض» (7/ 329). وانظر: «مدارج السالكين» (2/ 469)، وعنه الفيروزابادي في «بصائر ذوي التمييز» (4/ 90) دون عزو.

(1/229)


واطلبوا العبادةَ طلبًا لا تُضِرُّوا بالعلم؛ فإنَّ قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولو طلبوا العلمَ لم يدلَّهم على ما فعلوا» (1). والفرقُ بين هذا الوجه وبين ما قبله: أنَّ العلمَ مرتبتُه في الوجه الأول مرتبةُ المطاع المتبوع المقتدى به المتَّبع حكمُه المطاع أمرُه، ومرتبتُه في هذا الوجه مرتبةُ الدليل المرشد إلى المطلوب الموصل إلى الغاية. الوجه الخامس والسبعون: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثبت في «الصحيح» عنه أنه كان يقول: «اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشَّهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم» (2). وفي بعض «السنن» أنه كان يكبِّر تكبيرةَ الإحرام في صلاة الليل، ثمَّ يدعو بهذا الدعاء (3). والهدايةُ هي العلمُ بالحقِّ مع قصده وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العالِمُ بالحقِّ المريدُ له، وهي أعظمُ نعمةٍ لله على العبد، ولهذا أمرنا سبحانه أن نسأله هدايةَ الصِّراط المستقيم كلَّ يومٍ وليلةٍ في صلواتنا الخمس؛ فإنَّ _________ (1) علَّقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 545)، وروى بعضه ابنُ أبي شيبة في «المصنف» (13/ 499). (2) «صحيح مسلم» (770)، بلفظ: «كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل ... ». (3) أخرجه أبو داود (764). وهو مقتضى رواية مسلم.

(1/230)


العبدَ محتاجٌ إلى معرفة الحقِّ الذي يرضي اللهَ في كلِّ حركةٍ ظاهرةٍ وباطنة، فإذا عرفها فهو محتاجٌ إلى من يُلْهِمُه قصدَ الحقِّ فيجعلُ إرادتَه في قلبه، ثمَّ إلى من يُقْدِرُه على فعله. ومعلومٌ أنَّ ما يجهلُه العبدُ أضعافُ أضعاف ما يعلمُه، وأنَّ كلَّ ما يعلمُه أنه حقٌّ لا تطاوعُه نفسُه على إرادته، ولو أراده (1) لعجز عن كثيرٍ منه؛ فهو مضطرٌّ كلَّ وقتٍ إلى هدايةٍ تتعلَّقُ بالماضي وبالحال وبالمستقبل. أما الماضي، فهو محتاجٌ إلى محاسبة نفسه عليه، وهل وقع على السَّداد فيشكر الله عليه ويستديمُه، أم خرج فيه عن الحقِّ فيتوبَ إلى الله تعالى منه ويستغفره، ويعزمَ على أن لا يعود؟ وأما الهدايةُ في الحال، فهي مطلوبةٌ منه (2)؛ فإنه ابنُ وقته، فيحتاجُ أن يعلمَ حكمَ ما هو متلبِّسٌ به من الأفعال، هل هو صوابٌ أم خطأ؟ وأما المستقبل، فحاجتُه فيه إلى الهداية أظهر؛ ليكونَ سيرُه على الطريق. وإذا كان هذا شأن الهداية عُلِمَ أنَّ العبدَ أشدُّ شيءٍ اضطرارًا إليها، وأنَّ ما يوردُه بعض الناس من السؤال الفاسد، وهو أنَّا إذا كنَّا مهتدين فأيُّ حاجةٍ بنا أن نسأل الله أن يهدينا؟! وهل هذا إلا تحصيلُ الحاصل؟! = أفسدُ سؤالٍ وأبعدُه عن الصواب، وهو دليلٌ على أنَّ صاحبه لم يحصِّل معنى الهداية، ولا أحاط علمًا بحقيقتها ومسمَّاها؛ فلذلك تكلَّفَ من تكلَّفَ الجوابَ عنه بأنَّ _________ (1) (ح): «ولولا إرادته». تحريف. (ن): «ولو أرادته». (2) (ن، ح): «المطلوبة منه».

(1/231)


المعنى: ثَبِّتنا على الهداية وأدِمْها لنا (1). ومن أحاط علمًا بحقيقة الهداية، وحاجة العبد إليها، عَلِمَ أنَّ الذي لم يحصُل له منها أضعافُ ما حصَل له، وأنه كلَّ وقتٍ محتاجٌ إلى هداية متجدِّدة، لا سيَّما والله تعالى خالقُ أفعال القلوب والجوارح، فهو كلَّ وقتٍ محتاجٌ إلى أن يخلقَ الله له هدايةً خاصَّة، ثمَّ إن لم تُصْرَف عنه الموانعُ والصوارفُ التي تمنعُ مُوجَبَ الهداية وتَصْرِفُها لم ينتفع بالهداية، ولم يتمَّ مقصودُها له؛ فإنَّ الحكمَ لا يكفي فيه وجودُ مقتضيه، بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومُنافيه. ومعلومٌ أنَّ وساوس العبد وخواطرَه وشهوات الغيِّ في قلبه كلٌّ منها مانعٌ من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدًى تامًّا؛ فحاجتُه إلى هداية الله له مقرونةٌ بأنفاسه، وهي أعظمُ حاجةٍ للعبد. وذكَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدعاء العظيم القَدْر من أوصاف الله وربوبيَّته ما _________ (1) ذكر هذا المعنى جماعةٌ من المفسرين وشُرَّاح الحديث. انظر: «تفسير الطبري» (1/ 166)، و «تفسير القرطبي» (7/ 27)، و «شرح مسلم» للنووي (6/ 57)، وغيرها. وقد يصحُّ هذا فيمن حصل له الهدى التامُّ المتضمِّنُ لأمورٍ سبعةٍ ذكرها المصنِّف في «بدائع الفوائد» (449). وانظر: «الصلاة وحكم تاركها» (205)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 106)، و «جامع الرسائل» (1/ 98)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 162). وغلا بعض الحنفية في ذلك، فأنكر أن يقول العاطسُ لمن شمَّته من المسلمين: «يهديكم الله»، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قاله لمن كان بحضرته من اليهود! وردَّ عليهم ذلك الطحاويُّ وغيره. انظر: «شرح معاني الآثار» (4/ 301)، و «شرح مشكل الآثار» (10/ 174)، و «جامع العلوم والحكم» (426).

(1/232)


يناسبُ المطلوب: * فإنَّ فَطْرَ السموات والأرض توسُّلٌ إلى الله بهذا الوصف في الهداية (1) للفطرة التي ابتدأ الخلقَ عليها؛ فذَكَر كونَه فاطرَ السموات والأرض. * والمطلوبُ تعليمُ الحقِّ والتوفيقُ له؛ فذَكَر علمَه سبحانه بالغيب والشهادة، وأنَّ من هو بكلِّ شيءٍ عليمٌ جديرٌ أن يطلبَ منه عبدُه أن يعلِّمه ويرشده ويهديه، وهو بمنزلة التوسُّل إلى الغنيِّ بغِناه وسعة كرمه أن يعطيَ عبدَه شيئًا من ماله، والتوسُّل إلى الغفور بسعة مغفرته أن يغفر لعبده، وبعفوه أن يعفو عنه، وبرحمته أن يرحمَه، ونظائرُ ذلك. * وذَكَر ربوبيَّته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل، وهذا ــ والله أعلم ــ لأنَّ المطلوب هدًى يحيا به القلب، وهؤلاء الثلاثةُ الأملاكُ قد جعلَ الله تعالى على أيديهم أسبابَ حياة العباد: أمَّا جبريل، فهو صاحبُ الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، وهو سببُ حياة الدنيا والآخرة. وأمَّا ميكائيل، فهو الموكَّل بالقَطْر الذي به سببُ حياة كلِّ شيء. وأمَّا إسرافيل، فهو الذي ينفخُ في الصُّور فيحيي الله الموتى بنفخته، فإذا هم قيامٌ لربِّ العالمين (2). _________ (1) (ق): «للهداية». (2) انظر: «زاد المعاد» (1/ 43).

(1/233)


 والهدايةُ لها أربعُ مراتب، وهي مذكورةٌ في القرآن (1):

  المرتبة الأولى: الهداية العامَّة؛ وهي هدايةُ كلِّ مخلوقٍ من الحيوان والآدميِّ لمصالحه التي بها قيامُ أمره.

قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]؛ فذكر أمورًا أربعة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية، فسوَّى ما خلقه وأتقنه وأحكمه، ثمَّ قدَّر له أسبابَ مصالحه في معاشه وتقلُّباته وتصرُّفاته، وهداه إليها، والهدايةُ تعليمٌ؛ فذَكَر أنه الذي خلقَ وعلَّم، كما ذَكَر نظيرَ ذلك في أول سورةٍ أنزلها على رسوله، وقد تقدَّم ذلك (2). وقال تعالى حكايةً عن عدوِّه فرعون أنه قال لموسى: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50]. وهذه المرتبةُ أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها.

  المرتبة الثانية: هدايةُ البيان والدَّلالة التي أقامَ بها حجَّتَه على عباده. وهذه لا تستلزمُ الاهتداءَ التام.

قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، يعني: بيَّنَّا لهم ودلَلْناهم وعرَّفناهم، فآثروا الضلالةَ والعمى. _________ (1) انظر: «الوجوه والنظائر» لمقاتل (256)، وللدامغاني (473)، ولابن الجوزي (626)، و «تأويل مشكل القرآن» (443)، و «المفردات» (هدى)، و «بصائر ذوي التمييز» (5/ 312)، و «شفاء العليل» (229)، و «البدائع» (445). (2) (ص: 157).

(1/234)


وقال الله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]. وهذه المرتبةُ أخصُّ من الأولى، وأعمُّ من الثالثة، وهي هدى التوفيق والإلهام؛ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، فعَمَّ بالدعوة خلقَه، وخَصَّ بالهداية من شاء منهم. وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، مع قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فأثبتَ هدايةَ الدعوة والبيان، ونفى هدايةَ التوفيق والإلهام. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في تشهُّد الحاجة: «من يهد اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له» (1). وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، أي: من يضلُّه اللهُ لا يهتدي أبدًا.

وهذه الهدايةُ الثالثةُ هي الهدايةُ الموجبةُ المستلزمةُ للاهتداء، وأما الثانية فشرطٌ لا مُوجِب، فلا يستحيلُ تخلُّفُ الهدى عنها، بخلاف الثالثة فإنَّ تخلُّفَ الهدى عنها مستحيل.

  المرتبة الرابعة: الهدايةُ في الآخرة إلى طريق الجنة والنار

. قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ _________ (1) أخرجه مسلم (867، 868) من حديث جابر وابن عباس.

(1/235)


فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]. وأمَّا قولُ أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، فيحتملُ أن يكونوا أرادوا الهدايةَ إلى طريق الجنة، وأن يكونوا أرادوا الهدايةَ في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم. ولو قيل: إنَّ كلا الأمرين مرادٌ لهم، وأنهم حمدوا اللهَ على هدايته لهم في الدنيا، وهدايتهم إلى طريق الجنة؛ كان أحسنَ وأبلغ. وقد ضربَ الله تعالى لمن لم يحصُل له العلمُ بالحقِّ واتباعه مثَلًا مطابقًا لحاله؛ فقال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]. الوجه السادس والسبعون: أنَّ فضيلةَ الشيء وشرفه يظهرُ تارةً من عموم منفعته، وتارةً من شدَّة الحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، وتارةً من ظهور النقص والشرِّ بفَقْدِه، وتارةً من حصول اللذَّة والسرور والبهجة بوجوده ــ لكونه محبوبًا ملائمًا، فإدراكُه يُعْقِبُ غايةَ اللذَّة ــ، وتارةً من كمال الثمرة المترتِّبة عليه، وشرف علَّته الغائيَّة (1)، وإفضائه إلى أجلِّ المطالب. وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهرُ من متعلَّقه؛ فإذا كان في نفسه كمالًا وشرفًا ــ بقطع النظر عن متعلَّقاته ــ جمعَ جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلَّقه. _________ (1) وهي ما يوجدُ الشيءُ لأجله. «التعريفات» (155).

(1/236)


ومعلومٌ أنَّ هذه الجهات بأسرها حاصلةٌ للعلم؛ فإنه أعمُّ شيءٍ نفعًا، وأكثره وأدومُه، والحاجةُ إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفُّس؛ إذ غايةُ ما يُتَصوَّرُ من فقدهما فقدُ حياة الجسم، وأما فقدُ العلم ففيه فقدُ حياة القلب والروح؛ فلا غَناءَ للعبد عنه طرفةَ عين، ولهذا إذا فُقِدَ من الشخص كان شرًّا من الحمير، بل كان شرَّ الدوابِّ (1) عند الله، ولا شيء أنقصُ منه حينئذ. وأما حصولُ اللذَّة والبهجة بوجوده؛ فلأنه كمالٌ في نفسه، وهو ملائمٌ غايةَ الملاءمة للنفوس؛ فإنَّ الجهلَ مرضٌ ونقص، وهو في غاية الإيذاء والإيلام للنفس، ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفَقْدِ حسِّه وموت نفسه، و «ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ» (2). فحصولُه للنفس إدراكٌ منها لغاية محبوبها، واتصالٌ به، وذلك في غاية لذَّتها وفرحتها، وهذا بحسب المعلوم في نفسه ومحبة النفس له ولذَّتها بقربه، والعلومُ والمعلوماتُ متفاوتةٌ في ذلك أعظمَ التفاوت وأبينَه، فليس علمُ النفوس بفاطرها وباريها ومبدعها ومحبَّته والتقرُّب إليه كعلمها بالطبيعة وأحوالها وعوارضها وصحَّتها وفسادها وحركاتها. وهذا يتبيَّن بالوجه السابع والسبعين: وهو أنَّ شرفَ العلم تابعٌ لشرف معلومه، ولوثوق النفس بأدلَّة وجوده وبراهينه، ولشدَّة الحاجة إلى معرفته، وعِظَم النفع بها. _________ (1) (د، ت، ق): «شرا من الدواب». (2) عجزُ بيتٍ للمتنبي، في «ديوانه» (149)، وصدرُه: * من يهن يسهل الهوانُ عليه *

(1/237)


ولا ريب أنَّ أجلَّ معلومٍ وأعظمَه وأكبَره فهو الله الذي لا إله إلا هو، ربُّ العالمين، وقيومُ السموات والأرضين، الملكُ الحقُّ المبين، الموصوفُ بالكمال كلِّه، المنزَّه عن كلِّ عيبٍ ونقص، وعن كلِّ تمثيلٍ وتشبيهٍ في كماله. ولا ريب أنَّ العلمَ به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجلُّ العلوم وأفضلُها، ونسبتُه إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، وكما أنَّ العلمَ به أجلُّ العلوم وأشرفُها فهو أصلُها كلِّها، كما أنَّ كلَّ موجودٍ فهو مستندٌ في وجوده إلى الملك الحقِّ المبين ومفتقرٌ إليه في تحقُّق ذاته وإنِّيَّته (1)، وكلُّ علمٍ فهو تابعٌ للعلم به مفتقرٌ في تحقيق ذاته إليه؛ فالعلمُ به أصلُ كلِّ علم، كما أنه سبحانه ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه ومُوجِدُه. ولا ريب أنَّ كمال العلم بالسبب التامِّ وكونَه سببًا يستلزمُ العلمَ بمسبِّبه كما أنَّ العلمَ بالعلة التامَّة ومعرفةَ كونها علَّةً يستلزمُ العلم بالمعلول (2)، وكلُّ موجودٍ سوى الله فهو مستندٌ في وجوده إليه استنادَ المصنوع إلى صانعه، والمفعول إلى فاعله؛ فالعلمُ بذاته سبحانه وصفاته وأفعاله يستلزمُ العلمَ بما سواه، فهو في ذاته ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، والعلمُ به أصلُ كلِّ علم ومنشؤه؛ فمن عرفَ اللهَ عرفَ ما سواه، ومن جهلَ ربَّه فهو لما سواهُ أجهل. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، فتأمَّل هذه الآية تجد تحتها معنًى شريفًا عظيمًا: أنَّ من نسيَ ربَّه أنساه ذاتَه _________ (1) مهملة في (د، ق). (ت): «وأبنيته». والإنِّيَّة: اصطلاحٌ فلسفيٌّ قديم، يعني تحقُّق الوجود العَينيِّ من حيث مرتبته الذاتية. «التعريفات» (38)، و «الكليات» (190)، و «المعجم الفلسفي» (1/ 169). (2) (ق): «بمعلوله». (ح): «بالمعلوم».

(1/238)


ونفسَه، فلم يعرف حقيقتَه ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومعاده، فصار معطَّلًا مهملًا بمنزلة الأنعام السائمة، بل ربما كانت الأنعامُ أخبَر بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها التامِّ الذي أعطاها إياه خالقُها، وأمَّا هذا فخرج عن فطرته التي خُلِقَ عليها، فنسي ربَّه، فأنساه نفسَه وصفاتها، وما تكمُل به وتزكو به وتسعدُ به في معاشها ومعادها. قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فغفَل عن ذكر ربِّه، فانفرط عليه أمرُه وقلبُه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسُه وقلبُه، بل هو مشتَّتُ القلب مُضيَّعُه، منفرطُ الأمر حيرانُ لا يهتدي سبيلًا (1). والمقصودُ أنَّ العلمَ بالله أصلُ كلِّ علم، وهو أصلُ علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهلُ به مستلزمٌ للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلحُ به، فالعلمُ به سعادةُ العبد، والجهلُ به أصلُ شقاوته. ويزيده إيضاحًا: الوجه الثامنُ والسبعون: أنه لا شيء أطيبُ للعبد ولا ألذُّ ولا أهنأُ ولا أنعمُ لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه، ودوام ذكره، والسعي في مرضاته. وهذا هو الكمالُ الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خُلِقَ الخلق، ولأجله أُنزِل الوحي، وأُرسِلَت الرسل، وقامت السمواتُ والأرض، ووُجِدَت الجنةُ والنار، ولأجله شُرِعَت الشرائع، ووُضِعَ البيتُ الحرام، ووجبَ حجُّه على _________ (1) انظر: «الوابل الصيب» (93، 104، 105).

(1/239)


الناس؛ إقامةً لذكره الذي هو من توابع محبته والرضا به وعنه، ولأجل هذا أُمِرَ بالجهاد وضَرْب أعناق من أباه وآثرَ غيرَه عليه، وجُعِل له في الآخرة دارُ الهوان خالدًا مخلَّدًا، وعلى هذا الأمر العظيم أُسِّسَت الملَّة، ونُصِبَت القبلة، وهو قطبُ رحى الخلق والأمر الذي مدارُهما عليه. ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك إلا من باب العلم؛ فإنَّ محبةَ الشيء فرعٌ على الشُّعور به، وأعرفُ الخلق بالله أشدُّهم حبًّا له، فكلُّ من عرفَ اللهَ أحبَّه، ومن عرفَ الدنيا وأهلها زَهِدَ فيهم. فالعلمُ يفتحُ هذا البابَ العظيم الذي هو سرُّ الخلق والأمر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الوجه التاسع والسبعون: أنَّ اللذَّة بالمحبوب تَضْعُفُ وتقوى بحسب قوَّة الحبِّ وضعفه، فكلما كان الحبُّ أقوى كانت اللذَّةُ أعظم، ولهذا تَعْظُمُ لذَّةُ الظمآن بشرب الماء البارد بحسب شدَّة طلبه للماء، وكذلك الجائع، وكذلك من أحبَّ شيئًا كانت لذَّتُه على قدر حبِّه إياه، والحبُّ تابعٌ للعلم بالمحبوب ومعرفة جماله الظاهر والباطن، فلذةُ النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوَّة حبِّه وإرادته، وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله. فإذًا العلمُ هو أقربُ الطرق إلى أعظم اللذَّات. وسيأتي تقريرُ هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى. الوجه الثمانون: أنَّ كلَّ ما سوى الله مفتقرٌ إلى العلم لا قِوامَ له بدونه؛ فإنَّ الوجودَ وجودان: وجودُ الخلق، ووجودُ الأمر. والخلقُ والأمرُ مصدرُهما علمُ الربِّ وحكمتُه، فكلُّ ما ضمَّه الوجودُ من خلقه وأمره صادرٌ عن علمه وحكمته، فما قامت السمواتُ والأرضُ وما

(1/240)


بينهما إلا بالعلم، ولا بُعِثَت الرسلُ وأُنزِلت الكتبُ إلا بالعلم، ولا عبد اللهُ وَوُحِّدَ (1) وحُمِدَ وأُثنِيَ عليه ومُجِّدَ إلا بالعلم، ولا عُرِفَ الحلالُ من الحرام إلا بالعلم، ولا عُرِفَ فضلُ الإسلام على غيره إلا بالعلم. واختُلِفَ هنا في مسألة؛ وهي أنَّ العلمَ صفةٌ فعليةٌ أو انفعالية؟ (2) فقالت طائفة: هو صفةٌ فعلية؛ لأنه شرطٌ أو جزءُ سببٍ في وجود المفعول؛ فإنَّ الفعلَ الاختياريَّ يستدعي حياةَ الفاعل وعلمه وقدرته وإرادته، ولا يُتَصَوَّرُ وجودُه بدون هذه الصِّفات. وقالت طائفة: هو انفعالي؛ فإنه تابعٌ للمعلوم، متعلِّقٌ به على ما هو عليه؛ فإنَّ العالِمَ يدركُ المعلومَ على ما هو به، فإدراكُه تابعٌ له، فكيف يكونُ (3) متقدِّمًا عليه؟! والصوابُ أنَّ العلمَ قسمان: * علمٌ فعليٌّ، وهو علمُ الفاعل المختار بما يريدُ أن يفعلَه، فإنه موقوفٌ على إرادته الموقوفة على تصوُّره المرادَ وعلمه به. فهذا علمٌ قبل الفعل، متقدِّمٌ عليه، مؤثِّرٌ فيه. * وعلمٌ انفعاليٌّ، وهو العلمُ التابعُ للمعلوم، الذي لا تأثيرَ له فيه؛ كعلمنا بوجود الأنبياء والأمم والملوك وسائر الموجودات؛ فإنَّ هذا العلمَ لا _________ (1) (ت، د، ق): «عبد الله وحده». (2) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 183)، و «الهوامل والشوامل» (137)، و «الكليات» (616). (3) (د، ت، ق): «فيكون».

(1/241)


يؤثِّرُ في المعلوم، ولا هو شرطٌ فيه. فكلٌّ من الطائفتين نظرَت جزئيًّا وحكمَت كليًّا، وهذا موضعٌ يغلطُ فيه كثيرٌ من الناس، وكلا القسمين من العلم صفةُ كمال، وعدمُه من أعظم النقص. يوضحُه: الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه. * فالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَه الضِّدُّ * (1) * وبضدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ * (2) ولا ريب أنَّ الجهلَ أصلُ كلِّ فساد، وكلُّ ضررٍ يلحقُ العبدَ في دنياه وأخراه فهو نتيجةُ الجهل، وإلا فمع العلم التامِّ بأنَّ هذا الطعام ــ مثلًا ــ مسمومٌ مَنْ أكلَه قطَّعَ أمعاءه في وقتٍ معيَّن، لا يُقْدِمُ على أكله، وإن قُدِّرَ أنه أقدمَ عليه لغلبة جوعٍ أو استعجال وفاةٍ فهو لعلمه بموافقة أكله لمقصوده _________ (1) عجزُ بيتٍ، صدرُه: * ضِدَّان لما استجمعا حَسُنَا * من القصيدة الفائقة المشهورة بـ «اليتيمة». وفي نسبتها تنازعٌ وخلافٌ كثير، وغَلَبَ عليها شاعران: أبو الشِّيص الخزاعي، وهي في ديوانه (136)، وعلي بن جبلة العكوَّك، وهي في شِعره المجموع (116). ونُشِرَت مفردة. وانظر: «فهرسة ابن خير» (401)، و «بحوث وتحقيقات» للميمني (1/ 455)، و «القصيدة اليتيمة» للمنجد. (2) عجزُ بيتٍ للمتنبي في ديوانه (117). وصدرُه: * ونَذِيمهم وبهم عرفنا فضله *

(1/242)


الذي هو أحبُّ إليه من العذاب بالجوع أو بغيره. وهنا اختُلِفَ في مسألةٍ عظيمة؛ وهي أنَّ العلمَ هل يستلزمُ الاهتداء، ولا يتخلَّف عنه الهدى إلا لعدم العلم أو نقصه، وإلا فمع المعرفة الجازمة لا يُتَصَوَّر الضلال؟ أو أنه لا يستلزمُ الهدى، فقد يكونُ الرجلُ عالمًا وهو ضالٌّ على عَمْد؟ هذا مما اختلف فيه المتكلِّمون وأربابُ السلوك وغيرهم. * فقالت فرقة: من عرفَ الحقَّ معرفةً لا يشُكُّ فيها استحالَ أن لا يهتدي، وحيث ضلَّ فلنقصان علمه. واحتجُّوا من النصوص بقوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162]، فشهدَ تعالى لكلِّ راسخٍ في العلم بالإيمان، وبقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وبقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وبقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، وبقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]، قسمَ الناس قسمين: أحدهما: العلماءُ بأن ما أُنزِلَ إليه من ربِّه هو الحق. الثَّاني: العُمْي. فدلَّ على أنه لا واسطةَ بينهما.

(1/243)


وبقوله تعالى في وصف الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وبقوله: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93]، وبقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]. وهذه مداركُ العلم الثلاثُ قد سُدَّت عليهم (1). وكذلك قولُه تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. وقولُه تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قال سعيد بن جبير: «على عِلْمِه تعالى فيه» (2). قال الزجاج (3): «أي: على ما سبقَ في علمه تعالى أنه ضالٌّ قبل أن يخلقه». {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} أي: طبعَ عليه فلم يسمع الهدى، وعلى قلبه فلم يعقل الهدى، و {عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} فهو لا يبصرُ أسبابَ الهدى. وهذا في القرآن كثير، مما يبيَّنُ فيه منافاةُ الضلال للعلم، ومنه قولُه تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، فلو كانوا علموا ما قال الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لم يسألوا أهلَ العلم ماذا قال، ولما كان مطبوعًا _________ (1) (ح، ن): «قد فسدت عليهم». (2) أخرج اللالكائي في «السنة» (1003)، وابن بطة في «الإبانة» (1622 - القدر)، والطبري في «التفسير» (22/ 76)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 309) نحوه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. (3) في «معاني القرآن» (4/ 433).

(1/244)


على قلوبهم. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108]؛ فهذه شهادةٌ من الله تعالى لأولي العلم بالإيمان به وبكلامه. وقال الله تعالى عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]؛ فدلَّ على أنَّ أهل الضلال (1) لا سمعَ لهم ولا عقل. وقال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]؛ أخبر تعالى أنه لا يَعْقِلُ أمثالَه إلا العالِمون، والكفارُ لا يدخلون في مسمَّى العالِمين؛ فهم لا يعقلونها. وقال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29]، وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118]، وقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمر: 9]، ولو كان الضلالُ يُجامِعُ العلمَ لكان الذين لا يعلمون أحسنَ حالًا من بعض الذين يعلمون، والنصُّ بخلافه. والقرآنُ مملوءٌ بسلب العلم والمعرفة عن الكفار؛ فتارةً يصفهم بأنهم لا يعلمون، وتارةً بأنهم لا يعقلون، وتارةً بأنهم لا يشعرون، وتارةً بأنهم لا يفقهون، وتارةً بأنهم لا يسمعون، ــ والمرادُ بالسمع المنفيِّ: سمعُ الفهم، _________ (1) (ح، ن): «أصحاب الضلال».

(1/245)


وهو سمعُ القلب، لا إدراكُ الصوت ــ، وتارةً بأنهم لا يبصرون؛ فدلَّ ذلك كلُّه على أنَّ الكفر مستلزمٌ للجهل، منافٍ للعلم لا يُجامِعه. ولهذا يصفُ اللهُ سبحانه الكفارَ بأنهم جاهلون؛ كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بلغ قومُه من أذاه ذلك المبلغ: «اللهمَّ اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون» (1). وفي «الصحيحين» عنه: «من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين» (2)؛ فدلَّ على أنَّ الفقهَ مستلزمٌ لإرادة الله الخيرَ في العبد، ولا يقال: الحديثُ دلَّ على أنَّ من أراد الله به خيرًا فقَّهه في الدين، ولا يدلُّ على أنَّ كلَّ من فقَّهه في الدين فقد أراد به خيرًا، وبينهما فرق، ودليلُكم إنما يتمُّ بالتقدير الثاني، والحديثُ لا يقتضيه= لأنَّا نقول: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جعل الفقهَ في الدين دليلًا وعلامةً على إرادة الله بصاحبه خيرًا، والدليلُ يستلزمُ المدلول ولا يتخلَّفُ _________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/ 123)، ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 338)، والطبراني في «الكبير» (6/ 120)، وغيرهم من حديث سهل بن سعد بإسنادٍ حسن. وصححه ابن حبان (973). وقال الهيثمي في «المجمع» (6/ 117): «ورجاله رجال الصحيح». (2) «البخاري» (71)، و «مسلم» (1037) عن معاوية.

(1/246)


عنه؛ فإنَّ المدلولَ لازمُه، ووجودُ الملزوم بدون لازمه محال (1). وفي الترمذي وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم -: «خصلتان لا يجتمعان في منافق: حُسْنُ سَمْت، وفقهٌ في الدين» (2)؛ فجعلَ الفقه في الدين منافيًا للنفاق. بل لم يكن السَّلفُ يطلقون اسمَ الفقه إلا على العلم الذي يصحبُه العمل؛ كما سئل سعدُ بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة فقال: أتقاهم (3). وسأل فرقدُ السَّبَخي الحسنَ البصريَّ عن شيءٍ، فأجابه، فقال: إنَّ الفقهاءَ يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمُّك فُرَيْقِد!، وهل رأيتَ بعينيك فقيهًا؟! إنما الفقيهُ الزاهدُ الراغبُ في الآخرة، البصيرُ بدينه، المداومُ على عبادة ربِّه، الذي لا يهمِزُ مَنْ فوقه، ولا يسخرُ ممَّن دونه، ولا يبتغي على علمٍ علَّمه الله تعالى أجرًا (4). _________ (1) في طرَّة (ح) في هذا الموضع: «[وقع في] كلامه على الحديث خللٌ أظنُّه من الكاتب؛ [فإنَّ] منطوق الحديث يدل على أن من أراد الله به خيرًا فقَّهه في الدين، ومفهومُه يدل على أن من لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرًا. ولا يدل الحديث [على] أن كل من فقه في الدين قد أريد به خيرًا. والله أعلم». خطه. قلت: كلامُ المصنف ظاهر، ولم يزد كاتبُ الحاشية على أن أعاد الاعتراض الذي أجاب عنه المصنف. (2) تقدم تخريجه (ص: 206). (3) أخرجه الدارمي (295)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 169)، وغيرهما. (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (30)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 398)، والدارمي (294)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 147، 6/ 178)، والبيهقي في «المدخل» (504)، والآجري في «أخلاق العلماء» (74)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 341)، وغيرهم. والسائل في بعض هذه المصادر هو عمران القصير، وفي بعضها: مطر الوراق. وأُبهِمَ في الباقي. ولم أقف عليه من طريق فرقد السبخي.

(1/247)


وقال بعضُ السَّلف: «إنَّ الفقيهَ من لم يُقْنِط الناسَ من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يَدَع القرآن رغبةً عنه إلى ما سواه» (1). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار بالله جهلًا» (2). قالوا: فهذا القرآنُ والسنَّة وإطلاقُ السلف من الصحابة والتابعين يدلُّ على أنَّ العلمَ والمعرفةَ مستلزمٌ للهداية، وأنَّ عدمَ الهداية دليلٌ على الجهل وعدم العلم. قالوا: ويدلُّ عليه أنَّ الإنسانَ ما دام عقلُه معه لا يُؤْثِرُ هلاكَ نفسه على نجاتها، وعذابها العظيمَ الدائمَ على نعيمها المقيم، والحسُّ شاهدٌ بذلك. ولهذا وصف اللهُ سبحانه أهل معصيته بالجهل في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]. _________ (1) أخرجه الدارمي (297) عن علي رضي الله عنه موقوفًا بإسنادٍ ضعيف. وأخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (2/ 811) عنه مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف، ثم قال: «لا يأتي هذا الحديث مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وأكثرهم يوقفونه على علي رضي الله عنه». وانظر: «السلسلة الضعيفة» (734). وللحديث طريقان آخران عند أبي نعيم في «الحلية» (1/ 77)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 338)، وغيرهما. (2) تقدم تخريجه (ص: 138).

(1/248)


قال سفيانُ الثوري: «كلُّ من عمل ذنبًا من خلق الله فهو جاهل، سواءٌ كان جاهلًا أو عالمًا؛ إن كان عالمًا فمَنْ أجهلُ منه؟! وإن كان لا يعلم فمثلُ ذلك» (1). وقولُه: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: قبل الموت (2). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «ذنبُ المؤمن جهلٌ منه» (3). قال قتادة: «أجمع أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ كلَّ شيءٍ عُصِيَ اللهُ به فهو جهالةٌ» (4). وقال السُّدِّي: «كلُّ من عصى اللهَ فهو جاهل» (5). قالوا: ويدلُّ على صحة هذا أنَّ مع كمال العلم لا تصدرُ المعصيةُ من العبد؛ فإنه لو رأى صبيًّا يتطلَّعُ عليه من كُوَّةٍ لم تتحرَّك جوارحُه لمواقعة الفاحشة، فكيف تقعُ منه حالَ كمال علمه بنظر الله إليه، ورؤيته له، وعقابه على الذنب، وتحريمه له، وسوء عاقبته؟! فلا بد من غفلة القلب عن هذا العلم، وغيبته عنه، فحينئذٍ يكونُ وقوعُه في المعصية صادرًا عن جهلٍ وغفلةٍ ونسيانٍ مضادٍّ للعلم. _________ (1) ورد مختصرًا عن مجاهد، وعطاء، وابن زيد. انظر: تفسير القرآن من «الجامع» لابن وهب (1/ 18)، و «تفسير الطبري» (8/ 89، 90). (2) كذا ورد القول في الأصل دون نسبة. وهو قول جمهور المفسرين. انظر: «الدر المنثور» (2/ 459)، و «مدارج السالكين» (1/ 284)، و «شفاء العليل» (491). (3) أخرجه بنحوه الطبري (8/ 90). (4) أخرجه عبد الرزاق (1/ 151)، ومن طريقه الطبري (8/ 89). (5) أخرجه الطبري (8/ 89).

(1/249)


والذنبُ محفوفٌ بجهلين: جهلٍ بحقيقة الأسباب الصَّارفة عنه، وجهلٍ بحقيقة المفسدة المترتِّبة عليه. وكلُّ واحدٍ من الجهلين تحته جهالاتٌ كثيرة. فما عُصِيَ اللهُ إلا بالجهل، وما أُطِيعَ إلا بالعلم. فهذا بعضُ ما احتجَّت به هذه الطائفة. * وقالت الطائفة الأخرى: العلمُ لا يستلزمُ الهداية، وكثيرًا ما يكونُ الضلالُ عن عمدٍ وعلمٍ لا يشُكُّ صاحبُه فيه، بل يُؤثِرُ الضلالَ والكفرَ وهو عالمٌ بقبحه ومفسدته. قالوا: وهذا شيخُ الضلال، وداعي الكفر، وإمامُ الفجرة، إبليسُ عدوُّ الله، قد علمَ أمرَ الله له بالسجود لآدم ولم يشكَّ فيه، فخالفه وعاندَ الأمرَ وباء بلعنة الله وعذابه الدائم، مع علمه بذلك ومعرفته به، وأقسمَ له بعزَّته أنه يغوي خلقَه أجمعين إلا عبادَه منهم المخلصين؛ فكان غير شاكٍّ في الله وفي وحدانيَّته، وفي البعث الآخر، وفي الجنة والنار، ومع ذلك اختارَ الخلودَ في النار واحتمالَ لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنَّته عن علمٍ بذلك ومعرفةٍ لم تحصل لكثيرٍ من الناس، ولهذا قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36]، وهذا اعترافٌ منه بالبعث وإقرارٌ به، وقد عَلِمَ قَسَمَ ربِّه ليملأنَّ جهنَّم منه ومن أتباعه؛ فكان كفرُه كفرَ عنادٍ محضٍ لا كفرَ جهل. وقال الله تعالى إخبارًا عن قوم صالح (1): {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، يعني: بيَّنَّا لهم وعرَّفناهم، فعرفوا الحقَّ وتيقَّنوه، وآثروا العمى عليه. أفكان كفرُ هؤلاء عن جهل؟! _________ (1) ساقطة من (ق). وفي (ت، ح، ن): «ثمود».

(1/250)


وقال تعالى حاكيًا عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] أي: هالكًا، على قراءة فَتْح التاء، وهي قراءةُ الجمهور. وضمَّها الكسائيُّ وحده (1). وقراءةُ الجمهور أحسنُ وأوضح وأفخمُ معنى، وبها تقومُ الدلالة، ويتمُّ الإلزام، ويتحقَّقُ كفرُ فرعون وعنادُه، ويشهدُ لها قولُه تعالى إخبارًا عنه وعن قومه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 - 14]؛ فأخبر سبحانه أنَّ تكذيبَهم وكفرهم كان عن يقينٍ ــ وهو أقوى العلم ــ ظلمًا منهم وعلوًّا، لا جهلًا. وقال تعالى لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، يعني: أنهم قد عرفوا صدقَك، وأنك غيرُ كاذبٍ فيما تقول، ولكن عاندوا وجحدوا بالمعرفة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما والمفسِّرون (2). قال قتادة: «يعلمون أنك رسولُ الله ولكن يجحدون» (3)، كقوله (4) عزَّ وجلَّ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}. _________ (1) انظر: «التبصرة» لمكِّي (571)، و «النشر» لابن الجزري (2/ 309). (2) انظر: «الدر المنثور» (3/ 9، 10). (3) أخرجه عبد الرزاق (2/ 207)، ومن طريقه الطبري (11/ 333). (4) (ت): «لقوله».

(1/251)


وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70 - 71] يعني: تكفرون بالقرآن وبمن جاء به، وأنتم تشهدون بصحَّته وأنه الحقُّ، فكفرُكم كفرُ عنادٍ وجحودٍ عن علمٍ وشهود، لا عن جهلٍ وخفاء. وقال تعالى عن السحرة من اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ} [البقرة: 102] أي: علموا أنَّ من أخذَ السحرَ وقَبِلَه لا نصيبَ له في الآخرة، ومع هذا العلم والمعرفة فهم يشترونه ويقبلونه ويتعلَّمونه. وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ذَكَر هذه المعرفةَ عن أهل الكتاب في القبلة، كما في سورة البقرة، وفي التوحيد، كقوله في الأنعام: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ}، وفي الكتاب أنه منزَّلٌ من عند الله، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]. وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هم قريظةُ والنضيرُ ومن دانَ بدينهم، كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كانوا قبل مبعثه مؤمنين به وشهدوا له بالنبوَّة، وإنما كفروا بغيًا وحسدًا» (1). _________ (1) أخرجه الطبري (6/ 574) مختصرًا بإسنادٍ ضعيف. والمشهورُ الثابتُ عن ابن عباس أن الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار، ارتدَّ بعد إسلامه، ثم عاد إلى الإسلام. أخرجه النسائي (4068)، وصححه ابن حبان (4477)، والحاكم (2/ 142، 4/ 366) ولم يتعقبه الذهبي.

(1/252)


قال الزجاج: «أعلَمَ اللهُ عز وجل أنه لا جهةَ لهدايتهم؛ لأنهم قد استحقُّوا أن يَضِلُّوا بكفرهم؛ لأنهم كفروا بعد البينات» (1). ومعنى (كيف يهديهم) (2) أي: أنه لا يهديهم؛ لأنَّ القومَ عرفوا الحقَّ، وشهدوا به وتيقَّنوه، وكفروا عمدًا، فمن أين تأتيهم الهداية؟! فإنَّ الذي ترتجى هدايتُه من كان ضالًّا ولا يدري أنه ضالٌّ، بل يظنُّ أنه على هدى، فإذا عرفَ الهدى اهتدى، وأما من عرفَ الحقَّ وتيقَّنه وشهدَ به قلبُه ثمَّ اختار الكفرَ والضلال عليه، فكيف يهدي اللهُ مثل هذا؟! وقال تعالى عن اليهود: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، ثمَّ قال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 89، 90]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لم يكن كفرُهم شكًّا ولا اشتباهًا، ولكن بغيًا منهم، حيث صارت النبوَّةُ في ولد إسماعيل» (3). ثمَّ قال بعد ذلك: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ _________ (1) «معاني القرآن» (1/ 439). (2) كذا في الأصول، ونصُّ الآية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا} [آل عمران: 86]، أراد التفسير لا التلاوة، وهو سائغ، وعليه عمل أهل العلم، فلذلك لم أغيِّره. (3) «الوسيط» للواحدي (1/ 173). وبمعناه مختصرًا أخرجه الطبري (2/ 334).

(1/253)


نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]، فلما شبَّههم في فعلهم هذا بمن لا يعلمُ دلَّ على أنهم نبذوه عن علمٍ كفعلِ من لا يعلم، تقولُ إذا خاطبتَ من عصاك عمدًا: كأنك لم تعلم ما فعلتَ، أو: كأنك لم تعلم بنهيي إيَّاك. ومنه ــ على أحد القولين ــ قولُه تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 82 - 83]، قال السُّدِّي: «يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم -» (1). واختاره الزجاج، فقال: «يعرفون أنَّ أمرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ ثمَّ ينكرون ذلك» (2). وأولُ الآية يشهدُ لهذا القول. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 175 - 176]. قالوا: فهل بعد هذه الآية بيان؟! فإنَّ هذا آتاه اللهُ آياته، فانسلخَ منها وآثرَ الضَّلالَ والغيَّ، وقصَّتُه معروفة (3)، حتى قيل: إنه كان أوتي الاسمَ الأعظم. ومع هذا فلم ينفعه علمُه وكان من الغاوين، فلو استلزمَ العلمُ والمعرفةُ الهدايةَ لاستلزمه في حقِّ هذا. _________ (1) أخرجه الطبري (17/ 272). (2) «معاني القرآن» (3/ 216). (3) انظر: «تفسير ابن كثير» (4/ 1510)، و «الغوامض والمبهمات» لابن بشكوال (657)، وغيرهما.

(1/254)


وقال الله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وهذا يدلُّ على أنَّ قولهم: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] إمَّا بَهْتٌ منهم وجحود، وإمَّا نفيٌ لآيات الاقتراح والعَنَت، ولا يجبُ الإتيانُ بها. وقد وصف سبحانه ثمودَ بأنها كفرت عن علمٍ وبصيرةٍ بالحقِّ؛ ولهذا قال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] يعني: بيِّنةً مضيئة، وهذا كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] أي: مضيئة، وحقيقةُ اللفظ أنها تجعلُ من رآها مبصرًا، فهي توجبُ له البصر، فتبصِّرُه، أي: تجعلُه ذا بصر، فهي موضِّحةٌ مبيِّنة، يقال: «بَصُرَ به» إذا رآه؛ كقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، وقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه: 96]. وأمَّا «أبصره»، فله معنيان: أحدهما: جَعَله باصرًا بالشيء، أي: ذا بصرٍ به (1)؛ كآية النهار وآية ثمود. والثاني: بمعنى رآه؛ كقولك: أبصرتُ زيدًا، وفي حديث أبي شريح العَدَوي: «أحدِّثُك قولًا قال به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فسمعَتْه أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرَتْه عيناي حين تكلَّم به» (2). _________ (1) (ت، د، ق): «جعله باصرا بالشيء إذا بصر به». (2) أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354).

(1/255)


ومنه قولُه تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 174 - 175]، قيل: المعنى: أبصِرْهم وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يُبْصِرُونك وما يقضى لك من النصر والتأييد وحسن العاقبة. والمراد: تقريبُ المُبْصَرِ من المخاطَب حتى كأنه نصبَ عينيه ورأي ناظرَيْه. والمقصودُ أنَّ الآية أوجبت لهم البصيرة، فآثروا الضلالَ والكفرَ عن علمٍ ويقين، ولهذا ــ والله أعلم ــ ذكر قصَّتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}؛ لأنه ذكر فيها انقسامَ النفوس إلى الزكيَّة الراشدة المهتدية، وإلى الفاجرة الضَّالَّة الغاوية، وذكر فيها الأصلين: القَدَر والشرع؛ فقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فهذا قدرُه وقضاؤه، ثمَّ قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فهذا أمرُه ودينُه. وثمودُ هداهم، فاستحبُّوا العمى على الهدى، فذَكَر قصَّتَهم ليبيِّن سوء عاقبة من آثر الفجورَ على التقوى، والتَّدْسِيَة على التزكية، والله أعلم بما أراد. قالوا: ويكفي في هذا إخبارُه تعالى عن الكفار أنهم يقولون بعد ما عاينوا العذاب، ووَرَدُوا القيامة، ورأوا ما أخبرت به الرسل: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27 - 28]، فأيُّ علمٍ أبينُ من علم من وَرَدَ القيامةَ ورأى ما فيها، وذاق عذابَ الآخرة، ثمَّ لو رُدَّ إلى الدنيا لاختار الضلالَ على الهدى، ولم ينفعه ما قد عاينه ورآه؟! وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ

(1/256)


كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]. فهل بعد نزول الملائكة عيانًا، وتكليم الموتى لهم، وشهادتهم للرسول بالصِّدق، وحَشْرِ كلِّ شيءٍ في الدنيا عليهم= مِنْ بيانٍ وإيضاحٍ للحقِّ وهدى؟! ومع هذا فلا يؤمنون، ولا ينقادون للحقِّ، ولا يصدِّقون الرسول! ومن نظر في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه، ومع اليهود، عَلِمَ أنهم كانوا جازمين بصدقه - صلى الله عليه وسلم -، لا يشكُّون أنه صادقٌ في قوله: إنه رسولُ الله، ولكنْ اختاروا الضلال والكفرَ على الإيمان. قال المِسْوَرُ بن مَخْرمة رضي الله عنه لأبي جهل ــ وكان خالَه ــ: أيْ خال، هل كنتم تتَّهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول مقالتَه التي قالها؟ قال: يا ابن أخي، والله لقد كان محمدٌ فينا وهو شابٌّ يُدعى: الأمين، ما جرَّبنا عليه كذبًا قطُّ، فلمَّا وخَطَه الشيبُ لم يكن ليكذبَ على الله. قال: يا خال فلم لا تتَّبعونه؟! قال: يا ابن أخي، تنازعنا نحن وبنو هاشمٍ الشَّرف؛ فأطعموا وأطعمنا، وسَقوا وسَقَينا، وأجاروا وأجَرنا، فلمَّا تجاثَيْنا على الرُّكَب وكنَّا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا: منَّا نبيٌّ. فمتى ندركُ هذه؟! (1). وهذا أميةُ بن أبي الصَّلت كان ينتظره يومًا بيوم، وعلمُه عنده قبل مبعثه _________ (1) لم أقف على الخبر من رواية المِسْوَر، ولا أراه يصحُّ عنه؛ فإن أبا جهل قُتِل يوم بدر، والمِسْوَر وُلِد بعد الهجرة بسنتين، وقيل قبلها، فكيف يسأله؟! وأصلُ الخبر مشهور، أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (191)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (14/ 91)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 207) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بإسنادٍ منقطع. ورُوِي من أوجهٍ أخرى.

(1/257)


وقصَّتُه مع أبي سفيان لما سافروا معًا معروفة، وإخباره برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ لما تيقَّنه وعرفَ صدقَه قال: «لا أومنُ بنبيٍّ من غير ثقيفٍ أبدًا» (1). وهذا هرقلُ تيقَّن أنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشكَّ فيه، وآثر الضلالَ والكفرَ استبقاءً لمُلكه (2). ولمَّا سأله اليهودُ عن التسع آياتٍ البيِّنات؛ فأخبرهم بها، قبَّلوا يدَه، وقالوا: نشهدُ أنك نبيٌّ. قال: فما يمنعكم أن تتَّبعوني؟ قالوا: إنَّ داود عليه السَّلام دعا أن لا يزال في ذريَّته نبيٌّ، وإنَّا نخشى إن اتبعناك أن تقتلَنا يهود (3). فهؤلاء قد تحقَّقوا نبوَّته، وشهدوا له بها، ومع هذا فآثروا الكفرَ _________ (1) أخرجها في سياقٍ طويلٍ الطبرانيُّ في «الكبير» (8/ 5)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 116)، وأبو القاسم التيمي في «دلائل النبوة» (226)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (9/ 257) من طرق. (2) وخبره مشهور، أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773). (3) أخرجه الترمذي (2733، 3144)، والنسائي (4078)، وابن ماجه (3705)، وغيرهم من حديث صفوان بن عسَّال. وفي إسناده ضعف، وفي متنه نكارة. وقال النسائي في «الكبرى» (3527): «هذا حديثٌ منكر». وانظر: «تهذيب سنن أبي داود» للمصنف (14/ 86)، و «تفسير ابن كثير» (5/ 2135)، و «البداية والنهاية» (9/ 96). وصححه جماعة، قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسن صحيح». وقال الحاكم في «المستدرك» (1/ 9): «هذا حديثٌ صحيحٌ لا نعرف له علةً بوجهٍ من الوجوه، ولم يخرجاه»، ولم يتعقبه الذهبي. وخرَّجه الضياء في «المختارة» (8/ 28). وقال ابن حجر في «التلخيص» (4/ 93): «إسناده قوي».

(1/258)


والضلال، ولم يصيروا مسلمين بهذه الشهادة. فقيل: لا يصيرُ الكافرُ مسلمًا بمجرَّد شهادة أنَّ محمدًا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يشهدَ لله بالوحدانيَّة. وقيل: يصيرُ بذلك مسلمًا. وقيل: إن كان كفرُه بتكذيب الرسول ــ كاليهود ــ صار مسلمًا بذلك، وإن كان كفره بالشرك مع ذلك لم يَصِرْ مسلمًا إلا بالشهادة بالتوحيد (1)، كالنصارى والمشركين. وهذه الأقوالُ الثلاثةُ في مذهب الإمام أحمد وغيره (2). وعلى هذا، فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام؛ لأنَّ مجردَ الإقرار والإخبار بصحَّة رسالته لا يوجبُ الإسلام، إلا أن يلتزمَ طاعتَه ومتابعتَه، وإلا فلو قال: أنا أعلمُ أنه نبيٌّ، ولكنْ لا أتبعُه ولا أدينُ بدينه؛ كان من أكفَر الكفَّار، كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم. وهذا متفقٌ عليه بين الصحابة والتابعينَ وأئمَّة السُّنَّة: أنَّ الإيمانَ لا يكفي فيه قولُ اللسان بمجرَّده، ولا معرفةُ القلب مع ذلك، بل لا بدَّ فيه من عمل القلب، وهو حبُّه لله ورسوله، وانقيادُه لدينه، والتزامُه طاعتَه ومتابعةَ رسوله. _________ (1) (ق، ت): «بالشهادة». (ح، ن): «بالشهادة به». (2) انظر: «العلل» لأحمد (3/ 83 - رواية عبد الله)، وكتاب أهل الملل والردة والزنادقة من «الجامع» للخلال (2/ 372)، و «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى (2/ 311)، و «المغني» (12/ 288)، و «شرح الزركشي» (6/ 266)، و «زاد المعاد» (3/ 639).

(1/259)


وهذا خلافُ من زعم أنَّ الإيمانَ هو مجردُ معرفة القلب وإقراره. وفيما تقدَّم كفايةٌ في إبطال هذه المقالة. ومن قال: إنَّ الإيمان هو مجردُ اعتقاد صدق الرسول فيما جاء به، وإن لم يلتزم متابعتَه، وعاداه وأبغضه وقاتله؛ لَزِمَه أن يكون هؤلاء كلُّهم مؤمنين. وهذا إلزامٌ لا محيد عنه، ولهذا اضطرب هؤلاء في الجواب عن ذلك لمَّا وَرَدَ (1) عليهم، وأجابوا بما يستحي القائلُ من قوله؛ كقول بعضهم: إنَّ إبليس كان مستهزئًا ولم يكن يقرُّ بوجود الله، ولا بأنَّ الله ربُّه وخالقُه، ولم يكن يعرف ذلك! وكذلك فرعون وقومُه لم يكونوا يعرفون صحَّة نبوَّة موسى، ولا يعتقدون وجودَ الصَّانع (2). وهذه فضائحُ نعوذُ بالله من الوقوع في أمثالها، ونصرةُ المقالات وتقليدُ أربابها يحمِلُ على أكثر من هذا، ونعوذُ بالله من الخذلان. قالوا: وقد بيَّن القرآنُ أنَّ الكفر أقسام: أحدها: كفرٌ صادرٌ عن جهلٍ وضلالٍ وتقليدِ الأسلاف؛ وهو كفرُ أكثر الأتباع والعَوامِّ. الثاني: كفرُ جحودٍ وعنادٍ وقصدِ مخالفة الحقِّ؛ ككفر من تقدَّم ذكرُه. وغالبُ ما يقعُ هذا النوعُ فيمن له رياسةٌ علميَّةٌ في قومه من الكفار، أو رياسةٌ سلطانيَّة، أو من له مآكلُ وأموالٌ في قومه؛ فيخافُ هذا على رياسته _________ (1) (ح): «أورد». (2) انظر: «الفِصَل» (5/ 75)، و «الصارم المسلول» (967)، و «جامع المسائل» (5/ 247)، و «هذه مفاهيمنا» (104، 107).

(1/260)


وهذا على ماله ومأكله؛ فيُؤثِرُ الكفرَ على الإيمان عمدًا. الثالث: كفرُ إعراضٍ محض، لا ينظرُ فيما جاء به الرسول، ولا يحبُّه ولا يبغضُه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرضٌ عن متابعَته ومعاداته. وهذان القسمان أكثرُ المتكلِّمين ينكرونهما، ولا يُثْبِتُون من الكفر إلا الأول، ويجعلون الثاني والثالث كفرًا لدلالته على الأول لا لأنه في ذاته كفر؛ فليس عندهم الكفرُ إلا مجرَّد الجهل. ومن تأمَّل القرآن والسُّنَّة، وسِيَر الأنبياء في أممهم ودعوتهم لهم وما جرى لهم معهم جزم بخطأ أهل الكلام فيما قالوه، وعلمَ أنَّ عامَّة كفر الأمم عن تيقُّنٍ وعلمٍ ومعرفةٍ بصدق أنبيائهم وصحَّة دعواهم وما جاءوا به. وهذا القرآنُ مملوءٌ من الإخبار عن المشركين عُبَّاد الأصنام أنهم كانوا يقرُّون بالله وأنه هو وحده ربُّهم وخالقُهم، وأنَّ الأرضَ وما فيها له وحده، وأنه ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم، وأنه بيده ملكوتُ كلِّ شيء وهو يجيرُ ولا يجارُ عليه، وأنه هو الذي سخَّر الشمسَ والقمر، وأنزلَ المطر، وأخرجَ النبات. والقرآنُ منادٍ عليهم بذلك، محتجٌّ بما أقرُّوا به من ذلك على صحَّة ما دعتهم إليه رسله، فكيف يقال: إنَّ القومَ لم يكونوا مُقِرِّين قطُّ بأنَّ لهم ربًّا وخالقًا؟! هذا بهتانٌ عظيم. فالكفرُ أمرٌ وراء مجرَّد الجهل، بل الكفرُ الأغلظُ هو ما أنكره هؤلاء وزعموا أنه ليس بكفر. قالوا: والقلبُ عليه واجبان لا يصير مؤمنًا إلا بهما جميعًا:

(1/261)


* واجبُ المعرفة والعلم. * وواجبُ الحبِّ والانقياد والاستسلام. فكما لا يكونُ مؤمنًا إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد، لا يكونُ مؤمنًا إذا لم يأت بواجب الحبِّ والانقياد والاستسلام، بل إذا ترك هذا الواجبَ مع علمه ومعرفته به، كان أعظم كفرًا وأبعدَ عن الإيمان من الكافر جهلًا؛ فإنَّ الجاهلَ إذا عرفَ وعَلِمَ فهو قريبٌ إلى الانقياد والاتباع، وأمَّا المعاندُ فلا دواء فيه؛ قال الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]. قالوا: فحبُّ الله ورسوله ــ بل كونُ الله ورسوله أحبَّ إلى العبد مما سواهما ــ لا يكونُ العبدُ مسلمًا إلا به. ولا ريب أنَّ الحبَّ أمرٌ وراء العلم؛ فما كلُّ من عرف الرسولَ أحبَّه، كما تقدَّم. قالوا: وهذا الحاسدُ يحملُه بغضُ المحسود على معاداته، والسَّعي في أذاه بكلِّ ممكن، مع علمه بفضله وعلمه، وأنه لا شيء فيه يوجبُ عداوتَه إلا محاسنُه وفضائلُه. ولهذا قيل للحاسد: «عدوُّ النِّعم والمكارم» (1). فالحاسدُ لم يَحْمِله على معاداة المحسود جهلُه بفضله وكماله، وإنما حمله على ذلك فسادُ قصده وإرادته، كما هي حالُ الرُّسل وورثتهم مع _________ (1) انظر: «شعب الإيمان» (12/ 35)، و «المجالسة» للدينوري (658)، و «بهجة المجالس» (1/ 407)، و «التذكرة الحمدونية» (2/ 181).

(1/262)


الرؤساء الذين سلبهم الرسلُ ووارثوهم رياستَهم الباطلة، فعادَوْهُم وصدُّوا النفوسَ عن متابعتهم؛ ظنًّا أنَّ الرياسة تبقى لهم وينفردون بها، وسُنَّةُ الله في هؤلاء أن يسلبهم رياسةَ الدنيا والآخرة، ويُصَغِّرهم في عيون الخلق؛ مقابلةً لهم بنقيض قصدهم، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. فهذا موردُ احتجاج الفريقين، وموقفُ أقدام الطائفتين، فاجلس أيها المُنْصِفُ منهما مجلسَ الحكومة، وتوخَّ بعلمك وعدلك فَصْلَ هذه الخصومة، فقد أدلى كلٌّ منهما بحججٍ لا تُعارَضُ ولا تُمانَع، وجاء ببيِّناتٍ لا تُرَدُّ ولا تُدافَع، فهل عندك شيءٌ غيرُ هذا يحصلُ به فصلُ الخطاب، وينكشفُ به لطالب الحقِّ وجهُ الصواب، فيرضي الطائفتين، ويزولُ به الاختلافُ من البَيْن؟! وإلا فخلِّ المَطِيَّ وحادِيها، وأعطِ القوسَ باريها. دَع الهوى لأناسٍ يُعْرَفُونَ به ... قد كابدوا الحبَّ حتى لانَ أصْعَبُه (1) ومن عرف قَدْرَه، وعرف لذي الفضل فضله، فقد قَرَعَ باب التوفيق، والله الفتاح العليم. فنقول وبالله التوفيق: كلا الطائفتين (2) ما خرجت عن مُوجَب العلم، ولا عدلت عن سَنَن الحقِّ، وإنما الاختلافُ والتباينُ بينهما من عدم التَّوارد على محلٍّ واحد، ومن إطلاق ألفاظٍ مجملة، بتفصيل معانيها يزولُ الاختلاف، ويظهرُ أنَّ كلَّ طائفةٍ موافقةٌ للأخرى على نفس قولها. _________ (1) من أبياتٍ لأبي القاسم الكاتب علي بن أفلح العبسي (ت: 532) في ترجمته من «المنتظم» (10/ 82). وفيه: «قد مارسوا». (2) كذا. والجادة: «كلتا الطائفتين».

(1/263)


وبيانُ هذا: أنَّ المقتضي قسمان: * مقتضٍ لا يتخلَّفُ عنه مُوجَبُه ومقتضاه (1)، بل يستلزمُه استلزامَ العلَّة التامَّة لمعلولها. * ومقتضٍ غيرُ تامٍّ، بل قد يتخلَّفُ (2) عنه مقتضاه؛ لقصوره في نفسه عن التمام (3)، أو لفوات شرط اقتضائه، أو قيام مانعٍ منعَ تأثيرَه. فإن أريدَ بكون العلم مقتضيًا للاهتداء الاقتضاءُ التامُّ (4) الذي لا يتخلَّف عنه أثرُه بل يلزمُه الاهتداءُ بالفعل؛ فالصوابُ قولُ الطائفة الثانية، وأنه لا يلزمُ من العلم حصولُ الاهتداء المطلوب. وإن أريدَ بكونه مُوجِبًا أنه صالحٌ للاهتداء، مقتضٍ له، وقد يتخلَّفُ عنه مقتضاه لقصوره، أو لفوات شرطٍ، أو قيام مانع؛ فالصوابُ قولُ الطائفة الأولى. وتفصيلُ هذه الجملة: أنَّ العلمَ بكون الشيء سببًا لمصلحة العبد ولذَّته وسروره قد يتخلَّفُ عنه عملُه بمقتضاه، لأسبابٍ عديدة (5): السببُ الأول: ضعفُ معرفته بذلك. السببُ الثاني: عدمُ الأهليَّة. وقد تكونُ معرفتُه به تامة، لكن يكونُ _________ (1) (ق، ن): «موجبه ومقتضاه لقصوره في نفسه». (2) «بل قد» ليست في (د، ت، ق». (ق): «لا يتخلف». (ت): «لا يختلف». (3) (ت): «القيام». (4) (ت، ق): «والاقتضاء التام». وهو خطأ، اشتبهت الهمزة بالواو. (5) انظر: «هداية الحيارى» (39، 269).

(1/264)


مشروطًا بزَكاء (1) المحلِّ وقبوله للتزكية، فإذا كان المحلُّ غير زكيٍّ ولا قابلٍ للتزكية كان كالأرض الصَّلْدَة التي يخالطُها الماء، فإنه يمتنعُ النباتُ منها؛ لعدم أهليتها وقبولها. فإذا كان القلبُ قاسيًا حَجَريًّا، لا يقبلُ تزكيةً ولا تُؤثِّرُ فيه النصائح، لم ينتفع بكلِّ علمٍ يعلمُه، كما لا تنبتُ الأرضُ الصلبة ولو أصابها كلُّ مطر، وبُذِرَ فيها كلُّ بَذْر. كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. وهذا في القرآن كثير. فإذا كان القلبُ قاسيًا غليظًا جافيًا لا يعملُ فيه العلمُ شيئًا، وكذلك إذا كان مريضًا مَهِينًا مائيًّا لا صلابةَ فيه ولا قوةَ ولا عزيمة لم يؤثِّر فيه العلم. السببُ الثالث: قيامُ مانع؛ وهو إمَّا حسدٌ أو كِبْر، وذلك مانعُ إبليس من الانقياد للأمر، وهو داءُ الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلَّف الإيمانُ عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا صحةَ نبوَّته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أبيٍّ من الإيمان، وبه تخلَّفَ الإيمانُ عن أبي جهلٍ وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه _________ (1) (ق): «بزكاة».

(1/265)


وأنَّ الحقَّ معه، ولكنْ حملهم الكِبْرُ والحسدُ على الكفر، وبه تخلَّفَ الإيمانُ عن أميَّة (1) وأضرابه ممن كان عنده علمٌ بنبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -. السببُ الرابع: مانعُ الرياسة والمُلْك، وإن لم يَقُم بصاحبه حسدٌ ولا تكبُّر عن الانقياد للحقِّ، لكن لا يمكنُ أن يجتمع له الانقيادُ ومُلْكُه ورياستُه، فيَضِنُّ بمُلْكِه ورياسته؛ كحال هِرَقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا بنبوَّته وصِدْقه، وأقرُّوا بها باطنًا، وأحبُّوا الدخول في دينه، لكن خافوا على مُلْكهم. وهذا داءُ أرباب المُلْك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داءُ فرعون وقومه، ولهذا قالوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]؛ أَنِفُوا أن يؤمنوا ويتبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنو إسرائيل عبيدٌ لهم. ولهذا قيل: إنَّ فرعون لما أراد متابعةَ موسى وتصديقَه شاورَ هامان وزيرَه، فقال: بينا أنت إلهٌ تُعْبَدُ تصيرُ عبدًا تعبُد غيرَك! (2)؛ فأبى العبوديَّةَ واختار الرياسةَ والإلهيَّة المُحال (3). السببُ الخامس: مانعُ الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيرًا من أهل الكتاب من الإيمان، خوفًا من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصيرُ إليهم من _________ (1) أمية بن أبي الصلت. (2) انظر: «تفسير يحيى بن سلام» (1/ 263)، و «المتفق والمفترق» (1126)، و «تاريخ دمشق» (61/ 64)، و «الدر المنثور» (8/ 410)، و «سراج الملوك» (288). (3) (ت): «وإلهية المحال». ولستُ منها على ثقة.

(1/266)


قومهم (1). وقد كانت كفارُ قريش يصدُّون الرجلَ عن الإيمان بحسب شهوته، فيدخلونَ عليه منها؛ فكانوا يقولون لمن يحبُّ الزِّنا والفواحش: إنَّ محمدًا يحرِّم الزِّنا، ويحرِّم الخمر؛ وبه صدُّوا الأعشى الشاعر عن الإسلام (2). وقد فاوضتُ غير واحدٍ من أهل الكتاب في الإسلام وصحَّته، فكان آخر ما كلَّمني به أحدهم: أنا لا أتركُ الخمر، وأشربُها آمنًا (3)، فإذا أسلمتُ حُلْتُم بيني وبينها وجلدتموني على شربها. وقال آخر منهم ــ بعد أن عرف ما قلتُ له ــ: لي أقاربُ أربابُ أموالٍ وإني إن أسلمتُ لم يَصِل إليَّ منها شيء، وأنا أؤمِّلُ أن أرِثَهم. أو كما قال (4). ولا ريب أنَّ هذا القَدْرَ في نفوس خلقٍ كثيرٍ من الكفار، فتتفقُ قوةُ داعي الشهوة والمال، وضعفُ داعي الإيمان، فيجيبُ داعي الشهوة والمال، _________ (1) انظر: «هداية الحيارى» (27، 38، 39). (2) أورد القصة ابنُ هشام في «السيرة» (1/ 397) ضمن الأحداث التي وقعت بمكة قبل الهجرة، فتعقَّبه السُّهيلي في «الروض الأنف» (3/ 378)، وابنُ كثير في «البداية والنهاية» (4/ 254) بأن تحريم الخمر إنما كان بالمدينة. فالظاهرُ أن قدوم الأعشى كان بعد الهجرة، وفي قصيدته التي مدح فيها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على ذلك. وانظر تعليق د. محمد محمد حسين في تحقيقه لديوانه (134)، ومقال «قصيدة الأعشى في مدح الرسول الكريم وأخبارها» لياسين يوسف عايش في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني (56/ 23/73)، ومقال «وفادة الأعشى على الرسول أهي صحيحة» لعبد العزيز المانع في مجلة معهد المخطوطات (28/ 1/241). (3) كذا في الأصول. أي: أشربها الآن وأنا آمنٌ من العقوبة. (4) انظر: «أحكام أهل الذمة» (855).

(1/267)


ويقول: لا أرغبُ بنفسي عن آبائي وسلفي. السببُ السادس: محبةُ الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبعَ الحقَّ وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم. وهذا سببُ بقاء خلقٍ كثيرٍ على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم. السببُ السابع: محبةُ الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرةٌ ولا أقارب، لكن يرى أنَّ في متابعة الرسول خروجَه عن داره ووطنه إلى دار الغُربة والنَّوى، فيَضِنُّ بوطنه وداره. السببُ الثامن: تخيُّله أنَّ في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعنًا منه على آبائه وأجداده وذمًّا لهم، وهذا هو الذي منعَ أبا طالبٍ وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آباءهم وأجدادَهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأن يختاروا خلافَ ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفَّهوا أحلامَ أولئك، وضلَّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك. ولهذا قال أعداء الله لأبي طالبٍ عند الموت: أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟! فكان آخرَ ما كلَّمهم به: «هو على ملَّة عبد المطَّلب» (1). فلم يَدْعُه (2) أعداءُ الله إلا من هذا الباب؛ لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخرَ والشَّرف به، فكيف يأتي أمرًا يلزمُ منه غايةُ تنقيصه وذمِّه؟! ولهذا قال: «لولا أن تكونَ سُبَّةً على بني عبد المطلب لأقررتُ بها عينَك» (3)، أو كما قال. _________ (1) أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (24). (2) الضبط من (د، ق). وفي (ت): «تدعه». (3) أخرجه مسلم (25).

(1/268)


وهذا شِعرُه يصرِّحُ فيه بأنه قد علمَ وتحقَّق نبوَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وصِدْقَه؛ كقوله: ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ ... من خَيْرِ أديان البريَّة دِينا لولا الملامةُ أو حِذارُ مَسَبَّةٍ ... لوجدتني سَمْحًا بذاك مُبِينا (1) وفي قصيدته اللاميَّة (2): فواللهِ لولا أن تكونَ مَسَبَّةٌ ... تُجَرُّ على أشياخِنا في المَحافلِ لكنَّا اتَّبعناهُ على كلِّ حالةٍ ... من الدَّهر جِدًّا غير قولِ التَّهازُلِ لقد عَلِمُوا أنَّ ابننَا لا مُكَذَّبٌ ... لدينا ولا يُعْنى بقولِ الأباطِل والمَسبَّةُ التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخه شهادتُه عليهم بالكفر والضلال وتسفيه الأحلام وتضليل العقول؛ فهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقُّنه. السببُ التاسع: متابعةُ من يعاديه من الناس للرسول، وسبقُه إلى الدخول في دينه، وتخصُّصه (3) وقربُه منه. _________ (1) «ديوان أبي طالب» صنعة أبي هفان وعلي بن حمزة (87، 189)، و «سيرة ابن إسحاق» (136)، و «خزانة الأدب» (3/ 296)، وغيرها. (2) «ديوان أبي طالب» (84، 198). وهي قصيدةٌ باذخةٌ نبيلة، إلا أنَّ الناس زادوا فيها، وبعض أهل العلم بالشعر ينكرُ أكثرها. انظر: «السيرة» لابن هشام (1/ 283)، و «طبقات فحول الشعراء» (244)، و «شرح نهج البلاغة» (14/ 78)، و «البداية والنهاية» (4/ 142). (3) (ح): «وتخصيصه».

(1/269)


وهذا القَدْرُ منع خلقًا كثيرًا من اتباع الهدى؛ يكونُ للرجل عدوٌّ يُبْغِضُ مكانَه، ولا يحبُّ أرضًا يمشي عليها، ويقصدُ مخالفتَه ومناقضتَه، فيراه قد اتبعَ الحقَّ، فيحملُه قصدُ مناقضته ومعاداته على معاداة الحقِّ وأهله، وإن كان لا عداوةَ بينه وبينهم. وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار؛ فإنهم كانوا أعداءهم، وكانوا يتواعدونهم (1) بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم يتَّبعونه ويقاتلونهم معه (2)، فلمَّا بَدَرَهم إليه الأنصارُ وأسلموا حملهم معاداتُهم على البقاء على كفرهم ويهوديَّتهم. السببُ العاشر: مانعُ الإلْفِ والعادة والمنشأ؛ فإنَّ العادةَ قد تقوى حتى تغلبَ حكمَ الطبيعة، ولهذا قيل: «هي طبيعةٌ ثانية» (3)؛ فيُربَّى الرجلُ على المقالة ويُنشَّأُ عليها صغيرًا، فيتربَّى قلبُه ونفسُه عليها كما يتربَّى لحمُه وعظمُه على الغذاء المعتاد، ولا يعقلُ نفسَه إلا عليها، ثمَّ يأتيه العلمُ وهلةً واحدةً يريدُ إزالتها وإخراجَها من قلبه وأن يسكنَ موضعَها، فيعسرُ عليه الانتقال، ويصعبُ عليه الزوال. وهذا السببُ وإن كان أضعفَ الأسباب منعًا (4) فهو أغلبُها على الأمم وأرباب المقالات والنِّحل، ليس مع أكثرهم ــ بل جميعهم، إلا ما عسى أن _________ (1) (ح): «يتوعدونهم». وسيأتي التعليق على استعمال «تواعد» بمعنى «توعَّد». (2) انظر: «تفسير الطبري» (2/ 332 - 337). (3) من مقالات الحكماء. وتُنْسَبُ لبقراط. انظر: «عيون الأخبار» (3/ 157)، و «الهوامل والشوامل» (171)، و «العقد» (6/ 313). (4) (ق، ن): «معنا». تحريف.

(1/270)


يشذَّ ــ إلا عادةً ومَرْبًى تربَّى عليها طفلًا، لا يعرفُ غيرها ولا يحِسُّ به؛ فدينُ العوائد هو الغالبُ على أكثر الناس، فالانتقالُ عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعةٍ ثانية. فصلواتُ الله وسلامه على أنبيائه ورسله، خصوصًا على خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ كيف غيَّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعةً ثانيةً خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة. ولا يعلمُ مشقَّة هذا على النفوس إلا من زاولَ نقلَ رجلٍ واحدٍ عن دينه ومقالته إلى الحقِّ؛ فجزى الله المرسلين أفضلَ ما جازى به أحدًا من العالمين. إذا عُرِفَ أنَّ المقتضي نوعان؛ فالهدى المقتضي وحده لا يوجبُ الاهتداء، والهدى التامُّ يوجبُ الاهتداء. فالأول: هدى البيان والدلالة والتعليم، ولهذا يقال: هُدِيَ فما اهتدى. والثاني: هدى البيان والدَّلالة، مع إعطاء التوفيق، وخَلْق الإرادة؛ فهذا الهدى الذي يستلزمُ الاهتداء، ولا يتخلَّفُ عنه مُوجَبه، فمتى وُجِدَ السببُ وانتفت الموانعُ لزمَ وجودُ حكمه. وهاهنا دقيقةٌ بها ينفصلُ النزاع؛ وهو أنه: هل ينعطفُ من قيام المانع وعدم الشرط على المقتضي أمرٌ يُضْعِفه في نفسه ويسلبه اقتضاءَه وقوَّته، أو اقتضاؤه بحاله وإنما غَلَبَ المانعُ فكان التأثيرُ له؟ ومثالُ ذلك في مسألتنا: أنه بوجود هذه الموانع المذكورة أو بعضها، هل يَضْعُفُ العلمُ أو يُعْدَمُ حتى لا يصير مؤثِّرًا البتة، أو العلمُ بحاله ولكنَّ المانعَ بقوَّته غَلَبَ فكان الحكمُ له؟

(1/271)


هذا سرُّ المسألة وفقهُها. فأمَّا الأولُ فلا شكَّ فيه، ولكنَّ الشأنَ في القسم الثاني ــ وهو بقاءُ العلم بحاله ــ، والتحقيقُ أنَّ الموانعَ تحجبُه وتُعَمِّيه، وربما قلبت حقيقتَه من القلب. والقرآنُ قد دلَّ على هذا؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]؛ فعاقبهم سبحانه بإزاغة قلوبهم عن الحقِّ لمَّا زاغوا عنه ابتداءً. ونظيرُه قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. ولهذا قيل: «من عُرِضَ عليه حقٌّ فردَّه ولم يقبله عُوقِبَ بفساد قلبه وعقله ورأيه». ومن هنا قيل: «لا رأيَ لصاحب هوى» (1)؛ فإنَّ هواه يحملُه على ردِّ الحقِّ، فيُفْسِدُ اللهُ عليه رأيَه وعقلَه. وقال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]؛ أخبَر سبحانه أنَّ كفرهم بالحقِّ بعد أن علموه كان سببًا لطبع الله على قلوبهم حتى صارت غُلْفًا، والغُلْفُ: جمعُ أغلَف، وهو القلبُ الذي قد غَشِيَه غِلاف، _________ (1) انظر: «الفاضل» للمبرد (123).

(1/272)


كالسَّيف الذي في غِلافه، وكلُّ شيءٍ في غِلافٍ فهو أغلف، وجمعه غُلْف، يقال: سيفٌ أغلف، وقوسٌ غَلْفاء، ورجلٌ أغلَف وأقلَف: إذا لم يختتن. والمعنى: قلوبنا عليها غشاوةٌ وغطاء، فلا تفقه ما تقولُ يا محمد ــ - صلى الله عليه وسلم - ــ. ولم يصنع شيئًا من قال: «إنَّ المعنى أنها غُلُفٌ للعلم والحكمة، أي: أوعيةٌ لها، فلا نحتاجُ إلى قولك ولا نقبله، استغناءً بما عندهم» (1)؛ لوجوه (2): أحدها: أنَّ {غُلْفٌ} جمعُ أغلف، كقُلْف وأقلَف، وحُمْر وأحمَر، وجُرْد وأجرَد، وغُلْب وأغلَب، ونظائره. والأغلفُ من القلوب هو الداخلُ في الغلاف. هذا هو المعروف من اللغة. الثاني: أنه ليس من الاستعمال السائغ المشهور أن يقال: «قلبُ فلانٍ غلافٌ لكذا»، وهذا لا يكادُ يوجدُ في شيءٍ من نثر كلامهم ولا نظمه، ولا نظيرَ له في القرآن فيُحْمَلُ عليه، ولا هو من التشبيه البديع المُسْتَحْسَن؛ فلا يجوزُ حملُ الآية عليه. الثالث: أنَّ نظيرَ قول هؤلاء قولُ الآخرين من الكفار: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]، والأكنَّةُ هنا: هي الغُلُفُ التي قلوبُ هؤلاء فيها، والأكنَّةُ كالأوعية والأغطية التي تغطِّي المتاع، ومنه «الكِنانة» لغلاف السِّهام. _________ (1) رُوِي هذا عن ابن عباس من وجهٍ لا يثبت، وعن عطية العوفي. انظر: «تفسير الطبري» (2/ 373). (2) انظر: «شفاء العليل» (295 - 296).

(1/273)


الرابع: أنَّ سياقَ الآية لا يَحْسُنُ مع المعنى الذي ذكروه، ولا يَحْسُنُ مقابلتُه بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}، وإنما يَحْسُنُ مع هذا المعنى أن يُسْلَبَ عنهم العلمُ والحكمةُ التي ادَّعوها؛ كما قيل لهم لمَّا ادَّعوا ذلك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وأما هنا فلمَّا ادَّعوا أنَّ قلوبهم في أغطيةٍ وأغشيةٍ لا تفقهُ قولَه، قوبلوا بأنْ عرَّفهم أنَّ كفرهم ونقضَهم ميثاقَهم وقتلَهم الأنبياء كان سببًا لأنْ طُبِعَ على قلوبهم. ولا ريب أنَّ القلبَ إذا طُبِعَ عليه أظلمت صورةُ العلم فيه وانطمست، وربَّما ذهب أثرُها، حتى يصيرَ السببُ الذي يهتدي به المهتدون سببًا لضلال هذا؛ كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26 - 27]؛ فأخبر تعالى أنَّ القرآنَ سببٌ لضلال هذا الصِّنف من الناس، وهو هُداه الذي هدى به رسولَه وعبادَه المؤمنين. ولهذا أخبر سبحانه أنه إنما يهدي به من اتبعَ رضوانَ الله (1). وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125]. _________ (1) كما في سورة المائدة، الآية: 16.

(1/274)


ولا شيء أعظمُ فسادًا لمحلِّ العلم من صَيْرورته بحيث يَضِلُّ بما يُهتدى به، فنسبتُه إلى الهدى والعلم نسبةُ الفَمِ الذي قد استحكَمت فيه المرارةُ إلى الماء العَذْب؛ كما قيل: ومن يكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يَجِدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا (1) فإذا فسد القلبُ فسد إدراكُه، وإذا فسد الفمُ فسد إدراكُه، وكذلك إذا فسدت العَيْن. وأهلُ المعرفة من الصَّيارفة يقولون: «إنَّ من خانَ في نَقْده نَسِيَ النَّقْدَ وسُلِبَه، فاشتبه عليه الخالصُ بالزَّغَل» (2). ومن كلام بعض السَّلف: «العلمُ يَهْتِفُ بالعمل، فإن أجابه حَلَّ وإلا ارتحل» (3). وقال بعضُ السلف: «كنَّا نستعينُ على حفظ العلم بالعمل به» (4). فتركُ العمل بالعلم من أقوى الأسباب في ذهابه ونسيانه. وأيضًا؛ فإنَّ العلمَ يرادُ للعمل؛ فإنه بمنزلة الدليل للسَّائر، فإذا لم يَسِرْ _________ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (130). (2) انظر: «روضة المحبين» (531). (3) أخرجه الخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (40، 41) عن علي رضي الله عنه، ومحمد بن المنكدر. (4) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «التاريخ» (1/ 311)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 421، 459)، والخطيب في «الجامع» (2/ 388)، و «اقتضاء العلم العمل» (149)، وغيرهم عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري.

(1/275)


خلفَ الدليل لم ينتفع بدلالته، فنزِّل منزلةَ من لم يعلم شيئًا؛ لأنَّ من علمَ ولم يعمل بمنزلة الجاهل الذي لا يعلم، كما أنَّ من ملك ذهبًا وفضَّةً وجاعَ وعَرِيَ ولم يَشْتَرِ منها ما يأكلُ ويلبسُ فهو بمنزلة الفقير العادِم؛ كما قيل: ومن تركَ الإنفاقَ عند احتياجِه ... مخافةَ فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفقرُ (1) والعربُ تسمِّي الفُحْشَ والبَذاءَ: جَهْلًا؛ إما لكونه ثمرة الجهل فيسمَّى باسم سببه ومُوجِبه، وإما لأنَّ الجهلَ يقال في جانب العلم والعمل؛ قال الشاعر (2): ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فَنَجْهَلَ فوق جهلِ الجاهلينا ومن هذا قولُ موسى لقومه وقد قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]؛ فجعلَ الاستهزاءَ بالمؤمنين جهلًا. ومنه قولُه تعالى حكايةً عن يوسف أنه قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]. ومن هذا قولُه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ليس المرادُ به إعراضَه عمَّن لا علم عنده فلا يعلِّمه ولا يرشدُه، وإنما المرادُ إعراضُه عن جهل من جَهِلَ عليه منهم فلا يقابلُه ولا يعاتبُه. _________ (1) لم أجده. وهو محوَّرٌ عن بيت المتنبي المشهور: ومن يُنْفِقُ الساعاتِ في جمع ماله ... مخافةَ فقرٍ، فالذي فعل الفقرُ (2) عمرو بن كلثوم، في «ديوانه» (330)، من معلَّقته. وهذا البيتُ آخِرُها في رواية أكثر الناس. انظر: «شرح القصائد السبع الطوال» لابن الأنباري (426).

(1/276)


قال مقاتل وعروة والضَّحاك وغيرهم: «صُنْ نفسَك عن مقابلتهم على سَفَهِهم» (1). وهذا كثيرٌ في كلامهم. ومنه الحديث: «إذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يَصْخَب ولا يَجْهَل» (2). ومن هذا تسميةُ المعصية: جهلًا؛ قال قتادة: «أجمع أصحابُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنَّ كلَّ من عصى اللهَ فهو جاهل» (3)، وليس المرادُ أنه جاهلٌ بالتحريم؛ إذ لو كان جاهلًا به لم يكن عاصيًا، ولا يترتَّبُ الحدُّ في الدنيا والعقوبةُ في الآخرة على جاهلٍ بالتحريم، بل نفسُ الذنب يسمَّى جهلًا وإنْ علمَ مرتكبُه بتحريمه؛ إما لأنه لا يصدرُ إلا عن ضعف العلم ونقصانه، وذلك جهلٌ؛ فسمِّي باسم سببه، وإما تنزيلًا لفاعله منزلة الجاهل به. الثاني (4): أنهم لمَّا ردُّوا الحقَّ ورغبوا عنه عُوقِبوا بالطَّبع والرَّيْن وسَلْب العقل والفهم؛ كما قال تعالى عن المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]. الثالث: أنَّ العلمَ الذي يُنتَفعُ به ويستلزمُ النجاةَ والفلاحَ لم يكن حاصلًا _________ (1) وهذا أولى من تفسير «الجاهلين» بالمشركين، ثم دعوى أن الآية منسوخةٌ بآية السيف. انظر: «نواسخ القرآن» لمكِّي (253)، ولابن الجوزي (406). (2) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) تقدم تخريجه (ص: 249). (4) هذا استئنافٌ لذكر الأدلة على أن الموانع تحجبُ العلم وتُعَمِّيه. وقد ابتدأها المصنف (ص: 272).

(1/277)


لهم، فسَلَبَ عنهم حقيقتَه، والشيءُ قد ينتفي لنفي ثمرته والمراد منه؛ قال تعالى في ساكن النار: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74]، نفى الحياة لانتفاء فائدتها والمراد منها. ويقولون: «لا مال إلا ما أُنفِق، ولا علمَ إلا ما نَفَع» (1). ولهذا نفى سبحانه عن الكفار الأسماعَ والأبصارَ والعقولَ لما لم ينتفعوا بها؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]. ولمَّا لم يحصل لهم الهدى المطلوبُ بهذه الحواسِّ كانوا بمنزلة فاقديها؛ قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. فالقلبُ يوصفُ بالبصر والعمى، والسَّمع والصَّمَم، والنطق والبَكَم، بل هذه له أصلًا وللعَيْن والأذن واللسان تبعًا، فإذا عَدِمَها القلبُ (2) فصاحبُه أعمى مفتوحُ العين، أصمُّ ولا آفة بأذنه، أبكمُ وإن كان فصيحَ اللسان؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فلا تنافي بين قيام الحجَّة بالعلم، وبين سلبه ونفيه بالطَّبع (3) والخَتْم والقَفْل على قلوب من لم يعمل بمُوجَب الحجَّة وينقاد لها. _________ (1) انظر: «المستصفى» (2/ 32). (2) (ح): «فقدها القلب». (3) (د، ت، ح، ن): «والطبع».

(1/278)


قال الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46]؛ فأخبَر سبحانه بأنه مَنَعهم فقهَ كلامه، وهو الإدراكُ الذي ينتفعُ به من فَقِهَه، ولم يكن ذلك مانعًا لهم من الإدراك الذي تقومُ به الحجَّةُ عليهم؛ فإنهم لو لم يفهموه جملةً ما وَلَّوا على أدبارهم نفورًا عند ذكر توحيد الله، فلما ولَّوا عند ذكر التوحيد دلَّ على أنهم كانوا يفهمون الخطاب، وأنَّ الذي غَشِيَ قلوبَهم كالذي غَشِيَ آذانَهم. ومعلومٌ أنهم لم يَعْدَموا السمعَ جملةً ويصيروا كالأصمِّ، ولذلك ينفي سبحانه عنهم السمع تارةً، ويثبتُه أخرى: قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، ومعلومٌ أنهم قد سمعوا القرآن، وأُمِرَ الرسولُ بإسماعهم إيَّاه. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]؛ فهذا السمعُ المنفيُّ عنهم سمعُ الفهم والفقه، والمعنى: ولو علم اللهُ فيهم خيرًا لأسمعهم سمعًا ينتفعون به، وهو فقهُ المعنى وعَقْلُه، وإلا فقد سمعوه سمعًا تقومُ به عليهم الحجَّة، ولكن لمَّا سمعوه مع شدَّة بغضه وكراهته ونُفْرتهم عنه لم يفهموه ولم يعقلوه. والرجلُ إذا اشتدَّت كراهتُه للكلام ونُفْرته عنه لم يفهم ما يرادُ به، فيُنَزَّلُ منزلة من لم يسمعه، قال الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، نفى عنهم استطاعةَ السمع مع صحَّة حواسِّهم

(1/279)


وسلامتها، وإنما لفَرْطِ بُغْضِهم ونُفْرتهم عنه وعن كلامه صاروا بمنزلة من لا يستطيعُ أن يسمعه ولا يراه، وهذا استعمالٌ معروفٌ للخاصَّة والعامَّة، يقولون: «لا أطيقُ أنظرُ إلى فلان، ولا أستطيعُ أسمعُ كلامَه» مِنْ بُغْضِه ونُفْرته عنه. وبعضُ الجبريَّة يحتجُّ بهذه الآية وشِبْهها على مذهبهم، ولا دلالة فيها؛ إذ ليس المرادُ سَلْبَهم السمعَ والبصرَ الذي تقومُ به الحجَّةُ قطعًا، وإنما المرادُ سلبُ السمع الذي يترتبُ عليه فائدتُه وثمرتُه. والقَدَرُ حقٌّ، ولكنَّ الواجبَ تنزيلُ القرآن منازلَه، ووضعُ الآيات مواضعَها (1)، واتباعُ الحقِّ حيث كان. ومثلُ هذا إذا لم يحصل له فهمُ الخطاب لا يُعْذَرُ بذلك؛ فإنَّ الآفةَ منه، وهو بمنزلة من سَدَّ أذنيه عند (2) الخطاب فلم يسمَعه، فلا يكونُ ذلك عذرًا له. ومن هذا قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصِّلت: 5]، يعنون أنهم في ترك القبول منه ومحبة الاستماع لما جاء به، وإيثار الإعراض عنه، وشدَّة النِّفار عنه، بمنزلة من لا يعقلُه ولا يسمعُه، ولا يُبْصِرُ المخاطِبَ لهم به؛ فهذا هو الذي يقولون لأجله في النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، ولهذا جَعَل ذلك مقدورًا لهم وذنبًا اكتسبوه، فقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]. _________ (1) (ت، د، ح، ن): «على مواضعها». (2) (ح): «عن».

(1/280)


والله تعالى تارةً ينفي عن هؤلاء العقلَ والسمعَ والبصر ــ فإنها مداركُ العلم وأسبابُ حصوله ــ، وتارةً ينفي عنهم السمعَ والعقل، وتارةً ينفي عنهم السمعَ والبصر، وتارةً ينفي عنهم العقلَ والبصر، وتارةً ينفي عنهم العقلَ وحده، وتارةً ينفي عنهم السمعَ وحده (1). فنفيُ الثلاثة نفيٌ لمدارك العلم بطريق المطابقة، ونفيُ بعضها نفيٌ له بالمطابقة وللآخر باللُّزوم؛ فإنَّ القلبَ إذا فسدَ فسدَ السمعُ والبصر، بل أصلُ فسادهما مِنْ فساده، وإذا فسدَ السمعُ والبصرُ فسدَ القلب، فإذا أعرض عن سَمْع الحقِّ وأبغض قائلَه بحيث لا يحبُّ رؤيتَه امتنع وصولُ الهدى إلى القلب، ففسَد، وإذا فسدَ السمعُ والعقلُ تبعهما فسادُ البصر، فكلُّ مُدْرَكٍ (2) من هذه يصحُّ بصحَّة الآخر، ويفسدُ بفساده؛ فلهذا يجيء في القرآن نفيُ ذلك صريحًا ولزومًا. وبهذا التفصيل يُعْلَمُ اتفاقُ الأدلَّة من الجانبين. وفي استدلال الطائفة الثانية بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ونظائرها نظر؛ فإنَّ الله تعالى حيث قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} لم يكونوا إلا ممدوحين مؤمنين، وإذا أرادَ ذمَّهم والإخبارَ عنهم بالعناد وإيثار الضلال أتى بلفظ: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مبنيًّا للمفعول (3). * فالأول، كقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) _________ (1) اضطربت الأصول في ذكر التارات، والمثبت من (د). (2) بضمِّ الميم. انظر تحرير ذلك في «المصباح المنير» (درك). (3) (ح): «للمجهول». وانظر لهذا المعنى: «بدائع الفوائد» (725).

(1/281)


وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآيات [القصص: 52 - 54]. وكقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114]، فهذا في سياق مدحهم والاستشهاد بهم، ليس في سياق ذمِّهم والإخبار بعنادهم وجحودهم، كما استشهَد بهم (1) في قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، وفي قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121]. واختُلِفَ في الضمير في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}: فقيل: هو ضميرٌ للكتاب (2) الذي أُوتُوه. قال ابن مسعود (3): «يُحِلُّونَ حلالَه، ويحرِّمونَ حرامَه، ويقرؤونه كما أُنزِل، ولا يحرِّفونه عن مواضعه» (4). _________ (1) (ح): «استشهدهم». (2) (ت، ن): «ضمير الكتاب». (3) (ت): «ابن عباس». وأخرجه عنه الطبري (2/ 566)، وصححه الحاكم (2/ 266) ولم يتعقبه الذهبي. (4) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 56)، ومن طريقه الطبري (2/ 567).

(1/282)


قالوا: ونزلت في مؤمني أهل الكتاب. وقيل: هذا وصفٌ للمسلمين، والضميرُ في {يَتْلُونَهُ} للكتاب الذي هو القرآن (1). وهذا بعيد؛ إذ عُرْفُ القرآن يأباه. ولا يَرِدُ على ما ذكرنا قولُه تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، بل هذا حجَّةٌ لنا أيضًا، لِمَا ذكرنا، فإنه أخبر في الأول عن معرفتهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه وقبلته كما يعرفون أبناءهم، استشهادًا بهم على من كفر، وثناءً عليهم، ولهذا ذكر المفسِّرون أنهم عبد الله بن سلام وأصحابُه (2)، وخَصَّ في آخر الآية بالذَّمِّ طائفةً منهم؛ فدلَّ على أنَّ الأولين غيرُ مذمومين، وكونُهم دخلوا في جملة الأولين بلفظِ المضمَر لا يوجبُ أن يقال: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} عند الإطلاق، فإنهم دخلوا في هذا اللفظ ضِمْنًا وتبعًا، فلا يلزمُ تناولُه لهم قصدًا واختيارًا. وقال تعالى في سورة الأنعام: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ}. قيل (3): الرسولُ وصِدْقُه. _________ (1) أخرجه الطبري (2/ 564) عن قتادة. (2) انظر: «الدر المنثور» (1/ 147). (3) أي في ضمير {يَعْرِفُونَهُ}.

(1/283)


وقيل: المذكور، وهو التوحيد. والقولان متلازمان؛ إذ ذلك في معرض الاستشهاد والاحتجاج على المشركين، لا في معرض ذمِّ الذين آتاهم الكتاب؛ فإنَّ السُّورة مكيَّة، والحِجَاجُ كان فيها مع أهل الشرك، والسِّياقُ يدلُّ على الاحتجاج لا ذمِّ المذكورين من أهل الكتاب. * وأما الثاني، فكقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 144 - 145]؛ فهذا شهادتُه سبحانه للذين أوتوا الكتاب، والأولُ شهادتُه للذين آتاهم الكتابَ بأنهم مؤمنون. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20]، وهذا خطابٌ لمن لم يُسْلِمْ منهم، وإلا فلم يُؤْمَر - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا لمن أسلمَ منهم وصدَّق به. ولهذا لا يذكرُ سبحانه الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب إلا بالذمِّ أيضًا، كقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] الآية، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23].

(1/284)


فالأقسام أربعة: * {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، وهذا لا يذكره سبحانه إلا في معرض المدح. * و {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} لا يكونُ قطُّ إلا في معرض الذَّمِّ. * و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أعمُّ منه، فإنه قد يتناولُهما، ولكن لا يُفْرَدُ به الممدوحون قطُّ (1). * و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} يَعُمُّ الجنسَ كلَّه، ويتناولُ الممدوحَ منه والمذموم، كقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [آل عمران: 113 - 114]، وقال في الذَّمِّ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]. وهذا الفصلُ يُنْتَفَعُ به جدًّا في أكثر (2) مسائل أصول الإسلام، وهي مسألةُ الإيمان واختلاف أهل القبلة فيه، وقد ذكرنا فيه نُكَتًا حِسَانًا يتضحُ بها الحقُّ في المسألة، والله أعلم. الوجه الثاني والثمانون: أنَّ الله سبحانه وتعالى فاوتَ بين النوع الإنسانيِّ أعظمَ تفاوتٍ يكونُ بين المخلوقين، فلا يُعْرَفُ اثنان من نوعٍ واحدٍ بينهما من التفاوت ما بين خير البشر وشرِّهم. _________ (1) (ح، ن): «فقط». وهي قط، والفاء زائدة. (2) كذا في الأصول. ولعل الصواب: «أكبر».

(1/285)


والله سبحانه خَلَق الملائكةَ عقولًا بلا شهوات، وخَلَق الحيوانات ذوات شهواتٍ بلا عقول، وخَلَق الإنسانَ مركَّبًا من عقلٍ وشهوة؛ فمن غَلَب عقلُه شهوتَه كان خيرًا من الملائكة، ومن غَلَبَت شهوتُه عقلَه كان شرًّا من الحيوانات (1). وفاوتَ سبحانه بينهم في العلم؛ فجعلَ عالِمَهم معلِّمَ الملائكة، كما قال تعالى: {يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]، وتلك مرتبةٌ لا مرتبةَ فوقها، وجعلَ جاهلَهم بحيثُ لا يرضى الشيطانُ به ولا يَصْلُح له، كما قال الشيطانُ لجاهلهم الذي أطاعه في الكفر: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16]، وقال لجَهَلَتِهم الذين عصوا رسولَه: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48]. فلِلَّه ما أشدَّ هذا التفاوت بين شخصين، أحدهما: تسجدُ له الملائكةُ ويعلِّمها مما علَّمه الله، والآخر: لا يرضى الشيطانُ به وليًّا! وهذا التفاوتُ العظيمُ إنما حصلَ بالعلم وثمرته، ولو لم يكن في العلم إلا القُربُ من ربِّ العالمين، والالتحاقُ بعالَم الملائكة، وصحبةُ الملأ الأعلى؛ لكفى به فضلًا وشرفًا، فكيف وعزُّ الدُّنيا والآخرة منوطٌ به ومشروطٌ بحصوله؟! الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه. _________ (1) انظر: «التمثيل والمحاضرة» (172)، و «أدب الدنيا والدين» (28)، و «سراج الملوك» (275)، و «البدء والتاريخ» (1/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 351، 15/ 428)، و «مدارج السالكين» (2/ 352)، و «عدة الصابرين» (37).

(1/286)


ولمَّا كان القلبُ هو محلَّ العلم، والسمعُ رسولُه الذي يأتيه به، والعينُ طليعتُه؛ كان مَلِكًا على سائر الأعضاء، يأمرُها فتأتمرُ لأمره، ويصرفُها فتنقادُ له طائعة، بما خُصَّ به من العلم دونها، فلذلك كان مَلِكَها والمطاع فيها. وهكذا العالِمُ في الناس كالقلب في الأعضاء. ولمَّا كان صلاحُ الأعضاء بصلاح مَلِكِها ومطاعها، وفسادُها بفساده؛ كانت هذه حال الناس مع علمائهم وملوكهم، كما قال بعض السلف: «صنفان إذا صلحا صلحَ الناس (1)، وإذا فسدا فسدَ الناس: العلماءُ والأمراء» (2). قال عبد الله بن المبارك: وهل أفسدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ ... وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها (3) ولمَّا كان للسمع والبصر من الإدراك ما ليس لغيرهما من الأعضاء كانا في أشرف جزءٍ من الإنسان وهو وجهُه، وكانا من أفضل ما في الإنسان من الأجزاء والأعضاء والمنافع. _________ (1) (ق): «سائر الناس». في الموضعين. (2) أخرجه بنحوه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 5) عن سفيان الثوري. ورُوِي بلفظه مرفوعًا من حديث ابن عباسٍ، أخرجه تمام في «الفوائد» (3/ 102 - الروض)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 96)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 641) بإسنادٍ شديد الضعف. وانظر: «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 13)، و «الضعيفة» (16). (3) من أبياتٍ مشهورة تروى عنه، في «الحلية» (8/ 279)، و «شعب الإيمان» (6918)، ومعجم ابن المقرئ (1205)، و «جامع بيان العلم» (1/ 638)، وغيرها.

(1/287)


واختلفَ الناسُ في الأفضل منهما (1): * فقالت طائفة، منهم أبو المعالي (2) وغيرُه: السمعُ أفضل. قالوا: لأنَّ به تنالُ سعادةُ الدنيا والآخرة، فإنها إنما تحصلُ بمتابعة الرسل، وقبول رسالاتهم، وبالسمع عُرِفَ ذلك؛ فإنَّ من لا سَمْعَ له لا يعلمُ ما جاءوا به. وأيضًا؛ فإنَّ السمعَ يُدْرَكُ به أجلُّ شيءٍ وأفضلُه، وهو كلامُ الله تعالى الذي فضلُه على الكلام كفضل الله على خلقه. وأيضًا؛ فإنَّ العلومَ إنما تنالُ بالتفاهم والتخاطب، ولا يحصلُ ذلك إلا بالسمع. وأيضًا؛ فإنَّ مُدْرَكه أعمُّ من مُدْرَكِ البصر؛ فإنَّه يدركُ الكلِّيَّات والجزئيَّات والشاهدَ والغائب والموجودَ والمعدوم، والبصرُ لا يدركُ إلا بعض المشاهَدات، والسمعُ يسمعُ كلَّ علم؛ فأين أحدُهما من الآخر؟! _________ (1) انظر: «الصواعق المرسلة» (873)، و «مدارج السالكين» (2/ 409)، و «الصناعتين» لأبي هلال (423)، و «تفسير الرازي» (1/ 53، 17/ 101)، و «تفسير القرطبي» (1/ 189)، و «اللباب» لابن عادل (1/ 326)، و «روح المعاني» (1/ 138)، و «الحاوي» (12/ 244)، و «حاشية البجيرمي على الخطيب» (4/ 537)، و «الذخيرة» للقرافي (3/ 378)، و «حاشية قرة عيون الأخبار» تكملة «رد المحتار» (7/ 128)، و «نكت الهميان» (17)، و «تسلية الأعمى عن بلية العمى» للقاري (57)، والمصادر الآتية في التعليقات. ولكمال الدين البكري (ت: 1196): «تشنيف السمع في تفضيل البصر على السمع» كما في ترجمته من «سلك الدرر» (4/ 19). (2) الجويني. انظر: «البرهان» (1/ 134).

(1/288)


ولو فرضنا شخصين: أحدهما يسمعُ كلام الرسول ولا يرى شخصَه، والآخر بصيرٌ يراه ولا يسمعُ كلامَه لصممه، هل كانا سواءً؟! وأيضًا؛ ففاقدُ البصر إنما يفقدُ إدراكَ بعض الأمور الجزئية المشاهَدة، ويمكنُه معرفتُها بالصِّفة ولو تقريبًا، وأمَّا فاقدُ السمع فالذي فاته من العلم لا يمكنُ حصولُه بحاسَّة البصر ولا قريبًا. وأيضًا؛ فإنَّ ذمَّ الله تعالى للكفار بعدم السمع في القرآن أكثرُ من ذمِّه لهم بعدم البصر، بل إنما يذمُّهم بعدم البصر تبعًا لعدم العقل والسمع. وأيضًا؛ فإنَّ الذي يُورِدُه السمعُ على القلب من العلوم لا يلحقُه فيه كلالٌ ولا سآمةٌ ولا تعبٌ مع كثرته (1) وعِظَمِه، والذي يُورِدُه البصرُ عليه يلحقُه فيه الكَلالُ والضعفُ والنقص، وربَّما خشي صاحبُه على ذهابه مع قلَّته ونزارته بالنسبة إلى السمع. * وقالت طائفة، منهم ابن قتيبة: بل البصرُ أفضل (2)؛ فإنَّ أعلى النعيم وأفضلَه وأعظمَه لذَّةً هو النظرُ إلى الله في الدار الآخرة، وهذا إنما ينالُ بالبصر، وهذه وحدها كافيةٌ في تفضيله. قالوا: وهو مقدِّمةُ القلب وطليعتُه ورائدُه، فمنزلتُه منه أقربُ من منزلة السمع؛ ولهذا كثيرًا ما يُقْرَنُ بينهما في الذِّكر؛ كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي _________ (1) (ح): «من كثرته». (2) كذا ذكر المصنفُ قول ابن قتيبة، ونقله في «بدائع الفوائد» (124) عن الجويني عنه. وهو وهم. والذي في «تأويل مشكل القرآن» (7) ــ ونقله الجوينيُّ وابن تيمية وغيرهما ــ هو القولُ بتفضيل السمع. ووقعت حكايته على الصواب في «بدائع الفوائد» (1106).

(1/289)


الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]؛ فالاعتبارُ بالقلب والبصرُ بالعين. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، ولم يقل: وأسماعَهم، وقال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، وقال تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 8 - 9]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. وقال في حقِّ رسوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثمَّ قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وهذا يدلُّ على شدَّة الوُصْلَة والارتباط بين القلب والبصر، ولهذا يقرأ الإنسانُ ما في قلب الآخر مِنْ عَيْنِه، وهذا كثيرٌ في كلام الناس نَظْمِه ونثره، وهو أكثرُ من أن نذكره هنا (1). ولمَّا كان القلبُ أشرفَ الأعضاء كان أشدُّها ارتباطًا به أشرفَ (2) من غيره. قالوا: ولهذا يأتمنُه القلبُ ما لا يأتمنُ السمعَ عليه، بل إذا ارتاب من جهته (3) عَرَض ما يأتيه به على البصر ليزكِّيه أم يردَّه، فالبصرُ حاكمٌ عليه _________ (1) انظر: «روضة العقلاء» (199)، و «الوساطة بين المتنبي وخصومه» (298)، و «الزهرة» (422، 425)، و «معاهد التنصيص» (1/ 129)، و «غرر الخصائص» (1/ 108) [و"الأنس والعرس" للآبي (175)]. (2) (ق): «وأشرف». وهو تحريف. (3) (ح، ن): «جهة السمع».

(1/290)


مؤتمَنٌ عليه. قالوا: ومن هذا: الحديثُ الذي رواه أحمد في «مسنده» مرفوعًا: «ليس المُخْبَرُ كالمُعايِن» (1). قالوا: ولهذا أخبر اللهُ سبحانه موسى أنَّ قومَه افتَتَنوا من بعده، وعَبَدوا العجل، فلم يلحقه في ذلك ما لحقه عند رؤية ذلك ومعاينته من إلقاء الألواح وكَسْرِها؛ لقوَّة المعاينة (2) على الخبر. قالوا: وهذا إبراهيمُ خليلُ الله يسألُ ربَّه أن يُرِيَه كيف يحيي الموتى، وقد عَلِم ذلك بخبر الله له ولكنْ طَلَبَ أفضلَ المنازل وهي طمأنينةُ القلب. قالوا: ولليقين ثلاثُ مراتب: * أولها: للسمع. * وثانيها: للعين (3). وهي المسمَّاة بعين اليقين، وهي أفضلُ من المرتبة الأولى وأكمل (4). _________ (1) أخرجه أحمد (1/ 215، 271)، والبزار (5062، 5063، 5155)، وغيرهما من حديث ابن عباس. وصححه ابن حبان (6213، 6214)، والحاكم (2/ 321) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: «علل الترمذي الكبير» (387)، و «الكامل» لابن عدي (7/ 136)، و «موافقة الخبر الخبر» (2/ 138)، و «المقاصد الحسنة» (415). وروي من أوجهٍ أخرى لا تثبت. (2) (ق): «لفوت المعاينة». (3) (ح): «أولها السمع، والثاني العين». (4) والمرتبةُ الثالثة هي طمأنينةُ القلب الحاصلةُ عن مباشرة المعلوم وإدراكه إدراكًا تامًّا، وهي حقُّ اليقين، والمرتبةُ الثانيةُ تؤدِّي إليها، وقد طواها المصنفُ لتقدُّم ذكرها. وانظر ما سيأتي (ص: 419).

(1/291)


قالوا: وأيضًا؛ فالبصرُ يؤدِّي إلى القلب، ويؤدِّي عنه؛ فإنَّ العينَ مرآةُ القلب، يظهرُ فيها ما يُجِنُّه من المحبة والبغض، والموالاة والمعاداة، والسُّرور والحزن، وغيرها. وأمَّا الأذنُ، فلا تؤدِّي عن القلب شيئًا البتَّة، وإنما مرتبتُها الإيصالُ إليه حَسْب؛ فالعينُ أشدُّ تعلُّقًا به. * والصوابُ (1) أنَّ كلًّا منهما له خاصِّيَّةٌ فُضِّل بها على الآخر؛ فالمُدْرَكُ بالسمع أعمُّ وأشمل، والمُدْرَكُ بالبصر أتمُّ وأكمل؛ فالسمعُ له العمومُ والشمول، والبصرُ له الظهورُ والتمامُ وكمالُ الإدراك. وأمَّا نعيمُ أهل الجنة فشيئان: أحدهما: النظرُ إلى الله. والثاني: سماعُ خطابه وكلامه؛ كما رواه عبد الله بن أحمد في «السُّنَّة» (2) وغيره: «كأنَّ الناسَ يوم القيامة لم يسمعوا القرآنَ إذا سمعوه من _________ (1) هذا جوابُ شيخ الإسلام ابن تيمية، كما ذكر المصنفُ في «مدارج السالكين» (2/ 410)، و «بدائع الفوائد» (126، 1107). وانظر: «مجموع الفتاوى» (16/ 68)، و «درء التعارض» (7/ 325)، و «الرد على المنطقيين» (96). وذكر الصفديُّ في «نكت الهميان» (18) أن لشيخ الإسلام كراسةً في هذه المسألة. (2) (123)، والخلال في «السنة» (6/ 84، 85) كلاهما عن محمد بن كعب القرظيِّ قوله. وأخرجه الرافعي في «التدوين» (4/ 403) عنه عن أبي هريرة مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف، ورفعُه منكر.

(1/292)


الرحمن عز وجل». ومعلومٌ أنَّ سلامَه عليهم وخطابَه لهم ومحاضرتَه إياهم ــ كما في الترمذي (1) وغيره ــ لا يُشْبِهها شيءٌ قطُّ، ولا يكونُ أطيب عندهم منها، ولهذا يذكرُ سبحانه في وعيد أعدائه أنه لا يكلِّمهم، كما يذكرُ احتجابَه عنهم وأنهم لا يرونه، فكلامُه ورؤيتُه أعلى نعيم أهل الجنة، والله أعلم. الوجه الرابع والثمانون: أنَّ الله سبحانه في القرآن يعدِّدُ على عباده من نعمه عليهم أنْ أعطاهم آلات العلم، فيذكرُ الفؤادَ والسمعَ والأبصار، ومرةً يذكرُ اللسانَ الذي يُتَرْجِمُ عن القلب. فقال تعالى في سورة النِّعم ــ وهي سورة النحل ــ التي ذكر فيها أصولَ النِّعم وفروعَها ومتمِّماتها ومكمِّلاتها، فعدَّدَ نعمَه فيها على عباده، وتعرَّف بها إليهم، واقتضاهم شكرَها (2)، وأخبر أنه يتمُّها عليهم ليعرفوها ويذكروها ويشكروها، فأوَّلها في أصول النِّعم، وآخرُها في مكمِّلاتها، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]؛ فذكر سبحانه نعمته عليهم بأنْ أخرجَهم لا علمَ لهم، ثمَّ أعطاهم الأسماعَ والأبصارَ والأفئدةَ التي نالوا بها من العلم ما نالوه، وأنه فَعَل بهم ذلك ليشكروه. _________ (1) (2549)، وقال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ... ». وصححه ابنُ حبان (7438)، وابن تيمية في «الفتاوى» (6/ 419). وروي من وجهٍ آخر فيه انقطاع، وهو أصح، وبه أعلَّه الدارقطنيُّ في «العلل» (7/ 275)، [والنخشبي في تخريج فوائد الحنائي] (ق: 12/أ). (2) (ت): «وأوصاهم شكرها».

(1/293)


وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26]. وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]، فذكر هنا العينين اللَّتين (1) يُبْصِرُ بهما فيعلَم المشاهَدات، وذكر هدايةَ النجدَين، وهما طريقا الخير والشرِّ، وفي ذلك حديثٌ مرفوعٌ مرسل (2)، وهو قولُ أكثر المفسِّرين، ويدلُّ عليه الآيةُ الأخرى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. والهدايةُ تكونُ بالقلب والسمع؛ فقد دخلَ السمعُ في ذلك لزومًا، وذكر اللسانَ والشفتَيْن اللَّتين هما آلةُ التعليم، فذكر آلات العلم والتعليم، وجعلها من آياته الدالَّة عليه وعلى قدرته ووحدانيته ونِعَمه التي تعرَّف بها إلى عباده. ولمَّا كانت هذه الأعضاءُ الثلاثةُ هي أشرفَ الأعضاء وملوكَها والمتصرِّفةَ فيها والحاكمةَ عليها، خصَّها سبحانه وتعالى بالذِّكر في السؤال عنها؛ فقال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فسعادةُ _________ (1) (ق، ن، ت، د): «التي». والمثبت من (ح)، وأخشى أن يكون من إصلاح الناسخ. (2) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (3/ 374)، والطبري (24/ 438) من مرسل الحسن. وأخرجه الطبري (24/ 439) من مرسل قتادة. وأخرجه عبد الرزاق (3/ 374)، والطبري (24/ 437)، والطبراني في «الكبير» (9/ 225)، واللالكائي في «السنة» (956)، وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، وصححه الحاكم (2/ 523)، وحسنه ابن حجر في «الفتح» (8/ 541). ورُوِي من وجوهٍ أخرى مرفوعًا وموقوفًا، فانظر: «الدر المنثور» (6/ 353).

(1/294)


الإنسان بصحة هذه الأعضاء الثلاثة، وشقاوتُه بفسادها. قال ابن عباس: «يسألُ اللهُ العبادَ فيما استعملوا هذه الثلاثة: السمع والبصر والفؤاد» (1). والله تعالى أعطى العبدَ السمعَ ليسمعَ به أوامرَ ربِّه ونواهيه وعُهودَه، والقلبَ ليعقلها ويَفْقَهها، والبصرَ ليرى آياته فيستدلَّ بها على وحدانيته وربوبيته؛ فالمقصودُ بإعطائه هذه الآلات العلمُ وثمرتُه ومقتضاه. الوجه الخامس والثمانون: أنَّ أنواع السعادات التي تُؤْثِرُها النفوسُ ثلاثة: * سعادةٌ خارجيةٌ عن ذات الإنسان، بل هي مستعارةٌ له من غيره، تزولُ باسترداد العاريَّة، وهي سعادةُ المال والجاه وتوابعهما، فبينا المرءُ بها سعيدٌ ملحوظٌ بالعناية مرموقٌ بالأبصار، إذ أصبح في اليوم الواحد أذلَّ مِنْ وَتِدٍ بقاعٍ يُشَجِّجُ رأسَه بالفِهْر واجي (2). _________ (1) أخرجه الطبري (24/ 582)، والبيهقي في «الشعب» (8/ 492) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. (2) هذا مثلٌ سائر. انظر: «المستقصى» (1/ 199)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 468). وأصلُه بيتٌ لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، من كلمةٍ يهجو فيها عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص، في «الكامل» (341، 627). قال: وكنتَ أذلَّ من وتدٍ بقاعٍ ... يشجِّجُ رأسَه بالفِهْر واجِي وهو من شواهد «الكتاب» (3/ 555)، و «شرح المفصَّل» (9/ 114)، و «شرح الشافية» (3/ 49)، وغيرها. والقاع: المستوي من الأرض. ويُشَجِّج: مبالغةٌ من يشُجُّ. والفِهْر: الحجرُ ملء الكفِّ. و «واجي» أصلُها: «واجاء»، اسمُ فاعلٍ من وَجَأ، خفَّف الهمزَ اضطرارًا.

(1/295)


فالسعادةُ والفرحُ بهذه كفرح الأقرع بجُمَّة ابن عمِّه، والجمالُ بها كجمال المرء بثيابه وبِزَّته، فإذا جاوز بصرُك كسوتَه فليس وراء عَبَّادان قرية (1). ويحكى عن بعض العلماء أنه ركبَ مع تجَّارٍ في مركب، فانكسرت بهم السفينة، فأصبحوا بعد عزِّ الغنى في ذلِّ الفقر، ووصلَ العالِمُ إلى البلد، فأُكرِمَ وقُصِدَ بأنواع التُّحف والكرامات، فلمَّا أرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا له: هل لك إلى قومك كتابٌ أو حاجة؟ فقال: نعم، تقولون لهم: إذا اتخذتم مالًا فاتخذوا مالًا لا يغرقُ إذا انكسرت السفينة (2). واجتمعَ رجلٌ ذو هيئةٍ حسنةٍ ولباسٍ جميلٍ ورُوَاءٍ (3) برجلٍ عالِم، _________ (1) عبَّادان: بلدةٌ على الضفَّة الغربية لدجلة، تحت البصرة، ليس وراءها قريةٌ غير البحر (الخليج العربي)، وهي الآن ميناءٌ كبير تنتهي فيه أنابيب النفط الإيراني. انظر: «معجم البلدان» (عبادان)، و «الروض المعطار» (407)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (70). والعبارةُ مثلٌ سائر. وتطلقُ كنايةً عن الرجل الحسن الصورة وليس وراءه حاصل. انظر: «مجمع الأمثال» (2/ 257)، و «الكناية والتعريض» (115)، و «تتمة يتيمة الدهر» (5/ 235). وسياقُ المصنف مأخوذٌ من قول الخوارزمي أو غيره: أبو سعدٍ له ثوبٌ نفيسٌ ... ولكن تحت ذاك الثوب عرية فإن جاوزت كسوتَه إليه ... فليس وراء عبادان قرية انظر: «محاضرات الأدباء» (4/ 16)، و «رسائل الثعالبي» (137). (2) انظر: «الكلم الروحانية» لابن هندو (90)، و «مختار الحكم» للمبشر بن فاتك (32)، ومنتخب «صوان الحكمة» (217)، و «نزهة الأرواح» للشهرزوري (1/ 306). (3) بضمِّ الراء. وهو المنظر الحسن. «اللسان» (روي).

(1/296)


فجَسَّ المَخاضَةَ (1) فلم ير شيئًا، فقالوا: كيف رأيته؟ فقال: رأيتُ دارًا حسنةً مزخرفةً ولكنْ ليس بها ساكن! * السعادة الثانية: سعادةٌ في جسمه وبدنه؛ كصحته واعتدال مِزاجه، وتناسُب أعضائه، وحُسْن تركيبه، وصفاء لونه، وقوَّة أعصابه (2). فهذه ألصقُ به من الأولى، ولكن هي في الحقيقة خارجةٌ عن ذاته وحقيقته؛ فإنَّ الإنسانَ إنسانٌ بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه، كما قيل: يا خادمَ الجسم كم تشقى بخدمته ... فأنت بالرُّوح لا بالجِسْم إنسانُ (3) فنسبةُ هذه إلى روحه وقلبه كنسبة ثيابه ولباسه إلى بدنه؛ فإنَّ البدنَ أيضًا عاريةٌ للرُّوح وآلةٌ لها ومركبٌ من مراكبها، فسعادتُها بصحَّته، وجمالُه وحُسْنُه سعادةٌ خارجةٌ عن ذاتها وحقيقتها. * السعادة الثالثة: هي السعادةُ الحقيقية، وهي سعادةٌ نفسانيةٌ روحيةٌ قلبية، وهي سعادةُ العلم النافع وثمرتُه؛ فإنها هي الباقيةُ على تقلُّب الأحوال، _________ (1) كنايةٌ عن اختبار المرء لكشف دخيلته. ويرادفه: سَبْر الغَوْر. انظر: «المعجم الكبير» لتيمور (5/ 322)، و «التصوف الإسلامي» لزكي مبارك (286). (2) (ت، د، ق): «أعضائه». (3) البيت لأبي الفتح البستي في «ديوانه» (311)، وهو في بعض المصادر ضمن نونيَّته المشهورة، وورد مع آخر في نسخ الديوان منفردين عنها. وفي (ح، ن) بعد البيت زيادة: «وفي رواية: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... لتطلب الربح مما فيه خسران أقبل على النفس فاستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان» وهي رواية الديوان، وأظنها كانت تعليقًا لأحد القرَّاء، فأدخله الناسخ في الأصل.

(1/297)


والمُصاحِبةُ للعبد في جميع أسفاره، وفي دُوره الثلاثة ــ أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار ــ، وبها يترقَّى في معارج الفضل ودرجات الكمال. أمَّا الأولى، فإنما (1) تصحبُه في البقعة التي فيها مالُه وجاهُه. والثانية، فعُرضةٌ للزوال والتبدُّل بِنَكْس الخَلْق والردِّ إلى الضَّعف. فلا سعادةَ في الحقيقة إلا هذه الثالثة، التي كلَّما طال عليها الأمدُ ازدادت قوةً وعلوًّا، وإذا عُدِمَ المالُ والجاهُ فهي مالُ العبد وجاهُه، وتظهرُ قوتُها وأثرُها بعد مفارقة البدن (2) إذا انقطعت السعادتان الأوَّلتان (3). وهذه السعادةُ لا يعرفُ قَدْرَها ويبعثُ على طلبها إلا العلمُ بها؛ فعادت السعادةُ كلُّها إلى العلم وما يقتضيه، والله يوفِّقُ من يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وإنما رَغِبَ أكثرُ الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها لوعورة طريقها، ومرارة مَباديها، وتعب تحصيلها، وأنها لا تنالُ إلا على جسرٍ من التعب (4)؛ فإنها لا تُحَصَّلُ إلا بالجدِّ المحض، بخلاف الأوَّلتَين (5)، فإنهما حظٌّ قد يَحُوزُه _________ (1) (ت، د، ق، ح): «فإنها». (2) أي: مفارقة الروح البدن. (3) كذا في الأصول، مثنى: الأوَّلة. لغةٌ حكاها ثعلب، وعدَّها طائفةٌ من لحن العوام. والمشهور الفصيح: الأُولَيان، مثنى: الأُولى. انظر: «اللسان» (وأل)، و «تصحيح التصحيف» (139)، و «المصباح المنير» (آل). وتقع في مواضع من كتب المصنف بالتاء، وفي مواضع بالياء، ويصعب تمييز قلمه من اجتهادات النساخ في مثل هذا مما لم يصلنا بخطه. (4) (ن): «التعب والمشقة». (5) مهملة في (د). (ق): «الأوليين».

(1/298)


غيرُ طالبه، وبَخْتٌ قد يحرزُه (1) غيرُ جالبِه من ميراثٍ أو هبةٍ أو غير ذلك، وأمَّا سعادةُ العلم فلا يورثُك إياها إلا بذلُ الوسع، وصدقُ الطَّلب، وصحةُ النية. وقد أحسنَ القائلُ في ذلك (2): فقُلْ لِمُرجِّي معالي الأمور ... بغيرِ اجتهادٍ رَجَوْتَ المُحالا وقال الآخر (3): لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهم ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتَّالُ ومن طمَحَت همَّته إلى الأمور العَلِيَّة، فواجبٌ عليه أن يَسُدَّ على همَّته الطُّرقَ الدنيَّة. وهذه السعادةُ وإن كانت في ابتدائها لا تنفكُّ عن ضربٍ من المشقَّة والكَرْه والتأذِّي، فإنها متى أُكرِهَت النفسُ عليها، وسِيقَت طائعةً وكارهةً إليها، وصبرَت على لأوائها وشدَّتها، أفضتْ منها إلى رياضٍ مُونِقَة، ومقاعدِ صدقٍ ومقامٍ كريم، تجدُ كلَّ لذَّةٍ دونها كلذَّة لعب الصَّبيِّ بالعصفور بالنسبة إلى لذَّة الملوك؛ فحينئذٍ حالُ صاحبها كما قيل: وكنتُ أرى أنْ قد تناهى بيَ الهوى ... إلى غايةٍ ما بعدَها ليَ مذهبُ _________ (1) (ت، ق، د، ح): «يحوزه». والبَخْت: فارسية، بمعنى الحظِّ. (2) وهو الخُبْزأرُزِّي (ت: 327)، في مستدرك ديوانه المنشور بمجلة المجمع العلمي العراقي (3/ 42/141)، وشعره المجموع في مجلة معهد المخطوطات (2/ 39/135)، كلاهما عن «محاضرات الأدباء» (1/ 156، 2/ 446). (3) وهو المتنبي، في ديوانه (505)، من كلمةٍ يمدح فيها فاتكًا، هي عندي من أصدق مدائحه.

(1/299)


فلمَّا تلاقينا وعايَنْتُ حُسْنَها ... تيقَّنتُ أني إنما كنتُ ألعبُ (1) فالمكارمُ مَنُوطةٌ بالمكاره، والسعادةُ لا يُعْبَرُ إليها إلا على جسر المشقَّة، ولا تُقْطَعُ مسافتُها إلا في سفينة الجدِّ والاجتهاد. قال مسلمٌ في «صحيحه» (2): «قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنالُ العلمُ براحة الجسم». وقد قيل: «من طلبَ الراحةَ تركَ الراحة» (3). فيا وَصْلَ الحبيب أمَا إليه ... بغيرِ مشقَّةٍ أبدًا طريقُ (4) ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذَّة وعِظَم قدرها لتَجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجابٍ من الجهل؛ ليختصَّ اللهُ بها من يشاء من عباده، والله ذوالفضل العظيم. الوجه السادس والثمانون: أنَّ اللهَ سبحانه خلقَ الموجودات، وجَعَل _________ (1) نسبهما محمد بن داود في «الزهرة» (274) لبعض أهل العصر، على عادته في عزو شعره لبعض أهل عصره، كما ذكر المسعوديُّ في «مروج الذهب» (5/ 196)، وتصديقُه فيما كتب نوري القيسي في «أوراق من ديوان محمد بن داود» (10 - 12). (2) (612). ولإيراد مسلم له في صحيحه في هذا الموضع منه نكتةٌ لطيفة، انظر: «إكمال المعلم» (2/ 577)، و «شرح النووي» (5/ 113). (3) انظر: «الزهد» للبيهقي (83)، و «أدب الدنيا والدين» (65). وقال مِهْيار، ديوانه (1/ 80): أتعبَه تغليسُه في العُلا ... من طلبَ الراحةَ فليتعبِ (4) لم أجده، ويشبه نظم المصنف.

(1/300)


لكلِّ شيءٍ منها كمالًا يختصُّ به هو غايةُ شرفه، فإذا عَدِمَ كمالَه انتقل إلى الرتبة التي دونه واستُعمِلَ فيها، فكان استعمالُه فيها كمالَ أمثاله، فإذا عَدِمَ تلك أيضًا نُقِلَ إلى ما دونها، ولا يُعَطَّلُ (1)، وهكذا أبدًا، حتى إذا عَدِمَ كلَّ فضيلةٍ صار كالشَّوك وكالحطب الذي لا يصلحُ إلا للوقود. فالفَرسُ إذا كانت فيه فروسيَّتُه التامَّةُ أُعِدَّ لمراكب الملوك، وأُكرِمَ إكرامَ مثله، فإذا نزل عنها قليلًا أُعِدَّ لمن دون المَلِك، فإن ازداد تقصيرُه فيها أُعِدَّ لآحاد الأجناد، فإن تقاصر عنها جملةً استُعمِلَ استعمالَ الحمار، إمَّا حولَ المَدار، وإمَّا لنقل الزِّبْل ونحوه، فإن عَدِمَ ذلك استُعمِلَ استعمالَ الأغنام للذبح والإعدام. كما يقال في المثل (2): إن فرسَيْن التقيا؛ أحدُهما تحت مَلِكٍ والآخرُ تحت الرَّوايا (3)، فقال فرسُ الملك: أمَا أنت صاحبي وكنتُ أنا وأنت في مكانٍ واحد، فما الذي نزَل بك إلى هذه المرتبة؟! فقال: ما ذاك إلا أنك هَمْلَجْتَ قليلًا وتَكسَّعتُ (4) أنا! وهكذا السيفُ إذا نبا عمَّا هُيِّاء له ولم يصلُح له، ضُرِبَ منه فأسٌ أو _________ (1) (ق، د): «ولا تعطل». (2) انظر هذا المعنى في: «البيان والتبين» (2/ 103)، و «عيون الأخبار» (1/ 235)، و «المدهش» (300). (3) جمعُ راوية، وهي المزادةُ فيها الماء. «اللسان» (روي). (4) تكسَّع في ضلاله: ذهبَ، كتسكَّع. وربما أراد: شابهتُ الحمير، سُمِّيت الحميرُ كُسعةً لأنها تُكْسَعُ في أدبارها، أي: تُضرب. «اللسان» (كسع). وفي (ت): «وأينعت». (د): «تلسعت»، وفوقها بخطٍّ دقيق: كذا.

(1/301)


منشارٌ أو نحوه (1)، وهكذا الدُّورُ العِظامُ الحِسانُ إذا خَرِبَت وتهدَّمت اتُّخِذَت حظائرَ للغنم أو الإبل وغيرها. وهكذا الآدميُّ إذا كان صالحًا لاصطفاء الله له برسالته ونبوَّته اتخذه رسولًا ونبيًّا، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فإذا كان جوهرُه قاصرًا عن هذه الدرجة صالحًا لخلافة النبوَّة وميراثها رشَّحه لذلك وبلَّغه إياه، فإذا كان قاصرًا عن ذلك قابلًا لدرجة الوَلاية رُشِّحَ لها، وإن كان ممَّن يصلحُ للعمل والعبادة دونَ المعرفة والعلم جُعِلَ من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين، فإن نقصَ عن هذه الدرجة ولم تكن نفسُه قابلةً لشيءٍ من الخير أصلًا استُعْمِلَ حطبًا ووقودًا للنار. وفي أثرٍ إسرائيلي: أنَّ موسى سأل ربَّه عن شأن من يعذِّبهم من خلقه؛ فقال: يا موسى، ازرع زرعًا، فزَرَعه، فأوحى الله إليه أن احصُده، ثمَّ أوحى إليه أن انسِفْه واذْرُه (2)، ففعل، وخَلَصَ الحبُّ وحده والتِّبنُ والعيدانُ والعَصْفُ وحده، فأوحى الله إليه: إني لا أجعلُ في النار من العباد إلا من لا خير فيه، بمنزلة العيدان والشَّوك التي لا تصلحُ إلا للنار (3). وهكذا الإنسانُ يترقَّى في درجات الكمال درجةً بعد درجة، حتى يَبْلُغَ _________ (1) انظر: «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (91). (2) النَّسْفُ والذَّرْو: تنقيةُ الحَبِّ. (3) أخرجه ابن المبارك (351)، وأحمد (88) كلاهما في «الزهد»، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 91) عن عمار بن ياسر بإسنادٍ فيه ضعف. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (642)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 286) عن سعيد بن جبير. وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 201): «رجاله رجال الصحيح».

(1/302)


نهايةَ ما ينالُه أمثالُه منها، فكم بين حاله في أول كونه نطفةً وبين حاله والربُّ يُسَلِّمُ عليه في داره، وينظرُ إلى وجهه بكرةً وعشيًّا؟! والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره لمَّا جاءه الملَك فقال له: اقرأ، فقال: «ما أنا بقاراء» (1)، وفي آخر أمره يقولُ الله له (2): {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، ويقولُ له خاصَّة: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. ويحكى أنَّ جماعةً من النصارى تحدَّثوا بينهم، فقال قائلٌ منهم: ما أقلَّ عقولَ المسلمين! يزعمونَ أنَّ نبيَّهم كان راعي الغنم، فكيف يصلُح راعي الغنم للنبوَّة؟! فقال له آخرُ من بينهم: أمَّا هم فوالله أعقلُ منَّا؛ فإنَّ الله بحكمته يسترعي النبيَّ الحيوانَ البهيم، فإذا أحسنَ رعايتَه والقيامَ عليه نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق؛ حكمةً من الله وتدريجًا لعبده (3)، ولكن نحن جئنا إلى مولودٍ خرج من امرأة، يأكلُ ويشربُ ويبولُ ويبكي، فقلنا: هذا إلهنا الذي خلقَ السموات والأرض! فأمسكَ القومُ عنه. فكيف يَحْسُنُ بذي همَّةٍ قد أزاحَ اللهُ عنه عِلَلَه، وعرَّفَه السعادةَ والشقاوة، أن يرضى بأن يكون حيوانًا وقد أمكنه أن يصير إنسانًا، وبأن يكون إنسانًا وقد أمكنه أن يصير مَلَكًا (4) في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، فتقومُ _________ (1) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة. (2) (ق): «وفي آخره أمره بقول الله له». وهو تحريف. (3) انظر: «فتح الباري» (4/ 441)، و «الرد على الإخنائي» (72). (4) وذلك أن أهل الجنة لا تقع منهم معصية، فأشبهوا الملائكة من هذا الوجه.

(1/303)


الملائكةُ بخدمته، وتدخلُ عليهم من كلِّ باب، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}؟! (1). وهذا الكمالُ إنما ينالُ بالعلم ورعايته، والقيام بمُوجَبه؛ فعادَ الأمرُ إلى العلم وثمرته، والله الموفِّق. وأعظمُ النقص وأشدُّ الحسرة: نقصُ القادر على التمام، وحسرتُه على تفويته، كما قال بعض السلف: «إذا كَثُرَت طرقُ الخير كان الخارجُ منها (2) أشدَّ حسرة» (3). وصدق القائل (4): ولم أرَ في عيوب الناسِ عيبًا ... كنقصِ القادرينَ على التمام فثبت أنه لا شيء أقبحُ بالإنسان من أن يكون غافلًا عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهَمَج الرَّعاع الذين يُكدِّرون الماءَ ويُغْلُون الأسعار، إنْ عاشَ عاشَ غيرَ حَمِيد، وإن مات مات غيرَ فَقِيد، ففقدُهم راحةٌ للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحشُ لهم الغبراء. الوجه السابع والثمانون: أنَّ القلبَ يعترضُه مرضان يتواردان عليه، إذا _________ (1) انظر: «تفصيل النشأتين» (56)، و «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (61)، و «شرح نهج البلاغة» (20/ 306). (2) أي: دون اغتنام لها. (3) انظر: «سراج الملوك» (200). (4) وهو المتنبي، في ديوانه (476).

(1/304)


استحكما فيه كان هلاكُه وموتُه، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات؛ وهذان أصلُ داء الخلق إلا من عافاه الله. وقد ذكرَ اللهُ تعالى هذين المرضَيْن في كتابه: * أمَّا مرض الشبهات، وهو أصعبُهما وأقتلُهما للقلب، ففي قوله تعالى في حقِّ المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقوله: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدَّثر: 31]، وقال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53]. فهذه ثلاثةُ مواضع، المرادُ بمرض القلب فيها مرضُ الجهل والشُّبهة. * وأمَّا مرض الشهوة، ففي قوله: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، أي: لا تَلِنَّ بالكلام فيطمعَ الذي في قلبه فجورٌ وزنا. قالوا: والمرأةُ ينبغي لها إذا خاطبت الأجانبَ أن تُغْلِظَ كلامَها وتقوِّيه ولا تُليِّنه وتكسِّره؛ فإنَّ ذلك أبعدُ من الرِّيبة والطمع فيها. وللقلب أمراضٌ أُخر من: الرِّياء، والكِبْر، والعُجْب، والحسد، والفخر، والخُيلاء، وحبِّ الرِّياسة والعلوِّ في الأرض. وهذا المرض (1) مركَّبٌ من مرض الشبهة والشهوة؛ فإنه لا بدَّ فيه من تخيُّلٍ فاسد، وإرادةٍ باطلة، كالعُجْب والفخر والخيلاء والكِبْر المركَّب من _________ (1) يعني المذكور آخرًا.

(1/305)


تخيُّل عظمته وفضله وإرادة تعظيم الخلق له ومَحْمَدَتِهم (1). فلا يخرجُ مرضه عن شهوةٍ، أو شبهةٍ، أو مركَّبٍ منهما. وهذه الأمراضُ كلُّها متولِّدةٌ عن الجهل، ودواؤها العلم، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث صاحب الشَّجَّة الذي أفتوه بالغسل، فمات: «قتَلوه قتَلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! إنما شفاءُ العِيِّ السؤال» (2)؛ فجعلَ العِيَّ ــ وهو عِيُّ القلب عن العلم، واللسان عن النطق به ــ مرضًا، وشفاؤه سؤالُ العلماء. فأمراضُ القلوب أصعبُ من أمراض الأبدان؛ لأنَّ غايةَ مرض البدن أن يُفْضِي بصاحبه إلى الموت، وأمَّا مرضُ القلب فيُفْضِي بصاحبه إلى الشقاء الأبديِّ، ولا شفاءَ لهذا المرض إلا بالعلم. ولهذا سمَّى اللهُ تعالى كتابَه شفاءً لأمراض الصدور، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. ولهذا السبب نسبةُ العلماء إلى القلوب كنسبة الأطبَّاء إلى الأبدان، وما _________ (1) (ح): «ومدحتهم». (2) أخرجه أحمد (1/ 330)، وأبو داود (572)، وغيرهما من حديث ابن عباس. وفيه اختلافٌ كثير، والأشبه صحة القدر الذي أورده المصنف وهو أصل الحديث، أما آخره فمعلول. انظر: «الأوسط» لابن المنذر (2/ 22)، و «علل ابن أبي حاتم» (1/ 37)، و «سنن الدارقطني» (1/ 189)، و «الخلافيات» (2/ 490)، و «بيان الوهم والإيهام» (2/ 236).

(1/306)


يقالُ للعلماء: «أطبَّاءُ القلوب» (1) فهو لقَدْرٍ ما جامعٍ بينهما، وإلا فالأمرُ أعظمُ من ذلك؛ فإنَّ كثيرًا من الأمم يستغنون عن الأطبَّاء، ولا يوجدُ الأطبَّاء إلا في اليسير من البلاد، وقد يعيشُ الرجلُ عمره أو برهةً منه لا يحتاجُ إلى طبيب، وأما العلماءُ بالله وأمره فهم حياةُ الوجود وروحُه، ولا يستغنى عنهم طرفةَ عين. فحاجةُ القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفُّس في الهواء، بل أعظَم. وبالجملة؛ فالعلمُ للقلب مثلُ الماء للسَّمك، إذا فقده مات، فنسبةُ العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن إليها، وكنسبة كلام اللِّسان إليه؛ فإذا عَدِمَه كان كالعين العمياء، والأذن الصَّمَّاء، واللِّسان الأخرس. ولهذا يصفُ سبحانه أهلَ الجهل بالعمى والصَّمَم والبَكَم، وذلك صفةُ قلوبهم، فَقَدَت العلمَ النافعَ فبَقِيَت على عماها وصَمَمها وبَكَمِها، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]، والمراد: عمى القلب في الدنيا، وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء: 97]؛ لأنهم هكذا كانوا في الدنيا، والعبدُ يُبْعَثُ على ما مات عليه. واختُلِفَ في هذا العمى في الآخرة (2). _________ (1) انظر: «الإحياء» (1/ 31)، و «مجموع الفتاوى» (34/ 210)، و «زاد المعاد» (4/ 31)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 248)، و «مدارج السالكين» (1/ 426، 439، 2/ 315). (2) انظر ما مضى (ص: 120).

(1/307)


فقيل: هو عمى البصيرة؛ بدليل إخباره تعالى عن رؤية الكفار ما في القيامة ورؤية الملائكة ورؤية النار. وقيل: هو عمى البصر؛ ورُجِّحَ هذا بأنَّ الإطلاقَ ينصرفُ إليه، وبقوله {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 125]، وهذا عمى العين؛ فإنَّ الكافرَ لم يكن بصيرًا بحجَّته. وأجاب هؤلاء عن رؤية الكفَّار في القيامة بأنَّ الله يخرجهم من قبورهم إلى موقف القيامة بُصَرَاء، ويُحْشَرون من الموقف إلى النار عُمْيًا. قاله الفرَّاءُ وغيره (1). الوجه الثامن والثمانون: أنَّ الله سبحانه بحكمته سَلَّط على العبد عدوًّا عالمًا بطرق هلاكه وأسباب الشرِّ الذي يلقيه فيه، متفنِّنًا فيها، خبيرًا بها، حريصًا عليها، لا يَفْتُرُ عنه يقظةً ولا منامًا، ولا بدَّ له من واحدةٍ من ستٍّ ينالها منه (2): * أحدُها (3) ــ وهي غايةُ مراده منه ــ: أن يحُول بينه وبين العلم والإيمان، فيلقيه في الكفر. فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح. * فإن فاتته هذه وهُدِيَ للإسلام حرصَ على تِلْو الكفر، وهي البدعة، وهي أحبُّ إليه من المعصية؛ فإنَّ المعصية يُتابُ منها والبدعةُ لا يُتابُ منها؛ لأنَّ صاحبها يرى أنه على هدى. _________ (1) انظر: «معاني القرآن» (2/ 194)، و «زاد المسير» (5/ 332). (2) انظر: «بدائع الفوائد» (799 - 802). (3) كذا في الأصول.

(1/308)


وفي بعض الآثار: «يقولُ إبليس: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلمَّا رأيتُ ذلك بثثتُ فيهم الأهواء فهم يُذْنِبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا» (1). فإذا ظفر منه بهذه صَيَّره من دعاته وأمرائه. * فإن أعجزَته ألقاه في الثالثة، وهي الكبائر. * فإن أعجزَته ألقاه في اللَّمَم، وهي الرابعة، وهي الصغائر. * فإن أعجزَته شَغَله بالعمل المفضول عما هو أفضلُ منه، ليَرْبَح عليه الفضلَ الذي بينهما؛ وهي الخامسة. * فإن أعجزه ذلك صار إلى السادسة، وهي تسليطُ حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه ويَبْهَتونه ويرمونه بالعظائم؛ ليَحْزُنَه ويشغلَ قلبه عن العلم والإرادة وسائر أعماله. فكيف يمكنُ أن يحترز منه من لا علم له بهذه الأمور، ولا بعدوِّه، ولا بما يحصِّنُه منه؟! فإنه لا ينجو من عدوِّه إلا من عرفه وعرفَ طرقَه التي يأتيه منها وجيشَه الذي يستعينُ به عليه، وعرفَ مداخلَه ومخارجَه، وكيفيَّةَ محاربته، وبأيِّ شيءٍ يحاربه، وبماذا يداوي جِراحتَه (2)، وبأيِّ شيءٍ يستمدُّ _________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 40)، وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 123) - ومن طريقه تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية» (1/ 28) -، والطبراني في «الدعاء» (1780) من حديث أبي بكر الصديق مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وانظر: «تفسير ابن كثير» (2/ 775)، و «مجمع الزوائد» (10/ 207)، و «إتحاف الخيرة» للبوصيري (7/ 422). (2) (ح، ن): «جراحاته».

(1/309)


القوةَ لقتاله ودفعه. وهذا كلُّه لا يحصلُ إلا بالعلم. فالجاهلُ في غفلةٍ وعمًى عن هذا الأمر العظيم والخَطب الجسيم. ولهذا جاء ذكرُ هذا العدوِّ وشأنه وجنوده ومكايده في القرآن كثيرًا جدًّا؛ لحاجة النفوس إلى معرفة عدوِّها، وطرق محاربته ومجاهدته، فلولا العلمُ يكشفُ عن هذا لما نجا من نجا منه؛ فالعلمُ وثمرتُه (1) هو الذي تحصلُ به النجاة منه. الوجه التاسع والثمانون: أنَّ أعظمَ الأسباب التي يُحْرَمُ بها العبدُ خيرَ الدنيا والآخرة ولذَّة النعيم في الدَّارين، ويدخلُ عليه عدوُّه منها، هو: * الغفلةُ المضادَّة للعلم. * والكسلُ المضادُّ للإرادة والعزيمة. هذان أصلُ بلاء العبد وحِرْمانه منازلَ السُّعداء، وهما من عدم العلم. * أمَّا الغفلة، فمضادَّةٌ للعلم منافيةٌ له. وقد ذمَّ سبحانه أهلها، ونهى عن الكَوْن منهم (2)، وعن طاعتهم والقبول منهم، قال تعالى: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. _________ (1) «وثمرته» ليست في (ق). (2) (ن): «معهم». والمثبت موافقٌ للفظ الآية.

(1/310)


وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في وصيَّته لنساء المؤمنين: «ولا تَغْفُلْنَ فتَنْسَيْنَ الرَّحمة» (1). وسئل بعضُ العلماء عن عشق الصُّوَر، فقال: «قلوبٌ غَفَلت عن ذكر الله، فابتلاها بعبوديَّة غيره» (2). فالقلبُ الغافلُ مأوى الشيطان؛ فإنه وسواسٌ خنَّاس، قد التقمَ قلبَ الغافل (3) يقرأ عليه أنواعَ الوساوس والخيالات الباطلة، فإذا تذكَّر وذكر اللهَ انجَمَع (4) وانضمَّ وخَنَسَ وتضاءلَ لذكر الله، فهو دائمًا بين الوسوسة والخَنْس. وقال عروةُ بن رُوَيْم: «إنَّ المسيحَ عليه السلام سأل ربَّه أن يُرِيَه موضعَ الشيطان من ابن آدم، فجلَّى له، فإذا رأسُه رأسُ الحَيَّة، واضعٌ رأسَه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَس، وإذا لم يذكر وَضَع رأسَه على ثمرة قلبه فمَنَّاه وحَدَّثه» (5). _________ (1) أخرجه الترمذي (3583)، وأبو دود (1501)، وأحمد (6/ 370)، وغيرهم. قال الترمذي ــ كما في المطبوعة، ولم يرد في «تحفة الأشراف» (13/ 67) ــ: «هذا حديث غريب». وصححه ابن حبان (842)، والحاكم (1/ 547) ولم يتعقبه الذهبي ــ وانظر: «إتحاف المهرة» (18/ 229) ــ، وحسنه النووي في «الأذكار»، وابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 87). (2) انظر: «جامع المسائل» (1/ 178) رسالة العشق المنسوبة لابن تيمية. (3) (ن): «القلب الغافل». (4) في طرَّة (ح) إشارةٌ إلى أن في نسخة: «انقمع». (5) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 123)، وغيره. وانظر: «فتح الباري» (6/ 563، 8/ 742)، و «الدر المنثور» (6/ 420).

(1/311)


وقد روي في هذا المعنى حديثٌ مرفوع (1). فهو دائمًا يترقَّبُ غفلةَ العبد، فيبذُر في قلبه بذرَ الأماني والشهوات والخيالات الباطلة، فيثمرُ كلَّ حنظلةٍ وكلَّ شوكٍ وكلَّ بلاء، ولا يزالُ يمدُّه بسَقْيِه حتى يغطِّي القلبَ ويُعْمِيه. * وأمَّا الكسل، فيتولَّد عنه الإضاعةُ والتفريطُ والحرمانُ وأشدُّ الندامة وهو منافٍ للإرادة والعزيمة التي هي ثمرةُ العلم؛ فإنَّ من علمَ أنَّ كمالَه ونعيمَه في شيءٍ طلبه بجهده وعزم عليه بقلبه كلِّه، فإنَّ كلَّ أحدٍ يسعى في تكميل نفسه ولذَّته، ولكنَّ أكثرهم أخطأ الطَّريق لعدم علمه بما ينبغي أن يطلبه. فالإرادةُ مسبوقةٌ بالعلم والتصوُّر، فتخلُّفها في الغالب إنما يكونُ لتخلُّف العلم والإدراك، وإلا فمع العلم التامِّ بأنَّ سعادة العبد في هذا المَطْلب ونجاتَه وفوزَه كيف يلحقُه كسلٌ في النهوض إليه؟! ولهذا استعاذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الكسل؛ ففي «الصحيح» (2) عنه أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذُ بك من الهمِّ والحَزَن، والعجز والكسل، والجُبْن والبخل، وضِلَع الدَّين وغلبة الرجال». _________ (1) أخرجه أبو يعلى (4301)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 268)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 186)، والبيهقي في «الشعب» (2/ 435)، وغيرهم من حديث أنسٍ بإسنادٍ ضعيف. وضعفه ابن حجر في «الفتح» (8/ 742). وانظر: «مجمع الزوائد» (7/ 149)، و «إتحاف الخيرة» (6/ 315، 384). (2) «البخاري» (2893)، واللفظ له، و «مسلم» (2706) من حديث أنس.

(1/312)


فاستعاذ من ثمانية أشياء (1)، كلُّ شيئين منها قرينان: * فالهمُّ والحزنُ قرينان. والفرقُ بينهما: أنَّ المكروه الوارد على القلب إمَّا أن يكون على ما مضى أو لما يُسْتَقْبَل؛ فالأول هو الحزن، والثاني الهمُّ. وإن شئتَ قلتَ: الحزنُ على المكروه الذي فات ولا يُتَوقَّعُ دفعُه، والهمُّ على المكروه المنتَظَر الذي يُتَوقَّعُ دفعُه. فتأمَّلْه. * والعجزُ والكسلُ قرينان. فإنَّ تخلُّف مصلحة العبد وكماله ولذَّته وسروره عنه، إمَّا أن يكون مصدرُه عدمَ القدرة، فهو العجز، أو يكون قادرًا عليه لكن تخلَّف لعدم إرادته، فهو الكسل، وصاحبُه يلامُ عليه ما لا يلامُ على العجز. وقد يكونُ العجزُ ثمرةَ الكسل، فيلامُ عليه أيضًا؛ فكثيرًا ما يكسلُ المرءُ عن الشيء الذي هو قادرٌ عليه، وتَضْعُفُ عنه إرادتُه؛ فيفضي به إلى العجز عنه. وهذا هو العجزُ الذي يلومُ اللهُ عليه في قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله يلومُ على العجز» (2)، وإلا فالعجزُ الذي لم تُخْلَق له قدرةٌ على دفعه ولا يدخلُ _________ (1) انظر: «طريق الهجرتين» (606)، و «بدائع الفوائد» (714)، و «زاد المعاد» (2/ 358)، و «روضة المحبين» (61). (2) أخرجه أحمد (6/ 24)، وأبو داود (3627)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (626)، وغيرهم من حديث سيف الشامي عن عوف بن مالكٍ رضي الله عنه. قال النسائي: «سيفٌ لا أعرفه». وعرفه العجليُّ، فقال في «الثقات» (1/ 644): «شاميٌّ تابعيٌّ ثقة». وذكره ابنُ حبان في «الثقات» (4/ 339)، وابنُ خلَفون في «الثقات»، كما في «إكمال تهذيب الكمال» (6/ 198).

(1/313)


مَعْجُوزُه تحت القدرة لا يلامُ عليه. قال بعض الحكماء في وصيَّته: «إياك والكسلَ والضَّجر؛ فإنَّ الكسلَ لا ينهض لمَكْرُمَة، والضجرُ إذا نهض إليها لا يصبرُ عليها» (1). والضَّجرُ متولِّدٌ عن الكسل والعجز، فلم يُفْرِده في الحديث بلفظ. * ثمَّ ذكر الجُبْنَ والبخل. فإنَّ الإحسانَ المتوقَّعَ من العبد إمَّا بماله وإمَّا ببدنه، فالبخيلُ مانعٌ لنفع ماله، والجبانُ مانعٌ لنفع بدنه. والمشهورُ عند الناس أنَّ البخلَ يستلزم الجُبْنَ، من غير عكس؛ لأنَّ من بَخِلَ بماله فهو بنفسه أبخَل، والشجاعةُ تستلزمُ الكرم، من غير عكس؛ لأنَّ من جاد بنفسه فهو بماله أسمَحُ وأجوَد. وهذا الذي قالوه ليس بلازمٍ وإن كان أكثريًّا؛ فإنَّ الشجاعةَ والكرمَ وأضدادها أخلاقٌ وغرائزُ قد تجتمعُ في الرجل، وقد يعطى بعضَها دون بعض (2). وقد شاهدَ الناسُ من أهل الإقدام والشجاعة والبأس من هو أبخلُ الناس، وهذا كثيرًا ما يوجدُ في أمَّة التُّرك؛ يكونُ أشجعَ من لَيْثٍ وأبخلَ من كلب (3). فالرجلُ قد يسمحُ بنفسه ويَضِنُّ بماله، ولهذا يقاتِلُ عليه حتى يُقْتَل، _________ (1) انظر: «البيان والتبيُّن» (2/ 252)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 275). (2) انظر: «الجليس والأنيس» (2/ 450). (3) انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 247، 538).

(1/314)


فيبذُل نفسَه (1) دونه. فمن الناس من يسمحُ بنفسه وماله، ومنهم من يبخلُ بنفسه وماله، ومنهم من يسمحُ بماله ويبخلُ بنفسه، وعكسُه. والأقسامُ الأربعةُ موجودةٌ في الناس. * ثمَّ ذكر ضِلَعَ الدَّين وغلبةَ الرجال. فإنَّ القهرَ الذي ينالُ العبدَ نوعان: أحدهما: قهرٌ بحقٍّ؛ وهو ضِلَعُ الدَّين. والثاني: قهرٌ بباطل؛ وهو غلبةُ الرجال. فصلواتُ الله وسلامُه على من أوتيَ جوامعَ الكلم، واقتُبِسَت كنوزُ العلم والحكمة من ألفاظه. والمقصودُ أنَّ الغفلةَ والكسلَ ــ اللذَين هما أصلُ الحرمان ــ سببهما عدمُ العلم؛ فعاد النقصُ كلُّه إلى عدم العلم والعزيمة، والكمالُ كلُّه إلى العلم والعزيمة. والناسُ في هذا على أربعةِ أضرُب: الضربُ الأول: من رُزِقَ علمًا، وأُعِينَ مع ذلك (2) بقوَّة العزيمة على العمل به؛ وهذا الضربُ هم خلاصةُ الخلق، وهم الموصوفون في القرآن بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وقوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، وبقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي _________ (1) في الأصول: «فيبدا بنفسه». وفي طرَّة (ح): «لعله: فيفدا». والمثبت أشبه. (2) (ت، ق، ح): «على ذلك».

(1/315)


النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]؛ فبالحياة نالَ العزيمة، وبالنُّور نالَ العلم. وأئمةُ هذا الضرب هم أولو العزم من الرسل. الضربُ الثاني: من حُرِمَ هذا وهذا؛ وهم الموصوفون بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وبقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وبقوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52]، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]. وهذا الضربُ شرُّ البريَّة، يضيِّقون الدِّيار، ويُغْلُون الأسعار. وعند أنفسهم أنهم يعلمون، ولكنْ ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون. ويتعلَّمون، ولكنْ ما يضرُّهم ولا ينفعهم. وينطقون، ولكنْ عن الهوى ينطقون. ويتكلَّمون، ولكنْ بالجهل يتكلَّمون. ويؤمنون، ولكنْ بالجِبْت والطاغوت يؤمنون. ويعبدون، ولكنْ يعبدون من دون الله ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم. ويجادِلون، ولكنْ بالباطل ليدحضوا به الحقَّ. ويتفكرون ويبيِّتون (1)، ولكنْ ما لا يرضى من القول يبيِّتون. _________ (1) «ويتفكرون» ليست في (ن).

(1/316)


ويَدْعُون، ولكن مع الله إلهًا آخر يَدْعُون. ويَذْكُرون، ولكن إذا ذُكِّروا لا يَذْكُرون. ويصلُّون، ولكنهم من المصلِّين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون. ويَحْكمون، ولكن حُكْمَ الجاهلية يبغون. ويكتبون، ولكن يكتبونَ الكتابَ بأيديهم، ثمَّ يقولون: هذا من عند الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون. ويقولون: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟! ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون! (1). فهذا الضربُ ناسٌ بالصُّورة وشياطينُ بالحقيقة (2). وجُلُّهمُ إذا فَكَّرْتَ فيهم ... حميرٌ أو كلابٌ أو ذئابُ (3) وصدق البحتريُّ في قوله (4): لم يبقَ من جُلِّ هذا الناس باقيةٌ ... ينالُها الوَهْمُ إلا هذه الصُّوَرُ _________ (1) اقتبس المصنفُ هاهنا بعض الآيات، فلم أرسمها برسم المصحف. (2) انظر: «تفصيل النشأتين» (51). (3) البيت لصالح بن عبد القدوس في «تاريخ دمشق» (23/ 353). وفي «تفصيل النشأتين» (53)، و «معارج القدس» (16) دون نسبة. (4) في ديوانه (2/ 954)، و «الموازنة» (2/ 259).

(1/317)


وقال آخر (1): لا تَخْدَعنْكَ اللِّحى ولا الصُّوَرُ ... تِسْعةُ أعشارِ من ترى بَقَرُ في شجَرِ السَّرْوِ منهمُ مَثَلٌ ... لها رُواءٌ وما لها ثَمَرُ وأحسنُ من هذا كلِّه قولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]. عالِمُهم كما قيل فيه: زَوامِلُ للأسْفارِ (2) لا علمَ عندهم ... بجيِّدها إلا كعِلْمِ الأباعرِ لعَمرُك ما يدري البعيرُ إذا غدا ... بأوْسَاقِه أو راحَ ما في الغَرائرِ (3) وأحسنُ من هذا وأبلغُ وأوجزُ وأفصحُ قولُه تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. _________ (1) وهو ابن لَنْكَك. والبيتان في «اليتيمة» (2/ 410) ومعهما ثالث. والثاني وحده في «أسرار البلاغة» (117)، و «ثمار القلوب» (846)، وغيرهما. وهما في شعره المجموع (27). (2) جمعُ «سِفْر»، وهو الكتاب. وفي المصادر الآتية: «للأشعار». والزوامل: الإبلُ يحمِلُ عليها الرجلُ زاده ومتاعه. والأباعر: جمعُ بعير. والأوساق: الأحمال. والغرائر: أوعيةٌ من خَيْشٍ ونحوه. (3) البيتان لمروان بن أبي حفصة في «الكامل» (1037)، و «العقد» (2/ 484)، وفي شعره المجموع (58)، يهجو قومًا من رُواة الشِّعر لا يَعْلَمُون ما هو، على استكثارهم من روايته.

(1/318)


الضربُ الثالث: من فُتِحَ له بابُ العلم وأُغلِقَ عنه بابُ العزم والعمل؛ فهذا في رتبة الجاهل أو شرٌّ منه. وفي الحديث المرفوع: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه اللهُ بعلمه» (1)، ثبَّته أبو نعيمٍ وغيرُه. فهذا جهلُه كان خيرًا له وأخفَّ لعذابه من علمه، فما زاده العلمُ إلا وبالًا وعذابًا، ومع هذا (2) لا مطمعَ في صلاحه، فإنَّ التائه عن الطريق يُرجى له العَوْدُ إليها إذا أبصرها، فإذا عرفها وحاد عنها عمدًا فمتى تُرجى هدايته؟! قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]. الضربُ الرابع: من رُزِقَ حظًّا من العزيمة والإرادة، ولكن قلَّ نصيبُه من العلم والمعرفة؛ فهذا إذا وُفِّق له الاقتداءُ بداعٍ من دعاة الله ورسوله كان من الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]. _________ (1) أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 305)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 405)، وغيرهما من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ضعيف. قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 628): «هو حديثٌ انفرد به عثمان البرِّي، لم يرفعه غيره، وهو ضعيف الحديث». وأخرجه ابنُ عدي في ترجمته من «الكامل» (5/ 158)، وقال في (3/ 40): «هو معروفٌ به، والبلاء منه». وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 11). (2) (ح، ن): «وهذا».

(1/319)


رزقنا الله من فضله، ولا حَرَمنا بسوء أعمالنا، إنه غفورٌ رحيم. الوجه التسعون: أنَّ كلَّ صفةٍ مدحَ الله بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلم ونتيجتُه، وكلَّ ذمٍّ ذمَّه فهو ثمرةُ الجهل ونتيجتُه. فمدَحه بالإيمان وهو رأسُ العلم ولُبُّه، ومدَحه بالعمل الصالح الذي هو ثمرةُ العلم النافع، ومدَحه بالشكر، والصبر، والمسارعة في الخيرات، والحبِّ له، والخوف منه، والرجاء، والإنابة، والحِلْم، والوقار، واللُّبِّ، والعقل، والعفَّة، والكرم، والإيثار على النفس، والنصيحة لعباده، والرحمة بهم، والرأفة، وخفض الجناح، والعفو عن مسيئهم، والصَّفح عن جانِيهم (1)، وبذل الإحسان لكافَّتهم، ودفع السيئة بالحسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر في مواطن الصبر، والرضا بالقضاء، واللِّين للأولياء، والشِّدَّة على الأعداء، والصدق في الوعد، والوفاء بالعهد، والإعراض عن الجاهلين، والقبول من الناصحين، واليقين، والتوكُّل، والطمأنينة، والسَّكينة، والتواصل، والتعاطف، والعدل في الأقوال والأفعال والأخلاق، والقوَّة في أمره، والبصيرة في دينه، والقيام بأداء حقِّه، واستخراجه من المانعين له، والدعوة إليه وإلى مرضاته وجنَّته، والتحذير عن سُبل (2) أهل الضلال، وتبيين طرق الغيِّ وحال سالكيها، والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، والحضِّ على طعام المسكين، وبرِّ الوالدين، وصِلَة الأرحام، وبَذْل السلام لكافَّة المؤمنين، إلى سائر الأخلاق المحمودة، والأفعال المَرْضِيَّة، التي أقسمَ اللهُ سبحانه على عِظَمِها، فقال _________ (1) (ت): «خاطيهم». (2) (ت، ح): «سبيل».

(1/320)


تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4]. وقالت عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت عن خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: «كان خُلقُه القرآن»، فاكتفى بذلك السائل، وقال: «فهممتُ أن أقومَ ولا أسأل عن شيءٍ بعدها» (1). فهذه الأخلاقُ ونحوها هي ثمرةُ شجرة العلم. أمَّا شجرةُ الجهل، فتثمرُ كلَّ ثمرةٍ قبيحة، من الكفر، والفساد، والشرك، والظُّلم، والبغي، والعدوان، والجَزَع، والهَلَع، والكُنود، والعجلة، والطَّيْش، والحِدَّة، والفُحْش، والبَذاء، والشُّحِّ، والبخل. ولهذا قيل في حدِّ البخل: «جهلٌ مقرونٌ بسوء الظَّنِّ» (2). ومن ثمرته: الغشُّ للخلق، والكِبْرُ عليهم، والفخر، والخيلاء، والعُجْب، والرياء، والسُّمعةُ، والنفاق، والكذب، وإخلاف الوعد، والغِلْظة على الناس، والانتقام، ومقابلةُ الحسنة بالسيئة، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وترك القبول من الناصحين، وحبُّ غير الله ورجاؤه والتوكُّل عليه وإيثار رضاه على رضا الله وتقديم أمره على أمر الله، والتماوتُ عند حقِّ الله، والوثوبُ عند حقِّ نفسه والغضبُ لها والانتصارُ لها؛ فإذا انتُهِكَت حقوقُ نفسه لم يقُم لغضبه شيءٌ حتى ينتقمَ بأكثر من حقِّه، وإذا انتُهِكَت محارمُ الله _________ (1) أخرجه مسلم (746)، والسائلُ هو سعدُ بن هشام بن عامر. (2) سوء الظن بالله عزَّ وجل. انظر: «شعب الإيمان» (20/ 19)، و «تاريخ بغداد» (12/ 338)، و «شرح نهج البلاغة» (17/ 41).

(1/321)


لم يَنْبِض له عِرْقٌ غضبًا لله، فلا قوَّة في أمره ولا بصيرة في دينه. ومن ثمرتها: الدعوةُ إلى سبيل الشيطان، وإلى سلوك طريق الغيِّ (1) واتباع الهوى، وإيثار الشهوات على الطاعات، وقيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ووأدِ البنات، وعقوق الأمهات، وقطيعة الأرحام، وإساءة الجِوار، وركوب مراكب الخزي والعار. وبالجملة؛ فالخيرُ بمجموعه ثمارٌ تُجْتَنى من شجرة العلم، والشرُّ بمجموعه شوكٌ يُجْتَنى من شجرة الجهل، فلو ظهرت صورةُ العلم للأبصار لزاد حُسْنُها على صورة الشمس والقمر، ولو ظهرت صورةُ الجهل للأبصار لكان منظرُها أقبحَ منظر. بل كلُّ خيرٍ في العالم فهو من آثار العلم الذي جاءت به الرسلُ ومسبَّبٌ عنه، وكذلك كلُّ خيرٍ يكونُ إلى قيام الساعة وبعدها في القيامة، وكلُّ شرٍّ وفسادٍ حصل في العالم ويحصلُ إلى قيام الساعة وبعدها في القيامة فسببُه مخالفةُ ما جاءت به الرسلُ في العلم والعمل. ولو لم يكن للعلم أبٌ ومُرَبٍّ وسائسٌ ووزيرٌ إلا العقل الذي به عمارةُ الدَّارين، وهو الذي أرشدَ إلى طاعة الرسل، وسلَّمَ القلبَ والجوارحَ ونفسَه إليهم، وانقاد لحكمهم، وعَزَل نفسَه، وسلَّمَ الأمرَ إلى أهله= لكفى به شرفًا وفضلًا. وقد مدحَ الله سبحانه العقلَ وأهلَه في كتابه في مواضع كثيرةٍ منه، وذمَّ من لا عقلَ له، وأخبر أنهم أهلُ النار الذين لا سمع لهم ولا عقل، فهو آلةُ كلِّ علم وميزانُه الذي يُعْرَفُ به صحيحُه من سقيمه وراجحُه من مرجوحه، _________ (1) (د، ت، ق، ن): «البغي». والمثبت من (ح)، وهو أشبه.

(1/322)


والمرآةُ التي يُعْرَفُ بها الحسنُ من القبيح. وقد قيل: «العقلُ مَلِك، والبدنُ روحُه، وحواسُّه وأفعاله (1) وحركاتُه كلُّها رعيَّةٌ له؛ فإذا ضَعُفَ عن القيام عليها وتعهُّدها وصلَ الخللُ إليها كلِّها» (2). ولهذا قيل: «من لم يكن عقلُه أغلبَ خصال الخير عليه كان حَتْفُه في أغلب خصال الشرِّ عليه» (3). ورُوِي أنه لمَّا هبطَ آدمُ من الجنة أتاه جبريل، فقال: إنَّ الله أحْضَرَكَ العقلَ والدِّين والحياء لتختارَ واحدًا منها؛ فقال: أخذتُ العقل (4)، فقال الدِّينُ والحياء: أُمِرنا أن لا نفارق العقلَ حيثُ كان. فانحازا إليه (5). والعقلُ عقلان: * عقلٌ غريزيٌّ (6)؛ وهو أبُ العلم ومربِّيه ومُثْمِرُه. _________ (1) ليست في (ق). (2) قاله علي بن عبيدة الريحاني (ت: 219). انظر: «البصائر والذخائر» (1/ 28)، و «نثر الدر» (4/ 56)، و «شرح النهج» (20/ 42). (3) نُسِبَ لبعض العرب في «الجليس والأنيس» (4/ 182)، و «المصُون» (141)، وغيرهما. ولأردشير في «التذكرة الحمدونية» (3/ 233)، و «ربيع الأبرار» (3/ 141). ولبعض الأولين في «البيان والتبيُّن» (1/ 86). (4) (ت): «اخترت العقل». (5) أخرجه ابن الدنيا في «العقل» (27، 28)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/ 444) عن رجلٍ من أهل مكة. وأخرجه ابن حبان في «روضة العقلاء» (20) من وجهٍ آخر لا يصح. (6) (د، ح، ق، ن): «عقل غريزة».

(1/323)


* وعقلٌ مُكتَسبٌ مستفاد؛ وهو ولدُ العلم وثمرتُه ونتيجتُه. فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، واستقامَ له أمرُه، وأقبلت عليه جيوشُ السعادة من كلِّ جانب، وإذا فقدهما فالحيوانُ البهيمُ أحسنُ حالًا منه، وإذا انفردا نقصَ الرجلُ بنقصان أحدهما. ومن الناس من يرجِّحُ صاحبَ العقل الغريزيِّ، ومنهم من يرجِّحُ صاحبَ العقل المكتَسب. والتحقيقُ أنَّ صاحبَ العقل الغريزيِّ الذي لا علم ولا تجربة عنده آفتُه التي يؤتى منها الإحجامُ وترك انتهاز الفرصة؛ لأنَّ عقلَه يَعْقِلُه عن انتهاز الفرصة لعدم علمه بها، وصاحبُ العقل المكتَسب المستفاد يؤتى من الإقدام؛ فإنَّ علمَه بالفُرص وطرقها يلقيه على المبادرة إليها، وعقلُه الغريزيُّ لا يطيقُ ردَّه عنها؛ فهو غالبًا يؤتى من إقدامه؛ والأولُ من إحجامه. فإذا رُزِقَ العقلُ الغريزيُّ عقلًا إيمانيًّا مستفادًا من مشكاة النبوَّة (1)، لا عقلًا معيشيًّا نِفاقيًّا يظنُّ أربابُه أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، فإنهم يرون العقلَ أنْ يُرْضُوا الناسَ على طبقاتهم، ويسالِمُوهم، ويستجلبون (2) مودَّتهم ومحبَّتهم. وهذا مع أنه لا سبيل إليه، فهو إيثارٌ للراحة والدَّعة على مُؤْنة (3) الأذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه، وهو وإن كان أسلمَ في العاجلة فهو _________ (1) استطرد المصنف فلم يذكر جواب الشرط، وهو مفهومٌ من السياق. (2) كذا في الأصول، على الاستئناف. (3) في الأصول: «ومونة». وبما أثبت يستقيم السياق.

(1/324)


الهُلْكُ في الآجلة، فإنه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يوالِ في الله ويعادِ فيه؛ فالعقلُ كلُّ العقل ما أوصلَ إلى رضا الله ورسوله. والله الموفِّقُ المعِين. وفي حديثٍ مرفوعٍ ذكره ابن عبد البرِّ وغيرُه: «أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل: قل لفلانٍ العابد: أمَّا زهدُك في الدنيا فقد تعجَّلتَ به الراحة، وأمَّا انقطاعُك إليَّ فقد اكتسبتَ به العزَّ، فما عملتَ فيما لي عليك؟ قال: وما لك علي؟ قال: هل واليتَ فيَّ وليًّا أو عاديتَ فيَّ عدوًّا؟» (1). وذُكِر أيضًا: «أنه أوحى الله إلى جبريل: أن اخسِف بقرية كذا وكذا، قال: يا ربِّ إنَّ فيهم فلانًا العابد. قال: به فابدأ، إنه لم يتمعَّر وجهُه فيَّ يومًا قطُّ» (2). _________ (1) أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (17/ 432)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 202)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 316)، والقاضي عياض في «الغنية» (208)، وغيرهم من حديث ابن مسعود بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ فيه علل: الأولى: أنه من رواية حُميد الأعرج، وهو ضعيف، وأحاديثُه عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود خاصَّةً منكرة، كما قال الإمام أحمد وجماعة (انظر: «المنتخب من العلل للخلال»: 165، و «التهذيب»: 3/ 53)، وهذا الحديث منها. وقد أعلَّ الحديث بهذه العلة ابنُ عبد البر. الثانية: أن محمد بن محمد بن أبي الورد (ولم يَرِد فيه توثيقٌ معتبر) انفرد برفع الحديث، والناس يوقفونه على ابن مسعود. قاله عبد الله بن عبد الرحمن الأزدي (له ترجمة في «تاريخ دمشق»: 29/ 320). رواه عنه ابن عبد البر. الثالثة: أن الخبر قد رُوِيَ مقطوعًا من قول الفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك. أخرجه الدينوري في «المجالسة» (962، 3044). وهو أشبه. (2) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7661)، والبيهقي في «الشعب» (13/ 274) من حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف. وضعَّفه البيهقي. وانظر: «مجمع الزوائد» (7/ 270). وأخرجه البيهقي (13/ 274) من قول مالك بن دينار، وقال: «هذا هو المحفوظ من قول مالك بن دينار». وروي من أوجه أخرى عن بعض السلف. انظر: «العقوبات» لابن أبي الدنيا (14، 16)، و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لعبد الغني المقدسي (42).

(1/325)


الوجه الحادي والتسعون: حديث ابن عمر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مررتُم برياض الجنة فارتعوا»، قالوا: يا رسول الله، وما رياضُ الجنة؟ قال: «حِلَقُ الذِّكر؛ فإنَّ لله سيَّاراتٍ من الملائكة يطلبونَ حِلَقَ الذِّكر، فإذا أتوا عليهم حَفُّوا بهم» (1). قال عطاء: «مجالسُ الذِّكر: مجالسُ الحلال والحرام؛ كيف تشتري (2) وتبيع وتصومُ وتصلِّي وتتصدَّق وتنكح وتطلِّق وتحجُّ». ذكره الخطيبُ في كتاب «الفقيه والمتفقِّه» (3)، وقد تقدَّم بيانُه. الوجه الثاني والتسعون: ما رواه أيضًا عن ابن عمر يرفعُه: «مجلسُ فقهٍ خيرٌ من عبادة ستِّين سنة» (4). وفي رفعه نظر. _________ (1) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 354)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 93) بإسنادٍ شديد الضعف. وروي من وجهٍ آخر أضعف منه. انظر: «اللسان» (5/ 73). وللحديث شواهد من رواية جماعةٍ من الصحابة، لا أعلمُ يصحُّ منها شيء. (2) الأفعال في (ت، د، ق) بياء الغيبة. وهي كذلك في بعض المصادر. (3) (1/ 94)، والطبراني في «مسند الشاميين» (3/ 294)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 195)، كلهم من طريق أبي زرعة الدمشقي في «التاريخ» (1/ 359). (4) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 97) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.

(1/326)


الوجه الثالث والتسعون: ما رواه أيضًا من حديث عبد الرحمن بن عوفٍ يرفعُه: «يسيرُ الفقه خيرٌ من كثير العبادة (1)» (2). ولا يثبت رفعُه. الوجه الرابع والتسعون: ما رواه أيضًا من حديث أنسٍ يرفعُه: «فقيهٌ أفضلُ عند الله من ألف عابد» (3). وهو في الترمذي من حديث رَوْح بن جناح، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ مرفوعًا (4). وفي ثبوتهما مرفوعين نظر، والظاهرُ أنَّ هذا وما أشبهه (5) من كلام الصَّحابة فمن دونهم. الوجه الخامس والتسعون: ما رواه أيضًا عن ابن عمر يرفعُه: «أفضلُ العبادة الفقه» (6). _________ (1) (د، ق): «كثير من العبادة». (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 98)، والطبراني في «الكبير» (1/ 135) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، فيه خارجة بن مصعب، وهو متروك، وبه أعلَّ الحديثَ الهيثميُّ في «المجمع» (1/ 120)، وقد اضطرب في حديثه هذا على ألوان. انظر: «الكامل» (3/ 53). (3) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 106) بإسنادٍ موضوع. انظر: «اللسان» (3/ 114). (4) تقدم الكلام عليه (ص: 184). (5) «وما أشبهه» ليست في (ت، د، ق). (6) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 114)، والطبراني في «الأوسط» (9264)، و «الصغير» (2/ 251)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيف. وضعَّفه العراقيُّ في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 14).

(1/327)


الوجه السادس والتسعون: ما رواه أيضًا من حديث نافعٍ عن ابن عمر يرفعُه: «ما عبد اللهُ بشيءٍ أفضل من فقهٍ في دين» (1). الوجه السابع والتسعون: ما رواه عن عليٍّ أنه قال: «العالمُ أعظمُ أجرًا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله» (2). الوجه الثامن والتسعون: ما رواه المُخَلِّصُ، عن ابن صاعد: حدثنا القاسمُ بن الفضل بن بزيع: حدثنا حجَّاج بن نصير: حدثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي هريرة وأبي ذرِّ أنهما قالا: «بابٌ من العلم نتعلَّمه أحبُّ إلينا من ألف ركعة تطوُّعًا، وبابٌ من العلم نعلِّمه ــ عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ به ــ أحبُّ إلينا من مئة ركعةٍ تطوُّعًا». وقالا: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا جاء الموتُ طالبَ العلم وهو على هذه الحال مات شهيدًا» (3). _________ (1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 113)، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 28/أ)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 341)، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 79) بإسنادٍ فيه ضعف. قال البيهقي: «وروي من وجهٍ آخر ضعيف [انظر: «اللسان» 6/ 23]، والمحفوظ هذا اللفظ من قول الزهري». وسيذكره المصنف قريبًا من قول الزهري. (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 198)، و «الجامع» (1/ 300)، والمعافى بن زكريا في «الجليس والأنيس» (3/ 77)، وغيرهما في سياقٍ طويل، بإسنادَين منقطعَين. وأخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 519) من وجهٍ آخر ضعيفٍ جدًّا، وليس فيه موضع الشاهد. (3) تقدم تخريجه (ص: 193).

(1/328)


ورواه ابن أبي داود، عن شاذان، عن حجَّاج به. قلت: شاهدُه ما مرَّ (1) من حديث الترمذي عن أنسٍ يرفعُه: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يَرجِع». الوجه التاسع والتسعون: ما رواه الخطيبُ أيضًا عن أبي هريرة قال: «لأنْ أَعْلَمَ بابًا من العلم في أمرٍ أو نهيٍ أحبُّ إليَّ من سبعين غزوةً في سبيل الله» (2). وهذا إن صحَّ فمعناه: أحبُّ إليَّ من سبعين غزوةً بلا علم؛ لأنَّ العملَ بلا علم فسادُه أكثرُ من صلاحه. أو يريد: علمًا يتعلَّمه ويعلِّمه؛ فيكونُ له أجرُ من عمل به إلى يوم القيامة، وهذا لا يحصلُ في الغزو المجرَّد. الوجه المئة: ما رواه الخطيبُ أيضًا عن أبي الدرداء أنه قال: «مذاكرةُ العلم ساعةً خيرٌ من قيام ليلة» (3). الوجه الحادي والمئة: ما رواه عن الحسن، قال: «لأن أتعلَّم بابًا من العلم فأعلِّمه مسلمًا أحبُّ إليَّ من أن تكون لي الدنيا كلُّها فأنفقها في سبيل الله» (4). _________ (1) (ص: 190). وهو ضعيف. (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 102). وفي سنده من لم أعرفه. (3) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 102). وفي إسناده انقطاع. وأخرجه معمر في «الجامع» (11/ 36) ــ ومن طريقه البيهقي في «المدخل إلى السنن» (459) ــ، والدارمي (1/ 82) عن ابن عباسٍ من وجهين أحدهما صحيح. (4) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 102) بإسنادٍ حسن.

(1/329)


الوجه الثاني والمئة: قال مكحول: «ما عُبِدَ اللهُ بأفضل من الفقه» (1). الوجه الثالث والمئة: قال سعيدُ بن المسيِّب: «ليست عبادةُ الله بالصوم والصلاة، ولكن بالفقه في دينه» (2). وهذا الكلامُ يرادُ به أمران: أحدهما: أنها ليست بالصوم والصلاة الخاليَيْن عن العلم، ولكن بالفقه في الدين الذي يُعْلَمُ به كيف الصومُ والصلاة. والثاني: أنها ليست الصومَ والصلاةَ فقط، بل الفقهُ في دينه من أعظم عباداته. الوجه الرابع والمئة: قال إسحاقُ بن عبد الله بن أبي فروة: «أقربُ الناس من درجة النبوَّة العلماءُ وأهلُ الجهاد؛ والعلماءُ دَلُّوا الناسَ على ما جاءت به الرسل، وأهلُ الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرسل» (3). وقد تقدَّم الكلامُ في تفضيل العالم على الشَّهيد وعكسه. الوجه الخامس والمئة: قال سفيانُ بن عيينة: «أرفعُ الناس عند الله منزلةً من كان بين الله وبين عباده، وهم الرسلُ والعلماء» (4). _________ (1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 119) بإسنادٍ شديد الضعف. وروي عنه مرفوعًا مرسلًا، ولا يصح. (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 118)، وأبو الشيخ في «العظمة» (7)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 162). والراوي عن سعيدٍ ضعيف. (3) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 148). وأخرجه الذهبي في «السير» (18/ 524) من حديث ابن عباس مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف. (4) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 148).

(1/330)


الوجه السادس والمئة: قال محمدُ بن شهاب الزُّهري: «ما عُبِدَ اللهُ بمثل الفقه» (1). وهذا الكلامُ ونحوه يرادُ به: أنه ما يُعْبَدُ اللهُ بمثل أن يُتَعَبَّدَ بالفقه في الدين، فيكونُ نفسُ التفقُّه عبادة؛ كما قال معاذُ بن جبل: «عليكم بالعلم؛ فإنَّ طلبَه لله عبادة». وسيأتي إن شاء الله ذكرُ كلامه بتمامه (2). وقد يرادُ به: أنه ما عُبِدَ اللهُ بعبادةٍ أفضلَ من عبادةٍ يصحبُها الفقهُ في الدين؛ لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات، ومفسداتها، وواجباتها، وسُننها، وما يكمِّلها، وما يُنْقِصُها. وكلا المعنيين صحيح. الوجه السابع والمئة: قال سهلُ بن عبد الله التُّسْتَري: «من أراد النظرَ إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء» (3). وهذا لأنَّ العلماءَ خلفاءُ الرسل في أممهم، ووارثوهم في علمهم، فمجالسُهم مجالسُ خلافة النبوَّة. الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم. _________ (1) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 119)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن» (467)، كلاهما من طريق معمر في «الجامع» (11/ 256). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 365)، والبيهقي في «الشعب» (8/ 551)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 225) عنه بلفظ: «العلم» بدل «الفقه». (2) في الوجه العاشر بعد المئة. (3) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 149).

(1/331)


فقال الشافعي: «ليس شيءٌ بعد الفرائض أفضلَ من طلب العلم» (1). وهذا الذي ذكره أصحابُه عنه أنه مذهبُه. وكذلك قال سفيانُ الثوري (2). وحكاهُ الحنفيةُ عن أبي حنيفة (3). وأمَّا الإمامُ أحمدُ فحُكِي عنه ثلاثُ روايات: إحداهن: أنه العلم (4). فإنه قيل له: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؛ أجلسُ بالليل أنسخُ أو أصلِّي تطوُّعًا؟ قال: «نسخُك تعلمُ به أمرَ دينك فهو أحبُّ إلي» (5). وذكر الخلَّال عنه في كتاب «العلم» نصوصًا كثيرةً في تفضيل العلم. ومن كلامه فيه: «الناسُ إلى العلم أحوجُ منهم إلى الطعام والشراب». وقد تقدم (6). _________ (1) أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 138)، و «المدخل» (475، 476). وانظر: «آداب الشافعي ومناقبه» لابن أبي حاتم (97)، و «الحلية» (9/ 119)، و «جامع بيان العلم» (1/ 123). (2) أخرجه أبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1/ 40)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 363، 366)، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (182)، والبيهقي في «المدخل» (470، 471)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 124). (3) انظر: «الكسب لمحمد بن الحسن» بشرحه للسرخسي (102، 148، 154)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 40، 6/ 432). (4) انظر: «مسائل ابن هاناء» (2/ 168)، و «مسائل الكوسج» (3309، 3310)، و «الآداب الشرعية» (2/ 38، 43)، و «الإنصاف» (2/ 116). (5) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 104). (6) (ص: 164).

(1/332)


والرواية الثانية: أنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض صلاةُ التطوع (1). واحتُجَّ لهذه الرواية بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكم الصلاة» (2)، وبقوله في حديث أبي ذرٍّ وقد سأله عن الصلاة، فقال: «خيرٌ موضوع» (3)، وبأنه أوصى من سأله مرافقتَه في الجنة بكثرة السُّجود (4)، وهو الصلاة، وكذلك قولُه في الحديث الآخر: «عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجدُ لله سجدةً إلا رفعك اللهُ بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئةً» (5)، وبالأحاديث الدالَّة على تفضيل الصلاة. والرواية الثالثة: أنه الجهاد (6). فإنَّه (7) قال: «لا أَعْدِلُ بالجهاد شيئًا، ومن ذا يطيقُه؟!». _________ (1) انظر: «الفروع» (1/ 522)، و «المبدع» (2/ 1، 2). (2) أخرجه أحمد (5/ 276، 282)، وابن ماجه (277)، وغيرهما من طرقٍ عن ثوبان. وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (1/ 130) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (4/ 168). (3) جزءٌ من حديثٍ طويلٍ أخرجه أحمد (5/ 178، 179)، والنسائي (5522)، وغيرهما من طُرقٍ لا تخلو من ضعفٍ عن أبي ذر. وصححه ابن حبان (361)، والحاكم (2/ 597) وتعقبه الذهبي. (4) أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي. (5) أخرجه مسلم (488) من حديث ثوبان. (6) وهذا هو المشهورُ عنه. وأطلقه الأصحاب. انظر: «مسائل عبد الله» (2/ 819، 836)، و «مسائل أبي داود» (310)، و «مسائل ابن هاناء» (2/ 109)، و «المغني» (13/ 10)، و «المبدع» (2/ 1)، و «الإنصاف» (2/ 115). (7) أي الإمام أحمد.

(1/333)


ولا ريب أنَّ أكثر الأحاديث في الصلاة والجهاد. وأمَّا مالك؛ فقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: «إنَّ أقوامًا ابتغوا العبادةَ وأضاعوا العلم، فخرجوا على أمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بأسيافهم، ولو ابتغوا (1) العلمَ لحَجَزهم عن ذلك» (2). قال مالك: «وكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب أنه قد قرأ القرآن عندنا عددُ كذا وكذا، فكتب إليه عمر: أن افرِض لهم من بيت المال، فلمَّا كان في العام الثاني كتب إليه أنه قد قرأ القرآنَ عندنا عددٌ كثير، لِأكثرَ من ذلك؛ فكتب إليه عمر: أن امحُهم من الدِّيوان؛ فإني أخافُ إنْ يُسْرِع الناسُ في القرآن أن يتفقَّهوا في الدِّين فيتأوَّلوه على غير تأويله» (3). وقال ابن وهب: «كنتُ بين يدي مالك بن أنس، فوضعتُ ألواحي وقمتُ إلى الصلاة، فقال: ما الذي قمتَ إليه بأفضل من الذي تركتَه» (4). _________ (1) (ق، ت، ن، ح): «اتبعوا». (2) مضى (ص: 230) من قول الحسن. (3) أخرج أصل الخبر ابنُ سعد في «الطبقات» (9/ 130) مختصرًا. وانظر: «الجامع» لمعمر (11/ 217)، و «المعرفة والتاريخ» (1/ 516)، و «المستدرك» (3/ 540)، و «السنة» لعبد الله بن أحمد (1/ 135). (4) أخرجه ابن شاهين في «مذاهب أهل السنة» (64)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 122). والصلاة التي قام إليها ابن وهب كانت صلاة فريضة، كما هو بيِّنٌ في رواية ابن شاهين، وفي هذا إشكال؛ فكيف يكون طلب العلم أفضل من صلاة الفريضة؟ ويمكن أن يحمل هذا على أن الإمام مالكًا أراد أن الصلاة لا تجب في أول الوقت إلا وجوبًا موسَّعًا، فالاشتغالُ بتقييد ما يُخشى فواتُه من العلم أفضل من البدار إلى الصلاة في أول الوقت. انظر: «المقدمات والممهدات» لابن رشد (1/ 43، 51)، وخطبة «الكتاب المؤمل للردِّ إلى الأمر الأول» لأبي شامة (55). أو يحمل على أن الاشتغال بطلب العلم أفضل من البدار لإدراك الصف الأول أو تكبيرة الإحرام، كما تفيده رواية ابن شاهين.

(1/334)


قال شيخنا: وهذه الأمورُ الثلاثةُ التي فضَّل كلُّ واحدٍ من الأئمة بعضَها ــ وهي الصلاةُ والعلمُ والجهاد ــ هي التي قال فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لولا ثلاثٌ في الدنيا لما أحببتُ البقاءَ فيها؛ لولا أن أحمِل أو أجهِّز جيشًا في سبيل الله، ولولا مكابدةُ هذا الليل، ولولا مجالسةُ أقوامٍ ينتقونَ أطايبَ الكلام كما يُنتقى أطايبُ الثمر= لما أحببتُ البقاء» (1)، فالأولُ: الجهاد، والثاني: قيام الليل، والثالث: مذاكرة العلم (2). فاجتمعت في الصحابة لكمالهم (3)، وتفرَّقت فيمن بعدهم. الوجه التاسع والمئة: ما ذكره أبو نعيم وغيره عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فضلُ العلم خيرٌ من [فضل] العمل، وخيرُ دينكم الوَرَع» (4). _________ (1) أخرجه ابن المبارك في «الجهاد» (222)، وعبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (117)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 51). ورُوِي عن أبي الدرداء. أخرجه أحمد (135)، وابن المبارك (277) كلاهما في «الزهد»، وابن معين في «التاريخ» (4/ 340 - رواية الدوري). (2) انظر: «منهاج السنة» (6/ 75)، و «مدارج السالكين» (2/ 281). (3) (ت، د، ق): «بكمالهم». (4) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 211 - 212)، والبزار (2969)، وغيرهما عن حذيفة بن اليمان. قال الترمذي في «العلل الكبير» (341): «سألت محمدًا عن هذا الحديث، فلم يَعُدَّ هذا الحديث محفوظًا، ولم يعرف هذا عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -». وقال البزار: «وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، وإنما يُعْرَفُ هذا الكلامُ من كلام مطرِّف». وروي من حديث سعد بن أبي وقاص، وثوبان، وأبي هريرة، وغيرهم، ولا يصحُّ منها شيء، والصوابُ أنه من قول مطرِّف بن عبد الله بن الشخير، وأخرجه عنه جماعة. انظر: «علل الدارقطني» (4/ 318، 10/ 145)، و «المدخل» للبيهقي (2/ 34).

(1/335)


وقد رُوِي هذا مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها (1)؛ وفي رفعه نظر. وهذا الكلامُ هو فصلُ الخطاب في هذه المسألة: فإنه إذا كان كلٌّ من العلم والعمل فرضًا، فلا بدَّ منهما، كالصوم والصلاة. فإذا كانا فَضلَين ــ وهما النَّفْلان المُتَطَوَّعُ بهما ــ، ففضلُ العلم ونفلُه خيرٌ من فضل العبادة ونفلها؛ لأنَّ العلم يعمُّ نفعُه صاحبَه والناسَ معه، والعبادةُ يختصُّ نفعُها بصاحبها؛ ولأنَّ العلم تبقى فائدتُه وثمرتُه بعد موته، والعبادةُ تنقطعُ عنه؛ ولما مرَّ من الوجوه السابقة. الوجه العاشر بعد المئة: ما رواه الخطيبُ وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: «تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمه لله خشية (2)، وطلبَه عبادة، ومدارستَه تسبيح، والبحثَ عنه جهاد، وتعليمَه لمن لا يُحْسِنُه صدقة، وبذلَه لأهله قُربة، به يُعْرَفُ اللهُ ويُعْبَد، وبه يُوَحَّد، وبه يُعْرَفُ الحلالُ _________ (1) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 160) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. (2) (ح، ن) وبعض المصادر: «حسنة».

(1/336)


من الحرام، وتُوصَلُ الأرحام، وهو الأنيسُ في الوحدة، والصاحبُ في الخلوة، والدليلُ على السَّرَّاء، والمُعِينُ على الضرَّاء، والوزيرُ عند الأخلَّاء، والقريبُ عند الغرباء، ومنارُ سبيل الجنة، يرفعُ اللهُ به أقوامًا فيجعلُهم في الخير قادةً وسادةً يقتدى بهم، أدلَّةً في الخير تُقْتَصُّ آثارهم، وتُرْمَقُ أفعالُهم، وترغبُ الملائكةُ في خُلَّتهم، وبأجنحتها تمسحُهم، يستغفرُ لهم كلُّ رطبٍ ويابس، حتى حيتانُ البحر وهوامُّه، وسباعُ البرِّ وأنعامُه، والسماءُ ونجومُها، والعلمُ حياةُ القلوب من العمى، ونورٌ للأبصار من الظُّلَم، وقوةٌ للأبدان من الضعف، يبلغُ به العبدُ منازلَ الأبرار والدرجات العلى، التفكُّرُ فيه يُعْدَلُ بالصيام، ومدارستُه بالقيام، وهو إمامٌ للعمل، والعملُ تابعُه، يُلْهَمُه السعداء، ويُحْرَمُه الأشقياء» (1). هذا الأثرُ معروفٌ عن معاذ. ورواه أبو نعيم في «المعجم» (2) من حديث معاذٍ مرفوعًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3)، ولا يثبُت، وحسبه أن يَصِلَ إلى _________ (1) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 238)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 240) بإسنادٍ شديد الضعف. (2) لعله: معجم شيوخه. ذكره الذهبي في «السير» (17/ 455)، والسخاوي في «فتح المغيث» (1/ 119)، وغيرهما. ولعله أخرجه ــ أيضًا ــ في كتابيه: «رياضة المتعلمين»، و «فضل العالم العفيف». (3) وأخرجه كذلك ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 239)، والخطيب في «المتفق والمفترق» (1/ 326) بإسنادين، أحدهما شديدُ الضعف، والآخرُ معضل. قال ابن عبد البر: «هو حديثٌ حسنٌ جدًّا، ولكن ليس له إسنادٌ قوي». أراد حُسْنَ المعنى، لا الحُسْنَ الاصطلاحي، كما هو ظاهر، ونصَّ عليه العراقي في «التقييد والإيضاح» (60). ورُوِي الحديثُ من وجوهٍ أخرى لا يثبتُ منها شيء. انظر: «تكميل النفع» للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف (59 - 64).

(1/337)


معاذ (1). الوجه الحادي عشر بعد المئة: ما رواه يونس بن عبد الأعلى، عن ابن أبي فُدَيْك: حدثني عمرو بن كثير، عن أبي العلاء، عن الحسن، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جاءه الموتُ وهو يطلبُ العلم ليحيي به الإسلامَ فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجةُ النبوَّة» (2). وقد رُوِي من حديث عليِّ بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيِّب، عن ابن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3). وهذا وإن كان لا يثبتُ إسناده فلا يبعدُ معناه من الصحة؛ فإنَّ أفضلَ الدرجات: النبوَّة، وبعدها الصِّدِّيقيَّة، وبعدها الشهادة، وبعدها الصَّلاح، وهذه الدرجاتُ الأربع التي ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. فمن طلبَ العلمَ ليحيي به الإسلامَ فهو من الصِّدِّيقين، ودرجتُه بعد _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 109)، و «مدارج السالكين» (3/ 263). (2) أخرجه الدارمي (360)، وأبو إسماعيل الهروي في «ذم الكلام» (708)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 206) مرسلاً بإسنادٍ فيه من لا يُعْرَف. (3) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 165)، و «تاريخ بغداد» (3/ 78)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 403) بإسنادٍ شديد الضعف. وهو مع ذلك مضطربُ الإسناد جدًّا، كما قال ابن عبد البر.

(1/338)


درجة النبوَّة. الوجه الثاني عشر بعد المئة: قال الحسنُ في قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: «هي العلمُ والعبادة»، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}: «هي الجنة» (1). وهذا من أحسن التفسير؛ فإنَّ أجلَّ حسنات الدنيا العلمُ النافعُ والعملُ الصالح. الوجه الثالث عشر بعد المئة: قال ابن مسعود: «عليكم بالعلم قبل أن يُرْفَع، ورفعُه هلاكُ العلماء، فوالذي نفسي بيده ليودَّنَّ رجالٌ قُتِلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم اللهُ علماء؛ لما يرون من كرامتهم، وإنَّ أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما العلمُ بالتعلُّم» (2). الوجه الرابع عشر بعد المئة: قال ابن عباس، وأبو هريرة، وبعدهما أحمد بن حنبل: «تذاكُر العلم بعض ليلةٍ أحبُّ إلينا من إحيائها» (3). _________ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (4/ 205)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 229)، وغيرهما. والآيتان في سورة البقرة: 201، 202. (2) أخرج صدرَه معمرُ في «الجامع» (11/ 252) ــ ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9/ 170)، والبيهقي في «المدخل» (387) -، وغيره. وفي إسناده انقطاع، كما أشار إلى ذلك البيهقي، إلا أنه أخرجه بعد ذلك (388) من وجهٍ آخر موصولًا. وأخرج آخره ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/ 730)، ووكيع في «الزهد» (518) , ومن طريقه أحمد في «الزهد» (162). (3) أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 253)، والدارمي (614) عن ابن عباسٍ. وإسنادُ الأول صحيح. وقولُ أبي هريرة تقدم تخريجه (ص: 186). وقولُ أحمد في «مسائل إسحاق بن منصور الكوسج» (3309)، ومن طريقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 118).

(1/339)


الوجه الخامس عشر بعد المئة: قال عمر رضي الله عنه: «أيها الناس عليكم بالعلم؛ فإنَّ لله سبحانه رداءً يحبُّه، فمن طلب بابًا من العلم رَدَّاهُ اللهُ بردائه، فإن أذنبَ ذنبًا استعتَبه؛ لئلَّا يَسْلُبه رداءه ذلك حتى يموت به» (1). قلت: ومعنى استعتاب الله عبدَه أن يطلبَ منه أن يُعْتِبَه؛ أي: يزيل عَتْبَه عليه بالتوبة والاستغفار والإنابة، فإذا أناب إليه رفع عنه عَتْبَه؛ فيكونُ قد أَعْتَبَ ربَّه، أي: أزال عَتْبَه عليه، والربُّ تعالى قد استعتبَه؛ أي: طلبَ منه أن يُعْتِبَه. ومن هذا قولُ ابن مسعود ــ وقد وقعت زلزلةٌ بالكوفة ــ: «إنَّ ربكم يستعتبُكم فأَعْتِبُوه» (2). وهذا هو الاستعتابُ الذي نفاه سبحانه في الآخرة في قوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35]، أي: لا يُطْلَبُ منهم إزالة عَتْبِنا عليهم؛ فإنَّ إزالته إنما تكونُ بالتوبة، وهي لا تنفعُ في الآخرة. _________ (1) علَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 253)، وعزاه الزبيديُّ في «إتحاف السادة المتقين» (1/ 140) إلى «مناقب عمر» للإسماعيلي والذهبي. (2) أخرجه الطبري في «التفسير» (17/ 478)، وفي إسناده انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 472) عن شهر بن حوشب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. قال ابن رجب في «فتح الباري» (9/ 246): «هذا مرسلٌ ضعيف». وأخرجه ابن أبي الدنيا في «العقوبات» (18) معضلاً من وجه آخر.

(1/340)


وهذا غير استعتاب العبد ربَّه، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]، فهذا معناه أن يطلبوا إزالةَ عتْبِنا عليهم والعفو، {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي: ما هم ممن يُزالُ العَتْبُ عليه، وهذا الاستعتابُ ينفعُ في الدنيا دون الآخرة (1). الوجه السادس عشر بعد المئة: قال عمر رضي الله عنه: «موتُ ألف عابدٍ أهونُ من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه» (2). ووجهُ قول عمر: أنَّ هذا العالِم يَهْدِمُ على إبليس كلَّ ما يبنيه، بعلمه وإرشاده، وأما العابدُ فنفعُه مقصورٌ على نفسه. الوجه السابع عشر بعد المئة: قولُ بعض السلف: «إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزدادُ فيه علمًا يقرِّبني إلى الله تعالى، فلا بُورِكَ لي في طلوع شمس ذلك اليوم» (3). وقد رُفِعَ هذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4)، ورفعُه إليه باطل، وحسبه أن يَصِلَ _________ (1) انظر لهذا البحث فصلاً نافعًا في «بدائع الفوائد» (1622). (2) علَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 128). (3) لم أجده. وأحسبُ المصنف قدَّر نسبته إلى بعض السلف تقديرًا، كما يشير إلى ذلك آخرُ كلامه. (4) أخرجه إسحاق في «مسنده» (2/ 553)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 79 , 3/ 294)، والطبراني في «الأوسط» (6636)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 188)، وغيرهم عن عائشة. قال ابن عدي: «هذا حديثٌ منكر المتن، وهو عن الزهريِّ منكر، لا يرويه عنه غير الحكم». وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (460).

(1/341)


إلى واحدٍ من الصحابة أو التابعين. وفي مثله قال القائل (1): إذا مرَّ بي يومٌ ولم أسْتَفِدْ هدًى ... ولم أكتَسِبْ علمًا فما ذاك من عُمْري الوجه الثامن عشر بعد المئة: قال بعض السلف: «الإيمانُ عُرْيان، ولباسُه التقوى، وزينتُه الحياء، وثمرتُه العلم» (2). وقد رُفِعَ هذا أيضًا (3)، ورفعُه باطل. الوجه التاسع عشر بعد المئة: أنه في بعض الآثار: «بين العالم والعابد _________ (1) وهو أبو الفتح البستي , في ديوانه (254)، و «اليتيمة» (4/ 382)، و «التمثيل والمحاضرة» (127)، والرواية فيها: * إذا مر بي يومٌ ولم أصطنع يدًا * (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 510)، وابن أبي الدنيا (97)، والخرائطي (273) كلاهما في «مكارم الأخلاق»، واللالكائي في «السنة» (1571)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (63/ 389) عن وهب بن منبه. ... وأخرجه ابن أبي الدنيا (103) عن ابن مسعود. (3) أخرجه يحيى بن الحسين الشجري في «أماليه» (1/ 15، 36) من حديث ابن مسعود بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. وروي من وجهٍ آخر ضعيف. انظر: «المغني عن حمل الأسفار» للعراقي (1/ 12). ومن وجهٍ آخر باطل، أخرجه ابن عساكر (43/ 241) من حديث علي. وانظر: «كشف الخفا» (1/ 22)، و «الجد الحثيث فيما ليس بحديث» للغزِّي (25). وفي بعض هذه المصادر: «وماله العفَّة» , وفي بعضها: «الفقه»، ولعله تحريف، بدل: «وثمرته العلم».

(1/342)


مئة درجة، بين كلِّ درجتين حُضْرُ الجواد المُضَمَّر سبعين سنة» (1). وقد رُفِعَ هذا أيضًا (2)، وفي رفعه نظر. الوجه العشرون بعد المئة: ما رواه حربٌ في «مسائله» (3) مرفوعًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يجمعُ اللهُ تعالى العلماءَ يوم القيامة، ثم يقول: يا معشر العلماء، إني لم أضَعْ علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضَعْ علمي فيكم لأعذِّبكم، اذهبوا فقد غفرتُ لكم». وهذا وإن كان غريبًا فله شواهدُ حِسَان. _________ (1) أخرجه بنحوه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 365) عن الزهري. وحُضْر الجواد: ارتفاعُه في عَدْوِه. وتضمير الخيل: أن تُعْلف حتى تسمن , ثم تردُّ إلى القوت. وقيل: أن تُشَدَّ عليها سروجُها وتجلَّل بالأجِلَّة حتى تعرق تحتها , فيذهب رَهَلُها ويشتدَّ لحمها , ويحمل عليها غلمانٌ خِفافٌ يجرونها ولا يَعْنفون بها , فإِذا فُعل ذلك بها أُمِنَ عليها البُهْرُ الشديد عند حُضْرها. «اللسان». (2) انظر ما تقدم (ص: 188). (3) (343) من مرسل الحسن البصري بنحو لفظه. وأخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 354)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 111) ــ ومن طريقه البيهقي في «المدخل» (567)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (511) ــ، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 215، 217)، وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري. قال ابن عدي: «هذا الحديث بهذا الإسناد باطل». ورُوِي من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وثعلبة بن الحكم، وأبي أمامة أو واثلة بن الأسقع، رضي الله عنهم، بأسانيد ضعيفةٍ جدًّا لا يصلحُ شيءٌ منها لتقوية الحديث. انظر: «السلسة الضعيفة» (867، 868).

(1/343)


الوجهُ الحادي والعشرون بعد المئة: قولُ ابن المبارك، وقد سئل: مَن الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمَن الملوك؟ قال: الزُّهَّاد، قيل: فمَن السِّفْلة (1)؟ قال: الذي يأكلُ بدينه (2). الوجه الثاني والعشرون بعد المئة: أنَّ من أدرك العلمَ لم يضرَّه ما فاته بعد إدراكه؛ إذ هو أفضلُ الحظوظ والعطايا، ومن فاته العلمُ لم ينفعه ما حصل له من الحظوظ، بل يكونُ وبالًا عليه وسببًا لهلاكه. وفي هذا قال بعض السلف: «أيَّ شيءٍ أدركَ من فاته العلمُ؟! وأيَّ شيءٍ فات من أدركَ العلمَ؟!» (3). الوجه الثالث والعشرون بعد المئة: قال بعضُ العارفين (4): «أليس المريضُ إذا مُنِعَ الطعامَ والشرابَ والدواء يموت؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك القلبُ إذا مُنِعَ عنه العلمُ والحكمةُ ثلاثة أيام يموت». وصَدَق؛ فإنَّ العلمَ طعامُ القلب وشرابُه ودواؤه، وحياتُه موقوفةٌ على ذلك، فإذا فقد القلبُ العلمَ فهو ميت، ولكن لا يشعُر بموته، كما أنَّ السَّكران الذي قد زال عقلُه، والخائفَ الذي قد انتهى خوفُه إلى غايته، والمُحِبَّ _________ (1) وهم أراذلُ الناس. «اللسان» (سفل). (2) أخرجه البيهقي في «الشعب» (12/ 267)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 168)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 192)، وغيرهم. (3) نُسِبَ لعليٍّ رضي الله عنه في «شرح النهج» (20/ 289)، ولأرسطاطاليس في «إرشاد الأريب» (22)، ولبزرجمهر في «المحاسن والمساواء» (3). (4) هو فتح بن سعيد الموصلي، كما في «الإحياء» (1/ 8). والتعليق الذي يلي قوله هنا للغزالي.

(1/344)


والمفكِّر، قد يَبْطُلُ إحساسُهم بألم الجِراحات في تلك الحال، فإذا صَحَوا وعادوا إلى حال الاعتدال أدركوا آلامَها. هكذا العبدُ إذا حَطَّ عنه الموتُ أحمالَ الدنيا وشواغلَها أحسَّ بهلاكه وخسرانه. فحَتَّامَ لا تصحو وقد قَرُبَ المَدى ... وحَتَّامَ لا يَنجابُ عن قلبك السُّكْرُ بلى سوف تصحو حين ينكشِفُ الغِطَا ... وتَذْكُرُ قولي حين لا ينفعُ الذِّكْرُ (1) فإذا كُشِفَ الغِطَاء، وبَرِحَ الخفاء، وبُلِيَت السرائر، وبَدَت الضمائر، وبُعْثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور؛ فحينئذٍ يكونُ الجهلُ ظلمةً على الجاهلين، والعلمُ حسرةً على البطَّالين. الوجه الرابع والعشرون بعد المئة: قال أبو الدرداء: «من رأى أنَّ الغُدُوَّ إلى العلم ليس بجهادٍ فقد نقصَ في رأيه وعقله» (2). وشاهدُ هذا قولُ معاذ، وقد تقدَّم. الوجه الخامس والعشرون بعد المئة: قولُ أبي الدرداء ــ أيضًا ــ: «لأَنْ أتعلَّم مسألةً أحبُّ إليَّ من قيام ليلة» (3). الوجه السادس والعشرون بعد المئة: قولُه أيضًا: «العالمُ والمتعلِّمُ _________ (1) البيتان في «المدهش» (354)، و «شرح النهج» (18/ 70) دون نسبة. (2) تقدم تخريجه (ص: 193). وأثر معاذ تقدم قريبًا. (3) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 102، 103) بنحوه من وجهين فيهما انقطاع.

(1/345)


شريكان في الأجر، وسائرُ الناس هَمَجٌ لا خير فيهم» (1). الوجه السابع والعشرون بعد المئة: ما رواه أبو حاتم ابن حبان في «صحيحه» (2) من حديث أبي هريرة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من دخلَ مسجدنا هذا ليتعلَّمَ خيرًا أو ليعلِّمَه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخلَه لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له». الوجه الثامن والعشرون بعد المئة: ما رواه أيضًا في «صحيحه» (3) من حديث الثلاثة الذين انتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ في حَلْقة، فأعرضَ أحدُهم، واستحى الآخرُ فجلسَ خلفهم، وجلسَ الثالثُ في فُرْجَةٍ في الحَلْقة؛ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأمَّا الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرضَ فأعرضَ الله عنه». فلو لم يكن لطالب العلم إلا أنَّ الله يؤويه إليه، ولا يُعْرِضُ عنه، لكفى به فضلًا. _________ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (543)، وعبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (136)، والبيهقي في «المدخل» (383)، وغيرهم. وانظر: «الزهد» لوكيع (3/ 836 - 838) (2) (368)، وأحمد (2/ 350، 526)، وابن ماجه (227)، وغيرهم. وصححه الحاكم (1/ 91)، ولم يتعقبه الذهبي. وهو معلول؛ فقد روي من وجهٍ أصح عن كعب الأحبار قوله. قال الدارقطني في «العلل» (10/ 381): إنه «أشبه بالصواب». وانظر: «الكامل» لابن عدي (2/ 275). ورُوِي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بإسنادٍ فيه ضعف. أخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 175). (3) (86)، والبخاري (66)، ومسلم (2176) من حديث أبي واقد الليثي.

(1/346)


الوجه التاسع والعشرون بعد المئة: ما رواه كُمَيْلُ بن زياد النخعي، قال: «أخذَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي، فأخرجني ناحيةَ الجَبَّانة (1)، فلما أصْحَرَ جعلَ يتنفَّس، ثمَّ قال: يا كميل بن زياد، القلوبُ أوعية، فخيرُها أوعاها للخير، احفظْ عنِّي ما أقول: الناسُ ثلاثة؛ فعالمٌ ربَّاني، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة، وهَمَجٌ رعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق. العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يحرسُك وأنت تحرسُ المال، العلمُ يزكو على الإنفاق ــ وفي رواية: على العمل ــ والمالُ تَنْقُصُه النفقة، العلمُ حاكم والمالُ محكومٌ عليه، ومحبةُ العلم (2) دينٌ يُدانُ بها، العلمُ يُكْسِبُ العالِمَ الطاعةَ في حياته، وجميلَ الأُحدوثة بعد وفاته، وصنيعةُ المال تزولُ بزواله، مات خُزَّانُ الأموال وهم أحياء، والعلماءُ باقون ما بقي الدَّهر، أعيانُهم مفقودة، وأمثالُهم في القلوب موجودة. هاه .. هاه .. إنَّ ههانا علمًا ــ وأشار بيده إلى صدره ــ لو أصبتُ له حَمَلة! بلى (3) .. أصبتُ لَقِنًا (4) غير مأمونٍ عليه، يستعملُ آلةَ الدين للدنيا، يستظهرُ بحُجَج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقادًا لأهل الحقِّ، لا بصيرةَ له في أحنائه (5)، ينقدحُ الشكُّ في قلبه بأول عارضٍ من شبهة، [ألا] لا ذا ولا _________ (1) الصحراء. وفي (د , ق , ن): «الجبَّان». وهما بمعنى. (2) (ق): «العالم». وفي طرة (ح) إشارةٌ إلى أنه كذلك في نسخة. (3) (ح , ن): «بل». (4) سريع الفهم. «اللسان» (لقن). (5) جوانبُ الحقِّ ومُشْتَبِهُه وغوامضُه. «اللسان» (حنا). وسيأتي شرحُها. وفي بعض المصادر: «إحيائه»، وفي بعضها: «إجابة»، وفي بعضها: «خيانة». وكلُّه تحريف.

(1/347)


ذاك، أو منهومًا للَّذَّات، سَلِسَ القياد للشهوات، أو مُغرًى بجمع الأموال والادِّخار، ليسا من دعاة الدِّين، أقربُ شَبهًا بهم الأنعامُ السَّائمة. كذلك (1) يموتُ العلمُ بموت حامليه، اللهمَّ بلى .. لن تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجَّته، لكيلا تَبْطُل حججُ الله وبيِّناتُه، أولئك الأقلُّون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفعُ اللهُ عن حُجَجه، حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعرَ منه المترفون، وأَنِسوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها (2) معلَّقةٌ بالملأ الأعلى، أولئك خلفاءُ الله في أرضه (3)، ودعاتُه إلى دينه، هاه .. هاه .. شوقًا إلى رؤيتهم، وأستغفرُ الله لي ولك، إذا شئتَ فَقُم». ذكره أبو نعيم في «الحلية» (4) وغيره. _________ (1) (ق): «لذلك». (2) (ق): «بأبدانهم وأرواحهم». (3) (ح): «وأمناؤه على عباده». (4) (1/ 79) ــ ومن طريقه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 182) ــ، والرافعي في «التدوين» (3/ 208)، وأبو بكر الأبهري في «الفوائد» (16) , والشجري في «الأمالي» (1/ 66)، والمعافى في «الجليس والأنيس» (4/ 135)، والسِّلَفي في «الطيوريات» (535)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (14/ 17 , 50/ 252)، والمزي في «تهذيب الكمال» (24/ 220)، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (1/ 11) بإسنادٍ ضعيف. وقال الذهبي: «إسناده لين». وروي من وجهٍ آخر: أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 379) ــ ومن طريقه ابن عساكر (50/ 251) ــ، وابن عبد ربه في «العقد» (2/ 212) بإسنادٍ شديد الضعف. وقال ابن عساكر: «هذا طريق غريب». ومن وجهٍ آخر: أخرجه المعافى في «الجليس والأنيس» (3/ 331)، ومن طريقه ابن عساكر (50/ 254)، وإسنادُه مظلم. ومن وجهٍ آخر: أخرجه أبو هلال العسكري في «ديوان المعاني» (1/ 328)، وإسنادُه مظلمٌ كذلك. ومن وجهٍ آخر: أخرجه الدينوري في «المجالسة» (1824) بإسنادٍ منقطع، وأخشى أن يكون مركَّبًا؛ والدينوريُّ متَّهمٌ بالكذب. وهو مرويٌّ في كتب الشيعة وأماليهم من وجوهٍ أخرى مظلمة. وقد قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 984) ــ وأقرَّه المصنفُ في «إعلام الموقعين» (2/ 195) ــ: «وهو حديثٌ مشهورٌ عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد؛ لشهرته عندهم».

(1/348)


قال أبو بكر الخطيب: «هذا حديثٌ حسن، من أحسن الأحاديث معنًى، وأشرفها لفظًا، وتقسيمُ أمير المؤمنين الناسَ في أوَّله تقسيمٌ في غاية الصِّحَّة ونهاية السَّداد؛ لأنَّ الإنسانَ لا يخلو من أحد الأقسام التي ذكرها مع كمال العقل وإزاحة العِلَل؛ إمَّا أن يكون عالمًا، أو متعلِّمًا، أو مُغْفِلًا للعلم وطلبه ليس بعالمٍ ولا طالبٍ له. فالعالمُ الربانيُّ هو الذي لا زيادةَ على فضله لفاضل، ولا منزلةَ فوق منزلته لمجتهد، وقد دخلَ في الوصف له بأنه ربَّانيٌّ وصفُه بالصِّفات التي يقتضيها العلمُ لأهله، ويمنعُ وصفَه بما خالفها. ومعنى الرَّبَّاني في اللغة: الرفيعُ الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه،

(1/349)


وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63]، وقوله: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]. قال [سعيد بن جبير] (1): «حكماء فقهاء». وقال أبو رَزِين (2): «فقهاء علماء» (3). وقال أبو عمر الزاهد: سألتُ ثعلبًا عن هذا الحرف ــ وهو الرَّبَّاني ــ فقال: سألتُ ابن الأعرابي فقال: إذا كان الرجلُ عالمًا عاملًا معلِّمًا قيل له: هذا ربَّاني، فإنْ خَرَمَ (4) عن خصلةٍ منها لم يُقَل له: ربَّاني. وقال ابنُ الأنباري عن النحويِّين: إنَّ الرَّبَّانيِّين منسوبون إلى الربِّ، وإنَّ الألف والنون زيدتا للمبالغة في النَّسب، كما تقول: لِحْياني وجُمَّاني إذا كان عظيمَ اللِّحية والجُمَّة (5). وأمَّا المتعلِّمُ على سبيل النجاة فهو الطالب بتعلُّمه والقاصدُ به نجاتَه من التفريط في تضييع الفروض الواجبة عليه، والرغبةَ بنفسه عن إهمالها واطِّراحها، والأنفةَ من مجانسة البهائم» (6). _________ (1) سقط من الأصول , سوى (ح) , ففيه: «علي وابن عباس». والمثبت من «الفقيه والمتفقه». وقد أخرجه الطبري (6/ 542) عن ابن عباس. (2) (ق): «الواقدي». (3) في (ح) زيادة: «وقال قتادة: حكماء علماء». وليست في «الفقيه والمتفقه». (4) مهملة في (د , ق). وفي «تهذيب اللغة» (14/ 316): «حرم خصلة». والمثبت من (ح , ت) و «الفقيه والمتفقه». وخَرَمَ عن الشيء: حاد وعدل عنه. «اللسان» (خرم). (5) «الزاهر» (1/ 178). وانظر: «المحكم» (10/ 235). (6) «الفقيه والمتفقه» (1/ 184 - 186). والنصوصُ المنقولة مسندةٌ فيه.

(1/350)


ثمَّ قال: «وقد نفى بعض المتقدِّمين عن الناس من لم يكن من أهل العلم. وأمَّا القسمُ الثالث: فهم المُهْمِلون لأنفسهم، الراضُونَ بالمنزلة الدنيَّة والحال الخسيسة، التي هي في الحضيض الأَوْهَدِ والهبوط الأسفل، التي لا منزلة بعدها في الجهل ولا دونها في السقوط. وما أحسن ما شبَّههم بالهَمَج الرَّعاع! وبه يُشَبَّه دُناةُ الناس وأراذلهم. والرَّعاع: المُتَبدِّدُ المتفرِّق، والنَّاعق: الصَّائح، وهو في هذا الموضع الراعي، يقال: نَعَقَ الراعي بالغنم يَنْعِق، إذا صاحَ بها، ومنه قولُه تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]» (1). ونحن نشيرُ إلى بعض ما في هذا الحديث من الفوائد: * فقولُه رضي الله عنه: «القلوبُ أوعية»؛ القلبُ يُشَبَّهُ بالوعاء والإناء والوادي؛ لأنه وعاءٌ للخير والشرِّ. وفي بعض الآثار: «إنَّ لله في أرضه آنية، وهي القلوب، فخيرُها أرقُّها وأصلبُها وأصفاها» (2). _________ (1) «الفقيه والمتفقه» (1/ 186). (2) أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (2/ 19) من حديث أبي عنبة الخولاني مرفوعًا بإسنادٍ جيد، كما قال العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 474). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (1691). وفي صُحبة أبي عنبة خلافٌ ستأتي الإشارةُ إليه. وروي الحديث من وجوهٍ أخرى مرفوعًا وموقوفًا.

(1/351)


فهي أواني مملوءةٌ من الخير، وأواني مملوءةٌ من الشرِّ؛ كما قال بعضُ السَّلف: «قلوبُ الأبرار تغلي بالبِرِّ، وقلوبُ الفجَّار تغلي بالفجور» (1). وفي مثل هذا قيل في المثل: «وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح» (2). وقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]؛ شبَّه العلمَ بالماء النازل من السماء، والقلوبَ في سَعَتها وضِيقها بالأودية؛ فقلبٌ كبير واسعٌ يسعُ علمًا كثيرًا كوادٍ كبيرٍ واسعٍ يسعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ ضيِّقٌ يسعُ علمًا قليلًا كوادٍ صغيرٍ ضيِّقٍ يسعُ ماءً قليلًا (3). ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسمُّوا العنبَ: الكَرْم؛ فإنَّ الكَرْمَ قلبُ المؤمن» (4)، فإنهم كانوا يسمُّون شجرَ العنب: «الكَرْم»؛ لكثرة منافعه وخيره، والكَرْمُ كثرةُ الخير والمنافع (5)، فأخبرهم أنَّ قلبَ المؤمن أولى بهذه التسمية؛ لكثرة ما فيه من الخير والبرِّ والمنافع (6). * وقولُه: «فخيرُها أوعاها»؛ يرادُ به أسرعُها وعيًا، وأكثرها وعيًا، وأثبتُها وعيًا، ويرادُ به أيضًا أحسنُها وعيًا. فيكونُ حُسْنُ الوعي ــ الذي هو إيعاءٌ (7) _________ (1) أخرجه أحمد في «الزهد» (323)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 288) عن مالك بن دينار. (2) «مجمع الأمثال» (2/ 162). (3) انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 152) , و «الوابل الصيب» (133) , وما تقدم (ص: 165). (4) أخرجه البخاري (6183)، ومسلم (2247) عن أبي هريرة. (5) (ق): «والكروم كثيرة الخير والمنافع». قراءة محتملة. والمثبت أشبه. (6) انظر: «زاد المعاد» (2/ 348 , 468 , 4/ 369) , و «تهذيب السنن» (13/ 217). (7) أوعى الشيءَ إيعاءً: حَفِظَه. «اللسان» (وعى).

(1/352)


لما يقال له في قلبه ــ هو سرعتُه وكثرتُه وثباتُه. والوعاءُ من مادَّة الوعي؛ فإنه آلةُ ما يُوعى فيه، كالغطاء والفراش والبساط ونحوها، ويوصفُ بذلك القلبُ والأذن؛ كقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11 - 12]، قال قتادة: «أذنٌ سَمِعَت وعَقَلَت عن الله ما سَمِعَت» (1)، وقال الفراء: «لتحفظَها كلُّ أذن، فتكونَ عظةً لمن يأتي بعدُ» (2). فالوعيُ توصفُ به الأذنُ كما يوصفُ به القلب، يقال: «قلبٌ واعٍ، وأذنٌ واعية»؛ لما بين الأذن والقلب من الارتباط، فالعلمُ يدخلُ من الأذن إلى القلب، فهي بابُه والرسولُ المُوصِلُ إليه العلمَ، كما أنَّ اللسانَ رسولُه المؤدِّي عنه (3). ومن عرفَ ارتباط الجوارح بالقلب علمَ أنَّ الأذنَ أحقُّها بأن توصفَ بالوعي؛ فإنها (4) إذا وَعَت وَعَى القلبُ. وفي حديث جابرٍ في المثَل الذي ضربته الملائكةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، وقول الملَك له: «اسمَعْ سَمِعَت أذنُك، واعقِلْ عَقَلَ قلبُك» (5). _________ (1) أخرجه الطبري (23/ 579). (2) «معاني القرآن» (3/ 181). (3) (ت): «الذي يؤدي عنه». (4) (د , ح، ن): «وأنها». (5) أخرجه الترمذي (2860)، وابن سعد (1/ 145)، وغيرهما من حديث جابر. قال الترمذي: «هذا حديثٌ مرسل؛ سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر». وصححه الحاكم (2/ 338 , 4/ 393) من وجهين فيهما إثباتُ واسطةٍ بين سعيد وجابر. ولم يتعقبه الذهبي. والمرسل أشبه. وله شاهد من حديث ربيعة الجرشي رضي الله عنه، عند الطبراني في «الكبير» (5/ 65)، وجوَّد إسناده الحافظ في «الفتح» (13/ 256). وانظر: «تغليق التعليق» (5/ 320). وأخرجه الطبري (15/ 60) عن أبي قلابة مرسلًا , بإسقاط ربيعة , وهو أصح.

(1/353)


فلمَّا كان القلبُ وعاءً، والأذنُ مدخلَ ذلك الوعاء وبابَه، كان حصولُ العلم موقوفًا على حسن الاستماع وعَقْلِ القلب. والعقل: هو ضبطُ ما وصلَ إلى القلب وإمساكُه حتى لا يتفلَّت منه. ومنه: عَقْلُ البعير والدابَّة، والعِقالُ لما يُعْقَلُ به، وعقلُ الإنسان سُمِّي عقلًا لأنه يَعْقِلُه عن اتباع الغَيِّ والهلاك، ولهذا يسمَّى: حِجْرًا، لأنه يمنعُ صاحبَه كما يمنعُ الحِجْرُ ما حواه. فعقلُ الشيء أخصُّ من علمه ومعرفته؛ لأنَّ صاحبَه يعقلُ ما عَلِمَه فلا يَدعُه يذهب، كما يَعْقِلُ الدابَّةَ التي يخافُ شُرودَها. وللإدراك مراتبُ بعضها أقوى من بعض؛ فأوَّلها: الشُّعور، ثمَّ الفهم، ثمَّ المعرفة، ثمَّ العلم، ثمَّ العقل، ومرادُنا هنا بالعقل: المصدرُ، لا القوَّةُ الغريزيَّةُ التي ركَّبها الله في الإنسان. فخيرُ القلوب ما كان واعيًا للخير ضابطًا له، وليس كالقلب القاسي الذي لا يقبلُه، فهذا قلبٌ حَجَريٌّ، ولا كالمائع الأخرق الذي يقبلُ ولكن لا يحفظُ ولا يضبط. فتفهيمُ الأول كالرَّسم في الحَجَر، وتفهيمُ الثاني كالرَّسم على الماء. بل خيرُ القلوب ما كان ليِّنًا صلبًا؛ يقبلُ بلِينه ما ينطبعُ فيه، ويحفظُ صورتَه بصلابته، فهذا تفهيمُه كالرَّسم في الشَّمْع وشبهه.

(1/354)


* وقولُه: «الناس ثلاثة: فعالمٌ ربَّاني، ومتعلِّمٌ على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رعاع»؛ هذا تقسيمٌ حاصرٌ للناس (1)، وهو الواقع؛ فإنَّ العبدَ إمَّا أن يكون قد حَصَّل كمالَه من العلم والعمل أوْ لا؛ فالأول: العالمُ الرَّبَّاني، والثاني: إمَّا أن تكون نفسُه متحرِّكةً في طلب ذلك الكمال ساعيةً في إدراكه أوْ لا، والثاني: هو المتعلِّمُ على سبيل النجاة، والثالث: هو الهَمَجُ الرعاع. فالأول: هو الواصل، والثاني: هو الطالب، والثالث: هو المحروم. والعالمُ الرَّبَّاني، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هو المعلِّم» (2)، أخذَه من التربية؛ أي: يَرُبُّ الناسَ بالعلم (3)، ويربِّيهم به كما يربِّي الطِّفلَ أبوه. وقال سعيد بن جبير: «هو الفقيه العليم الحكيم» (4). قال سيبويه: «زادوا ألفًا ونونًا في الرَّبَّاني إذا أرادوا تخصيصًا بعلم الربِّ تبارك وتعالى، كما قالوا: شَعْراني ولِحْياني» (5). معنى قول سيبويه ــ رحمه الله ــ: أنَّ هذا العالِمَ لمَّا نُسِبَ إلى علم الربِّ تعالى الذي بعثَ به رسولَه، وتَخصَّصَ به، نُسِبَ إليه دون سائر من عَلِمَ علمًا ما. _________ (1) (د, ح, ت, ن): «خاص للناس». وهو تحريف. وفي طرَّة (د): «لعله: حاصر». وأثبت ناسخ (ق) في المتن: «لعله حاصر للناس»، كأنه رأى التعليق في الطرَّة فأدخله في المتن بتمامه! (2) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (2/ 691). (3) أي: يجمعُهم ويُصْلِحُهم. «اللسان» (ربب). (4) انظر: «الفقيه والمتفقه» (1/ 185)، و «تفسير الطبري» (6/ 542). (5) لم أره في «الكتاب»، وهو مشهورٌ عنه، نقله جماعة، والنقلُ هنا عن الواحدي. وانظر: «الكتاب» (3/ 380)، و «تهذيب اللغة» (15/ 178).

(1/355)


قال الواحدي (1): «فالرَّبَّاني ــ على قوله ــ منسوبٌ إلى الربِّ، على معنى التخصيص بعلم الربِّ، أي: بعلم الشريعة وصفات الربِّ تبارك وتعالى. قال المبرِّد: الرَّبَّاني الذي يَرُبُّ العلمَ ويَرُبُّ الناسَ به، أي: يعلِّمهم ويُصْلِحُهم. وعلى قوله، فالرَّبَّاني مِنْ: رَبَّ يَرُبُّ رَبًّا، أي: تربيةً، فهو منسوبٌ إلى التربية»، يربِّي علمَه ليكمُلَ ويَتِمَّ بقيامه عليه وتعاهُده إياه، كما يربِّي صاحبُ المال مالَه، ويربِّي الناسَ به كما يربِّي الأطفالَ أولياؤهم. وليس من هذا قولُه (2): {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، فالرِّبِّيُّون هنا: الجماعات، بإجماع المفسِّرين (3)، قيل: إنه من الرِّبَّة ــ بكسر الراء ــ، وهي الجماعة. قال الجوهري: «الرِّبِّيُّ واحدُ الرِّبِّيِّين؛ وهم الألوفُ من الناس، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} (4). ولا يوصفُ العالِمُ بكونه ربَّانيًّا حتى يكون عاملًا بعلمه معلِّمًا له. فهذا قِسْم. _________ (1) في «الوسيط» (1/ 456)، و «البسيط» (5/ 382). (2) (ت , د , ق): «وليس هذا من قوله». (3) هو قول الأكثرين. وجاء عن ابن عباس والحسن وغيرهما تفسيرها بالعلماء. انظر: «سنن سعيد بن منصور» (1096)، و «تفسير الطبري» (7/ 267)، و «جامع المسائل» (3/ 62). (4) «الصحاح» (1/ 132) (ربب).

(1/356)


والقسمُ الثاني: متعلِّمٌ على سبيل نجاة؛ أي: قاصدًا بعلمه النجاة، وهو المخلصُ في تعلُّمه، المتعلِّمُ ما ينفعُه، العاملُ بما عَلِمَه، فلا يكون المتعلِّمُ على سبيل نجاةٍ إلا بهذه الأمور الثلاثة؛ فإنه إن تعلَّمَ ما يضرُّه ولا ينفعُه لم يكن على سبيل نجاة، وإن تعلَّم ما ينتفعُ به لا للنجاة فكذلك، وإن تعلَّمه ولم يعمل به لم يحصُل له النجاة، ولهذا وصَفَه بكونه على السبيل، أي: على الطريق التي تنجيه. وليس حرفُ «على» وما عَمِلَ فيه متعلِّقًا بـ «متعلِّم» إلا على وجه التضمين، أي: مفتِّش متطلِّع على سبيل نجاته ليسلكه؛ فتعلُّمه تفتيشٌ على سبيل نجاته. فهذا في الدرجة الثانية، وليس ممَّن تعلَّمه ليماري به السُّفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرفَ وجوهَ الناس إليه، فإنَّ هذا من أهل النار، كما جاء في الحديث (1)، وثبَّته أبو نعيم وأبو عمرو بن الصلاح وغيرهما. قال ابنُ الصلاح: وثبَّت أبو نعيم ــ أيضًا ــ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلَّمَ علمًا مما يبتغى به وجهُ الله، لا يتعلَّمُه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يَجِدْ رائحةَ الجنة» (2). _________ (1) ورد من رواية جماعةٍ من الصحابة، ولا أعلمُ يصحُّ منها شيء، وقد صحَّح بعضها بعض أهل العلم. وقال العقيلي في «الضعفاء» (2/ 130): «في هذا الباب أحاديثُ عن جماعةٍ من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ليِّنةُ الأسانيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -». وانظر: «الكامل» لابن عدي (1/ 332، 7/ 216). ورُوِي من كلام بعض السَّلف، وهو أشبه. (2) أخرجه أحمد (2/ 338)، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وغيرهم من حديث أبي هريرة بإسنادٍ فيه ضعف. وصححه ابن حبان (78)، والحاكم (1/ 85) ولم يتعقبه الذهبي. ورُوِي مرسلًا من وجهٍ أصح. قال الدارقطني في «العلل» (11/ 9): «والمرسل أشبه بالصواب». وأعلَّه أبو زرعة بعلةٍ أخرى. انظر: «علل ابن أبي حاتم» (2/ 438). وقال العقيلي (3/ 466) بعد أن أخرجه: «الروايةُ في هذا الباب ليِّنة». وقد ذكر المعلِّمي في تعليقاته على «الفوائد المجموعة» (330) أن أبا نُعيم قد يطلق الثبوت ويريد أن الحديث ثابتٌ في كتابه، لا أنه ثابتٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(1/357)


قال: وثبَّت ــ أيضًا ــ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه اللهُ بعلمه» (1). فهؤلاء ليس فيهم من هو على سبيل نجاة، بل على سبيل الهَلَكة، نعوذُ بالله من الخذلان. القسمُ الثالث: المحرومُ المُعْرِض؛ فلا عالمٌ ولا متعلِّم، بل همجٌ رَعاع. والهَمَجُ من الناس: حَمْقاهُم وجَهَلَتهم، وأصله من الهَمَج، جمع هَمَجَة، وهو ذبابٌ صغيرٌ كالبعوض يسقطُ على وجوه الغنم والدوابِّ وأعينها؛ فشبَّه هَمَجَ الناس به. والهَمَجُ أيضًا مصدر؛ قال الراجز (2): _________ (1) تقدم تخريجُه وبيانُ ضعفه (ص: 319). (2) وهو أبو مُحْرِز المحاربي. والرجز في «مجالس ثعلب» (585)، و «الأضداد» لابن الأنباري (279)، و «اللسان» (بذج)، وغيرها. قال الفراء: «البَذَجُ من أولاد الضأن، بمنزلة العَتُودِ من أولاد المعز».

(1/358)


قد هَلَكَت جارتُنا من الهَمَجْ ... وإنْ تَجُعْ تَأكُلْ عَتُودًا أو بَذَجْ والهَمَجُ هنا مصدر، ومعناه: سوء التدبير في أمر المعيشة. وقولهم: «هَمَجٌ هامِج» مثل: «ليلٌ لايِل» (1). والرَّعاعُ من الناس: الحمقى الذين لا يُعْتَدُّ بهم. * وقولُه: «أتباع كلِّ ناعق»؛ أي: مَنْ صاحَ بهم ودعاهم تبعوه، سواءٌ دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يُدْعَونَ إليه أحقٌّ هو أم باطل، فهم مستجيبون لدعوته. وهؤلاء مِنْ أضرِّ الخلق (2) على الأديان؛ فإنهم الأكثرون عَدَدًا، الأقلُّون عند الله قَدْرًا، وهم حطبُ كلِّ فتنة، بهم تُوقَدُ ويُشَبُّ ضِرَامُها؛ فإنها يعتزلُها أولو الدين، ويتولَّاها الهَمَجُ الرَّعاع. وسُمِّي داعيهم: ناعقًا؛ تشبيهًا لهم بالأنعام التي يَنْعِقُ بها الراعي فتذهبُ معه أين ذهب؛ قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. وهذا الذي وصفهم به أميرُ المؤمنين هو من عدم علمهم وظلمة قلوبهم، فليس لهم نورٌ ولا بصيرةٌ يفرِّقون بها بين الحقِّ الباطل، بل الكلُّ عندهم سواء. * وقولُه: «يميلون مع كلِّ ريح»، وفي لفظ: «مع كلِّ صائح»؛ شبَّه _________ (1) أي: على جهة التوكيد أو المبالغة. انظر: «الصحاح» (همج). (2) (ت): «هم أضر الخلق».

(1/359)


عقولَهم الضعيفة بالغُصْن الضعيف، وشبَّه الأهويةَ والآراء بالرياح، والغصنُ يميلُ مع الريح حيث مالت، وعقولُ هؤلاء تميلُ مع كلِّ هوًى وكلِّ داع، ولو كانت عقولًا كاملةً كانت كالشجرة الكبيرة التي لا تتلاعبُ بها الرياح. وهذا بخلاف المثل الذي ضربه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين بالخَامَة من الزَّرع تُفِيئه الريحُ مرةً وتقيمُه أخرى، والمنافقُ كشجرة الأَرْزِ التي لا تُقْطَعُ حتى تَسْتَحْصِد (1)؛ فإنَّ هذا المثلَ ضُرِبَ للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والأوجاع والأوجال وغيرها، فلا يزالُ بين عافيةٍ وبلاء، ومحنةٍ ومِنْحَة، وصحةٍ وسقم، وأمنٍ وخوف، وغير ذلك، فيقعُ مرةً ويقومُ أخرى، ويميلُ تارةً ويعتدلُ أخرى، فيُكفَّى بالبلاء ويُمَحَّصُ به ويُخَلَّصُ من كَدَرِه، والكافرُ كلُّه خبثٌ ولا يصلحُ إلا للوقود، فليس في إصابته في الدنيا بأنواع البلاء من الحكمة والرحمة ما في إصابة المؤمن. فهذه حالُ المؤمن في البلاء (2)، وأمَّا مع الأهواء ودعاة الفتن والضلال والبدع فكما قيل: تزولُ الجبالُ الراسياتُ وقلبُه ... على العهدِ لا يلوِي ولا يتَغَيَّرُ (3) * وقولُه: «لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق»؛ بيَّن السببَ الذي جعلهم بتلك المثابة؛ وهو أنه لم يحصُل لهم من العلم نورٌ _________ (1) أخرجه البخاري (5643، 5644)، ومسلم (2809، 2810) من حديث أبي هريرة وأبي بن كعب. (2) (ق): «الابتلاء». (3) أنشده المصنف في «بدائع الفوائد» (527)، و «طريق الهجرتين» (681). والرواية في الثاني: على الود.

(1/360)


يفرِّقون به بين الحقِّ والباطل؛ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]، وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16]، وقوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فإذا عَدِمَ القلبُ هذا النورَ صار بمنزلة الحيران الذي لا يدري أين يذهب، فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يَؤُمُّ كلَّ صوتٍ يسمعُه. = ولم يَسْكُنْ قلوبَهم (1) من العلم ما تمتنعُ به من دعاة الباطل؛ فإنَّ الحقَّ متى استقرَّ في القلبِ قَوِيَ به وامتنعَ مما يضرُّه ويُهْلِكه، ولهذا سمَّى اللهُ الحجةَ العلميَّة: سلطانًا، وقد تقدَّم ذلك. فالعبدُ يُؤتى من ظُلمة بصيرته ومن ضَعْف قلبه، فإذا استقرَّ فيه العلمُ النافعُ استنارت بصيرتُه وقَوِيَ قلبُه. وهذان الأصلان هما قُطبا السعادة، أعني: العلمَ، والقوَّة. وقد وصفَ بهما سبحانه المعلِّمَ الأولَ جبريلَ صلواتُ الله وسلامُه عليه، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 4 - 5]، وقال في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}، فوصفَه _________ (1) معطوف على قوله: «لم يحصل لهم من العلم نور ... ».

(1/361)


بالعلم والقوَّة. وفيه معنًى أحسنُ من هذا؛ وهو الأشبهُ بمراد عليٍّ رضي الله عنه؛ وهو أنَّ هؤلاء ليسوا من أهل البصائر الذين استضاؤوا بنور العلم، ولا لجؤوا إلى عالم مستبصرٍ فقلَّدوه، فلا مستبصرين ولا متَّبعين لمستبصِر؛ فإنَّ الرجلَ إمَّا أن يكون بصيرًا، أو أعمى متمسِّكًا ببصيرٍ يقودُه، أو أعمى يسيرُ بلا قائد. * قولُه رضي الله عنه: «العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يحرسُك وأنت تحرسُ المال»؛ يعني: أنَّ العلمَ يحفظُ صاحبَه ويحميه من موارد الهَلَكة ومواقع العَطَب؛ فإنَّ الإنسان لا يلقي نفسَه في هَلَكَةٍ إذا كان عقلُه معه، ولا يعرِّضها لتلافٍ (1) إلا إذا كان جاهلًا بذلك لا علمَ له به (2)، فهو كمن يأكلُ طعامًا مسمومًا، فالعالمُ بالسُّمِّ وضرره يحرسُه علمُه، ويمتنعُ به مِن أكله، والجاهلُ به يقتلُه جهلُه. فهذا مثلُ حراسة العلم للعالِم. وكذا الطبيبُ الحاذقُ يمتنعُ بعلمه من كثيرٍ مما يجلبُ له الأمراض والأسقام، وكذا العالمُ بمخاوف طريقِ سلوكه ومعاطبها يأخذُ حِذْرَه منها، فيحرسُه علمُه من الهلاك. _________ (1) كذا في الأصول، سوى (ت): «الملاف»، تحريف. وهو بكسر التاء مصدرٌ محدَثٌ لتَلِفَ. أو بفتحها والألف إشباعٌ لفتحة اللام في التلف، ولم تذكره كتب اللغة. انظر: «تكملة المعاجم» لدوزي (2/ 59)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 22)، و «دراسات في العربية وتاريخها» لمحمد الخضر حسين (126). وهو كثير الوقوع في كلام المتأخرين، ومن أفصحهم: أبو العلاء في «اللزوميات» (3/ 387، 407)، و «رسالة الغفران» (393). وانظر: «الداء والدواء» (507) والتعليق عليه. (2) (ت): «لا علم لديه».

(1/362)


وهكذا العالمُ بالله وأمره وبعدوِّه ومكايده (1) ومداخله على العبد، يحرسُه علمُه من وساوس الشيطان وخطراته وإلقاء الشكِّ والرَّيب والكفر في قلبه، فهو بعلمه يمتنعُ من قبول ذلك، فعلمُه يحرسُه من الشيطان، فكلَّما جاءه ليأخذه صاح به حرسُ العلم والإيمان، فيرجعُ خاسئًا خائبًا. وأعظمُ ما يحرسُه من هذا العدوِّ المبين: العلمُ والإيمان، فهذا السببُ الذي من العبد، والله من وراء حفظه وحراسته وكَلاءته، فمتى وَكَلَه إلى نفسه طرفة عينٍ تخطَّفه عدوُّه. قال بعض العارفين: «أجمعَ العارفون على أنَّ التوفيقَ أن لا يَكِلَكَ الله إلى نفسك، وأجمعوا على أنَّ الخِذلان أن يخلِّي بينك وبين نفسك» (2). وقولُه: «العلمُ يزكو على الإنفاق، والمالُ تَنْقُصُه النفقة»؛ العالِمُ كلَّما بذل علمَه للناس وأنفقَ منه تفجَّرت ينابيعُه وازداد كثرةً وقوَّةً وظهورًا فيكتسبُ بتعليمه حفظَ ما عَلِمَه، ويحصلُ له به علمُ ما لم يكن عنده، وربَّما تكونُ المسألةُ في نفسه غيرَ مكشوفةٍ ولا خارجةٍ من حَيِّز الإشكال، فإذا تكلَّم بها وعلَّمها اتضحت له وأضاءت وانفتح له منها علومٌ أُخَر. وأيضًا؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما عَلَّمَ الخلقَ من جهالتهم، جزاه اللهُ بأن علَّمه من جهالته؛ كما في «صحيح مسلم» (3) من حديث عِياض بن حمارٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديثٍ طويل: «وأنَّ الله قال لي: أَنفِقْ أُنفِقْ عليك»، وهذا يتناولُ نفقةَ العلم؛ إمَّا بلفظه، وإمَّا بتنبيهه وإشارته _________ (1) (ح، ن): «ومصايده». (2) انظر: «الوابل الصيب» (10)، و «الفوائد» (97)، وما سيأتي (ص: 818). (3) (2865).

(1/363)


وفحواه. ولزكاء العلم ونموِّه (1) طريقان: أحدُهما: تعليمُه. والثاني: العملُ به؛ فإنَّ العملَ به أيضًا ينمِّيه ويكثِّره، ويفتحُ لصاحبه أبوابَه وخباياه، وهذا لأنَّ تعليمَه والعملَ به هو التجارة فيه، فكما ينمو المالُ بالتجارة فيه كذلك العلم. وقولُه: «والمالُ تَنْقُصُه النفقة» لا ينافي قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقَصت صدقةٌ من مال» (2)؛ فإنَّ المالَ إذا تصدَّقتَ منه وأنفقتَ ذهبَ ذلك القَدْرُ وخَلَفَه غيرُه، وأمَّا العلمُ فكالقَبس من النار لو اقتبس منها العالَمُ (3) لم يذهب منها شيء، بل يزيدُ العلمُ بالاقتباس منه، فهو كالعَيْن التي كلَّما أُخِذَ منها قويَ ينبوعُها وجاش مَعِينُها. وفضلُ العلم على المال يُعْلَمُ من وجوه:

أحدها: أنَّ العلمَ ميراثُ الأنبياء، والمالُ ميراثُ الملوك والأغنياء. الثاني: أنَّ العلمَ يحرسُ صاحبَه، وصاحبُ المال يحرسُ مالَه. والثالث: أنَّ المالَ تُذْهِبُه النفقات، والعلمُ يزكو على النفقة. _________ (1) في الأصول: «ونحوه». تحريف. وانظر: «طريق الهجرتين» (802، 805)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 46). (2) أخرجه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة. (3) (ح): «أهل الأرض». وفي طرَّتها: «في الأصل: أهل العلم». وفي (ن): «أهل العلم». وفي طرَّتها: «لعله أهل الأرض».

(1/364)


الرابع: أنَّ صاحبَ المال إذا مات فارقه مالُه، والعلمُ يدخلُ معه قبرَه. الخامس: أنَّ العلمَ حاكمٌ على المال، والمالُ لا يحكمُ على العلم. السادس: أنَّ المالَ يحصُل للمؤمن والكافر والبَرِّ والفاجر، والعلمُ النافعُ لا يحصُل إلا للمؤمن. السابع: أنَّ العالِمَ يحتاجُ إليه الملوكُ فمن دونهم، وصاحبُ المال إنما يحتاجُ إليه أهلُ العُدْم والفاقة. الثامن: أنَّ النفسَ تَشْرُفُ وتزكو بجمع العلم وتحصيله، وذلك من كمالها وشرفها، والمالُ لا يزكِّيها ولا يكمِّلها ولا يزيدُها صفةَ كمال، بل النفسُ تنقصُ وتَشِحُّ وتبخلُ بجمعه والحرص عليه؛ فحرصُها على العلم عينُ كمالها، وحرصُها على المال عينُ نقصها. التاسع: أنَّ المالَ يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء، والعلمُ يدعوها إلى التواضع والقيام بالعبودية؛ فالمالُ يدعوها إلى صفات الملوك والعلمُ يدعوها إلى صفات العبيد. العاشر: أنَّ العلمَ حاجبٌ (1) موصلٌ لها إلى سعادتها التي خُلِقَت لها والمال حجابٌ عنها وبينها (2). الحادي عشر: أنَّ غِنى العلم أجلُّ من غِنى المال؛ فإنَّ غِنى المال غِنًى _________ (1) (ح، ن): «جاذب». (ق، ت، د): «صاحب». وفي طرة (د): «حاجب» وفوقه (خ) إشارة إلى نسخة. وهو الصواب. انظر: «الفوائد» (161)، و «طريق الهجرتين» (737). (2) (ح، ت، ن): «بينها وبينها».

(1/365)


بأمرٍ خارجيٍّ عن حقيقة الإنسان، لو ذهبَ في ليلةٍ أصبح فقيرًا مُعْدِمًا، وغِنى العلم لا يُخشى عليه الفقر، بل هو في زيادةٍ أبدًا، فهو الغِنى العالي (1) حقيقة؛ كما قيل: غَنِيتُ بلا مالٍ عن الناس كلِّهم ... وإنَّ الغِنى العالي عن الشَّيء لا به (2) الثاني عشر: أنَّ المال يَسْتَعْبِدُ مُحِبَّه وصاحبه، فيجعلُه عبدًا له، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعِسَ عبد الدينار والدرهم ... » الحديث (3)، والعلمُ يَسْتَعْبِدُه لربِّه وخالقه، فهو لا يدعوه إلا إلى عبوديَّة الله وحده. الثالث عشر: أنَّ حبَّ العلم وطلبَه أصلُ كلِّ طاعة، وحبَّ الدنيا والمال وطلبه أصلُ كلِّ سيئة (4). الرابع عشر: أنَّ قيمةَ الغنيِّ مالُه، وقيمةَ العالِم علمُه، فهذا متقوِّمٌ بماله، فإذا عُدِمَ مالُه عُدِمَت قيمتُه فبقي بلا قيمة، والعالِمُ لا تزولُ قيمتُه، بل هي في تضاعفٍ وزيادةٍ دائمًا. الخامس عشر: أنَّ جوهرَ المال من جنس جوهر البدن، وجوهرُ العلم من جنس جوهر الروح، كما قال يونس بن حبيب: «علمُك من روحك، _________ (1) انظر: «طريق الهجرتين» (65، 67). (2) مِن أبياتٍ تنسبُ للشافعي في «المستطرف» (2/ 303)، و «غذاء الألباب» (2/ 543)، وعنهما في ديوانه المجموع (131). والبيتُ في «ربيع الأبرار» (4/ 383) منسوبٌ للقُهِسْتاني. (3) أخرجه البخاري (2886) من حديث أبي هريرة. (4) (ح، ن): «خطيئة».

(1/366)


ومالُك من بدنك» (1)، والفرقُ بين الأمرين كالفرق بين الروح والبدن. السادس عشر: أنَّ العالِم لو عُرِضَ عليه بحظِّه من العلم الدنيا بما فيها لم يَرْضَها عِوَضًا من علمه، والغنيُّ العاقلُ إذا رأى شرفَ العالِم وفضلَه وابتهاجَه بالعلم وكمالَه به يودُّ لو أنَّ له علمَه بغناه أجمع. السابع عشر: أنَّ ما أطاع اللهَ أحدٌ قطُّ إلا بالعلم، وعامةُ من يعصيه إنما يعصيه بالمال. الثامن عشر: أنَّ العالِمَ يدعو الناسَ إلى الله بعلمه وحاله، وجامعُ المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وماله. التاسع عشر: أنَّ غِنى المال قد يكونُ سببَ هلاك صاحبه كثيرًا؛ فإنه معشوقُ النفوس، فإذا رأت من يستأثرُ بمعشوقها عليها سعت في هلاكه، كما هو الواقع. وأمَّا غِنى العلم فسببُ حياة الرجل وحياة غيره به، والناسُ إذا رأوا من يستأثرُ عليهم به ويطلبُه أحبُّوه وخدموه وأكرموه. العشرون: أنَّ اللذَّةَ الحاصلةَ من غِنى المال إما لذَّةٌ وهميَّة وإما لذَّةٌ بهيميَّة. فإنَّ صاحبه إنْ التذَّ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذَّةٌ وهميَّةٌ خياليَّة وإن التذَّ بإنفاقه في شهواته فهي لذَّةٌ بهيميَّة. وأمَّا لذَّةُ العلم فلذَّةٌ عقليَّةٌ روحانيَّة، وهي تشبهُ (2) لذَّة الملائكة وبهجتَها. وفرقٌ ما بين اللذَّتين. الحادي والعشرون: أنَّ عقلاء الأمم مطبقون على ذمِّ الشَّرِه في جمع _________ (1) أخرجه القالي في «الأمالي» (1/ 223)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (34/ 203)، وغيرهما. (2) (ت): «شبه». «وهي» ليست في (ح، ن).

(1/367)


المال الحريصِ عليه، وتنقُّصِه والإزراء به، ومطبقون على تعظيم الشَّرِه في جمع العلم وتحصيله، ومدحِه ومحبَّته ورؤيته بعين الكمال. الثاني والعشرون: أنهم مطبقون على تعظيم الزاهد في المال، المُعْرِض عن جمعه، الذي لا يَلْتَفِتُ إليه ولا يجعلُ قلبَه عبدًا له، ومطبقون على ذمِّ الزاهد في العلم، الذي لا يلتفتُ إليه ولا يحرصُ عليه. الثالث والعشرون: أنَّ المال إنما يُمْدَحُ صاحبُه بتخلِّيه منه وإخراجه، والعلمُ إنما يُمْدَحُ بتحلِّيه به واتِّصافه به. الرابع والعشرون: أنَّ غِنى المال مقرونٌ بالخوف والحزن، فهو حزينٌ قبل حصوله، خائفٌ بعد حصوله، وكلَّما كان أكثر كان الخوفُ أقوى، وغِنى العلم مقرونٌ بالأمن والفرح والسرور. الخامس والعشرون: أنَّ الغنيَّ بماله لا بدَّ أن يفارقَه غِناه، فيتعذَّبَ ويتألم بمفارقته، والغِنى بالعلم لا يزول، فلا يتعذَّبُ صاحبُه ولا يتألم؛ فلذَّةُ الغِنى بالمال لذَّةٌ زائلةٌ منقطعةٌ يَعْقُبُها الألم، ولذَّةُ الغِنى بالعلم لذَّةٌ باقيةٌ مستمرةٌ لا يلحقها ألم. السادس والعشرون: أنَّ استلذاذ (1) النفس وكمالَها بالغِنى استكمالٌ بعاريَّةٍ مؤدَّاة، فتجمُّلها بالمال تجمُّلٌ بثوبٍ مستعارٍ لا بدَّ أن يرجع إلى مالكه يومًا ما، وأما تجمُّلها بالعلم وكمالُها به فتجمُّلٌ بصفةٍ ثابتةٍ لها راسخةٍ فيها لا تفارقُها. السابع والعشرون: أنَّ الغِنى بالمال هو عينُ فقر النفس، والغِنى بالعلم _________ (1) ليست في (ح). وفي (ن): «التذاذ».

(1/368)


هو غِناها الحقيقي؛ فغِناها بعلمها هو الغِنى، وغِناها بمالها هو الفقر. الثامن والعشرون: أنَّ من قُدِّم وأُكرِم لماله إذا زال مالُه ذهب (1) تقديمُه وإكرامُه، ومن قُدِّم وأُكرِم لعلمه فإنه لا يزدادُ إلا تقديمًا وإكرامًا. التاسع والعشرون: أنَّ تقديمَ الرجل لماله هو عينُ ذمِّه؛ فإنه نداءٌ عليه بنقصه، وأنه لولا ماله لكان مستحقًّا للتأخير والإهانة (2)، وأما تقديمُه وإكرامُه لعلمه فإنه عينُ كماله؛ إذ هو تقديمٌ له بنفسه وبصفته القائمة به، لا بأمرٍ خارجٍ عن ذاته. الوجه الثلاثون: أنَّ طالبَ الكمال بغِنى المال كالجامع بين الضدَّين؛ فهو طالبٌ ما لا سبيل له إليه. وبيانُ ذلك: أنَّ القدرةَ صفةُ كمال، وصفةُ الكمال محبوبةٌ بالذَّات، والاستغناءُ عن الغير ــ أيضًا ــ صفةُ كمالٍ محبوبةٌ بالذَّات، فإذا مال الرجلُ بطبعه إلى السَّخاوة والجُود وفِعْل المَكْرُمات، فهذا كمالٌ مطلوبٌ للعقلاء، محبوبٌ للنفوس، وإذا التفتَ إلى أنَّ ذلك يقتضي خروجَ المال من يده، وذلك يُوجِبُ نقصَه واحتياجَه إلى غيره وزوالَ قدرته= نَفَرَت نفسُه عن السَّخاء والكرم والجُود واصطناع المعروف، وظنَّ أنَّ كماله في إمساك المال. وهذه البليَّةُ أمرٌ ثابتٌ لعامَّة الخَلق، لا ينفكُّون عنها (3). _________ (1) (ح، ن): «زال». (2) (ح، ن): «للتأخير والإبعاد». (3) (ق، د): «لايتفكرون».

(1/369)


فلأجل مَيْل الطَّبع إلى حصول المدح والثناء والتعظيم= يحبُّ الجودَ (1) والسَّخاءَ والمكارم، ولأجل فَوْتِ القدرة الحاصلة بسبب إخراجه والحاجة المنافية لكمال الغنى= يحبُّ إبقاءَ ماله، ويكره السَّخاءَ والكرمَ والجود. فيبقى قلبُه واقفًا بين هذين الدَّاعِيَين يتجاذبانه، ويَعْتَوِرَان عليه، فيبقى القلبُ في مقام المعارضة بينهما، فمن الناس من يترجَّحُ عنده جانبُ البذل والجود والكرم، فيُؤثِرُه على الجانب الآخر، ومنهم من يترجَّحُ عنده جانبُ الإمساك وبقاء القدرة والغِنى، فيُؤثِرُه. فهذان نَظَران للعقلاء. ومنهم من يبلغُ به الجهلُ والحماقةُ إلى حيث يريدُ الجمعَ بين الوجهين، فيَعِدُ الناسَ بالجود والسَّخاء والمكارم؛ طمعًا منه في فوزه بالمدح والثناء على ذلك، وعند حضور الوقت لا يَفِي بما قال؛ فيَسْخُو ويبذلُ بلسانه، ويُمْسِكُ بقلبه ويده؛ فيقعُ في أنواعٍ من القبائح والفضائح! وإذا تأمَّلتَ أحوال أهل الدنيا من الأغنياء رأيتهم تحت أسْر هذه البليَّة وهم غالبًا يَشْكُونَ ويَبْكُون. وأما غنيُّ العلم، فلا يَعْرِضُ له شيءٌ من ذلك، بل كلَّما بَذَله ازداد ببذله فرحًا وسرورًا وابتهاجًا، والعالِمُ (2) وإن فاتتهُ لذَّةُ أهل الغِنى وتمتُّعهم بأموالهم فهم أيضًا قد فاتتهم لذَّةُ أهل العلم وتمتُّعهم بعلومهم وابتهاجُهم بها. _________ (1) (ق، ن): «بحب الجود». وهو تحريف. (2) ليست في (ت، ق، د).

(1/370)


فمع صاحب العلم من أسباب اللذَّة ما هو أعظمُ وأقوى وأدومُ من لذَّة الغني، وتعبُه في تحصيله وجمعه وضبطه أقلُّ من تعب جامع المال بجمعه (1)، وألمُه دون ألمِه؛ كما قال تعالى للمؤمنين ــ تسليةً لهم بما ينالُهم من الألم والتعب في طاعته ومرضاته ــ: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. الحادي والثلاثون: أنَّ اللذَّة الحاصلة من المال والغِنى إنما هي حالَ تجدُّده فقط، وأما حالَ دوامه: فإما أن تذهبَ تلك اللذَّة، وإمَّا أن تنقُص. ويدلُّ عليه أنَّ الطَّبعَ يبقى طالبًا لغِنًى آخر، حريصًا عليه، فهو يحاولُ تحصيلَ الزيادة دائمًا، فهو في فقرٍ مستمرٍّ غير مُنْقَضٍ (2)، ولو ملكَ خزائنَ الأرض ففقرُه وطلبُه وحرصُه باقٍ عليه؛ فإنه أحدُ المنهومَيْن اللذَين لا يشبعان (3)، فهو لا يفارقُه ألمُ الحرص والطَّلب. وهذا بخلاف غنيِّ العلم والإيمان؛ فإنَّ لذَّتَه في حال بقائه مثلُها في حال تجدُّده، بل أزْيَد، وصاحبُها وإن كان لا يزالُ طالبًا للمزيد حريصًا عليه، فطلبُه وحرصُه مُسْتَصْحِبٌ للذَّة الحاصل، ولذَّة المرجوِّ المطلوب، ولذَّة _________ (1) (ت، ح، ن): «فجمعه». خطأ. (2) (ت): «منتقص». «ق»: «منتقض». (3) والآخرُ هو طالب العلم؛ كما ورد في الحديث المشهور الذي صححه الحاكم (1/ 92) من حديث أنس مرفوعًا، ولم يتعقبه الذهبي. وهو أحسنُ طرقه. وجاء من حديث أنسٍ وابن مسعودٍ وابن عباسٍ رضي الله عنهم من طرقٍ معلولة. وروي موقوفًا، وهو أشبه.

(1/371)


الطَّلب وابتهاجه وفرحه به. الثاني والثلاثون: أنَّ غِنى المال يستدعي الإنعامَ على الناس والإحسانَ إليهم؛ فصاحبُه إما أن يسُدَّ على نفسه هذا الباب، وإما أن يفتحه عليه. فإن سدَّه على نفسه اشتُهِرَ عند الناس بالبعد من الخير والنفع؛ فأبغضوه وذمُّوه واحتقروه، وكلُّ من كان بغيضًا عند الناس حقيرًا لديهم كان وصولُ الآفات والمضرَّات إليه أسرعَ من النار في الحطب اليابس، ومن السَّيل في مُنْحَدَره، وإذا عرفَ من الخلق أنهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزنًا تألَّم قلبُه غايةَ التألم، وأُحْضِرَ الهمومَ والغمومَ والأحزان. وإن فتحَ باب الإحسان والعطاء فإنه لا يمكنُه إيصالُ الخير والإحسان إلى كلِّ أحد، فلا بدَّ من إيصاله إلى البعض وإمساكه عن البعض، وهذا يفتحُ عليه باب العداوة والمذمَّة من المحروم والمرحوم. أمَّا المحرومُ فيقول: كيف جادَ على غيري وبَخِل عليَّ؟! وأمَّا المرحومُ فإنه يلتذُّ ويفرحُ بما حصلَ له من الخير والنفع، فيبقى طامعًا مُسْتَشْرِفًا لنظيره على الدوام، وهذا قد يتعذَّرُ غالبًا؛ فيفضي ذلك إلى العداوة الشديدة والمذمَّة، ولهذا قيل: «اتقِ شرَّ من أحسنتَ إليه» (1). وهذه الآفاتُ لا تعرضُ في غِنى العلم؛ فإنَّ صاحبَه يمكنُه بذلُه للعالَم واشتراكُهم فيه (2)، والقدرُ المبذولُ منه باقٍ لآخذه لا يزول، بل يتَّجِرُ به، فهو _________ (1) وهو مثلٌ سائر. انظر: «مجمع الأمثال» (1/ 145). ويذكره بعضهم حديثًا، ولا أصل له. انظر: «المقاصد الحسنة» (39). (2) (ت، د، ق): «بذله للعالم كلهم وأشباههم» ولعلها: «وإشراكهم فيه».

(1/372)


كالغنيِّ إذا أعطى الفقيرَ رأسَ مالٍ (1) يتَّجِرُ به حتى يصير غنيًّا مثلَه. الوجه الثالث والثلاثون: أنَّ جمعَ المال مقرونٌ بثلاثة أنواعٍ من الآفات والمِحَن: نوعٌ قبله، ونوعٌ عند حصوله، ونوعٌ بعد مفارقته. * فأما النوعُ الأول: فهو المشاقُّ والأنكادُ والآلامُ التي لا يحصلُ إلا بها. * وأما النوعُ الثاني: فمشقَّةُ حفظه وحراسته وتعلُّق القلب به، فلا يُصْبِحُ إلا مهمومًا، ولا يمسي إلا مغمومًا. فهو بمنزلة عاشقٍ مُفْرِط المحبَّة قد ظَفِر بمعشوقه، والعيونُ من كلِّ جانبٍ ترمقُه، والألسنُ والقلوبُ ترشقُه، فأيُّ عَيْشٍ وأيُّ لذَّةٍ لمن هذه حالُه؟! وقد عَلِمَ أنَّ أعداءه وحسَّادَه لا يفتُرون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه وإن لم يظفروا هم به، ولكنَّ مقصودَهم أن يزيلوا اختصاصَه به دونهم، فإن فازوا به وإلا استووا في الحرمان، فزال الاختصاصُ المُؤْلِمُ للنفوس. ولو قدروا على مثل ذلك مع العالِم لفعلوه، ولكنَّهم لما علموا أنه لا سبيل إلى سَلْبِه علمَه (2) عمدوا إلى جحده وإنكاره؛ ليزيلوا من القلوب محبَّته وتقديمَه والثناءَ عليه، فإن بَهَرَ علمُه وامتنع عن مكابرة الجحود والإنكار رَمَوه بالعظائم، ونسبوه إلى كلِّ قبيح؛ ليزيلوا من القلوب محبَّته ويُسْكِنوا موضعَها النُّفرة عنه وبغضَه. وهذا شغلُ السَّحرة بعينه؛ فهؤلاء سحرةٌ بألسنتهم. _________ (1) (ح): «رأس ماله». وهو تحريف. (2) (ق): «إلى سلبه». (ح): «إلى سلب علمه». (ت): «إلى سلبه وعلمه».

(1/373)


فإن عجزوا له عن شيءٍ من القبائح الظاهرة بعينه رَمَوه بالتلبيس والتدليس، والزَّوْكَرة (1) والرِّياء، وحبِّ الترفُّع وطلب الجاه. وهذا القَدْرُ من معاداة أهل الجهل والظُّلم للعلماء مثلُ الحرِّ والبرد لا بدَّ منه، فلا ينبغي لمن له مُسْكةُ عقلٍ أن يتأذَّى به؛ إذ لا سبيل له إلى دفعه بحال، فليوطِّن نفسَه عليه كما يوطِّنُها على برد الشتاء وحرِّ الصَّيف. * والنوعُ الثالث من آفات الغِنى: ما يحصلُ للعبد بعد مفارقته من تعلُّق قلبه به، وكونه قد حِيل بينه وبينه، والمطالبة بحقوقه، والمحاسبة على مقبوضه ومصروفه: من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه؟ وغِنى العلم والإيمان مع سلامته من هذه الآفات فهو كفيلٌ بكلِّ لذَّةٍ وفرحةٍ وسرور، ولكن لا يُنالُ إلا على جسرٍ من التعب والصبر والمشقَّة. الرابع والثلاثون: أنَّ لذَّةَ الغنيِّ بالمال مقرونةٌ بخُلْطَة الناس، ولو لم يكن إلا خَدَمُه وأزواجُه وسَراريه وأتباعُه؛ إذ لو انفردَ الغنيُّ بماله وحده من غير أن يتعلَّق بخادمٍ أو زوجةٍ أو أحدٍ من الناس لم يَكْمُل انتفاعُه بماله، ولا التذاذُه به. وإذا كان كمالُ لذَّته بغناه موقوفًا على اتصاله بالغير، فذلك الاتصالُ _________ (1) قال المقَّري في «نفح الطيب» (6/ 12): «الزواكرة [جمعُ زوكر]: لفظٌ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبِّسُ الذي يُظْهِرُ النُّسك والعبادة، ويُبْطِنُ الفسق والفساد». وانظر: «طريق الهجرتين» (889)، و «السير» (14/ 314، 21/ 193)، و «إنباء الغمر» (1/ 37، 3/ 359)، و «الطالع السعيد» (583)، و «أعيان العصر» (4/ 598). ومن رسائل ابن شيخ الحزامين: «الفرق بين كرامة الولي وزوكرة المزوكر». انظر: مقدمة تحقيق رحلته (10).

(1/374)


منشأُ (1) الآفات والآلام وأنواع النَّكد، ولو لم يكن إلا اختلافُ أخلاق الناس وطبائعهم وإراداتهم؛ فقبيحُ هذا حسنُ ذاك، ومصلحةُ ذاك مفسدةُ هذا، ومنفعةُ هذا مضرَّةُ الآخر، وبالعكس؛ فهو مبتلىً بهم، فلا بدَّ من وقوع النُّفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه؛ فإنَّ إرضاءهم كلِّهم محال، وهو جمعٌ بين الضدَّين، وإرضاءُ بعضهم وإسخاطُ غيره سببُ الشرِّ والمعاداة. وكلما طالت المخالطةُ ازدادت أسبابُ الشرِّ والعداوة وقَوِيَت؛ وبهذا السَّبب كان الشرُّ الحاصلُ من الأقارب والعُشَراء أضعاف الشرِّ الحاصل من الأجانب والبُعَداء. وهذه المخالطةُ إنما حصلت من جانب الغِنى بالمال، أما إذا لم يكن فيه فضيلةٌ (2) لهم فإنهم يتجنَّبون مخالطتَه ومعاشرتَه، فيستريح من أذى الخُلْطة والعِشْرة. وهذه الآفاتُ معدومةٌ في الغِنى بالعلم. الخامس والثلاثون: أنَّ المالَ لا يرادُ لذاته وعَيْنه؛ فإنه لا يحصُل بذاته شيءٌ من المنافع أصلًا؛ فإنه لا يُشْبِعُ ولا يُرْوِي، ولا يُدْفِاءُ ولا يُمْتِع (3)، وإنما يرادُ لهذه الأشياء؛ فإنه لما كان طريقًا إليها أريدَ إرادةَ الوسائل، ومعلومٌ أنَّ الغايات أشرفُ من الوسائل؛ فهذه الغاياتُ إذًا أشرفُ منه، وهي مع شرفها بالنسبة إليه ناقصةٌ دنيَّة. _________ (1) (د، ق، ت): «فذلك منشأ». (2) (ح، ن): «فضلة». (3) (ق، ن، ت، ح): «يمنع».

(1/375)


وقد ذهب كثيرٌ من العقلاء إلى أنها لا حقيقةَ لها، وإنما هي دفعُ آلامٍ فقط (1)؛ فإنَّ لبسَ الثِّياب ــ مثلًا ــ إنما فائدتُه دفعُ التألم بالحرِّ والبرد والريح، وليس فيها لذَّةٌ زائدةٌ على ذلك، وكذلك الأكلُ إنما فائدتُه دفعُ ألم الجوع، ولهذا لو لم يجد ألمَ الجوع لم يَسْتَطِب الأكل، وكذلك الشربُ مع العطش، والراحةُ مع التعب. ومعلومٌ أنَّ في مزاولة ذلك وتحصيله ألم وضرر (2)، ولكنَّ ضررَه وألمَه أقلُّ من ضرر ما يُدْفَعُ به وألمِه، فيحتملُ الإنسانُ أخفَّ الضَّررين دفعًا لأعظمهما. وحُكِي عن بعض العقلاء (3) أنه قيل له ــ وقد تناول قدحًا كريهًا جدًّا من الدواء ــ: كيف حالك معه؟ قال: أصبحتُ في دارِ بَلِيَّاتِ ... أدفعُ آفاتٍ بآفات وفي الحقيقة؛ فلذَّاتُ الدنيا من المآكل والمشارب والملبس والمسكن والمَنْكَح من هذا الجنس، واللذَّةُ التي يباشرُها الحِسُّ ويتحرَّكُ لها الحيُّ (4) ــ وهي الغايةُ المطلوبةُ له من لذَّة المَنْكَح والمأكل ــ شهوةُ البطن والفَرْج، ليس لهما ثالثٌ البتَّة، إلا ما كان وسيلةً إليهما وطريقًا إلى تحصيلهما. _________ (1) انظر ما سيأتي (ص: 782). (2) كذا في الأصول. والجادةُ النصب. (3) هو أبو إسحاق النظَّام، تمثَّل ببيت أبي العتاهية. انظر: «خاص الخاص» (110)، و «محاضرات الأدباء» (4/ 54)، وعن الأول: «ديوان أبي العتاهية وأخباره» (511). (4) (ق): «الجسد».

(1/376)


وهذه اللذَّةُ منغَّصةٌ من وجوهٍ عديدة: منها: أنَّ تصوُّرَ زوالها وانقضائها وفنائها يوجبُ تنغُّصَها (1). ومنها: أنها ممزوجةٌ بالآفات، معجونةٌ بالآلام، مختلطةٌ بالمخاوف، وفي الغالب لا يفي ألمُها بطِيبها، كما قيل: قايَسْتُ بين جمالها وفَعالها ... فإذا المَلاحةُ بالقَباحَةِ لا تَفِي (2) ومنها: أنَّ الأراذلَ من الناس وسَقَطَهم يشاركون فيها كبراءَهم وعقلاءَهم، بل يزيدون عليهم فيها أعظمَ زيادةٍ وأفحشَها، فنسبتُهم فيها إلى الأفاضل كنسبة الحيوانات البهيميَّة إليهم، فمشاركةُ الأراذل وأهل الخِسَّة والدناءة فيها وزيادتُهم على العقلاء فيها مما يوجبُ النُّفرةَ والإعراضَ عنها، وكثيرٌ من الناس حصل له الزهدُ في المحبوب والمعشوق منها بهذه الطريق. وهذا كثيرٌ في أشعار الناس ونَثْرهم، كما قيل: سأتركُ حُبَّها من غير بُغْضٍ ... ولكنْ كثرةُ الشُّركاءِ فيهِ إذا وقعَ الذُّبابُ على طعامٍ ... رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ ... إذا كان الكلابُ يَلَغْنَ فيهِ (3) _________ (1) (ح، ن): «تنغيصها». (د، ق): «موجب تنغصها». (2) البيت لأبي بكر بن السرَّاج، مِنْ ثلاثة أبياتٍ حِسان، نُسِبَت خطأً لابن المعتز، وهي في ديوانه (1/ 386)، وقبض جائزتها عبيدُ الله بن طاهر! الخبر في «الديارات» للشابشتي (118)، و «إنباه الرواة» (3/ 147)، و «إرشاد الأريب» (2535)، وغيرها. (3) الأبيات في «المستطرف» (1/ 163، 2/ 434) دون نسبة.

(1/377)


وقيل لزاهد: ما الذي زهَّدك في الدُّنيا؟ فقال: «خِسَّةُ (1) شركائها، وقلَّةُ وفائها، وكثرةُ جفائها». وقيل لآخر في ذلك؛ فقال: «ما مددتُ يدي إلى شيءٍ منها إلا وجدتُ غيري قد سبقني إليه، فأتركُه له». ومنها: أنَّ الالتذاذَ بموقعها إنما هو بقدر شدَّة الحاجة إليها، والتألم بمطالبة النفس لتناولها، وكلَّما كانت شهوةُ الظَّفر بالشيء أقوى كانت اللذَّةُ الحاصلةُ بوجوده أكمل، فما لم تحصُل تلك الشهوةُ لم تحصُل تلك اللذَّة؛ فمقدارُ اللذَّة الحاصلة في الحال مساوٍ لمقدار الحاجة والألم والمضرَّة في الماضي؛ وحينئذٍ تتقابلُ اللذَّةُ الحاصلةُ والألمُ المتقدِّم، فيتساقطان، فتصيرُ اللذَّةُ كأنها لم توجد، ويصيرُ بمنزلة من شَقَّ بطنَ رجلٍ ثمَّ خاطَه وداواهُ بالمَراهم، أو بمنزلة من ضربه عشرةَ أسواطٍ وأعطاه عشرةَ دراهم! ولا تخرجُ لذَّاتُ الدنيا غالبًا عن ذلك. ومثلُ هذا لا يُعَدُّ لذَّةً ولا سعادةً ولا كمالًا، بل هو بمنزلة قضاء الحاجة من البول والغائط؛ فإنَّ الإنسان يتضرَّرُ بثِقْله، فإذا قضى حاجتَه استراح منه، فأمَّا أن يعدَّ ذلك سعادةً وبهجةً ولذَّةً مطلوبةً فلا. ومنها: أنَّ هاتين اللذَّتين اللَّتين هما آثرُ اللذَّات عند الناس لا سبيل (2) إلى نيلهما إلا بما يقترنُ بهما قبلهما وبعدهما من مباشرة القاذورات والتألُّم الحاصل عقيبهما. _________ (1) (ت): «خشية». وانظر: «جامع العلوم والحكم» (557). (2) (ت، د، ق): «ولا سبيل». خطأ.

(1/378)


مثالُه (1): لذَّةُ الأكل؛ فإنَّ العاقلَ لو نظر إلى طعامه حال مخالطته ريقَه وعَجْنِه به لنفرت نفسُه منه، ولو سقطت تلك اللقمةُ مِنْ فِيه لنفَر طبعُه من إعادتها إليه. ثمَّ إنَّ لذَّته به إنما تحصُل في مجرى نحو الأربع الأصابع (2)، فإذا فُصِل عن ذلك المجرى زال تلذُّذُه به، فإذا استقرَّ في مَعِدته وخالطه الشرابُ وما في المعدة من الأجزاء الفَضْلِيَّة، فإنه حينئذٍ يصيرُ في غاية الخِسَّة (3)، فإن زاد على مقدار الحاجة أورثَ الأدواءَ المختلفة على تنوُّعها، ولولا أنَّ بقاءه موقوفٌ على تناول (4) الغذاء لكان تركُه ــ والحالةُ هذه ــ أليقَ به، كما قال بعضهم: لولا قضاءٌ جَرى نزَّهتُ أُنمُلتي ... عن أن تُلِمَّ بمأكولٍ ومشروبِ (5) وأمَّا لذَّةُ الوِقاع، فقَدْرُها أبينُ من أن تُذْكَر آفاتُه، ويدلُّ عليه أنَّ أعضاء هذه اللذَّة هي عورةُ الإنسان التي يستحيي من رؤيتها وذِكْرها، وسترُها أمرٌ فطر الله عليه عبادَه، ولا تتمُّ لذَّةُ المواقَعة إلا بالاطلاع عليها وإبرازها، _________ (1) (ت، د، ق): «مثال». (2) (ق): «نحو الأربع أصابع». وهو المريء، وإنما سمِّي بذلك لمروء الطعام فيه، وهو انسياغه، كما في «الكشاف» (1/ 502). وفسِّر قوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} في أحد القولين بأنه: أسرعُ انحدارًا عن المَرِيء؛ لسهولته وخفَّته عليه. انظر: «زاد المعاد» (4/ 231). (3) (ن، ح): «الخساسة». (4) (ق): «تناوله». (5) البيت لعبد القاهر الجرجاني شيخ العربية، في «ربيع الأبرار» (2/ 675).

(1/379)


والتلطُّخ بالرطوبات المُسْتَقْذَرة المتولِّدة منها، ثمَّ إنَّ تمامها إنما يحصلُ بانفصال النطفة، وهي اللذَّةُ المقصودةُ من الوِقاع، وزمنُها يشبه الآنَ الذي لا ينقسم (1)؛ فصعوبةُ تلك المُزاوَلة والمُحاوَلة والمُطاوَلة والمُراوَضة (2) والتعب لأجل لذَّة لحظةٍ كمرِّ الطَّرف! فأيُّ مقايسةٍ بين هذه اللذَّة وبين التعب في طريق تحصيلها؟! وهذا يدلُّ على أنَّ هذه اللذَّة ليست من جنس الخيرات والسعادات والكمال الذي خُلِقَ له العبد، ولا كمال له بدونه. بل ثَمَّ أمرٌ وراء ذلك كلِّه قد هُيِّاء له العبدُ وهو لا يفطنُ له، فهو لغفلته عنه، وإعراضه عن التفتيش عليه حتى يَظْفَر بمعرفته، وعن التفتيش على طريقه حتى يَصِلَ إليه= يَسُومُ نفسَه مع الأنعام السَّائمة. قد هيَّؤوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له ... فاربأ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ (3) ومَوْقِعُ هذه اللذَّة من النفس كمَوْقِع لذَّة البراز (4) من رجلٍ احتبسَ في موضعٍ لا يمكنه القيامُ إلى الخلاء، وصار مضطرًّا إليه؛ فإنه يجدُ مشقَّةً شديدةً وبلاءً عظيمًا، فإذا تمكَّن من الذهاب إلى الخلاء وقَدَرَ على دفع ذلك _________ (1) وهو الحدُّ الذي يتَّصلُ به آخرُ الزمان الماضي بأول الزمان المستقبل، بمنزلة النُّقطة التي يتَّصلُ بها الخطَّان حتى يصيرا واحدًا، فتكونُ النقطةُ مبدأً لأحد الخطَّين ومنتهًى للخطِّ الآخر. انظر: «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (57)، و «الكليات» (827)، و «المعجم الفلسفي» (1/ 28). (2) (ت): «والمراوحة». (3) آخرُ بيتٍ من لاميَّة الطُّغرائي المشهورة بلاميَّة العَجَم، في ديوانه (309). (4) البَراز: الفَضاءُ الواسع. وبالكسر: كنايةٌ عن الغائط. «الصحاح» (برز).

(1/380)


الخبيث المؤذي، وجدَ لذَّةً عظيمةً عند دفعه وإرساله (1)، ولا لذَّةَ هناك إلا راحتُه من حمل ما يؤذيه حملُه. فعُلِمَ أنَّ هذه اللذَّات إمَّا أن تكونَ دفع آلام، وإمَّا أن تكون لذَّاتٍ ضعيفةً خسيسةً مقترنةً بآفاتٍ تُرْبي مضرتُها عليها (2). وهذا كما يَعْقُبُ لذَّةَ الوِقاع من ضعف القلب، وخَفَقان الفؤاد، وضعف القُوى البدنيَّة والقلبيَّة، وضعف الأرواح، واستيلاء العفونة على كلِّ البدن، وإسراع الضعف والخَوَر إليه، واستيلاء الأخلاط عليه لضعف القوَّة عن دفعها وقهرها. ومما يدلُّ على أنَّ هذه اللذَّات ليست خيراتٍ وسعاداتٍ وكمالًا: أنَّ العقلاء من جميع الأمم مطبقونَ على ذمِّ من كانت نَهْمَتَه وشغلَه ومَصْرِفَ همَّته وإرادته، والإزارء به، وتحقير شأنه، وإلحاقه بالبهائم، ولا يقيمون له وزنًا، ولو كانت خيراتٍ وكمالًا لكان من صرَفَ إليها همَّتَه أكملَ الناس. وممَّا يدلُّ على ذلك: أن القلبَ الذي قد وَجَّهَ قصدَه وإرادته إلى هذه اللذَّات لا يزالُ مستغرقًا في الهموم والغموم والأحزان، وما ينالُه من اللذَّات في جنب هذه الآلام كقطرةٍ في بحر، كما قيل: سُرورُه وَزْنُ حَبَّهْ وحُزْنُه قِنْطار (3) _________ (1) بل قال ابنُ حزمٍ في «المحلى» (2/ 6): «اللذةُ في خروج البول والغائط والريح أشدُّ عند الحاجة إلى خروجها منها في خروج المني»! وذكر الرازي في «السر المكتوم» (ص: 3) أن لذة إخراج الطعام أعظمُ من لذة اجتلابه! (2) (ت، ق): «ترى مضرتها عليها». (3) لم أره في مصدرٍ آخر. وهو من «كان وكان».

(1/381)


فإنَّ القلبَ يجري مجرى مرآةٍ منصوبةٍ على جدار، وذلك الجدارُ مَمرٌّ لأنواع المُشْتَهَيات (1) والملذوذات والمكروهات، فكلَّما مرَّ به شيءٌ من ذلك ظهرَ فيه أثرُه. فإن كان محبوبًا مُشْتَهًى مال طبعُه إليه، فإن لم يقدر على تحصيله تألم وتعذَّبَ بفَقْده، وإن قدرَ على تحصيله تألم في طريق الحصول بالتعب والمشقَّة ومنازعة الغير له، ويتألم حال حصوله خوفًا من فراقه (2)، وبعد فراقه حزنًا على ذهابه. وإن كان مكروهًا له ولم يقدر على دفعه تألم بوجوده، وإن قدرَ على دفعه اشتغل بدفعه، ففاتته مصلحةٌ راجحةُ الحصول، فيتألم لفواتها. فعُلِمَ أنَّ هذا القلبَ أبدًا مستغرقٌ في بحار الهموم والغموم والأحزان، وأنَّ نفسَه تضحكُ عليه وتُرضِّيه بوزن ذرَّةٍ من لذَّته (3)، فيغيبُ بها عن شُهوده القناطيرَ من ألمه وعذابه. فإذا حِيل بينه وبين تلك اللذَّة ولم يبقَ له إليها سبيل، تجرَّد ذلك الألمُ وأحاطَ به واستولى عليه من كلِّ جهاته، فقُلْ ما شئتَ في حال عبد قد غُيِّبَ عنه سَعْدُه وحظوظُه وأفراحُه، وأُحْضِرَ شِقْوتَه وهمومَه وغمومَه وأحزانَه. وبين العبد وبين هذه الحال أن يُكشفَ (4) الغطاء، ويُرفعَ الستر، وينجلي الغبار، ويحصَّل ما في الصدور. _________ (1) (ت): «الشبهات». (ن): «المشتبهات». (2) (ن): «فواته». (3) (ح): «من لذة من لذته». (4) (ق، د): «ينكشف».

(1/382)


فإذا كانت هذه غايةَ اللذَّات الحيوانيَّة، التي هي غايةُ جمع الأموال وطلبها، فما الظنُّ بقدر الوسيلة؟! وأمَّا غِنى العلم والإيمان، فدائمُ اللذَّة، متَّصلُ الفرحة، مُقْتَضٍ لأنواع المسرَّة والبهجة، لا يزولُ فيُحْزِن، ولا يُفارقُ فيُؤلِم، بل أصحابُه كما قال الله تعالى فيهم: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]. السادس والثلاثون: أنَّ غنيَّ المال يبغضُ الموتَ ولقاءَ الله؛ فإنَّه لحبِّه مالَه يكرهُ مفارقتَه ويحبُّ بقاءه (1) ليتمتَّع به، كما يشهدُ به الواقع. وأمَّا العلمُ، فإنه يحبِّبُ للعبد لقاءَ ربِّه، ويزهِّدُه في هذه الحياة النَّكِدَة الفانية. السابع والثلاثون: أنَّ الأغنياء يموتُ ذكرُهم بموتهم، والعلماءُ يموتون ويحيا ذكرُهم؛ كما قال أميرُ المؤمنين في هذا الحديث: «مات خُزَّانُ الأموال وهم أحياء، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر»؛ فخُزَّانُ الأموال أحياءٌ كأموات، والعلماءُ بعد موتهم أمواتٌ كأحياء. الثامن والثلاثون: أنَّ نسبةَ العلم إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فالروحُ ميتةٌ حياتُها بالعلم، كما أنَّ الجسدَ ميتٌ حياتُه بالروح، فالغِنى بالمال (2) غايتُه أن يزيد في حياة البدن، وأمَّا العلمُ فهو حياةُ القلوب والأرواح، كما تقدم تقريرُه. التاسع والثلاثون: أنَّ القلبَ مَلِكُ البدن، والعلمَ زينتُه وعُدَّتُه ومالُه، وبه _________ (1) (ق): «مقامه». (2) (ق، ح، د، ن): «فالغنى والمال».

(1/383)


قِوامُ مُلْكه، والمَلِكُ لا بدَّ له من عددٍ وعُدَّةٍ ومالٍ وزينة؛ فالعلمُ هو مركبُه وعدَّتُه وجَمالُه (1). وأمَّا المالُ فغايتُه أن يكون زينةً وجَمالًا للبدن إذا أنفقه في ذلك، فإذا خَزَنَه ولم ينفقه لم يكن زينةً ولا جمالًا، بل نقصًا ووبالًا. ومن المعلوم أنَّ زينةَ المَلِك وما به قِوامُ ملكه أجلُّ وأفضلُ من زينة رعيَّته وجَمالهم، فقِوامُ القلب بالعلم، كما أنَّ قِوامَ الجسم بالغذاء. الوجه الأربعون: أنَّ القدرَ المقصودَ من المال هو ما يكفي العبد ويُقِيمُه ويدفعُ ضرورتَه حتى يتمكَّن من قضاء جَهازه (2)، ومن التزوُّد لسفره (3) إلى ربِّه عز وجل، فإذا زاد على ذلك شَغَلَه وقَطَعَه عن السفر إلى ربِّه وعن قضاء جَهازه وتَعْبِيَة زاده؛ فكان ضررُه عليه أكثر من مصلحته، وكلَّما ازدادَ غِناه به ازدادَ تثبُّطًا وتخلُّفًا عن التجهُّز لما أمامه. وأمَّا العلمُ النافع، فكلَّما ازدادَ منه ازدادَ في تَعْبِيَة الزاد، وقضاء الجَهاز، وإعداد عدَّة المسير، والله الموفِّق وبه الاستعانة، ولا حول ولا قوة إلا به. فعُدَّةُ هذا السفر هو العلمُ والعمل، وعُدَّةُ الإقامة جمعُ الأموال والادِّخار، ومن أراد شيئًا هيَّأ له عُدَّتَه، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]. _________ (1) (د، ق): «وكماله». (2) جَهازُ كل شيء: ما يحتاج إليه. (3) (ق): «لمستقره».

(1/384)


* قولُه: «محبةُ العلم ــ أو العالِم ــ دِينٌ يدانُ بها»؛ لأنَّ العلمَ ميراثُ الأنبياء، والعلماءُ وُرَّاثُهم، فمحبةُ العلم وأهله محبةٌ لميراث الأنبياء وورثتهم، وبغضُ العلم وأهله بغضٌ لميراث الأنبياء وورثتهم. فمحبةُ العلم من علامات السعادة وبغضُ العلم من علامات الشقاوة، وهذا كلُّه إنما هو في علم الرُّسل الذي جاؤوا به، وورَّثوه للأمَّة، لا في كلِّ ما يسمَّى علمًا. وأيضًا؛ فإنَّ محبةَ العلم تحملُ على تعلُّمه واتِّباعه، وذلك هو الدِّين، وبغضُه ينهى عن تعلُّمه واتِّباعه، وذلك هو الشقاءُ والضلال. وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه عليمٌ يحبُّ كلَّ عليم، وإنما يضعُ علمَه عند من يحبُّه، فمن أحبَّ العلمَ وأهلَه فقد أحبَّ ما أحبَّ الله، وذلك مما يُدانُ به. * قولُه: «العلمُ يُكْسِبُ العالِمَ الطَّاعةَ في حياته، وجميل الأُحدوثة بعد مماته»؛ يُكْسِبه ذلك، أي: يجعلُه كسبًا له، ويورِّثُه إياه. ويقال: كَسَبَه ذلك عزًّا وطاعةً، وأَكْسَبه. لغتان. ومنه حديثُ خديجة رضي الله عنها: «إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتَصْدُقُ الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدوم» (1)، رُوِي بفتح التاء وضمِّها، ومعناه: تُكْسِبُ المالَ والغِنى. هذا هو الصواب. وقالت طائفة: من رواه بضمِّها فذلك من: أَكْسَبه (2) مالًا وعزًّا، ومن رواه بفتحها فمعناه: تَكْسِبُ أنت المالَ المعدومَ بمعرفتك وحِذْقِك _________ (1) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة. (2) (ق، د): «أكسبته».

(1/385)


بالتجارة (1). ومعاذَ الله من هذا الفهم، وخديجةُ أجلُّ قدرًا من تكلُّمها بهذا في هذا المقام العظيم، أن تقولَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبشِر، فوالله لا يخزيك الله؛ إنك تَكْسِبُ الدرهمَ والدينار وتُحْسِنُ التجارة! ومثلُ هذه التحريفات إنما تُذْكَرُ لئلَّا يُغْتَرَّ بها في تفسير كلام الله ورسوله. والمقصودُ أنَّ قولَه: «العلمُ يُكْسِبُ العالمَ الطَّاعةَ في حياته»؛ أي: يجعلُه مطاعًا؛ لأنَّ الحاجةَ إلى العلم عامةٌ لكلِّ أحدٍ، الملوك فمن دونهم، فكلُّ أحدٍ محتاجٌ إلى طاعة العالِم، فإنه يأمرُ بطاعة الله ورسوله، فيجبُ على الخلق طاعتُه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. وفُسِّرَ {وَأُولِي الْأَمْرِ} بالعلماء. قال ابن عباس: «هم الفقهاءُ والعلماءُ أهلُ الدِّين، الذين يعلِّمون الناسَ دينَهم، أوجبَ اللهُ تعالى طاعتَهم». وهذا قولُ مجاهد والحسن والضحَّاك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وفُسِّروا بالأمراء. وهو قولُ ابن زيد، وإحدى الروايتين عن ابن عباس وأحمد (2). _________ (1) ذكر هذا المعنى ــ على رواية الفتح ــ السَّرَقُسْطِيُّ في «الدلائل في غريب الحديث» (1/ 333)، وضعَّفه وغلَّطه النوويُّ في «شرح مسلم» (2/ 201)، وانظر: «المفهم» (1/ 379)، و «فتح الباري» (1/ 34). (2) انظر التعليق المتقدم (ص: 192).

(1/386)


والآيةُ تتناولهما جميعًا؛ فطاعةُ ولاة الأمر واجبةٌ إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، وطاعةُ العلماء كذلك. فالعالِمُ بما جاء به الرسولُ العاملُ به أطوعُ في أهل الأرض من كلِّ أحد، فإذا مات أحيا اللهُ ذكرَه، ونشرَ له في العالمين أحسنَ الثناء. فالعالِمُ بعد وفاته ميتٌ وهو حيٌّ بين الناس، والجاهلُ في حياته حيٌّ وهو ميتٌ بين الناس، كما قيل: وفي الجهلِ قبل الموتِ موتٌ لأهله ... وأجسامُهم قبل القبور قبورُ وأرواحُهم في وَحْشةٍ مِنْ جُسُومِهم ... وليس لهم حتى النُّشورِ نُشورُ (1) وقال آخر: قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهم ... وعاشَ قومٌ وهم في الناس أمواتُ (2) وقال آخر: وما دام ذِكْرُ العبد بالفضل باقيًا ... فذلك حيٌّ وهو في التُّرْبِ هالكُ (3) ومن تأمَّل أحوال أئمَّة الإسلام ــ كأئمَّة الحديث والفقه ــ كيف هم تحت التراب وهم في العالَمين كأنهم أحياءٌ بينهم، لم يَفْقِدُوا منهم إلا صُوَرهم، وإلا فذِكرُهم وحديثُهم والثناءُ عليهم غير منقطع، وهذه هي الحياةُ _________ (1) مضى القولُ في تخريج البيتين (ص: 130). (2) البيت للشافعي في «المنهج الأحمد» (1/ 71)، وعنه في ديوانه (58)، ودون نسبة في «السلوك» للجندي (1/ 420)، و «زهر الأكم» (1/ 332). (3) لم أعثر عليه.

(1/387)


حقًّا، حتى عُدَّ ذلك حياةً ثانية، كما قال المتنبي (1): ذِكْرُ الفتى عَيْشُه الثاني وحاجتُه ... ما قاتَه وفضولُ العَيْشِ أشغالُ * قولُه: «وصنيعةُ المال تزولُ بزواله»؛ يعني: أنَّ كلَّ صنيعةٍ صُنِعَت للرجل من أجل ماله؛ من إكرامٍ ومحبَّةٍ وخدمةٍ وقضاءِ حوائجَ وتقديمٍ واحترامٍ وتوليةٍ وغير ذلك، فإنها إنما هي مراعاةٌ لماله، فإذا زال مالُه وفارقه زالت تلك الصنائعُ كلُّها، حتى إنه ربَّما لا يُسَلِّمُ عليه من كان يدأبُ في خدمته ويسعى في مصالحه. وقد أكثر الناسُ من هذا المعنى في أشعارهم وكلامهم. وفي مثل قولهم: «مَنْ وَدَّك لأمرٍ مَلَّك عند انقضائه» (2) قال بعض العرب: وكان بنو عمِّي يقولون: مرحبًا ... فلمَّا رأوني مُعْسِرًا ماتَ مَرْحَبُ (3) _________ (1) في ديوانه (505). وتحرَّف في (ت، ح، ن) وكثيرٍ من المصادر: «قاته» إلى: «فاته» بالفاء. والرواية في الديوان: «عمره الثاني». (2) نُسِب القول إلى الحسن بن محمد بن علي بن موسى في «التذكرة الحمدونية» (1/ 276). وإلى بعض الحكماء في «العزلة» للخطابي (60)، و «ربيع الأبرار» (1/ 431). وإلى بعض ملوك الهند في «الإيجاز والإعجاز» (11)، و «البصائر والذخائر» (1/ 127)، و «التذكرة الحمدونية» (1/ 277). (3) من أبياتٍ تنسب لرجلٍ يكنى أبا كثير، في «إصلاح المال» لابن أبي الدنيا (495)، وبعضها في «روضة العقلاء» (226)، و «عيون الأخبار» (1/ 241)، و «المحاسن والمساواء» (273)، و «المستطرف» (2/ 96)، دون نسبة. وفي «العقد» (3/ 35) أن هذا البيت وآخر وُجِدا مكتوبَين بالذَّهب في جدارٍ من جُدُرِ بيت المقدس. وليسا في «أدب الغرباء».

(1/388)


ومن هذا ما قيل: «إذا أكرمَك الناسُ لمالٍ أو سلطانٍ فلا يُعْجِبَنَّك ذلك؛ فإنَّ زوالَ الكرامة بزوالهما، ولكن لِيُعْجِبْك (1) إن أكرموك لعلمٍ أو دين» (2). وهذا أمرٌ لا يُنْكَرُ في الناس؛ حتى إنهم ليُكْرِمُون الرجلَ لثيابه، فإذا نزعها لم ير منهم تلك الكرامةَ وهو هو! قال مالك: «بلغني أنَّ أبا هريرة دُعِيَ إلى وليمةٍ فأتى، فحُجِب، فرجعَ فلبسَ غير تلك الثِّياب، فأُدْخِل، فلمَّا وُضِعَ الطعامُ أدخلَ كمَّه في الطعام، فعُوتِبَ في ذلك، فقال: إنَّ هذه الثيابَ هي التي أُدخِلَت، فهي تأكُل». حكاه ابنُ مُزَين الطُّليطلي في «كتابه» (3). وهذا بخلاف صنيعة العلم، فإنها لا تزولُ أبدًا، بل كلَّما لها (4) في زيادة، ما لم يُسْلَبْ ذلك العالِمُ علمَه. وصنيعةُ العلم والدِّين أعظمُ من صنيعة المال؛ لأنها تكونُ بالقلب واللسان والجوارح، فهي صادرةٌ عن حبٍّ وإكرامٍ لأجل ما أودعه اللهُ تعالى _________ (1) (د، ت، ق، ن): «ليعجبنك». (2) قاله ابنُ المقفع في «الأدب الكبير» (110). وعنه في «عيون الأخبار» (2/ 121)، و «الجامع» لابن عبد البر (1/ 265)، وغيرها. (3) انظر ما تقدم (ص: 82) بشأن ابن مزين. والخبر لم أقف عليه. وأصلُ القصة مشهور، وقد وردت من حديث ابن عباس مرفوعًا، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7107)، ولا يثبت، وأخرجه معمر في «الجامع» (11/ 437، 438) مرسلًا، وهو الصواب. (4) (ت، ح، ن): «كل مالها». وهو تركيبٌ محدثٌ يفيد معنى الاستمرار. واستعمله المصنف في «إعلام الموقعين» (2/ 257)، والذهبي في «تاريخ الإسلام» (15/ 426)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (9/ 522)، وغيرهم، ولا زال مستعملًا. ويمكن أن تكون (ما) موصولة.

(1/389)


إياه من علمه وفَضَّلَه به على غيره. وأيضًا؛ فصنيعةُ العلم تابعةٌ لنفس العالِم وذاته، وصنيعةُ المال تابعةٌ لماله المنفصل عنه. وأيضًا؛ فصنيعةُ المال صنيعةُ معاوَضَة، وصنيعةُ العلم والدِّين صنيعةُ حبٍّ وتقرُّبٍ وديانة. وأيضًا؛ فصنيعةُ المال تكونُ مع البَرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر، وأمَّا صنيعةُ العلم والدِّين فلا تكونُ إلا مع أهل ذلك. وقد يرادُ من هذا أيضًا معنًى آخر؛ وهو أنَّ من اصطنعتَ عنده صنيعةً بمالك، إذا زال ذلك المالُ وفارقه عَدِمت صنيعتك عنده، وأما من اصطنعتَ إليه صنيعةَ علمٍ وهدى فإنَّ تلك الصنيعةَ لا تفارقُه أبدًا، بل تُرى في كلِّ وقتٍ كأنك أسْدَيْتَها إليه حينئذ. * قولُه: «مات خُزَّانُ الأموال وهم أحياء»؛ قد تقدَّم بيانُه. * وكذلك قولُه: «والعلماءُ باقون ما بقي الدهر». * وقولُه: «أعيانُهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»؛ المرادُ بـ «أمثالهم» صُوَرهم العلميَّة، ووجودُهم المثاليُّ، أي: وإن فُقِدت ذواتُهم فصُوَرهم وأمثالُهم في القلوب لا تفارقُها، وهذا هو الوجودُ الذِّهنيُّ العلمي؛ لأنَّ محبة الناس لهم، واقتداءهم بهم، وانتفاعهم بعلومهم، يوجبُ أن لا يزالوا نُصْبَ عيونهم، وقبلة قلوبهم، فهم موجودون معهم، وحاضرون عندهم، وإن غابت عنهم أعيانُهم، كما قيل:

(1/390)


ومِنْ عجبٍ أنِّي أحِنُّ إليهمُ ... وأسألُ عنهم من لقيتُ وهم معي وتَطْلُبهم عيني وهم في سَوادِها ... ويشتاقُهم قلبي وهم بين أضلُعِي (1) وقال آخر: ومِن عجبٍ أن يَشْكُوَ البعدَ عاشقٌ ... وهل غاب عن قلب المُحِبِّ حبيبُ خيالُك في عيني وذِكْرُك في فمي ... ومثواكَ في قلبي فأين تغيبُ (2) قولُه: «آه؛ إنَّ هاهنا علمًا ــ وأشار إلى صدره ــ»؛ يدلُّ على جواز إخبار الرجل بما عنده من العلم والخير ليُقْتَبَس منه، وليُنتَفَع به، ومنه قول يوسف الصِّدِّيق عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فمن أخبَر عن نفسه بمثل ذلك ليُكثِّر به ما يحبُّه الله ورسولُه من الخير فهو محمود، وهذا غير من أخبَر بذلك ليتكثَّر به عند الناس ويتعظَّم، وهذا يجازيه اللهُ بمَقْتِ الناس له، وصِغَرِه في أعينُهم، والأولُ يُكَبِّرُه في قلوبهم وعيونهم، وإنما الأعمالُ بالنيات. وكذلك إذا أثنى الرجلُ على نفسه ليَخْلُصَ بذلك من مظلمةٍ وشرٍّ، أو _________ (1) البيتان للقاضي الفاضل (ت: 596) في «ديوانه» (492). ونُسِبا لمِهْيار ــ وليسا في ديوانه ــ في «الحلة السيراء» (1/ 204)، و «نفح الطيب» (5/ 476)، وفي الأول حكاية خلافٍ في ذلك. وهما في «الحماسة المغربية» (1068) ومصادر أخرى كثيرة دون نسبة. (2) الثاني لابن غلندو الإشبيلي (ت: 587) في «إرشاد الأريب» (1194). ودون نسبة في «البديع» لابن منقذ (114).

(1/391)


ليستوفي بذلك حقًّا له يحتاجُ فيه إلى التعريف بحاله، أو ليقطعَ عنه أطماعَ السِّفلَة فيه، أو عند خِطْبته إلى من لا يعرفُ حالَه. والأحسنُ في هذا أن يوكِّل من يُعَرِّفُ به وبحاله؛ فإنَّ لسانَ ثناء المرء على نفسه قصير (1)، وهو في الغالب مذموم؛ لما يقترنُ به من الفخر والتعاظُم. ثمَّ ذكرَ أصنافَ حملة العلم الذين لا يصلحونَ لحمله، وهم أربعة: أحدُهم: من ليس هو بمأمونٍ عليه، وهو الذي أوتي ذكاءً وحفظًا، ولكن مع ذلك لم يؤتَ زكاءً؛ فهو يتخذُ العلمَ الذي هو آلةُ الدِّين آلةَ الدنيا، يَسْتَجْلِبُها به، ويتوسَّلُ بالعلم إليها، ويجعلُ البضاعةَ التي هي مُتَّجَرُ الآخرة مُتَّجَرَ الدنيا، وهذا غيرُ أمينٍ على ما حملَه من العلم، ولا يجعلُه اللهُ إمامًا فيه قطُّ؛ فإنَّ الأمينَ هو الذي لا غرض له ولا إرادة لنفسه إلا اتباع الحقِّ وموافقته، فلا يدعو إلى قيام رياسته ولا دنياه. وهذا الذي قد اتَّخذ بضاعةَ الآخرة ومُتَّجَرها مُتَّجَرًا للدنيا قد خان اللهَ وخان عبادَه وخان دينَه، فلهذا كان (2) غير مأمونٍ عليه. * وقولُه: «يَسْتَظْهِرُ بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده»؛ هذه صفةُ هذا الخائن؛ إذا أنعمَ اللهُ عليه استظهر بتلك النعمة على الناس، وإذا تعلَّم علمًا استظهر به على كتاب الله. ومعنى استظهاره بالعلم على كتاب الله: تحكيمُه عليه وتقديمُه وإقامتُه _________ (1) انظر السِّرَّ في ذلك في «الهوامل والشوامل» (68، 117، 308). (2) (ق، د، ح، ن): «قال». أي: علي رضي الله عنه.

(1/392)


دونه. وهذه حالُ كثيرٍ ممن يحصُل له علم؛ فإنه يستغني به ويستظهرُ به ويحكِّمُه ويجعلُ كتابَ الله تبعًا له، يقال: اسْتَظْهَر فلانٌ على كذا بكذا، أي: ظَهَرَ عليه به، وتقدَّم فجعله وراءَ ظهره. وليست هذه حال العلماء؛ فإنَّ العالِمَ حقًّا يستظهرُ بكتاب الله على كلِّ ما سِواه، فيقدِّمه ويحكِّمُه، ويجعلُه إمامه، ويجعلُه عِيارًا على غيره مهيمنًا عليه، كما جعله الله تعالى كذلك. فالمُسْتَظْهِرُ به موفَّقٌ سعيد، والمُسْتَظْهِرُ عليه مخذولٌ شقيٌّ، فمن اسْتَظْهَر على الشيء فقد جعله خلفَ ظهره مقدِّمًا عليه ما اسْتَظْهَرَ به، وهذا حالُ من اشتغل بغير كتاب الله عنه، واكتفى بغيره منه، وقدَّم غيره وأخَّره. الصنف الثاني من حملة العلم: المنقادُ له، الذي لم يَثْلُجْ له صدرُه، ولم يطمئنَّ به قلبُه، بل هو ضعيفُ البصيرة فيه، لكنه منقادٌ لأهله. وهذه حالُ أتباع الحقِّ من مقلِّديهم، وهؤلاء وإن كانوا على سبيلِ نجاةٍ فليسوا من دعاة الدِّين، وإنما هم من مكثِّري سَواد الجيش، لا من أمرائه وفرسانه. والمنقاد: مُنْفَعِلٌ مِن قاده يَقُودُه، وهو مُطاوِعُ الثُّلاثي (1)، وأصلُه: مُنْقَيِد؛ كمُكْتَسِب، ثمَّ أُعِلَّت الياءُ ألفًا (2) لحركتها بعد فتحة، فصار: مُنقاد؛ _________ (1) (ح): «الثاني». وهو تحريف. (2) (ت): «ثم أقلب الياء ألفًا». والإعلال: تغيير حرف العلة للتخفيف، بالقلب كما في هذا المثال، أو التسكين، أو الحذف.

(1/393)


تقول: قُدْتُه فانقادَ، أي: لم يَمْتَنِع. والأحناء: جمعُ حِنْو، بوزن عِلْم، وهي الجوانبُ والنواحي، والعربُ تقول: ازجُر أحناءَ طَيْرِك، أي: أمْسِك نواحي خِفَّتِك وطَيْشِك يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا (1). قال لبيد (2): فقلتُ ازدَجِرْ أحناءَ طَيْرِكَ واعْلَمَنْ ... بأنَّك إنْ قَدَّمتَ رِجْلَك عاثرُ والطيرُ هنا: الخِفَّةُ والطَّيش. * وقولُه: «ينقدحُ الشكُّ في قلبه بأوَّل عارضٍ من شبهة»؛ هذا لضَعْفِ علمه وقلَّة بصيرته، إذا وردَت على قلبه أدنى شبهةٍ قدحَت فيه الشكَّ والرَّيب، بخلاف الراسخ في العلم، لو وردَت عليه من الشُّبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينَه، ولا قدحَت فيه شكًّا؛ لأنه قد رسَخَ في العلم فلا تستفزُّه الشبهات، بل إذا وردَت عليه رَدَّها حرسُ العلم وجيشُه مغلولةً مغلوبة. والشبهةُ واردٌ يَرِدُ على القلب يحولُ بينه وبين انكشاف الحقِّ له، فمتى باشرَ القلبُ حقيقةَ العلم لم تؤثِّر تلك الشبهةُ فيه، بل يقوى علمُه ويقينُه بردِّها ومعرفة بطلانها، ومتى لم يباشِر حقيقةَ العلم بالحقِّ قلبُه قدحَتْ فيه الشكَّ بأول وهلة، فإن تداركَها وإلا تتابعت على قلبه أمثالُها، حتى يصيرَ شاكًّا مرتابًا. _________ (1) انظر: «الصحاح» (حني). (2) في ديوانه (220).

(1/394)


والقلبُ يتواردُه جيشان من الباطل: جيشُ شهوات الغيِّ، وجيشُ شبهات الباطل. فأيما قلبٍ صغا إليها وركنَ إليها تَشَرَّبها وامتلأ بها، فينضحُ لسانُه وجوارحُه بمُوجَبها، فإن أُشْرِبَ شبهات الباطل تفجَّرت على لسانه الشكوكُ والشبهاتُ والإيرادات، فيظنُّ الجاهلُ أنَّ ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه! وقال لي شيخُ الإسلام رضي الله عنه ــ وقد جعلتُ أوردُ عليه إيرادًا بعد إيراد ــ: «لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة، فيتشرَّبها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصْمَتة، تمرُّ الشبهاتُ بظاهرها ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعُها بصلابته، وإلا فإذا أَشْرَبتَ قلبَك كلَّ شبهةٍ تمرُّ عليك صار مقرًّا للشبهات» (1)، أو كما قال؛ فما أعلمُ أني انتفعتُ بوصيَّةٍ في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك. وإنما سُمِّيت الشبهةُ شبهةً لاشتباه الحقِّ بالباطل فيها؛ فإنها تلبسُ ثوبَ الحقِّ على جسم الباطل، وأكثرُ الناس أصحابُ حُسْنٍ ظاهر، فينظرُ الناظرُ فيما أُلبِسَتْهُ من اللباس فيعتقدُ صحتها، وأما صاحبُ العلم واليقين فإنه لا يغترُّ بذلك، بل يجاوزُ نظرَه إلى باطنها وما تحت لباسها، فينكشفُ له حقيقتُها. _________ (1) انظر هذا المعنى في: «شفاء العليل» (323، 542)، و «الوابل الصيب» (120 - 122)، و «الروح» (599). وذكر الصفدي في «الوافي» (7/ 16) أن ابن تيمية كان إذا رآه قال له: «أيش حِسّ الإيرادات؟ أيش حِسّ الأجوبة؟ أيش حِسّ الشكوك؟، أنا أعلم أنك مثل القِدْر التي تغلي تقول: بق بق بق، أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، لازمني تنتفع».

(1/395)


ومثالُ هذا: الدرهمُ الزائف؛ فإنه يغترُّ به الجاهلُ بالنقد، نظرًا إلى ما عليه من لباس الفضَّة، والناقدُ البصيرُ يجاوزُ نظرَه إلى ما وراء ذلك فيطَّلعُ على زيفه. فاللفظُ الحسنُ الفصيحُ هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضَّة على الدرهم الزائف، والمعنى كالنحاس الذي تحته (1). وكم قد قتلَ هذا الاغترارُ من خلقٍ لا يحصيهم إلا الله! وإذا تأمَّل العاقلُ الفَطِنُ هذا القَدْرَ وتدبَّره رأى أكثر الناس يقبَلُ المذهبَ والمقالةَ بلفظٍ، ويردُّها بعينها بلفظٍ آخر!، وقد رأيتُ أنا من هذا في كتب الناس ما شاء الله. وكم قد رُدَّ من الحقِّ بتشنيعه بلباسٍ من اللفظ قبيح! وفي مثل هذا قال أئمَّةُ السُّنَّة ــ منهم الإمامُ أحمد وغيره ــ: «لا نُزِيلُ عن الله صفةً من صفاته لأجل شَناعةٍ شُنِّعَت» (2). فهؤلاء الجهميةُ يسمُّون إثباتَ صفات الكمال لله ــ من حياته، وعلمه، وكلامه، وسمعه، وبصره، وسائر ما وصف به نفسَه ــ تشبيهًا وتجسيمًا، ومن أثبتَ ذلك مشبِّهًا؛ فلا يَنْفِرُ من هذا المعنى الحقِّ لأجل هذه التسمية الباطلة إلا العقولُ الصغيرةُ القاصرةُ _________ (1) قال ابن تيمية في تائية ابن الفارض المشهورة: «نظَم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبثُ من لحم خنزيرٍ في صينيةٍ من ذهب»!. «مجموع الفتاوى» (4/ 73). وانظر: «الصواعق المرسلة» (436)، و «البيان والتبيُّن» (1/ 254). (2) انظر: «الإبانة» لابن بطة (3/ 326 ــ تتمة الرد على الجهمية)، و «إبطال التأويلات» (1/ 44)، و «ذم التأويل» لابن قدامة (22)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 431، 2/ 164)، و «درء التعارض» (2/ 31).

(1/396)


خفافيشُ البصائر. وكلُّ أهل نِحْلَةٍ ومقالةٍ يَكْسُونَ نِحْلَتهم ومقالتهم أحسنَ ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالةَ مخالفيهم أقبحَ ما يقدرون عليه من الألفاظ (1)، ومن رزقه اللهُ بصيرةً فهو يكشفُ بها حقيقةَ ما تحت تلك الألفاظ من الحقِّ والباطل، ولا يغترُّ باللفظ، كما قيل في هذا المعنى: تقولُ هذا جَنى النَّحْلِ (2) تمدحُه ... وإن تشأْ قلتَ ذا قيءُ الزَّنابيرِ مدحًا وذمًّا وما جَاوزتَ وَصْفَهما ... والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ (3) فإذا أردتَ الاطلاعَ على كُنْه المعنى: هل هو حقٌّ أو باطل؟ فجرِّدْه من لباس العبارة، وجرِّدْ قلبك من النُّفرة والمَيْل، ثمَّ أَعْطِ النظرَ حقَّه، ناظرًا بعين الإنصاف، ولا تكن ممَّن ينظرُ في مقالة أصحابه ومن يحسِنُ ظنَّه به نظرًا تامًّا بكلِّ قلبه، ثمَّ ينظرُ في مقالة خصومه ومن يسيءُ ظنَّه به كنظر الشَّزْر والملاحظة. فالناظرُ بعين العداوة يرى المحاسنَ مساواء، والناظرُ بعين المحبة عكسُه، وما سَلِمَ من هذا إلا من أراد الله كرامتَه وارتضاه لقبول الحقِّ، وقد قيل (4): _________ (1) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 344). (2) كذا في الأصول. وروايةُ الديوان وكثيرٍ من المصادر: «مُجاج النحل». (3) البيتان لابن الرومي في «ديوانه» (1144)، ولهما ثالث. (4) البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، في «الأغاني» (12/ 212)، و «الكامل» (277)، و «عيون الأخبار» (3/ 76)، و «زهر الآداب» (1/ 85)، وغيرها. وفي نسبته خلاف. انظر: «الواضح المبين» (44).

(1/397)


وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ... كما أنَّ عينَ السُّخْطِ تُبْدِي المساويا وقال آخر (1): نظروا بعينِ عداوةٍ ولو انها ... عينُ الرِّضا لاستحسَنوا ما استقبَحوا فإذا كان هذا في نظر العين الذي يُدْرِكُ المحسوسات، ولا يتمكَّن من المكابرة فيها، فما الظنُّ بنظر القلب الذي يُدْرِكُ المعاني التي هي عُرْضةُ المكابرة؟! والله المستعان على معرفة الحقِّ وقبوله، وردِّ الباطل وعدم الاغترار به. * وقولُه: «بأول عارضٍ من شبهة»؛ هذا دليلٌ على ضعف عقله ومعرفته، إذ تؤثِّر فيه البَدَوات (2)، وتستفزُّه أوائلُ الأمور، بخلاف الثابت التامِّ العقل (3)، فإنه لا تستفزُّه البَدَواتُ ولا تُزْعِجُه وتُقْلِقُه؛ فإنَّ الباطل له دهشةٌ وروعةٌ في أوَّله، فإذا ثبت له القلبُ رُدَّ على عقبيه. والله يحبُّ من عبده الحِلْمَ والأناة، فلا يَعْجَل، بل يثبتُ حتى يعلمَ ويَسْتَيْقِنَ ما وردَ عليه، ولا يَعْجَل بأمرٍ من قبل استحكامه، فالعجلةُ والطَّيشُ من الشيطان. فمن ثبت عند صدمة البَدَوات استقبلَ أمره بعلمٍ وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلةٍ وطيش، وعاقبتُه الندامة، وعاقبةُ الأول حَمْدُ أمره، ولكنَّ للأول آفةً متى قُرِنَت بالحزم والعزم نجا منها، وهي الفَوْت، فإنه لا يُخافُ _________ (1) وهو الشريفُ الرضي، في ديوانه (1/ 260). (2) الآراء الطارئة. واحدُها: بَداة. (3) (د، ق، ح، ن): «العاقل». تحريف.

(1/398)


من التثبُّت إلا الفَوْت، فإذا اقترنَ به العزمُ والحزمُ تمَّ أمرُه. ولهذا في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائيُّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشد» (1). وهاتان الكلمتان هما جِماعُ الفلاح، وما أُتِيَ العبدُ إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أُتِيَ أحدٌ إلا من باب العجلة والطَّيش واستفزاز البَدَوات له، أو من باب التهاون والتماوُت وتضييع الفرصة بعد مُواتاتها، فإذا حصلَ الثبات أوَّلًا والعزم ثانيًا أفلحَ كلَّ الفلاح، والله وليُّ التوفيق. الصنف الثالث: رجلٌ نَهْمَتُه في نيل لذَّته، فهو منقادٌ لداعي الشهوة أين كان، ولا ينالُ درجةَ وراثة النبوَّة مع ذلك، ولا ينالُ العلم إلا بهجر اللذَّات وتطليق الراحة. قال مسلم في «صحيحه» (2): «قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنالُ العلمُ براحة الجسم». وقال إبراهيم الحربي: «أجمع عقلاءُ كلِّ أمَّةٍ أنَّ النعيمَ لا يُدْرَكُ بالنعيم، ومن آثر الراحةَ فاتته الراحة» (3). _________ (1) أخرجه أحمد (4/ 123)، والترمذي (3407)، والنسائي (1303)، وغيرهما من طرقٍ يقوِّي بعضُها بعضًا عن شداد بن أوسٍ. وصححه ابن حبان (935، 1974)، والحاكم (1/ 508) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: «نتائج الأفكار» (3/ 77). (2) (612). وانظر ما تقدم (ص: 300). (3) انظر: «قاعدة في المحبة» لابن تيمية (207). ولعلَّ أصله ما في «تاريخ بغداد» (6/ 30). ولابن الجوزي كلامٌ في هذا المعنى. انظر: «الآداب الشرعية» (1/ 242).

(1/399)


فما لصاحب اللذَّات وما لدرجة وراثة الأنبياء! فَدَعْ عنك الكتابةَ لست منها ... ولو سَوَّدْتَ وجهَك بالمِدادِ (1) فإنَّ العلمَ صناعةُ القلب وشُغْلُه؛ فما لم يتفرَّغ لصناعته وشغله لم يَنلْها، وله وِجْهَةٌ واحدة؛ فإذا وُجِّهَت وِجْهَته إلى اللذَّات والشهوات انصرفَت عن العلم. ومن (2) لم تغلِبْ (3) لذَّةُ إدراكه للعلم وشهوتُه على لذَّة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجةَ العلم أبدًا، فإذا صارت شهوتُه في العلم ولذَّتُه في إدراكه رُجِيَ له أن يكون من جملة أهله. ولذَّةُ العلم لذَّةٌ عقليَّةٌ روحانيَّةٌ من جنس لذَّة الملائكة، ولذَّةُ شهوات الأكل والشراب والنكاح لذَّةٌ حيوانيَّةٌ يشاركُ الإنسانَ فيها الحيوان، ولذَّةُ الشرِّ والظلم والفساد والعلوِّ في الأرض شيطانيَّةٌ يشاركُ صاحبَها فيها إبليسُ وجنودُه. وسائرُ اللذَّات تبطلُ بمفارقة الروح البدن، إلا لذَّةُ العلم والإيمان، فإنها تَكْمُلُ بعد المفارقة؛ لأنَّ البدنَ وشواغلَه كان يَنْقُصها ويقلِّلها ويحجُبها، فإذا انطوت الروحُ عن البدن التذَّت لذَّةً كاملةً بما حصَّلته من العلم النافع والعمل الصالح؛ فمن طلب اللذَّةَ العظمى، وآثر النعيمَ المقيم، فهو في العلم والإيمان اللذَين بهما كمالُ سعادة الإنسان. _________ (1) ثاني بيتين في «أدب الكتاب» للصولي (171)، و «حماسة الظرفاء» (2/ 108)، و «العقد» (4/ 171، 6/ 133)، وغيرها، دون نسبة. (2) (ح): «وما». وهي ساقطة من (ت). (3) (د): «يغلب». وهي بتشديد اللام ونصب «لذة» قراءةٌ جيدة.

(1/400)


وأيضًا؛ فإنَّ تلك اللذَّات سريعةُ الزوال، وإذا انقضت أعقَبَت همًّا وغمًّا وألمًا يحتاجُ صاحبُها أن يداويه بمثلها دفعًا لألمه، وربَّما كان معاودتُه لها مؤلمًا له كريهًا إليه، لكن يَحْمِلُه عليه مداواةُ ذلك الغمِّ والهمِّ. فأين هذا من لذَّة العلم، ولذَّة الإيمان بالله، ومحبَّته، والإقبال عليه، والتنعُّم بذكره؟! فهذه هي اللذَّةُ الحقيقية. الصنفُ الرابع: مَنْ حرصُه وهِمَّتُه في جمع الأموال وتثميرها وادِّخارها، فقد صارت لذَّتُه في ذلك، وفَنِيَ بها عمَّا سواه، فلا يرى شيئًا أطيبَ له ممَّا هو فيه، فأين هذا ودرجةُ العلم؟! فهؤلاء الأصنافُ الأربعةُ ليسوا من دعاة الدِّين، ولا من أئمَّة العلم، ولا من طلبته الصادقين في طلبه، ومن تعلَّق منهم بشيءٍ منه فهو من المتسلِّقين عليه، المتشبِّهين بحَمَلته وأهله، المدَّعين لوصاله، المبتُوتين من حِباله. وفتنةُ هؤلاء فتنةٌ لكلِّ مفتون؛ فإنَّ الناسَ يتشبَّهون بهم؛ لِمَا يظنُّون عندهم من العلم، ويقولون: «لسنا خيرًا منهم، ولا نرغبُ بأنفسنا عنهم»؛ فهم حجَّةٌ لكلِّ مفتون، ولهذا قال فيهم بعضُ الصحابة الكرام: «احذروا فتنةَ العالِم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإنَّ فتنتَهما فتنةٌ لكلِّ مفتون» (1). * وقولُه: «أقربُ شبهًا بهم الأنعامُ السائمة»؛ هذا التشبيه مأخوذٌ من قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، فما اقتصر سبحانه _________ (1) أخرجه نعيم بن حماد في زوائده على «الزهد» لابن المبارك (75)، وأحمد في «العلل» (3/ 118 - رواية عبد الله)، وابن أبي حاتم في «تقدمة الجرح والتعديل» (88)، وغيرهم عن سفيان الثوري قال: «كان يقال ... » فذكره. وأخرجه البيهقي في «المدخل» (443) عن الشعبي.

(1/401)


على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضلَّ سبيلًا منهم. والسائمة: الراعية، وشبَّه أميرُ المؤمنين هؤلاء بها؛ لأنَّ هِمَّتهم في رَعْي الدنيا وحطامها. والله تعالى يشبِّه أهلَ الجهل والغيِّ تارةً بالأنعام، وتارةً بالحُمُر، وهذا تشبيهٌ لمن تعلَّم علمًا ولم يَعْقِلْه ولم يعمل به، فهو كالحمار الذي يحملُ أسفارًا، وتارةً بالكلب، وهذا لمن انسلخَ عن العلم وأخلدَ إلى الشهوات والهوى. * وقولُه: «كذلك يموتُ العلمُ بموت حامليه»؛ هذا من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرٍو وعائشة وغيرهما: «إنَّ الله لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من صدور الرجال، ولكن يقبضُ العلمَ بقبض العلماء؛ فإذا لم يَبْقَ عالِمٌ ا تخذَ الناسُ رؤساءَ جهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا»، رواه البخاري في «صحيحه» (1). فذهابُ العلم إنما هو بذهاب العلماء. قال ابن مسعودٍ يوم مات عمر رضي الله عنه: «إني لأحسبُ تسعة أعشار العلم اليوم قد ذهَب» (2). وقد تقدَّم قولُ عمر رضي الله عنه: «موتُ ألف عابدٍ أهونُ من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه» (3). _________ (1) (100، 7037). (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 163)، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/ 60) من طرقٍ بعضها صحيح. (3) (ص: 341).

(1/402)


* وقولُه: «اللهمَّ بلى! لن تخلوَ الأرضُ من مجتهدٍ قائمٍ بحجج الله»؛ ويدلُّ عليه الحديثُ الصحيحُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك» (1). ويدلُّ عليه أيضًا ما رواه الترمذي عن قتيبة: حدثنا حماد بن يحيى الأبحّ، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلُ أمَّتي مثلُ المطر لا يُدرى أوَّلُه خيرٌ أم آخرُه» (2). قال: «هذا حديثٌ حسنٌ غريب، ويروى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يثبِّت حمادَ بن يحيى الأبحّ، وكان يقول: هو من شيوخنا. وفي الباب عن عمَّار وعبد الله بن عمرو». فلو لم يكن في أواخر الأمَّة قائمٌ بحجج الله، مجتهد، لم يكونوا موصوفين بهذه الخيريَّة. _________ (1) ورد من حديث جماعةٍ من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، وهو متواتر، كما ذكر ابن تيمية في «الاقتضاء» (1/ 69)، وانظر: «نظم المتناثر» (141). (2) أخرجه الترمذي (2869)، وأحمد (3/ 130، 143)، وغيرهما. قال الإمام أحمد: «هو خطأ، إنما يروى هذا الحديثُ عن الحسن». انظر: «العلل» (3/ 314 - رواية عبد الله)، و «المنتخب من العلل للخلال» (60)، و «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/ 501). وأخرجه من مُرْسَل الحسن أحمدُ في «العلل» في الموضع السابق. ورُوِي من وجوهٍ أخرى صحَّحه بها بعضُ أهل العلم. انظر: «فتح الباري» (7/ 6)، و «الصحيحة» (2286). واستشكل متنه العلائيُّ في «تحقيق منيف الرتبة» (90).

(1/403)


وأيضًا؛ فإنَّ هذه الأمَّة أكملُ الأمم، وخيرُ أمَّةٍ أُخرِجَت للناس، ونبيُّها خاتمُ النبيِّين لا نبيَّ بعده، فجعلَ اللهُ العلماءَ فيها كلَّما هلكَ عالمٌ خَلَفَه عالم؛ لئلَّا تُطْمَسَ معالمُ الدين وتخفى أعلامُه، وكان بنو إسرائيل كلما هلك فيهم نبيٌّ خَلَفَه نبي، فكانت تَسُوسُهم الأنبياء (1)، والعلماءُ لهذه الأمَّة كالأنبياء في بني إسرائيل (2). وأيضًا؛ ففي الحديث الآخر: «يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين» (3)، وهذا يدلُّ على أنه لا يزالُ محمولًا في القرون قرنًا بعد قرن. وفي «صحيح أبي حاتم» من حديث الخولانيِّ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزالُ اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين غرسًا يستعملُهم في طاعته» (4)، وغَرْسُ الله هم _________ (1) كما أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842) من حديث أبي هريرة. (2) ورد هذا في خبرٍ لا أصل له. انظر: «كشف الخفاء» (2/ 83). (3) سيأتي تخريجه (ص: 463). (4) أخرجه أحمد (4/ 200)، وابن ماجه (8)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2497)، وغيرهم من حديث أبي عنبة الخولاني. وصححه أبو حاتم ابن حبان (326)، وقال الذهبي في «المعجم المختص بالمحدثين» (134): «إسناده صالح». وانظر: «الكامل» لابن عدي (1/ 162). وقال العلائي في «جامع التحصيل» (314): «ضعيفٌ من جهة الجراح بن مليح، قال الدارقطني: ليس بشيء. وأحاديث أبي عنبة مرسلة». قلت: إنما قال ذلك الدارقطنيُّ في الجراح بن مليح الرؤاسي، لا هذا البَهْراني، وهو شاميٌّ ليس به بأس، إلا أنه خولف في حديثه هذا، انظر: «شرح مذاهب أهل السنة» لابن شاهين (42). وفي صحبة أبي عنبة الخولاني خلافٌ قويٌّ، والأشبه أن ليست له صحبة. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (251)، و «تهذيب الكمال» (34/ 150)، و «الإصابة» (7/ 293).

(1/404)


أهلُ العلم والعمل، فلو خلت الأرضُ من عالمٍ خلت من غَرْسِ الله. ولهذا القول (1) حججٌ كثيرةٌ لها موضعٌ آخر. وزاد الكذَّابون في حديث علي: « ... إمَّا ظاهرًا مشهورًا، وإمَّا خفيًّا مستورًا» (2)، وظنُّوا أنَّ ذلك دليلٌ لهم على القول بالمُنتَظَر، ولكنَّ هذه الزيادة مِنْ وَضْع بعض كذَّابيهم (3)، والحديثُ مشهورٌ عن عليٍّ لم يَقُلْ (4) أحدٌ عنه هذه المقالة (5) إلا كذَّاب. وحججُ الله لا تقومُ بخفيٍّ مستورٍ لا يقعُ العالَمُ له على خبر، ولا ينتفعون به في شيءٍ أصلًا؛ فلا جاهلٌ يتعلَّمُ منه، ولا ضالٌّ يهتدي به، ولا خائفٌ يأمنُ به، ولا ذليلٌ يتعزَّزُ به، فأيُّ حجَّةٍ لله قامت بمن لا يُرى له شخص، ولا يُسْمَعُ منه كلمة، ولا يُعْلَمُ له مكان؟! ولا سيما على أصول القائلين به، فإنَّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم قالوا: لا بدَّ منه في اللُّطْف _________ (1) أي: عدم خلوِّ الأرض من مجتهد. (2) لم أر هذه الزيادة إلا في كتب الرافضة. أخرجها إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي في «الغارات» (1/ 153)، والطوسي في أماليه (23)، والمفيد في أماليه (3)، بأسانيد مظلمة. وهي في «نهج البلاغة» (4/ 37). (3) انظر: «جواب الاعتراضات المصرية» لابن تيمية (32). (4) كذا في الأصول، على تضمين معنى: ينقل. (5) (ح، ن): «هذه الزيادة».

(1/405)


بالمكلَّفين وانقطاع حجَّتهم عن الله (1). فيا لله العجب! أيُّ لُطْفٍ حصل بهذا المعدوم، لا المعصوم؟! (2) وأيُّ حجَّةٍ أثبتُّم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟! فإنَّ هذا المعدومَ إذا لم يكن لهم سبيلٌ قطُّ إلى لقائه والاهتداء به، فهل في تكليف ما لا يطاقُ أبلغُ من هذا؟! وهل في العذر والحجَّة أبلغُ من هذا؟! فالذي فررتم منه وقعتم في شرٍّ منه، وكنتم في ذلك كما قيل: المستجيرُ بعمرٍو عند كُرْبته ... كالمستجير من الرَّمضاءِ بالنارِ (3) ولكن أبى اللهُ إلا أن يفضحَ من تنقَّصَ بالصحابة الأخيار وبسادة هذه الأمَّة، وأن يُرِيَ الناسَ عورتَه ويُغْرِيه بكشفها. ونعوذُ بالله من الخذلان. ولقد أحسن القائل: ما آنَ للسِّرداب أن يَلِدَ الذي ... حمَّلتمُوه (4) بزعمكم ما آنا فعلى عقولكم العَفاءُ فإنَّكم ... ثَلَّثتُم العَنْقاءَ والغِيلانا (5) _________ (1) انظر: «النكت الاعتقادية» للمفيد (44 - 45). وراجع: «أصول مذهب الشيعة» للقفاري (2/ 789). (2) (ح): «بهذا المعدوم المعصوم». (3) بيتٌ سائرٌ مشهور، في عامة كتب الأمثال، تمثَّل به أبو نجدة لُجَيْم بن سعد، في «الأغاني» (23/ 219)، فنسبه إليه بعضهم، وهو وهم، وورد في كثيرٍ من المصادر دون نسبة، وقال العباسي في «معاهد التنصيص» (4/ 201): «لا أعرف قائله». (4) كذا في الأصول. وفي بعض المصادر: «كلمتموه». (5) تنسبُ الشيعةُ البيتين لابن حجر الهيتمي (ت: 973)، ولهم عليه ردود. انظر: «الكنى والألقاب» للقُمِّي (1/ 262)، و «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» (10/ 177، 20/ 110). وذلك أنه استشهد بهما في «الصواعق المحرقة» (2/ 483)، وقد اكتوى به القوم، واستشهد بهما المصنف هنا وفي «المنار المنيف» (119)، وهو قبل الهيتميِّ بدهر.

(1/406)


ولقد بطلت حججٌ استُودِعَها مثلُ هذا الغائب، وضاعت أعظمَ ضياع، فأنتم أبطلتم حججَ الله من حيث زعمتم حِفْظَها! وهذا تصريحٌ من أمير المؤمنين رضي الله عنه بأنَّ حاملَ حجج الله لابدَّ أن يكون في الأرض، بحيث يؤدِّيها عن الله، ويبلِّغها إلى عباده، مثلُه رضي الله عنه، ومثلُ إخوانه من الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم إلى يوم القيامة. * وقولُه: «لكيلا تبطُل حججُ الله وبيِّناتُه»؛ أي: لكيلا تذهبَ من بين أيدي الناس، وتبطُل من صدورهم، وإلا فالبطلانُ محالٌ عليها؛ لأنها ملزومُ ما يستحيلُ عليه البطلان. فإن قيل: فما الفرقُ بين الحجج والبيِّنات؟ قيل: الفرقُ بينهما أنَّ الحججَ هي الأدلَّةُ العلميةُ التي يَعْقِلُها القلب، وتَسْتَمِعُها الأذن (1). قال تعالى في مناظرة إبراهيم لقومه، وتبيينه بطلانَ ما هم عليه بالدليل العلمي: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، قال ابن زيد (2): «بعلم الحجَّة». وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20]، _________ (1) (د، ح): «وتسمع بالأذن». (ق، ن): «وتسمع بالآذان». (2) كذا في الأصول. وتقدم (ص: 139) عن أبيه زيد بن أسلم.

(1/407)


وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]. والحجَّةُ هي اسمٌ لما يُحْتَجُّ به من حقٍّ وباطل؛ قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، يعني: فإنهم يحتجُّون عليكم بحجَّةٍ باطلة، {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25]. والحجَّةُ المضافةُ إلى الله تعالى: هي الحق. وقد تكون الحجَّةُ بمعنى المُخاصَمة، ومنه قولُه تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، أي: قد وَضَحَ الحقُّ واستبانَ وظَهَر، فلا خصومة بيننا بعد ظهوره ولا مجادلة؛ فإنَّ الجدال شريعةٌ موضوعةٌ للتعاون على إظهار الحق، فإذا ظهر الحقُّ ولم يبقَ به خفاءٌ فلا فائدة في الخصومة والجدال على بصيرة، [فإن] مخاصمةَ المتكبِّر (1) ومجادلتَه عناءٌ لا غناءَ فيه (2). _________ (1) رسمها في الأصول: «المنكر». والمثبت أشبه. انظر: «مدارج السالكين» (1/ 445)، و «الصواعق المرسلة» (372، 901، 1088). (2) ما بين المعكوفين أضفته ليستقيم السياق، ويمكن أن يقرأ بدونه: «فإذا ظهر الحقُّ ولم يبقَ به خفاءٌ فلا فائدة في الخصومة. والجدال على بصيرةٍ مخاصمةُ (المتكبر)، ومجادلتُه عناءٌ لا غناءَ فيه». وانظر ما سيأتي (ص 1008).

(1/408)


هذا معنى هذه الآية. وقد يقعُ في وهم كثيرٍ من الجُهَّال أنَّ الشريعةَ لا احتجاجَ فيها، وأنَّ المُرْسَلَ بها - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحتجُّ على خصومه ولا يجادلهم، ويظنُّ جُهَّالُ المنطقيِّين وفروخُ اليونان أنَّ الشريعةَ خطابٌ للجمهور ولا احتجاجَ فيها، وأنَّ الأنبياء دعَوا الجمهورَ بطريق الخَطابة، والحججُ للخواصِّ، وهم أهلُ البرهان، يَعْنُونَ نفوسَهم ومن سلك طريقتهم. وكلُّ هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن؛ فإنَّ القرآنَ مملوءٌ من الحجج والأدلَّة والبراهين في مسائل التوحيد وإثبات الصانع والمعاد وإرسال الرسل وحدوث العالم (1)، فلا يذكرُ المتكلِّمون وغيرهم دليلًا صحيحًا على ذلك إلا وهو في القرآن بأحسن عبارة، وأوضح بيان، وأتمِّ معنى، وأبعده عن الإيرادات والأسئلة. وقد اعترفَ بهذا حُذَّاقُ المتكلِّمين من المتقدِّمين والمتأخِّرين. قال أبو حامد في أول «الإحياء» (2): «فإن قلت: فلم لم تُورِد في أقسام العلم الكلامَ والفلسفة، وتبيِّن أنهما مذمومان أو ممدوحان؟ فاعلم أنَّ حاصل ما يشتملُ عليه الكلامُ من الأدلة التي يُنتفَعُ بها فالقرآنُ والأخبارُ مشتملةٌ عليه، وما خرج عنهما فهو إمَّا مجادلةٌ مذمومة، وهي من البدع كما سيأتي بيانه، وإمَّا مشاغبةٌ بالتعلُّق بمناقضات الفِرَق، وتطويلٌ بنقل المقالات التي أكثرها تُرَّهاتٌ وهذياناتٌ تزدريها الطِّباعُ وتَمُجُّها الأسماع، _________ (1) انظر بسطها في «الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد» لسعود العريفي (191 - 586). (2) (1/ 22).

(1/409)


وبعضها خوضٌ فيما لا يتعلَّقُ بالدِّين، ولم يكن شيءٌ منه مألوفًا في العصر الأول (1)، ولكن تغيَّر الآن حكمُه إذ حدثت البدعُ الصارفةُ عن مقتضى القرآن والسنَّة، فلفَّقتْ لها شبهًا، ورتَّبتْ لها كلامًا مؤلَّفًا (2)، فصار ذلك المحظورُ بحكم الضرورة مأذونًا فيه». وقال الرازي في كتابه «أقسام اللذَّات» (3): «لقد تأمَّلتُ الكتبَ الكلاميَّة، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتُها تروي غليلًا ولا تشفي عليلًا، ورأيتُ أقرب الطرق طريقةَ القرآن، اقرأ (4) في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ومن جَرَّبَ مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» (5). وهذا الذي أشار إليه بحسب ما فُتِحَ له من دلالة القرآن بطريق الخبر، وإلا فدلالتُه البرهانيةُ العقليةُ التي يشيرُ إليها ويرشدُ إليها، فتكونُ دليلًا سمعيًّا عقليًّا= أمرٌ تميَّز به القرآنُ وصار العالِمُ به من الراسخين في العلم، وهو العلمُ الذي يطمئنُّ إليه القلب، وتَسْكُنُ عنده النفس، ويزكو به العقل، وتستنيرُ به البصيرة، وتقوى به الحجَّة، ولا سبيل لأحدٍ من العالمين إلى قطع _________ (1) في «الإحياء» زيادة: «وكان الخوض فيه بالكلية من البدع». (2) في «الإحياء»: «ونبعَت جماعةٌ فلفقوا لها شبهًا ورتبوا فيها كلامًا مؤلفًا». (3) [(ص: 263) باختلاف يسير, وكذا نقله شيخ الإسلام في مواضع، ولعله نقلٌ بالمعنى أو من نسخة أخرى]. (4) وتصح قراءتها: «أقرأُ». للمتكلِّم. (5) انظر: «تاريخ الإسلام» (13/ 142، 144)، و «السير» (21/ 501)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 91)، ولابن قاضي شهبة (2/ 82).

(1/410)


من حاجَّ به، بل من خاصمَ به فَلَجَتْ حجَّتُه (1)، وكسرَ شبهةَ خصمه، وبه فُتِحَت القلوب، واستُجِيبَ لله ورسوله، ولكنَّ أهل هذا العلم لا تكادُ الأعصارُ تَسْمَحُ منهم إلا بالواحد بعد الواحد. فدلالةُ القرآن سمعيةٌ عقلية، قطعيةٌ يقينية، لا تعترضُها الشبهات، ولا تتداولها الاحتمالات، ولا ينصرفُ القلبُ عنها بعد فهمها أبدًا. وقال بعضُ المتكلِّمين: أفنيتُ عمري في الكلام أطلبُ الدليل، وإذا أنا لا أزدادُ إلا بعدًا عن الدليل، فرجعتُ إلى القرآن أتدبَّره وأتفكَّر فيه، وإذا أنا بالدليل حقًّا معي وأنا لا أشعرُ به، فقلت: والله ما مثلي إلا كما قال القائل: ومن العجائب والعجائبُ جمَّةٌ ... قُرْبُ الحبيب وما إليه وصولُ كالعِيسِ في البيداءِ يقتلها الظَّما ... والماءُ فوق ظهورها محمولُ (2) قال: فلمَّا رجعتُ إلى القرآن إذا هو الحكمُ والدليل، ورأيتُ فيه من أدلَّة الله وحججه وبراهينه وبيِّناته ما لو جُمِعَ كلُّ حقٍّ قاله المتكلِّمون في كتبهم لكانت سورةٌ من سور القرآن وافيةً بمضمونه، مع حُسْن البيان، وفصاحة اللفظ، وتطبيق المَفْصِل (3)، وحُسْن الاحتراز، والتنبيه على مواقع الشُّبه، والإرشاد إلى جوابها، وإذا هو كما قيل ــ بل فوق ما قيل ــ: _________ (1) انتصَرَت وغَلَبَت. والفَلْجُ: الظَّفر والفوز. «اللسان» (فلج). (2) البيت الثاني لأبي العلاء في «سقط الزند» (2/ 878، 880) باختلافٍ يسير. وضمَّنه القاضي الفاضل (ت: 596). انظر: «الروضتين» (2/ 357). ودون نسبة في مصادر كثيرة. (3) أي: إصابة الحجَّة. وأصلُه من: طبَّق السيفُ، إذا أصاب المَفْصِل، فأبان العضو. «الصحاح» (طبق).

(1/411)


كفى وشفى ما في الفؤاد فلم يَدَعْ ... لذي أرَبٍ في القول جدًّا ولا هَزْلا (1) وجعلَت جيوشُ الكلام بعد ذلك تفدُ إليَّ (2) كما كانت، وتتزاحمُ في صدري، ولا يأذنُ لها القلبُ بالدخول فيه، ولا تلقى منه إقبالًا ولا قبولًا، فترجعُ على أدبارها. والمقصودُ أنَّ القرآن مملوءٌ بالاحتجاج، وفيه جميعُ أنواع الأدلَّة والأقيسة الصحيحة. وأمر الله تعالى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فيه بإقامة الحجَّة والمجادلة؛ فقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]. وهذه مناظراتُ القرآن مع الكفار موجودةٌ فيه، وهذه مناظراتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لخصومهم، وإقامةُ الحجج عليهم، لا ينكرُ ذلك إلا جاهلٌ مُفْرِطٌ في الجهل. والمقصودُ الفرقُ بين الحجج والبيِّنات (3)، فنقول: الحُجج: الأدلةُ العلمية، والبيِّنات: جمعُ بيِّنة، وهي صفةٌ في الأصل، يقال: آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ بيِّنة. والبيِّنة: اسمٌ لكل ما يبيِّن الحقَّ، من علامةٍ منصوبةٍ أو أمارةٍ أو دليلٍ _________ (1) البيت لحسان بن ثابت يمدحُ عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، من كلمةٍ في ديوانه (1/ 331). وانظر: «المنتقى من أخبار الأصمعي» (69). (2) (ت، د، ق): «تنفذ إلي». (3) انظر: «مدارج السالكين» (2/ 336).

(1/412)


علمي (1)، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25]؛ فالبيِّنات: الآياتُ التي أقامها اللهُ دلالةً على صدقهم من المعجزات، والكتابُ: هو الدعوة. وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96 - 97]، ومقامُ إبراهيم آيةٌ جزئيةٌ مرئيةٌ بالأبصار، وهو من آيات الله الموجودة في العالم. ومنه قولُ موسى لفرعون وقومه: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ} [الأعراف: 105 - 107]، وكان إلقاءُ العصا وانقلابها حيَّةً هو البيِّنة. وقال قومُ هودٍ: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53]، يريدونَ آيةَ الاقتراح، وإلا فهو قد جاءهم بما يعرفون به أنه رسولُ الله إليهم، فطلبُ الآية بعد ذلك تعنُّتٌ واقتراحٌ لا يكون لهم عذرٌ في عدم الإجابة إليه. وهذه هي الآياتُ التي قال اللهُ تعالى فيها: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، فعدمُ إجابته سبحانه إليها إذ طلبها الكفارُ [كان] رحمةً منه وإحسانًا؛ فإنه جرَت سُنَّته التي لا تبديل لها أنهم إذا طلبوا الآيةَ واقترحوها وأجيبوا ولم يؤمنوا عُوجِلوا بعذاب الاستئصال (2)، _________ (1) انظر: «الطرق الحكمية» (25، 64)، و «إعلام الموقعين» (1/ 90). (2) انظر: «الجواب الصحيح» (6/ 430 - 451).

(1/413)


فلمَّا علم سبحانه أنَّ هؤلاء لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ لم يُجِبْهم إلى ما طلبوا، فلم يَعُمَّهم بعذاب، لِمَا أخرجَ من بنيهم ومن أصلابهم من عباده المؤمنين، وأنَّ أكثرهم آمنَ بعد ذلك بغير الآية التي اقترحوها. فكان عدمُ إنزال الآيات المطلوبة من تمام حكمة الربِّ ورحمته وإحسانه، بخلاف الحُجج فإنها لم تزل متتابعةً يتلو بعضُها بعضًا، وهي كلَّ يومٍ في مزيد، وتوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أكثرُ ما كانت، وهي باقيةٌ إلى يوم القيامة. * وقوله: «أولئك الأقلُّون عددًا، الأعظمون عند الله قَدْرًا»؛ يعني: هذا الصنفُ من الناس أقلُّ الخلق عددًا، وهذا سببُ غُرْبَتهم (1)؛ فإنهم قليلون في الناس، والناسُ على خلاف طريقتهم، فلهم نبأٌ وللناس نبأ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء» (2)، فالمؤمنون قليلٌ (3) في الناس، والعلماءُ قليلٌ في المؤمنين، وهؤلاء قليلٌ في العلماء. وإياك أن تغترَّ بما يغترُّ به الجاهلون، فإنهم يقولون: لو كان هؤلاء على حقٍّ لم يكونوا أقلَّ الناس عددًا، والناسُ على خلافهم؛ فاعلم أنَّ هؤلاء هم الناس، ومن خالفهم فمشبَّهون بالناس، ليسوا بناس، فما الناسُ إلا أهلُ الحقِّ وإن كانوا أقلَّهم عددًا. قال ابن مسعود: «لا يكن أحدُكم إمَّعَة ــ يعني يقول: أنا مع الناس ــ, _________ (1) (ت): «عزتهم». (2) أخرجه مسلم (145) من حديث أبي هريرة. (3) (ت): «قليلون».

(1/414)


لِيُوطِّنْ أحدُكم نفسَه على أن يؤمنَ ولو كفَر الناس» (1). وقد ذمَّ سبحانه الأكثرين في غير موضع، كقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. وقال بعض العارفين: «انفرادُك في طريق طلبك دليلٌ على صدق الطلب» (2). ولقد أحسن القائل (3): مُتْ بداء الهوى وإلا فَخَاطِرْ ... واطْرُق الحَيَّ والعيونُ نَوَاظِرْ لا تَخَفْ وَحْشَةَ الطريق إذا سِرْ ... تَ وكن في خَفارة الحقِّ (4) سائرْ _________ (1) أخرجه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 147) بإسنادٍ صحيح. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 153)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 137) بإسنادٍ آخر فيه ضعف. ورُوِي نحوه مرفوعًا في حديثٍ حسَّنه الترمذي (2007). (2) انظر: «مدارج السالكين» (2/ 5). (3) الجملة من (ت). والبيتان في «المدارج» (2/ 55) في نظمٍ كأنه للمصنف. ولعل البيتين لغيره، وما بعدهما له. (4) كذا في الأصول. وفي «المدارج»: «الحب». وهو أنسب. والخفارة (مثلَّثةُ الخاء): الأمانُ والإجارة. «اللسان» (خفر).

(1/415)


* وقولُه: «بهم يدفعُ اللهُ عن حججه، حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم»؛ وهذا لأنَّ الله سبحانه ضَمِنَ حفظَ حججه وبيِّناته، وأخبر رسولُه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تزالُ طائفةٌ من أمَّته على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة (1). فلا يزالُ غَرْسُ الله الذين غرَسهم في دينه يَغْرِسونَ العلمَ في قلوب من أهَّلَهم اللهُ لذلك وارتضاهم؛ فيكونوا (2) ورثةً لهم كما كانوا هم ورثةً لمن قبلهم، فلا تنقطعُ حججُ الله والقائمُ بها (3) من الأرض. وفي الأثر (4) المشهور: «لا يزالُ اللهُ يَغْرِسُ في هذا الدِّين غَرْسًا يستعملُهم بطاعته» (5). وكان من دعاء بعض من تقدَّم: «اللهمَّ اجعلني من غَرْسِك الذين تستعملُهم بطاعتك». ولهذا ما أقامَ اللهُ لهذا الدِّين من يحفظُه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما عَلِمَه من العلم والحكمة؛ إمَّا في قلوب أمثاله، وإمَّا في كتبٍ ينتفعُ بها الناسُ بعده. وبهذا وغيره فَضَلَ العلماءُ العُبَّادَ؛ فإنَّ العالِم إذا زرع علمَه عند غيره ثمَّ مات جرى عليه أجرُه، وبقي له ذِكرُه، وهو عمرٌ ثانٍ وحياةٌ أخرى، وذلك _________ (1) حديث متواتر، تقدم الكلام عليه (ص: 403). (2) كذا في الأصول، بلا ناصب أو جازم. (3) (ت، ق): «والقيام بها». (د): «القائم»، وفي طرتها: «لعله: القيام». (4) (ت): «الخبر». (5) تقدم تخريجه (ص: 404).

(1/416)


أحقُّ ما تنافسَ فيه المتنافسون ورَغِبَ فيه الراغبون. * وقولُه: «هجَم بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المُتْرفون وأَنِسُوا بما استوحش منه الجاهلون». الهجومُ على الرجل: الدخولُ عليه بلا استئذان. ولما كانت طريقُ الآخرة وعرةً على أكثر الخلق؛ لمخالفتها لشهواتهم ومباينتها لإراداتهم ومألوفاتهم= قلَّ سالكوها، وزهَّدهم فيها (1) قلَّةُ علمهم ــ أو عدمُه ــ بحقيقة الأمر وعاقبة العباد (2) ومصيرهم وما هُيِّئوا له وهُيِّاء لهم؛ فقلَّ علمُهم بذلك، واستلانوا مركبَ الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعَّرت عليهم الطريق، وبَعُدَت الشُّقَّة، وصَعُبَ عليهم مرتقى عِقابها وهبوطُ أوديتها وسلوكُ شعابها، فأخلدوا إلى الدَّعة والراحة، وآثروا العاجلَ على الآجل، وقالوا: عَيْشُنا اليوم نَقْدٌ وموعودُنا (3) نسيئة (4). فنظروا إلى عاجل الدنيا، وأغمضوا العيونَ عن آجلها، ووقفوا مع ظاهرٍ منها، ولم يتأمَّلوا باطنَها، وذاقوا حلاوةَ مَبادِيها، وغاب عنهم مرارةُ عواقبها، ودَرَّ لهم ثَدْيُها فطابَ لهم الارتضاع، واشتغلوا به عن التفكُّر في الفطام ومرارة الانقطاع، وقال مغترُّهم بالله وجاحدُهم لعظمته وربوبيَّته ــ متمثِّلًا في ذلك ــ: _________ (1) ساقطة من (ت). (2) (ت): «المعاد». (3) (ح، ت): «وموعدنا». (4) انظر: «تلبيس إبليس» (345)، و «الداء والدواء» (79).

(1/417)


* خُذ ما تراهُ ودَع شيئًا سمعتَ به * (1) وأمَّا القائمون لله بحجَّته، خلفاءُ نبيِّه في أمَّته، فإنهم لكمال علمهم وقوَّته نَفَذ بهم إلى حقيقة الأمر، وهجمَ بهم عليه، فعاينوا ببصائرهم ما عَشَتْ عنه (2) بصائرُ الجاهلين، فاطمأنَّت قلوبُهم به، وعملوا على الوصول إليه؛ لِمَا باشرها مِنْ رَوْح اليقين (3). رُفِعَ لهم عَلَمُ السعادة فشمَّروا إليه، وأسْمَعهم منادي الإيمان النداءَ فاستبقوا إليه، واستيقنت أنفسُهم ما وعدهم به ربُّهم فزهدوا فيما سواه ورغبوا فيما لديه. علموا أنَّ الدنيا دارُ ممرٍّ لا دارُ مقرّ، ومنزلُ عبورٍ لا مقعد حبور، وأنها خيالُ طَيْفٍ أو سحابةُ صَيْف، وأنَّ مَنْ فيها كراكبٍ قال تحت ظلِّ شجرةٍ ثمَّ راح عنها وتركها، وتيقَّنوا أنها: أحلامُ نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ ... إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخْدَعُ (4) وأنَّ واصفَها صدق في وصفها إذ يقول: أرى أشقياءَ الناس لا يسأمونها ... على أنهم فيها عراةٌ وجُوَّعُ _________ (1) صدرُ بيتٍ للمتنبي، في ديوانه (330)، وعجُزه: * في طلعة البدر ما يغنيك عن زُحَلِ * (2) العَشَى: سوءُ البصر. وخصَّه بعضُهم بالليل. «اللسان» (عشا). (3) (ت): «عين اليقين». (4) البيت لعمران بن حطان، في «روضة العقلاء» (301)، و «تاريخ دمشق» (43/ 498)، و «الخزانة» (5/ 361)، وغيرها.

(1/418)


أراها وإن كانت تُحَبُّ فإنها ... سحابةُ صَيْفٍ عن قليلٍ تَقَشَّعُ (1) فترحَّلَت عن قلوبهم مدبرةً كما ترحَّلَت عن أهلها مُوَلِّية، وأقبلت الآخرةُ إلى قلوبهم مسرعةً كما أسرعَت إلى الخلق مقبلة، فامتطوا ظهورَ العزائم، وهجروا لذَّة المنام، وما ليلُ المحبِّ بنائم. عَلِموا طولَ الطريق وقلَّة المُقام في منزل التزوُّد فسارعوا في الجَهاز، وجَدَّ بهم السيرُ إلى منازل الأحباب فقطعوا المراحلَ وطووا المفاوز (2). وهذا كلُّه من ثمرات اليقين؛ فإنَّ القلب إذا استيقنَ ما أمامه من كرامة الله وما أعدَّ لأوليائه ــ بحيث كأنه ينظرُ إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلمُ أنه إذا زال الحجابُ رأى ذلك عيانًا ــ زالت عنه الوحشةُ التي يجدُها المتخلِّفون، ولانَ له ما استوعره المترفون. وهذه المرتبةُ هي أولُ مراتب اليقين؛ وهي علمُه وتيقُّنه، وهي انكشافُ المعلوم للقلب، بحيث يشاهدُه ولا يشكُّ فيه، كانكشاف المرئيِّ للبصر. ثمَّ تليها المرتبةُ الثانية؛ وهي مرتبةُ عين اليقين، ونسبتُها إلى العين كنسبة الأول إلى القلب. ثمَّ تليها المرتبةُ الثالثة؛ وهي حقُّ اليقين، وهي مباشرةُ المعلوم وإدراكُه الإدراكَ التام. فالأولى كعلمك بأنَّ في هذا الوادي ماءً، والثانيةُ كرؤيته، والثالثةُ _________ (1) البيتان لعمران بن حطان ــ أيضًا ــ، من مقطعةٍ أخرى في «الزهد» لابن أبي الدنيا (219)، وفي «ديوان شعر الخوارج» (173) مزيد تخريج. (2) كذا في الأصول. ولعلها محرفة عن: المفاز. وهو المفازة. ليستقيم السجع.

(1/419)


كالشُّرب منه (1). ومن هذا ما يروى في حديث حارثة وقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أصبحتَ يا حارثة؟» قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال: «إنَّ لكلِّ قولٍ حقيقة، فما حقيقةُ إيمانك؟» قال: عزفَت نفسي عن الدنيا وشهواتها، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظرُ إلى عرش ربِّي بارزًا، وكأني أنظرُ إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوَوْن فيها، فقال: «عبدٌ نوَّر اللهُ قلبه» (2). فهذا هو هجومُ العلم بصاحبه على حقيقة الأمر، ومن وصل إلى هذا استلانَ ما يستوعرُه المترفون، وأَنِسَ بما يستوحشُ منه الجاهلون، ومن لم يثبت قدمُ إيمانه على هذه الدرجة فهو إيمانٌ ضعيف. وعلامةُ هذا: انشراحُ الصدر لمنازل الإيمان، وانفساحُه، وطمأنينةُ القلب لأمر الله، والإنابةُ إلى ذكر الله، ومحبَّته، والفرح بلقائه، والتجافي عن _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 645)، و «مدارج السالكين» (2/ 403)، و «أيمان القرآن» (284). (2) أخرجه عبد بن حميد في «المسند» (445 - منتخبه)، والطبراني في «الكبير» (3/ 266)، وغيرهما من حديث الحارث بن مالك الأنصاري بإسنادٍ ضعيف. ورُوِي من وجوهٍ أخرى معضلًا ومرسلًا وموصولًا. قال العقيلي: «ليس لهذا الحديث إسنادٌ يثبت»، وقال ابن صاعد: «هذا الحديثُ لا يثبتُ موصولًا»، وقال ابن تيمية: «رُوِي مسندًا من وجهٍ ضعيفٍ لا يثبت»، وقال ابن رجب: «والمرسلُ أصح». انظر: «الضعفاء» (4/ 455)، و «الإصابة» (1/ 597)، و «الاستقامة» (1/ 194)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 669)، و «جامع العلوم والحكم» (79)، و «التخويف من النار» (33).

(1/420)


دار الغرور؛ كما في الأثر المشهور: «إذا دخلَ النورُ القلبَ انفسحَ وانشرح»، قيل: وما علامةُ ذلك؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، والإنابةُ إلى دار الخلود، والاستعدادُ للموت قبل نزوله» (1). وهذه هي الحالُ التي كانت تحصلُ للصحابة رضي الله عنهم عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكَّرهم الجنةَ والنار؛ كما في الترمذيِّ وغيره من حديث الجُريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسدي ــ وكان من كُتَّاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ــ أنه مرَّ بأبي بكرٍ رضي الله عنه وهو يبكي، فقال: ما لك يا حنظلة؟ فقال: نافقَ حنظلةُ يا أبا بكر، نكونُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكِّرنا بالجنة والنار كأنَّا رأي عَيْن، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضَّيعة نسينا كثيرًا، قال: فوالله إنَّا لكذلك، انطلِقْ بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقنا، فلمَّا رآه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافقَ حنظلةُ يا رسول الله، نكونُ عندك تذكِّرنا بالنار والجنة كأنَّا رأي عَيْن، فإذا رجعنا عافَسْنا الأزواجَ والضَّيعة ونسينا كثيرًا، قال: فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتْكم الملائكةُ في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فُرشكم، ولكنْ يا حنظلةُ ساعةً وساعة». قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ صحيح» (2). _________ (1) أخرجه وكيع (15)، وابن المبارك (315) كلاهما في «الزهد»، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 115/ب)، وغيرهم. وفي إسناده اختلاف، والصوابُ أنه مرسل، ولا يثبتُ رفعه. انظر: «علل الدارقطني» (5/ 189)، و «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/ 773). وراجع التعليق على «الوابل الصيب» (144). (2) «جامع الترمذي» (2514). وهو في «صحيح مسلم» (2750).

(1/421)


وفي الترمذي أيضًا نحوه من حديث أبي هريرة (1). والمقصودُ أنَّ الذي يهجُم بالقلب على حقيقة الإيمان، ويليِّنُ له ما يستوعرُه غيرُه، ويُؤنِسُه بما يستوحشُ منه سواه: العلمُ التام، والحبُّ الخالص. والحبُّ تبعٌ للعلم، يقوى بقوَّته، ويضعفُ بضعفه، والمحبُّ لا يستوعرُ طريقًا توصلُه إلى محبوبه، ولا يستوحشُ فيها. * وقولُه: «صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالملأ الأعلى»، وفي رواية: «بالمحلِّ الأعلى»؛ الروحُ في هذا الجسد بدارِ غُربة، ولها وطنٌ غيره فلا تستقرُّ إلا في وطنها، وهي جوهرٌ عُلْوِيٌّ مخلوقٌ من مادةٍ عُلْوِيَّة، وقد اضطرَّت إلى مساكنة هذا البدن الكثيف، فهي دائمًا تطلبُ وطنها في المحلِّ الأعلى، وتحنُّ إليه حنينَ الطير إلى أوكارها. وكلُّ روحٍ ففيها ذلك، ولكن لفرط اشتغالها بالبدن وبالمحسوسات المألوفة أخلدت إلى الأرض، ونسيت محلَّها (2) ووطنها الذي لا راحة لها في غيره؛ فإنه لا راحة للمؤمن دون لقاء ربِّه، والدنيا سجنُه حقًّا، فلهذا تجدُ المؤمنَ بدنُه في الدنيا وروحُه في المحلِّ الأعلى. وفي الحديث المرفوع: «إذا نام العبدُ وهو ساجدٌ باهى اللهُ به الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبدي، بدنُه في الأرض وروحُه عندي» رواه تمَّامٌ (3) _________ (1) (2526)، وقال: «هذا حديثٌ ليس إسناده بذاك القوي وليس هو عندي بمتصل». (2) (ت، ق، ن، ح): «معلمها». تحريف. والمثبت من (د)، وهو الصواب. انظر ما سيأتي (ص: ... ). ويحتمل أن تكون: معهدها. انظر: «مدارج السالكين» (1/ 498). (3) في «الفوائد» (343 - الروض)، والبيهقي في «الخلافيات» (2/ 143) من حديث أنسٍ بإسنادٍ ضعيف جدًّا. ورُوِي من حديث الحسن، عن أبي هريرة. أخرجه ابن شاهين في «الناسخ والمنسوخ» (199). والحسنُ لم يسمع من أبي هريرة. وبذا أعلَّه الدارقطنيُّ في «العلل» (8/ 249). ورُوِي عن الحسن قال: «أُنبئتُ أنَّ العبد إذا نام ... ». أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1213). وهو أشبه. ورُوِي عن الحسن قوله. أخرجه أحمد في «الزهد» (280)، وابن أبي شيبة (14/ 28)، ومحمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (1/ 319). وانظر: «المجموع» (2/ 14)، و «التلخيص الحبير» (1/ 120).

(1/422)


وغيره. وهذا معنى قول بعض السلف: «القلوبُ جَوَّالة؛ فقلبٌ حول الحُشِّ (1)، وقلبٌ يطوفُ مع الملائكة حول العرش» (2). فأعظمُ عذاب الروح انغماسُها وتدسيسُها في أعماق البدن، واشتغالُها بملاذِّه، وانقطاعُها عن ملاحظة ما خُلِقَت له وهُيِّئت له، وعن وطنها ومحلِّ أُنسِها ومنزل كرامتها، ولكنَّ سُكْرَ الشهوات يحجُبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب. فإذا صَحَت من سُكْرها، وأفاقت من غمرتها، أقبلَت عليها جيوشُ الحسرات من كلِّ جانب؛ فحينئذٍ تتقطَّعُ حسراتٍ على ما فاتها من كرامة الله وقربه والأُنس به، والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها إلا فيه، كما قيل: _________ (1) موضعُ قضاء الحاجة. «اللسان» (حشش). (2) أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية» (103) عن أحمد بن خضرويه البلخي (ت: 240). وهو في ترجمته من «السير» (11/ 488).

(1/423)


صَحِبتُك إذْ عيني عليها غشاوةٌ ... فلمَّا انجلت قَطَّعْتُ نفسي ألومُها (1) ولو تنقَّلت الروحُ في المواطن كلِّها والمنازل، لم تستقرَّ ولم تطمئنَّ إلا في وطنها ومحلِّها الذي خُلِقَت له، كما قيل: نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى ... وحنينُه أبدًا لأوَّل منزلِ (2) وإذا كانت الروحُ تَحِنُّ أبدًا إلى وطنها من الأرض مع قيام غيره مقامه في السُّكنى، وكثيرًا ما يكونُ غيرُ وطنها أحسنَ وأطيب منه، وهي إنما (3) تَحِنُّ إليه، مع أنه لا ضرر عليها ولا عذابَ في مفارقته إلى مثله، فكيف بحنينها إلى الوطن الذي في فراقها له عذابها وألمُها وحسرتُها التي لا تنقضي؟! فالعبدُ المؤمنُ في هذه الدار سُبِيَ من الجنة إلى دار التعب والعناء، ثمَّ ضُرِبَ عليه الرِّقُّ فيها، فكيف يلامُ على حنينه إلى داره التي سُبِيَ منها، وفُرِّق بينه وبين من يُحِب، وجُمِعَ بينه وبين عدوِّه؟! فروحُه دائمًا معلَّقةٌ بذلك الوطن، وبدنُه في الدنيا. ولي من أبياتٍ في ذلك (4): _________ (1) البيت للحارث بن خالد المخزومي، يخاطبُ عبد الملك بن مروان، في «الكامل» (1051). وفي مجموع شعره (101) مزيدُ تخريج. (2) البيتان لأبي تمام، في ديوانه (4/ 253). (3) (ن، ح): «وهي دائما». (4) من ميميَّةٍ طويلة، في «طريق الهجرتين» (108)، و «حادي الأرواح» (14).

(1/424)


فحَيَّ على جنَّاتِ عَدْنٍ فإنها ... منازلُك الأولى وفيها المُخَيَّمُ ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهل تُرى ... نَعُودُ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ وكلَّما أراد منه العدوُّ نسيانَ وطنه، وضَرْبَ الذِّكر عنه صفحًا، وإيلافَه وطنًا غيره، أبت ذلك روحُه وقلبُه، كما قيل: يرادُ من القلب نسيانُكم ... وتأبى الطِّباعُ على الناقلِ (1) ولهذا كان المؤمنُ غريبًا في هذه الدار، أين حلَّ منها فهو في دار غُربة، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل» (2)، ولكنها غُربةٌ تنقضي ويصيرُ إلى وطنه ومنزله، وأما الغُربةُ التي لا يُرجى انقطاعُها فهي غُربةٌ في دار الهوان، ومفارقةُ وطنه الذي كان قد هيِّاء له وأُعِدَّ له وأُمِرَ بالتجهُّز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا اغترابَه عنه ومفارقتَه له، فتلك غربةٌ لا يُرجى إيابُها ولا يُجْبَرُ مصابُها. ولا تبادِر إلى إنكار كون البدن في الدنيا والروح في الملإ الأعلى؛ فللرُّوح شأنٌ وللبدن شأن، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان بين أظهُر أصحابه وهو عند ربِّه يطعمُه ويسقيه (3)، فبدنُه بينهم وروحُه وقلبه عند ربِّه. وقال أبو الدرداء: «إذا نام العبدُ عُرِجَ بروحه إلى تحت العرش، فإن كان _________ (1) البيت للمتنبي، في ديوانه (259). والرواية الصحيحة: ويأبى، بالياء. انظر كلام ابن القطاع بحاشية الديوان (تحقيق عبد الوهاب عزام). (2) أخرجه البخاري (6416) من حديث ابن عمر. (3) انظر ما مضى (ص: 97).

(1/425)


طاهرًا أُذِنَ لها بالسجود وإن لم يكن طاهرًا لم يؤذن لها بالسجود» (1). فهذه ــ والله أعلم ــ هي العلةُ التي أُمِرَ الجنبُ لأجلها أن يتوضَّأ إذا أراد النوم (2). وهذا الصُّعودُ إنما كان لتجرُّد الروح عن البدن بالنوم، فإذا تجرَّدت بسببٍ آخر حصل لها من الترقِّي والصُّعود بحسب ذلك التجرُّد. وقد يقوى الحبُّ بالمحبِّ حتى لا يُشاهَد منه بين الناس إلا جسمُه، وروحُه في موضعٍ آخر عند محبوبه، وفي هذا من أشعار الناس وحكاياتهم _________ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1245) ــ ومن طريقه ابن قتيبة في «غريب الحديث» (1/ 11)، و «تعبير الرؤيا» (27) ــ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 274/أ) بإسنادٍ ضعيف. (2) الأثر في المصادر السابقة بلفظ: « ... وإن كان جُنبًا لم يؤذن لها بالسجود»، والوضوءُ لا ينفي عن الجُنب اسمَ الجنابة، ولذا كان ابنُ قتيبة أسعدَ بهذا الأثر من المصنف، إذ قال: «لا أرى الطهارةَ التي نختار للنائم أن يبيت عليها إلا الاغتسال من الجنابة»، ثم استدلَّ بالأثر، ثم قال: «فجعَلَ طهارةَ النائم في نومه أن يكون على غير جنابة. وأكثرُ الناس على أنه التوضؤ للصلاة. والنومُ ناقضٌ للوضوء وليس بناقضٍ للغسل». وهذا الاختيار من ابن قتيبة على سبيل الأفضليَّة، وقد صرَّح في «تأويل مختلف الحديث» (306) بعدم وجوب الغسل. والغرض هنا الإشارةُ إلى مجانبة الأثر بهذا اللفظ لما استنبطه المصنفُ منه. وقد ورد باللفظ الذي ذكره المصنفُ أثرٌ آخر عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان ممَّن يأخذُ عن أهل الكتاب. أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 292)، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 274/أ)، والبيهقي في «الشعب» (6/ 75، 9/ 13) بإسنادين يقوِّي أحدُهما الآخر.

(1/426)


ما هو معروف (1). * وقولُه: «أولئك خلفاءُ الله في أرضه ودعاتُه إلى دينه»؛ هذا حجَّةُ أحد القولين في أنه يجوزُ أن يقال: «فلانٌ خليفةُ الله في أرضه» (2). واحتجَّ أصحابُه أيضًا بقوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وهذا خطابٌ لنوع الإنسان. وبقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]. وبقول موسى لقومه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله ممكِّنٌ لكم في الأرض ومستخلفُكم فيها، فناظرٌ كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» (3). واحتجُّوا بقول الراعي يخاطبُ أبا بكر الصدِّيق (4) رضي الله عنه: _________ (1) انظر: «زهر الآداب» (1/ 328)، و «التدوين» للرافعي (4/ 78). (2) انظر: «نقض التأسيس» (6/ 589 ــ 611)، و «معجم المناهي اللفظية» (252). (3) أخرجه بنحوه مسلم (2742) من حديث أبي سعيد الخدري. (4) «الصديق» ليست في (د). وهذا وهمٌ غريب. فالبيتان من لاميَّةٍ طويلة للراعي النميري (ت: 92) يمدحُ فيها عبد الملك بن مروان، ويشكو من السُّعاة (الذين يأخذون الزكاة مِنْ قِبَل السُّلطان)، وهي من مشهور شعره وجيِّده، وكان يعتزُّ بها، وقد حَفِظَتها مجاميعُ الشِّعر بتمامها. انظر: «منتهى الطلب» (6/ 5)، و «أمالي المرزوقي» (470)، وديوانه المجموع (58). والراعي يَصْغُر عن إدراك زمن أبي بكرٍ شاعرًا، وإنما هو من شعراء دولة بني أمية. ولعلَّ ذِكر الزكاة في الأبيات هو سبب الوهم؛ لمنع المرتدِّين لها على عهد الصدِّيق رضي الله عنه.

(1/427)


أخليفةَ الرحمنِ إنَّا معشرٌ ... حنفاءُ نسجدُ بُكْرَةً وأصيلا عربٌ نرى لله في أموالنا ... حقَّ الزكاة منزَّلًا تنزيلا ومنعت طائفةٌ هذا الإطلاق، وقالت: لا يقالُ لأحد: إنه خليفة الله؛ فإنَّ الخليفةَ إنما يكونُ عمن يغيبُ ويَخْلُفه غيرُه، واللهُ تعالى شاهدٌ غير غائب، قريبٌ غير بعيد، راءٍ وسامع، فمحالٌ أن يَخْلُفَه غيرُه، بل هو سبحانه الذي يَخْلُفُ عبدَه المؤمنَ فيكون خليفتَه؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث الدجال: «إنْ يَخْرُج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم، وإن يَخْرُج ولستُ فيكم فامرؤٌ حَجِيجُ نفسه، واللهُ خليفتي على كلِّ مؤمن»، والحديث في «الصحيح» (1). وفي «صحيح مسلم» (2) أيضًا من حديث عبد الله بن عمر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ إذا سافر: «اللهم أنت الصاحبُ في السَّفر، والخليفةُ في الأهل ... » الحديث. وفي «الصحيح» (3) أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع _________ (1) «صحيح مسلم» (2937) من حديث النواس بن سمعان. (2) (1342). (3) (ت، د، ق): «وفي الحديث». وهو في «صحيح مسلم» (920).

(1/428)


درجتَه في المهديِّين، واخلُفْهُ في أهله». فالله تعالى هو خليفةُ العبد؛ لأنَّ العبدَ يموتُ فيحتاجُ إلى من يَخْلُفه في أهله. قالوا: ولهذا أنكر الصدِّيقُ رضي الله عنه على من قال له: «يا خليفةَ الله»، قال: «لستُ بخليفة الله، ولكن خليفةُ رسول الله، وحسبي ذلك» (1). قالوا: وأمَّا قولُه تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فلا خلافَ أنَّ المرادَ به آدمُ وذريته. وجمهورُ أهل التفسير من السَّلف والخلف على أنه جعله خليفةً عمن كان قبله (2) في الأرض. قيل: عن الجنِّ الذين كانوا سُكَّانها. وقيل: عن الملائكة الذين سكنوها بعد الجنِّ، وقصَّتهم مذكورةٌ في التفاسير (3). وأمَّا قولُه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، فليس المرادُ به خلائفَ عن الله، وإنما المرادُ به أنه جعلكم يَخْلُفُ بعضُكم بعضًا، فكلَّما هلك قرنٌ خَلَفه قرنٌ إلى آخر الدهر. _________ (1) أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 10)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (14/ 568)، والخلال في «السنة» (1/ 274)، وغيرهم بإسنادٍ منقطع. وقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم ينادونه: «يا خليفة رسول الله»، عقد الحاكمُ للروايات في ذلك فصلًا في «المستدرك» (3/ 79)، وصحَّح بعضها ولم يتعقَّبه الذهبي. (2) (ت): «فمن كان قبله». (ن): «ممن كان قبله». (د، ق): «خليفته ممن كان قبله». والمثبت أشبه. (3) انظر: «تفسير الطبري» (1/ 450)، و «الدر المنثور» (1/ 44).

(1/429)


ثمَّ قيل: إنَّ هذا خطابٌ لأمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّة؛ أي: جعلكم خلائفَ من الأمم الماضية، فهلكوا وورثتم أنتم الأرضَ من بعدهم. ولا ريب أنَّ هذا الخطابَ للأمَّة، والمرادُ نوعُ الإنسان الذي جعلَ اللهُ أباهم خليفةً عمَّن قبله، وجعل ذريته يَخْلُفُ بعضُهم بعضًا إلى قيام الساعة، ولهذا جَعَل هذا آيةً من آياته، كقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]. وأما قول موسى لقومه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]، فليس ذلك استخلافًا عنه، وإنما هو استخلافٌ عن فرعون وقومه؛ أهلكهم وجعل قومَ موسى خلفاء من بعدهم. وكذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ مستخلفُكم في الأرض»، أي: من الأمم التي تهلكُ وتكونون أنتم خلفاءَ من بعدهم. قالوا: وأمَّا قولُ الراعي؛ فقولُ شاعرٍ قال قصيدةً في غيبة الصدِّيق لا يُدرى أبلغت أبا بكرٍ أم لا؟ ولو بلغته فلا يُعْلَمُ أنه أقرَّه على هذه اللفظة (1). قلت: إن أريد بالإضافة إلى الله أنه خليفةٌ عنه، فالصوابُ قولُ الطائفة المانعة منها. وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممَّن كان قبله، فهذا لا يمتنعُ فيه الإضافة، وحقيقتُها: خليفةُ الله الذي جعله اللهُ خَلَفًا عن غيره. وبهذا يخرَّجُ الجوابُ عن قول أمير المؤمنين: «أولئك خلفاءُ الله في أرضه». _________ (1) راجع ما قدَّمناه قريبًا في شأن أبيات الراعي.

(1/430)


فإن قيل: هذا لا مدحَ فيه؛ لأنَّ هذا الاستخلافَ عامٌّ في الأمَّة، وخلافةُ الله التي ذكرها أميرُ المؤمنين خاصَّةٌ بخواصِّ الخَلْق. فالجواب: أنَّ الاختصاصَ المذكور أفاد اختصاصَ الإضافة، فالإضافةُ هنا للتشريف والتخصيص، كما يضافُ إليه (1) عبادُه، كقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، ونظائرها. ومعلومٌ أنَّ كلَّ الخلق عبادٌ له، فخلفاءُ الأرض كالعباد في قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، وخلفاءُ الله كعباد الله في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ونظائره. وحقيقةُ اللفظة: أنَّ الخليفةَ هو الذي يَخْلُفُ الذاهب، أي: يجيء بعده؛ يقال: خَلَفَ فلانٌ فلانًا. وأصلُها: «خليفٌ» بغير هاء؛ لأنها فَعِيلٌ بمعنى فاعل، كالعليم والقدير، فدخلت التاءُ للمبالغة في الوصف، كراوية وعلَّامة؛ ولهذا جُمِعَ جمعَ فَعِيل، فقيل: خُلفاء، كشُرفاء وظُرفاء وكُرماء (2). ومن راعى لفظَه بعد دخول التاء عليه جمَعه على فعائل، فقال: خلائف، كعَقِيلة وعقائل، وطَرِيفة وطرائف (3). وكلاهما ورد به القرآن. _________ (1) (ت): «يضاف لله». (2) (ت، ق، د): «كشريف وشرفاء وكرماء». (3) (ت): «وطريقة وطرائق». (ح، ن): «وظريفة وظرائف».

(1/431)


هذا قولُ جماعةٍ من النحاة (1). والصوابُ أنَّ التاء إنما دخلت فيها للعَدْل عن الوصف إلى الاسم؛ فإنَّ الكلمةَ صفةٌ في الأصل، ثمَّ أُجرِيَت مجرى الأسماء، فأُلحِقَت التاءُ لذلك، كما قالوا: «نَطِيحة» بالتاء، فإذا أجروها صفةً قالوا: «شاةٌ نَطِيح» كما يقولون: «كفٌّ خَضِيب»، وإلا فلا معنى للمبالغة في «خليفة» حتى تلحقها تاءُ المبالغة، والله أعلم. * وقولُه: «ودعاتُه إلى دينه»؛ الدعاة: جمعُ داعٍ، كقاضٍ وقضاة، ورامٍ ورماة، وإضافتُهم إلى الله للاختصاص، أي الدعاةُ المخصوصون به الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبَّته، وهؤلاء هم خواصُّ خلق الله وأفضلُهم عند الله منزلةً وأعلاهم قدرًا. يدلُّ على ذلك الوجه الثلاثون بعد المئة: وهو قولُه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. قال الحسن: «هو المؤمنُ؛ أجاب اللهَ في دعوته، ودعا الناسَ إلى ما أجابَ اللهَ فيه من دعوته، وعملَ صالحًا في إجابته؛ فهذا حبيبُ الله، هذا وليُّ الله» (2). فمقامُ الدعوة إلى الله أفضلُ مقامات العبد، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]. _________ (1) انظر: «التبيان» للعكبري (1/ 47)، و «النهاية» (خلف). (2) أخرجه الطبري (21/ 468).

(1/432)


وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، جَعَل سبحانه مراتبَ الدعوة بحسب مراتب الخلق: * فالمستجيبُ القابلُ الزَّكِيُّ (1) الذي لا يعاندُ الحقَّ ولا يأباه، يُدْعى بطريق الحكمة. * والقابلُ الذي عنده نوعُ غفلةٍ وتأخُّر، يُدْعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمرُ والنهيُ المقرونُ بالرغبة والرهبة. * والمعاندُ الجاحدُ، يجادَلُ بالتي هي أحسن. هذا هو الصحيحُ في معنى هذه الآية، لا ما يزعمُ أسيرُ منطق اليونان أنَّ الحكمةَ قياسُ البرهان وهو دعوةُ الخواصِّ، والموعظةَ الحسنةَ قياسُ الخطابة وهو دعوةُ العوامِّ، والمجادلةَ بالتي هي أحسنُ القياسُ الجَدَلي وهو ردُّ شَغَب المشاغِب بقياسٍ جدليٍّ مسلَّم المقدِّمات! وهذا باطل، وهو مبنيٌّ على أصول الفلسفة، وهو منافٍ لأصول المسلمين وقواعد الدِّين من وجوهٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع ذكرها (2). وقال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. قال الفرَّاء (3) وجماعة: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} معطوفٌ على الضمير _________ (1) كذا في الأصول، عدا (ت) فهي ساقطة منها. وزكاء نفسه هو الذي جعله لا يعاند الحق. ولعلها بالذال، لمقابلة الذي عنده نوع غفلةٍ وتأخر. (2) انظر ما سيأتي (ص: 491). (3) في «معاني القرآن» (2/ 55).

(1/433)


في {أَدْعُو}، يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وهذا قولُ الكلبي (1)، قال: حقٌّ على كلِّ من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكِّر بالقرآن والموعظة (2). ويَقْوَى هذا القولُ من وجوهٍ كثيرة. قال ابن الأنباري: ويجوزُ أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، ثمَّ يبتداء: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3). فيكونُ الكلامُ على قوله جملتين، أخبَر في أولاهما أنه يدعو إلى الله، وفي الثانية بأنه وأتباعَه على بصيرة. والقولان متلازمان؛ فلا يكونُ الرجلُ من أتباعه حقًّا حتى يدعو إلى ما دعا إليه. وقولُ الفرَّاء أحسنُ وأقربُ إلى الفصاحة والبلاغة (4). وإذا كانت الدعوةُ إلى الله أشرفَ مقامات العبد وأجلَّها وأفضلَها، فهي لا تحصلُ إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدٍّ يصلُ إليه السَّعي (5). ويكفي هذا في شرف العلم، أنَّ صاحبه يحوزُ به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء. _________ (1) محمد بن السائب بن بشر، أبو النضر، الإخباريُّ النَّسابة المفسِّر (ت: 146). انظر: «السير» (6/ 248). (2) انظر: «الكشف والبيان» (5/ 263)، و «البسيط» (12/ 263). وأخرجه الطبري (16/ 292) عن ابن زيد. (3) انظر: «زاد المسير» (4/ 295). (4) راجع ما مضى (ص: 216). (5) كذا في الأصول. أي: إلى آخر حدٍّ يصلُ إليه السعي.

(1/434)


الوجه الحادي والثلاثون بعد المئة: أنه لو لم يكن من فوائد العلم إلا أنه يُثْمِرُ اليقينَ الذي هو أعظمُ حياة القلب، وبه طمأنينتُه وقوَّتُه ونشاطُه وسائرُ لوازم الحياة لكفاه شرفًا وفضلًا (1). ولهذا مدح الله سبحانه أهلَه في كتابه، وأثنى عليهم بقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] (2)، وقوله في حقِّ خليله إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، وذَمَّ من لا يقين عنده، فقال: {إنَّ (3) النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82]. وفي الحديث المرفوع من حديث سفيان الثوري، عن سليمان التيمي (4)، عن خيثمة، عن عبد الله بن مسعود يرفعُه: «لا تُرضِينَّ أحدًا بسخط الله، ولا تَحْمَدَنَّ أحدًا على فضله، ولا تَذُمَّنَّ أحدًا على ما لم يُؤْتِك الله؛ فإنَّ رزقَ الله لا يسوقُه [إليك] حرصُ حريص، ولا يردُّه عنك كراهيةُ كارِه، وإنَّ الله بعدله وقسطه جعل الرَّوْحَ والراحةَ والفرحَ في الرضا واليقين، _________ (1) الجوابُ مستدركٌ في طرة (د)، وليس في باقي الأصول. (2) في الأصول: (كذلك نفصل الآيات لقوم يوقنون) وهو وهم؛ فليس ثم آيةٌ كذلك، وأنا متأثمٌ من إثباتها في المتن. وفي القرآن: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]. ويصلح للاستشهاد لما أراده المصنف ما أثبتُّه. (3) كذا قرأ أبو عمرو، وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده. (4) كذا في الأصول و «الرسالة القشيرية»، وهي مصدر المصنف. وهو سليمان الأعمش، كما في المصادر التالية.

(1/435)


وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخط» (1). فإذا باشرَ القلبَ اليقينُ امتلأ نورًا، وانتفى عنه كلُّ ريبٍ وشك، وعُوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا ومحبَّةً وخوفًا، فحَيِيَ عن بيِّنة. واليقينُ والمحبةُ هما ركنا الإيمان، وعليهما ينبني، وبهما قِوامُه، وهما يُمِدَّان سائرَ الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تَصْدُر، وبضعفهما يكونُ ضعفُ الأعمال، وبقوَّتهما قوتها. وجميعُ منازل السائرين ومقامات العارفين إنما تصحُّ بهما (2)، وهما يُثْمِران كلَّ عملٍ صالحٍ وعلمٍ نافعٍ وهدًى مستقيم. قال شيخُ العارفين الجُنيد (3): «اليقينُ هو استقرارُ العلم الذي لا ينقلبُ ولا يتحوَّلُ ولا يتغيَّرُ في القلب» (4). _________ (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/ 215)، والقشيري في «الرسالة» (318)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 121، 7/ 130)، والبيهقي في «الأربعين الصغرى» (51)، وغيرهم، بإسنادٍ شديد الضعف. ورُوِي من وجهٍ آخر أحسن منه، إلا أنَّ فيه انقطاعًا. أخرجه البيهقي في «الشعب» (1/ 527)، و «الأربعين» (50). ورُوِي موقوفًا على ابن مسعود، وهو أشبه، وإليه مال البيهقي، وإن كان في إسناده انقطاع. أخرجه ابن أبي الدنيا في «اليقين» (32)، ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (1/ 528)، و «الأربعين» (52). (2) (ت، ق): «تفتح بهما». ولم تحرر في (د). (3) الجُنَيد بن محمد البغدادي، شيخ الصُّوفية، صاحبُ علمٍ وتعبُّد (ت: 297). انظر: «طبقات الصوفية» (155)، و «السير» (14/ 66). (4) «الرسالة القشيرية» (320).

(1/436)


وقال سهل (1): «حرامٌ على قلبٍ أن يشمَّ رائحة اليقين وفيه سكونٌ إلى غير الله» (2). وقيل: «من علاماته: الالتفاتُ إلى الله في كلِّ نازلة، والرجوعُ إليه في كلِّ أمر، والاستعانةُ به في كلِّ حال، وإرادةُ وجهه بكلِّ حركةٍ وسكون» (3). وقال السَّرِي (4): «اليقينُ: سكونُك (5) عند جَوَلان الموارد (6) في صدرك؛ لتيقُّنك (7) أنَّ حركتك فيها لا تنفعُك ولا تردُّ عنك مقضيًّا» (8). قلت: هذا إذا لم تكن الحركةُ مأمورًا بها، فأمَّا إذا كانت مأمورًا بها فاليقينُ في بذل الجهد فيها واستفراغ الوسع. وقيل: «إذا استكمل العبدُ حقيقةَ اليقين صار البلاءُ عنده نعمة، والمحنةُ مِنْحة» (9). _________ (1) سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي، أبو محمد، الزاهد، له كلماتٌ نافعة (ت: 283). انظر: «طبقات الصوفية» (206)، و «السير» (13/ 330). (2) «الرسالة القشيرية» (319). (3) «الرسالة القشيرية» (320). (4) السَّرِيُّ بن المغلِّس السَّقَطي، أبو الحسن، الإمام القُدوة (ت: 253). انظر: «طبقات الصوفية» (48)، و «السير» (12/ 185). (5) (ت، ح، د، ق): «السكون». والمثبت من (ن) و «الرسالة». (6) (ق): «المواد». (7) (ح): «ليقينك». «الرسالة»: «لتبينك». (8) «الرسالة القشيرية» (321). (9) أخرجه القشيري في «الرسالة» (322) عن النهرجوري. وفيه: «والرخاء مصيبة» بدل: «والمحنة منحة».

(1/437)


فالعلمُ أولُ درجات اليقين؛ ولهذا قيل: «العلمُ يستعملُك، واليقينُ يَحْمِلُك» (1). فاليقينُ أفضلُ مواهب الربِّ لعبده، ولا تثبتُ قدمُ الرضا إلا على درجة اليقين. قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. قال ابنُ مسعود: «هو العبدُ تصيبُه المصيبة، فيعلمُ أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم» (2). فلهذا لم تحصل له هدايةُ القلب والرضا والتسليمُ إلا بيقينه. قال في «الصحاح» (3): «اليقينُ: العلمُ وزوالُ الشك، يقال منه: يَقِنْتُ الأمرَ ــ بالكسر ــ يَقَنًا، واستيقنتُ وأيقنتُ وتيقَّنت، كلُّه بمعنًى واحد. وأنا على يقينٍ منه. وإنما صارت الياءُ واوًا في «مُوقِن» للضمَّة قبلها، وإذا صغَّرتَه رددته إلى الأصل، فقلتَ: مُيَيْقِن. وربَّما عبَّروا عن الظنِّ باليقين، وعن اليقين بالظن (4). _________ (1) قاله أبو سعيد الخراز. أخرجه القشيري في «الرسالة» (322)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 455)، والخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (36). (2) علَّقه البخاري في «الصحيح» (6/ 193). ووصله سعيد بن منصور، كما في «الدر المنثور». (6/ 227). وهو مشهورٌ عن علقمة. انظر: «الفتح» (8/ 520)، و «تغليق التعليق» (4/ 342). (3) (6/ 2219) (يقن). (4) (د): «وبالظن عن اليقين»، وصحِّحت في الطرَّة إلى: «وباليقين عن الظن».

(1/438)


قال (1): تَحَسَّبَ هوَّاسٌ وأيقَنَ أنني ... بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا أُغامِرُه يقول: تَشَمَّمَ الأسدُ ناقتي، يظنُّ أنني أفتدي بها منه، وأستحيي نفسي فأتركها له، ولا أَقْتَحِمُ المهالكَ بمقاتلته (2)». قلت: هذا موضعٌ اختلف فيه أهلُ اللغة والتفسير؛ هل يستعملُ اليقينُ في موضع الظنِّ، والظنُّ في موضع اليقين؟ (3). فرأى ذلك طائفة، منهم الجوهريُّ وغيره، واحتجُّوا سوى ما ذُكِر بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]، ولو شكُّوا في ذلك لم يكونوا مؤمنين (4)، فضلًا عن أن يُمْدَحوا بهذا المدح، وبقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وبقوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]، وبقول الشاعر (5): _________ (1) أبو سِدْرة الأسدي، ويقال: الهُجَيْمي. انظر: «النوادر» لأبي زيد (189)، و «اللآلي» (1/ 539)، و «الخزانة» (2/ 119). (2) (ق، د، ت): «لمقاتلته». (3) انظر: «الأضداد» لابن الأنباري (12)، و «تفسير الطبري» (2/ 17)، و «الخزانة» (9/ 314، 11/ 282). (4) (ق): «موقنين». (5) هو دريدُ بن الصِّمَّة، من حماسيَّةٍ أصمعية. انظر: «الحماسة» بشرح المرزوقي (812)، و «الأصمعيات» (28)، وديوانه (47). والمدجَّج: الكاملُ السلاح. وسَراتهم: أشرافُهم ورؤساؤهم. والفارسيُّ المسرَّد: الدِّرعُ الفارسيُّ المحكم النَّسج.

(1/439)


فقلتُ لهم: ظُنُّوا بألفَيْ مقاتلٍ ... سَراتُهمُ في الفارسيِّ المُسَرَّد أي: استيقِنوا بهذا العدد. وأبى ذلك طائفة، وقالوا: لا يكونُ اليقينُ إلا للعلم. وأمَّا الظن، فمنهم من وافق على أنه يكونُ بمعنى العلم. ومنهم من قال: لا يكون (1) الظنُّ في موضع اليقين. وأجابوا عمَّا احتجَّ به من جوَّز ذلك بأن قالوا: هذه المواضعُ التي زعمتم أنَّ الظنَّ وقع فيها موقعَ اليقين كلُّها على بابها؛ فإنَّا لم نجد ذلك إلا في علمٍ بمُغيَّب، ولم نجدهم يقولون لمن رأى الشيء: «أظنُّه»، ولمن ذاقه: «أظنُّه»، وإنما يقالُ لغائبٍ قد عُرِفَ بالسَّمع والعقل (2)، فإذا صار إلى المشاهدة امتنع إطلاقُ الظنِّ عليه. قالوا: وبين العِيان والخبر مرتبةٌ متوسِّطةٌ باعتبارها أُوقِعَ على العلم بالغائب الظنُّ؛ لفقد الحال التي تحصل لِمُدْرِكه بالمشاهدة. وعلى هذا أُخرِجَت (3) سائرُ الأدلَّة التي ذكرتموها. ولا يَرِدُ على هذا قولُه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} لأن الظنَّ إنما وقع على مُواقَعَتها (4)، وهي غيبٌ حال الرؤية، فإذا واقعوها لم يكن ذلك ظنًّا، بل حقُّ يقين. _________ (1) من قوله: «بمعنى العلم» إلى هنا، ساقط من (ح، ن). (2) في الأصول: «بالسمع والعلم». تحريف. انظر: «الصواعق» (870). (3) (ت، د): «خرجت». (4) (ت، ن): «مواقعها». (ق): «مواقعوها».

(1/440)


قالوا: وأما قولُ الشاعر: «وأيقنَ أنني بها مُفْتَدٍ» فعلى بابه؛ لأنه ظنَّ أنَّ الأسدَ لتيقُّنه شجاعتَه وجراءتَه موقنٌ بأنَّ الرجلَ يدعُ له ناقتَه يفتدي بها من نفسه. قالوا: وعلى هذا يخرَّجُ معنى الحديث: «نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم» (1)، وفيه أجوبة (2)، لكنَّ بين العِيان والخبر رتبةً طلب إبراهيمُ زوالها بقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فعبَّر عن تلك الرتبة بالشكِّ، والله أعلم (3). الوجه الثاني والثلاثون بعد المئة: ما رواه أبو يعلى الموصلي في «مسنده» (4) من حديث أنس بن مالكٍ يرفعُه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «طلبُ العلم _________ (1) أخرجه البخاري (3372)، ومسلم (151) عن أبي هريرة. (2) (ت): «وعنه أجوبة». وانظر: «فتح الباري» (6/ 474). (3) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 471). (4) (2837)، وابن ماجه (224)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ حفص بن سليمان متروك، وقد أنكروا عليه حديثه هذا. وللحديث طرقٌ أخرى معلولةٌ من حديث أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر، رضي الله عنهم. وقد حكم بردِّ الحديث من جهة الإسناد جماعةٌ من أئمَّة النقد: أحمد - كما في «المنتخب من العلل للخلال» (128) -، وإسحاق بن راهويه - كما في «مسائل الكوسج» (3311) -، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 58، 238)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 23)، وابن عبد الهادي في «جزء في الأحاديث الضعيفة ... » (31). وهو الحق. وانظر: «مسند البزار» (94). وقوَّاه بعض المتأخرين. انظر: «اللالاء المنثورة» للزركشي (43)، و «المقاصد الحسنة» (660)، وللسيوطي فيه جزءٌ مفرد.

(1/441)


فريضةٌ على كلِّ مسلم». وهذا وإن كان في سنده حفصُ بن سليمان، وقد ضُعِّف، فمعناه صحيح؛ فإنَّ الإيمان فرضٌ على كلِّ واحد، وهو ماهيَّةٌ مركَّبةٌ من علمٍ وعمل، فلا يتصوَّرُ وجودُ الإيمان إلا بالعلم والعمل. ثمَّ شرائعُ الإسلام واجبةٌ على كلِّ مسلم، ولا يمكنُ أداؤها إلا بعد معرفتها والعلم بها، واللهُ تعالى أخرجَ عبادَه من بطون أمَّهاتهم لا يعلمون شيئًا، فطلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم. وهل تمكنُ عبادةُ الله التي هي حقُّه على العباد كلِّهم إلا بالعلم؟! وهل يُنالُ العلمُ إلا بطلبه؟! ثمَّ إنَّ العلمَ المفروضَ تعلُّمه ضربان: * ضربٌ منه فرضُ عينٍ لا يسعُ مسلمًا جهلُه. وهو أنواع: النوع الأول: علمُ أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ فإنَّ من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحقُّ اسمَ المؤمن؛ قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]. ولمَّا سأل جبريلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر»، قال: صَدَقْت (1). _________ (1) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة. ومسلم (8) من حديث عمر.

(1/442)


فالإيمانُ بهذه الأصول فرعُ معرفتها والعلم بها. النوعُ الثاني: علمُ شرائع الإسلام، واللازمُ منها (1) علمُ ما يخصُّ العبدَ من فِعلها؛ كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحجِّ والزكاة، وتوابعها وشروطها ومبطلاتها. النوعُ الثالث: علمُ المحرَّمات الخمس؛ التي اتفقت عليها الرسلُ والشرائعُ والكتبُ الإلهيَّة؛ وهي المذكورةُ في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فهذه محرَّماتٌ على كلِّ أحد، في كلِّ حال، على لسان كلِّ رسول، لا تُباح قطُّ؛ ولهذا أتى فيها بـ {إِنَّمَا} المفيدة للحصر مطلقًا، وغيرُها محرَّمٌ في وقتٍ مباحٌ في غيره، كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه، فهذه ليست محرَّمةً على الإطلاق والدوام، فلم تدخل تحت التحريم المحصور المطلق. النوعُ الرابع: علمُ أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصلُ بينه وبين الناس خصوصًا وعمومًا، والواجبُ في هذا النوع يختلفُ باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجبُ على الإمام مع رعيَّته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته، وليس الواجبُ على من نَصَبَ نفسَه لأنواع التجارات من تعلُّم أحكام البِيَاعات كالواجب على من لا يبيعُ ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجةُ إليه (2). _________ (1) (ت): «وما يلزم منها». (2) (ن، ح): «تدعو حاجته إليه».

(1/443)


وتفصيلُ هذه الجملة لا ينضبط بحدٍّ؛ لاختلاف الناس في أسباب العلم الواجب. وذلك يرجعُ إلى ثلاثة أصول: اعتقاد، وفعل، وترك. * فالواجبُ في الاعتقاد: مطابقتُه للحقِّ في نفسه. * والواجبُ في العمل: معرفةُ موافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختيارية للشرع أمرًا أو إباحة. * والواجبُ في التَّرك: معرفةُ موافقة الكفِّ والسُّكون لمرضاة الله، وأنَّ المطلوبَ منه إبقاءُ هذا الفعل على عدمه المُسْتَصْحَب (1) فلا يتحركُ في طلبه، أو كفُّ النفس عن فعله، على الطريقتين (2). وقد دخل في هذه الجملة علمُ حركات القلوب والأبدان. * وأما فرضُ الكفاية فلا أعلمُ فيه ضابطًا صحيحًا؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ يُدْخِلُ في ذلك ما يظنُّه فرضًا، فيُدْخِلُ بعضُ الناس في ذلك علمَ الطبِّ وعلمَ الحساب وعلمَ الهندسة والمِساحات، وبعضُهم يزيدُ على ذلك علمَ أصول الصِّناعات، كالفِلاحة والحِياكة والحِدادة والخِياطة ونحوها (3)، وبعضُهم يزيدُ على ذلك علمَ المنطق (4)، وربَّما جعله فرضَ عين، وبناه على عدم _________ (1) (ق): «اتقاء هذا الفعل على عدمه المستعمل». (2) الأولى: أن الترك أمرٌ عدمي، والثانية: أنه وجودي. انظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 123)، و «شفاء العليل» (488)، و «الداء والدواء» (449). (3) انظر: «الإحياء» (1/ 16)، وهو مصدر المصنف هنا، و «الوسيط» (7/ 6، 7)، و «روضة الطالبين» (10/ 222، 223)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 194)، و «الطرق الحكمية» (645) [و"المجموع" (1/ 26).]. (4) انظر: «المستصفى» (1/ 45)، و «معيار العلم» (60)، و «الرد على المنطقيين» (179).

(1/444)


صحَّة إيمان المقلِّد. وكلُّ هذا هَوَسٌ وخَبْط، فلا فرضَ إلا ما فرضه (1) اللهُ ورسولُه. فيا سبحان الله! هل فرضَ اللهُ على كلِّ مسلم أن يكون طبيبًا حجَّامًا حاسبًا مهندسًا، أو حائكًا أو فلَّاحًا (2) أو نجَّارًا أو خيَّاطًا؟! فإنَّ فرضَ الكفاية كفرض العين في تعلُّقه بعموم المكلَّفين، وإنما يخالفُه في سقوطه بفعل البعض (3). ثمَّ على قول هذا القائل يكونُ اللهُ قد فرض على كلِّ أحد جملةَ هذه الصَّنائع والعلوم؛ فإنه ليس واحدٌ منها فرضًا على معيَّنٍ والآخرُ على مُعيَّنٍ آخر، بل عمومُ فرضيَّتها مشتركةٌ بين العموم، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن يكون حاسبًا حائكًا (4) خيَّاطًا نجَّارًا فلَّاحًا طبيبًا مهندسًا! فإن قال: «المجموعُ فرضٌ على المجموع» لم يكن قولك: «إنَّ كلَّ واحدٍ منها فرض كفاية» صحيحًا؛ لأنَّ فرضَ الكفاية يجبُ على العموم. وأمَّا المنطق، فلو كان علمًا صحيحًا كان غايتُه أن يكون كالمِسَاحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطلُه أضعافُ حقِّه، وفسادُه وتناقضُ أصوله واختلافُ مبانيه توجبُ مراعاتُها للذِّهن أن يزيغَ في فكره؟! _________ (1) (ت): «افترضه». (ح): «فرض». (2) (ت): «فلاحا أو حدادا». (3) على أحد القولين في تعلُّق فرض الكفاية بعموم المكلَّفين أو ببعضهم، وهو خلافٌ مشهور، وما اختاره المصنفُ هو رأيُ الجمهور. انظر: «زاد المعاد» (1/ 398)، و «الصلاة وحكم تاركها» (45)، و «المحصول» (2/ 186)، و «البحر المحيط» (1/ 243). (4) في الأصول: «أو حائكًا». ولا يستقيم المعنى بإثبات «أو» هنا.

(1/445)


ولا يؤمنُ بهذا إلا من قد عرفه وعرفَ فسادَه وتناقضه ومناقضةَ كثيرٍ منه للعقل الصريح. وأخبَر بعضُ من كان قد قرأه وعُنِيَ به (1) أنه لم يزل متعجِّبًا من فساد أصوله وقواعده، ومباينتها لصريح المعقول، وتضمُّنها لدعاوٍ محضةٍ غير مدلولٍ عليها، وتفريقه بين متساويَيْن، وجمعه بين مختلفَيْن؛ فيحكمُ على الشيء بحكمٍ وعلى نظيره بضدِّ ذلك الحكم، أو يحكمُ على الشيء بحكمٍ ثمَّ يحكمُ على مضادِّه أو مناقِضه به! قال: إلى أن سألتُ بعض رؤسائه وشيوخ أهله عن شيءٍ من ذلك، فأَفْكَرَ فيه (2)، ثمَّ قال: «هذا علمٌ قد صقلَته الأذهان، ومرَّت عليه من عهد القرون الأوائل ــ أو كما قال ــ، فينبغي أن نتسلَّمه من أهله»، وكان هذا أفضلَ من رأيتُ في المنطق. قال: إلى أن وقفتُ على ردِّ متكلِّمي الإسلام عليه وتبيين فساده وتناقضه، فوقفتُ على مصنَّفٍ لأبي سعيد السِّيرافي النحوي (3) في ذلك (4)، _________ (1) أحسب المصنف يريد نفسه. انظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 260)، و «الصواعق المرسلة» (995). (2) كذا في الأصول. فكَّر في الشيء وأَفْكَرَ فيه وتفكَّر، بمعنى. «اللسان». (3) الحسن بن عبد الله، إمامٌ في العربية، صاحبُ تصانيف، وفيه دينٌ وورع (ت: 368). انظر: «إنباه الرواة» (1/ 348)، و «السير» (16/ 247). (4) لعلَّه يقصد المناظرة التي جرت بينه وبين أبي بشر متَّى بن يونس صاحب كتب المنطق، وقد دوَّنها أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 108 - 128). وانظر: «الرد على المنطقيين» (178).

(1/446)


وعلى ردِّ كثيرٍ من أهل الكلام والعربية عليهم، كالقاضي أبي بكر بن الطيِّب (1)، والقاضي عبد الجبار (2)، والجُبَّائي (3)، وابنه (4)، وأبي المعالي (5)، وأبي القاسم الأنصاري (6)، وخلقٍ لا يُحْصَوْنَ كثرة (7). ورأيتُ [من] استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الإشكال، ومخالفتها [للعقل] (8)، ما كان ينقدحُ لي كثيرٌ منه. _________ (1) الباقلاَّني، المتكلِّم، الأصولي، انتهت إليه رياسة المالكية في وقته (ت: 403). انظر: «ترتيب المدارك» (7/ 44)، و «السير» (17/ 190). (2) عبد الجبار بن أحمد الهمداني، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف (ت: 415). انظر: «السير» (17/ 244)، و «لسان الميزان» (3/ 386). (3) أبو علي، محمد بن عبد الوهاب البصري، المعتزلي، له تصانيف (ت: 303). انظر: «طبقات المعتزلة» (80)، و «السير» (14/ 183). (4) أبو هاشم، عبد السلام بن محمد، المعتزلي، له تصانيف (ت: 321). انظر: «طبقات المعتزلة» (94)، و «السير» (15/ 63). (5) عبد الملك بن عبد الله الجويني، إمام الحرمين، الشافعي، المتكلِّم (ت: 478). انظر: «السير» (18/ 468)، و «طبقات الشافعية» (5/ 165). (6) سلمان بن ناصر النيسابوري، الصوفي، الشافعي، المتكلِّم، تلميذُ إمام الحرمين، وشارحُ كتابه «الإرشاد» (ت: 511). انظر: «السير» (19/ 412) .. (7) انظر: «الرد على المنطقيين» (15 - 19، 194)، و «نقض المنطق» (187)، و «صون المنطق والكلام» للسيوطي (206)، و «الحاوي للفتاوي» (1/ 255)، و «فتاوى ابن الصلاح» (1/ 209)، و «زغل العلم» للذهبي (43). والخلافُ بين المتكلمين والمناطقة هو في الفائدة من «الحدِّ»، وهي أهمُّ مسائل التصوُّرات؛ فالحدُّ عند المتكلمين: ما يُمَيِّزُ المحدود عن غيره، بينما هو عند المناطقة: المعرِّفُ للماهيَّة والموصلُ للحقيقة. (8) ما بين المعكوفات يقتضيه السياق، وليس في الأصول.

(1/447)


ورأيتُ آخر من تجرَّد للردِّ عليهم شيخَ الإسلام ــ قدَّس الله روحه ــ، فإنه أتى في كتابيه الكبير والصغير (1) بالعجب العُجاب، وكشفَ أسرارَهم وهتكَ أستارَهم، فقلتُ في ذلك: واعجبًا لمنطقِ اليونانِ ‍ كم فيه من إفكٍ ومن بهتانِ ‍ مُخَبِّطٌ لجيِّدِ الأذهانِ ‍ ومُفْسِدٌ لفطرة الإنسانِ ‍ ومُبْكِمٌ للقلب واللِّسان ‍ مضطربُ الأصولِ والمَباني ‍ على شفا هارٍ بناه الباني ‍ أحوجَ ما كان إليه العَاني ‍ يخُونُه في السِّرِّ والإعلانِ ‍ يمشي به اللِّسانُ في الميدان ‍ مَشْيَ مُقَيَّدٍ على صَفْوانِ ‍ متَّصلِ العِثَارِ والتَّواني ‍ كأنه السَّرابُ بالقيعانِ ‍ بدا لِعَيْنِ الظَّاماء الحَرَّانِ (2) ‍ فأَمَّهُ بالظَّنِّ والحُسْبانِ ‍ يرجو شفاء غُلَّةِ الظَّمآنِ ‍ _________ (1) ["الرد على المنطقيين"، وكتاب مختصر لم يصلنا. انظر: مقدمتي لـ "الانتصار لأهل الأثر" (5، 14 - 25)]. (2) العطشان. وفي (ت , ق): «الحيران». (د): «الظمإ الحيران».

(1/448)


فلم يجد ثَمَّ سوى الحِرْمانِ ‍ فعادَ بالخيبةِ والخسران ‍ يَقْرَعُ سِنَّ نادمٍ حيرانِ ‍ قد ضاعَ منه العمرُ في الأماني ‍ وعايَنَ الخِفَّةَ في الميزان (1) وما كان مِنْ هَوَس النفوس بهذه المنزلة فهو بأن يكونَ جهلًا أولى منه بأن يكون علمًا تعلُّمُه فرضُ كفايةٍ أو فرضُ عين. وهذا الشَّافعيُّ وأحمدُ وسائرُ أئمَّة الإسلام وتصانيفُهم، وأئمَّةُ العربية (2) وتصانيفُهم، وأئمَّةُ التفسير وتصانيفُهم، لمن نظر فيها؛ هل راعَوا فيها حدودَ المنطق وأوضاعَه؟ وهل صحَّ لهم علمُهم بدونه أم لا؟! بل هم كانوا أجلَّ قدرًا وأعظمَ عقولًا من أن يشغلوا أفكارَهم بهذيان المنطقيِّين. وما دخلَ المنطقُ على علمٍ إلا أفسدَه، وغيَّر أوضاعَه، وشَوَّش قواعدَه (3). ومن الناس من يقول: إنَّ علومَ العربية من التصريف والنحو واللغة والمعاني والبيان ونحوها تعلُّمها فرضُ كفاية؛ لتوقُّف فهم كلام الله ورسوله عليها. _________ (1) الأبيات على ظهر النسخة الخطية الفريدة لكتاب "الرد على المنطقيين" باختلافٍ يسير. (2) (ت، ق، د): «وسائر أئمة العربية». والمثبت من (ح، ن) أصح؛ فالسائر: الباقي، لا الجميع، من السُّؤر. انظر: «تصحيح التصحيف» (302)، و «خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام» (34). (3) انظر: «الصواعق المرسلة» (819)، و «بدائع الفوائد» (891)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 260).

(1/449)


ومن الناس من يقول: تعلُّمُ أصول الفقه فرضُ كفاية؛ لأنه العلمُ الذي يُعْرَفُ به الدليلُ ومرتبتُه، وكيفيةُ الاستدلال. وهذه الأقوالُ وإن كانت أقربَ إلى الصواب من القول الأول، فليس وجوبُها عامًّا على كلِّ أحد، ولا في كلِّ وقت، وإنما تجبُ وجوبَ الوسائل في بعض الأزمان وعلى بعض الأشخاص، بخلاف الفرض الذي يعمُّ وجوبُه كلَّ أحد؛ وهو علمُ الإيمان وشرائع الإسلام، فهذا هو الواجب، وأما ما عداه فإن توقَّفت معرفتُه عليه فهو من باب ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، ويكونُ الواجبُ منه القدرَ المُوصِل إليه، دون المسائل التي هي فَضْلةٌ لا يفتقرُ معرفةُ الخطاب وفهمُه عليها. فلا يُطلقُ القولُ بأنَّ علمَ العربية واجبٌ على الإطلاق؛ إذ الكثيرُ منه ومن مسائله وبحوثه لا يتوقَّفُ فهمُ كلام الله ورسوله عليها (1). وكذلك أصولُ الفقه، القدرُ الذي يتوقَّفُ فهمُ الخطاب عليه منه تجبُ معرفتُه، دون المسائل المُقَدَّرة والأبحاث التي هي فَضْلة، فكيف يقال: إنَّ تعلُّمها واجب؟! وبالجملة؛ فالمطلوبُ الواجبُ من العبد من العلوم والأعمال إذا توقَّف على شيءٍ منها كان ذلك الشيءُ واجبًا وجوبَ الوسائل، ومعلومٌ أنَّ ذلك التوقُّفَ (2) يختلفُ باختلاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان؛ _________ (1) لكنَّ ما يتوقَّفُ فهمُ الكلام عليه لا يوصلُ إليه إلا بتعلُّم كثيرٍ مما لا يُحتاجُ إليه، فصار الثاني مما لا يتمُّ الواجبُ إلا به. وللخليل بن أحمد عبارةٌ مشهورةٌ في هذا. انظر: «بهجة المجالس» (1/ 67)، و «نصرة الثائر» للصفدي (67). (2) (ت): «المتوقف».

(1/450)


فليس لذلك حدٌّ مقدَّر (1)، والله أعلم. الوجه الثالثُ والثلاثون بعد المئة: ما رواه ابنُ حبان في «صحيحه» (2) من حديث أبي هريرة يرفعُه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سأل موسى ربَّه عن ستِّ خصالٍ كان يظنُّ أنها له خالصة، والسابعةُ لم يكن موسى يحبُّها، قال: يا ربِّ، أيُّ عبادك أتقى؟ قال: الذي يَذْكُرُ ولا ينسى، قال: فأيُّ عبادك أهدى؟ قال: الذي يتبعُ الهدى، قال: فأيُّ عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكمُ للناس ما يحكمُ لنفسه، قال: أيُّ عبادك أعلم؟ قال: عالمٌ لا يشبعُ من العلم، يجمعُ علمَ الناس إلى علمه، قال: فأيُّ عبادك أعزُّ؟ قال: الذي إذا قَدَرَ غفَر، قال: فأيُّ عبادك أغنى؟ قال: الذي يرضى بما أوتي، قال: فأيُّ عبادك أفقر؟ قال: صاحبٌ منقوص» (3). _________ (1) (ن، ح): «حد مقدور». (2) (6217)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (369)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (61/ 134، 135، 136)، وغيرهم. وفي إسناده دراج بن سمعان، وهو مختلفٌ فيه، كما تقدم (ص: 203)، وليس حديثه هذا بالمحفوظ، وقد اضطرب في تسمية شيخه على وجهين، وأصل الحديث مشهورٌ مرويٌّ من وجوهٍ كثيرة عن جماعة من التابعين: عطاء، ومجاهد، وأبي عمرو الشيباني، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار، وميثم (شيخٌ لأبي إسحاق السبيعي، يروي أخبار بني إسرائيل. انظر: «الثقات» لابن حبان: 5/ 463، و «الزهد» لهناد: 1301، و «الدعاء» للضبي: 103) وغيرهم، مقطوعًا، وعن ابن عباس موقوفًا، من أخبار أهل الكتاب، وهو الأشبه. (3) قال ابن حبان عقب الحديث: «صاحبٌ منقوص: يريد به منقوصٌ حالتُه، يستقلُّ ما أوتي ويطلبُ الفضل».

(1/451)


فأخبر في هذا الحديث أنَّ أعلمَ عباده الذي لا يشبعُ من العلم، فهو يجمعُ علمَ الناس إلى علمه؛ لنَهْمَته في العلم، وحرصه عليه. ولا ريب أنَّ كون العبد أعلمَ عباد الله (1) من أعظم أوصاف كماله، وهذا هو الذي حمل موسى على الرِّحلة إلى عالِم الأرض ليعلِّمه مما علَّمه الله. هذا وهو كليمُ الرحمن، وأكرمُ الخلق على الله في زمانه، وأعلمُ الخلق، فحمله حرصُه ونَهْمتُه في العلم على الرِّحلة إلى العالِم الذي وُصِفَ له. فلولا أنَّ العلمَ أشرفُ ما بُذِلَت فيه المُهَج، وأُنفِقَت فيه الأنفاس، لاشتغلَ موسى عن الرِّحلة إلى الخَضر بما هو بصدده من أمر الأمَّة، وعن مقاساة النَّصَب والتعب في رحلته وتلطُّفه للخَضر في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، فلم ير اتباعَه حتى استأذنه في ذلك وأخبره أنه جاء متعلِّمًا مستفيدًا. فهذا النبيُّ الكريمُ كان عالمًا بقدر العلم وأهله، صلواتُ الله وسلامه عليه. الوجه الرابع والثلاثون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه وتعالى خلقَ الخلقَ لعبادته الجامعة لمحبَّته وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونَصَب للعباد عَلَمًا لا كمال لهم إلا به؛ وهو أن تكونَ حركاتُهم كلُّها واقعةً على وَفْقِ مرضاته ومحبَّته، ولذلك أرسل رسله، وأنزَل كتبه، وشرع شرائعه. فكمالُ العبد الذي لا كمال له إلا به أن تكونَ حركاتُه موافقةً لما يحبُّه الله منه ويرضاه له. _________ (1) (ق): «أعظم عباد الله». وهو تحريف.

(1/452)


ولهذا جعل اتباعَ رسوله دليلًا على محبَّته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فالمحبُّ الصادقُ يرى خيانةً منه لمحبوبه أن يتحرَّك بحركةٍ اختياريَّةٍ في غير مرضاته، وإذا فعل فعلًا مما أبيحَ له بمُوجَب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوبُ من الذَّنب، ولا يزالُ هذا الأمرُ يقوى عنده حتى تنقلبَ مباحاتُه (1) كلُّها طاعات، فيحتسبُ نَوْمَتَه (2) وفِطْرَه وراحتَه كما يحتسبُ قَوْمَتَه وصومَه واجتهادَه، وهو دائمًا بين سرَّاءَ يشكرُ اللهَ عليها وضرَّاءَ يصبرُ عليها؛ فهو سائرٌ إلى الله دائمًا في نومه ويقظته. قال بعض العلماء: «الأكياسُ عاداتهم عبادات، والحمقى عباداتهم عادات» (3). وقال بعضُ السَّلف: «حبَّذا نومُ الأكياس وفِطْرُهم، يَغْبِنون (4) به سهرَ الحمقى وصومَهم» (5). فالمحبُّ الصادقُ إنْ نَطَق نَطَق لله وبالله، وإن سَكَت سَكَت لله، وإن _________ (1) (ح): «مباحاته عنده». (2) (ق، د، ت): «نومه». (3) انظر: «طريق الهجرتين» (466، 467). (4) كذا في الأصول، وهو مستقيم. وفي طرة (د): «لعله: يسبقون». وتحرفت في بعض المصادر إلى: يعيبون. (5) أخرجه أحمد في «الزهد» (137)، ــ ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 212) ـــ، وابن أبي الدنيا في «اليقين» (8)، ــ ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/ 175) ــ عن أبي الدرداء بإسنادٍ منقطع.

(1/453)


تحرَّك فبأمر الله، وإن سَكَن فسكونُه استعانةٌ على مرضاة الله؛ فهو لله وبالله ومع الله. ومعلومٌ أنَّ صاحبَ هذا المقام أحوجُ خلق الله إلى العلم؛ فإنه لا تتميَّز له الحركةُ المحبوبةُ لله من غيرها ولا السُّكونُ المحبوبُ له من غيره إلا بالعلم، فليست حاجتُه إلى العلم كحاجة من طلبَ العلمَ لذاته ولأنه في نفسه صفةُ كمال، بل حاجتُه إليه كحاجته إلى ما به قِوامُ نفسه وذاته. ولهذا اشتدَّت وَصَاةُ شيوخ العارفين لمُرِيديهم بالعلم وطلبه (1)، وأنه من لم يطلب العلمَ لم يُفْلِح، حتى كانوا يَعُدُّونَ من لا علم له من السِّفْلة (2). قال ذو النون (3)، وقد سئل: من السِّفْلة؟، فقال: «من لا يعرفُ الطريقَ إلى الله تعالى ولا يتعرَّفُه» (4). وقال أبو يزيد (5): «لو نظرتم إلى الرجل وقد أُعطِي من الكرامات حتى يتربَّع (6) في الهواء، فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحِفظ الحدود ومعرفة الشريعة» (7). _________ (1) عقد القشيري في «الرسالة» بابًا في ذكر مشايخ الطريقة وما يدلُّ من سِيَرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة. وهو مصدر المصنف في الأقوال التالية. (2) السِّفْلة والسَّفِلة: أراذل الناس. «اللسان» (سفل). (3) ثوبان بن إبراهيم المصري، زاهد، واعظ (ت: 245). «السير» (11/ 532). (4) «الرسالة القشيرية» (46). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/ 372). (5) طيفور بن عيسى البِسْطامي، زاهدٌ يروى عنه كلامٌ نافع وكلماتٌ مشكلة (ت: 261). «السير» (13/ 86). (6) (ن): «يترفع». وفي بعض المصادر: «يرتفع»، «يرفع»، «يرتقى». (7) «الرسالة القشيرية» (64). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 40)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 449)، وغيرهم.

(1/454)


وقال أبو حمزة البزَّاز (1): «من عَلِمَ طريقَ الحقِّ سَهُل عليه سلوكُه، ولا دليل على الطريق إلا متابعةُ الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله» (2). وقال محمدُ بن الفضل الصوفي الزاهد (3): «ذهابُ الإسلام على يدي أربعة أصنافٍ من الناس: صنفٍ لا يعملون بما يعلمون، وصنفٍ يعملون بما لا يعلمون، وصنفٍ لا يتعلَّمون ولا يعملون (4)، وصنفٍ يمنعونَ الناسَ من التعلُّم» (5). قلتُ: الصنفُ الأول: من له علمٌ بلا عمل؛ فهو أضرُّ شيءٍ على العامَّة، فإنه حجَّةٌ لهم في كلِّ نقيصةٍ ومَبْخَسَة (6). والصنفُ الثاني: العابدُ الجاهل؛ فإنَّ الناسَ يحسِّنون الظنَّ به؛ لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله. وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعضُ السَّلف في قوله: «احذروا _________ (1) محمد بن إبراهيم البغدادي، صوفي، عنده انحرافٌ وشَطْح، قال الذهبي: «له تأويل» (ت: 260). انظر: «السير» (13/ 165). (2) «الرسالة القشيرية» (100). وأخرجه السلمي في «طبقات الصوفية» (298). (3) أبو عبد الله، العلَّامة، واعظُ بَلْخ (ت: 317). «السير» (14/ 523). (4) (ت): «لا يعملون ولا يعلمون». وفي «الرسالة» ومصادر التخريج: «لا يتعلمون ما لا يعلمون». وهو من تصرُّف المصنف. (5) «الرسالة القشيرية» (88). وأخرجه السلمي في «طبقات الصوفية» (214)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 233)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 430). (6) البَخْس: النَّقص. وفي (ت، ق، ن): «ومنحسة»، والنَّحس: ضدُّ السَّعد.

(1/455)


فتنةَ العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكلِّ مفتون» (1)؛ فإنَّ الناسَ إنما يقتدون بعلمائهم وعبَّادهم، فإذا كان العلماءُ فَجَرةً والعبَّادُ جَهَلةً عمَّت المصيبةُ بهما وعَظُمَت الفتنةُ على الخاصَّة والعامَّة. والصنفُ الثالث: الذين لا علمَ لهم ولا عمل؛ وإنما هم كالأنعام السائمة. والصنفُ الرابع: نُوَّابُ إبليس في الأرض؛ وهم الذين يثبِّطون الناسَ عن طلب العلم والتفقُّه في الدين، فهؤلاء أضرُّ عليهم من شياطين الجنِّ، فإنهم يحُولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه. فهؤلاء الأربعةُ أصنافٍ (2) هم الذين ذكرهم هذا العارفُ رحمةُ الله عليه (3)، وهؤلاء كلُّهم على شفا جُرفٍ هار، وعلى سبيلِ هَلَكة، وما يلقى العالِمُ الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يستعملُ من يشاءُ في سخطه كما يستعملُ من يحبُّ (4) في مرضاته، إنه بعباده خبيرٌ بصير. ولا ينكشفُ سرُّ (5) هذه الطوائف وطريقتُهم إلا بالعلم؛ فعاد الخيرُ بحذافيره إلى العلم ومُوجَبه، والشرُّ بحذافيره إلى الجهل ومُوجَبه. _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 401). (2) (ح): «الأربعة الأصناف». (3) للذهبيِّ في «السير» (14/ 525) تعليقٌ لطيفٌ على كلام هذا العارف. (4) (ت): «من يشاء». (5) (ق، ن): «شر»، بالمعجمة. والتعبير بانكشاف السرِّ مألوفٌ في كتب المصنف، وهو الأليق هنا.

(1/456)


الوجه الخامس والثلاثون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه جعل العلماءَ وكلاءَ وأمناءَ على دينه ووحيه، وارتضاهم لحفظه والقيام به والذبِّ عنه، وناهيك بها منزلةً شريفةً ومنقبةً عظيمة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 88 - 89]. وقد قيل: إنَّ هؤلاء القوم هم الأنبياء. وقيل: أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: كلُّ مؤمن. هذه أمَّهاتُ الأقوال، بعد أقوالٍ متفرِّعةٍ عن هذه، كقول من قال: هم الأنصار، أو: المهاجرون والأنصار، أو: قومٌ (1) من أبناء فارس. وقال آخرون: هم الملائكة (2). قال ابن جرير (3): «وأولى هذه الأقوال بالصواب: أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين سمَّاهم في الآيات قبل هذه الآية». قال: «وذلك أنَّ الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذُكِر، فما بينها (4) بأن يكونَ خبرًا عنهم أولى وأحقُّ من أن يكون (5) _________ (1) (ن): «أو هم». (2) انظر: «زاد المسير» (3/ 81)، و «الدر المنثور» (3/ 28). (3) (11/ 518). (4) في الأصول: «فما يليها». تحريف. والمثبت من كتاب ابن جرير. (5) في الأصول: «بأن يكون». وهو تحريف كذلك.

(1/457)


خبرًا عن غيرهم. فالتأويل: فإن يكفر قومُك من قريشٍ يا محمدُ بآياتنا، وكذَّبوا بها، وجحدوا حقيقتَها، فقد استحفظناها واسترعينا القيامَ بها رسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتَها ولا يكذِّبون بها، ولكنهم يصدِّقون بها ويؤمنون بصحتها». قلت: السُّورة مكِّية، والإشارةُ بقوله: {هَؤُلَاءِ} إلى من كفر به من قومه أصلًا، ومَنْ عداهم تبعًا، فيدخلُ فيها من كفر بما جاء به من هذه الأمَّة. والقومُ الموكَّلون بها هم الأنبياءُ أصلًا، والمؤمنون بهم تبعًا، فيدخلُ فيها كلُّ من قام بحفظها والذبِّ عنها والدعوة إليها، ولا ريب أنَّ هذا للأنبياء أصلًا وللمؤمنين بهم تبعًا، وأحقُّ من دخلَ فيهم من أتباع الرسول خلفاؤه في أمَّته وورثتُه، فهم الموكَّلون بها. وهذا ينتظمُ الأقوالَ التي قيلت في الآية. وأما قولُ من قال: إنهم الملائكة؛ فضعيفٌ جدًّا لا يدلُّ عليه السِّياق، وتأباه لفظة «قوم»؛ إذا الغالبُ في القرآن ــ بل المطَّرد ــ تخصيصُ القوم ببني آدم دون الملائكة. وأما قولُ إبراهيم لهم: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]، فإنما قاله لمَّا ظنَّهم من الإنس. وأيضًا؛ فلا يقتضيه فخامةُ المعنى ومقصودُه، ولهذا لو ظهَر ذلك وقيل: «فإن يكفُر بها كفَّارُ قومك فقد وكَّلنا بها الملائكة فإنهم لا يكفرون بها»، لم يَجِد منه من التسلية وتحقير شأن الكفرة بها، وبيان عدم تأهُّلهم لها (1) والإنعام عليهم، وإيثار غيرهم من أهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى _________ (1) (ح، ن): «تأهيلهم لها».

(1/458)


عليهم لكونهم أحقَّ بها وأهلَها، والله أعلمُ حيث يضعُ هُداه (1) ويختصُّ به من يشاء. وأيضًا؛ فإنَّ تحت هذه الآية إشارةً وبشارةً بحفظها، وأنه لا ضَيْعةَ عليها، وأنَّ هؤلاء وإن ضيَّعوها ولم يقبلوها فإنَّ لها قومًا غيرهم يقبلونها ويحفظونها ويَرْعَونها ويذبُّون عنها، فكفرُ هؤلاء بها لا يضيِّعها ولا يُذْهِبُها ولا يضرُّها شيئًا؛ فإنَّ لها أهلًا ومستحِقًّا سواهم. فتأمَّل شرفَ هذا المعنى وجلالتَه وما تضمَّنه من تحريض عباده المؤمنين على المبادرة إليها والمسارعة إلى قبولها، وما تحته من تنبيههم على محبته لهم وإيثاره إياهم بهذه النعمة على أعدائه الكافرين، وما تحته من احتقارهم وازدرائهم وعدم المبالاة والاحتفال (2) بهم، وأنكم وإن لم تؤمنوا بها فعبادي المؤمنون بها الموكَّلون بها سواكم كثير، كما قال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. وإذا كان للمَلِك عبيدٌ قد عصوه وخالفوا أمرَه ولم يلتفتوا إلى عهده، وله عبيدٌ آخرون سامعون له مطيعون قابلون مستجيبون لأمره، فنظر إليهم وقال: «إنْ يكفُر هؤلاء نعمتي ويعصوا أمري ويضيِّعوا عهدي، فإنَّ لي عبيدًا سواهم وهم أنتم، تطيعون أمري، وتحفظون عهدي، وتؤدُّون حقِّي»؛ فإنَّ عبيدَه _________ (1) (ت): «رسالاته وهداه». (2) (ح): «والاهتبال».

(1/459)


المطيعين يَجِدُون في أنفسهم من الفرح والسُّرور والنشاط وقوة العزيمة ما يكون مُوجِبًا لهم المزيدَ من القيام بحقِّ العبودية، والمزيدَ من كرامة سيِّدهم ومالكهم. وهذا أمرٌ يشهدُ به الحِسُّ والعِيان. وأمَّا توكيلُهم بها، فهو يتضمَّنُ توفيقَهم للإيمان بها والقيام بحقوقها ومراعاتها والذبِّ عنها والنصيحة لها، كما يوكِّل الرجلُ غيرَه بالشيء ليقوم به ويتعهَّده ويحافظ عليه. و {بِهَا} الأولى متعلِّقةٌ بـ {وَكَّلْنَا}، و {بِهَا} الثانية متعلِّقةٌ بـ {بِكَافِرِينَ}، والباءُ في {بِكَافِرِينَ} لتأكيد النفي. فإن قلت: فهل يصحُّ أن يقال لأحد هؤلاء الموكَّلين: إنه «وكيلُ الله» بهذا المعنى، كما يقال: «وليُّ الله»؟ قلت: لا يلزمُ من إطلاق فعل التوكيل (1) المقيَّد بأمرٍ ما أن يُصاغ منه اسمُ فاعلٍ مطلق، كما أنه لا يلزمُ من إطلاق فعل الاستخلاف المقيَّد أن يقال: «خليفة»، كقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، فلا يُوجِبُ هذا الاستخلافُ (2) أن يقال لكلِّ منهم: إنه «خليفةُ الله»؛ لأنه استخلافٌ مقيَّد. ولمَّا قيل للصدِّيق: يا خليفةَ الله، قال: «لستُ بخليفةٍ لله، ولكنِّي خليفةُ رسول الله، وحسبي ذلك» (3). _________ (1) (ح، ن): «التوكل». (2) (ت): «الاستخلاف المقيد». (3) تقدم تخريجه (ص: 429).

(1/460)


ولكن يسوغُ أن يقال: هو وكيلٌ بذلك؛ كما قال تعالى: {وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا}. والمقصودُ أنَّ هذا التوكيلَ خاصٌّ بمن قام بها علمًا وعملًا، وجهادًا لأعدائها، وذبًّا عنها، ونفيًا لتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وأيضًا؛ فهو توكيلُ رحمةٍ وإحسانٍ وتوفيقٍ واختصاص، لا توكيل حاجةٍ كما يوكِّلُ الرجلُ من يتصرَّفُ عنه في غيبته لحاجته إليه. ولهذا قال بعض السَّلف: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} يقول: «رزقناها قومًا» (1)؛ فلهذا لا يقالُ لمن رُزِقَها (2) ورُحِمَ بها: إنه «وكيلُ الله». وهذا بخلاف اشتقاق «وليِّ الله» من الموالاة؛ فإنها المحبةُ والقُرب، فكما يقال: عبد الله وحبيبُه، يقال: وليُّه، والله تعالى يوالي عبدَه إحسانًا إليه وجبرًا له ورحمة، بخلاف المخلوق فإنه يوالي المخلوقَ لتعزُّزه به وتكثُّره بموالاته؛ لذلِّ العبد وحاجته، وأمَّا العزيزُ الغنيُّ ــ سبحانه ــ فلا يوالي أحدًا من ذلٍّ ولا من حاجة. قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فلم يَنْفِ الوليَّ نفيًا عامًّا مطلقًا، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذُّل، وأثبتَ في موضعٍ آخر أنَّ له أولياء، بقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، فهذه موالاةُ رحمةٍ _________ (1) قاله أبو عبيدة في «مجاز القرآن» (1/ 200). (2) (ح، ن): «رزق بها».

(1/461)


وإحسانٍ وجَبْر، والموالاةُ المنفيةُ موالاةُ حاجةٍ وذُل. يُوضِّحُ هذا الوجهُ السادسُ والثلاثون بعد المئة: وهو ما رُوِي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعدِّدة أنه قال: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (1). فهذا الحملُ المشارُ إليه في هذا الحديث هو التوكُّلُ المذكورُ في الآية، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن العلمَ الذي جاء به يحملُه عدولُ أمَّته من كلِّ خَلَف، حتى لا يضيعَ ويذهب. وهذا يتضمَّنُ تعديلَه - صلى الله عليه وسلم - لحملة العلم الذي بُعِثَ به، وهو المشارُ إليه في قوله: «هذا العلم»، فكلُّ من حمَل العلمَ المشارَ إليه لا بدَّ وأن يكون عدلًا (2)، ولهذا اشتهر عند الأمَّة عدالةُ نَقَلته وحملته اشتهارًا لا يقبلُ شكًّا ولا امتراءً (3). ولا ريب أنَّ من عدَّله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُسْمَعُ فيه جرح؛ فالأئمةُ الذين اشتهروا عند الأمَّة بنقل العلم النبويِّ وميراثه كلُّهم عدولٌ بتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا لا يُقبلُ قَدْحُ بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند _________ (1) سيأتي تخريجه مفصَّلًا قريبًا. (2) فيكتفى فيهم بالعدالة الظاهرة حتى يأتي ما ينقضها. وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، وابن المواق، والذهبي، وابن سيد الناس، وابن الوزير، وغيرهم. وعليه العمل عند أهل الحديث فيمن تعذَّر العلم بعدالته الباطنة من الرواة. انظر: «فتح المغيث» (2/ 18)، و «التمهيد» (1/ 28)، و «جامع بيان العلم» (2/ 1093)، و «العواصم والقواصم» (1/ 307)، وما مضى (ص: 131). (3) (ت): «مراء».

(1/462)


الأمَّة جرحُه والقدحُ فيه، كأئمة البدع ومن جرى مجراهم من المتَّهمين في الدِّين، فإنهم ليسوا عند الأمَّة من حملة العلم. فما حمَل علمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عَدْل، ولكن قد يُغْلَطُ في مسمَّى العدالة، فيُظنُّ أنَّ المرادَ بالعدل من لا ذنب له، وليس كذلك، بل هو عدلٌ مؤتمنٌ على الدِّين، وإن كان منه ما يتوبُ إلى الله منه، فإنَّ هذا لا ينافي العدالةَ كما لا ينافي الإيمانَ والوَلاية. فصل وهذا الحديثُ له طرقٌ عديدة: * منها: ما رواه ابن عدي (1)، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدِّه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * ومنها: ما رواه العوَّام بن حوشب، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ذكره الخطيبُ (2) وغيره. * ومنها: ما رواه ابن عدي (3) من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) في «الكامل» (1/ 145). وإسنادُه شديدُ الضعف، والآفةُ فيه من الراوي عن موسى، كما بيَّن ذلك ابنُ عدي في (6/ 301). (2) في «شرف أصحاب الحديث» (14). وإسنادُه شديدُ الضعف، مسلسلٌ بالعلل، بدءًا بشيخ الخطيب المتَّهم بالكذب، إلى الانقطاع بين شهرٍ ومعاذ. (3) في «الكامل» (1/ 145)، وتمام في «الفوائد» (80 - الروض). وإسنادُه موضوع، كما شرحه ابنُ عدي في «الكامل» (3/ 31).

(1/463)


* ومنها: ما رواه محمد بن جرير الطبري (1) من حديث ابن أبي كريمة، عن مُعان بن رفاعة السَّلامي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * ومنها: ما رواه حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (2). قال الدارقطني: حدثنا أحمد بن الحسن: حدثنا هاشم بن القاسم: حدثنا مثنى بن بكر ومُبَشِّرٌ وغيرهما من أهل العلم، كلُّهم يقولون: حدثنا مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3). يعني أنَّ المحفوظ من هذا الطَّريق مرسل؛ لأنَّ إبراهيم هذا لا صحبة له (4). _________ (1) ومن طريقه الخطيبُ في «شرف أصحاب الحديث» (53)، والعلائي في «بغية الملتمس» (34). وإسنادُه منكر؛ ابنُ أبي كريمة ضعيف، وقد خالف جماعةً من الثقات رووه عن معان بن رفاعة عن إبراهيم العذري مرسلًا، كما سيأتي. واشتبه ابنُ أبي كريمة على العلائي براوٍ آخر ثقة؛ فصحَّح الحديث. (2) أخرجه ابن حبان في «الثقات» (4/ 10)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 118)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (55)، وغيرهم. ومُعان بن رفاعة مختلفٌ فيه، وقد خولف في حديثه هذا، فرواه الوليد بن مسلم ــ وهو ثقةٌ، وقد صرَّح بالسماع ــ عن إبراهيم العذري، عن الثقة من أشياخنا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (2)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 147). (3) أخرجه من هذا الوجه ابن عساكر (7/ 38). وانظر: «الجرح والتعديل» (2/ 17). (4) وهذا هو الصواب، فالحديثُ إنما يحفظُ من هذا الطريق مرسلًا، وسائر الروايات المرفوعة معلولةٌ منكرةٌ لا تصلُح لتقويته. وإلى هذا ذهب جماعةٌ من الحفَّاظ، كالدارقطني، والعقيلي، وابن كثير، والعراقي، وغيرهم. انظر: «المقنع» لابن الملقن (1/ 246)، و «الضعفاء» (4/ 256)، و «مختصر علوم الحديث» (1/ 283 - الباعث الحثيث)، و «التقييد والإيضاح» (116)، و «محاسن الاصطلاح» (289). وكلامُ الإمام أحمد الآتي لا يعارضُ هذا؛ لأنه إنما صحَّحه عن إبراهيم العذري، لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومع إرسال هذه الرواية، فإبراهيمُ العذري لا يُدرى من هو، كما قال الذهبي في «الميزان» (1/ 45)، ولا يُعرَف في غير هذا الحديث. انظر: «بيان الوهم والإيهام» (3/ 40). وأشياخُه ــ على رواية الوليد بن مسلم السالفة، وهي أصح ــ مجهولون.

(1/464)


وقال الخلال في كتاب «العلل» (1): «قرأتُ على زهير بن صالح بن أحمد: حدثنا مهنَّا، قال: سألتُ أحمد عن حديث مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»، فقلتُ لأحمد: كأنه كلامٌ موضوع؟ (2) قال: لا، هو صحيح. فقلت: ممَّن سمعته أنت؟ فقال: من غير واحد. قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول: عن مُعان، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال أحمد: ومُعان بن رفاعة لا بأس به». * ومنها: ما رواه أبو صالح: حدثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يَرِثُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه» (3). _________ (1) وأخرج النصَّ من طريقه الخطيبُ في «شرف أصحاب الحديث» (56). (2) (ح، ن): «كأنه موضوع». والمثبت من (ت، د، ق) و «شرف أصحاب الحديث». (3) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (54). وإسنادُه ضعيفٌ مسلسلٌ بالعلل؛ فيه ثلاثةُ ضعفاء في نسق.

(1/465)


* ومنها: ما رواه أبو أحمد ابن عدي (1) من حديث رُزَيْق أبي عبد الله (2) الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي، قال: «قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -». رواه عنه بقية. * ومنها: ما رواه ابن عدي (3) أيضًا من طريق مروان الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. * ومنها: ما رواه تمَّام في «فوائده» (4) من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي قَبِيل، عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة. رواه عنه خالد بن عمرو. * ومنها: ما رواه القاضي إسماعيل (5) من حديث علي بن مسلم _________ (1) في «الكامل» (1/ 146)، والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 9). وإسنادُه ضعيف، وفيه اضطراب. انظر: «مشكل الآثار» للطحاوي (10/ 17). (2) (ح، ن): «رزيق بن عبد الله». وهو تحريف. (3) في «الكامل» (1/ 146). وإسناده ضعيف، وفي رواته من لم أعرفه، وقد أشار ابن عديٍّ إلى غرابته. وأبو حازم هو سلمان الأشجعي صاحب أبي هريرة. (4) والبزار (143 - كشف الأستار)، والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 10). وإسناده موضوع. انظر: «الكامل» لابن عدي (3/ 31). وقد تقدم هذا الإسناد من رواية ابن عمر، وهي التي أخرجها تمَّام في «الفوائد» (80). (5) والطبراني في «مسند الشاميين» (1/ 344) ــ ومن طريقه الخطيب في «الجامع» (1/ 193) ــ، وابن عدي في «الكامل» (1/ 146) ــ ومن طريقه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (52) ــ، والهروي في «ذم الكلام» (705)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (43/ 236). وإسناده ضعيفٌ جدًّا؛ فيه راوٍ متروك، وآخرُ لم أقف فيه على توثيق. وانظر: «ذخيرة الحفاظ» (2778).

(1/466)


البكري (1)، عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. الوجه السابع والثلاثون بعد المئة: أنَّ بقاء الدِّين والدنيا في بقاء العلم، وبذهاب العلم تذهبُ الدنيا والدِّين، فقِوامُ الدِّين والدنيا إنما هو بالعلم. قال الأوزاعي: قال ابن شهاب الزهري: «الاعتصامُ بالسُّنَّة نجاة، والعلمُ يُقْبَض قبضًا سريعًا، فَنَعْشُ العلم (2) ثباتُ الدِّين والدنيا، وذهابُ العلم ذهابُ ذلك كلِّه» (3). وقال ابن وهب: أخبرني ابن يزيد (4)، عن ابن شهاب قال: «بلَغَنا عن رجالٍ من أهل العلم أنهم كانوا يقولون: الاعتصامُ بالسُّنَّة نجاة، والعلمُ يُقْبَض قبضًا سريعًا، فنَعْشُ العلم ثباتُ الدِّين والدنيا، وذهابُ العلم ذهابُ ذلك كلِّه» (5). الوجه الثامن والثلاثون بعد المئة: أنَّ العلمَ يرفعُ صاحبَه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعُه المُلْكُ ولا المالُ ولا غيرهما، فالعلمُ يزيدُ الشريفَ _________ (1) في الأصول: «البلوي». تحريف. ترجمته في «تاريخ دمشق» (43/ 235)، ولم يحك فيه جرحًا أو تعديلًا. (2) أي: بقاؤه ورفعة شأنه. «اللسان» (نعش). (3) أخرجه الدارمي (96)، واللالكائي في «السنة» (136)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 369)، وغيرهم. (4) (د، ت، ق): «أخبرني يزيد». خطأ. وهو يونس بن يزيد الأيلي صاحبُ الزهري، وقد ورد مصرَّحًا به في مصادر التخريج. (5) أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (546)، والذهبي في «السير» (18/ 343). وتابع ابنَ وهب: ابنُ المبارك في «الزهد» (817)، والليثُ بن سعد في «السنة» للالكائي (137)، و «المعرفة والتاريخ» (3/ 373).

(1/467)


شرفًا، ويرفعُ العبدَ المملوك حتى يُجْلِسَه مجالسَ الملوك، كما ثبت في «الصحيح» (1) من حديث الزهري، عن أبي الطفيل، أنَّ نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعُسْفان ــ وكان عمر استعمله على أهل مكة ــ فقال له عمر: من استخلفتَ على أهل الوادي؟ قال: استخلفتُ عليهم ابن أبزى، فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: رجلٌ من موالينا، فقال عمر: استخلفتَ عليهم مولى؟! فقال: إنه قاراءٌ لكتاب الله عالمٌ بالفرائض، فقال عمر: أما إنَّ نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «إنَّ الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين». قال أبو العالية: كنتُ آتي ابنَ عباس وهو على سريره (2) وحوله قريش، فيأخذُ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتَغامَزُ بي (3) قريش، ففَطِنَ لهم ابنُ عباس فقال: كذا هذا العلم، يزيدُ الشريفَ شرفًا ويُجْلِسُ المملوكَ على الأسرَّة (4). وقال إبراهيم الحربي: كان عطاءُ بن أبي رباح عبدًا أسود لامرأةٍ من أهل مكة، وكان أنفُه كأنه باقلَّاة. قال: وجاء سليمانُ بن عبد الملك أميرُ المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلمَّا صلى انفتلَ إليهم، فما زالوا يسألونه عن _________ (1) «صحيح مسلم» (817). (2) قال الذهبي في «السير» (4/ 208): «هذا كان سرير دار الإمرَة، لما كان ابنُ عباس متولِّيها لعليٍّ رضي الله عنهما». يعني: إمارة البصرة. (3) (ت): «فتتغامز». وفي (ن): «فتغامزني». (4) أخرجه البيهقي في «المدخل» (398)، وغيره. وفي (ن): «ويجلس المملوك على أسرة الملوك».

(1/468)


مناسك الحجِّ وقد حَوَّل قفاه إليهم، ثمَّ قال سليمان لابنيه: قُوما، فقاما، فقال: يا بَنِيَّ، لا تَنِيا في طلب العلم؛ فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود. قال الحربي: وكان محمدُ بن عبد الرحمن الأوقص (1) عنقُه داخلٌ في بدنه، وكان منكباه خارجَيْن كأنهما زُجَّان (2)، فقالت له أمُّه: يا بنيَّ، لا تكونُ في مجلس قومٍ إلا كنتَ المضحوكَ منه المسخورَ به، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك. فوَلِيَ قضاءَ مكة عشرين سنة. قال: وكان الخصمُ إذا جلس إليه بين يديه يَرْعُد حتى يقوم. قال: ومرَّت به امرأةٌ يومًا وهو يقول: اللهمَّ أعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابنَ أخي، وأيُّ رقبةٍ لك؟! (3). وقال يحيى بن أكثم: قال الرشيد: ما أنبلُ المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين. قال: فتعرفُ أجلَّ منِّي؟ قلت: لا. قال: لكنِّي أعرفُه؛ رجلٌ في حَلْقةٍ يقول: حدثنا فلانٌ عن فلانٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أهذا خيرٌ منك وأنت ابن عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووليُّ عهد المسلمين؟! قال: نعم، ويلك، هذا خيرٌ منِّي؛ لأنَّ اسمَه مقترنٌ باسم رسول الله، لا يموتُ أبدًا، ونحن نموتُ ونفنى، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر (4). _________ (1) المخزومي القرشي (ت: 169). ترجمته في «تاريخ دمشق» (54/ 102)، و «أخبار القضاة» لوكيع (1/ 264)، وغيرهما. (2) الزُّجُّ: الحديدة التي في أسفل الرمح. «اللسان» (زجج). (3) أخرج النصَّ بطوله (خبر عطاء، والأوقص) عن الحربي الخطيبُ في «الفقيه والمتفقه» (1/ 140). (4) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (219).

(1/469)


وقال خيثمة بن سليمان: سمعت ابن أبي الخناجر يقول: كنَّا في مجلس يزيد بن هارون، والناسُ قد اجتمعوا، فمرَّ أميرُ المؤمنين فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس أُلوفٌ، فالتفت إلى أصحابه، وقال: هذا المُلْك (1). وفي «تاريخ بغداد» (2) للخطيب: حدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد، قال: سمعت الحسن بن علي المقراء يقول: سمعت أبا الحسين بن فارس يقول: سمعت الأستاذ ابن العميد يقول: ما كنتُ أظنُّ أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ من الرِّياسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شهدتُ مذاكرةَ سليمان بن أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي، فكان الطبرانيُّ يغلبُ الجِعَابيَّ بكثرة حفظه، وكان الجِعَابيُّ يغلبُ الطبرانيَّ بفطنته وذكاء أهل بغداد، حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكادُ أحدُهما يغلبُ صاحبه، فقال الجِعَابي: عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هاته، فقال: حدثنا أبو خليفة: حدثنا سليمانُ بن أيوب، وحَدَّثَ بالحديث، فقال الطبراني: أنا سليمانُ (3) بن أيوب ومنِّي سمعَ أبو خليفة، فاسمعْ منِّي حتى يَعْلُوَ إسنادُك، فإنك تروي عن أبي خليفة عنِّي! فخَجِلَ الجِعَابيُّ وغَلَبه الطبراني. قال ابن العميد: فوددتُ في مكاني أنَّ الوزارةَ والرِّياسةَ ليتها لم تكن لي _________ (1) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (220). (2) لم أره في مطبوعته. وهو في «الجامع» للخطيب (2/ 413)، ومن طريقه رواه جماعة. والقصة في «التدوين في أخبار قزوين» (2/ 81) في سياقٍ ممتع. (3) في «سير أعلام النبلاء» (16/ 124)، و «طبقات الحنابلة» (3/ 94): «أخبرنا سليمان»، وهو من تصرُّف النسَّاخ أو المحققين، ظنُّوا «أنا» في هذا الموضع اختصارًا لـ «أخبرنا». وهو مفسدٌ للمعنى كما ترى.

(1/470)


وكنتُ الطبراني، وفرحتُ مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث. أو كما قال. وقال المزني: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «من تعلَّمَ القرآنَ عَظُمَت قيمتُه، ومن نظر في الفقه نَبُلَ مقدارُه، ومن تعلَّم اللغةَ رَقَّ طبعُه، ومن تعلَّم الحسابَ جَزُل رأيُه، ومن كتب الحديثَ قَوِيَت حُجَّتُه، ومن لم يَصُنْ نفسَه لم ينفعه علمُه» (1). وقد رُوِي هذا الكلامُ عن الشافعيِّ من وجوهٍ متعدِّدة (2). وقال سفيان الثوري: «من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم». وقال عبد الله بن داود: سمعت سفيان الثوري يقول: «إنَّ هذا الحديثَ عِزٌّ، فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرةَ وجدها» (3). وقال النضر بن شُمَيْل: «من أراد أن يَشْرُفَ في الدنيا والآخرة فليتعلَّم العلم، وكفى بالمرء سعادةً أن يوثقَ به في دين الله، ويكونَ بين الله وبين عباده» (4). _________ (1) أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 282)، و «المدخل» (511)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 276)، و «الفقيه والمتفقه» (1/ 151)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ 3). (2) من رواية الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وغيرهما. انظر: «تاريخ بغداد» (11/ 6)، و «تاريخ دمشق» (13/ 95، 51/ 409). (3) أخرجه البيهقي في «الشعب» (15/ 158)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 366)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (131). (4) «تاريخ الإسلام» (5/ 208). ورُوِي آخره مرفوعًا في حديثٍ لا يصح. انظر: «الميزان» (2/ 605).

(1/471)


وقال حمزة بن سعيد المصري: لمَّا حَدَّثَ أبو مسلم الكَجِّي (1) أول يومٍ حدَّث قال لابنه: كم فَضَلَ عندنا من أثمان غلَّاتنا؟ قال: ثلاث مئة دينار (2)، قال: فرِّقها على أصحاب الحديث والفقراء شكرًا أنَّ أباك اليوم شَهِدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُبِلَت شهادتُه (3). وفي كتاب «الجليس والأنيس» (4) لأبي الفرج المعافى بن زكريا الجَرِيري: حدثنا محمد بن الحسن (5) بن دُرَيْد: حدثنا أبو حاتم، عن العُتْبي، عن أبيه، قال: ابتنى معاويةُ بالأبطح مجلسًا، فجلس عليه ومعه ابنةُ قَرَظَة (6)، فإذا هو بجماعةٍ على رحالٍ لهم، وإذا شابٌّ منهم قد رفع عقيرتَه يتغنَّى: من يُساجِلْني يُساجِلْ ماجدًا ... يملأُ الدَّلوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ (7) قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر، قال: خلُّوا له الطريق. _________ (1) (ت، ح): «اللخمي». وهو تحريف. وهو الإمام الحافظ، إبراهيم بن عبد الله، صاحب «السنن» (ت: 292). انظر: «السير» (13/ 423). (2) في «السير»، و «تاريخ بغداد» (6/ 122) أنه تصدَّق بعشرة آلاف درهم. (3) أخرجه ابنُ عساكر في «تاريخ دمشق» (53/ 280). وفي «السير» (19/ 277) خبرٌ آخر في هذا المعنى. (4) «الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي» (3/ 181). وهو في «جمهرة نسب قريش» (2/ 788) بإسنادٍ آخر. (5) (ت، ح، ن): «الحسين». تحريف. (6) فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، زوج معاوية. (7) الكَرَب: الحبلُ الذي يُشَدُّ على الدَّلو. «اللسان» (كرب). والبيت للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب.

(1/472)


ثمَّ إذا هو بجماعةٍ فيهم غلامٌ يتغنَّى: بينما يَذْكُرنني أبصرنني ... عند قِيدِ المِيلِ يَسْعَى بي الأغَرّ قلنَ: تعرفنَ الفتى؟ قلنَ: نعم ... قد عرفناهُ، وهل يخفى القمرْ قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: خلُّوا له الطريق، فليذهب. قال: ثمَّ إذا هو بجماعة، وإذا فيهم رجلٌ يُسْأل، يقال [له]: رميتُ قبل أن أحلق؟ وحلقتُ قبل أن أرمي؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحجِّ فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنة قَرَظَة، وقال: هذا وأبيكِ الشَّرف، هذا والله شرفُ الدنيا والآخرة. وقال سفيان بن عيينة: «أرفعُ الناس منزلةً عند الله من كان بين الله وبين عباده؛ وهم الأنبياءُ والعلماء» (1). وقال سهل التُّسْتَري: «من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيءُ الرجلُ فيقول: يا فلان، أيشٍ تقولُ في رجلٍ حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طَلُقَت امرأتُه، ويجيءُ آخر فيقول: حلفتُ بكذا وكذا، فيقول: ليس تَحْنَثُ بهذا القول. وليس هذا إلا لنبيٍّ أو عالم، فاعرِفوا لهم ذلك» (2). الوجه التاسعُ والثلاثون بعد المئة: أنَّ النفوسَ الجاهلةَ التي لا علم عندها قد أُلبِسَت ثوبَ الذلِّ، والإزراءُ عليها والتنقُّصُ بها أسرعُ منه إلى غيرها، وهذا أمرٌ معلومٌ عند الخاصِّ والعام. _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 330). (2) تقدم تخريجه (ص: 331).

(1/473)


قال الأعمش: «إني لأرى الشيخَ لا يروي شيئًا من الحديث فأشتهي أن ألطِمَه» (1). وقال أبو معاوية: سمعتُ الأعمش يقول: «من لم يطلب الحديث أشتهي أن أصفَعه بنعلي» (2). وقال عَثَّامُ بن علي: سمعت الأعمش يقول: إذا رأيتَ الشيخَ لم يقرأ القرآنَ ولم يكتب الحديثَ فاصفَعْ له (3)، فإنه من شيوخ القَمْراء. قال أبو صالح (4): قلت لأبي جعفر: ما شيوخُ القَمْراء؟ قال: شيوخٌ دُهْرِيُّون (5)، يجتمعون في ليالي القمر يتذاكرون أيام الناس، ولا يُحْسِنُ أحدُهم أن يتوضَّأ للصلاة (6). وكان سفيانُ الثوري إذا رأى الشيخَ لم يكتب الحديثَ قال: «لا جزاك الله خيرًا عن الإسلام» (7). _________ (1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 6). (2) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (319). (3) (ت): «فاصفعه». وكلاهما جائز. والصَّفعُ كلمةٌ مولَّدة، وهو ضربُ القفا بالكفِّ مبسوطةً. انظر بحثًا طريفًا حوله في «موسوعة العذاب» للشالجي (2/ 159 - 216)، وتعليقه على «الفرج بعد الشدة» للتنوخي (3/ 189). (4) الطرسوسي. وشيخه أبو جعفر محمد بن عقبة. من رجال إسناد هذا الخبر. (5) الدُّهريُّ - بضمِّ الدال -: الرجلُ المُسِنُّ. وبفتحها: المُلْحِد. «الصحاح». (6) أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (204)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (142). (7) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 365)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (141)، والهروي في «ذم الكلام» (907)، وغيرهم. والخبر ليس في (د، ق، ت).

(1/474)


وقال المزني: «كان الشافعيُّ إذا رأى شيخًا سأله عن الحديث والفقه، فإن كان عنده شيء، وإلا قال له: لا جزاك الله خيرًا عن نفسك ولا عن الإسلام؛ قد ضيَّعتَ نفسَك وضيَّعتَ الإسلام». وكان بعضُ خلفاء بني العباس يلعبُ بالشِّطرنج، فاستأذن عليه عمُّه، فأذنَ له وغطَّى الرُّقعة، فلما جلس قال له: يا عم، هل قرأتَ القرآن؟ قال: لا، قال: فهل كتبتَ شيئًا من السُّنَّة؟ قال: لا، قال: فهل نظرتَ في الفقه واختلاف الناس؟ قال: لا، قال: فهل نظرتَ في العربية وأيام الناس؟ قال: لا، فقال الخليفة: اكشِف الرُّقعة. ثمَّ أتمَّ اللعب، وزال احتشامُه وحياؤه منه، فقال له مُلاعِبُه: يا أمير المؤمنين تكشفُها ومعنا من تحتشِمُ منه (1)؟! قال: اسكت، فما معنا أحد! (2). وهذا لأنَّ الإنسان إنما يتميزُ عن سائر الحيوان بما خُصَّ به من العلم والعقل والفهم، فإذا عَدِمَ ذلك لم يَبْقَ فيه إلا القَدْرُ المشتركُ بينه وبين سائر الحيوانات، وهو الحيوانيَّةُ البهيميَّة، ومثلُ هذا لا يستحيي منه الناسُ ولا يمتنعون بحضرته وشهوده مما يُسْتَحيى منه مِنْ (3) أولي الفضل والعلم. الوجه الأربعون بعد المئة: أنَّ كلَّ صاحب بضاعةٍ سوى العلم إذا عَلِمَ _________ (1) (ق): «نحتشم منه». والحرف الأول مهمل في (ن، ت، ح). (2) القصة في أمالي يحيى بن الحسين الشجري (2/ 312)، والخليفة فيها سليمان بن عبد الملك. ونسبت للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان ولي عهد خلافة هشام، في «الجليس والأنيس» (4/ 87)، و «عيون الأخبار» (2/ 120)، و «التذكرة الحمدونية» (3/ 293)، و «تاريخ دمشق» (68/ 204)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 65)، وغيرها. (3) «من» ليست في (ت، ق).

(1/475)


أنَّ غيرَ بضاعته خيرٌ منها زَهِدَ في بضاعته ورَغِبَ في الأخرى وودَّ أنها له عِوَض بضاعته، إلا صاحب بضاعة العلم، فإنه ليس يحبُّ أنَّ له بحظِّه منها خَطرًا أصلًا (1). قال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران (2)، فمرَّ بنا رجلٌ من بني الدنيا، فنظرتُ إليه وشُغِلتُ به عما كنتُ فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكَّرتَ فيما أُعطِي هذا الرجلُ من الدنيا. قلت له: نعم. قال: هل أدلُّك على خَلَّة؟ هل لك أن يحوِّل الله إليك ما عنده من المال ويحوِّل إليه ما عندك من العلم، فتعيش أنت غنيًّا جاهلًا ويعيش هو عالمًا فقيرًا؟ فقلت: ما أختارُ أن يحوِّل الله ما عندي من العلم إلى ما عنده. فالعلمُ غنًى بلا مال، وعزٌّ بلا عشيرة، وسلطانٌ بلا رجال. وفي ذلك قيل: العلمُ كنزٌ وذُخْرٌ لا نفادَ له ... نعمَ القرينُ إذا ما صاحبٌ صَحِبا قد يجمعُ المرءُ مالًا ثمَّ يُحْرَمُه ... عمَّا قليلٍ فيلقى الذُّلَّ والحَرَبا وجامعُ العلم مغبوطٌ به أبدًا ... ولا يُحَاذِرُ منه الفَوْتَ والسَّلَبا يا جامع العلم نعمَ الذُّخرتجمعُه ... لا تَعْدِلَنَّ به دُرًّا ولا ذهبا (3) _________ (1) أي: عِوَضًا ومثيلًا. «اللسان» (خطر). واستعمال الخطر بهذا المعنى كثير الورود في كتب المصنف. وانظر التعليق على «طريق الهجرتين» (86). (2) شيخ الحنفية، كان من بحور العلم، لازمه الطحاوي وتفقَّه به (ت: 280). انظر: «السير» (13/ 334). (3) الأبيات لأبي الأسود الدؤلي، في «الفقيه والمتفقه» (1/ 75)، و «نور القبس» (12)، و «تاريخ دمشق» (25/ 210)، وغيرها. وهي في مستدرك ديوانه (383). وتنسبُ لغيره.

(1/476)


الوجه الحادي والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه أخبر أنه يجزي المحسنين أجرَهم بأحسن ما كانوا يعملون، وأخبر سبحانه أنه يجزي على الإحسان بالعلم؛ وهذا يدلُّ على أنه من أحسن الجزاء. * أما المقامُ الأول؛ ففي قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35]، وهذا يتناول الجزاءين الدنيويَّ والأخروي. * وأما المقامُ الثاني؛ ففي قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]. قال الحسن: «من أحسنَ عبادةَ الله في شبيبته لقَّاهُ الله الحكمةَ في شَيبته (1)، وذلك قولُه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}» (2). ومن هذا قولُ بعض العلماء: «تقولُ الحكمة: من التمسني فلم يجدني فليعمل بأحسن ما يعلم، وليترك أقبحَ ما يعلم، فإذا فعل ذلك فأنا معه وإن لم يعرفني» (3). _________ (1) (د): «شيبه». «عيون الأخبار»: «سنه»، تحريف. (ح، ن) و «المجالسة»: «عند كبر سنه». «الموضح»: «في بلوغ أشده». والأثر ساقط من (ت). (2) «عيون الأخبار» (2/ 122). وهو مصدر المصنف. وأخرجه الخطيب في «الموضح» (2/ 253)، والدينوري في «المجالسة» (315، 2597). (3) «عيون الأخبار» (2/ 122). وأخرج نحوه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 251) عن يونس بن ميسرة.

(1/477)


الوجهُ الثاني والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه جعل العلمَ للقلوب كالمطر للأرض، فكما أنه لا حياة للأرض إلا بالمطر، فكذلك لا حياة للقلب إلا بالعلم. وفي «الموطأ» (1): «قال لقمانُ لابنه: يا بنيَّ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإنَّ الله تعالى يحيي القلوبَ الميتة بنُور الحكمة كما يحيي (2) الأرضَ بوابل المطر». ولهذا، الأرض إنما تحتاجُ إلى المطر في بعض الأوقات، فإذا تتابعَ عليها احتاجت إلى انقطاعه، وأما العلمُ فيحتاجُ إليه القلبُ بعدد الأنفاس، ولا يزيدُه كثرتُه إلا صلاحًا ونفعًا. الوجهُ الثالث والأربعون بعد المئة: أنَّ كثيرًا من الأخلاق التي لا تُحْمَدُ في الشخص، بل يُذَمُّ عليها، تُحْمَدُ في طلب العلم؛ كالمَلَق (3)، وترك الاستحياء، والذُّل، والتردُّد إلى أبواب العلماء، ونحوها. قال ابن قتيبة (4): جاء في الحديث: «ليس المَلَقُ من أخلاق المؤمنين _________ (1) «موطأ مالك» (2859) بلاغًا. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1387)، والبيهقي في «المدخل» (445)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 438، 439) من طرقٍ عن جماعةٍ من السلف. ورُوِي مرفوعًا عند الطبراني في «الكبير» (8/ 235) من حديث أبي أمامة بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. (2) مهملة في (د). (ت، ن) وبعض المصادر: «تحيى». (3) وهو الزيادةُ في التودُّد والتلطُّف فوق ما ينبغي. «اللسان» (ملق). (4) «عيون الأخبار» (2/ 122).

(1/478)


إلا في طلب العلم» (1). وهذا أُثِر عن بعض السلف. وقال ابن عباس: «ذللتُ طالبًا فعززتُ مطلوبًا» (2). وقال: «وجدتُ عامَّة علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحيِّ من الأنصار، إن كنتُ لأَقِيلُ عند باب أحدهم، ولو شئتُ أُذِنَ لي، ولكن أبتغي بذلك طِيبَ نفسه» (3). وقال أبو إسحاق: قال علي: «كلماتٌ لو رَحَلتُم المَطِيَّ فيهنَّ لأنضَيتُموهُنَّ (4) قبل أن تدركوا مثلهنَّ: لا يرجونَّ عبد إلا ربَّه، ولا يخافنَّ إلا ذنبَه، ولا يستحي من لا يعلمُ أن يتعلَّم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلمُ أن يقول: الله أعلم (5)، واعلموا أنَّ منزلةَ الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأسُ ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبرُ ذهب _________ (1) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/ 298)، والبيهقي في «الشعب» (8/ 159)، وغيرهما من حديث معاذ بن جبل بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (436). ورُوِي من وجوهٍ أخرى لا يصحُّ منها شيء. انظر: «السلسلة الضعيفة» (380، 381). (2) «عيون الأخبار» (2/ 122). وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (1635). وهو في «الجامع» لابن عبد البر (1/ 474)، وغيره. (3) «عيون الأخبار» (2/ 122). وأخرجه أبو خيثمة في «العلم» (133)، والدارمي (567)، والبيهقي في «المدخل» (674)، وغيرهم بإسنادٍ حسن. (4) أتعبتموهنَّ وأهزلتموهن. وتحرَّفت على أنحاء. «ح»: «لأنقيتموهن». (ت): «لأنطيتموهن». (ط): «لأفنيتموهن». «عيون الأخبار»: «لا تصيبوهن». (5) (ت، ن، ح): «لا أعلم». والمثبت من (د، ق) و «عيون الأخبار».

(1/479)


الإيمان» (1). ومن كلام بعض العلماء: «لا ينالُ العلمَ مستحيٍ ولا متكبِّر» (2)؛ هذا يمنعُه حياؤه من التعلُّم، وهذا يمنعُه كِبْرُه. وإنما حُمِدَت هذه الأخلاقُ في طلب العلم لأنها طريقٌ إلى تحصيله، فكانت من كمال الرجل ومُفْضِيةً إلى كماله. ومِنْ كلام الحسن: «من استتر عن طلب العلم بالحياء لَبِسَ للجهل سربالَه، فقطِّعوا سرابيلَ الحياء؛ فإنه من رَقَّ وجهُه رَقَّ علمُه» (3). وقال الخليل: «منزلةُ الجهل بين الحياء والأنَفَة» (4). ومن كلام عليٍّ رضي الله تعالى عنه: «قُرِنت الهيبةُ بالخيبة، والحياءُ بالحرمان» (5). _________ (1) «عيون الأخبار» (2/ 119). وأخرجه ابن أبي شيبة في «لإيمان» (130)، و «المصنف» (13/ 283)، ومعمر في «الجامع» (11/ 469)، وابن أبي عمر في «الإيمان» (19)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 75)، وغيرهم من طرقٍ بعضها حسن. (2) علَّقه البخاري في «الصحيح» (1/ 43) عن مجاهد، ووصله أبو نعيم في «الحلية» (3/ 287)، والبيهقي في «المدخل» (410)، وغيرهم. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 220) عن أبي العالية. (3) «عيون الأخبار» (2/ 123). وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (1636). وهو في «العقد» (2/ 415)، وغيره. (4) «عيون الأخبار» (2/ 123). (5) «عيون الأخبار» (2/ 123). وهو في «نهج البلاغة» (4/ 6)، و «أمالي القالي» (2/ 94)، و «تاريخ دمشق» (51/ 264)، وغيرها.

(1/480)


وقال إبراهيمُ لمنصور (1): «سل مسألةَ الحمقى، واحفَظ حِفظَ الأكياس» (2). وكذلك سؤالُ الناس هو عيبٌ ونقصٌ في الرجل وذِلَّةٌ تنافي المروءة، إلا في العلم، فإنه عينُ كماله ومروءته وعزِّه، كما قال بعض أهل العلم: «خيرُ خصال الرجل السؤالُ عن العلم» (3). وقيل: «إذا جلستَ إلى عالمٍ فسَلْ تفقُّهًا لا تعنُّتًا» (4). وقال رؤبة بن العجَّاج: أتيتُ النسَّابةَ البكري (5)، فقال: من أنت؟ قلت: أنا ابن العجَّاج، قال: قصَّرتَ وعرَّفت، لعلَّك كقومٍ إن سكتُّ لم يسألوني، وإن تكلَّمتُ لم يَعُوا عنِّي؟ قلت: أرجو أن لا أكون كذلك، قال: ما أعداءُ المروءة؟ قلت: تُخْبِرُني، قال: بنو عمِّ السُّوء؛ إن رأوا حسنًا ستروه، وإن رأوا سيِّئًا أذاعوه. ثمَّ قال: إنَّ للعلم آفةً ونكدًا وهُجْنة؛ فآفتُه نسيانُه، ونكَدُه الكذبُ فيه، وهُجْنتُه نشرُه عند غير أهله (6). _________ (1) إبراهيمُ هو النخعي، ومنصورُ ابن المعتمر. (2) «عيون الأخبار» (2/ 122). وهو في «جمهرة الأمثال» (1/ 79)، وغيره. (3) «عيون الأخبار» (2/ 123). (4) «عيون الأخبار» (2/ 123). وهو في «العقد» (2/ 224)، وغيره. (5) دَغْفَل بن حنظلة بن زيد، عالمٌ بالنَّسب، يقال: له صحبة (ت: 70). انظر: «الإصابة» (2/ 380)، و «تهذيب الكمال» (8/ 486). (6) «عيون الأخبار» (2/ 118). وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 180)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 386)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 449)، وغيرهم.

(1/481)


وأنشدَ ابنُ الأعرابي (1): ما أقربَ الأشياءَ حين يَسُوقُها ... قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ فسَلِ الفقيهَ تكن فقيهًا مثله ... من يَسْعَ في علمٍ بِذُلٍّ يَمْهَرِ فتدبَّر العلمَ الذي تُعنى (2) به ... لا خيرَ في علمٍ بغير تدبُّرِ ولقد يَجِدُّ المرءُ (3) وهو مُقَصِّرٌ ... ويخيبُ جَدُّ المرء غير مُقَصِّرِ ذَهَبَ الرجالُ المقتدى بفِعَالهم ... والمنكِرون لكلِّ أمرٍ منكرِ وبقيتُ في خَلْفٍ يُزيِّنُ بعضُهم ... بعضًا لِيَدْفَعَ مُعْوِرٌ (4) عن مُعْوِر وللعلم ستُّ مراتب (5): أولها: حُسْنُ السؤال. الثانية: حُسْنُ الإنصات والاستماع. _________ (1) «عيون الأخبار» (2/ 123). والأبيات الأربعة الأولى في «لباب الآداب» (361) دون نسبة. والأول والأخيران في «بهجة المجالس» (1/ 182، 801) لعبدالله بن المبارك، وللحسن الأصفهاني في «إرشاد الأريب» (875). والأخيران لأبي الأسود الدؤلي في «إرشاد الأريب» (1473)، ومستدرك ديوانه (397)، ولمرة بن عمرو الخزاعي في «معجم الشعراء» (295)، وللحكم بن عبدل الأسدي في «المؤتلف والمختلف» (161)، وللمرار بن حمويه الهمداني في «التدوين» (4/ 83). والأول ــ وحده ــ لعبد الله بن يزيد الهلالي في «حماسة البحتري» (246). (2) في الأصول: «تفتي». والمثبت من «عيون الأخبار» و «لباب الآداب»، وهو أشبه بالصواب. (3) أي: يكون ذا حظوةٍ ورزق. من الجَدِّ. (4) قبيحُ السِّيرة، كأنه بادي العورة. (5) أصلها في «عيون الأخبار» (2/ 122). وتصرَّف فيها المصنف.

(1/482)


الثالثة: حُسْنُ الفهم. الرابعة: الحفظ. الخامسة: التعليم. السادسة ــ وهي ثمرتُه ــ: وهي العملُ به ومراعاةُ حدوده. فمن الناس من يُحْرَمُه لعدم حُسْن سؤاله؛ إمَّا أنه لا يسألُ بحال، أو يسألُ عن شيءٍ وغيرُه أهمُّ إليه منه؛ كمن يسألُ عن فُضوله التي لا يضرُّ جهلُه بها، ويدعُ ما لا غنى له عن معرفته. وهذه حالُ كثيرٍ من الجهَّال المتعالِمين (1). ومن الناس من يُحْرَمُه لسوء إنصاته، فيكونُ الكلامُ والمماراةُ آثَر عنده من حُسْن الاستماع (2). وهذه آفةٌ كامنةٌ (3) في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علمًا ولو كان حَسَنَ الفهم. ذكر ابنُ عبد البر (4) عن بعض السَّلف أنه قال: «من كان حسنَ الفهم رديءَ الاستماع لم يَقُمْ خيرُه بشرِّه». وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب «العلل» له (5) قال: «كان عروةُ بن _________ (1) (ح، ن): «المتعلمين». (2) (ح، ن): «آثر عنده وأحب إليه من الإنصات». (3) (ق، د): «كاينة». (4) في «جامع بيان العلم» (1/ 448) عن أنس بن أبي شيخ. وهو بليغٌ كاتب، قتله الرشيد سنة 187 على الزندقة. انظر: «لسان الميزان» (1/ 468). (5) (1/ 186)، والأشبه أنه للإمام أحمد من رواية ابنه عبد الله. وأخرجه أحمد أيضًا في «فضائل الصحابة» (1869)، وأخرجه عنه ــ من غير طريق عبد الله ــ الخطيبُ في «الجامع» (1/ 317).

(1/483)


الزبير (1) يحبُّ مُمَاراةَ ابنَ عباس فكان يَخْزُنُ علمَه عنه، وكان عبيدُ الله بن عبد الله بن عتبة يَلْطُفُ له في السؤال فيَغُرُّه بالعلم غَرًّا (2)». وقال ابن جريج: «لم أستخرج العلمَ الذي استخرجتُ من عطاء إلا برفقي به» (3). وقال بعضُ السَّلف: «إذا جالستَ العالم فكن على أن تسمع أحرصَ منك على أن تقول» (4). وقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. فتأمَّل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم، وكيف تفتحُ مراعاتُها للعبد أبوابَ العلم والهدى، وكيف ينغلقُ بابُ العلم عنه من إهمالها وعدم _________ (1) كذا في الأصول. وهو وهم. وإنما هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، كما في «العلل» والمصادر السابقة. وقد كان يماري ابنَ عباس، فحُرِم بذلك علمًا كثيرًا. انظر: «الطبقات» لابن سعد (5/ 250)، و «التمهيد» (7/ 60، 61)، و «تهذيب الكمال» (19/ 75)، وغيرها. وصحَّ عنه أنه كان يقول: «لو رفقتُ بابن عباس لأصبتُ منه علمًا كثيرًا». أخرجه الدارمي (412، 568) وغيره. (2) غَرَّ الطائرُ فرخَه: أطعمه بفمه. «اللسان» (غرر) و (زقق). والعبارة مهملة في (ق، ت، د)، وتحرفت في (ط) وكثير من المصادر، وهي مقتبسةٌ من حديثٍ مرفوع لا يصحُّ إسناده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغرُّ عليًّا بالعلم غرًّا، أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (1153)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (42/ 170). (3) أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 423، 519). (4) «الجامع» لابن عبد البر (1/ 521)، و «الأمالي» للقالي (2/ 188).

(1/484)


مراعاتها؛ فإنه سبحانه ذكر أنَّ آياته المتلوَّة المسموعة والمرئيَّة المشهودة إنما تكونُ تذكرةً لمن كان له قلب؛ فإنَّ من عَدِمَ القلبَ الواعي عن الله لم ينتفع بكلِّ آيةٍ تمرُّ عليه ولو مرَّت به كلُّ آية، ومرورُ الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورِها على من لا بصر له، فإذا كان له قلبٌ كان بمنزلة البصير إذا مرَّت به المرئيَّات فإنه يراها. ولكنَّ صاحبَ القلب لا ينتفعُ بقلبه إلا بأمرين: * أحدهما: أن يُحْضِرَه ويُشْهِدَه لما يُلقى إليه؛ فإذا كان غائبًا عنه مسافرًا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفعُ به. * فإذا أَحْضَرَه وأَشْهَدَه لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغي بكلِّيَّته إلى ما يُوعَظُ به ويُرْشَدُ إليه. وها هنا ثلاثةُ أمور: أحدها: سلامةُ القلب وصحتُه وقبولُه. الثاني: إحضارُه وجَمْعُه ومنعُه من الشُّرود والتفرُّق. الثالث: إلقاءُ السمع وإصغاؤه والإقبالُ على الذكر (1). فذكرَ اللهُ تعالى الأمورَ الثلاثة في هذه الآية. قال ابن عطية (2): «القلبُ هنا عبارةٌ عن العقل؛ إذ هو محلُّه، والمعنى: لمن كان له قلبٌ واعٍ ينتفعُ به». قال: «وقال الشِّبلي: قلبٌ حاضرٌ مع الله لا يغفلُ عنه طرفةَ عين. _________ (1) (ح، ن): «المذكر». وهي محتملة. (2) في «المحرر الوجيز» (13/ 568).

(1/485)


وقولُه: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} معناه: صَرَف سمعَه إلى هذه الأنباء الواعظة، وأثبته في سمعه (1)، فذلك إلقاءٌ له عليها، ومنه قولُه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، أي: أثبتُّها عليك. وقولُه: {وَهُوَ شَهِيدٌ} قال بعضُ المتأوِّلين: معناه: وهو شاهدٌ (2) مقبلٌ على الأمر غير معرضٍ عنه ولا مفكِّرٍ في غير ما يسمع». قال: «وقال قتادة: هي إشارةٌ إلى أهل الكتاب. فكأنه قال: إنَّ هذه العِبَر لتذكرةٌ لمن له فهمٌ فتدبَّرَ الأمر، أو لمن سمعها من أهل الكتاب فشهدَ بصحَّتها لعلمه بها من كتاب التوراة (3) وسائر كتب بني إسرائيل». قال: «فـ {شَهِيدٌ} على التأويل الأول من المشاهدة، وعلى التأويل الثاني من الشهادة». وقال الزجَّاج (4): «معنى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} من صَرَف قلبَه إلى التفهُّم، ألا ترى أنَّ قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] أنهم لم يستمعوا استماعَ متفهِّمٍ مسترشدٍ، فجُعِلوا بمنزلة من لم يسمع، كما قال الشاعر: * أصَمُّ عمَّا ساءه سميعُ * (5) _________ (1) كذا في الأصول. وفي مطبوعة التفسير: «وانتبه في سماعها»، تحريف. وفي الطبعة المغربية (15/ 189): «وأثبته في سماعها». (2) في مطبوعتي التفسير: «وهو مشاهِد». وهو أصوب؛ لما سيأتي. (3) (ت، د، ح، ن): «كتابه التوراة». (4) في «معاني القرآن» (5/ 48). (5) شطرٌ يجري مجرى الأمثال، في «أسرار البلاغة» (79)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (1450)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 140)، وغيرها دون نسبة. وتحرَّفت في (د، ت، ق) «ساءه» إلى «شاءه».

(1/486)


ومعنى {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}: استَمَع ولم يَشْغَل قلبَه بغير ما يستمع، والعربُ تقول: ألقِ إليَّ سمعَك، أي: استمِعْ منِّي. {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: قلبُه فيما يسمع». قال: «وجاء في التفسير (1) أنه يعني به أهلَ الكتاب الذين عندهم صفةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فالمعنى: أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ أنَّ صفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كتابه». وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة، وذكرَ أنَّ شهيدًا فيه بمعنى شاهد، أي: مُخْبِر. وقال صاحب «الكشاف» (2): «{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} واعٍ؛ لأنَّ من لا يعي قلبُه فكأنه لا قلب له. وإلقاءُ السمع: الإصغاء. {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: حاضرٌ بفطنته؛ لأنَّ من لا يُحْضِرُ ذهنَه فكأنه غائب. أو هو مؤمنٌ شاهدٌ على صحته وأنه وحيٌ من الله. أو هو (3) بعضُ الشهداء في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. وعن قتادة: وهو شاهدٌ على صدقه من أهل الكتاب؛ لوجود نعته عنده». _________ (1) أي: التفسير المأثور. ولعله يريد أثر قتادة. وقد روى الزجاجُ تفسير الإمام أحمد عن ابنه عبد الله إجازةً، كما في «معاني القرآن» (4/ 8)، وذكر في (4/ 166) أن أكثر ما روى في كتابه من التفسير فهو من كتاب التفسير للإمام أحمد. (2) (4/ 391). (3) في الأصول: «وهو». والمثبت من «الكشاف»، وهو الصواب.

(1/487)


فلم يُختَلف في أنَّ المراد بالقلب القلبُ الواعي، وأنَّ المرادَ بإلقاء السمع إصغاؤه وإقبالُه على الذكر (1)، وتفريغُ سمعه له. واختلف في الشهيد على أربعة أقوال: أحدها: أنه من المشاهدة، وهي الحضور. وهذا أصحُّ الأقوال، ولا يليقُ بالآية غيرُه. الثاني: أنه شهيدٌ من الشهادة (2). وفيه على هذا ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنه شاهدٌ على صحَّته بما معه من الإيمان. الثاني: أنه شاهدٌ من الشهداء على الناس يوم القيامة. الثالث: أنها شهادةٌ من الله عنده على صحَّة نبوَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما عَلِمَه من الكتب المنزَّلة. والصوابُ القولُ الأول؛ فإنَّ قولَه: {وَهُوَ شَهِيدٌ} جملةٌ حاليَّة، والواو فيها واو الحال، أي: ألقى السمعَ في هذه الحال. وهذا يقتضي أن يكون حالَ إلقائه السمعَ شهيدًا، وهذا من (3) المشاهدة والحضور. ولو كان المرادُ به الشهادةَ في الآخرة أو في الدنيا لَمَا كان لتقييدها بإلقاء السمع معنى؛ إذ يصيرُ الكلام: إنَّ في ذلك لآيةً لمن كان له قلبٌ _________ (1) (د، ح، ن): «المذكر». (2) (ق): «من المشاهدة». وهو تحريف. (3) (د، ن): «وهذا هو من». (ق): «وهذا أهون».

(1/488)


أو ألقى السمعَ حال كونه شاهدًا بما معه في التوراة، أو حال كونه شهيدًا يوم القيامة. ولا ريب أنَّ هذا ليس هو المراد بالآية. وأيضًا؛ فالآيةُ عامَّةٌ في كلِّ من له قلبٌ أو ألقى السمع، فكيف يُدَّعى تخصيصُها بمؤمني أهل الكتاب الذين عندهم شهادةٌ من كتبهم على صفة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! وأيضًا؛ فالسورةُ مكيَّة، والخطابُ فيها لا يجوزُ أن يختصَّ بأهل الكتاب، ولا سيما مثلُ هذا الخطاب الذي عُلِّق فيه حصولُ مضمون الآية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع، فكيف يقال: هي في أهل الكتاب؟! فإن قيل: المختصُّ بهم قولُه: {وَهُوَ شَهِيدٌ}؛ فهذا أفسدُ وأفسد؛ لأنَّ قوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} يرجعُ الضميرُ فيه إلى جملة من تقدَّم، وهو: من له قلبٌ أو ألقى السمع، فكيف يُدَّعى عَوْدُه إلى شيءٍ غايتُه أن يكون بعض المذكور أوَّلًا، ولا دلالةَ في اللفظ عليه؟! فهذا في غاية الفساد (1). وأيضًا؛ فإنَّ المشهودَ به محذوف، ولا دلالة في اللفظ عليه، فلو كان المرادُ به: وهو شاهدٌ بكذا، لذكر المشهودَ به؛ إذ ليس في اللفظ ما يدلُّ عليه، وهذا بخلاف ما إذا جُعِلَ من الشُّهود ــ وهو الحضور ــ فإنه لا يقتضي مفعولًا مشهودًا به، فيتمُّ الكلامُ بذكره وحده. وأيضًا؛ فإنَّ الآيةَ تضمنَّت تقسيمًا وترديدًا بين قسمين: أحدهما: من كان له قلب. _________ (1) «فهذا في غاية الفساد» ليست في (ت، ح، ن).

(1/489)


والثاني: من ألقى السمعَ وحَضَرَ بقلبه ولم يَغِب، فهو حاضرُ القلب شاهِدُه لا غائبُه. وهذا ــ والله أعلم ــ سرُّ الإتيان بـ {أَوْ} دون الواو؛ لأنَّ المنتفِعَ بالآيات من الناس نوعان: أحدهما: ذو القلب الواعي الزَّكيِّ الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه، ولا يحتاجُ أن يَسْتَجْلِبَ قلبَه ويُحْضِرَه ويجمعه من مواضع شَتاته، بل قلبُه واعٍ زكيٌّ قابلٌ للهدى غير معرضٍ عنه؛ فهذا لا يحتاجُ إلا إلى وصول الهدى إليه فقط؛ لكمال استعداده وصحَّة فطرته، فإذا جاءه الهدى سارع قلبُه إلى قبوله، كأنه كان مكتوبًا فيه، فهو قد أدركه مجملًا ثمَّ جاء الهدى بتفصيل ما شهدَ قلبُه بصحَّته مجملًا. وهذه حالُ أكمل الخلق استجابةً لدعوة الرسل، كما هي حالُ الصِّدِّيق الأكبر رضي الله عنه. النوع الثاني: من ليس له هذا الاستعدادُ والقبول؛ فإذا وردَ عليه الهدى أصغى إليه بسمعه، وأحضَرَ قلبَه وجَمَعَ فكرتَه عليه، وعلم صحَّته وحُسْنَه بنظره واستدلاله. وهذه طريقةُ أكثر المستجيبين، ولهم نُوِّعَ ضربُ الأمثال، وإقامةُ الحُجَج، وذِكْرُ المعارضات والأجوبة عنها. والأوَّلون: هم الذين يُدْعَوْنَ بالحكمة، وهؤلاء: يُدْعَوْنَ بالموعظة الحسنة. فهؤلاء نوعا المُستجيبين. وأمَّا المعارضون الدافعون للحقِّ (1)، فنوعان: نوعٌ يُدْعَوْنَ بالمجادلة بالتي هي أحسن، فإن استجابوا وإلا فالمُجَالَدة؛ فهؤلاء لا بدَّ لهم من جدالٍ _________ (1) (ح، ن): «المدعون للحق».

(1/490)


أو جِلَاد (1). ومن تأمَّل دعوةَ القرآن وجدها شاملةً لهؤلاء الأقسام، متناولةً لها كلِّها؛ كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]؛ فهؤلاء المدعوُّون بالكلام. وأمَّا أهلُ الجِلَاد، فهم الذين أمر اللهُ بقتالهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدِّينُ كلُّه لله. وأمَّا من فسَّر الآيةَ بأنَّ المرادَ بـ {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} هو المستغني بفطرته عن علم المنطق، وهو المؤيَّدُ بقوَّةٍ قُدسيَّة ينالُ بها الحدَّ الأوسط بسرعة؛ فهو لكمال فطرته مُسْتَغْنٍ عن مراعاة أوضاع المنطق، والمرادَ بمَنْ {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} من ليست له هذه القوَّة؛ فهو محتاجٌ إلى تعلُّم المنطق ليوجبَ له مراعاتُه وإصغاؤه إليه أن لا يزيغ في فكره، وفسَّر قولَه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} أنها القياسُ البرهاني، و {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} القياس الخَطابي، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} القياس الجَدَلي= فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا أحدٍ من أئمَّة التفسير، بل ولا من تفاسير المسلمين، وهو تحريفٌ لكلام الله تعالى، وحملٌ له على اصطلاح المنطقيَّة المبخوسة الحظِّ من العقل والإيمان (2). _________ (1) فالنوع الأول: أهل الجدال. والثاني: أهل الجِلاد. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1276)، و «الفروسية» (83، 84)، و «هداية الحيارى» (21). (2) ذكر هذا التفسير ابنُ رشد في «فصل المقال» (17) [ونقله ابن عرفة في تفسيره (3/ 56) عن كتاب "الاقتصاد" للغزالي، ولم أجده فيه].

(1/491)


وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الإسماعيلية لِمَا يفسِّرونه من القرآن وينزِّلونه على مذاهبهم الباطلة، وكذلك تفسيرُ الجهمية والمعتزلة والرافضة للآيات التي ينزِّلونها على أقوالهم الباطلة (1) والقرآن بريءٌ من ذلك كلِّه، منزَّهٌ عن هذه الأباطيل والهذيانات. وقد ذكرنا بطلانَ ما فسَّر به المنطقيُّون هذه الآية التي نحن فيها والآية الأخرى في موضعٍ آخر من وجوهٍ متعدَّدة، وبيَّنَّا بطلانَه عقلًا وشرعًا ولغةً وعُرفًا، وأنه يتعالى كلامُ الله عن حمله على ذلك (2). وبالله التوفيق. والمقصودُ بيانُ حرمان العلم من هذه الوجوه الستة: أحدها: تركُ السؤال. الثاني: سوءُ الإنصات وعدمُ إلقاء السمع. الثالث: سوءُ الفهم. الرابع: عدمُ الحفظ. الخامس: عدمُ نشره وتعليمه؛ فإنَّ من خَزَنَ علمَه ولم ينشره ولم يعلِّمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه؛ جزاءً من جنس عمله، وهذا أمرٌ يشهدُ به الحسُّ والوجود. _________ (1) من قوله: «وكذلك تفسير الجهمية» إلى هنا ليس في (ح، ن). (2) انظر: «الرد على المنطقيين» (441، 444 - 447، 467 - 469)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 42، 44 - 46، 19/ 164). ولم أجد الموضع الذي أشار إليه المصنف هنا في كتبه، وقد أشار إليه كذلك في «مدارج السالكين» (1/ 446).

(1/492)


السادس: عدمُ العمل به؛ فإنَّ العملَ به يوجبُ تذكُّرَه وتدبُّرَه ومراعاتَه والنظرَ فيه، فإذا أهملَ العملَ به نسيه. قال بعضُ السلف: «كنا نستعينُ على حفظ العلم بالعمل به» (1). وقال بعضُ السَّلف أيضًا: «العلم يهتفُ بالعمل، فإن أجابه حَلَّ وإلا ارتحل». فالعملُ به من أعظم أسباب حفظه وثباته، وتضييعُ العمل به إضاعةٌ له؛ فما استُدِرَّ العلمُ ولا استُجلِبَ بمثل العمل، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]. وأما قولُه تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، فليس من هذا الباب، بل هما جملتان مستقلَّتان: طلبيَّة؛ وهي الأمرُ بالتقوى، وخبريَّة؛ وهي قولُه تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، أي: والله يعلِّمُكم ما تتقون. وليست جوابًا للأمر، ولو أريد بها الجزاءُ لأُتِيَ بها مجزومةً مجرَّدةً عن الواو، فكان يقول: «واتقوا الله يعلِّمْكم»، أو: «إن تتقوه يعلِّمْكم»، كما قال: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، فتدبَّره (2). الوجه الرابع والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه نفى التسويةَ بين العالِم وغيره، كما نفى التسويةَ بين الخبيث والطيِّب، وبين الأعمى والبصير، _________ (1) تقدم تخريجه والذي يليه (ص: 275). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 177)، و «الموافقات» (5/ 283)، و «البرهان» للزركشي (4/ 143).

(1/493)


وبين النُّور والظُّلمة، وبين الظِّلِّ والحَرُور، وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وبين الأبكم العاجز الذي لا يَقْدِرُ على شيءٍ ومن يأمُرُ بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم، وبين المؤمنين والكفار، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتَّقين والفجَّار. فهذه عشرةُ مواضع في القرآن (1) نفى فيها التسويةَ بين هؤلاء الأصناف، وهذا يدلُّ على أنَّ منزلة العالِم من الجاهل كمنزلة النُّور من الظُّلمة، والظِّلِّ من الحَرُور، والطيِّب من الخبيث، ومنزلة كلِّ واحدٍ من هذه الأصناف مع مُقابِله. وهذا كافٍ في شرف العلم وأهله. بل إذا تأمَّلتَ هذه الأصنافَ كلَّها وجدتَ نفيَ التسوية بينها راجعًا إلى العلم ومُوجَبه؛ فبه وقع التفضيلُ (2) وانتفت المساواة. الوجه الخامس والأربعون بعد المئة: أنَّ سليمان لما تواعَد (3) الهدهدَ بأن يعذِّبه عذابًا شديدًا أو يذبحه، إنما نجا منه بالعلم، وأقْدَمَ عليه في خطابه _________ (1) وهي ــ على التوالي ــ: الزمر: 9، المائدة: 100، فاطر: 19، 20، 21، الحشر: 20، النحل: 76، السجدة: 18، ص: 28. (2) (ح، ن): «التفصيل». (3) (ق، ح، ن): «توعد». والمثبت من (د، ت). أي: تهدَّده. وهي لغةٌ فصيحةٌ أخلَّت بها المعاجم، ووردت كثيرًا في كلام الصدر الأول فمن بعدهم. انظر: «موطأ مالك» (1009)، و «مصنف عبد الرزاق» (10788، 17103)، و «أخبار مكة» للفاكهي (1659، 2162)، و «سنن البيهقي» (7/ 209)، و «عون المعبود» (3/ 99 - الطبعة الهندية)، وغيرها. وكذلك وقعت بخط المصنف في «طريق الهجرتين» (630).

(1/494)


له بقوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، وهذا الخطابُ إنما جرَّأه عليه العلم، وإلا فالهدهدُ مع ضعفه لا يتمكَّنُ في خطابه لسليمان مع قوَّته بمثل هذا الخطاب لولا سلطانُ العلم. ومن هذا الحكايةُ المشهورة أنَّ بعض أهل العلم سئل عن مسألة، فقال: لا أعلمُها، فقال أحدُ تلامذته: أنا أعلمُ هذه المسألة، فغضبَ الأستاذُ وهَمَّ به، فقال له: أيها الأستاذ، لستَ أعلمَ من سليمان بن داود ولو بلغتَ في العلم ما بلغت، ولستُ أنا أجهلَ من الهدهد، وقد قال لسليمان: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}؛ فلم يعتب عليه ولم يعنِّفه (1). الوجه السادس والأربعون بعد المئة: أنَّ من نال شيئًا من شرف الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم. وتأمَّل ما حصلَ لآدم من تمييزه (2) على الملائكة واعترافهم له بتعليم الله له الأسماءَ كلَّها، ثمَّ ما حصلَ له من تدارك المصيبة والتعويض عن سكنى الجنة بما هو خيرٌ له منها= بعلم الكلمات التي تلقَّاها من ربِّه. وما حصلَ ليوسف من التمكين في الأرض والعزَّة والعظمة بعلمه بعبارة تلك الرُّؤيا، ثمَّ عِلْمه بوجوه استخراج أخيه من إخوته بما يقرُّون به ويحكمون هم به، حتى آل الأمرُ إلى ما آل إليه من العزِّ والعاقبة الحميدة وكمال الحال التي توصَّل إليها بالعلم، كما أشار إليه سبحانه في قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ _________ (1) انظر: «البصائر والذخائر» (5/ 134)، و «ثمار القلوب» (2/ 706). (2) (د، ت، ح، ن): «تميزه».

(1/495)


كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، جاء في تفسيرها: «نرفعُ درجاتِ من نشاءُ بالعلم، كما رفعنا درجةَ يوسف على إخوته بالعلم» (1). وقال في إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]؛ فهذه رفعةٌ بعلم الحجَّة، والأولُ رفعةٌ بعلم السِّياسة. وكذلك ما حصلَ للخَضِر بسبب علمه من تَلْمَذَةِ كليم الرحمن له (2)، وتلطُّفه معه في السؤال، حتى قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. وكذلك ما حصلَ لسليمان من عِلْم منطق الطَّير حتى وصلَ إلى مُلْك سبأ، وقَهَرَ مَلِكتَهم، واحتوى على سرير مُلْكها، ودخولِها (3) تحت طاعته، ولذلك قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]. وكذلك ما حصلَ لداود من عِلْم نَسْج الدُّروع من الوقاية من سلاح الأعداء، وعدَّدَ سبحانه هذه النِّعمة بهذا العلم على عباده (4)، فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]. _________ (1) انظر: «الدر المنثور» (4/ 27)، و «فتح القدير» (3/ 43). (2) (ت، ح، ن): «تلميذه كليم الرحمن له». (3) (ن): «وأدخلها». وفي (د، ت، ق): «ودخولهم». وهي محتملة. (4) أي: أحصاها وعرَّفهم قدرها. واستعمال (عدَّد) للمفرد في مثل هذا السياق يقع في كتب المصنف. انظر: «الصواعق المرسلة» (776).

(1/496)


وكذلك ما حصلَ للمسيح من علم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ما رفعه اللهُ به إليه وفضَّله وكرَّمه. وكذلك ما حصلَ لسيِّد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - من العلم الذي ذكَّره (1) اللهُ به نعمَه عليه (2)؛ فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. الوجه السابعُ والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه أثنى على إبراهيم خليله بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ} [النحل: 120 - 121]. فهذه أربعةُ أنواعٍ من الثناء: افتتحها بأنه أمَّة. والأمَّةُ هو القدوة الذي يُؤتمُّ به؛ قال ابن مسعود: «والأمَّةُ المعلِّم للخير» (3)، وهي فُعْلةٌ من الائتمام، كقُدوة، وهو الذي يقتدى به. والفرقُ بين الأمَّة والإمام من وجهين: أحدهما: أنَّ «الإمام» كلُّ ما يؤتمُّ به، سواءٌ كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سمِّي الطريقُ: إمامًا، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) _________ (1) (ت): «وكذلك ما حصل لسيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكر». (2) (ق): «نعمة عليه». (3) علَّقه البخاري في «الصحيح» (5/ 223)، ووصله الطبراني في «الكبير» (10/ 59)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 230)، وغيرهم من طرق. وصححه الحاكم في «المستدرك» (3/ 272)، وابن حجر في «تغليق التعليق» (4/ 238).

(1/497)


فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 78 - 79]، أي: بطريقٍ واضحٍ لا يخفى على السالك. ولا يسمَّى الطريقُ: أمَّة. الثاني: أنَّ «الأمَّة» فيه زيادةُ معنى؛ وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل بحيث بقي فيها فردًا وحده، فهو الجامعُ لخصالٍ تفرَّقت في غيره، فكأنه بايَنَ غيره باجتماعها فيه وتفرُّقها أو عدمها في غيره. ولفظُ «الأمَّة» يُشْعِرُ بهذا المعنى؛ لِمَا فيه من الميم المُضعَّفة الدَّالَّة على الضمِّ بمخرجها وتكريرها، وكذلك ضَمُّ أوله؛ فإنَّ الضَّمة من الواو، ومخرجُها ينضمُّ عند النطق بها، وأتى بالتاء الدَّالَّة على الوَحْدَة كالغُرفة واللُّقمة، ومنه الحديث: «إنَّ زيد بن عمرو بن نفيلٍ يُبعثُ يوم القيامة أمَّةً وحده» (1). فالضمُّ والاجتماعُ لازمٌ لمعنى «الأمَّة»، ومنه سمِّيت «الأمَّة» التي هي آحادُ الأمم؛ لأنهم الناسُ المجتمعون على دينٍ واحدٍ أو في عصرٍ واحد (2). الثاني: قوله: {قَانِتًا لِلَّهِ}، قال ابن مسعود: «القانت المطيع» (3). والقنوتُ يفسَّر بأشياء كلها ترجعُ إلى دوام الطاعة. _________ (1) رُوِي من وجوهٍ كثيرة. من أحسنها ما أخرجه أبو يعلى في «المسند» (973)، وحسنه الهيثمي في «المجمع» (9/ 417) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه. وانظر: مسانيد أحمد (1/ 189)، والبزار (1331)، والطيالسي (231)، و «البداية والنهاية» (3/ 326). (2) (ق، د): «على دين واحد وفي عصر واحد أو على دين واحد». (3) جزءٌ من الأثر السابق في تفسير «الأمة».

(1/498)


الثالث: قوله: {حَنِيفًا}، والحنيفُ المُقْبِلُ على الله. ويلزمُ هذا المعنى ميلُه عمَّا سواه، فالمَيْلُ لازمُ معنى الحَنَف، لا أنه موضوعُه لغةً (1). الرابع: قولُه: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}، والشكرُ للنِّعم مبنيٌّ على ثلاثة أركان: * الإقرارُ بالنعمة. * وإضافتُها إلى المُنْعِم بها. * وصرفُها في مرضاته، والعملُ فيها بما يُحِبُّ. فلا يكونُ العبدُ شاكرًا إلا بهذه الأشياء الثلاثة (2). والمقصودُ أنه مدح خليلَه بأربع صفاتٍ كلها ترجعُ إلى العلم، والعمل بمُوجَبه، وتعليمه ونشره؛ فعاد الكمالُ كلُّه إلى العلم والعمل بمُوجَبه ودعوة الخلق إليه. الوجه الثامن والأربعون بعد المئة: قولُه سبحانه عن المسيح أنه قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 30 - 31]. قال سفيانُ بن عيينة: «{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: معلِّمًا للخير» (3). _________ (1) انظر: «جلاء الأفهام» (306). (2) انظر: «مدارج السالكين» (2/ 254)، و «الوابل الصيب» (5، 6). (3) أخرجه الطبري (18/ 191).

(1/499)


وهذا يدلُّ على أنَّ تعليمَ الرجل الخيرَ هو البركةُ التي جعلها اللهُ فيه (1)؛ فإنَّ البركة حصولُ الخير ونماؤه ودوامه. وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الأنبياء، وتعليمه. ولهذا يسمِّي سبحانه كتابَه: مباركًا، كما قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29]، ووصف رسولَه بأنه مبارك، كما في قول المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]؛ فبركةُ كتابه ورسوله هي سببُ ما يحصلُ بهما (2) من العلم والهدى والدعوة إلى الله. الوجه التاسع والأربعون بعد المئة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»، رواه مسلم في «الصحيح» (3). وهذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعِظَم ثمرته؛ فإنَّ ثوابَه يصلُ إلى الرجل بعد موته ما دام يُنتَفعُ به، فكأنه حيٌّ لم ينقطع عملُه، مع ما له من حياة الذِّكر والثناء؛ فجريانُ أجره عليه إذا انقطع عن الناس ثوابُ أعمالهم حياةٌ ثانية. وخصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشياء الثلاثة بوصول الثواب منها إلى الميِّت _________ (1) انظر: «الوابل الصيب» (99، 177)، و «جلاء الأفهام» (179)، و «رسالة ابن القيم إلى بعض إخوانه» (3). (2) (ح): «هي بسبب ما يحصل بهما». (3) (1631).

(1/500)


لأنه سببٌ لحصولها، والعبدُ إذا باشر السببَ الذي يتعلَّقُ به الأمرُ والنهيُ ترتَّب (1) عليه مسبَّبه وإن كان خارجًا عن سعيه وكسبه؛ فلما كان هو السببَ في حصول هذا الولد الصالح والصدقة الجارية والعلم النافع جرى عليه ثوابُه وأجرُه لتسبُّبه فيه؛ فالعبدُ إنما يثابُ على ما باشَره أو على ما تولَّد منه (2). وقد ذكر تعالى هذين الأصلَيْن في كتابه في سورة براءة، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فهذه الأمورُ كلُّها متولِّداتٌ عن أفعالهم، غير مقدورةٍ لهم، وإنما المقدورُ لهم أسبابُها التي باشروها. ثمَّ قال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ فالنفقةُ وقَطْعُ الوادي أفعالٌ مقدورةٌ لهم. وقال في القسم الأول: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}؛ لأن المتولِّدَ حاصلٌ عن شيئين: أفعالهم وغيرها، فليست أفعالُهم سببًا مستقلًّا في حصول المتولِّد، بل هي جزءٌ من أجزاء السبب، فيُكتَبُ لهم من ذلك ما كان مقابلًا لأفعالهم. وأيضًا؛ فإنَّ الظَّمأ والنَّصَب وغَيْظَ العدوِّ ليس من أفعالهم، فلا يُكتَبُ _________ (1) (ح، ن): «يترتب». (2) انظر: «التقريب لعلوم ابن القيم» (172).

(1/501)


لهم نفسُه، ولكن لمَّا تولَّد عن أفعالهم كُتِبَ لهم به عملٌ صالح. وأما القسمُ الآخر، وهو الأفعالُ المقدورةُ نفسُها، كالإنفاق وقَطْع الوادي، فهو عملٌ صالح، فيكتبُ (1) لهم نفسُه؛ إذ هو مقدورٌ لهم حاصلٌ بإرادتهم وقدرتهم. فعاد الثوابُ إلى الأسباب المقدورة والمتولِّد عنها، وبالله التوفيق. الوجه الخمسون بعد المئة: ما ذكره ابن عبد البر (2) عن عبد الله بن داود (3)، قال: «إذا كان يوم القيامة عَزَل اللهُ تبارك وتعالى العلماءَ عن الحساب، فيقول: ادخلوا الجنةَ على ما كان فيكم، إني لم أجعل علمي فيكم إلا لخيرٍ أردتُه بكم». قال ابن عبد البر: وزاد غيرُه في هذا الخبر: «إنَّ الله يحبِسُ العلماء يوم القيامة في زُمرةٍ واحدة حتى يقضي بين الناس ويدخلَ أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النار، ثم يدعو العلماء فيقول: يا معشر العلماء، إني لم أضع حكمتي فيكم وأنا أريدُ أن أعذِّبكم، قد علمتُ أنكم تَخْلِطون من المعاصي ما يَخْلِطُ غيرُكم، فسترتُها عليكم وغفرتُها لكم، وإنما كنتُ أُعْبَدُ بفُتْياكم وتعليمكم عبادي، ادخلوا الجنةَ بغير حساب». ثمَّ قال: «لا معطي لما منع اللهُ ولا مانع لما أعطى». قال: ورُوِي نحو هذا المعنى بإسنادٍ متصلٍ مرفوع (4). _________ (1) (ت، ق): «فكتب». (2) في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 214). (3) الخُرَيبي الهمداني، الحافظ الزاهد (ت: 213). «السير» (9/ 346). (4) ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري، وتقدم تخريجُه وبيانُ ضعفه (ص: 343).

(1/502)


وقد روى حرب الكرماني في «مسائله» نحوه مرفوعًا (1). وقال إبراهيم: بلغني أنه إذا كان يومُ القيامة توضعُ حسناتُ الرَّجُل في كفَّةٍ وسيئاتُه في الكفَّة الأخرى، فتَشِيلُ حسناتُه (2)، فإذا يئس فظنَّ أنها النارُ جاء شيءٌ مثلُ السحاب حتى يقعَ مع حسناته، فتَشِيلُ سيئاتُه. قال: فيقال له: أتعرفُ هذا مِنْ عملك؟ فيقول: لا. فيقال: هذا ما علَّمتَ الناس من الخير فَعُمِلَ به من بعدك (3). فإن قيل: فقواعدُ الشرع تقتضي أن يُسامَحَ الجاهلُ بما لا يُسامَحُ به العالِم، وأنه يُغْفَرُ له ما لا يُغْفَرُ للعالِم؛ فإنَّ حُجَّةَ الله عليه أقْومُ منها على الجاهل، وعلمُه بقُبْح المعصية وبُغْض الله لها وعقوبته عليها أعظمُ من علم الجاهل، ونعمةُ الله عليه بما أودعه من العلم أعظمُ من نعمته على الجاهل. وقد دلَّت الشريعةُ وحكمُ الله على أنَّ من حُبِيَ بالإنعام، وخُصَّ بالفضل والإكرام، ثمَّ أسامَ نفسَه مع هَمَل الشهوات، فأرتَعَها في مراتع الهَلَكات، وتجرَّأ على انتهاك الحرمات، واستخفَّ بالتَّبِعات والسيئات= أنه يقابلُ من الانتقام والعَتْب بما لا يقابَلُ به من ليس في مرتبته. وعلى هذا جاء قولُه تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30]. ولهذا كان حدُّ الحُرِّ ضعفي حدِّ العبد في الزِّنا والقذف وشُرْب الخمر؛ _________ (1) تقدم (ص: 343). (2) أي ترتفع كفَّتها، لخفَّتها. (3) أخرجه ابن عبد البر (1/ 209، 211). وإبراهيم هو النخعي.

(1/503)


لكمال النعمة على الحُر. ومما يدلُّ على هذا الحديثُ المشهورُ الذي ثبَّته أبو نعيمٍ وغيرُه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالِمٌ لم ينفعه الله بعلمه» (1). وقال بعضُ السَّلف: «يُغفَرُ للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يُغفَرَ للعالِم ذنب» (2). وقال بعضُهم أيضًا: «إنَّ الله يعافي الجهَّال ما لا يعافي العلماء» (3). فالجواب: أنَّ هذا الذي ذكرتموه حقٌّ لا ريب فيه، ولكنَّ من قواعد الشرع والحكمة أيضًا أنَّ من كَثُرَت حسناتُه وعَظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر، فإنه يُحْتَمَلُ له ما لا يُحْتَمَلُ لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره؛ فإنَّ المعصية خَبَث، والماءُ إذا بلغ قلَّتين لم يحمل الخَبَث (4)، بخلاف الماء القليل فإنه يَحْمِلُ أدنى خَبَثٍ يقعُ فيه. _________ (1) تقدم تخريجه وبيانُ ضعفه (ص: 319). (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 100)، والبيهقي في «المدخل» (563) عن الفضيل بن عياض. (3) أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (605)، والخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (80)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 222)، والبيهقي في «المدخل» (565)، والضياء في «المختارة» (1609)، وغيرهم من حديث أنس بن مالك مرفوعًا. قال عبد الله بن أحمد - في رواية أبي نعيم والبيهقي والضياء -: «قال أبي: هو حديثٌ منكر. ما حدَّثني به إلا مَرَّة». (4) كما في الحديث المشهور الذي أخرجه أصحاب السنن، وفي سنده خلافٌ كثير، والأشبهُ صحته مرفوعًا، وعليه جمهور المحدثين. انظر: «البدر المنير» (1/ 404)، و «الإحسان» للحويني (2/ 13). وللعلائي جزءٌ في تصحيحه والكلام عليه.

(1/504)


ومن هذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «وما يدريك لعلَّ الله اطلعَ على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» (1). وهذا هو المانعُ له - صلى الله عليه وسلم - من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكبَ مثل ذلك الذَّنب العظيم (2)، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه شهدَ بدرًا؛ فدلَّ على أنَّ مقتضي عقوبته قائمٌ لكنْ منع من ترتُّب أثره (3) عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السَّقْطةُ العظيمةُ مغتفرةً في جنب ما له من الحسنات (4). ولمَّا حضَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة، فأخرج عثمانُ رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال: «ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِل بعدها» (5). وقال لطلحة لمَّا تطأطأ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حتى صعدَ على ظهره إلى الصخرة: «أَوْجَبَ طلحة» (6). _________ (1) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494) من حديث علي. (2) انظر: «بدائع الفوائد» (1536)، و «زاد المعاد» (3/ 115، 422، 426، 427). (3) (ت): «من ترتبه». (4) (ق، د، ت): «الصدقات». (5) أخرجه الترمذي (3701)، وأحمد (5/ 63)، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 587)، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن سمرة. قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه»، وصححه الحاكم (3/ 102) ولم يتعقبه الذهبي. ورُوِي من وجوهٍ أخرى تزيدُه قوَّة. (6) أخرجه الترمذي (3738)، وأحمد (1/ 165)، والبزار (972)، وغيرهما من حديث الزبير بن العوام. قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب»، وصححه ابن حبان (6979)، والحاكم (3/ 373) ولم يتعقبه الذهبي.

(1/505)


وهذا موسى كليمُ الرحمن عز وجل: ألقى الألواحَ التي فيها كلامُ الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض (1) حتى تكسَّرت، ولَطَمَ عينَ ملَك الموت ففَقأها (2)، وعاتبَ ربَّه ليلة الإسراء في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «شابٌّ بُعِثَ بعدي يدخلُ الجنةَ من أمَّته أكثرُ ممن يدخلُها من أمَّتي» (3)، وأخذَ بلحية هارون وجَرَّه إليه (4) وهو نبيُّ الله، وكلُّ هذا لم يُنْقِص من قَدْرِه شيئًا عند ربِّه، وربُّه تعالى يُكْرِمُه ويحبُّه؛ فإنَّ الأمرَ الذي قام به موسى، والعدوَّ الذي بَرَز له، والصبرَ الذي صَبَره، والأذى الذي أُوذِيَه في الله= أمرٌ لا تؤثِّرُ [فيه] أمثالُ هذه الأمور، ولا يُغَبَّرُ به في وجهه (5)، ولا يخفضُ منزلتَه (6). وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس مستقرٌّ في فِطَرهم: أنَّ من له ألوفٌ من الحسنات فإنه يُسامَحُ بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليَخْتَلِجُ داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه، فيغلبُ داعي الشكر لداعي _________ (1) كما في سورة الأعراف: 150. (2) أخرجه البخاري (1334)، ومسلم (2372). (3) أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164). (4) كما في سورة طه: 94. (5) «به» ليست في (ت، ح، ن)، فيكون الفعل للمعلوم، أي: لا يعيبه ولا ينقص من قدره. كما قال البديع في «المقامات» (123): «غبَّر في وجهه الفقر»، أي: أثَّر فيه. ويجوز أن يكون من قولهم: «غبَّر في وجه فلان» إذا سبقه. «الأساس» و «التاج» (غبر). أي: أن هذا الأمر ليس مما يؤخِّر رتبة موسى ومنزلته من ربه. (6) انظر: «الرد على البكري» (2/ 718)، و «مدارج السالكين» (2/ 456)، وما سيأتي (ص: 851).

(1/506)


العقوبة، كما قيل: وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءت محاسنُه بألفِ شفيع (1) وقال آخر (2): فإنْ يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدًا ... فأفعالُه اللَّائي سَرَرْنَ كثيرُ والله سبحانه يوازنُ يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فأيهما غَلَبَ كان التأثيرُ له، فيَفعَلُ مع أهل (3) الحسنات الكثيرة الذين آثروا محابَّه ومَراضِيه وغلَبَتْهم دواعي طبعهم أحيانًا من العفو والمسامحة ما لا يفعلُه مع غيرهم. وأيضًا؛ فإنَّ العالمَ إذا زلَّ فإنه يُحْسِنُ إسراعَ الفيئة (4) وتداركَ الفارِط ومداواةَ الجرح، فهو كالطبيب الحاذق البصير بالمرض وأسبابه وعلاجه، فإنَّ زوالَه على يده أسرعُ من زواله على يد الجاهل. وأيضًا؛ فإنَّ معه من معرفته بأمر الله، وتصديقه بوعده ووعيده، وخشيته _________ (1) كثير الورود في المصادر دون نسبة، وأقدمها: «لطائف الإشارات» للقشيري (ت: 465) (1/ 34)، وضمَّنه أبو البركات التكريتي (ت: 599) في أبيات، في ترجمته من «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» (7). (2) وهو المتنبي في ديوانه (241) من أبياتٍ فائيةٍ رقيقة. والروايةُ فيه وفي جمهرة المصادر: «ألوف». (3) (ن، ح): «بأهل». (4) كُتِبَ في (ق) بخطٍّ دقيق بين السطرين ــ تفسيرًا للكلمة ــ: «الرجوع».

(1/507)


منه، وإزرائه على نفسه بارتكابه (1)، وإيمانه (2) بأنَّ الله حرَّمه، وأنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ويأخذُ به، إلى غير ذلك من الأمور المحبوبة للربِّ= ما يَغْمُرُ الذنب، ويُضْعِفُ اقتضاءه، ويزيلُ أثرَه، بخلاف الجاهل بذلك أو أكثره، فإنه ليس معه إلا ظلمةُ الخطيئة وقُبْحُها وآثارُها المُرْدِية، فلا سواءٌ (3) هذا وهذا. وهذا فصلُ الخطاب في هذا الموضع، وبه يتبيَّنُ أنَّ الأمرين حق، وأنه لا منافاة بينهما، وأنَّ كلَّ واحدٍ من العالم والجاهل إنما زاد قبحُ الذنب منه على الآخر بسبب جهله، وتجرُّد خطيئته عمَّا يقاومها، ويُضْعِفُ تأثيرَها، ويزيلُ أثرها؛ فعاد القبحُ في الموضعين إلى الجهل وما يستلزمُه، وقلَّتُه وضعفُه إلى العلم وما يستلزمُه؛ وهذا دليلٌ ظاهرٌ على شرف العلم وفضله، وبالله التوفيق. الوجه الحادي والخمسون بعد المئة: أن العالِم المشتغلَ بالعلم والتعليم لا يزالُ في عبادة، فنفسُ تعلُّمه وتعليمه عبادة. قال ابن مسعود: «لا يزالُ الفقيهُ يصلِّي». قالوا: وكيف يصلي؟ قال: «ذِكرُ الله على قلبه ولسانه». ذكره ابنُ عبد البر (4). وفي حديث معاذٍ مرفوعًا وموقوفًا: «تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشية، وطلبَه عبادة، ومذاكرتَه تسبيح»، وقد تقدَّم (5)، والصوابُ أنه موقوف. _________ (1) أي: الذنب. (2) (ت): «وعلمه». (3) كذا في الأصول، وهو فصيح. وغيِّرت في (ط) إلى: «فلا يستوي». (4) في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 233) معلَّقًا. (5) (ص: 337).

(1/508)


وذكر ابنُ عبد البر (1) عن معاذٍ مرفوعًا: «لأنْ تَغدُو فتتعلَّمَ بابًا من أبواب العلم خيرٌ لك من أن تصلِّي مئة ركعة»، وهذا لا يثبتُ رفعُه. وقال ابنُ وهب: كنتُ عند مالك بن أنس، فحانت صلاةُ الظُّهر أو العصر وأنا أقرأ عليه وأنظرُ في العلم بين يديه، فجمعتُ كتبي وقمتُ لأركع، فقال لي مالك: ما هذا؟ فقلت: أقومُ إلى الصلاة، فقال: إنَّ هذا لعجب! ما الذي قمتَ إليه أفضلَ من الذي كنتَ فيه إذا صحَّت في النيَّة (2). وقال الربيع: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «طلبُ العلم أفضلُ من الصلاة النافلة» (3). وقال سفيانُ الثوري: «ما مِنْ عملٍ أفضلُ من طلب العلم إذا صحَّت فيه النيَّة». وقال رجلٌ للمعافى بن عمران (4): أيما أحبُّ إليك؛ أقومُ أصلِّي الليلَ كلَّه أو أكتبُ الحديث؟ فقال: «حديثٌ تكتبه أحبُّ إليَّ من قيامك من أول الليل إلى آخره» (5). _________ (1) في «الجامع» (1/ 120)، وابن ماجه (219)، وابن شاهين في «شرح مذاهب أهل السنة» (54) ــ كلُّهم عن أبي ذر، ولم أجده عن معاذ ــ بإسنادٍ فيه ضعف. وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 16). (2) تقدم الكلام عليه (ص: 334). (3) تقدم تخريج قول الشافعي والثوري (ص: 332). (4) أبو مسعود الأزدي، الحافظ، ياقوتة العلماء، من أئمة العلم والعمل (ت: 185). انظر: «السير» (9/ 80). (5) أخرجه ابن شاهين في «شرح مذاهب أهل السنة» (26)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (184)، وغيرهما.

(1/509)


وقال أيضًا: «كتابةُ حديثٍ واحدٍ أحبُّ إليَّ من قيام ليلة» (1). وقال ابن عباس: «تذاكرُ العلم بعض ليلةٍ أحبُّ إليَّ من إحيائها» (2). وفي «مسائل إسحاق بن منصور» (3): قلتُ لأحمد بن حنبل: قولُه: «تذاكرُ بعض ليلةٍ أحبُّ إليَّ من إحيائها»، أيَّ علمٍ أراد؟ قال: هو العلمُ الذي ينتفعُ به الناسُ في أمر دينهم. قلت: في الوضوء والصلاة والصوم والحجِّ والطلاق ونحو هذا؟ قال: نعم. قال إسحاق: وقال لي إسحاق بن راهويه: هو كما قال أحمد. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لأنْ أجْلِسَ ساعةً فأفْقَهَ في ديني أحبُّ إليَّ من إحياء ليلةٍ إلى الصباح» (4). وذكر ابنُ عبد البر (5) من حديث أبي هريرة يرفعُه: «لكلِّ شيءٍ عِماد، وعِمادُ هذا الدِّين الفقه، وما عبد اللهُ بشيءٍ أفضل من فقهٍ في الدِّين» الحديث، وقد تقدم. وقال محمد بن علي الباقر: «عالمٌ يُنْتفَعُ بعلمه أفضلُ من ألف عابد» (6). _________ (1) أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 120). (2) تقدم تخريجه (ص: 339). (3) (3309، 3310)، وتقدم طرفٌ منه (ص: 339). (4) تقدم تخريجه (ص: 186). (5) في «الجامع» (1/ 127) معلَّقًا. وتقدم تخريجه (ص: 186). (6) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 183)، وعلَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 131).

(1/510)


وقال أيضًا: «روايةُ الحديث وبثُّه في الناس أفضلُ من عبادة ألف عابد» (1). ولمَّا كان طلبُ العلم والبحثُ عنه وكتابتُه والتفتيشُ عليه من عمل القلب والجوارح كان من أفضل الأعمال، ومنزلتُه من عمل الجوارح كمنزلة أعمال القلب من الإخلاص والتوكُّل والمحبة والإنابة والخشية والرِّضا ونحوها من الأعمال الظاهرة. فإن قيل: فالعلمُ إنما هو وسيلةٌ إلى العمل ومرادٌ له، والعملُ هو الغاية، ومعلومٌ أنَّ الغايةَ أشرفُ من الوسيلة، فكيف تُفَضَّلُ الوسائلُ على غاياتها؟ قيل: كلٌّ من العلم والعمل ينقسمُ قسمين: منه ما يكونُ وسيلة، ومنه ما يكونُ غاية. فليس العلمُ كلُّه وسيلةً مرادةً لغيرها؛ فإنَّ العلمَ بالله وأسمائه وصفاته هو أشرفُ العلوم على الإطلاق، وهو مطلوبٌ لنفسه مرادٌ لذاته. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]؛ فقد أخبر سبحانه أنه خلقَ السموات والأرض ونزَّل الأمرَ بينهنَّ ليَعْلَم عبادُه أنه بكلِّ شيءٍ عليم، وعلى كلِّ شيءٍ قدير؛ فهذا العلمُ هو غايةُ الخلق المطلوبة. وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمَّد: 19]؛ فالعلمُ بوحدانيَّته تعالى وأنه لا إله إلا هو مطلوبٌ لذاته، وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لا بدَّ معه من عبادته وحده لا شريك له؛ فهما أمران مطلوبان لأنفسهما: أن يُعْرَفَ _________ (1) علَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 132) عن جعفر بن محمد.

(1/511)


الربُّ تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن يُعْبَد بمُوجَبها ومقتضاها؛ فكما أنَّ عبادتَه مطلوبةٌ مرادةٌ لذاتها، فكذلك العلمُ به ومعرفتُه. وأيضًا؛ فإنَّ العلمَ من أفضل أنواع العبادات ــ كما تقدَّم تقريره ــ؛ فهو متضمِّنٌ للغاية والوسيلة. وقولُكم: «إنَّ العمل غاية»، إمَّا أن تريدوا به العملَ الذي يدخلُ فيه عملُ القلب والجوارح، أو العملَ المختصَّ بالجوارح فقط. فإن أريدَ الأول، فهو حق، وهو يدلُّ على أنَّ العلمَ غايةٌ مطلوبة؛ لأنه من أعمال القلب ــ كما تقدم ــ. وإن أريدَ به الثاني ــ وهو عملُ الجوارح فقط ــ، فليس بصحيح؛ فإنَّ أعمالَ القلوب مقصودةٌ ومرادةٌ لذاتها، بل في الحقيقة أعمالُ الجوارح وسيلةٌ مرادةٌ لغيرها؛ فإنَّ الثوابَ والعقابَ والمدحَ والذمَّ وتوابعَها هو للقلب أصلًا وللجوارح تبعًا، وكذلك الأعمالُ المقصودُ بها أوَّلًا صلاحُ القلب واستقامتُه وعبوديتُه لربِّه ومليكه، وجُعِلَت أعمالُ الجوارح تابعةً لهذا المقصود مرادةً له، وإن كان كثيرًا (1) منها يرادُ (2) لأجل المصلحة المترتِّبة عليه، فمن أجلِّها: صلاحُ القلب وزكاؤه وطهارتُه واستقامتُه. فعُلِمَ أنَّ الأعمال منها غايةٌ ومنها وسيلة، وأنَّ العلمَ كذلك. وأيضًا؛ فالعلمُ الذي هو وسيلةٌ إلى العمل فقط إذا تجرَّدَ عن العمل لم ينتفع به صاحبُه؛ فالعملُ أشرفُ منه. _________ (1) كذا في الأصول، بالنصب. (2) (ن): «مرادا».

(1/512)


وأما العلمُ المقصودُ الذي تنشأ ثمرتُه المطلوبةُ منه من نفسه فهذا لا يقال: إنَّ العمل المجرَّد أشرفُ منه. فكيف يكونُ مجرَّدُ العبادة البدنيَّة أفضلَ من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وأمره، ومن العلم بأعمال القلوب، وآفاتِ النفوس، والطرقِ التي تُفسِدُ الأعمالَ وتمنعُ وصولها من القلب إلى الله، والمسافاتِ التي بين الأعمال والقلب وبين القلب والربِّ تعالى وبم تُقْطَعُ تلك المسافات، إلى غير ذلك من علم الإيمان وما يقوِّيه وما يُضْعِفُه؟! فكيف يقال: إنَّ مجرَّد التعبُّد الظاهر بالجوارح أفضلُ من هذا العلم؟! بل من قام بالأمرين فهو أكمل، وإذا كان في أحدهما فضلٌ ففضلُ هذا العلم خيرٌ مِنْ فضل العبادة، فإذا كان في العبد فَضْلةٌ عن الواجب كان صرفُها إلى العلم الموروث عن الأنبياء أفضلَ من صرفها إلى مجرَّد العبادة. فهذا فصلُ الخطاب في هذه المسألة والله أعلم. الوجه الثاني والخمسون بعد المئة: ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الدنيا لأربعة نفر: * عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي (1) في ماله ربَّه، ويَصِلُ فيه رَحِمَه، ويعلمُ لله فيه حقًّا؛ فهذا بأحسن المنازل عند الله. * ورجلٍ آتاه اللهُ علمًا ولم يُؤْتِه مالًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلان؛ فهو بنيَّته، فهما (2) في الأجر سواء. _________ (1) (ت): «يبغي». (2) (ن، ح): «وهما».

(1/513)


* ورجلٍ آتاه اللهُ مالًا ولم يُؤْتِه علمًا، فهو يَخْبِطُ في ماله، ولا يتقي فيه ربَّه، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَه، ولا يعلمُ لله فيه حقًّا؛ فهذا بأسوأ المنازل عند الله. * ورجلٍ لم يُؤْتِه اللهُ مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان؛ فهو بنيَّته، وهما في الوزر سواء» (1)، حديثٌ صحيح؛ صحَّحه الترمذيُّ والحاكمُ وغيرهما. فقسَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أهلَ الدنيا أربعة أقسام: * خيرُهم من أوتي علمًا ومالًا؛ فهو محسنٌ إلى الناس وإلى نفسه بعلمه وماله. * ويليه في المرتبة من أوتي علمًا ولم يُؤتَ مالًا، وإن كان أجرُهما سواءً فذلك إنما كان بالنيَّة، وإلا فالمنفقُ المتصدِّق فوقه بدرجة الإنفاق والصدقة، والعالِمُ الذي لا مال له إنما ساواه في الأجر بالنيَّة الجازمة المقترنِ بها مقدورُها، وهو القولُ المجرَّد. * الثالث: من أوتي مالًا ولم يَصْرِفه في مصارف الخير (2)، ولم يُؤتَ علمًا؛ فهذا أسوأ الناس منزلةً عند الله؛ لأنَّ مالَه طريقٌ إلى هلاكه، فلو عَدِمَه لكان خيرًا له، فإنه أُعطِيَ ما يتزوَّدُ به إلى الجنة فجعله زادًا له إلى النار. * الرابع: من لم يؤتَ مالًا ولا علمًا، ومِنْ نيَّته أنه لو كان له مالٌ لعمل _________ (1) أخرجه أحمد (4/ 230)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228)، وغيرهم من طرقٍ وقع فيها بعضُ الاختلاف. وقال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيح». ولم أقف عليه في «مستدرك الحاكم». (2) قوله: «ولم يصرفه في مصارف الخير» من (ت).

(1/514)


فيه بمعصية الله؛ فهذا يلي الغنيَّ الجاهل في المرتبة ويساويه في الوِزْر بنيَّته الجازمة المقترن بها مقدورُها، وهو القولُ الذي لم يَقدِر على غيره. فقسَّم السعداءَ قسمين، وجعل العلمَ والعمل بمُوجَبه سببَ سعادتهما، وقسَّم الأشقياءَ قسمين، وجعل الجهلَ وما يترتَّبُ عليه سببَ شقاوتهما؛ فعادت السعادةُ بجملتها إلى العلم ومُوجَبه، والشقاوةُ بجملتها إلى الجهل وثمرته. الوجه الثالث والخمسون بعد المئة: ما ثبتَ عن بعض السَّلف أنه قال: «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستِّين سنة» (1). وسأل رجلٌ أمَّ الدرداء عن أبي الدرداء ــ بعد موته ــ عن عبادته؟ فقالت: كان نهارَه أجمَع في ناحيةٍ يتفكُّر (2). _________ (1) أخرجه أبو الشيخ الأصفهاني في «العظمة» (43)، ــ ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (1627) ــ من حديث أبي هريرة مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وانظر: «السلسة الضعيفة» (173). وأخرج أبو الشيخ (48) عن عمرو بن قيس الملائي قال: «بلغني أن تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عمل دهرٍ من الدهر». (2) في الأصول: «بادية التفكر». والكلمة الأولى مهملة في (د، ق). وهو تحريف عن المثبت. وفي «الإحياء» (4/ 424) وهو مصدر المصنف هنا: «في ناحية البيت يتفكر». وأخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/ 164) عن أم ذرٍّ أنها سئلت السؤال نفسه عن أبي ذر؛ فقالت: «كان النهارَ أجمع خاليًا يتفكر»، وفي مختصره «صفة الصفوة» (1/ 591): «في ناحية يتفكر». وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 703)، وهناد (958)، وابن المبارك (286، 872)، وأحمد (135) جميعُهم في «الزهد»، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 208، 4/ 352)، وأبو الشيخ في «العظمة» (45، 46)، وغيرهم من طرقٍ عن أم الدرداء أنها سئلت: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ فقالت: «التفكُّر». زاد بعضُهم: «والاعتبار».

(1/515)


وقال الحسن: «تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة» (1). وقال الفُضيل: «التفكُّر مرآةٌ تريك حسناتك وسيِّئاتك» (2). وقيل لإبراهيم: إنك تطيلُ الفكرة؟ فقال: «الفكرةُ مخُّ العقل» (3). وكان سفيانُ بن عيينة (4) كثيرًا ما يتمثَّل: إذا المرءُ كانت له فِكرة ... ففي كلِّ شيءٍ له عِبرة (5) وقال الحسنُ في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]، قال: «أمنعُهم التفكُّرَ فيها» (6). _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 507)، وأحمد في «الزهد» (272)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 271). وورد كذلك عن أبي الدرداء. (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 109)، وأبو الشيخ في «العظمة» (13) عن الفضيل عن الحسن البصري. (3) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 109) بلفظ: «مخ العمل». والمذكور هنا لفظ «الإحياء» (4/ 424). وإبراهيم هو ابن أدهم، الإمام الزاهد الثقة (ت: 162). ترجمته في «تاريخ دمشق» (6/ 277)، و «السير» (7/ 387). (4) (ح، ن): «سفيان الثوري». وهو خطأ. (5) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 306). والبيت في «المدهش» (368) دون نسبة. وانظر: «البصائر والذخائر» (9/ 80). (6) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (5/ 1567)، وأبو الشيخ في «العظمة» (11) عن السُّدِّي. وورد نحوه عن ابن عيينة وغيره. وعزو المصنف القول للحسن سهوٌ سببه سياق الكلام في «الإحياء».

(1/516)


وقال بعض العارفين (1): «لو طالعَت قلوبُ المتقينَ بفِكْرها إلى ما قُدِّرَ (2) في حُجُب الغيب من خير الآخرة، لم يَصْفُ لهم في الدنيا عَيْش، ولم تَقَرَّ لهم فيها عين». وقال الحسن (3): «طولُ الوحدة أتمُّ (4) للفكرة، وطولُ الفكرة دليلٌ على طريق الجنة». وقال وهب (5): «ما طالت فكرةُ أحدٍ قطُّ إلا عَلِمَ، وما عَلِمَ امرؤٌ قطُّ إلا عَمِل» (6). وقال عمر بن عبد العزيز: «الفكرةُ في نِعَم الله من أعظم (7) العبادة» (8). وقال عبد الله بن المبارك لبعض أصحابه (9)، وقد رآه مفكِّرًا: أين _________ (1) امرأة كانت تسكن البادية قريبًا من مكة، كما في «إحياء علوم الدين» (4/ 424)، وقال الزبيدي في شرحه (13/ 311): «رواه ابن أبي الدنيا». ولعله في كتاب «التفكر»، ولم يعثر عليه بعد. (2) «الإحياء»: «قد ادُّخِر لها». (3) كذا في الأصول. وفي «الإحياء» (4/ 425)، و «تفسير ابن كثير» (2/ 825): «لقمان». (4) «الإحياء»: «أفهم». «تفسير ابن كثير»: «ألهمُ». (5) وهب بن منبِّه الصنعاني؛ تابعيٌّ ثقة، كثير الرواية عن بني إسرائيل (ت: 114). انظر: «السير» (4/ 544). (6) أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (56). (7) «الإحياء»، و «الحلية»: «أفضل». (8) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 314). (9) «الإحياء»: «لسهل بن علي».

(1/517)


بَلَغْت؟ قال: الصِّراط (1). وقال بِشْر (2): «لو فكَّر الناسُ في عظمة الله ما عصوه» (3). وقال ابنُ عباس: «ركعتان مقتصدتان في تفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلةٍ بلا قلب» (4). وقال أبو سليمان (5): «الفكرُ في الدنيا حجابٌ عن الآخرة، وعقوبةٌ لأهل الوَلاية، والفكرُ في الآخرة يورثُ الحكمةَ ويحيي القلوب» (6). وقال ابنُ عباس: «التفكُّرُ في الخير يدعو إلى العمل به» (7). وقال الحسن: «إنَّ أهلَ العلم (8) لم يزالوا يعودون بالذِّكر على الفكر وبالفكر على الذِّكر، ويُناطِقونَ القلوب، حتى نَطَقَت (9) بالحكمة» (10). _________ (1) عزاه الزبيدي في شرحه (13/ 312) إلى «الحلية»، ولم أره فيه. (2) بشر بن الحارث الحافي، الإمام الرباني، العابد الزاهد (ت: 227). انظر: «السير» (10/ 469). (3) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 337). (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (288، 1147)، ومحمد بن نصر في «قيام الليل» (149 - مختصره)، وأبو الشيخ في «العظمة» (44). (5) الداراني، الإمام الزاهد (ت: 215). انظر: «السير» (10/ 182). (6) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/ 278). (7) عزاه في شرح الإحياء (13/ 313) إلى «التفكر» لابن أبي الدنيا. وانظر: «البصائر والذخائر» (1/ 221). (8) «الإحياء»: «أهل العقل». (9) «الإحياء»: «حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت». (10) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 19)، وابن أبي الدنيا في «التفكر» كما في شرح الإحياء (13/ 313). وبنحوه في «المجالسة» (2672).

(1/518)


ومن كلام الشافعي: «استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة» (1). وهذا (2) لأنَّ الفكر عملُ القلب، والعبادةَ عملُ الجوارح، والقلبُ أشرفُ من الجوارح؛ فكان عملُه أشرفَ من عمل الجوارح. وأيضًا؛ فالتفكُّرُ يُوقِعُ صاحبَه من الإيمان على ما لا يُوقِعُه عليه (3) العملُ المجرَّد؛ فإنَّ التفكُّرَ يوجبُ له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له، وتمييزها (4) في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاومُ تلك الأسبابَ ويدفعُ مُوجَبَها، والتمييز بين ما ينبغي السعيُ في تحصيله وما ينبغي السعيُ في دفع أسبابه، والفرق بين الوهم والخيال المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفُرص بعد إمكانها وبين السبب المانع حقيقةً (5) فيشتغلُ به دون الأول، فما قطعَ العبدَ عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطعٌ أعظمُ من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مَرْكبُها، بل بَحْرُها الذي لا تنفكُّ _________ (1) «الإحياء» (4/ 425)، و «صفة الصفوة» (2/ 253). ونسبه الجاحظ في «البيان والتبين» (1/ 327) إلى قسامة بن زهير. (2) أي: كون تفكر ساعةٍ خيرًا من عبادة ستين سنة. وهو الوجه الثالث والخمسون بعد المئة من أوجه تفضيل العلم وأهله. (3) (د، ت، ق): «ما لا يوقع». (4) (ن، ح): «وتميز مراتبها». (5) (ت، ح، ن): «حقيقته».

(1/519)


سابحةً فيه، وإنما يُقْطَعُ هذا العارضُ بفكرةٍ صحيحةٍ وعزمٍ صادقٍ يميَّزُ به (1) بين الوهم والحقيقة. وكذلك إذا فكَّر في عواقب الأمور وتجاوزَ فكرُه مَبَاديها؛ وَضَعها (2) مواضعَها، وعلم مراتبَها. فإذا وردَ عليه واردُ الذنب والشهوة، فتجاوزَ فكرُه لذَّتَه (3) وفرحَ النفس به إلى سوء عاقبته وما يترتبُ عليه من الألم والحزن الذي لا يقاومُ تلك اللذَّة والفرحة؛ ومن فكَّر في ذلك فإنه لا يكادُ يُقْدِمُ عليه. وكذلك إذا وردَ على قلبه واردُ الراحة والدَّعة والكسل والتقاعُد عن مشقَّة الطَّاعات وتعبها، حتى عبَر بفكره إلى ما يترتبُ عليها من اللذات والخيرات والأفراح التي تنغمرُ (4) تلك الآلام التي في مَبَاديها بالنسبة إلى كمال عواقبها، وكلَّما غاص فكرُه في ذلك اشتدَّ طلبُه لها، وسَهُل عليه معاناتُها، واستقبلها بنشاطٍ وقوَّةٍ وعزيمة. وكذلك إذا فكَّر في منتهى ما يستعبِدُه من المال والجاه والصُّوَر، ونظرَ إلى غاية ذلك بعين فكره، استحيى من عقله ونفسه أن يكون عبدًا لذلك، كما قيل: لو فَكَّرَ العاشقُ في منتهى ... حُسْنِ الذي يَسْبِيه لم يَسْبِهِ (5) _________ (1) (د، ق): «فيه». (2) (ت): «ووضعها». (3) (ق، د): «فكرة لذته». وهو تحريف. (4) (ح، ن): «تغمر». (5) البيت للمتنبي، في ديوانه (573).

(1/520)


وكذلك إذا فكَّر في آخر الأطعمة المُفْتَخَرة (1) التي تفانت عليها نفوسُ أشباه الأنعام، وما يصيرُ أمرُها إليه عند خروجها؛ ارتفعت همَّتُه عن صرفها إلى الاعتناء بها، وجَعْلِها معبودَ قلبه (2) الذي إليه يتوجَّه، وله يرضى ويغضب، ويسعى ويكدح، ويوالي ويعادي؛ كما جاء في «المسند» (3) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ الله جَعَل طعامَ ابن آدم مَثَل الدنيا وإنْ قَزَحَه (4) ومَلَّحَه فإنه يعلمُ إلى ما يصير» أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -؛ فإذا وقع فكرُه على عاقبة ذلك وآخر أمره، وكانت نفسُه حُرَّةً أبيَّة، ربأ بها أن يجعلها عبدًا لما آخرُه أنتنُ شيءٍ وأخبثُه وأفحشُه. فصل (5) إذا عُرِفَ هذا، فالفكرُ هو إحضارُ معرفتين في القلب، ليستثمر (6) منهما معرفة ثالثة. ومثالُ ذلك: إذا أَحْضَرَ في قلبه العاجلةَ وعيشَها ونعيمَها وما يقترنُ به من الآفات وانقطاعه وزواله، ثمَّ أَحْضَرَ في قلبه الآخرةَ ونعيمَها ولذَّتها _________ (1) أي: الفاخرة، من الافتخار. تعبيرٌ مولَّد. (2) (ت): «معبودة قلبه». (3) (5/ 136) من زوائد عبد الله، و «الحلية» لأبي نعيم (1/ 254)، وغيرهما من حديث أبي بن كعب. وصححه ابن حبان (702)، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1245). ورُوِي موقوفًا من وجهٍ أصح. انظر: «المرسل الخفي» (2/ 632). (4) أي: جعل فيه الأقزاح (جمع قِزْح)، وهي التوابل والأبازير. «اللسان». (5) مستفاد من «الإحياء» (4/ 425). (6) (ت): «تستثمر».

(1/521)


ودوامَه وفضلَه على نعيم الدنيا، وجَزَم بهذين العِلمَين= أثمرَ له ذلك علمًا ثالثًا، وهو أنَّ الآخرةَ ونعيمَها الفاضلَ الدائمَ أولى عند كلِّ عاقلٍ بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغَّصة. ثمَّ له في معرفة الآخرة حالتان: إحداهما: أن يكون قد سمع ذلك من غيره، من غير أن يُباشِرَ قلبَه بَرْدُ اليقين به، ولم يُفْضِ قلبُه إلى مُكافَحة (1) حقيقة الآخرة. وهذا حالُ أكثر الناس. فيتجاذبُه داعيان: * أحدهما: داعي العاجلة وإيثارها، وهو أقوى الداعيَيْن؛ لأنه مُشاهَدٌ له محسوس. * وداعي الآخرة، وهو أضعفُ الداعيَيْن عنده؛ لأنه داعٍ عن سماع، لم يُباشِر قلبَه اليقينُ به، ولا كافحَه حقيقتُه العلمية. فإذا تركَ العاجلةَ للآخرة تُرِيه نفسُه بأنه قد تركَ معلومًا لمظنون، أو متحقِّقًا لموهوم، فلسانُ الحال ينادي عليه: لا أدعُ ذَرَّةً مَنْقودةً لدُرَّةٍ موعودة (2). وهذه الآفةُ هي التي منعت النفوسَ من الاستعداد للآخرة وأن تسعى لها سعيَها، وهي مِنْ ضعف العلم بها وتيقُّنها، وإلا فمع الجزم التامِّ الذي لا _________ (1) كافحه مكافحةً وكفاحًا: لقيه مواجهةً. «اللسان» (كفح). (2) انظر: «شرح مقامات الحريري» (5/ 338)، و «الداء والدواء» (79)، و «مدارج السالكين» (3/ 350)، و «عدة الصابرين» (466).

(1/522)


يتخالجُ القلبَ فيه شكٌّ لا يقعُ التهاونُ بها وعدمُ الرغبة فيها. ولهذا لو قُدِّمَ لرجلٍ طعامٌ في غاية الطِّيبة (1) واللذَّة، وهو شديدُ الحاجة، ثمَّ قيل له: إنه مسموم؛ فإنه لا يُقْدِمُ عليه؛ لعلمه بأنَّ سوء ما تجني عاقبةُ تناوله (2) تُرْبِي في المضرة على لذَّة أكله (3)، فما بالُ الإيمان بالآخرة لا يكونُ في قلبه بهذه المنزلة؟! ما ذاك إلا لضعف شجرة العلم والإيمان بها في القلب، وعدم استقرارها فيه. وكذلك إذا كان سائرًا في طريق، فقيل له: إنَّ بها قُطَّاعًا ولصوصًا يقتلون من وجدوه ويأخذون متاعَه؛ فإنه لا يسلكها إلا على أحد وجهين: إمَّا أن لا يصدِّق المُخْبِر، وإمَّا أن يَثِقَ من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم؛ وإلا فمع تصديقه للمُخْبِر تصديقًا لا يتمارى فيه، وعلمه مِنْ نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم، فإنه لا يسلكها. ولو حصلَ له هذان العِلْمان فيما يرتكبُه من إيثار الدنيا وشهواتها لم يُقْدِم على ذلك؛ فعُلِمَ أنَّ إيثاره للعاجلة (4) وتركَ استعداده للآخرة لا يكون قطُّ مع كمال تصديقه وإيمانه أبدًا. الحالة الثانية: أن يتيقَّنَ ويجزمَ جزمًا لا شكَّ فيه بأنَّ له دارًا غير هذه الدار، ومعادًا له خُلِق، وأنَّ هذه الدَّار طريقٌ إلى ذلك المعاد ومنزلٌ من منازل السائرين إليه، ويعلمُ مع ذلك أنها باقية، ونعيمَها وعذابها لا يزول، ولا نسبة _________ (1) كذا في الأصول. وهو صحيح. طاب الشيء يطيب طيبًا وطيبةً. «اللسان». (2) (ت): «عاقبته بتناوله». (3) انظر ما مضى (ص: 242). (4) (ت، ق): «للدنيا». (د): «للآخرة»، وفي الطرَّة: «لعله: الدنيا».

(1/523)


لهذا النعيم والعذاب العاجل إليه إلا كما يُدْخِلُ الرجلُ إصبعَه في اليمِّ ثمَّ ينزعُها، فالذي يَعْلَق بها منه هو كالدنيا بالنسبة إلى الآخرة؛ فيثمرُ له هذا العلمُ إيثارَ الآخرة وطلبها، والاستعدادَ التامَّ لها، وأن يسعى لها سعيها. وهذا يسمَّى: تفكُّرًا، وتذكُّرًا، ونظرًا، وتأمُّلًا، واعتبارًا، وتدبُّرًا، واستبصارًا. وهذه معانٍ متقاربةٌ تجتمعُ في شيءٍ وتفترقُ في آخر. * فيسمَّى: تفكُّرًا؛ لأنه استعمالُ الفكرة (1) في ذلك وإحضارُه (2) عنده. * ويسمَّى: تذكُّرًا؛ لأنه إحضارٌ للعلم الذي يجبُ مراعاتُه بعد ذهوله وغيبته عنه، ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. * ويسمَّى: نظرًا؛ لأنه التفاتٌ بالقلب إلى المنظور فيه. * ويسمَّى: تأمُّلًا؛ لأنه مراجعةٌ للنظر (3) كرَّةً بعد كرَّة، حتى يتجلى له وينكشفَ لقلبه. * ويسمَّى: اعتبارًا، وهو افتعالٌ من العبور؛ لأنه يَعْبُرُ منه إلى غيره، فيعبُر من ذلك الذي قد فكَّر فيه إلى معرفةٍ ثالثة، وهي المقصودُ من الاعتبار. ولهذا يسمَّى: عِبْرة؛ وهي على بناء الحالات، كالجِلْسة والرِّكْبة والقِتْلة، إيذانًا بأنَّ هذا العلم والمعرفة قد صار حالًا لصاحبه يعبُر منه إلى المقصود به، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، _________ (1) (ت): «استعمل الفكر». (2) كذا في الأصول. أي: الفكر. (3) (ت): «النظر». (ح): «إلى النظر».

(1/524)


وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13، النور: 44]. * ويسمَّى: تدبُّرًا؛ لأنه نظرٌ في أدبار الأمور وهي أواخرُها وعواقبُها. ومنه: تدبُّر القول، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وتدبُّرُ الكلام أن ينظرَ في أوَّله وآخره، ثمَّ يعيدَ نظره مرَّةً بعد مرَّة؛ ولهذا جاء على بناء التفعُّل، كالتجرُّع والتفهُّم والتبيُّن. * ويسمَّى: استبصارًا؛ وهو استفعالٌ من التبصُّر، وهو تبيُّنُ الأمر (1) وانكشافُه وتجلِّيه للبصيرة. وكلٌّ من التذكُّر والتفكُّر له فائدةٌ غيرُ فائدة الآخر؛ فالتذكُّر يفيدُ تكرارَ القلب على ما علمه وعرفه ليرسَخ فيه ويثبت، ولا ينمحي فيذهبَ أثرُه من القلب جملة، والتفكُّرُ يفيدُ تكثيرَ العلم واستجلابَ ما ليس حاصلًا عند القلب؛ فالتفكُّرُ يحصِّلُه والتذكُّرُ يحفظُه (2). ولهذا قال الحسن: «ما زال أهلُ العلم يعودون بالتذكُّر على التفكُّر، وبالتفكُّر على التذكُّر، ويُناطِقون القلوب، حتى نَطَقَت بالحكمة» (3). فالتفكُّرُ والتذكُّرُ بِذَارُ العلم، وسَقْيُه مطارحتُه، ومذاكرتُه تلقيحُه، كما _________ (1) (ق، ح): «تبيين الأمر». خطأ. (2) (ق، د): «فالتفكر تحصيلُه والتذكر تحفُّظه». (3) تقدَّم تخريجه قريبًا.

(1/525)


قال بعض السَّلف: «ملاقاةُ الرجال تلقيحٌ لألبابها» (1)؛ فالمذاكرةُ به لِقاحُ العقل. فالخيرُ والسعادةُ في خزانةٍ مفتاحُها التفكُّر؛ فإنه لا بد من تفكُّرٍ وعلمٍ يكونُ نتيجة الفكر (2)، وحالٍ يحدثُ للقلب من ذلك العلم؛ فإنَّ كلَّ من عَلِمَ شيئًا من المحبوب أو المكروه لا بدَّ أن يبقى لقلبه حالةٌ (3) وينصبغَ (4) بصبغةٍ من علمه، وتلك الحالُ توجبُ له إرادة، وتلك الإرادةُ توجبُ وقوعَ العمل. فهاهنا خمسةُ أمور: الفكر، وثمرتُه العلم، وثمرتُهما الحالةُ التي تحدثُ للقلب، وثمرةُ ذلك الإرادة، وثمرتُها العمل. فالفكرُ إذًا هو المبدأ والمفتاحُ للخيرات كلِّها. وهذا يكشفُ لك (5) عن فضل التفكُّر وشرفه، وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له، حتى قيل: «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة» (6). فالفكرُ هو الذي ينقلُ من موت الغفلة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره _________ (1) أخرجه الدينوري في «المجالسة» (1924) عن الأحنف بن قيس. وهو في «بهجة المجالس» (1/ 54)، وغيره. (2) (ق): «التفكر». (3) (د): «حاله». (4) (ت): «لا بد أن يبقى بقلبه وينطبع». (5) ليست في (ق، ت). (6) من كلام السَّري السقطي. ويروى مرفوعًا، ولا يصح. انظر: «المغني عن حمل الأسفار» (1193)، و «المصنوع» (82)، و «السلسة الضعيفة» (173).

(1/526)


إلى المحابِّ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سَعة العلم ورَحْبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصَّمَم والبَكَم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى بَرْد اليقين وثَلَج الصَّدر. وبالجملة؛ فأصلُ كلِّ طاعةٍ إنما هو الفكر. وكذلك أصلُ كلِّ معصيةٍ إنما يحدثُ من جانب الفكرة؛ فإنَّ الشيطانَ يصادفُ أرضَ القلب خاليةً فارغة، فيَبْذُرُ فيها حَبَّ الأفكار الرديَّة، فيتولَّدُ منه الإراداتُ والعُزوم (1)، فيتولَّدُ منها العمل. فإذا صادفَ أرضَ القلب مشغولةً ببَذْر الأفكار النافعة فيما خُلِقَ له وفيما أُمِرَ به وفيما هُيِّاء له وأُعِدَّ له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبَذْره موضعًا، وهذا كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ... فصادفَ قلبًا فارغًا فتمكَّنا (2) فإن قيل: فقد ذكرتم الفكرَ ومنفعته وعِظَمَ تأثيره في الخير والشر، فما متعلَّقُه الذي ينبغي أن يُوقَعَ عليه ويجري فيه؟ فإنه لا يتمُّ المقصودُ منه إلا بذكر متعلَّقه الذي يقعُ الفكرُ فيه، وإلا ففكرٌ في غير (3) متفكَّرٍ فيه محال. _________ (1) جمع عزم. محدثة. (2) البيت ليزيد بن الطثرية في «أخبار أبي تمام» (264)، و «الموازنة» (1/ 69)، وترجمته من «وفيات الأعيان» (6/ 370). ولمجنون بني عامر في ديوانه (219) عن «البيان والتبين» (2/ 42)، و «الحيوان» (1/ 169، 4/ 167)، وغيرهما. ولعمر بن أبي ربيعة في «عيون الأخبار» (3/ 9). (3) (ن): «ففكر بغير».

(1/527)


قيل: مجرى الفكر ومتعلَّقُه أربعةُ أمور: أحدُها: غايةٌ محبوبةٌ مرادةُ الحصول. الثاني: طريقٌ موصلةٌ إلى تلك الغاية. الثالث: مضرَّةٌ مطلوبةُ الإعدام مكروهةُ الحصول. الرابع: الطريقُ المفضي إليها المُوقِعُ عليها. فلا تتجاوزُ أفكارُ العقلاء هذه الأمورَ الأربعة، وأيُّ فكرٍ تخطَّاها فهو من الأفكار الرديَّة والخيالات والأماني الباطلة، كما يُمثِّلُ الفقيرُ المُعْدِمُ نفسَه من أغنى البشر وهو يأخذُ ويعطي ويُنعِمُ ويحرِم، وكما يُمثِّلُ العاجزُ نفسَه من أقوى الملوك وهو يتصرَّفُ في البلاد والرعيَّة، ونظائرُ ذلك من أفكار القلوب الباطوليَّة (1) التي من جنس أفكار السَّكران والمَحْشوش (2) والضعيف العقل. فالأفكارُ الرديَّةُ هي قُوتُ الأنفس الخسيسة (3) التي هي في غاية الدناءة؛ فإنها قد قَنِعَت بالخيال ورضيت بالمُحال، ثمَّ لا تزالُ هذه الأفكارُ تقوى بها وتتزايدُ حتى تُوجِبَ لها آثارًا رديَّةً ووساوسَ وأمراضًا بطيئةَ الزوال. وإذا كان الفكرُ النافعُ لا يخرجُ عن الأقسام الأربعة التي ذكرناها، فله _________ (1) راجع ما تقدم (ص: 110). (2) من الحشيش (وهو نباتٌ مخدِّر)، كقولهم: «مخمور» من الخمر. انظر: «المعجم الكبير» لتيمور (2/ 110). ووقع مثله في «الداء والدواء» (359). (3) (ت): «الخبيثة».

(1/528)


أيضًا محلَّان ومنزلان: أحدهما: هذه الدار، والآخر: دار القرار. * فأبناءُ الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة مِنْ خَلاقٍ عمَّروا بيوتَ أفكارهم بتلك الأقسام الأربعة في هذه الدار، فأثمرت لهم أفكارُهم فيها ما أثمرت، ولكن إذا حَقَّت الحقائق، وبطلت الدنيا، وقامت الآخرة؛ تبيَّن الرابحُ من المَغْبون، وخسر هنالك المبطلون. * وأبناءُ الآخرة الذين خُلِقوا لها عمَّروا بيوتَ أفكارهم على تلك الأقسام الأربعة فيها. ونحن نفصِّلُ ذلك بعون الله وفضله، فنقول: كلُّ طالبٍ لشيءٍ فهو محبٌّ له، مُؤثِرٌ لقُربه، ساعٍ في طريق تحصيله، متوصِّلٌ إليه بجهده، وهذا يوجبُ له تعلُّقَ أفكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته (1) التي يُحَبُّ لأجلها، وتعلُّقها بما ينالُه به من الخير والفرحة والسرور. ففكرُه في حال محبوبه دائرٌ بين الجمال والإجمال (2)، والحُسْن والإحسان، فكلَّما قويت محبَّتُه له ازدادَ هذا الفكرُ وقَوِيَ وتضاعف، حتى يستغرقَ أجزاءَ القلب فلا يبقى فيه فضلٌ لغيره، بل يصيرُ بين الناس بقالبه، وقلبُه كلُّه في حضرة محبوبه. فإن كان هذا المحبوبُ هو المحبوبَ الحقَّ الذي لا تنبغي المحبةُ إلا له، ولا يُحَبُّ غيرُه إلا تبعًا لمحبَّته، فهو أسعدُ المحبِّين به، وقد وضعَ الحبَّ موضعَه، وتهيَّأت نفسُه لكمالها الذي خُلِقَت له الذي لا كمال لها بدونه _________ (1) (ت): «وكمال صفاته». (2) انظر: «المدارج» (3/ 288)، و «القوانين الفقهية» لابن جزي (285).

(1/529)


بوجه. وإن كانت تلك المحبةُ لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازاتُ النفوس (1) بها على حالها، فقد وضعَ المحبةَ في غير موضعها، وظلمَ نفسَه أعظمَ ظلمٍ وأقبحَه، وتهيَّأت بذلك نفسُه لغاية شقائها وألمها. وإذا عُرِفَ هذا عُرِفَ أنَّ تعلُّقَ المحبة بغير الإله الحقِّ هو عينُ شقاء العبد وخسرانه، فأفكارُه المتعلِّقةُ بها كلُّها باطلة، وهي مضرَّةٌ عليه في حياته وبعد موته. والمحبُّ الذي قد ملكَ المحبوبُ أفكارَ قلبه لا يخرجُ فكرُه عن تعلُّقه بمحبوبه أو بنفسه. ثمَّ فكرُه في محبوبه لا يخرجُ عن حالتين: إحداهما: فكرتُه في جماله وأوصافه. الثانية: فكرتُه في أفعاله وإحسانه وبِرِّه ولطفه الدالَّة على كمال صفاته. وإن تعلَّقَ فكرُه بنفسه لم يخرج ــ أيضًا ــ عن حالتين: * إمَّا أن يفكِّر في أوصافه المسخوطة التي يبغضُها محبوبُه ويمقتُه عليها ويُسْقِطُه من عينه، فهو دائمًا يتوقَّعُ بفكره عليها ليجتنبها ويبعدَ منها. * والثانية: أن يفكِّر في الصفات والأخلاق والأفعال التي تقرِّبُه منه وتحبِّبه إليه حتى يتصفَ بها. _________ (1) (ح، ن): «القلوب».

(1/530)


فالفكرتان الأوَّلتان (1) توجبُ له زيادةَ محبَّته وقوَّتها وتضاعُفَها، والفكرتان الآخرتان (2) توجبُ محبةَ محبوبه له، وإقبالَه عليه، وقربَه منه، وعطفَه عليه، وإيثارَه على غيره. فالمحبةُ التامَّةُ مستلزمةٌ لهذه الأفكار الأربعة. فالفكرةُ الأولى والثانيةُ: تتعلَّقُ بعلم التوحيد وصفات الإله المعبود ــ سبحانه ــ وأفعاله، والثالثةُ والرابعةُ: تتعلَّقُ بالطريق الموصلة إليه وقواطعها وآفاتها وما يمنعُ من السَّير فيها إليه. فتفكُّره في صفات نفسه يميِّزُ له المحبوبَ لربِّه منها من المكروه له. وهذه الفكرةُ توجبُ ثلاثةَ أمور: أحدها: أنَّ هذا الوصفَ هل هو مكروهٌ مبغوضٌ لله أم لا؟ والثاني: إذا كان مكروهًا، فهل العبدُ متصفٌ به أم لا؟ _________ (1) (ت): «الاوليتان». وتقدم التعليق عليها (ص: 298). (2) كذا في الأصول، مثنى آخرة. انظر: «بصائر ذوي التمييز» (2/ 89).

(1/531)


والثالث: إذا كان متصفًا به، فما طريقُ رفعه (1) والعافية منه؟ وإن لم يكن متصفًا به فما طريقُ حفظ الصِّحة وبقائه على العافية والاحتراز منه؟ وكذلك الفكرةُ في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثةَ أمور: هل هي محبوبةٌ لله مرضيَّةٌ له أم لا؟ الثاني: هل العبدُ متصفٌ بها أم لا؟ الثالث: أنه إذا كان متصفًا بها، فما طريقُ حفظها ودوامها؟ وإن لم يكن متصفًا بها فما طريقُ اجتلابها والتخلُّق بها؟ ثمَّ فكرتُه في الأفعال على هذين الوجهين أيضًا سواء. ومجاري هذه الأفكار ومواقعُها كثيرةٌ جدًّا لا تكادُ تنضبط، وإنما يحصرها ستةُ أجناس: الطاعاتُ الظاهرةُ والباطنة، والمعاصي الظاهرةُ والباطنة، والصفاتُ والأخلاقُ الحميدة، والأخلاقُ والصفاتُ الذميمة. فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسه وأفعالها (2). وأمَّا الفكرةُ في صفات المعبود وأفعاله وأحكامه، فتوجبُ له التمييزَ بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الربِّ عمَّا لا يليقُ به، ووصفه بما هو أهلُه من الجلال والإكرام. ومجاري هذه الفكرة: تدبُّرُ كلامه، وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزَّه نفسَه عنه مما لا ينبغي له ولا يليقُ به سبحانه، وتدبُّرُ أفعاله وأيامه في أوليائه وأعدائه التي قَصَّها على عباده وأشهدهم إيَّاها؛ ليستدلُّوا بها على أنه إلههم الحقُّ المبينُ الذي لا تنبغي العبادةُ إلا له، ويستدلُّوا بها على أنه على كلِّ شيءٍ قدير، وأنه بكلِّ شيءٍ عليم، وأنه شديدُ العقاب، وأنه غفورٌ رحيم، وأنه العزيزُ الحكيم، وأنه الفعَّالُ لما يريد، وأنه الذي وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأنَّ أفعالَه كلَّها دائرةٌ بين الحكمة والرحمة، والعدل والمصلحة، لا يخرجُ شيءٌ منها عن ذلك. وهذه الثمرةُ لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبُّر كلامه والنظر في آثار أفعاله. _________ (1) (ح، ن): «دفعه». (2) (ت): «وأفعاله».

(1/532)


وإلى هذين الأصلين (1) نَدَبَ عبادَه في القرآن: * فقال في الأصل الأول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]. * وقال في الأصل الثاني: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190 - 191]، وقال: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3 - 5]، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر: 21]، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} إلى قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 20 - 25]. _________ (1) تدبُّر كلامه، والنظر في آثار أفعاله.

(1/533)


ونوَّع سبحانه الآيات في هذه السورة (1): * فجَعَل خلقَ السموات والأرض واختلافَ لغات الأمم وألوانهم آياتٍ للعالمين كلِّهم؛ لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته. * وجعل خَلْقَ الأزواج التي يسكنُ إليها الرجالُ وإلقاءَ المودَّة والرحمة بينهم آياتٍ لقومٍ يتفكرون؛ فإنَّ سكونَ الرجل إلى امرأته وما يكونُ بينهما من المودَّة والتعاطف والتراحم أمرٌ باطنٌ مشهودٌ بعين الفكرة والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدرَ عنها ذلك، دَلَّه فكرُه على أنه الإله الحقُّ المبين الذي أقرَّت الفِطرُ بربوبيته وإلهيته وحكمته ورحمته. * وجعل المنامَ بالليل والنهار والتصرُّفَ (2) في المعاش وابتغاءَ فضله آياتٍ لقومٍ يسمعون، وهو سمعُ الفهم وتدبُّر هذه الآيات وارتباطها (3) بما جُعِلَت آيةً له مما أخبرت به الرسلُ من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم، كما أحياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرُّف في معاشهم؛ فهذه الآيةُ إنما ينتفعُ بها من سمع ما جاءت به الرسل، وأصغى إليه، واستدلَّ بهذه الآية عليه. * وجعل إراءتَهم البرقَ (4) وإنزالَ الماء من السماء وإحياءَ الأرض به آياتٍ لقومٍ يعقلون؛ فإنَّ هذه أمورٌ مرئيَّةٌ بالأبصار مشاهدةٌ بالحِسِّ، فإذا نظر فيها ببصر قلبه ــ وهو عقلُه ــ استدلَّ بها على وجود الربِّ تعالى وقدرته _________ (1) سورة الروم. (2) (ح، ن): «للتصرف». وهو تحريفٌ ظاهرٌ من سياق الآية. (3) (ح): «ارتباطها». (4) قال ابن الأعرابي: «أَرَيتُه الشيءَ إراءةً وإرايةً وإرءاءةً». «اللسان».

(1/534)


وعلمه ورحمته وحكمته وإمكان ما أخبر به من إحياء الخلائق بعد موتهم كما أحيا هذه الأرض بعد موتها. وهذه أمورٌ لا تُدْرَكُ إلا ببصر القلب ــ وهو العقل ــ؛ فإنَّ الحِسَّ دلَّ على الآية، والعقلَ دلَّ على ما جُعِلَت آيةً له، فذكر سبحانه الآيةَ المشهودةَ بالبصر، والمدلولَ عليه المشهودَ بالعقل، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24]. فتباركَ الذي جعل كلامَه حياةً للقلوب وشفاءً لما في الصدور. وبالجملة؛ فلا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر؛ فإنه جامعٌ لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورثُ المحبةَ والشوقَ والخوفَ والرجاءَ والإنابةَ والتوكُّل والرضا والتفويض والشكرَ والصبرَ وسائر الأحوال التي بها حياةُ القلب وكمالُه، وكذلك يزجرُ عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فسادُ القلب وهلاكُه. فلو عَلِمَ الناسُ ما في قراءة القرآن بالتدبُّر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكُّرٍ حتى مرَّ بآيةٍ هو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه كرَّرها ولو مئة مرَّة، ولو ليلة؛ فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءة ختمةٍ بغير تدبُّرٍ وتفهُّم، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذَوْقِ حلاوة القرآن. وهذه كانت عادة السَّلف، يردِّدُ أحدُهم الآيةَ إلى الصباح (1)، وقد ثبت _________ (1) انظر: مختصر «قيام الليل لمحمد بن نصر» (148 - 151)، و «نتائج الأفكار» لابن حجر (3/ 191 - 195).

(1/535)


عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قام بآيةٍ يردِّدُها حتى الصباح (1)؛ وهي قولُه: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. فقراءةُ القرآن بالتفكُّر هي أصلُ صلاح القلب. ولهذا قال ابن مسعود: «لا تَهُذُّوا القرآنَ هَذَّ الشِّعر، ولا تنثروه نثرَ الدَّقَل، وقِفُوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب» (2). وقال ابن مسعود ــ أيضًا ــ: «اقرؤوا القرآن، وحرِّكوا به القلوب، لا يكن همُّ أحدكم آخرَ السورة» (3). وروى أيوب، عن أبي جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني سريعُ القراءة، إني أقرأ القرآنَ في ثلاث. قال: «لأنْ أقرأ سورةً من القرآن في ليلةٍ فأتدبَّرها وأرتِّلها أحبُّ إليَّ من أن أقرأ القرآنَ كما تقرأ» (4). والتفكُّرُ في القرآن نوعان: * تفكُّرٌ فيه ليقع على مراد الربِّ تعالى منه. _________ (1) أخرجه أحمد (5/ 149)، والنسائي (1010)، وابن ماجه (1350)، وغيرهم من حديث أبي ذر. وصححه الحاكم (1/ 241) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: «صحيح ابن خزيمة» (1/ 271)، و «مسند البزار» (9/ 451). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 521، 10/ 525). والدَّقَل: رديء التمر ويابسُه. «اللسان». (3) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 8). (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1193)، وعبد الرزاق في «المصنف» (2/ 489)، والبيهقي في «الكبرى» (2/ 396).

(1/536)


* وتفكُّرٌ في معاني ما دعا عبادَه إلى التفكُّر فيه. فالأول: تفكُّرٌ في الدليل القرآني، والثاني: تفكُّرٌ في الدليل العِياني. الأول: تفكُّرٌ في آياته المسموعة، والثاني: تفكُّرٌ في آياته المشهودة. ولهذا أنزل اللهُ القرآن ليُتَدَبَّر ويُتَفكَّرَ فيه ويُعْمَلَ به، لا لمجرَّد تلاوته مع الإعراض عنه. قال الحسنُ البصري: «أُنزِل القرآنُ ليُعْمَلَ به، فاتَّخَذوا تلاوتَه عملًا»! (1). _________ (1) «تلبيس إبليس» (137)، و «تفسير السمعاني» (4/ 119). وأخرجه الخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (116) عن الفضيل. وأورده مكي في «القوت» (1/ 122)، والغزالي في «الإحياء» (1/ 64، 275) عن ابن مسعود.

(1/537)


فصل (1) وإذا تأمَّلتَ ما دعا الله سبحانه في كتابه عبادَه إلى الفِكْر فيه أوقَعكَ على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله، مِنْ عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبِرِّه ولُطْفِه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه؛ فبهذا تعرَّف إلى عباده، وندبهم إلى التفكُّر في آياته. ونذكرُ لذلك أمثلةً مما ذكرها الله سبحانه في كتابه؛ ليُسْتَدلَّ بها على غيرها: فمِنْ ذلك: خَلْقُ الإنسان، وقد نَدَبَ سبحانه إلى التفكُّر فيه والنظر في غير موضعٍ من كتابه؛ كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]، وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا _________ (1) انظر لهذا الفصل وما بعده مما يتعلَّق بعجائب خلق الإنسان وباقي المخلوقات: «أيمان القرآن» للمصنف (446 - 636)، وقال في خاتمة بحثه: «وهذا فصلٌ جرَّه الكلام في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، أشرنا إليه إشارةً، ولو استقصيناه لاستدعى عدة أسفار، ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ على ما تركناه»، و «شفاء العليل» (635 - 649)، وقال: «وهذا بابٌ لو تتبَّعناه لجاء عدة أسفار ... ».

(2/538)


يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]، وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 20 - 23]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 ــ 14]. وهذا كثيرٌ في القرآن؛ يدعو العبدَ إلى النظر والفِكْر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره؛ إذ نفسُه وخلقُه من أعظم الدَّلائل على خالقه وفاطره، وأقربُ شيءٍ إلى الإنسان نفْسُه، وفيه من العجائب الدَّالَّة على عظمة الله ما تنقضي الأعمارُ في الوقوف على بعضه؛ وهو غافلٌ عنه، مُعرِضٌ عن التفكُّر فيه، ولو فكَّر في نفسه لزجرهُ ما يعلمُ من عجائب خَلْقِها عن كُفْرِه؛ قال الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17 - 22]. فلم يكرِّر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذِكرَ هذا لنسمع لفظ النُّطفة (1) _________ (1) (ت، ح): «ذكر النطفة».

(2/539)


والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلَّم بها فقط (1)، ولا لمجرَّد تعريفنا بذلك (2)، بل لأمرٍ وراء ذلك كلِّه هو (3) المقصودُ بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث (4). فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة؛ وهي قطرةٌ من ماءٍ مهينٍ ضعيفٍ مُسْتَقْذر، لو مرَّت بها ساعةٌ من الزمان فسَدت وأنتنَت، كيف استخرجها ربُّ الأرباب العليمُ القديرُ من بين الصُّلب والتَّرائب، منقادةً لقدرته، مطيعةً لمشيئته، مذلَّلةَ القِياد على ضيق طُرقِها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرِّها ومَجْمَعِها. وكيف جمع سبحانه بين الذَّكر والأنثى، وألقى المحبَّة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشَّهوة والمحبَّة إلى الاجتماع (5) الذي هو سببُ تخليق الولد وتكوينه. وكيف قدَّر اجتماع ذَينِك الماءين مع بُعْدِ كلٍّ منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق (6) والأعضاء، وجمعهما في موضعٍ واحدٍ جُعِلَ لهما قرارًا مكينًا، لا ينالُه هواءٌ يفسدُه، ولا بردٌ يجمِّدُه، ولا عارضٌ يصلُ إليه، ولا آفةٌ تتسلَّطُ عليه. _________ (1) (ت): «لنعلم بها فقط». (2) (ت): «معرفتنا لذلك». (3) (ت، د، ق): «وهو». (4) انظر: «الإحياء» (4/ 435 - 440)، وأصول مباحث هذا الفصل منه. (5) (ق، د، ت): «بسلسلة المحبة والاجتماع». والمثبت من (ن، ح) والإحياء. (6) (ت): «أعلق العروق».

(2/540)


ثمَّ قَلَبَ تلك النطفةَ البيضاء المشرقة علقةً حمراءَ تَضرِبُ إلى سوادٍ، ثمَّ جعلها مضغةَ لحمٍ مخالِفةً للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثمَّ جعلها عظامًا مجرَّدةً لا كسوةَ عليها، مباينةً للمضغة في شكلها وهيئتها وقَدْرِها وملمسها ولونها. وانظر كيف قسَّم تلك الأجزاء (1) المتساوية المتشابهة إلى الأعصاب والعظام والعُروق والأوتار واليابس والليِّن، وبَيْن ذلك، ثمَّ كيف رَبَط بعضها ببعضٍ أقوى رباطٍ وأشدَّه وأبعدَه من الانحلال (2). وكيف كساها لحمًا ركَّبه عليها، وجعله وعاءً لها وغشاءً وحافظًا، وجعلها حاملةً له مقيمةً له؛ فاللحمُ قائمٌ بها وهي محفوظةٌ به. وكيف صوَّرها فأحسنَ صُوَرها، وشقَّ لها السَّمعَ والبصرَ والفمَ والأنفَ وسائر المنافذ، ومَدَّ اليدين والرِّجلين وبسطهما، وقسَّم رؤوسَهما بالأصابع، ثمَّ قسَّم الأصابعَ بالأنامل، وركَّب الأعضاءَ الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطِّحال والرِّئة والرَّحِم والمَثانة والأمعاء، كلُّ واحدٍ منها له قَدْرٌ يخصُّه ومنفعةٌ تخصُّه. ثمَّ انظر الحكمةَ البالغة في تركيب العظام قِوامًا للبدن وعِمادًا له، وكيف قدَّرها ربُّها وخالقُها بمقاديرَ مختلفةٍ وأشكالٍ مختلفة؛ فمنها الصَّغيرُ والكبير، والطَّويلُ والقصير، والمُنْحَني والمستدير، والدَّقيقُ والعريض، والمُصْمَتُ والمُجَوَّف، وكيف ركَّب بعضها في بعض؛ فمنها ما تركيبُه _________ (1) (ح، ن): «كيف سلك تلك الأجزاء». (2) (ت): «الإحلال». (د، ق): «الإخلال».

(2/541)


تركيبُ الذَّكر في الأنثى، ومنها ما تركيبُه تركيبُ اتصالٍ فقط، وكيف اختلفت أشكالُها باختلاف منافعها؛ كالأضراس، فإنها لما كانت آلةً للطَّحْن جُعِلَت عريضةً، ولما كانت الأسنانُ آلةً للقَطع جُعِلَت مُستدِقَّةً محدَّدة (1). ولما كان الإنسانُ محتاجًا إلى الحركة بجُملة بدنه وببعض أعضائه للتَّردُّد في حاجته لم يجعَل عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعدِّدة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسَّر بها الحركة (2)، وكان قَدْرُ كلِّ واحدٍ منها وشكلُه على حسب الحركة المطلوبة منه. وكيف شَدَّ أسْرَ تلك المفاصل والأعضاء وربط بعضها ببعضٍ بأوتارٍ ورِباطاتٍ أنبتها من أحد طرفي العظم (3)، وألصقَ العظمَ بالطَّرف الآخر كالرِّباط له، ثمَّ جعل في أحد طرفي العظم زوائدَ خارجةً عنه، وفي الآخر نُقَرًا غائصةً فيه موافقةً لشكل تلك الزوائد؛ ليدخُل فيها ويَنْطَبِق عليها، فإذا أراد العبدُ أن يحرِّك جزءًا من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصلُ لتعذَّر عليه ذلك. وتأمَّل كيفيَّة خَلْق الرَّأس، وكثرةَ ما فيه من العظام، حتى قيل: إنها خمسةٌ وخمسون عظمًا (4)، مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركَّبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليًا عليه عُلُوَّ الراكب على مركوبه؛ _________ (1) (ت، ح): «محدودة». (2) (ت): «حتى يسير بهما». (ق، د): «حتى يتيسر بها». والمثبت من (ح، ن) و «الإحياء». (3) (ق): «من طرفي العظم». وسقط من (ت، ن) من قوله: «العظم» إلى: «ثم جعل في» بسبب انتقال النظر. والمثبت من (د، ح) و «الإحياء». (4) تفصيلها في «الإحياء» (4/ 436).

(2/542)


ولما كان عاليًا على البدن جَعَل فيه الحواسَّ الخمسَ وآلات الإدراك كلَّها من السَّمع والبصر والشَّمِّ والذَّوق واللَّمس. وجَعَل حاسَّة البصر في مُقَدَّمه؛ ليكون كالطَّليعة والحَرَس والكاشف للبدن، وركَّب كلَّ عينٍ من سبع طبقات، لكلِّ طبقةٍ وصفٌ مخصوص، ومقدارٌ مخصوص، ومنفعةٌ مخصوصة، لو فُقِدَت طبقةٌ من تلك السَّبع الطِّباق (1) أو زالت عن هيئتها وموضعها (2) لتعطَّلت العينُ عن الإبصار. ثمَّ أركزَ (3) سبحانه داخل تلك الطَّبقات السَّبع خلقًا عجيبًا، وهو إنسانُ العَيْن، بقَدْر العَدَسَة، يبصرُ به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء، وجَعَله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء، فهو مَلِكُها، وتلك الطَّبقاتُ والأجفانُ والأهدابُ خَدَمٌ له وحُجَّابٌ وحُرَّاس، فتبارك الله أحسنُ الخالقين. فانظر كيف حسَّن شكلَ العينين وهيأتهما ومقدارهما، ثمَّ جمَّلهما بالأجفان غطاءً لهما وسترًا وحفظًا وزينة؛ فهما يلتقيان (4) عن العين الأذى والقذى والغُبار، ويُكِنَّانهما (5) من البارد المؤذي (6) والحارِّ المؤذي، ثمَّ _________ (1) (ت): «السبع طبقات». (ح): «الطبقات». (2) (ق، د): «ومواضعها». (3) (ن): «ركز». (4) كذا في (د، ق، ح، ن) وجميع نسخ «أيمان القرآن» (459). وفي (ت): «يلقيان». وأصلحت في (ط) إلى «يتلقيان». واستعمال «التقى» موضع «تلقى» يقع في كلام المتأخرين. انظر «تكملة المعاجم» لدوزي (9/ 270). (5) (ت): «ويكنفانها». (6) (ت، ق): «المودي». والمودي: الهالك. ولعلها: المردي. كما سيأتي (ص: 729). والجناس أليق بأسلوب المصنف.

(2/543)


غَرَس في أطراف تلك الأجفان الأهدابَ جمالًا وزينة، ولمنافع أُخَر وراء الجمال والزِّينة، ثمَّ أودعهما ذلك النُّورَ الباصرَ والضوءَ الباهرَ الذي يَخْرقُ ما بين السماء والأرض، ثمَّ يخرقُ السماء مجاوزًا لرؤية ما فوقها من الكواكب. وقد أودعَ سبحانه هذا السرَّ العجيبَ في هذا المقدار الصَّغير بحيث تنطبِعُ فيه صورةُ السَّموات مع اتساع أكنافِها وتباعُد أقطارها. وشَقَّ له السَّمع، وخلق الأذنَ أحسنَ خِلقةٍ وأبلغَها في حصول المقصود منها، فجعلها مجوَّفةً كالصَّدفة؛ لتجمعَ الصَّوتَ فتؤدِّيه إلى الصِّماخ (1)، وليُحِسَّ بدبيب الحيوان فيها فيبادر إلى إخراجه، وجَعَل فيها غُضونًا وتجاويفَ واعوجاجاتٍ تمسكُ الهواءَ والصَّوتَ الدَّاخل فتكسرُ حِدَّته ثم تؤدِّيه إلى الصِّماخ. ومن حكمة ذلك أيضًا: أن يُطَوَّل به الطريقُ على الحيوان، فلا يَصِلُ إلى الصِّماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه. وفيه ــ أيضًا ــ حِكَمٌ غيرُ ذلك. ثمَّ اقتضت حكمةُ الربِّ الخالق سبحانه أنْ جَعَل ماء الأذن مرًّا في غاية المَرارة، فلا يجاوزُه الحيوانُ ولا يقطعُه داخلًا إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمَل الحيلةَ في رجوعه، وجَعَل ماء العَين مِلْحًا (2) ليحفظها؛ فإنها شَحْمةٌ قابلةٌ للفساد، فكانت ملوحةُ مائها صيانةً لها وحفظًا، وجَعَل ماء الفم عَذبًا حُلوًا ليُدرِك به طُعومَ الأشياء على ما هي عليه؛ إذ لو كان على غير هذه الصِّفة لأحالها إلى طبيعته، كما أنَّ مَنْ عَرَض لفمه المرارةُ استمرَّ طعمَ الأشياء التي ليست بمُرَّة، كما قيل: _________ (1) الصِّماخ: خَرقُ الأذن الباطنُ الذي يفضي إلى الرأس. «اللسان» (صمخ). (2) (د، ق، ت): «مالحا». والمثبت أفصح.

(2/544)


ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يَجِدْ مُرًّا بِه الماءَ الزُّلالا (1) ونَصَب سبحانه قَصَبة الأنف في وسط الوجه، فأحسنَ شكلَه وهيئتَه ووضعَه، وفَتَح فيه المَنْخِرَين، وحَجَز بينهما بحاجز، وأودَع فيهما حاسَّة الشَّمِّ التي تُدْرَكُ بها أنواعُ الروائح الطيِّبة والخبيثة والنافعة والضارَّة، وليستنشقَ به الهواءَ فيوصِلَه إلى القلب فيتَروَّح به ويتغذَّى به. ثمَّ لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغُضون ما جَعَل في الأذن؛ لئلَّا يُمسِك الرائحةَ فيُضعِفَها ويقطع مجراها، وجعله سبحانه مَصَبًّا تنحدِرُ إليه فضلاتُ الدِّماغ فتجتمعُ فيه ثمَّ تخرجُ منه. واقتضت حكمتُه أنْ جَعَل أعلاه أدقَّ من أسفله؛ لأنَّ أسفله إذا كان واسعًا اجتمعت فيه تلك الفضلاتُ فخرجت بسهولة، ولأنه يأخذُ من الهواء مَلأه ثمَّ يتصاعدُ في مجراه قليلًا قليلًا، حتى يصل إلى القلب وصولًا لا يضرُّه ولا يزعجُه. ثمَّ فَصَل بين المَنْخِرَين بحاجزٍ بينهما حكمةً منه ورحمة؛ فإنه لما كان قَصَبةً ومجرًى ساترًا لما ينحدرُ فيه (2) من فضلاتِ الرأس ومجرى النَّفَس الصَّاعد منه= جَعَل في وسطه حاجزًا؛ لئلا ينسدَّ (3) بما يجري فيه فيمنعَ نَشْقَه للنَّفَس، بل إمَّا أن يعتمدَ (4) الفضلاتِ نازلةً من أحد المنفذين ــ في _________ (1) البيت للمتنبي، في ديوانه (130). (2) (د، ق): «ساترا لما ينحدر منه». (ت): «سائر الماء ينحدر منه». (3) (ح، ن، ت، ق): «يفسد». تحريف. (4) (ح، ن): «تعتمد».

(2/545)


الغالب ــ فيبقى الآخرُ للتنفُّس، وإمَّا أن يجري فيهما فينقسم، فلا ينسدَّ الأنفُ جملةً، بل يبقى فيه مدخلٌ (1) للنَّفَس. وأيضًا؛ فإنه لما كان عضوًا واحدًا وحاسَّةً واحدة، ولم يكن عُضوَين وحاسَّتين كالأذنين والعينين التي اقتضت الحكمةُ تعدُّدهما، فإنه ربَّما أصيبت إحداهما أو عَرَضت لها آفةٌ تمنعها من كمالها فتكونُ الأخرى سالمة، فلا تتعطَّل منفعةُ هذا الجنس جملة، وكان وجودُ أنفَين في الوجه شَينًا ظاهرًا، فنَصَب فيه أنفًا واحدًا، وجَعَل فيه منفذَين حَجَز بينهما بحاجزٍ يجري مجرى تعدُّد العينين والأذنين في المنفعة، وهو واحد؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين. وشقَّ سبحانه للعبد الفمَ في أحسن موضعٍ وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذَّوق والكلام وآلات الطَّحن والقَطع ما تبهرُ العقولَ عجائبُه؛ فأودَعه اللسانَ الذي هو أحدُ آياته الدَّالَّة عليه، وجعله ترجمانًا لمَلِك الأعضاء مُبِينًا مؤديًا عنه كما جعل الأذنَ رسولًا مؤديًا مبلِّغًا إليه، فهي رسولُه وبريدُه الذي يؤدِّي إليه الأخبار، واللسانُ بريدُه ورسولُه الذي يؤدِّي عنه ما يريد. واقتضت حكمتُه سبحانه أنْ جَعَل هذا الرسولَ مَصُونًا محفوظًا مستورًا، غير بارزٍ مكشوفٍ كالأذن والعين والأنف؛ لأنَّ تلك الأعضاء لما كانت تؤدِّي من الخارج إليه جُعِلَت بارزةً ظاهرة، ولما كان اللسانُ مؤديًا منه إلى الخارج جُعِل مستورًا (2) مصونًا؛ لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذُ _________ (1) (ت): «منفذ». (2) (ح، ن): «سترا». (ت): «منه جعله مستورا». وسقطت «جعل» من (ق).

(2/546)


من الخارج إلى القلب. وأيضًا؛ فإنه لما كان أشرفَ الأعضاء بعد القلب، ومنزلتُه منه منزلة تَرْجُمانه ووزيره، ضُرِب عليه سُرادق يستُره ويصونُه، وجُعِل في ذلك السُّرادق كالقلب في الصَّدر. وأيضًا؛ فإنه مِنْ ألطف الأعضاء وألينها وأشدِّها رطوبة، وهو لا يتصرَّفُ إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزًا صار عُرضةً للحرارة واليُبوسة والنَّشَاف المانع له من التصرُّف. ولغير ذلك من الحِكَم والفوائد. ثمَّ زيَّن سبحانه الفمَ بما فيه من الأسنان التي هي جمالٌ له وزينة، وبها قِوامُ العبد وغذاؤه، وجَعَل بعضها أرْحاءَ للطَّحن (1)، وبعضها آلةً للقَطع، فأحكم أصولَها، وحَدَّد رؤوسَها، وبيَّض لونها، ورتَّب صفوفَها، متساويةَ الرؤوس، متناسقةَ التَّرتيب، كأنها الدُّرُّ المنظومُ بياضًا وصفاءً وحُسْنًا. وأحاط سبحانه على ذلك كلِّه (2) حائطَيْن، وأودعهما من المنافع والحِكَم ما أودعهما، وهما الشَّفتان؛ فحَسَّن لونهما وشكلَهما ووضعَهما وهيأتهما، وجعلهما غطاءً للفم وطَبَقًا له، وجعلهما إتمامًا لمخارج حروف الكلام ونهايةً له، كما جَعَل أقصى الحلق بدايةً له، واللسانَ وما جاوره وَسَطًا، ولهذا كان أكثرُ العمل فيها (3) له؛ إذ هو الواسطة. _________ (1) الأرحاء: جمع رحى. (2) «كله» ليست في (ت، ح). (3) (ن): «فيهما».

(2/547)


واقتضت حكمتُه أنْ جَعَل الشفتين لحمًا صِرفًا لا عَظمَ فيه ولا عَصَب؛ ليتمكَّن بهما من مَصِّ الشَّراب، ويَسْهُل عليه فتحُهما وطَبْقُهما. وخَصَّ الفكَّ الأسفل بالتحريك؛ لأنَّ تحريكَ الأخفِّ أحسن، ولأنه (1) يشتملُ على الأعضاء الشريفة فلَم يخاطِر بها في الحركة. وخلق سبحانه الحناجرَ مختلفةَ الأشكال في الضِّيق والسَّعة، والخشونة والمَلاسة، والصَّلابة واللِّين، والطُّول والقِصَر؛ فاختلفَت بذلك الأصواتُ أعظمَ اختلاف، ولا يكادُ يشتبهُ صوتان إلا نادرًا. ولهذا كان الصحيحُ قبول شهادة الأعمى (2)؛ لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم كما يميِّزُ البصيرُ بينهم بِصُوَرهم، والاشتباهُ العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصُّوَر. وزيَّن سبحانه الرأسَ بالشَّعر، وجَعَله لباسًا له؛ لاحتياجه إليه، وزيَّن الوجه بما أنبت فيه من الشُّعور المختلفة الأشكال والمقادير، فزيَّنه بالحاجبين، وجعلهما وقايةً لما ينحدر (3) مِن بَشَرَة الرأس إلى العينين، وقَوَّسهما، وأحسنَ خطَّهما، وزيَّن أجفانَ العينين بالأهداب، وزيَّن الوجه أيضًا باللِّحية، وجعلها كمالًا ووقارًا ومهابةً للرَّجُل، وزيَّن الشفتين بما أنبت _________ (1) أي: الفك الأعلى. (2) فيما طريقُه السمع، إذا عَرَفَ الصوت. انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 121)، و «الطرق الحكمية» (551)، و «أيمان القرآن» (614). وانظر للخلاف في قبول شهادته: «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 226)، و «المحلى» (9/ 433)، و «المغني» (14/ 178). (3) (ن): «يتحدر».

(2/548)


فوقهما من الشارب وتحتهما من العَنْفَقَة. وكذلك خَلْقُه سبحانه لليدين اللتين هما آلةُ العبد وسلاحُه ورأسُ ماله ومعاشُه (1)، فطوَّلهما بحيث يَصِلان إلى ما شاء من بدنه، وعرَّض الكفَّ ليتمكَّن بها من القبض والبسط، وقسَّم فيه الأصابعَ الخمس، وقسَّم كلَّ إصبعٍ بثلاث أناملَ والإبهامَ باثنتين، ووضعَ الأصابعَ الأربعةَ في جانبٍ والإبهامَ في جانب؛ لتدور الإبهامُ على الجميع؛ فجاءت على أحسن وضعٍ صَلحت به للقبض والبسط ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخِرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعًا آخر للأصابع سوى ما وُضِعَت عليه لم يجدوا إليه سبيلًا. فتبارك من لو شاء لسوَّاها وجَعَلها طَبَقًا واحدًا كالصَّفيحة، فلم يتمكَّن العبدُ بذلك من مصالحه وأنواع تصرُّفاته ودقيق الصَّنائع والخطِّ وغير ذلك، فإن بَسَط أصابعه كانت طَبَقًا يضعُ عليه ما يريد، وإن ضمَّها وقبضَها كانت دبُّوسًا (2) وآلةً للضَّرب، وإن جَعَلها بين الضَّمِّ والبسط كانت مِغْرَفةً له يتناولُ بها ويمسكُ فيها ما يتناولُه. وركَّبَ الأظفارَ على رؤوسها زينةً لها وعِمادًا (3) ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدَّقيقة التي لا ينالها جسمُ الأصبع، وجَعَلها سلاحًا لغيره من الحيوان والطَّير، وآلةً لمعاشه، وليَحُكَّ الإنسانُ بها بدنه عند الحاجة؛ فالظُّفرُ الذي هو أقلُّ الأعضاء وأحقرُها لو عَدِمَه الإنسانُ ثمَّ ظهرت به حِكَّةٌ _________ (1) (ح، ن): «ورأس مال معاشه». (2) الدبوس: هراوةٌ مدملكة الرأس، كما سيأتي (ص: 1035). (3) (د، ق، ت): «واعتمادا». والمثبت من (ن، ح) و «الإحياء».

(2/549)


لاشتدَّت حاجتُه إليه، ولم يَقُم مقامه شيءٌ في حكِّ بدنه، ثمَّ هدى (1) اليدَ إلى موضع الحكِّ حتى تمتدَّ إليه ولو في النَّوم والغفلة من غير حاجةٍ إلى طلب، ولو استعان بغيره لم يَعْثُر على موضع الحكِّ إلا بعد تعبٍ ومشقَّة! ثمَّ انظر إلى الحكمة البالغة في جَعل عظام أسفل البدن غليظةً قويَّة؛ لأنها أساسٌ له، وعظام أعاليه دونها في الثَّخانة والصَّلابة؛ لأنها محمولة. ثمَّ انظر كيف جَعَل الرَّقبة مَرْكبًا للرأس، وركَّبها من سبع خَرَزاتٍ (2) مجوَّفاتٍ مستديرات، ثمَّ طبَّق بعضها على بعض، وركَّب كلَّ خَرَزةٍ على صاحبتها (3) تركيبًا محكمًا متقنًا حتى صارت كأنها خرزةٌ واحدة، ثمَّ ركَّب الرَّقبة على الظَّهر والصَّدر، ثمَّ ركَّب الظَّهر من أعلاه إلى منتهى عَظم العَجُز من أربعٍ وعشرين خرزةً مركَّبةً بعضها في بعضٍ هي مَجْمَعُ أضلاعه والتي تمسكُها أن تنحَلَّ وتنفصل، ثمَّ وَصَل تلك العظام بعضها ببعض؛ فوصل عظامَ الظَّهر بعظام الصَّدر، وعظامَ الكتفين بعظام العَضُدَين، والعَضُدَين بالذِّراعين، والذِّراعين بالكفِّ والأصابع. وانظر كيف كسا العظامَ العريضةَ كعظام الظَّهر والرأس كسوةً من اللحم تناسبُها، والعظامَ الدَّقيقةَ كسوةً تناسبها كالأصابع، والمتوسِّطةَ كذلك كعظام الذِّراعين والعَضُدَين، فهو مركَّبٌ على ثلاث مئةٍ وستِّين عظمًا؛ منها مئتان وثمانيةٌ وأربعون مفاصل، وباقيها صغارٌ حُشِيَت خِلال المفاصل، فلو زادت _________ (1) (ق، د): «يهدي». (2) خَرَزُ الظَّهر: فَقارُه. وكلُّ فقرةٍ من الظهر والعنق خَرَزة. «اللسان» (خرز). (3) «على صاحبتها» ساقطة من (ح، ن).

(2/550)


عظمًا واحدًا لكان مَضرَّةً على الإنسان يحتاجُ إلى قَلْعِه (1)، ولو نقصت عظمًا واحدًا كان نقصانًا يحتاجُ إلى جَبْره. فالطَّبيبُ ينظرُ في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرفَ وجه العلاج في جَبْرِها، والعارفُ ينظرُ فيها ليستدلَّ بها على عظمة باريها وخالقها، وحكمته وعلمه ولُطْفِه. وكم بين النظرَين! ثمَّ إنه سبحانه رَبَط تلك الأعضاء والأجزاءَ بالرِّباطات، فشدَّ بها أسْرَها، وجعلها كالأوتاد (2) تمسكُها وتحفظها، حتى بلغ عددُها (3) إلى خمس مئةٍ وتسعةٍ وعشرين رباطًا، وهي مختلفةٌ في الغِلَظِ والدِّقَّة، والطُّول والقِصَر، والاستقامة والانحناء، بحسب اختلاف مواضعها ومَحَالِّها. فجعل منها أربعةً وعشرين رباطًا آلةً لتحريك العين وفَتحِها وضمِّها وإبصارها، لو نقصت منهنَّ رباطًا واحدًا اختلَّ أمرُ العين، وهكذا (4) لكلِّ عضوٍ من الأعضاء رباطاتٌ هي له كالآلات التي بها يتحرَّكُ ويتصرَّفُ ويفعلُ كلَّ ذلك. صُنْعَ الرَّبِّ الحكيم، وتقديرَ العزيز العليم، في قطرةٍ من ماءٍ مَهين، فويلٌ للمكذِّبين، وبُعدًا للجاحدين. ومن عجائب خَلقِه أنه جَعَل في الرأس ثلاثَ خزائنَ نافذًا بعضُها إلى بعض؛ خِزانةً في مُقَدَّمه، وخِزانةً في وسطه، وخِزانةً في آخره، وأودع تلك الخزائنَ من أسراره ما أودَعها من الذِّكر والفِكر والتعقُّل. _________ (1) (ن): «قطعه». (2) في الأصول: «كالأوتار». والمثبت أشبه. (3) (ق، ح): «بلغ عدها». (4) (ق، ت، د): «وهذا».

(2/551)


ومن عجائب خَلقِه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهَد؛ كالقلب والكبد والطِّحال والرِّئة والأمعاء والمَثانة، وسائر ما في باطنه (1) من الآلات العجيبة، والقُوى المتعدِّدة المختلفة المنافع. فأما القلبُ، فهو الملكُ المستعمِلُ لجميع (2) آلات البدن، المستخدِمُ لها، فهو محفوفٌ بها مَحْشودٌ مَخْدومٌ مستقرٌّ في الوسط، وهو أشرفُ أعضاء البدن، وبه قِوامُ الحياة، وهو منبعُ الرُّوح الحيوانيِّ (3) والحرارة الغريزيَّة، وهو معدنُ العقل والعلم والحلم، والشجاعة والكرم والصَّبر والاحتمال، والحبِّ والإرادة، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال. فجميعُ الأعضاء الظَّاهرة والباطنة وقُواها إنما هي جُندٌ من أجناد القلب؛ فإنَّ العينَ طليعتُه ورائدُه الذي يكشفُ له المرئيَّات، فإن رأت شيئًا أدَّتهُ إليه، ولشدَّة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقرَّ فيه شيءٌ ظهر فيها، فهي مرآتُه المترجِمةُ للناظر ما فيه (4)، كما أنَّ اللسانَ تَرْجُمانُه المؤدِّي للسَّمع ما فيه. ولهذا كثيرًا ما يقرنُ سبحانه في كتابه بين هذه الثَّلاث (5)، كقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26]، وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]. _________ (1) (ت، ق): «بطنه». (2) (د، ق، ت): «المشتغل بجميع». ولعلها: «المستغل»، بالمهملة. (3) (ق، ت، د): «الروحاني». والصواب المثبت. انظر: «أيمان القرآن» (592، 594)، و «زاد المعاد» (4/ 17). (4) انظر ما مضى (ص: 290) والتعليق عليه. (5) انظر: «أيمان القرآن» (614).

(2/552)


وقد تقدَّم ذلك (1). وكذلك يقرنُ بين القلب والبصر (2)، كقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110]، وقوله في حقِّ رسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثمَّ قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]. وكذلك الأذنُ هي رسولُه المؤدِّي إليه، وكذلك اللسانُ تَرْجُمانُه. وبالجملة؛ فسائر الأعضاء خَدَمُه وجنودُه، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فسَدت فسَد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب» (3). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «القلبُ مَلِكٌ، والأعضاءُ جنودُه، فإن طابَ المَلِكُ طابت جنودُه، وإذا خَبُثَ المَلِكُ خَبُثَت جنودُه» (4). وجُعِلَت الرئةُ له كالمِرْوَحة تُروِّحُ عليه دائمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً، بل هو منبعُ الحرارة. وأما الدِّماغُ ــ وهو المُخُّ ــ، فإنه جُعِل باردًا، واختُلِفَ في حكمة ذلك (5): _________ (1) (ص: 293). (2) كما تقدم (ص: 290). (3) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (4) أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 221)، ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (1/ 350) بإسنادٍ جيد. ورُوِيَ مرفوعًا، ولا يصح. انظر: «الكامل» (2/ 215). (5) انظر: «القانون» (2/ 6)، و «شرح تشريح القانون» لابن النفيس (114).

(2/553)


فقالت طائفة: إنما كان الدِّماغُ باردًا لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردَّها عن الإفراط إلى الاعتدال. وردَّت طائفةٌ هذا (1)، وقالت: لو كان كذلك لم يكن الدِّماغُ بعيدًا عن القلب، بل كان ينبغي أن يحيط به كالرِّئة، أو يكون قريبًا منه في الصَّدر؛ ليكسِرَ حرارتَه. قالت الفرقةُ الأولى: بُعْدُ الدِّماغ من القلب لا يمنعُ ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قَرُبَ منه لغلبَته حرارةُ القلب بقوَّتها، فجُعِلَ البُعدُ بينهما بحيثُ لا يتفاسَدان، وتعتدل (2) كيفيةُ كلِّ واحدٍ منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرِّئة، فإنها آلةٌ للتَّرويح على القلب لم تُجْعَل لتعديل حرارته. وتوسَّطت فرقةٌ أخرى وقالت: بل المخُّ حارٌّ لكنه فاترُ الحرارة، وفيه تبريدٌ بالخاصيَّة، فإنه مبدأٌ للذهن، ولهذا كان الذِّهنُ يحتاجُ إلى موضعٍ ساكنٍ قارٍّ، صافٍ عن الأقذاء (3) والكَدَر، خالٍ من الجَلَبة والزَّجَل (4). ولذلك تكونُ جودةُ الفِكْر والتذكُّرُ واستخراجُ الصَّواب عند سكون البدن، وفُتور حركاته، وقلَّة شواغله ومزعجاته، ولذلك لم يصلُح لها القلب، وكان الدِّماغُ معتدلًا في ذلك صالحًا له. ولذلك تجودُ هذه الأفعالُ في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسُد _________ (1) (ت): «هذا القول». (2) (ت): «وتعدل». (3) (ح): «الأقذار». (4) وهو رفع الصوت. وفي (د، ق، ت): «والدخل»، تحريف.

(2/554)


عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهمِّ الشديد (1)، ومع التَّعب والحركات القوية البدنية والنفسانية. وهذا بحثٌ متصلٌ بقاعدةٍ أخرى، وهي: أنَّ الحواسَّ والعقل، مبدؤها القلبُ أو الدِّماغ؟ (2) فقالت طائفة: مبدؤها كلِّها القلب، وهي مرتبطةٌ به، وبينه وبين الحواسِّ منافذُ وطرق. قالوا: وكلُّ واحدٍ من هذه الأعضاء التي هي آلاتُ الحواسِّ له اتصالٌ بالقلب بأعصابٍ وغير ذلك، وهذه الأعصابُ تخرجُ من القلب إلى أن تأتي إلى كلِّ واحدٍ من هذه الأجسام (3) التي فيها هذه الحواسُّ، ومنشأ هذه الأعضاء من القلب، وهو مركَّبٌ من أشياء تُشاكِل جميعَ هذه الأجسام التي فيها هذه الحواسُّ (4). قالوا: فالعينُ إذا أبصرت شيئًا أدَّته بالآلة التي فيها إلى القلب؛ لأنَّ هذه الآلة متصلةٌ منها إلى القلب، والسَّمعُ إذا أحسَّ صوتًا أدَّاه إلى القلب، وكذلك كلُّ حاسَّة. _________ (1) (ن): «وعند الهم والشدائد». (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 303)، و «المسودة» (982)، و «أيمان القرآن» (612)، و «المقدمات والممهدات» (3/ 334)، و «شرح الكوكب المنير» (1/ 83) وحواشيه، و «أضواء البيان» للشنقيطي (5/ 715)، ومجموع آثاره (23 ــ الفتاوى)، و «إزالة الستار» لابن عثيمين (66)، وغيرها. (3) (ت): «تخرج من القلب من أشياء تشاكل جميع الأجسام». (4) من قوله: «ومنشأ هذه الأعضاء» إلى هنا من (د، ق).

(2/555)


ثمَّ أوردوا على أنفسهم سؤالًا، فقالوا: إن قيل: كيف يجوزُ أن يكون عضوٌ واحدٌ على ضروبٍ من الامتزاج يُمِدُّ عدَّة حواسَّ مختلفة، وأجسامُ هذه الحواسِّ مختلفة، وقوَّةُ كلِّ حاسَّةٍ مخالفةٌ لقوَّة الحاسَّة الأخرى؟ وأجابوا عن ذلك: بأنَّ جميعَ العروق التي في البدن كلها متصلةٌ بالقلب، إما بأنفسها وإما بواسطة، فما مِن عِرقٍ ولا عُضوٍ إلا وله اتصالٌ بالقلب اتصالًا قريبًا أو بعيدًا. قالوا: وينبعثُ منه في تلك العروق والمجاري إلى كلِّ عضوٍ ما يناسبُه ويُشاكِلُه، فينبعثُ منه إلى العينين ما يكونُ منه حِسُّ (1) البصر، وإلى الأذنين ما يُدرِكُ به المسموعات، وإلى اللَّحم ما يكونُ منه حِسُّ اللَّمس، وإلى الأنف ما يكون منه حِسُّ الشَّمِّ، وإلى اللسان ما يكونُ منه حِسُّ الذَّوق، وإلى كلِّ ذي قوَّةٍ ما يُمِدُّ قوَّتَه ويحفظُها، فهو المُمِدُّ لهذه الأعضاء والحواسِّ والقُوى؛ ولهذا كان الرأيُ الصحيحُ أنه أوَّلُ الأعضاء تكونًا (2). قالوا: ولا ريب أنَّ مبدأ القوَّة العاقلة منه، وإن كان قد خالفَ في ذلك آخرون، وقالوا: بل العقلُ في الرأس؛ فالصوابُ أنَّ مبدأه ومنشأه من القلب، وفروعَه وثمرتَه في الرأس، والقرآنُ قد دلَّ على هذا بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولم يُرِد بالقلب هنا مُضغةَ اللحم المشتركةَ بين الحيوانات، بل المرادُ ما فيه من العقل واللُّبِّ. _________ (1) (ت): «حسن». وهكذا في المواضع التالية. (2) (ح، ن): «تكوينا».

(2/556)


ونازعهم في ذلك طائفةٌ أخرى، وقالوا: مبدأ هذه الحواسِّ إنما هو الدِّماغ، وأنكروا أن يكون بين القلب والعين والأذن والأنف أعصابٌ أو عُروق، وقالوا: هذا كذبٌ على الخِلْقَة. والصوابُ التوسُّطُ بين الفريقين، وهو أنَّ القلب ينبعثُ منه قوَّةٌ إلى هذه الحواسِّ، وهي قوَّةٌ معنويةٌ لا تحتاجُ في وصولها إليها إلى مَجَارٍ مخصوصةٍ وأعصابٍ تكونُ حاملةً لها؛ فإنَّ وصول القُوى إلى هذه الحواسِّ والأعضاء لا تتوقَّفُ إلا على قبولها واستعدادها وإمداد القلب، لا على مَجَارٍ وأعصاب. وبهذا يزولُ الالتباسُ في هذا المقام الذي طال فيه الكلام، وكَثُر فيه النزاعُ والخصام، والله أعلم، وبه التوفيقُ للصَّواب. والمقصودُ التنبيهُ على أقلِّ القليل من وجوه الحكمة التي في خَلْقِ الإنسان، والأمرُ أضعافُ أضعاف (1) ما يخطرُ بالبال، أو يجري في المقال، وإنما فائدةُ ذكر هذه الشَّذْرَة ــ التي هي كَلا شيءٍ بالنسبة إلى ما وراءها ــ التنبيه. وإذا نظر العبدُ إلى غذائه فقط، في مَدْخَله ومستقرِّه ومخرجه، رأى فيه العِبَر والعجائب؛ كيف جُعِلَت له آلةٌ يتناولُه بها، ثم بابٌ يَدْخُل منه، ثمَّ آلةٌ تقطِّعُه صغارًا، ثمَّ طاحونٌ يطحنُه، ثمَّ أُعِينَ بماءٍ يعجنُه، ثمَّ جُعِل له مجرًى وطريقٌ إلى جانب مجرى النَّفَس، ينزلُ هذا ويصعدُ هذا، فلا يلتقيان مع غاية القُرب. ثمَّ جَعَل له حوايا (2) وطرقًا تُوصِلُه إلى المعدة، فهي خِزانتُه وموضعُ _________ (1) ليست في (ح، ق، ت). (2) يريد: المريء. والحوايا: الأمعاء. «اللسان» (حوا).

(2/557)


اجتماعه، ولها بابان: بابٌ أعلى يدخلُ منه الطَّعام، وبابٌ أسفلُ يخرجُ منهُ ثُفْلُه (1)، والبابُ الأعلى أوسعُ من الأسفل؛ إذ الأعلى مَدْخلٌ للحاصل، والأسفلُ مَصْرِفٌ للضَّارِّ منه، والأسفلُ منطبقٌ دائمًا ليستقرَّ الطعامُ في موضعه، فإذا انتهى الهضمُ فإن ذلك الباب ينفتحُ إلى انقضاء الدَّفع، ويسمَّى البوَّابَ لذلك، والأعلى يسمَّى فمَ المعدة، والطعامُ ينزلُ إلى المعدة مُنْكبِسًا (2)، فإذا استقرَّ فيها انماعَ وذاب. ويحيطُ بالمعدة مِن داخلها وخارجها حرارةٌ ناريَّة، بل ربما تزيدُ على حرارة النَّار، ينضجُ بها الطعامُ فيها كما ينضجُ الطعامُ في القِدر بالنَّار المحيطة به، ولذلك تذيبُ ما هو مستحجِرٌ كالحصى وغيره، حتى تتركه مائعًا، فإذا أذابتهُ علا صَفْوُه إلى فوق، ورَسَا كدرُه إلى أسفل. ومن المعدة عروقٌ متصلةٌ بسائر البدن يُبْعَثُ فيها معلومُ كلِّ عضوٍ (3) وقِوامُه بحسب استعداده وقبوله، فيُبْعَثُ أشرفُ ما في ذلك وألطفُه وأخفُّه إلى الأرواح (4)؛ فينبعثُ (5) إلى البصر بصرًا وإلى السَّمع سمعًا وإلى الشمِّ _________ (1) ثُفْلُ كلِّ شيء: ما استقرَّ تحته من كَدَرِه. «اللسان» (ثفل). (2) (ت): «متملسا». (ق، د): «متلمسا»، وفوقها في (د) بخطٍّ دقيق: «كذا». (ن): «متكيمسا». والكيموس: لفظٌ سرياني، يعني: الخِلْط. والمراد به: الخلاصة الغذائية. انظر: «التكملة» للصغاني (كمس)، و «اللسان»، و «المعجم الوسيط». ولا يظهر أنه المقصود هنا. (3) (ت): «كل عرق وعضو». (4) وهي أجسامٌ لطيفةٌ تحمل القوى، وليست النفس. انظر: «الموجز» لابن النفيس (68)، و «زاد المعاد» (4/ 17، 225). (5) (ق، ت): «فيبعث». وفي (ن): «بصر ... سمع ... شم» بالرفع.

(2/558)


شمًّا وإلى كلِّ حاسَّةٍ بحسبها، فهذا ألطفُ ما يتولَّدُ عن الغذاء، ثمَّ ينبعثُ منه إلى الدِّماغ ما يناسبُه في اللَّطافة والاعتدال، ثمَّ ينبعثُ من الباقي إلى الأعضاء في تلك المجاري بحسبها، وينبعثُ منه إلى العظام والشَّعر والأظفار ما يغذِّيها ويحفظُها. فيكونُ الغذاءُ داخلًا إلى المعدة من طُرقٍ ومَجارٍ، وخارجًا منها إلى الأعضاء من طُرقٍ ومَجارٍ؛ هذا واردٌ إليها وهذا صادرٌ عنها؛ حكمةٌ بالغةٌ ونعمةٌ سابغة. ولما كان الغذاءُ إذا استحال في المعدة استحال دمًا ومِرَّةً سوداءَ ومِرَّةً صفراءَ وبَلْغمًا (1)، اقتضت حكمتُه سبحانه وتعالى أن جَعَل لكلِّ واحدٍ من هذه الأخلاط مَصرِفًا ينصبُّ إليه ويجتمعُ فيه، ولا ينبعثُ إلى الأعضاء الشريفة إلا أكملُه؛ فوضع المَرارةَ مَصَبًّا للمِرَّة الصَّفراء، ووضع الطِّحالَ مقرًّا للمِرَّة السَّوداء، والكبدُ تمتصُّ أشرفَ ما في ذلك، وهو الدَّم، ثمَّ تبعثُه إلى جميع البدن من عِرقٍ واحدٍ ينقسمُ على مجارٍ كثيرة، يوصِلُ إلى كلِّ واحدٍ من الشُّعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكونُ به قِوامُه. ثمَّ إذا نظرتَ إلى ما فيه (2) من القُوى الباطنة والظَّاهرة المختلفة في _________ (1) وهي أخلاطُ البدن الأربعة، التي كان يعتقد القدماءُ أن البدن ينشأ مِزَاجُه ــ وهو الاستعدادُ الجسميُّ العقليُّ الخاصُّ ــ عنها، فمن اعتدلت فيه كَمُلَت صحَّته، وبقدر الزيادة والنقصان فيها عن حدِّ الاعتدال يدخل السَّقم. انظر: «المعجم الوسيط» (مزج)، وما يأتي (ص: 714، 741، 780، 1285). (2) أي: الإنسان.

(2/559)


أنفسها ومنافعها، رأيتَ العجبَ العُجاب (1)؛ كقوَّة سمعه وبصره، وشمِّه وذوقه ولمسه، وحبِّه وبغضه، ورضاه وغضبه، وغير ذلك من القُوى المتعلقة بالإدراك والإرادة، وكذلك القُوى المتصرِّفة في غذائه؛ كالقوَّة المُنْضِجة له، وكالقوَّة الماسِكة له، والدَّافعة له إلى الأعضاء، والقوَّة الهاضمة له بعد أخذِ الأعضاء حاجتها منه، إلى غير ذلك من عجائب خِلقته الظَّاهرة والباطنة. فصل (2) فارجِع الآن إلى النُّطفة، وتأمَّل حالها أوَّلًا وما صارت إليه ثانيًا، وأنه لو اجتمع الإنسُ والجنُّ على أن يخلقوا لها سمعًا أو بصرًا، أو عقلًا أو قدرة، أو علمًا أو روحًا، بل عظمًا واحدًا مِنْ أصغر عظامها، بل عِرقًا من أدقِّ عروقها، بل شعرةً واحدة= لعجزوا عن ذلك، بل ذلك كلُّه آثارُ صُنع الله الذي أتقن كلَّ شيءٍ في قطرةٍ من ماءٍ مَهين. فمَن هذا صُنعُه في قطرة ماء، فكيف صُنعُه في ملكوت السَّموات، وعُلوِّها، وسَعَتِها، واستدارتها، وعِظَم خَلْقِها، وحُسْن بنائها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها، وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها؟! فلا ذرَّة فيها تنفكُّ عن حكمة، بل هي أحكمُ خلقًا، وأتقنُ صنعًا، وأجمعُ للعجائب من بدن الإنسان، بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السَّموات؛ قال الله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا _________ (1) (ت): «رأيت العجائب». (2) «إحياء علوم الدين» (4/ 440).

(2/560)


فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 ــ 28]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إلى قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]؛ فبدأ بذكر خلقِ السَّموات، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وهذا كثيرٌ في القرآن. فالأرضُ والبحارُ والهواءُ وكلُّ ما تحت السَّموات ــ بالإضافة إلى السَّموات ــ كقطرةٍ في بَحْر، ولهذا قَلَّ أن تجيء سورةٌ في القرآن إلا وفيها ذِكرُها؛ إما إخبارًا عن عظمتها وسَعَتها، وإما إقسامًا بها، وإما دعاءً إلى النظر فيها، وإما إرشادًا للعباد أن يستدلُّوا بها على عظمة بانيها (1) ورافعها، وإما استدلالًا منه سبحانه بخَلْقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة، وإما استدلالًا منه بربوبيَّته لها على وحدانيَّته وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالًا منه بحُسْنها واستوائها والتئام أجزائها وعدم الفُطور فيها على تمام حكمته وقدرته. وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصرُ عقولُ البشر عن قليلها، فكم مِن قسَمٍ في القرآن بها؛ كقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق: 11]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15]، _________ (1) (ت): «عظمة باريها وبانيها».

(2/561)


وهي الكواكبُ التي تكونُ خُنَّسًا عند طلوعها، جوارٍ في مجراها ومسيرها، كُنَّسًا عند غروبها؛ فأقسمَ بها في أحوالها الثَّلاثة (1). ولم يُقْسِم في كتابه بشيءٍ من مخلوقاته أكثر من السَّماء والنُّجوم والشمس والقمر، وهو سبحانه يقسمُ بما يقسمُ به من مخلوقاته لتضمُّنه الآياتِ والعجائبَ الدالَّة عليه (2)، وكلما كان أعظم آيةً وأبلغَ في الدَّلالة كان إقسامُه به أكثرَ من غيره. ولهذا يعظِّمُ سبحانه هذا القَسَم؛ كقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 ــ 76]، وأظهرُ القولين أنه قَسَمٌ بمواقع هذه النُّجوم التي في السَّماء (3)؛ فإنَّ اسمَ النُّجوم عند الإطلاق إنما ينصرفُ إليها. وأيضًا؛ فإنه لم تَجْرِ عادتُه سبحانه باستعمال النُّجوم في آيات القرآن، ولا في موضعٍ واحدٍ من كتابه، حتى تُحْمَل عليه هذه الآية، وجَرَت عادتُه سبحانه باستعمال النُّجوم في الكواكب في جميع القرآن. وأيضًا؛ فإنَّ نظيرَ الإقسام بمواقعها هنا إقسامُه بِهُوِيِّ النَّجم في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}. وأيضًا؛ فإنَّ هذا قولُ جمهور أهل التفسير. _________ (1) انظر: «أيمان القرآن» (184، 322). (2) انظر: «أيمان القرآن» (5، 87، 188، 429). (3) انظر: ما سيأتي (ص: 1367) والتعليق عليه.

(2/562)


وأيضًا؛ فإنه سبحانه يقسمُ بالقرآن نفسِه لا بوصوله إلى عباده، هذه طريقةُ القرآن؛ قال الله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 ــ 2]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1 ــ 2، الدخان: 1 - 2]، ونظائره. والمقصود أنه سبحانه إنما يقسمُ من مخلوقاته بما هو من آياته الدَّالَّة على ربوبيته ووحدانيته. وقد أثنى سبحانه في كتابه على المتفكِّرين في خلق السَّموات والأرض، وذَمَّ المُعْرِضين عن ذلك؛ فقال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32]. وتأمَّل خلقَ هذا السَّقف الأعظم ــ مع صلابته وشدَّته ووَثاقته ــ مِن دُخان، وهو بخارُ الماء؛ قال الله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12]، وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28]، وقال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]. فانظر إلى هذا البناء الشَّديد العظيم الواسع الذي رَفَع سَمْكَه أعظمَ ارتفاع، وزيَّنه بأحسن زينة، وأودعه العجائبَ والآيات، وكيف ابتدأ خَلقَه من بخارٍ ارتفع من الماء وهو الدُّخان. فسُبحانَ مَنْ لا يَقْدِرُ الخلقُ قَدْرَه ... ومَنْ هو فوق العرشِ فَردٌ مُوَحَّدُ (1) _________ (1) البيت لأمية بن أبي الصَّلت في «الزهرة» (498)، وديوانه المجموع (42).

(2/563)


لقد تعرَّف إلى خَلْقه بأنواع التَّعرُّفات، ونَصَب لهم الدَّلالات، وأوضحَ لهم الآيات البيِّنات؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]. * * * فارجِع البصرَ إلى السَّماء (1) وانظر فيها وفي كواكبها ودورانها، وطلوعها وغروبها، وشمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربها، ودُؤوبها في الحركة على الدَّوام مِنْ غير فُتورٍ في حركتها ولا تغيُّرٍ في سَيْرها، بل تجري في منازل قد رُتِّبت لها بحسابٍ مقدَّرٍ لا يزيدُ ولا ينقصُ إلى أن يَطْوِيها فاطرُها وبديعُها. وانظر إلى كثرة كواكبها، واختلاف ألوانها ومقاديرها، فبعضُها يميل إلى الحُمْرة، وبعضُها إلى البياض، وبعضُها إلى اللون الرَّصاصيِّ. ثمَّ انظر إلى مسير الشمس في فَلَكها في مدَّة سنة، ثمَّ هي في كلِّ يومٍ تطلعُ وتغربُ بسَيرٍ سخَّرها له خالقُها، لا تتعدَّاه ولا تَقْصُرُ عنه، ولولا طلوعُها وغروبها لما عُرِفَ الليلُ والنهارُ ولا المواقيت، ولأطبقَ الظلامُ (2) على العالم أو الضياء، ولم يتميَّز وقتُ المَعاش عن وقت السُّبات والراحة. وكيف قدَّر لها العزيزُ العليمُ سَفَرين متباعدَين: أحدهما: سفرُها صاعدةً إلى أوْجِها (3). _________ (1) «الإحياء» (4/ 445). (2) (ت): «ولا نطبق الظلام». والمثبت من باقي النسخ و «الإحياء». (3) الأوج: العُلو. معرَّب «أوگ» بالكاف الفارسية. انظر: «برهان قاطع» (1/ 181)، و «مفاتيح العلوم» (221)، و «الألفاظ الفارسية» لأدي شير (13). وذهب الخفاجي في «شفاء العليل» (15) وتبعه المحبِّي في «قصد السبيل» (1/ 222) إلى أنه معرَّب «أود». قال شيخنا الإصلاحي: وهو خطأ. و «أود» بالفارسية تعني العِوَج.

(2/564)


والثاني: سفرُها هابطةً إلى حضيضها. تنتقلُ في منازل هذا السَّفر منزلةً منزلةً حتى تبلُغ غايتَها منه، فأحدَث ذلك السَّفرُ بقدرة الربِّ الخالق القادر (1) اختلافَ الفصول من الصَّيف والشتاء والخريف والربيع، فإذا انخفض سيرُها عن وسط السَّماء بَرَدَ الهواءُ وظهَر الشتاء، وإذا استوت في وسط السَّماء اشتدَّ القَيظ، وإذا كانت بين المسافتين اعتدَل الزَّمان، وقامت مصالحُ العباد (2) والحيوان والنَّبات بهذه الفصول الأربعة، واختلفت بسببها الأقوات، وأحوالُ النبات والألوان، ومنافعُ الحيوان والأغذية وغيرها. وانظر إلى القمر وعجائب آياته؛ كيف يُبْدِيه اللهُ كالخيط الدَّقيق، ثمَّ يتزايدُ نُورُه ويتكاملُ شيئًا فشيئًا كلَّ ليلةٍ حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثمَّ يأخذُ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى؛ ليَظهَر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميَّزت به الأشهرُ والسِّنين (3)، وقام به حِسَابُ العالم، مع ما في ذلك من الحِكَم والآيات والعِبَر التي لا يحصيها إلا الله. _________ (1) (ح، ن): «الرب القادر». (2) (ت): «واستقامت مصالح العباد». (3) (ق، د، ت): «فتميزت بين الأشهر والسنين».

(2/565)


وبالجملة؛ فما مِنْ كوكبٍ من الكواكب إلا وللربِّ تبارك وتعالى في خلقه حِكَمٌ كثيرة، ثم في مقداره، ثم في شكله ولونه، ثم في موضعه (1) من السَّماء وقُربه من وسطها وبُعْده، وقُربه من الكوكب الذي يليه وبُعْده منه. وإذا أردتَ معرفة ذلك على سبيل الإجمال فقِسْهُ بأعضاء بدنك واختلافها، وتفاوتِ ما بين المتجاورات منها وبُعْد ما بين المتباعدات، وأشكالها ومقاديرها، وتفاوت منافعها، وما خُلِقَت له. وأيُّ نسبةٍ لذلك إلى عِظَم السَّموات وكواكبها وآياتها! وقد اتفق أربابُ الهيئة على أنَّ الشمس بقَدْر الأرض مئة مرَّةٍ ونيِّفًا وستِّين مرَّة، والكواكبُ التي نراها كثيرٌ منها أصغرُها بقَدْر الأرض، وبهذا يُعْرَفُ ارتفاعُها وبُعْدُها. وفي حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي (2): «إنَّ بين الأرض والسَّماء مسيرةَ خمس مئة عام، وبين كلِّ سماءين كذلك». _________ (1) (ق، ت، د): «في شكله وكونه في موضعه». (2) (3298)، وأحمد (2/ 370)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 287)، وغيرهم بإسنادٍ منقطع. وهو حديثٌ طويل، وفي آخره نكارة. قال الترمذي: «هذا حديث غريبٌ من هذا الوجه. ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: الحسن لم يسمع من أبي هريرة». وبذا أعلَّه البيهقي، والجورقاني في «الأباطيل» (1/ 70)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 13). وانظر: «العلو» للذهبي (74)، و «البداية والنهاية» (1/ 41). وللقَدر الذي ذكره المصنف منه شواهدُ من حديث العباس وأبي سعيد وأبي ذر وابن مسعود رضي الله عنهم.

(2/566)


وأنت ترى الكوكبَ كأنه واقفٌ لا يسير (1)، وهو من أوَّل (2) جزءٍ من طلوعه إلى تمام طلوعه يكونُ فَلَكُه قد طلَع بقَدْر مسافة الأرض مئة مرَّةٍ أو أكثر، وذلك بقَدْر لحظةٍ واحدة؛ لأنَّ الكوكبَ إذا كان بقَدْر الأرض مئة مرَّةٍ ــ مثلًا ــ ثمَّ سار في اللحظة من موضعٍ إلى موضعٍ فقد قَطع بقَدْر مسافة الأرض مئة مرَّةٍ وزيادة في لحظةٍ من اللحظات. وهكذا يسيرُ على الدَّوام والعبدُ غافلٌ عنه وعن آياته. وقال بعضهم: إذا تلفَّظتَ بقولك: لا، نَعَم، فبين اللفظتين تكونُ الشمسُ قد قَطَعَت من الفَلك مسيرةَ خمس مئة عام. ثمَّ إنه سبحانه أمسك السَّموات مع عِظَمها وعِظَم ما فيها، وثبَّتها مِن غير عِلاقةٍ مِن فوقها (3) ولا عَمَدٍ مِن تحتها، الله الذي {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10 - 11]. فصل (4) والنظرُ في هذه الآيات وأمثالها نوعان: * نظرٌ إليها بالبصر الظَّاهر؛ فيرى ــ مثلًا ــ زُرقة السَّماء ونجومَها وعُلوَّها _________ (1) (ح، ن): «كأنه لا يسير». (2) (ت، د، ق): «في أول». (3) العِلاقة: المِعلاق الذي يُعَلَّقُ به الشيء. «اللسان» (علق). (4) «الإحياء» (4/ 445).

(2/567)


وسَعَتَها؛ وهذا نظرٌ يشاركُ الإنسانَ فيه غيرُه من الحيوانات، وليس هو المقصود بالأمر. * والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتُفْتَحُ له (1) أبوابُ السَّماء، فيجولُ في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثمّ يُفْتَحُ له بابٌ بعد باب، حتى ينتهي به سيرُ القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سَعَته وعظمته وجلاله ومَجْده ورِفْعَته، ويرى السَّموات السَّبعَ والأرضينَ السَّبعَ بالنسبة إليه كحَلْقَةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاة، ويرى الملائكةَ حافِّين من حوله، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمرُ ينزلُ مِن فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمُها إلا ربُّها ومليكُها. فينزلُ الأمرُ بإحياء قومٍ وإماتة آخرين، وإعزاز قومٍ وإذلال آخرين، وإسعاد قومٍ وشقاوة آخرين (2)، وإنشاء مُلْكٍ وسَلْب مُلْك، وتحويل نعمةٍ من محلٍّ إلى محلٍّ، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها؛ مِنْ جَبْر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كَرْب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُرٍّ، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورَدِّ آبِق، وأمان خائف، وإجارةٍ لمستجير، ومَدَدٍ لضعيف، وإغاثةٍ لملهوف، وإعانةٍ لعاجز (3)، وانتقامٍ من ظالم، وكفٍّ لعدوان. فهي مراسيمُ دائرةٌ بين العدل والفضل، والحكمةِ والرَّحمة، تَنْفُذُ في أقطار العوالم، لا يَشْغَلُه سمعُ شيءٍ منها عن سمع غيره، ولا تُغَلِّطُه كثرةُ _________ (1) (ت): «فتنفتح له». (2) (ت): «وإشقاء آخرين». (3) (ت): «مستجير، ... ضعيف، ... ملهوف، ... عاجز».

(2/568)


المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرَّمُ بإلحاح المُلِحِّين، ولا تنقصُ ذرَّةٌ من خزائنه، لا إله إلا هو العزيزُ الحكيم. فحينئذٍ يقومُ القلبُ بين يدي الرحمن مُطْرِقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عانٍ لعزَّته، فيسجدُ بين يدي المَلِك الحقِّ المبين سجدةً لا يرفعُ رأسَه منها إلى يوم المزيد. فهذا سَفَرُ القلب وهو في وطنه وداره ومحلِّ مُلكِه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صُنعِه؛ فيا له من سفَرٍ ما أبركَه وأروحَه، وأعظمَ ثمرتَه وربحَه (1)، وأجلَّ منفعتَه وأحسنَ عاقبتَه! سفرٌ هو حياةُ الأرواح، ومفتاحُ السَّعادة، وغنيمةُ العقول والألباب، لا كالسَّفر الذي هو قطعةٌ من العذاب. فصل (2) وإذا نظرتَ إلى الأرض كيف خُلِقَت، رأيتَها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فِراشًا ومِهادًا، وذلَّلها لعباده، وجعل فيها أرزاقَهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السُّبل لينتقلوا فيها (3) في حوائجهم وتصرُّفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظُها لئلَّا تميدَ بهم (4)، ووسَّع أكنافَها، ودحاها فمَدَّها وبَسَطها، وطحاها فوسَّعها من جوانبها، _________ (1) (ح): «وأربحه». (2) «الإحياء» (4/ 440). (3) (ت): «ليتقلبوا فيها». (4) (ق): «تميل بهم». وهي بمعنى المثبت.

(2/569)


وجعلها كِفاتًا للأحياء تضمُّهم على ظهرها ما داموا أحياءً، وكِفاتًا للأموات تضمُّهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرُها وطنٌ للأحياء وبطنُها وطنٌ للأموات. وقد أكثرَ تعالى من ذكر الأرض في كتابه، ودعا عبادَه إلى النَّظر إليها والتفكُّر في خلقها؛ فقال تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]، {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3]. وهذا كثيرٌ في القرآن. فانظر إليها وهي ميتةٌ هامدةٌ خاشعة (1)، فإذا أنزل عليها (2) الماءَ اهتزَّت فتحرَّكت، ورَبَت فارتفعت، واخضرَّت وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج، فأخرجت عجائبَ النَّبات في المنظر والمَخْبر، بهيج للناظرين، كريم للمتناولين، فأخرجت الأقواتَ على اختلافها وتبايُن مقاديرها وأشكالها وألوانها ومنافعها، والفواكهَ والثِّمار، وأنواعَ الأدوية، ومراعي الدَّوابِّ والطَّير. ثمَّ انظر إلى قِطَعِها المتجاورات، وكيف ينزلُ عليها ماءٌ واحدٌ فتُنبِتُ الأزواجَ المختلفةَ المتباينةَ في اللون والشَّكل والرائحة والطَّعم والمنفعة، واللِّقاحُ واحدٌ، والأمُّ واحدة؛ كما قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. _________ (1) «هامدة» ليست في (د، ق، ت). (2) (ق، ت، د، ح): «فإذا أنزلنا عليها».

(2/570)


فكيف كانت هذه الأجنَّة المختلفةُ مُودَعةً في بطن هذه الأمِّ؟! وكيف كان حملُها من لقاحٍ واحد؟! صُنعَ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، لا إله إلا هو. ولولا أنَّ هذا من أعظم آياته لما نبَّه عليه عبادَه، وحدَاهم (1) إلى التفكُّر فيه؛ قال الله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]؛ فجعَل النظر في هذه الآية وما قبلها مِنْ خَلْق الجنين دليلًا على هذه النَّتائج الخمس، مستلزمًا للعلم بها. ثمَّ انظرهُ كيف أحكمَ جوانبَ الأرض بالجبال الراسيات الشَّوامخ الصُّمِّ الصِّلاب، وكيف نَصَبَها فأحسنَ نَصْبَها، وكيف رَفَعَها وجعلها أصلبَ أجزاء الأرض؛ لئلَّا تضمَحِلَّ على تطاوُل الزمان (2) وترادُف الأمطار والرِّياح، بل أتقنَ صُنعَها وأحكَم وضعَها، وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها، ثمَّ هدى النَّاسَ إلى استخراج تلك المعادن منها، وألهمَهم كيف يصنعونَ منها النُّقودَ والحُلِيَّ والزِّينةَ واللباسَ والسِّلاحَ وآلات المعاش على اختلافها، ولولا هدايتُه سبحانه لهم إلى ذلك لمَا كان لهم عِلمُ شيءٍ منه ولا قدرةٌ عليه. * * * _________ (1) (ن): «وهداهم». (ح): «ودعاهم». (2) (ن، ح): «تطاول السنين».

(2/571)


ومن آياته الباهرة: هذا الهواءُ اللطيفُ المحبوسُ بين السَّماء والأرض (1)، يُدْرَكُ بحِسِّ اللَّمس عند هُبوبه، يُدْرَكُ جسمُه (2) ولا يُرى شخصُه، فهو يجري بين السَّماء والأرض، والطَّيرُ محلِّقةٌ فيه (3) سابحةٌ بأجنحتها في أمواجه كما تَسْبَحُ حيواناتُ البحر في الماء، وتضطربُ جوانبُه وأمواجُه عند هَيَجانه كما تضطربُ أمواجُ البحر. فإذا شاء سبحانه وتعالى حرَّكه بحركة الرَّحمة، فجعَله رُخاءً ورحمةً وبُشْرًا بين يَدَي رحمته، ولاقحًا للسَّحاب يَلْقَحُه بحَمْل الماء كما يَلْقَحُ الذَّكرُ الأنثى بالحَمْل. وتسمَّى رياحُ الرَّحمة: المبشِّرات، والنُّشُر (4)، والذَّاريات، والمرسَلات، والرُّخاء، واللَّواقِح. ورياحُ العذاب: العاصِف، والقاصِف، وهما في البحر، والعقيم، والصَّرْصَر، وهما في البرِّ (5). وإن شاء حرَّكه بحركة العذاب، فجعَله عقيمًا، وأودَعه عذابًا أليمًا، وجعَله نِقمةً على من يشاءُ من عباده، فيجعلُه صَرْصَرًا، ونَحْسًا، وعاتيًا، _________ (1) «الإحياء» (4/ 443). (2) مهملة في (ق). (ت): «حسه». والمثبت من (د، ح، ن) و «الإحياء». (3) (ق، د، ت): «مختلفة فيه». (4) كما في قوله تعالى: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} في قراءة أبي عمرو. وفي المصدرين التاليين: والناشرات. (5) ورد ذلك عن عبد الله بن عمرو وابن عباس، عند ابن أبي الدنيا في «المطر والرعد والبرق والريح» (172، 174)، وأبي الشيخ في «العظمة» (798، 829، 838).

(2/572)


ومُفْسِدًا لما يمرُّ عليه. وهي مختلفةٌ في مَهابِّها، فمنها صَبًا، ودَبُورٌ، وجَنُوبٌ، وشَمال (1)، وفي منفعتها وتأثيرها= أعظمَ اختلاف؛ فريحٌ ليِّنةٌ رطبةٌ تغذِّي النَّباتَ وأبدانَ الحيوان، وأخرى تجفِّفه، وأخرى تهلكُه وتُعْطِبُه، وأخرى تَشُدُّه (2) وتصلِّبُه، وأخرى تُوهِنُه وتضعِفُه. ولهذا يخبرُ سبحانه عن رياح الرَّحمة بصيغة الجمع؛ لاختلاف منافعها وما يحدُث منها، فريحٌ تُثِيرُ السَّحاب، وريحٌ تَلْقَحُه، وريحٌ تحملُه على متُونها، وريحٌ تغذِّي النَّبات. ولمَّا كانت الرِّيحُ مختلفةً في مَهابِّها وطبائعها جعَل لكلِّ ريحٍ ريحًا مقابِلتَها، تكسِرُ سَوْرتها (3) وحدَّتها، وتبقي لِينَها ورحمتَها؛ فرياحُ الرَّحمة متعدِّدة. وأمَّا ريحُ العذاب، فإنه ريحٌ واحدةٌ تُرسَلُ من وجهٍ واحدٍ لإهلاك ما تُرسَلُ بإهلاكه، فلا تقومُ لها ريحٌ أخرى تقابلُها، وتكسِرُ سَوْرتها، وتدفعُ حدَّتها، بل تكونُ كالجيش العظيم الذي لا يقاومُه شيء، يدمِّرُ كلَّ ما أتى عليه. وتأمَّل حكمةَ القرآن وجلالتَه وفصاحتَه كيف اطَّرد هذا فيه في البرِّ، وأمَّا _________ (1) انظر: «أسماء الريح» لابن خالويه، و «التلخيص» لأبي هلال العسكري (1/ 426)، و «الأنواء» لابن قتيبة (158)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 74). (2) (ت): «تسدده». (3) أي: تخفِّفُ حدَّتها.

(2/573)


في البحر فجاءت ريحُ الرَّحمة فيه بلفظ الواحد، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22]؛ فإنَّ السُّفُنَ إنما تسيرُ بالرِّيح الواحدة التي تأتي من وجهٍ واحد، فإذا اختلفت الرِّياحُ على السُّفُن وتقابلت لم يتمَّ سيرُها؛ فالمقصودُ منها في البحر خلافُ المقصود منها في البرِّ، إذ المقصودُ في البحر أن تكون واحدةً طيِّبةً لا يعارضها شيء؛ فأُفرِدَت هنا وجُمِعَت في البرِّ (1). ثمَّ إنه سبحانه أعطى هذا المخلوقَ اللطيفَ الذي يحرِّكه أضعفُ المخلوقات ويَخْرِقُه، من الشدَّة والقوَّة والبأس ما يُقْلِقُ (2) به الأجسامَ الصُّلبة القويَّة الممتنعة، ويُزعِجُها عن أماكنها، ويفتِّتها، ويحملُها على مَتْنِه. فانظر إليه مع لطافته وخفَّته إذا دخل في الزِّقِّ (3) ــ مثلًا ــ وامتلأ به، ثمَّ وُضِعَ عليه الجسمُ الثَّقيلُ ــ كالرَّجُل (4) وغيره ــ وتحامل عليه ليَغمِسَه في الماء لم يُطِق، وتضعُ الحديدَ الصُّلبَ الثَّقيلَ على وجه الماء فيَرسُبُ فيه؛ فامتنَع هذا اللطيفُ مِنْ قهر الماء له ولم يمتنع منه القويُّ الشديد! وبهذه الحكمة أمسك الله سبحانه السُّفنَ على وجه الماء، مع ثِقَلِها وثِقَل ما تحويه، وكذلك كلُّ مجوَّفٍ حلَّ فيه الهواء فإنه لا يَرسُبُ فيه؛ لأنَّ _________ (1) انظر: «بدائع الفوائد» (206)، و «البرهان» للزركشي (4/ 9). (2) (ح، ت، ن): «تقلق». (ق): «تعلق». (3) وهو الوعاء من الجلد، يتَّخذُ للشَّراب ونحوه. (4) في «الإحياء»: «الرجل القوي».

(2/574)


الهواء يمتنعُ من الغَوص في الماء (1)، فتتعلَّق به السَّفينةُ المشحونةُ المُوقَرة. فتأمَّل كيف استجارَ هذا الجسمُ الثَّقيلُ العظيمُ بهذا اللطيف الخفيف وتعلَّق به حتى أمِنَ من الغَرق، وهذا كالذي يَهْوِي في قَلِيبٍ فيتعلَّق بذَيل رجلٍ قويٍّ شديدٍ يمتنعُ عن السُّقوط في القَلِيب فينجو بتعلُّقه به؛ فسبحان من علَّق هذا المَرْكبَ العظيمَ الثَّقيل بهذا الهواء اللطيف مِنْ غير عِلاقةٍ ولا عُقدةٍ تشاهَد (2). * ... * ... * ومن آياته: السَّحابُ المسخَّرُ بين السَّماء والأرض، كيف يُنشِئُه سبحانه (3) بالرِّياح، فتُثِيرُه كِسَفًا، ثمَّ يؤلِّفُ بينه ويَضمُّ بعضه إلى بعض، ثمَّ تَلْقَحُه الرِّيحُ ــ وهي التي سمَّاها سبحانه: لواقح ــ، ثمَّ يسوقُه على مُتونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أهراقَ ماءه عليها، فيرسلُ سبحانه عليه الرِّيحَ وهو في الجوِّ فتَذْرُوه وتفرِّقُه؛ لئلَّا يؤذيَ ويهدِم ما ينزلُ عليه بجملته، حتى إذا رَوِيَت وأخذَت حاجتَها منه أقلَع عنها وفارقها؛ فهي رَوايا الأرض محمولةٌ على ظهور الرِّياح. وفي «التِّرمذي» (4) وغيره أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رأى السَّحابَ قال: «هذه روايا الأرض، يسوقُها الله إلى قومٍ لا يشكرونه ولا يَذْكرونه». _________ (1) «في الماء» ليست في (د، ق، ت). (2) «الإحياء»: «من غير علاقة تشاهد وعقدة تشد». (3) (د، ق، ت): «سحابة». (4) (3298). وهو جزءٌ من حديث أبي هريرة المتقدم قريبًا.

(2/575)


فالسَّحابُ حاملُ رِزق العباد وغيرهم التي عليها مِيرتُهم (1). وكان الحسنُ إذا رأى السَّحابَ قال: «في هذا ــ والله ــ رِزقكم، ولكنكم تُحْرَمُونه بخطاياكم وذنوبكم» (2). وفي «الصَّحيح» (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرض إذ سَمِعَ صوتًا في سحابة: اسقِ حديقةَ فلان، فمرَّ الرَّجلُ مع السَّحابة حتى أتت على حديقة، فلمَّا توسَّطتها أفرغَت فيها ماءها، فإذا برجلٍ معه مِسحاةٌ يَسْحِي الماءَ بها، فقال: ما اسمُك يا عبد الله؟ قال: فلان، للاسم الذي سَمِعهُ في السحابة ... ». وبالجملة؛ فإذا تأمَّلتَ السَّحابَ الكثيفَ المُظلِم (4)، كيف تراهُ يجتمعُ في جوٍّ صافٍ لا كُدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لِينه ورخاوته حاملٌ للماء الثَّقيل بين السَّماء والأرض، إلى أن يأذنَ له ربُّه وخالقُه في إرسال ما معه من الماء، فيرسلُه ويُنْزِلُه منه مقطَّعًا بالقَطَرات، كلُّ قطرةٍ بقَدْرٍ مخصوصٍ اقتضته حكمتُه ورحمتُه، فيرشُّ السَّحابُ الماءَ على الأرض رشًّا، ويرسلُه قَطَراتٍ مفصَّلة، لا تختلطُ قطرةٌ منها بأخرى، ولا يتقدَّم متأخِّرُها، ولا يتأخَّر متقدِّمها، ولا تُدْرِكُ القطرةُ صاحبتَها فتمتزجُ بها (5)، بل تنزلُ كلُّ واحدةٍ في الطَّريق الذي رُسِمَ لها لا تَعْدِلُ عنه، حتى _________ (1) المِيرة: الطعام ونحوه مما يجلَبُ للبيع. «اللسان» (مور). (2) أخرجه الطبري (22/ 420)، وأبو الشيخ في «العظمة» (733). (3) «صحيح مسلم» (2984) من حديث أبي هريرة بمعناه. (4) «الإحياء» (4/ 444). (5) (ح، ن): «فتمزج بها».

(2/576)


تصيبَ الأرض قطرةً قطرة، قد عُيِّنت كلُّ قطرةٍ منها لجزءٍ من الأرض لا تتعدَّاه إلى غيره، فلو اجتمع الخلقُ كلُّهم على أن يخلقوا منها قطرةً واحدةً أو يحصُوا عدد القَطر في لحظةٍ واحدةٍ لعجزُوا عنه. فتأمَّل كيف يَسُوقُه سبحانه رزقًا للعباد والدَّوابِّ والطَّير والذَّرِّ والنَّمل، يَسُوقُه رزقًا للحيوان الفُلانيِّ في الأرض الفُلانيَّة بجانب الجبل الفُلانيِّ، فيَصِلُ إليه على شدَّةٍ من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا. ثمَّ كيف أودَعه في الأرض (1)، ثمَّ أخرجَ به أنواعَ الأغذية والأدوية والأقوات، فهذا النَّباتُ يغذِّي، وهذا يُصْلِحُ الغذاء، وهذا يُنْفِذُه، وهذا يُقَوِّي (2)، وهذا يُضعِف، وهذا سُمٌّ قاتل، وهذا شفاءٌ من السمِّ، وهذا يُمْرِض، وهذا دواءٌ من المرض، وهذا يبرِّد، وهذا يسخِّن، وهذا إذا حصَل في المعدة قمَع الصَّفراءَ من أعماق العُروق، وهذا إذا حصَل فيها ولَّدَ الصَّفراءَ واستحال إليها، وهذا يَدْفَعُ البلغمَ والسَّوداء، وهذا يستحيلُ إليهما، وهذا يهيِّجُ الدَّم، وهذا يسكِّنه، وهذا ينوِّمُ، وهذا يمنعُ النَّوم، وهذا يُفْرِحُ، وهذا يجلِبُ الغمَّ، إلى غير ذلك من عجائب النَّبات التي لا تكادُ تخلو ورقةٌ منه ولا عِرقٌ ولا ثمرةٌ من منافع تعجزُ عقولُ البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها. وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الدَّقيقة (3) الضَّئيلة الضعيفة التي لا يكادُ البصرُ يُدْرِكُها إلا بعد تحديقه، كيف يَقْوَى على قَسْرِه وعلى _________ (1) «الإحياء» (4/ 440، 444). (2) «وهذا يقوي» ليست في (ح، ن). (3) (ت): «الرقيقة».

(2/577)


اجتذابه من مقرِّه ومركزه إلى فوق، ثمَّ ينصرفُ في تلك المجاري بحسب قبولها وسَعَتها وضيقها، ثمَّ تتفرَّقُ وتتشعَّبُ وتَدِقُّ إلى غايةٍ لا ينالها البصر. ثمَّ انظر إلى تكوُّن حَمْل الشجر ونُقْلَتِه (1) من حالٍ إلى حال، كتنقُّل أحوال الجنين المغيَّب عن الأبصار، ترى العجبَ العُجاب؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين. بَيْنا تراها حَطبًا قائمًا عاريًا لا كسوة عليها، إذ كساها ربُّها وخالقُها من الزَّهْر أحسنَ كسوة، ثمَّ سَلَبَها تلك الكسوةَ وكساها من الوَرَق كسوةً هي أثبتُ من الأولى، ثمَّ أطلَع فيها حَمْلَها ضعيفًا ضئيلًا، بعد أن أخرَج ورقَها صيانةً وثوبًا لتلك الثَّمرة الضعيفة، تستَجِنُّ به (2) من الحرِّ والبرد والآفات، ثمَّ ساق إلى تلك الثِّمار رزقَها، وغذَّاها في تلك العُروق والمجاري، فتغذَّت به كما يتغذَّى الطفلُ بلبان أمِّه، ثمَّ ربَّاها ونمَّاها شيئًا فشيئًا حتى استوت وكَمُلَت وتناهى إدراكُها، فأخرَج ذلك الجَنى اللذيذَ الليِّن من تلك الحطَبة الصَّمَّاء. هذا، وكم لله من آيةٍ في كلِّ ما يقعُ الحسُّ عليه ويبصرُه العبادُ وما لا يبصرُونه (3)، تفنى الأعمارُ دون الإحاطة بها وبجميع تفاصيلها. فصل ومن آياته سبحانه وتعالى: الليلُ والنَّهار، وهما من أعجب آياته وبدائع _________ (1) (ق، ت، د): «وتقلبه». (2) (ت): «لتستجن به». (ح، ن): «لتسجى به». (3) (ت): «وما لا تبصر وبه».

(2/578)


مصنوعاته، ولهذا يعيدُ ذِكرَهما في القرآن ويُبْدِيه؛ كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، وقوله عزَّ وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، وقوله عزَّ وجل: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر: 61]. وهذا كثيرٌ في القرآن. فانظر إلى هاتين الآيتين وما تضمَّنتاه من العبرة والدَّلالة (1) على ربوبيَّة الله وحكمته: كيف جعَل الليلَ سَكَنًا ولباسًا يغشى العالمَ فتسكُن فيه الحركات، وتأوي الحيواناتُ إلى بيوتها، والطَّيرُ إلى أوكارها، وتستَجِمُّ فيه النُّفوسُ وتستريحُ من كدِّ السَّعي والتَّعب. حتى إذا أخذتْ منه النُّفوسُ راحتَها وسُباتها، وتطلَّعت إلى معايشها وتصرُّفها، جاء فالقُ الإصباح سبحانه وتعالى بالنَّهار يَقْدُمُ جيشَه بشيرُ الصَّباح، فهزَم تلك الظُّلمةَ ومزَّقها كلَّ ممزَّق، وأزالها وكشَفها عن العالم فإذا هم مبصرون، فانتشرَ الحيوانُ وتصرَّف في معاشه ومصالحه وخرجت الطُّيورُ من أوكارها. فيا له من مَعادٍ ونشأةٍ دالٍّ على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر، وتكرُّره ودوامُ (2) مشاهدة النُّفوس له بحيثُ صار عادةً ومَألفًا منَعها عن _________ (1) (ن، ح): «العبر والدلالات». (2) (ت): «وتكرر ودام».

(2/579)


الاعتبار به والاستدلال على النَّشأة الثَّانية وإحياء الخلق بعد موتهم، ولا ضعفَ في قدرة القادر التَّامِّ القدرة، ولا قصورَ في حكمته ولا في علمه يوجبُ تخلُّفَ ذلك، ولكنَّ الله يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء. وهذا أيضًا من آياته الباهرة: أن يَعمى عن هذه الآيات الواضحات البيِّنات من شاء من خلقه، فلا يهتدي بها ولا يبصرُها، كمن هو واقفٌ في الماء إلى حلقه وهو يستغيثُ العَطش، وينكرُ وجودَ الماء! وبهذا وأمثاله يُعْرَفُ اللهُ عزَّ وجلَّ ويُشْكَرُ ويُحْمَد، ويُتَضرَّعُ إليه ويُسأل. فصل (1) ومن آياته وعجائب مصنوعاته: البحارُ المكتنِفةُ لأقطار الأرض، التي هي خُلْجَانٌ من البحر الأعظم المحيط (2) بجميع الأرض، حتى إنَّ المكشوفَ من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرةٍ صغيرةٍ في بحرٍ عظيم، وبقيَّةُ الأرض مغمورةٌ بالماء. ولولا إمساكُ الرَّبِّ تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسُه الماءَ لطَفَحَ على الأرض وعَلاها كلَّها. هذا طبعُ الماء. ولهذا حار عقلاءُ الطَّبائعيِّين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض، مع اقتضاء طبيعة الماء (3) للعلوِّ عليه وأن يَغْمُرَه، ولم يجدوا ما يُحِيلون عليه ذلك إلا الاعترافَ بالعناية الأزليَّة والحكمة الإلهيَّة التي اقتضت ذلك ليعيش _________ (1) كلمة «فصل» ساقطة من (د، ق، ت). وانظر: «الإحياء» (4/ 442). (2) في الأصول: «المحيط الأعظم». والمثبت من «الإحياء». (3) (ت): «طبيعة الأرض».

(2/580)


الحيوانُ الأرضيُّ في الأرض. وهذا حقٌّ، ولكنَّه يوجبُ الاعترافَ بقدرة الله وإرادته ومشيئته، وعلمه وحكمته، وصفات كماله. ولا محيصَ عنه. وفي «مسند الإمام أحمد» (1) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما مِن يومٍ إلا والبحرُ يستأذنُ ربَّه أن يُغْرِق بني آدم». وهذا أحدُ الأقوال في قوله عزَّ وجل: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]: أنه المحبوس. حكاه ابنُ عطيَّة (2) وغيرُه. قالوا: «ومنه: ساجورُ الكلب؛ وهي القلادةُ من عودٍ أو حديدٍ التي تمسِكُه. ولذلك (3) لولا أنَّ الله سبحانه يحبسُ البحرَ ويمسِكُه لفاض على الأرض»؛ فالأرض في البحر كبيتٍ في جملة الأرض. وإذا تأمَّلتَ عجائبَ البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأشكالها، ومقاديرها، ومنافعها ومضارِّها، وألوانها، حتى إنَّ فيها حيوانًا أمثال الجبال لا يقومُ له شيء (4)، حتى إنَّ فيه من الحيوانات ما يُرى _________ (1) (1/ 43)، وإسحاق بن راهويه ــ كما في «المطالب العالية» (2/ 343) ــ، ومن طريقه الإسماعيلي ــ كما في «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 607)، و «التفسير» (7/ 3314) ــ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسنادٍ ضعيف؛ فيه راوٍ لم يُسَمَّ، وآخر لم أر فيه توثيقًا معتبرًا. وانظر: «العلل المتناهية» (1/ 41)، و «الضعيفة» (4392). وقد ساق المصنف الحديث بمعناه. (2) في «المحرر الوجيز» (14/ 51). وانظر: «تفسير الطبري» (22/ 459). (3) (ت) ومطبوعة «المحرر الوجيز»: «وكذلك». (4) «لا يقوم له شيء» ليست في (ح).

(2/581)


ظهورُها فيُظنُّ أنها جزيرة، فينزلُ الرُّكَّابُ عليها، فتُحِسُّ بالنَّار إذا أُوقِدَت، فتتحرَّك، فيُعْلَمُ أنه حيوان (1). وما من صنفٍ من أصنافِ حيوان البرِّ إلا وفي البحر أمثالُه، حتى الإنسانُ والفَرسُ والبقرُ (2) وأضعافُها (3)، وفيه أجناسٌ لا يُعْهَدُ لها نظيرٌ في البرِّ أصلًا (4). هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان؛ فترى اللؤلؤةَ كيف أُودِعَت في كِنٍّ كالبيت لها (5) ــ وهي الصَّدَفة ــ تَكُنُّها وتحفظها، ومنه: «اللؤلؤ المكنون»، وهو الذي في صَدَفِه لم تمسَّه الأيدي. وتأمَّل كيف نبتَ المرجانُ في قَعْرِه في الصَّخرة الصمَّاء تحت الماء على هيئة الشجر. هذا مع ما فيه من العَنبر وأصناف النَّفائس التي يقذفُها البحرُ وتُستخرَجُ منه. ثمَّ انظر إلى عجائب السُّفن وسَيْرها في البحر، تَشُقُّه وتَمْخَرُه بلا قائدٍ يقودُها ولا سائقٍ يسوقُها، وإنما قائدُها وسائقُها الرِّياحُ التي يسخِّرها الله لإجرائها، فإذا حُبِسَ عنها القائدُ والسَّائقُ ظلَّت راكدةً على وجه الماء. _________ (1) انظر: «الإحياء» (4/ 442). (2) (ح، ن): «والبعير». والمثبت من (د، ق، ت) و «الإحياء». (3) (ح، ن): «وأصنافها». والمثبت من (د، ق، ت) و «الإحياء». (4) انظر: «الإحياء» (4/ 442)، و «الحيوان» (7/ 140)، و «تفسير القرطبي» (6/ 320). (5) (ت): «في بيت لها».

(2/582)


قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32 - 33]، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]. فما أعظمَها من آيةٍ وأبينَها من دلالة! ولهذا يكرِّرُ سبحانه ذِكرَها في كتابه كثيرًا. وبالجملة؛ فعجائبُ البحر وآياتُه أعظمُ وأكثرُ من أن يحصيها إلا الله سبحانه؛ وقال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11 - 12]. فصل ومن آياته سبحانه: خلقُ الحيوان على اختلاف أصنافه وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودَعة فيه؛ فمنه الماشي على بطنه، ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربَع، ومنه ما جُعِل سلاحُه في رجليه ــ وهو ذو المخالب ــ، ومنه ما سلاحُه (1) المناقير، كالنَّسر والرَّخَم والغُراب، ومنه ما سلاحُه الأسنان، ومنه ما سلاحُه الصَّياصي ــ وهي القُرون ــ يُدافِعُ بها عن نفسه من يرومُ أخذَه، ومنها ما أُعطِي قوَّةً (2) يَدْفَعُ بها عن نفسه لم يحتَج _________ (1) (ح، ن): «ما جعل سلاحه». (2) (ن، ح): «وما أعطي منها قوة».

(2/583)


إلى سلاح، كالأسد؛ فإنَّ سلاحَه قوَّتُه، ومنه ما سلاحُه في ذَرْقِه (1)، وهو نوعٌ من الطَّير إذا دنا منه من يريدُ أخذَه ذَرَقَ عليه فأهلكَه. * ... * ... * ونحن نذكُر هنا فصولًا منثورةً من هذا الباب مختصرة، وإن تضمَّنت بعض التكرار، وإن كانت غيرَ مرتَّبة، فلا ضيرَ بالتكرار وتركِ التَّرتيب في هذا المقام الذي هو من أهمِّ فصول الكتاب، بل هو لُبُّ هذا القسم الأوَّل (2). ولهذا يكرِّرُ (3) في القرآن ذِكرَ آياته، ويُعِيدُها ويُبْدِيها ويأمرُ عبادَه بالنَّظر فيها مرَّةً بعد أخرى؛ فهو من أجلِّ مقاصد القرآن. قال الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]، وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]. _________ (1) ذَرْقُ الطائر: خرؤه. «اللسان» (ذرق). (2) وهو ما يتعلَّق بالعلم. (3) أي الربُّ سبحانه. وفي (ق، ن، د): «تكرر».

(2/584)


وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 95 ــ 99]. فأمَر سبحانه بالنَّظر إليه وقتَ خروجه وإثماره ووقتَ نُضجه وإدراكه، يقال: «أينعَت الثمارُ» إذا نَضِجَت وطابت؛ لأنَّ في خروجه من بين الحطب والوَرَق آيةً باهرةً وقدرةً بالغة، ثمَّ في خروجه من حَدِّ العُفوصَة (1) واليُبوسة والمرارة والحموضة إلى ذلك اللون المُشْرِق النَّاصع (2) والطَّعم الحلو اللذيذ الشهيِّ لآياتٌ لقومٍ يؤمنون. وقال بعض السَّلف: حقٌّ على النَّاس أن يخرجوا وقتَ إدراك الثِّمار ويَنْعِها، فينظروا إليها. ثمَّ تلا: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (3). ولو أردنا أن نستوعِبَ ما في آيات الله المشهودة (4) من العجائب _________ (1) طعامٌ عَفِص: فيه مرارةٌ وتقبُّض يعسر ابتلاعُه. «اللسان» (عفص). (2) (ت، ح): «الناضج». (3) أخرجه ابن أبي عاصم في «الجهاد» (2/ 543)، وأبو الشيخ ــ كما في «الدر المنثور» (3/ 36) ــ عن محمد بن مسعر. (4) (ن، ت): «المشهورة».

(2/585)


والدَّلالات الشاهدة لله بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي ليس كمثله شيء، وأنه الذي لا أعظمَ منه ولا أكمَل، ولا أبرَّ ولا ألطف= لعَجَزنا نحن والأوَّلون والآخرون عن معرفة أدنى عُشْرِ معشارِ ذلك، ولكنَّ ما لا يُدْرَكُ جميعُه لا ينبغي تركُه البتَّة والتنبيه (1) على بعض ما يُستَدلُّ به على ذلك. وهذا حين الشُّروع في الفصول (2): فصل (3) تأمَّل العِبرة في وَضع (4) هذا العالَم، وتأليف أجزائه، ونَظْمِها على أحسن نظامٍ وأدلِّه على كمال قدرة خالقه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال لُطفه. فإنَّك إذا تأمَّلتَ العالم وجدتَه كالبيت المبنيِّ المُعَدِّ فيه جميعُ آلاته ومصالحه وكلُّ ما يحتاجُ إليه؛ فالسَّماءُ سقفُه المرفوعُ عليه، والأرض مِهادٌ وبساطٌ وفِراشٌ ومستقَرٌّ للسَّاكن، والشمسُ والقمرُ سراجان يُزْهِران فيه، والنُّجومُ مصابيحُ له وزينةٌ وأدلَّةٌ للمتنقِّل (5) في طرق هذه الدَّار، والجواهرُ _________ (1) (ق) بدون الواو. (ح، ن): «ترك التنبيه والتنبيه». (ت): «ترك التنبيه». (2) أصول هذه الفصول من كتاب «الدلائل والاعتبار» المنسوب للجاحظ، وسبق في المقدمة بيان التنازع في نسبته، وقد أدخلت أهمَّ قراءاته في فروق النسخ ورمزت له بـ (ر)، ورمزت لنسخة «توحيد المفضل» بـ (ض). (3) «الدلائل والاعتبار» (3)، «توحيد المفضل» (11 - 12). (4) (ض): «تهيئة». (5) (ت، ح): «للمنتقل».

(2/586)


والمعادنُ مخزونةٌ فيه كالذخائر والحواصِل (1) المُعَدَّة المهيَّأة كلُّ شيءٍ منها لشأنه الذي يصلُح له (2)، وضروبُ النَّبات مهيَّأةٌ لمآربه، وصنوفُ الحيوان مصرَّفةٌ (3) في مصالحه؛ فمنها الرَّكُوب، ومنها الحَلُوب، ومنها الغذاء، ومنها الدَّواءُ (4)، ومنها اللباسُ والأمتعةُ والآلات (5)، ومنها الحرَسُ الذي وُكِّل بحَرْسِ الإنسان؛ يحرُسه وهو نائمٌ وقاعدٌ مما هو مستعدٌّ لإهلاكه وأذاه، فلولا ما سُلِّط عليه من ضدِّه لم يستقرَّ للإنسان قرارٌ بينهم، وجعَل الإنسانَ كالملِك المخوَّل في ذلك المحكَّم فيه، المتصرِّف بفعله وأمره. ففي هذا أعظمُ دلالةٍ وأوضحُها على أنَّ العالم مخلوقٌ لخالقٍ حكيمٍ قديرٍ عليم، قدَّره أحسنَ تقدير، ونظَّمه أحسنَ نظام، وأنَّ الخالقَ له يستحيلُ أن يكون اثنين، بل إلهٌ واحد، لا إله إلا هو، تعالى عمَّا يقولُ الظَّالمون والجاحدون عُلوًّا كبيرًا، وأنه لو كان في السَّموات والأرض إلهٌ غيرُ الله لفسَد أمرُهما، واختلَّ نظامُهما، وتعطَّلت مصالحهما. وإذا كان البدنُ يستحيلُ أن يكون المدبِّرَ له رُوحان متكافئان متساويان, ولو كان كذلك لفسَد وهلَك، مع إمكان أن يكونا تحت قَهْرِ ثالث؛ فكيف يمكنُ أن يكون المدبِّر لهذا العالم العُلويِّ والسُّفليِّ إلهين متكافئين متساويين ليسا تحت قَهْرِ ثالث (6)؟! _________ (1) الحواصل، جمع حاصل، وهو المستودع والمخزن. «تكملة المعاجم» (3/ 220). (2) (ر): «والجواهر مخزونة في معادنها كالذخائر». (3) (ض): «مصروفة». (4) «ومنها الدواء» ليست في (ت، ح، ن). (5) (ح): «والآلة». (6) من قوله: «فكيف يمكن» إلى هنا، ساقطٌ من (ت، ق، ن) لانتقال النظر.

(2/587)


هذا من المُحال في أوائل العقول وبَدائه الفِطر، فـ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92]. فهذان بُرهانان يعجَزُ الأوَّلون والآخرون أن يقدحوا فيهما بقدحٍ صحيحٍ أو يأتوا بأحسنَ منهما، ولا يَعترِضُ عليهما إلا من لم يفهَم المرادَ منهما، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرنا تقريرَهما (1) وبيانَ ما تضمَّناه من السرِّ العجيب والبرهان الباهر (2)، وسنفردُ ــ إن شاء الله ــ كتابًا مستقلًا لأدلَّة التَّوحيد (3). _________ (1) (ت، ح): «تقديرهما». (2) انظر: «الصواعق المرسلة» (463)، و «الداء والدواء» (470)، و «إعلام الموقعين» (3/ 274). (3) لم أر له ذكرًا عند ابن القيم في غير هذا الموضع، ولم أقف عليه ضمن قوائم مصنفاته عند مترجميه، ولا عثرتُ على من نقل عنه؛ فلعله لم يتيسَّر له تصنيفه، وقد تمنى رحمه الله إفراد بعض المباحث بالتصنيف، فلم يتم له ذلك. انظر: كتاب «ابن قيم الجوزية» للشيخ بكر (232، 234، 244، 248، ... ). وهذه جملةٌ من المواضع التي بحث فيها أدلة التوحيد: «مدارج السالكين» (3/ 488)، و «الصواعق المرسلة» (460 - 467، 1197)، و «طريق الهجرتين» (92، 257، 259)، و «أيمان القرآن» (10، 27، 59، 139، 250، 253، 261، 302، 569)، و «الداء والدواء» (82، 471)، و «بدائع الفوائد» (780، 1543، 1591)، و «شفاء العليل» (93، 380، 411)، و «أحكام أهل الذمة» (1013)، وفهرس العقيدة آخر الكتاب.

(2/588)


فصل (1) تأمَّل خلقَ السَّماء، وارجِع البصرَ فيها كرَّةً بعد كرَّة، كيف تراها من أعظم الآيات في عُلوِّها وارتفاعها وسَعَتها وقرارها، بحيث لا تَصْعَدُ عُلوًّا كالنَّار، ولا تهبطُ نازلةً كالأجسام الثَّقيلة، ولا عَمَدَ تحتها ولا عِلاقةَ فوقها، بل هي ممسوكةٌ (2) بقدرة الله الذي يُمْسِكُ السَّمواتِ والأرض أن تزولا. ثمَّ تأمَّل استواءها واعتدالها، فلا صَدْعَ فيها، ولا فَطْرَ ولا شَقَّ، ولا أمْتَ ولا عِوَج. ثمَّ تأمَّل ما وُضِعَت عليه من هذا اللَّون الذي هو أحسنُ الألوان وأشدُّها موافقةً للبصر وتقويةً له؛ حتى إنَّ من أصابه شيءٌ أضرَّ ببصره يؤمرُ بإدمان النَّظر إلى الخُضرة وما قَرُبَ منها إلى السَّواد، وقال الأطبَّاء: إنَّ من كَلَّ بصرُه فإنَّه من دوائه أن يُديمَ الاطِّلاع إلى إجَّانةٍ (3) خضراءَ مملوءةٍ ماءً (4). فتأمَّل كيف جعَل أديمَ السَّماء بهذا اللون ليُمْسِكَ الأبصارَ المتقلِّبة فيه (5) ولا يَنكَأ فيها (6) بطول مباشرتها له. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (3)، «توحيد المفضل» (78). (2) كذا في الأصول، وتقع في كلام المتأخرين، وهي محدثة، والجادة: مُمْسَكة. (3) الإجَّانة: إناء. (4) انظر: «الحيوان» (3/ 323)، و «القانون» (2/ 216)، و «المعتمد» (1/ 216، 254). ومن مشهور الأخبار: أن النظر إلى الخضرة يزيد في البصر، ورفعه بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورفعُه باطل. (5) (ق): «المقبلة فيها». (ض): «المتقلبة عليه». (6) أي: يؤذيها. نكَأ القرحة: قَشَرها قبل أن تبرأ. وفي (ت): «يتكافها». والمثبت من باقي الأصول و (ض) و «شفاء العليل» (643). (ر): «ينكى».

(2/589)


هذا بعض فوائد هذا اللون، والحكمةُ فيه أضعافُ ذلك. فصل (1) ثمَّ تأمَّل حالَ الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتَيْ الليل والنَّهار، ولولا طلوعُهما لبطَل أمرُ العالم، وكيف كان النَّاسُ يسعَون في معايشهم (2)، ويتصرَّفون في أمورهم، والدُّنيا مظلمةٌ عليهم؟! وكيف كانوا يتهنَّون (3) بالعَيش مع فقد النُّور؟! ثمَّ تأمَّل الحكمة في غروبها؛ فإنه لولا غروبها لم يكن للنَّاس هدوءٌ ولا قرار، مع فرطِ الحاجة إلى السُّبات، وجموم الحواسِّ (4)، وانبعاث القُوى الباطنة وظهور سلطانها في النَّوم المُعِين (5) على هضم الطَّعام (6) وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء. ثمَّ لولا الغروبُ لكانت الأرض تَحْمى بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها، حتى يحترق كلُّ ما عليها من حيوانٍ ونبات. فصارت تطلعُ وقتًا، بمنزلة السِّراج يُرْفَعُ لأهل البيت ليقضوا حوائجَهم، _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (4)، «توحيد المفضل» (79). (2) (د، ق، ن): «معاشهم». (ت): «أمر معاشهم». (3) (د): «يتهنؤون». (ح): «يهتنون». (4) كذا في الأصول و (ر، ض). والجَمام: الراحة. واستعمال «الجموم» لهذا المعنى وقع كذلك في «الصواعق» (1570)، و «أيمان القرآن» (256)، و «منهاج البلغاء» لحازم (293، 321). (5) (د، ق، ن): «المعينة». (6) (ر، ض): «وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام».

(2/590)


ثمَّ تغيبُ (1) عنهم مثلَ ذلك ليَقِرُّوا ويهدؤوا، وصار ضياءُ النَّهار مع ظلام الليل، وحرُّ هذا مع بَرد هذا، مع تضادِّهما، متعاونَين (2) متظاهِرَين، بهما تمامُ مصالح العالَم. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبَّه عبادَه عليه بقوله عزَّ وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 71 - 72]. وخصَّ سبحانه النَّهارَ بذكر البصر؛ لأنه محلُّه، وفيه سلطانُ البصر وتصرُّفُه. وخصَّ الليلَ بذكر السَّمع لأنَّ سلطانَ السَّمع يكونُ بالليل، وتُسْمَعُ (3) فيه الحيواناتُ ما لا تُسْمَعُ (4) في النَّهار؛ لأنه وقتُ هدوء الأصوات، وخمود الحركات، وقوَّة سلطان السمع، وضعف سلطان البصر. والنَّهارُ بالعكس؛ فيه قوَّة سلطان البصر، وضعفُ سلطان السمع. فقولُه: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} راجعٌ إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ} به، وقوله: {أَفَلَا _________ (1) (ر، ض): «يغيب». (2) (ض): «منقادين». (3) (ح، ن): «ويسمع». (4) (ق، ح، ن): «يسمع».

(2/591)


تُبْصِرُونَ} راجعٌ إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61 - 62]، فذكر تعالى خلقَ الليل والنَّهار، وأنهما خِلْفَة، أي: يَخْلُفُ أحدُهما الآخرَ لا يجتمعُ معه، ولو اجتمع معه لفاتت المصلحةُ بتعاقُبهما واختلافهما. وهذا هو المرادُ باختلاف الليل والنَّهار؛ كونُ كلِّ واحدٍ منهما يخلُف الآخرَ لا يجامعُه ولا يحايِثُه (1)، بل يغشى أحدُهما صاحبَه فيطلُبه حثيثًا حتى يزيلَه عن سلطانه، ثمَّ يجيء الآخرُ عَقِيبَه فيطلُبه حثيثًا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه، فهما يتطالبان ولا يُدرِكُ أحدُهما صاحبَه. فصل (2) ثمَّ تأمَّل بعد ذلك أحوالَ هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول (3)، وما فيها من المصالح والحِكَم؛ إذ لو كان الزَّمانُ كلُّه فصلًا واحدًا لفاتت مصالحُ (4) الفصول الباقية فيه؛ فلو كان صيفًا كلُّه _________ (1) أي: يداخله ويجامعه. انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 269). مشتقةٌ من «حيث» الدالة على المكان. وفي (ت، ن): «يجانبه». (2) «الدلائل والاعتبار» (4)، «توحيد المفضل» (80). (3) (ر، ض): «ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة». (4) (ن): «لفاتت منافع مصالح».

(2/592)


لفاتت مصالحُ الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت منافعُ الصَّيف، وكذلك لو كان ربيعًا كلُّه، أو خريفًا كلُّه. ففي الشتاء تغُورُ الحرارةُ في الأجواف وبُطون الأرض والجبال (1)؛ فتتولَّدُ موادُّ الثِّمار وغيرُها، وتَبْرُد الظَّواهرُ ويَسْتكثِفُ الهواءُ فيه؛ فيحصلُ السَّحابُ والمطرُ والثَّلجُ والبَرَدُ الذي به حياةُ الأرض وأهلها، واشتدادُ أبدان الحيوان وقوَّتها، وتَزايُد القُوى الطَّبيعيَّة، واستخلافُ ما حلَّله حرارةُ الصَّيف من الأبدان. وفي الرَّبيع تتحرَّكُ الطَّبائع، وتَظهرُ الموادُّ المتولِّدةُ في الشتاء؛ فيظهرُ النَّبات، ويَتنوَّرُ (2) الشَّجرُ بالزَّهر، ويتحرَّكُ الحيوانُ للتَّناسُل. وفي الصَّيف يحتدمُ (3) الهواءُ ويسخُن جدًّا؛ فتنضجُ الثِّمار، وتَنْحَلُّ (4) فضلاتُ الأبدان والأخلاطُ التي انعقَدت في الشتاء، وتغُورُ البرودةُ وتهربُ إلى الأجواف؛ ولهذا تبرُد العيونُ والآبار، ولا تهضِمُ المعدةُ الطَّعامَ التي كانت تهضمُه في الشتاء من الأطعمة الغليظة (5)؛ لأنها كانت تهضمُها بالحرارة التي سكنَت في البطون، فلمَّا جاء الصَّيفُ خرجت الحرارةُ إلى ظاهر الجسد، وغارَت البرودةُ فيه. فإذا جاء الخريفُ اعتدل الزَّمان، وصفا الهواءُ وبَرَد؛ فانكسَر ذلك _________ (1) (ض): «تعود الحرارة في الشجر والنبات». (2) (د، ق، ت): «ويتزرر». (ض): «وتنور». (3) في الأصول: «يحتد». والمثبت من (ر، ض) أشبه. وسيأتي (ص: 639). (4) (ر، ض): «وتتحلل». (5) (د، ق، ت): «المغلظة».

(2/593)


السَّموم (1)، وجعله الله بحكمته برزخًا بين سَموم الصَّيف وبَرْد الشتاء؛ لئلَّا ينتقل الحيوانُ وَهْلةً واحدةً من الحرِّ الشديد إلى البرد الشديد فيَجِدُ أذاه ويعظُم ضررُه (2)، فإذا انتَقل إليه بتدريجٍ وترتيبٍ لم يصعُب عليه، فإنه عند كلِّ جزءٍ يستعدُّ لقبول ما هو أشدُّ منه، حتى تأتي جمهرةُ البرد (3) بعد استعدادٍ وقبول. حكمةً بالغةً وآيةً باهرة. وكذلك الرَّبيعُ برزخٌ بين الشتاء والصَّيف، ينتقلُ فيه الحيوانُ من برد هذا إلى حرِّ هذا بتدريجٍ وترتيب. فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين. فصل (4) ثمَّ تأمَّل حال الشمس والقمر وما أُودِعاه من النُّور والإضاءة، وكيف جعَل لهما بروجًا ومنازلَ يَنزِلانها مرحلةً بعد مرحلة؛ لإقامة دَولة السَّنة وتمام مصالح حساب العالَم الذي لا غِنى لهم في مصالحهم عنه؛ فبذلك يُعْلَمُ حسابُ الأعمار والآجال المؤجَّلة للدُّيون والإجارات والمعاملات والعِدَد وغير ذلك، فلولا حلولُ الشمس والقمر في تلك المنازل وتنقُّلهما فيها منزلةً بعد منزلةٍ لم يُعْلَم شيءٌ من ذلك. وقد نبَّه الله تعالى على هذا في غير موضعٍ من كتابه، كقوله (5): {هُوَ _________ (1) وهو الريح الحارَّة. (2) (ح): «وتعظم مضرته». (3) أي: معظمُه. وفي (ق): «جهرة البرد». (4) «الدلائل والاعتبار» (5)، «توحيد المفضل» (80 - 81). (5) (د، ق): «بقوله».

(2/594)


الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء: 12]. فصل (1) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في طلوع الشمس على العالم، كيف قدَّره العزيزُ العليمُ سبحانه؛ فإنها لو كانت تطلُع في موضعٍ من السَّماء فتَقِفُ فيه ولا تَعْدُوه لما وَصَل شعاعُها إلى كثيرٍ من الجهات؛ لأنَّ ظِلَّ أحد جوانب كُرة الأرض يحجُبها عن الجانب الآخر (2)، فكان يكونُ الليلُ دائمًا سَرْمدًا على من لم تطلُع عليهم، والنَّهارُ دائمًا سَرْمدًا على من هي طالعةٌ عليهم، فيفسُد هؤلاء وهؤلاء. فاقتضت الحكمةُ الإلهيَّةُ والعنايةُ الربَّانيَّةُ أن قدَّر طلوعَها من أوَّل النَّهار من المشرق، فتُشْرِقُ على ما قابَلها (3) من الأفق الغربيِّ، ثمَّ لا تزالُ تدورُ وتغشى جهةً بعد جهةٍ حتى تنتهي إلى المغرب، فتُشْرِق على ما استَتر عنها في أوَّل النَّهار، فيختلف عندهم الليلُ والنَّهار، فتنتظم مصالحهم. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (5)، «توحيد المفضل» (81). (2) (ر، ض): «لأن الجبال والجدران كانت تحجبها عنها». (3) (ح): «على ما قاربها».

(2/595)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في مقادير الليل والنَّهار تَجِدْها على غاية المصلحة والحكمة، وأنَّ مقدار اليوم والليلة لو زاد على ما قُدِّرَ عليه أو نَقَصَ لفاتت المصلحةُ واختلَّت الحكمةُ بذلك، بل جُعِل مِكيالهما أربعةً وعشرين ساعة، وجُعِلا يتقارضان الزيادة والنُّقصان بينهما، فما يزيدُ في أحدهما من الآخر يعودُ الآخرُ (2) فيستردُّه منه. قال الله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر: 13، الحديد: 6]، وفيه قولان (3): أحدهما: أنَّ المعنى: يُدْخِلُ ظُلمةَ هذا في مكان ضياء ذاك، وضياءَ هذا في مكان ظُلمة الآخر، فيُدْخِلُ كلَّ واحدٍ منهما في موضع صاحبه. وعلى هذا، فهي عامَّةٌ في كلِّ ليلٍ ونهار. والقول الثَّاني: أنه يزيدُ في أحدهما ما ينقُصُه من الآخر، فما نقَصَ منه يَلِجُ في الآخر لا يَذهبُ جملة. وعلى هذا، فالآيةُ خاصَّةٌ ببعض ساعات كلٍّ من الليل والنَّهار في غير زمن الاعتدال؛ فهي خاصَّةٌ في الزَّمان وفي مقدار ما يَلِجُ في أحدهما من الآخر، وهو في الأقاليم المعتدلة غاية (4) ما تنتهي إليه الزيادة خمسَ عشرة _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (6)، «توحيد المفضل» (86 - 87). (2) (ن): «يعود إلى الآخر». (3) انظر: «تفسير الطبري» (6/ 302، 20/ 450، 23/ 170). (4) «غاية» ليست في (ق، ت، د).

(2/596)


ساعة، فيصيرُ الآخرُ تسعَ ساعات، فإذا زاد على ذلك انحرفَ ذلك الإقليمُ في الحرارة أو البرودة إلى أن ينتهي إلى حدٍّ لا يسكنُه الإنسانُ ولا يتكوَّنُ (1) فيه النَّباتُ. وكلُّ موضعٍ لا تقعُ عليه الشمسُ لا يعيشُ فيه حيوانٌ ولا نبات (2)؛ لفَرْطِ بردِه ويُبْسِه، وكلُّ موضعٍ لا تفارقُه كذلك؛ لفَرْط حرِّه ويُبْسِه. والمواضعُ التي يعيشُ فيها الحيوانُ والنَّباتُ هي التي تطلُعُ عليها الشمسُ وتغيب، وأعدلها المواضعُ التي تتعاقبُ عليها الفصولُ الأربعة، ويكونُ فيها اعتدالان: خريفيٌّ وربيعيٌّ. فصل (3) ثمَّ تأمَّل إنارةَ القمر والكواكب في ظُلمة الليل، والحكمة في ذلك؛ فإنَّ الله تعالى (4) اقتضت حكمتُه خلقَ الظُّلمة لهدوء الحيوان وبَرْدِ الهواء على الأبدان والنَّبات، فتُعادِلُ حرارةَ الشمس، فيقومُ النَّباتُ والحيوان. فلمَّا كان ذلك مقتضى حكمته شابَ الليلَ بشيءٍ من الأنوار، ولم يجعله ظُلمةً داجيةً حِنْدِسًا (5) لا ضوء فيه أصلًا، فكان لا يتمكَّنُ الحيوانُ فيه من شيءٍ من الحركة ولا الأعمال. _________ (1) (ح): «ولا يكون». (2) انظر: «الوابل الصيب» (123). (3) «الدلائل والاعتبار» (6)، «توحيد المفضل» (82). (4) (ق): «أن الله تعالى». (5) الحِندِس: الظُّلمة، أو شدَّتها. «اللسان».

(2/597)


ولمَّا كان الحيوانُ قد يحتاجُ في الليل إلى حركةٍ وسيرٍ وعملٍ (1) لا يتهيَّأ له بالنَّهار؛ لضيق النَّهار، أو لشدَّة الحرِّ، أو لخوفه بالنَّهار؛ كحال كثيرٍ من الحيوانات= جعَل في الليل من أضواء الكواكب وضوء القمر ما يتأتَّى فيه معه أعمالٌ كثيرة؛ كالسَّفر والحرث وغير ذلك من أعمال أهل الحُروث والزُّروع. فجعَل ضوءَ القمر بالليل معونةً للحيوان على هذه الحركات، وجعَل طلوعَه في بعض الليل دون بعضٍ مع نقص ضوئه عن ضوء الشمس لئلَّا يستويَ الليلُ والنَّهار، فتفوتَ حكمةُ الاختلاف بينهما والتَّفاوت الذي قدَّره العزيزُ العليم. فتأمَّل الحكمةَ البالغةَ والتَّقديرَ العجيبَ الذي اقتضى أن أعان الحيوانَ على دولة الظَّلام بجُندٍ من النُّور يستعينُ به على هذه الدَّولة المظلمة، ولم يجعل الدَّولةَ كلَّها ظُلمةً صِرفًا بل ظُلمةً مشُوبةً بنور؛ رحمةً منه وإحسانًا. فسبحان من أتقن ما صنَع، وأحسن كلَّ شيءٍ خَلَقه. فصل (2) ثمَّ تأمَّل حكمتَه تبارك وتعالى في هذه النُّجوم، وكثرتها، وعجيب خَلقِها، وأنها زينةٌ للسَّماء، وأدلَّةٌ يهتدى بها في طرق البرِّ والبحر، وما جعَل فيها من الضوء والنُّور بحيثُ يمكنُنا رؤيتُها مع البُعد المُفرِط، ولولا ذلك لم يحصُل (3) لنا بها الاهتداءُ والدَّلالةُ ومعرفةُ المواقيت. _________ (1) (ت): «حركة وتبين وعمل». (ن، ح): «حركة ومسير وعمل». (2) «الدلائل والاعتبار» (7)، «توحيد المفضل» (84 - 85). (3) (ق): «يجعل».

(2/598)


ثمَّ تأمَّل تسخيرَها منقادةً بأمر ربها تبارك وتعالى، جاريةً على سَنَنٍ واحدٍ اقتضتهُ حكمتُه وعلمُه، لا تخرُج عنه؛ فجعَل منها البروجَ والمنازل، والثَّوابتَ والسيَّارة، والكبارَ والصِّغارَ والمتوسِّط، والأبيض الأزهرَ والأبيض الأحمر، ومنها ما يخفى على النَّاظر فلا يدركه. وجعَل منطقةَ البروج قسمين: مرتفعةً ومنخفضة، وقدَّر سيرَها تقديرًا واحدًا، ونزَّل الشمسَ والقمرَ والسيَّارات منها منازلها؛ فمنها ما يقطعُها في شهرٍ واحدٍ ــ وهو القمر ــ، ومنها ما يقطعُها في عام (1)، ومنها ما يقطعُها في عدَّة أعوام، كلُّ ذلك مُوجَبُ الحكمة والعناية. وجعَل ذلك أسبابًا لِمَا يُحْدِثُه سبحانه في هذا العالم، فيستدلُّ بها النَّاسُ على تلك الحوادث التي تقارنها؛ لمعرفتهم بما يكونُ مع طلوع الثُّريَّا إذا طلعَت، وغروبها إذا سَقَطَت من الحوادث التي تقارنها، وكذلك غيرُها من المنازل والسيَّارات. ثمَّ تأمَّل جَعْلَه سبحانه بناتِ نَعْشٍ وما قَرُبَ منها ظاهرةً لا تغيب؛ لقُربها من المركز، ولما في ذلك من الحكمة الإلهيَّة، وأنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها النَّاسُ في الطُّرق المجهولة في البرِّ والبحر، فهم ينظرون إليها وإلى الجدي والفَرقدين (2) كلَّ وقتٍ أرادوا من الليل (3)، فيهتدون بها حيث شاؤوا. _________ (1) من قوله: «وهو القمر» إلى هنا، ساقطٌ من (ت). (2) «الثريا» و «بنات نعش» و «الجدي» و «الفرقدان» كواكبُ معروفة. (3) «من الليل» ليست في (ح، ن).

(2/599)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل اختلافَ سَير الكواكب وما فيه (2) من العجائب، كيف تجدُ بعضها لا يسيرُ إلا مع رُفقته، ولا ينفردُ عنهم بسَيره أبدًا (3)، بل لا يسيرون إلا جميعًا، وبعضها يسيرُ سيرًا مطلقًا غير مقيَّدٍ برفيقٍ ولا صاحب، بل إذا اتفق له مصاحبتُه في منزلٍ رافقَه فيه (4) ليلةً وفارقَه الليلةَ الأخرى، فبينا تراهُ رفيقَه وقرينَه إذ رأيتهما مفترقَين متباعدَين كأنهما لم يتصاحبا قطُّ. وهذه السيَّارةُ لها في سَيرها سَيران مختلفان غايةَ الاختلاف: سيرٌ عامٌّ يسيرُ بها فلَكُها، وسيرٌ خاصٌّ تسيرُ هي في فلَكها؛ كما شبَّهوا ذلك بنملةٍ تَدِبُّ على رحًى ذاتَ الشمال (5)، والرَّحى تأخذُ ذاتَ اليمين، فللنملة في ذلك حركتان مختلفتان إلى جهتين متباينتَين: إحداهما: بنفسها، والأخرى: مُكرَهةٌ عليها تبعًا للرَّحى، تجذبها إلى غير جهة قصدِها (6). وبذلك يجعلُ التقدُّم (7) فيها كلَّ منزلةٍ إلى جهة الشرق، ثمَّ يسيرُ فلَكُها وبمنزلتها إلى جهة الغَرب. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (8)، «توحيد المفضل» (82 - 84). (2) (ح): «وما فيها». (3) (ح، ن): «ولا يفرد عنهم سيره أبدا». (4) (ح، ن): «وافقه فيه». (5) (ح، ن): «ذات اليمين وذات الشمال». (6) (ر، ض): «إحداهما بنفسها متوجهة أمامها، والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها». (7) (ت، ح): «التقديم».

(2/600)


فسَل الزَّنادقة والمعطِّلة: أيُّ طبيعةٍ اقتضت هذا؟! وأيُّ فَلَكٍ أوجَبه؟! وهلَّا كانت كلُّها راتبةً أو منتقلة (1)، أو على مقدارٍ واحد، وشكلٍ واحد، وحركةٍ واحدة، وجريانٍ واحد؟! وهل هذا إلا صُنعُ من بَهَرَت العقولَ حكمتُه، وشَهِدَت مصنوعاتُه ومبتدعاتُه بأنه الخالقُ الباراء المصوِّر الذي ليس كمثله شيء، أحسَن كلَّ شيءٍ خَلَقه، وأتقَن كلَّ ما صَنعَه، وأنه العليمُ الحكيمُ الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأنَّ هذه إحدى آياته الدَّالَّة عليه، وعجائب مصنوعاته المُوصِلة للأفكار إذا سافرَت فيها إليه، وأنه خلقٌ مسخَّرٌ مربوبٌ مدبَّر؟! {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. فإن قلتَ: فما الحكمةُ في كون بعض النُّجوم راتبًا وبعضها منتقِلًا؟ قيل: إنها لو كانت كلُّها راتبةً لبطلت الدَّلالاتُ والحِكَمُ التي نشأت من تنقُّلها في منازلها ومسيرها في بُروجها، ولو كانت كلُّها منتقِلةً لم يكن لمسيرها منازلُ تُعْرَف بها ولا رسمٌ يقاسُ عليه (2)؛ لأنه إنما يقاسُ مسيرُ المنتقِلة منها بالرَّاتب، كما يقاسُ مسيرُ السَّائرين على الأرض بالمنازل التي يمرُّون عليها (3). _________ (1) (ت): «منقلبة». (2) (ح): «يقاس عليها». (3) (ض): «ولا رسم يوقف عليه؛ لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة، كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها».

(2/601)


فلو كانت كلُّها بحالٍ واحدةٍ لاختلط نظامُها، ولبطلت الحِكَمُ والفوائدُ والدَّلالاتُ التي في اختلافها، ولتشبَّث المعطِّلُ بذلك وقال: لو كان فاعلُها ومبدعُها مختارًا لم تكن على وجهٍ واحدٍ وأمرٍ واحدٍ وقَدْرٍ واحد. فهذا التَّرتيبُ والنظامُ الذي هي عليه من أدلِّ الدَّلائل على وجود الخالق (1) وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيَّته. فصل (2) ثمَّ تأمَّل هذا الفَلَكَ الدوَّار بشمسه وقمره ونجومه وبُروجه، وكيف يدورُ على هذا العالم هذا الدَّورانَ الدَّائمَ إلى آخر الأجل على هذا التَّرتيب والنظام (3)، وما في طَيِّ ذلك من اختلاف الليل والنَّهار والفصول والحرِّ والبرد، وما في ضِمن ذلك من مصالح ما على الأرض من أصناف الحيوان والنَّبات. وهل يخفى على ذي بصيرةٍ أنَّ هذا إبداعُ المبدع الحكيم، وتقديرُ العزيز العليم؟! ولهذا خاطبَ الرُّسلُ أممَهم مخاطبةَ من لا شكَّ عنده في الله، وإنما دَعَوهم إلى عبادته وحده، لا إلى الإقرار به؛ فقالت لهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]. فوجودُه سبحانه وربوبيَّته وقدرتُه أظهرُ من كلِّ شيءٍ على الإطلاق، فهو أظهرُ للبصائر من الشمس للأبصار، وأبينُ للعقول من كلِّ ما تَعْقِلُه وتقِرُّ _________ (1) (ق): «خالقها». (2) «الدلائل والاعتبار» (9)، «توحيد المفضل» (86). (3) (ت): «الترتيب والنمط والنظام».

(2/602)


بوجوده؛ فما ينكره إلا مكابرٌ بلسانه، وقلبُه وعقلُه وفطرتُه كلُّها تكذِّبه (1). قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 3 - 6]. وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10 - 11]. وقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا _________ (1) (د، ت، ق، ن): «وكلها تكذبه».

(2/603)


جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 4 ــ 17]. وتأمَّل كيف وحَّد سبحانه الآيةَ من قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} إلى آخرها، وختَمها بأصحاب الفكر: فأمَّا توحيدُ الآية؛ فلأنَّ موضعَ الدَّلالة واحد، وهو الماءُ الذي أنزله من السَّماء فأخرَج به كلَّ ما ذكره من الأرض، وهو على اختلاف أنواعه لقاحُه واحدٌ وأمُّه واحدة؛ فهذا نوعٌ واحدٌ من أنواع آياته (1). _________ (1) (ح، ن): «من آياته».

(2/604)


وأمَّا تخصيصُه ذلك بأهل الفِكْر؛ فلأنَّ هذه المخلوقات التي ذكرها من الماء، فلأنَّ الموضعَ موضعُ فكر، وهو نظرُ القلب وتأمُّلُه، لا موضعُ نظرٍ مجرَّدٍ بالعَين، فلا ينتفعُ النَّاظرُ بمجرَّد رؤية العَين حتى ينتقل منه إلى نظر القلب في حكمة ذلك، وبديع صُنعِه، والاستدلال به على خالقه وباريه؛ وذلك هو الفِكرُ بعينه. وأمَّا قولُه تعالى في الآية التي بعدها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، فجمَع الآيات؛ لأنها تضمَّنت الليلَ والنَّهار والشمسَ والقمرَ والنُّجوم، وهي آياتٌ متعدِّدةٌ مختلفةٌ في أنفسها وخَلْقِها (1) وكيفيَّاتها: فإنَّ إظلام الجوِّ بالغروب (2)، ومجيء الليل الذي يَلْبَسُ العالَمَ كالثَّوب فيسكنون تحته= آيةٌ باهرة. ثمَّ وُرودُ جيش الضياء يقدُمه بشيرُ الصَّباح، فينهزمُ عسكرُ الظَّلام، وينتشرُ الحيوان، وينكشِطُ ذلك اللباسُ بجملته= آيةٌ أخرى. ثمَّ في الشمس التي هي آيةُ النَّهار آيةٌ أخرى، وفي القمر الذي هو آيةُ الليل آيةٌ أخرى، وفي النُّجوم آياتٌ أُخَر ــ كما قدَّمناه ــ، هذا مع ما يَتْبَعُها من الآيات المقارنة لها من الرِّياح واختلافها وسائر ما يحدِثُه الله بسببها= آياتٌ أُخَر. فالموضعُ موضعُ جَمْع. _________ (1) (ح، ن): «وخلقتها». (2) (ح، ن): «لغروب الشمس».

(2/605)


وخصَّ هذه الآيات بأهل العقل؛ لأنها أعظمُ مما قبلها وأدلُّ وأكثر (1) والأولى كالباب لهذه، فمن استدلَّ بهذه الآيات وأعطاها حقَّها من الدَّلالة استحقَّ من الوصف فوق ما يستحقُّه صاحبُ الفِكر، وهو العقلُ. ولأنَّ منزلةَ العقل بعد منزلة الفِكر؛ فلمَّا دلَّهم بالآية الأولى على الفِكر نَقَلَهم بالآية الثَّانية التي هي أعظمُ منها إلى العقل الذي هو فوق الفِكر. فتأمَّله. فأمَّا قولُه في الآية الثَّالثة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، فوحَّد الآية، وخصَّها بأهل التَّذكُّر: فأمَّا توحيدُها، فكتوحيد الأُولى سواء؛ فإنَّ ما ذَرَأ في الأرض على اختلافه من الجواهر والنَّبات والمعادن والحيوان كلُّه في محلٍّ واحدٍ ومقرٍّ واحد، فهو نوعٌ من أنواع آياته وإن تعدَّدت أصنافُه وأنواعُه (2). وأمَّا تخصيصُه إياها بأهل التذكُّر؛ فطريقةُ القرآن في ذلك أن يجعَل آياته للتَّبصُّر والتذكُّر؛ كما قال تعالى في سورة ق: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 7 - 8]؛ فالتَّبصرة: التعقُّل (3)، والذِّكرى: التذكُّر، والفِكرُ بابُ ذلك ومدخلُه، فإذا فكَّر تبصَّر، وإذا تبصَّر تذكَّر. فجاء التذكُّرُ في الآية لترتيبه على العقل المرتَّب على الفكر، فقدَّم الفكرَ إذ هو البابُ والمدخل، ووسَّط العقلَ إذ هو ثمرةُ الفكر ونتيجتُه، وأخَّر _________ (1) (ح، ن): «وأكبر». (2) (ح، ن): «أوصافه وآياته». (3) (ت، د، ق): «العقل».

(2/606)


التذكُّرَ إذ هو المطلوبُ من الفكر والعقل. فتأمَّل ذلك حقَّ التأمُّل. فإن قلتَ: فما الفرق بين التذكُّر والتفكُّر؟ فإذا تبيَّن الفرقُ ظهرت الفائدة. قلتُ: التَّفكُّر والتَّذكُّر أصلُ الهدى والصلاح، وهما قُطبا السَّعادة؛ ولهذا وسَّعنا الكلامَ في الفِكر في هذا الوجه؛ لعِظم المنفعة وشدَّة الحاجة إليه. قال الحسن: «ما زال أهلُ العلم يعودونَ بالتذكُّر على التفكُّر، وبالتفكُّر على التذكُّر، ويُناطِقون القلوبَ حتى نطقَت؛ فإذا لها أسماعٌ وأبصار» (1). فاعلَم أنَّ التفكُّر طلبُ القلب ما ليس بحاصلٍ من العلوم (2) من أمرٍ هو حاصلٌ منها، هذا حقيقتُه؛ فإنَّه لو لم يكن ثَمَّ موادُّ تكونُ (3) موردًا للفكر استحال الفكرُ؛ لأنَّ الفكرَ بغير متعلَّقٍ متفكَّرٍ فيه محال، وتلك الموادُّ هي الأمورُ الحاصلة، ولو كان المطلوبُ بها حاصلًا عنده لم يتفكَّر فيه. فإذا عُرِفَ هذا فالمتفكِّر ينتقلُ من المقدِّمات (4) والمباداء التي عنده إلى المطلوب الذي يريدُه، فإذا ظَفِرَ به وتحصَّل له تذكَّر به وأبصَر مواقعَ الفعل والتَّرك وما ينبغي إيثارُه وما ينبغي اجتنابُه؛ فالتذكُّر هو مقصودُ التفكُّر وثمرتُه، فإذا تذكَّر عاد بتذكُّره على تفكُّره فاستخرَج به ما لم يكن حاصلًا _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 518). (2) (ن، ح): «بحاصل يحصل من العلوم». (3) في الأصول: «مراد يكون». وهو تحريف، وسيأتي على الصواب. (4) (ح): «المقامات». وهو تحريف.

(2/607)


عنده، فهو لا يزالُ يكررُ (1) بتفكُّره على تذكُّره، وبتذكُّره على تفكُّره ما دام عاقلًا؛ لأنَّ العلمَ والإرادة لا يقفان به على حدٍّ، بل هو دائمًا سائرٌ بين العلم والإرادة. وإذا عرفتَ معنى كون آيات الرَّبِّ تبارك وتعالى تبصرةً وذكرى؛ يُتبصَّرُ بها مِن عمى القلب، ويُتذكَّرُ بها مِنْ غفلتِه= فإنَّ المضادَّ للعلم إمَّا عمى القلب؛ وزوالُه بالتبصُّر، وإمَّا غفلتُه؛ وزواله بالتذكُّر. والمقصودُ تنبيهُ القلب من رقدته بالإشارة إلى شيءٍ من بعض آيات الله، ولو ذَهبنا نتتبَّعُ ذلك لنَفِدَ الزَّمانُ ولم نُحِط بتفصيل (2) واحدةٍ من آياته على التَّمام، ولكن ما لا يُدْرَكُ جملةً لا يُتْرَكُ جملة. وأحسنُ ما أُنفِقَت فيه الأنفاسُ التفكُّرُ في آيات الله وعجائب صُنْعِه، والانتقالُ منها إلى تعلُّق القلب والهمَّة به دون شيءٍ من مخلوقاته؛ فلذلك عَقَدنا هذا الكتابَ على هذين الأصلين؛ إذ هما أفضلُ ما يكتسبُه العبدُ في هذه الدَّار. فصل (3) فسَل المعطِّل الجاحد (4): ما تقولُ في دُولابٍ (5) دائرٍ على نهرٍ قد _________ (1) كذا في الأصول. ولعلها: يكرُّ. (2) (ت): «بتحصيل». (3) «الدلائل والاعتبار» (9)، «توحيد المفضل» (87). (4) (ت): «المعطل الجاهل الجاحد». (5) آلةٌ تديرها الدابة، يستقى بها الماء. فارسيَّة معرَّبة. انظر: «الصحاح» (دلب)، و «قصد السبيل» (2/ 38) وحاشيته.

(2/608)


أُحكِمَت آلاتُه، وأُحكِمَ تركيبُه، وقُدِّرَت أدواتُه أحسنَ تقديرٍ وأبلغَه بحيث لا يرى النَّاظرُ فيه خللًا في مادَّته ولا في صورته، وقد جُعِل على حديقةٍ عظيمةٍ فيها من كلِّ أنواع الثِّمار والزُّروع يسقيها حاجتَها، وفي تلك الحديقة من يقومُ بأمرها ولَمِّ شَعَثِها، ويحسِنُ مراعاتها وتعهُّدَها والقيامَ بجميع مصالحها، فلا يختلُّ منها شيءٌ ولا تَتلفُ ثمارها، ثمَّ يقسِمها قَيِّمُها (1) عند الجَذَاذ على سائر المَحاويج (2) بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيَقسِمُ لكلِّ صنفٍ منهم ما يليقُ به، ويَقسِمُه (3) هكذا على الدَّوام. أترى هذا اتفاقًا بلا صانعٍ ولا مختارٍ ولا مدبِّر؟! بل اتَّفق وجودُ ذلك الدُّولاب والحديقة وكلِّ ذلك اتفاقًا، من غير فاعلٍ ولا قيِّمٍ ولا مدبِّر! أفترى ما يقولُ لك عقلُك في ذلك لو كان؟! وما الذي يُفتيك به؟! وما الذي يرشدُك إليه؟! ولكنَّ مِن حكمة العزيز الحكيم أنْ خَلَق قلوبًا عُميًا لا بصائر لها، فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤيةَ الحيوانات البهيميَّة، كما خَلَق أعينًا عُميًا لا أبصار لها، فالشمسُ والقمرُ والنُّجومُ باديةٌ (4) وهي لا تراها، فما ذنبُها إن أنكرَتها وجحدَتها؟! فهي تقولُ في ضوء النَّهار: هذا ليلٌ، ولكنَّ أصحابَ الأعيُن لا يعرفون شيئًا! _________ (1) (ن): «قيمتها». وهو تحريف. (2) (ح، ن): «المخارج». تحريف. (3) (د، ق): «ويقيمه». (4) (ح، ن): «والنجوم مسخرات بأمره».

(2/609)


ولقد أحسن القائل (1): وَهَبْني قلتُ: هذا الصُّبحُ ليلٌ ... أيَعْمَى العالَمُونَ عن الضياءِ؟! فصل (2) ثمَّ تأمَّل المُمْسِكَ للسَّموات والأرض، الحافظ لهما أن تزولا أو تقعا أو يتعطَّل بعض ما فيهما، أفترى من المُمْسِكُ لذلك؟! ومن الحافظُ له؟ ومن القيِّمُ بأمره؟! ومن المُقِيمُ له؟! فلو تعطَّلت بعض آلات هذا الدُّولاب العظيم والحديقة العظيمة من كان يُصْلِحُه ويُعِيدُه (3)؟! وماذا كان عند الخلق كلِّهم من الحيلة في ردِّه كما كان؟! فلو أمْسَكَ عنهم قَيِّمُ السَّموات والأرض الشمسَ فجعَل عليهم الليلَ سَرمدًا، من ذا الذي كان يُطْلِعُها عليهم ويأتيهم بالنَّهار؟! ولو حَبَسَها في الأفق ولم يسيِّرها، فمن ذا الذي كان يسيِّرها عنهم ويأتيهم بالليل؟! فلو أزال السَّماءَ والأرض (4)، فمن ذا الذي كان يُمْسِكُهما مِن بعده؟! فصل (5) ثمَّ تأمَّل هذه الحكمةَ البالغة في الحرِّ والبرد وقيام الحيوان والنَّبات _________ (1) وهو أبو الطيب المتنبي، في ديوانه (71). (2) «الدلائل والاعتبار» (10)، «توحيد المفضل» (86). (3) «ويعيده» ليست في (ح، ن). (4) (ح، ن): «ولو أن السماء والأرض زالتا». (5) «الدلائل والاعتبار» (10)، «توحيد المفضل» (87 - 88).

(2/610)


عليهما، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتَّدريج والمُهْلَة حتى يبلُغ نهايتَه، ولو دَخَل عليه مفاجأةً لأضرَّ ذلك بالأبدان وأهلكها (1) وبالنَّبات، كما لو خرَج الرَّجلُ من حمَّامٍ مُفْرط الحرارة إلى مكانٍ مُفْرطٍ في البُرودة. ولولا العنايةُ والحكمةُ والرَّحمةُ والإحسانُ لما كان ذلك. فإن قلتَ: هذا التَّدريجُ والمُهْلةُ إنما كان لإبطاء سَيْر الشمس في ارتفاعها وانخفاضها. قيل لك: فما السَّببُ في ذلك الإبطاء في الانخفاض (2) والارتفاع؟ فإن قلتَ: السَّببُ في ذلك بُعْدُ المسافة من مشارقها ومغاربها. قيل لك: فما السَّببُ في بُعْدِ المسافة؟ (3). ولا تزالُ المسألةُ متوجِّهةً عليكَ كلَّما عيَّنتَ سببًا (4)، حتى تُفضِي بك إلى أحد أمرين: إمَّا مكابرةٌ ظاهرة، ودعوى أنَّ ذلك اتفاقٌ من غير مدبِّرٍ ولا صانع. وإمَّا الاعترافُ بربِّ العالمين، والإقرارُ بقيُّوم السَّموات والأرضين، والدُّخولُ في زُمرة أولي العقل من العالمين. _________ (1) (ق، ت، د): «وأهلها». (ض): «وأسقمها». (2) (ن): «الإبطاء والانخفاض والارتفاع». (3) في طرَّة (د، ق) هنا التعليقُ التالي: «ولا يمكنه أيضًا أن يقول: بُعْدُ المسافة؛ لأن القمر يقطعها في شهر، والشمس تقطعها في سنة؛ لهذه الحكمة البينة الإلهية». وليس من كلام المصنف؛ وأدخله ناشر (ط) في المتن. ولم يرد في (ر، ض). (4) (ق، ت): «شيئًا». (ض): «فلا تزال هذه المسألة ترقى معه الى حيث رقي من هذا القول».

(2/611)


ولن تجدَ بين القسمين واسطةً أبدًا. فلا تُتْعِبْ ذِهنَك بهذيانات الملحدين؛ فإنها عند من عرَفها من هَوَس الشياطين، وخيالات المبطلين. وإذا طَلَعَ فجرُ الهدى، وأشرقَت شمسُ النبوَّة (1)؛ فعساكرُ تلك الخيالات والوساوس في أوَّل المنهزمين، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. فصل (2) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خَلق النَّار على ما هي عليه من الكُمُون (3) والظُّهور؛ فإنها لو كانت ظاهرةً أبدًا ــ كالماء والهواء ــ كانت تُحْرِقُ العالم وتنتشرُ ويعظُم الضررُ بها والمفسدة، ولو كانت كامنةً لا تَظْهَرُ أبدًا لفاتت المصالحُ المترتبةُ على وجودها. فاقتضت حكمةُ العزيز العليم (4) أنْ جعَلها مخزونةً في الأجسام، يخرجُها وينفُثها الرَّجلُ (5) عند حاجته إليها، فيُمسِكها ويحبسُها بمادَّةٍ يجعلُها فيها من الحطب ونحوه، فلا يزالُ حابِسَها ما احتاجَ إلى بقائها، فإذا استغنى عنها وتركَ حبسَها بالمادَّة خَبَتْ بإذن ربها وفاطرها، فسقطت المؤنةُ والمضرَّةُ ببقائها. _________ (1) (ق، ح، ت، ن): «وأشرقت النبوة». (2) «الدلائل والاعتبار» (11)، «توحيد المفضل» (93 - 94). (3) الاستتار والاختفاء. (4) (ق، ن): «العزيز الحكيم». (5) (ن، ح): «يبقيها». (ت): «ينقشها».

(2/612)


فسبحان من سخَّرها وأنشأها على تقديرٍ مُحْكَمٍ عجيب، اجتمع فيه الاستمتاعُ والانتفاع والسَّلامةُ من الضرر. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 71 - 74]. فسبحان ربِّنا العظيم، لقد تعرَّف إلينا بآياته، وشَفانا ببيِّناته، وأغنانا بها (1) عن دلالات العالمين. فأخبَر سبحانه أنه جعَلها تذكرةً تذكِّرنا بنار الآخرة، فنستجيرُه منها ونهرُب إليه منها، ومتاعًا للمُقْوِين؛ وهم المسافرون النَّازلون بالقَوَاء (2) والقَيِّ ــ وهي الأرض الخالية ــ، وهم أحوجُ إلى الانتفاع بالنَّار، للإضاءة والطَّبخ والخَبْز والتَّدفِّي (3) والأُنس وغير ذلك (4). فصل (5) ثمَّ تأمَّل حكمتَه تعالى في كونه خَصَّ بها (6) الإنسانَ دونَ غيره من _________ (1) (ح): «وأغنانا بدلالتها بها». (2) (ق، ت): «بالقوى». (ح): «بالفيافي». (ن): «بالقرا». تحريف. (3) (ق، ت): «والدفى». (4) انظر: «شفاء العليل» (648) وفي مطبوعته تحريفٌ يصحَّح من هنا، و «طريق الهجرتين» (299)، و «بدائع الفوائد» (1556). (5) «الدلائل والاعتبار» (11)، «توحيد المفضل» (94). (6) أي: النار.

(2/613)


الحيوانات، فلا حاجةَ بالحيوان إليها، بخلاف الإنسان؛ فإنه لو فَقَدها لعَظُمَ الدَّاخلُ عليه في معاشه ومصالحه، وغيرُه من الحيوانات لا يستعملُها ولا يتمتَّعُ بها. وننبِّهُ من مصالح النَّار على خَلَّةٍ (1) صغيرة القَدْر عظيمة النفع، وهي في هذا (2) المصباح الذي يتَّخذُه الناسُ فيقضون به من حوائجهم ما شاؤوا من ليلهم، ولولا هذه الخَلَّة لكان الناسُ نصفَ أعمارهم (3) بمنزلة أصحاب القُبور؛ فمن كان يستطيعُ كتابةً أو خياطةً أو صناعةً أو تصرُّفًا في ظلمة الليل الدَّاجي؟! وكيف كانت تكونُ حالُ من عَرَض له وجَعٌ في وقتٍ من الليل فاحتاجَ إلى ضِمادٍ (4) أو دواءٍ أو استخراج دمٍ أو غير ذلك (5)؟! ثمَّ انظُر إلى ذلك النُّور المحمول في ذُبالة المصباح، على صِغَر جوهره، كيف يضيءُ ما حولك كلَّه فترى به القريبَ والبعيد. ثمَّ انظُر إلى أنه لو اقتَبَس منه كل من يُفْرَض (6) أو يُقَدَّرُ من خلق الله كيف لا يفنى ولا ينفدُ ولا يضعُف. وأما منافعُ النَّار في إنضاج الأطعمة والأدوية، وتجفيف ما لا يُنتَفعُ إلا _________ (1) (ض): «خلقة»، تحريف. وعلى الصواب في «البحار» (57/ 89). (2) (ت): «وهي هذه التي في». (ض): «وهي هذا». (3) (ض) و «بحار الأنوار» (3/ 123، 57/ 89): «تصرف أعمارهم». تحريف. (4) وهو العصابةُ يُشَدُّ بها العضوُ المريض. ثم قيل لوضع الدواء على الجرح وغيره وإن لم يُشَدَّ. «اللسان» (ضمد). وتحرفت في (ح، ن) إلى: «ضياء». (5) (ر، ض): «فاحتاج إلى أن يعالج ضمادا أو سفوفا أو شيئا يستشفي به». (6) (ن، ح): «يعرض». (ت): «نفرض». والحرف الأول مهمل في (د).

(2/614)


بجفافه، وتحليل ما لا يُنتَفعُ إلا بتحليله، وعَقْد ما لا يُنتَفعُ إلا بعَقْدِه وتركيبه= فأكثرُ من أن يحصى. ثمَّ تأمَّل ما أُعطِيَتْه النَّارُ من الحركة الصَّاعدة بطبعها إلى العلوِّ، فلولا المادةُ تمسكُها لذهبَت صاعدةً، كما أنَّ الجسمَ الثقيلَ لولا الممسكُ يمسكُه لذهَبَ نازلًا. فمن أعطى هذا (1) القوَّة التي (2) يَطلُبُ بها الهبوطَ إلى مستقرِّه، وأعطى هذه القوَّة التي تَطلُبُ (3) بها الصُّعودَ إلى مستقرِّها؟! وهل ذلك إلا بتقدير العزيز العليم؟! فصل (4) ثمَّ تأمَّل هذا الهواءَ وما فيه من المصالح؛ فإنه حياةُ هذه الأبدان والممسكُ لها من داخلٍ بما تَستَنشِقُ (5) منه، ومن خارجٍ بما تُباشَرُ (6) به من رَوْحِه، فتتغذَّى (7) به ظاهرًا وباطنًا. وفيه تُطْرَدُ هذه الأصواتُ فيَحْمِلُها ويؤدِّيها للقريب والبعيد؛ كالبريد والرسول الذي شأنُه حملُ الأخبار والرسائل. _________ (1) في الأصول: «هذه». والأشبه ما أثبت. (2) (ت): «الذي». (3) مهملة في (د). وفي (ق، ت): «يطلب». (4) «الدلائل والاعتبار» (12)، «توحيد المفضل» (88 - 90). (5) (د، ت، ق، ن، ض): «يستنشق». (ر): «تستنشئ». (6) (ح، ت، ن، ض): «يباشر». (7) (ح، ن): «ليتغذى». (ق، د، ت): «فيتغذى».

(2/615)


وهو الحاملُ لهذه الروائح على اختلافها، ينقلُها من موضعٍ إلى موضع، فتأتي العبدَ الرائحةُ من حيثُ تهبُّ الريح، وكذلك يأتيه الصوت (1). وهو ــ أيضًا ــ الحاملُ (2) للحرِّ والبرد اللذَيْن بهما صلاحُ الحيوان والنَّبات. وتأمَّل منفعةَ الريح وما يجري له في البرِّ والبحر، وما هُيِّئت (3) له من الرحمة والعذاب. وتأمَّل كم سُخِّر للسَّحاب من ريحٍ حتى أَمطَر (4)؛ فسُخِّرت له المثيرةُ أوَّلًا (5)، فتُثِيرُه بين السَّماء والأرض، ثمَّ سُخِّرت له الحاملةُ التي تحملُه على مَتْنها كالجمَل الذي يحملُ الرَّاوية، ثمَّ سُخِّرت له المؤلِّفة، فتؤلِّفُه (6) بين كِسَفِه وقِطَعِه حتى يجتمعَ بعضُها إلى بعضٍ فتصير (7) طبقًا واحدًا، ثمَّ سُخِّرت له اللاقحةُ بمنزلة الذَّكر الذي يَلْقَحُ الأنثى، فتَلْقَحه بالماء ولولاها لكان جَهَامًا لا ماء فيه (8)، ثمَّ سُخِّرت له المُزْجِيَةُ التي تُزْجِيه وتَسُوقُه إلى _________ (1) (ح، ن): «تأتيه الأصوات». (2) (ر، ض): «القابل». (3) (ت): «هيأن». (4) (ت): «أمطرت». (5) المثيرة، والحاملة، والمؤلِّفة، واللاقحة، والمُزْجِية، والمفرِّقة= من أسماء الرياح بحسب وظائفها. (6) كذا في الأصول، بإثبات الهاء. (7) مهملة في (د). وفي (ح، ن): «فيصير». (8) الجَهَام: السحاب الذي لا ماء فيه. «اللسان».

(2/616)


حيث أُمِر فيُفرِغُ ماءه هنالك، ثمَّ سُخِّرت له بعد إعصاره المُفرِّقةُ التي تبثُّه وتفرِّقُه في الجوِّ فلا ينزلُ مجتمعًا، ولو نزل جملةً لأهلَك المساكنَ والحيوانَ والنَّبات، بل تفرِّقُه فتجعلُه قَطْرًا. وكذلك الرياح التي تَلْقَحُ الشجرَ والنَّباتَ ولولاها لكانت عقيمًا. وكذلك الرياح التي تسيِّر السُّفن ولولاها لوقفَت على ظهر البحر. ومن منافعها: أنها تبرِّدُ الماء، وتُضْرِمُ النارَ التي يرادُ إضرامُها، وتجفِّفُ الأشياءَ التي يحتاجُ إلى جفافها. وبالجملة؛ فحياةُ ما على الأرض من نباتٍ وحيوانٍ بالرياح؛ فإنه لولا تسخيرُ الله لها لعباده لذَوَى النَّبات، ومات الحيوان، وفسدَت المطاعم، وأنتَن العالمُ وفَسَد. ألا ترى إذا رَكَدَت الريح (1) كيف يحدثُ الكربُ والغمُّ الذي لو دام لأتلفَ النُّفوس، وأسقَمَ الحيوان، وأمرَضَ الأصحَّاء، وأنهَكَ المرضى، وأفسَدَ الثِّمار، وعفَّن الزَّرع، وأحدَثَ الوباءَ في الجوِّ؟! فسبحان من جَعَل هُبوبَ الرياح تأتي برَوْحِه ورحمته، ولُطْفِه ونعمته، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الرياح: «إنها من رَوْح الله، تأتي بالرَّحمة» (2). _________ (1) (ح، ن): «الرياح». (2) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (720)، وأبو داود (5097)، وابن ماجه (3727)، وغيرهم من حديث أبي هريرة. وصححه ابن حبان (1007، 5732)، والحاكم (4/ 235) ولم يتعقبه الذهبي. وصححه ابن حجر في «النتائج»، كما في «الفتوحات الربانية» (4/ 272). وانظر: «علل الدارقطني» (2/ 90، 8/ 276).

(2/617)


ونُنبِّه (1) للطيفةٍ في هذا الهواء؛ وهي أنَّ الصَّوتَ أثرٌ يحدثُ (2) عن اصطكاك الأجرام (3)، وليس نفسَ الاصطكاك كما قال ذلك من قاله. ولكنَّه مُوجَبٌ للاصطكاك وقَرْع الجسم للجسم أو قَلْعِه عنه؛ فسببُه قرعٌ أو قلع، فيحدثُ الصَّوت، فيحملُه الهواءُ ويؤدِّيه إلى مسامع الناس، فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنَّهار، وتحدثُ الأصواتُ العظيمةُ من حركاتهم. فلو كان أثرُ هذه الحركات والأصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتابُ في القرطاس لامتلأ العالمُ منه، ولعَظُمَ الضررُ به واشتدَّت مُؤنتُه، واحتاج النَّاسُ إلى مَحْوِه من الهواء، والاستبدال به، أعظمَ من حاجتهم إلى الاستبدال بالكتاب المملوء كتابةً (4)؛ فإنَّ ما يُلقى من الكلام في الهواء أضعافُ ما تُودَعُه القراطيس (5). فاقتضت حكمةُ العزيز الحكيم أنْ جَعَل هذا الهواءَ قرطاسًا خفيًّا (6)، يحمِلُ الكلامَ بقَدْر ما يبلغُ الحاجةَ ثمَّ يُمْحى بإذن ربِّه، فيعودُ جديدًا نقيًّا لا شيء فيه (7)، فيَحْمِلُ ما حمِّل كلَّ وقت. _________ (1) (ن، ح): «وتنبَّهْ»، هكذا مضبوطة. (2) (ح، ن): «محدث». (3) (ر، ض): «أثر يؤثره اصطكاك الأجسام». (4) (ت): «بالكتاب الذي مملوء من الكتابة». (5) (ح): «يودع في القرطاس». (ن، ت): «يودع القرطاس». (6) (ق، ت): «خفيفا». (ض، ح، ن، ر، د): «خفيا»، وأصلحت في طرة (د) إلى «خفيفا». والوصف هنا بالخفاء أشبه. (7) (ن): «لا أثر فيه».

(2/618)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل خَلْقَ الأرض على ما هي عليه، حين خُلِقَت واقفةً ساكنةً (2) لتكونَ مِهادًا ومستقرًّا للحيوان والنَّبات والأمتعة، ويتمكَّنَ الحيوانُ والنَّاسُ من السَّعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحاتهم، والنوم لهدوئهم، والتمكُّن من أعمالهم، ولو كانت رَجْراجَةً متكفِّئةً (3) لم يستطيعوا على ظَهْرِها قرارًا ولا هدوءًا، ولا ثَبَتَ لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعةٌ ولا تجارةٌ ولا حِراثةٌ ولا مصلحة، وكيف كانوا يتهنَّون (4) بالعيش والأرضُ تَرتَجُّ (5) من تحتهم؟! واعْتَبِر ذلك بما يصيبُهم من الزَّلازل، على قلَّة مكثها، كيف تصيِّرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها. وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)} [طه: 53، الزخرف: 10]، _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (13)، «توحيد المفضل» (91). (2) (ض): «راتبة راكنة». (ر): «راتبة راكدة». (3) (ق، ر، ض): «منكفئة». والمثبت من باقي الأصول و «بحار الأنوار» (3/ 121، 57/ 87). والتكفُّؤ: التمايل. «اللسان» (كفأ). (4) (ن): «يهنأون». (ق، د): «يتهنؤون». والمثبت من (ت، ح، ض). (5) (ت): «ترتج بهم». (6) أصلحها ناسخ (ح) ــ وتابعته المطبوعات ــ إلى: «مهدا». وإنما قدَّم المصنفُ قراءة «مهادا» لأنها قراءة أبي عمرو، وهي قراءته وقراءة أهل الشام لعصره.

(2/619)


وفي القراءة الأخرى: {مَهْدًا} (1). وفي «جامع الترمذي» (2) وغيره من حديث أنس بن مالكٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لمَّا خلقَ الله الأرض جَعَلت تَمِيد، فخَلَق الجبالَ عليها فاستقرَّت، فعَجِبَت الملائكةُ من شدَّة الجبال، فقالوا: يا ربِّ، هل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالوا: يا ربِّ، هل من خَلْقِك من شيءٍ أشدُّ من الحديد؟ قال نعم، النَّار. قالوا يا ربِّ، فهل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من النَّار؟ قال: نعم، الماء. قالوا: يا ربِّ، هل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من الماء؟ قال: نعم، الرِّيح. قالوا: يا ربِّ، فهل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من الرِّيح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدَّقُ صدقةً بيمينه يخفيها عن شماله». ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في لُيونة الأرض مع يُبْسِها؛ فإنها لو أفرطَت في اللِّين ــ كالطِّين ــ لم يستقرَّ (3) عليها بناءٌ ولا حيوان (4)، ولا تمكَّنَّا (5) من _________ (1) قرأ بها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي. انظر: «التبصرة» لمكِّي (591). (2) (3369)، وأحمد (3/ 124)، وأبو يعلى (4310)، وغيرهم بإسنادٍ فيه سليمان بن أبي سليمان، لا يكاد يُعْرَف، وقد تفرَّد به عن أنسٍ مرفوعًا، وأورده الذهبي في ترجمته من «الميزان» (2/ 211). وقال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه». وخرَّجه الضياء في «المختارة» (2148، 2149، 2150)، وحسَّن إسناده ابن حجر في «الفتح» (2/ 147). ورُوِي من وجهٍ آخر مقطوعًا من قول قيس بن عُباد، وهو أشبه، أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (873)، وغيره. (3) (ق): «يشتد». (4) (ت): «حراث». (5) (ت): «تمكن».

(2/620)


الانتفاع بها، ولو أفرطَت في اليُبْس ــ كالحجر والحديد (1) ــ لم يمكن حرثُها ولا زرعُها، ولا شَقُّها ولا فَلْحُها، ولا حفرُ عُيونها ولا البناءُ عليها؛ فنَقَصَت عن يُبْس الحجارة وزادت على لُيونة الطِّين، فجاءت بتقدير ربها وفاطرها (2) على أحسن ما جاء عليه مِهادُ الحيوان (3) من الاعتدال بين اللِّين واليُبوسة، فتهيَّأ عليها جميعُ المصالح. فصل (4) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في أنْ جَعَل مَهَبَّ الشَّمال عليها (5) أرفعَ من مَهَبِّ الجنوب (6)، وحكمةُ ذلك أن تنحدر (7) المياهُ على وجه الأرض فتسقيها وترويها ثمَّ تفيض فتصبَّ في البحر؛ فكما أنَّ الباني إذا رفعَ سطحًا رفعَ أحد جانبيه وخَفَض الآخرَ ليكون مصبًّا للماء، ولو جعله مستويًا لقام عليه الماءُ فأفسده، كذلك جُعِل (8) مَهَبُّ الشَّمال في كلِّ بلدٍ أرفعَ من مَهَبِّ الجنوب، ولولا ذلك لبقي الماءُ واقفًا (9) على وجه الأرض، فمنعَ النَّاسَ من العمل والانتفاع، وقطَعَ الطُّرقَ والمسالك، وأضرَّ بالخَلْق. _________ (1) «والحديد» ليست في (ن، ح). (2) (ت): «ربها وخالقها وفاطرها». (3) (ق، د): «مهاد للحيوان». (4) «الدلائل والاعتبار» (13)، «توحيد المفضل» (91 - 92). (5) أي: الأرض. (6) انظر شرح المراد بهذا في «بحار الأنوار» (57/ 89). (7) (ن، ت، ح): «تتحدر». والمثبت من (د، ق، ر، ض). (8) (ن، ح): «جعلت». (ت): «فجعلت». (9) (ر، ض): «متحيرا».

(2/621)


أفيَحْسُنُ عند من له مُسْكةٌ من عقلٍ أن يقول: هذا كلُّه اتفاقٌ من غير تدبير العزيز الحكيم الذي أتقَنَ كلَّ شيء؟! فصل (1) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ العجيبةَ في الجبال التي قد يحسبُها الجاهلُ الغافلُ فَضْلةً في الأرض لا حاجة إليها. وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلا خالقُها وناصِبُها. وفي حديث إسلام ضِمام بن ثعلبة قولُه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: بالذي نَصَبَ الجبالَ وأودعَ فيها المنافع، آللهُ أمَرك بكذا وكذا؟ قال: «اللهمَّ نَعَم» (2). فمن منافعها: أنَّ الثَّلجَ يسقطُ عليها فيبقى في قُلَلِها حاملًا (3) لشراب النَّاس إلى حين نفاده، وجُعِل فيها ليذوبَ أوَّلًا فأوَّلًا، فتجري منه العيونُ (4) الغزيرة، وتسيل منه الأنهارُ والأودية، فيُنْبِتُ في المُروج والوِهاد (5) والرُّبى ضروبَ النَّبات والفواكه والأدوية التي لا يكونُ مثلُها في السَّهل والرِّمال. فلولا الجبالُ لسقط الثَّلجُ على وجه الأرض فانحلَّ جملةً، وساحَ دَفْعةً (6)؛ فعُدِمَ وقت الحاجة إليه، وكان في انحلاله (7) جملةً السُّيولُ التي _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (14)، «توحيد المفضل» (96 - 97). (2) أخرجه مسلم (12) من حديث أنس بن مالك. (3) (ق، ح، ن، د): «حاصلا». (4) (ح، ن): «السيول». والمثبت من باقي الأصول و (ر، ض). (5) المواضع المنخفضة المطمئنة من الأرض. وفي (ق، ت): «المهاد». (6) (د، ق): «وسال دفعة». (7) (ن): «من انحلاله».

(2/622)


تُهلِكُ ما مرَّت عليه، فيُضِرُّ بالنَّاس ضررًا لا يمكنُ تلافيه ولا دفعُ أذيَّته. ومن منافعها: ما يكون في حُصونها وقُلَلِها (1) من المغارات والكهوف والمعاقل التي هي بمنزلة الحصون والقِلاع، وهي ــ أيضًا ــ أكنانٌ للنَّاس والحيوان. ومن منافعها: ما يُنْحَتُ من أحجارها للأبنية على اختلاف أصنافها، والأرْحِيَة (2) وغيرها. ومن منافعها: ما يوجدُ فيها (3) من المعادن على اختلاف أصنافها، من الذَّهب والفضة والنُّحاس والحديد والرَّصاص والزَّبَرْجَد والزُّمُرُّد وأضعاف ذلك من أنواع المعادن الذي يعجزُ البشرُ عن معرفتها على التفصيل، حتى إنَّ فيها ما يكونُ الشيءُ اليسيرُ منه تزيدُ قيمتُه ومنفعتُه على قيمة الذَّهب بأضعافٍ مضاعفة، وفيها من المنافع ما لا يعلمه إلا فاطرُها ومبدعُها سبحانه وتعالى. ومن منافعها أيضًا: أنها تردُّ الرياحَ العاصفة، وتَكْسِرُ حِدَّتها، فلا تدعُها تَصْدِمُ ما تحتها؛ ولهذا السَّاكنون تحتها في أمانٍ من الرياح العِظام المؤذية. ومن منافعها أيضًا: أنها تردُّ عنهم السُّيولَ إذا كانت في مجاريها، فتَصْرِفُها عنهم ذاتَ اليمين وذات الشمال، ولولاها لأَخْرَبَت (4) السُّيولُ في _________ (1) جمع «قُلَّة»، وهي أعلى الجبل. وقُلَّة كل شيء: أعلاه. «اللسان». (2) جمع: رحى. (3) (ق، د): «يؤخذ منها». والمثبت من باقي الأصول و (ر، ض). (4) (ن): «لخربت». (ح): «خربت».

(2/623)


مجاريها ما مرَّت به؛ فتكون لهم بمنزلة السَّدِّ والسِّكْر (1). ومن منافعها: أنها أعلامٌ يُسْتَدلُّ بها في الطُّرقات، فهي بمنزلة الأدلَّة المنصوبةِ المرشدَة إلى الطُّرق (2)، ولهذا سمَّاها الله أعلامًا؛ فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32]، فالجواري: هي السُّفن، والأعلامُ: الجبال؛ واحدُها عَلَم. قالت الخنساء (3): وإنَّ صَخْرًا لتأتمُّ الهُداةُ به ... كأنه عَلَمٌ في رأسِه نارُ فسُمِّي الجبلُ عَلَمًا من العلامة والظُّهور. ومن منافعها أيضًا: ما ينبتُ فيها من العقاقير والأدوية التي لا تكونُ في السُّهول والرمال، كما أنَّ ما ينبتُ في السُّهول والرمال لا ينبتُ مثلُه في الجبال، وفي كلٍّ من هذا وهذا منافعُ وحِكَمٌ لا يحيطُ بها إلا الخلَّاقُ العليم (4). _________ (1) وهو ما يُسَدُّ به الشقُّ ومُنفَجَر الماء. «اللسان» (سكر). وتحرفت في (د، ق، ت، ن) إلى: «والسكن». وانظر استعمال المصنف له في «المدارج» (1/ 191)، و «عدة الصابرين» (111). (2) هل في هذا إشارةٌ إلى نصب الناس في عهد المصنف علاماتٍ وإشاراتٍ على الطرق تهدي المسافرين؟!. وانظر: «رحلة ابن بطوطة» (4/ 22). (3) من كلمةٍ بليغةٍ في رثاء أخيها. ديوانها (49)، و «التعازي والمراثي» (100)، وغيرهما. (4) (ت): «الواحد الخلاق العليم».

(2/624)


ومن منافعها: أنها تكون حُصونًا من الأعداء، يتحرَّزُ فيها عبادُ الله من أعدائهم كما يتحصَّنون بالقِلاع، بل تكونُ أبلغَ وأحصنَ من كثيرٍ من القِلاع والمدن. ومن منافعها: ما ذكره الله تعالى في كتابه أنه جَعَلها للأرض أوتادًا تثبِّتها، ورواسي بمنزلة مراسي السُّفن، وأعْظِم بها منفعةً (1) وحكمة. هذا، وإذا تأمَّلْتَ خِلْقَتها العجيبةَ البديعةَ على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة: فإنها لو طالت واستَدَقَّت كالحائط، لتعذَّر الصُّعودُ عليها والانتفاعُ بها وسَتَرَت عن النَّاس الشمسَ والهواءَ فلم يتمكَّنوا من الانتفاع بها. ولو بُسِطَت على وجه الأرض، لضيَّقت عليهم المزارعَ والمساكن، ولملأت السَّهْل، ولما حصل لهم بها الانتفاعُ من التَّحصُّن والمغارات والأكنان، ولما سَتَرَت عنهم الرياح، ولما حَجَبَت السُّيول. ولو جُعِلَت مستديرةً على الكُرة (2) لم يتمكَّنوا من صُعودها، ولما حَصَل لهم بها الانتفاعُ التَّام. فكان أولى الأشكال والأوضاع بها وأليقَها وأوقعَها على وَفْق المصلحة هذا الشكلُ الذي نُصِبَت عليه. ولقد دعانا الله سبحانه في كتابه إلى النَّظر فيها وفي كيفيَّة خلقها؛ فقال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ _________ (1) (ح، ن): «من منفعة». (2) (ح): «شكل الكرة». (ن): «مثل الكرة».

(2/625)


كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]. فخَلْقُها ومنافعُها من أكبر الشواهد على قدرة باريها (1) وفاطرها، وعلمه وحكمته ووحدانيَّته. هذا مع أنها تسبِّحُ بحمده، وتخشعُ له، وتسجدُ له، وتتشقَّقُ وتهبطُ من خشيته، وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها ــ على شدَّتها وعِظَم خَلْقِها ــ من الأمانة إذ عَرَضَها عليها وأشفَقَت مِنْ حملِها. ومنها: الجبلُ الذي تجلَّى له ربُّه فساخَ وتَدكْدَك. ومنها: الجبلُ الذي كلَّم اللهُ عليه موسى كليمَه ونَجِيَّه. ومنها: الجبلُ الذي حَبَّبَ اللهُ رسولَه وأصحابَه إليه، وأحبَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه (2). ومنها: الجبلان اللذان جعلهما الله سُورًا (3) على بيته، وجَعَل الصَّفا في ذيل أحدهما والمروةَ في ذيل الآخر، وشرع لعباده السَّعيَ بينهما، وجَعَله من مناسكهم ومُتَعبَّداتهم. ومنها: جبلُ الرحمة المنصوبُ عليه ميدانُ عرفات (4)، فلِلَّه كم به (5) _________ (1) (ت): «بانيها». (2) وهو جبلُ أحد، كما في الصحيحين. (3) (ح، ن): «ستورا». وفوقها في (د) بخطٍّ دقيق: «كذا». (4) وهو جبل إلال (على وزن: هلال). وتسميته بـ «جبل الرحمة» محدثة، ووقعت في كلام كثير من العلماء. انظر: «شرح مسلم» للنووي (8/ 185)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 133، 161)، و «تفسير ابن كثير» (2/ 515)، وغيرها. وللشيخ بكر أبو زيد فيه جزءٌ مطبوع. (5) «به» ليست في (ن، ح).

(2/626)


من ذنبٍ مغفور، وعَثْرةٍ مُقالة، وزلَّةٍ معفُوٍّ عنها، وحاجةٍ مقضيَّة، وكربةٍ مفروجة، وبليَّةٍ مدفوعة، ونعمةٍ متجدِّدة، وسعادةٍ مُكتَسبة، وشقاوةٍ ممحُوَّة! كيف، وهو الجبلُ المخصوصُ بذلك الجمع الأعظم والوفد الأكرم الذين جاؤوا من كلِّ فجٍّ عميق، وقوفًا لربِّهم، مستكينين لعظمته، خاضعين (1) لعزَّته، شُعثًا غُبرًا، حاسرين عن رؤوسهم، يستقيلونه عثراتهم، ويسألونه حاجاتهم، فيدنو منهم، ثمَّ يُباهي بهم الملائكة؟! فلِلَّه ذاك الجبلُ وما ينزلُ عليه من الرحمة والتَّجاوُز عن الذُّنوب العِظام! ومنها: جبلُ حراءَ الذي كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخلو فيه بربِّه (2)، حتى أكرمه الله برسالته (3) وهو في غاره، فهو الجبلُ الذي فاض منه النُّورُ على أقطار العالم، فإنه ليفخَرُ على الجبال، وحُقَّ له ذلك. فسبحان من اختَصَّ برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرِّجال، فجَعَل منها جبالًا هي مِغْناطيسُ القلوب كأنها مركَّبةٌ منها، فهي تَهْوِي إليها كلَّما ذكرتْها وتهفُو نحوَها، كما اختَصَّ من الرِّجال من اختصَّه بكرامته، وأتمَّ عليه نعمتَه، ووضع عليه محبَّةً منه؛ فأحبَّه وحبَّبه إلى ملائكته وعباده المؤمنين ووَضَع له القبولَ بينهم. وإذا تأمَّلتَ البِقاعَ وجدتَها ... تشقى كما تشقى الرِّجالُ وتَسْعَدُ (4) _________ (1) (ت): «برسالاته». (2) كما أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة. (3) (ق): «خاضعين لعزته». (4) البيت لأبي تمام في ديوانه بشرح التبريزي (3/ 195)، و «وفيات الأعيان» (1/ 443). وفي «الوفيات»: «تشقى الرجال وتنعم». ورواية الديوان: * تثري كما تثري الرجال وتنعم * وبالرواية التي أورد المصنف في ديوان ابن نباتة وكثيرٍ من المصادر دون نسبة.

(2/627)


فدَع عنكَ الجبلَ الفلاني، وجبلَ بني فُلان، وجبلَ كذا (1). خُذ ما تراهُ ودَع شيئًا سَمِعتَ به ... في طَلْعة الشَّمس ما يُغْنِيكَ عن زُحَلِ (2) هذا؛ وإنها لتَعْلمُ أنَّ لها موعدًا ويومًا تُنْسَفُ فيها نسفًا وتصيرُ كالعِهْن (3) من هَوْلِه وعِظَمِه، فهي مشفقةٌ من هَوْل ذلك الموعد منتظرةٌ له. وكانت أمُّ الدَّرداء رضي الله عنها إذا سافرَت فصعدَت على جبلٍ تقولُ لمن معها: أَسْمِع الجبالَ ما وَعَدَها ربُّها فيقول: ما أُسْمِعُها؟ فتقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107] (4). فهذا حالُ الجبال وهي الحجارةُ الصُّلبة، وهذه رِقَّتُها وخشيتُها وتَدَكْدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنه لو أنزل عليها كلامَه لخشَعَت ولتصدَّعَت من خشيته. فيا عجبًا مِنْ مضغة لحمٍ أقسى من هذه الجبال! تسمعُ (5) آيات الله تتلى عليها، ويُذْكَرُ الرَّبُّ تبارك وتعالى، فلا تَلِينُ ولا تخشع ولا تُنِيب (6) فليس _________ (1) أي: من الجبال التي لم تثبت لها فضيلةٌ خاصة، ويتوهَّم الجهلةُ فيها ذلك. (2) تقدم تخريجُ البيت (ص: 418). (3) وهو الصُّوف. «اللسان» (عهن). (4) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (22/ 342). (5) (ق، ت، ح): «يسمع». (6) (د، ق، ت، ح): «يلين ولا يخشع ولا ينيب».

(2/628)


بمُسْتَنْكَرٍ لله عزَّ وجلَّ ولا يخالفُ حكمتَه أن يخلقَ لها نارًا تُذِيبُها إذْ لم تَلِن لكلامه (1) وذِكْره وزواجره ومواعظه. فمن لم يَلِن لله في هذه الدَّار قلبُه، ولم يُنِب إليه، ولم يُذِبْهُ بحبِّه والبكاء من خشيته، فليتمتَّع قليلًا، فإنَّ أمامه المُلَيِّن الأعظم، وسيُردُّ إلى عالِم الغيب والشَّهادة فيَرى ويَعْلَم. فصل ولمَّا اقتضت حكمتُه تبارك وتعالى أنْ جَعَل من الأرض السَّهْلَ والوَعْر (2)، والجبالَ والرِّمال؛ ليُنتَفعَ بكلِّ ذلك (3) في وَجْهِه، ويحصُل منه ما خُلِقَ له، وهُيِّئت الأرض بهذه الآية (4) = لَزِمَ من ذلك أن صارت كالأمِّ التي تحملُ في بطنها أنواعَ الأولاد من كلِّ صنف، ثمَّ تُخْرِجُ إلى النَّاس والحيوان من ذلك ما أذِنَ لها فيه ربُّها أن تخرجَه، إمَّا بعلمهم (5)، وإمَّا بدونه، ثمَّ يردُّ إليها ما خرج منها. وجَعَلها سبحانه كِفاتًا للأحياء ما داموا على ظهرها، فإذا ماتوا استُودِعَتْهم (6) في بطنها فكانت كِفاتًا لهم؛ تَضُمُّهم على ظهرها أحياءً وفي بطنها أمواتًا، فإذا كان يومُ الوقت المعلوم وقد أثقَلَها الحَمْلُ وحانَ وقتُ _________ (1) (د، ق، ت، ح): «على كلامه». (2) (ق، ت، د): «السهول والوعور». (3) (ن): «بكل شيء». (4) كذا في الأصول. ولعلها: الهيأة. وفي (ط): «المثابة». (5) (ت): «بعلمه». (ح، ن): «بعملهم». (6) (ق، د): «استودعهم».

(2/629)


الولادة ودنا المَخاض (1)، أوحى إليها ربُّها وفاطرُها أن تضع حملَها وتُخرِجَ أثقالها، فتُخرِج النَّاسَ من بطنها إلى ظهرها، وتقول: ربِّ هذا ما اسْتَوْدَعْتَني، وتُخرِجُ كنوزَها بإذنه تعالى، ثمَّ تحدِّثُ أخبارَها، وتشهدُ على بَنِيها بما عملوا على ظهرها من خيرٍ أو شرٍّ. فصل ولما كانت الرياح تَجُولُ فيها (2)، وتدخلُ في تجاويفها، وتُحْدِثُ فيها الأبخِرَة، فتختنقُ (3) الرياح، ويتعذَّرُ عليها المنفَذ= أَذِنَ الله سبحانه لها في الأحيان بالتنفُّس، فتُحْدِثُ فيها الزَّلازلَ العِظام (4)، فيحدثُ من ذلك لعباده الخوفُ والخشيةُ والإنابةُ والإقلاعُ عن معاصيه والتضرُّعُ إليه والنَّدم (5). كما قال بعض السَّلف وقد زُلزِلت الأرض: «إنَّ ربَّكم يَسْتَعْتِبكم» (6). وقال عمر بن الخطَّاب، وقد زُلزِلت المدينة، فخطَبهم ووعظهم، وقال: «لئن عادت لا أساكِنكم فيها» (7). _________ (1) (ن، ح): «ودنو المخاض». (2) أي: في الأرض. (3) (د، ق، ت): «وتنخنق». (ح): «وتتخفق». (4) انظر: «مجموع الفتاوى» (24/ 264). (5) (ق، ت): «والتوبة». (6) تقدم تخريجه (ص: 340). (7) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 473)، وابن أبي الدنيا في «العقوبات» (20)، والبيهقي (3/ 342) بإسنادٍ صحيح.

(2/630)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل حكمةَ الله عزَّ وجلَّ في عِزَّة هذين النقدين: الذَّهب والفضة، وقصور حيلة (2) العالَم عما حاولوا من صَنْعَتهما والتشبُّه بخَلْق الله إياهما، مع شدَّة حرصهم وبلوغ أقصى جهدهم واجتهادهم في ذلك، فلم يظفروا بسوى الصِّبغة (3). ولو مُكِّنوا من أن يصنعوا مثلَ ما خَلَق الله من ذلك لفَسَد أمرُ العالَم، واستفاض الذَّهبُ والفضةُ في النَّاس حتى صارا كالشَّقَف (4) والفَخَّار، وكانت تتعطَّل المصلحةُ التي وُضِعَا لأجلها، وكانت كثرتُهما جدًّا سببَ تعطُّل الانتفاع بهما؛ فإنه لا يبقى لهما قيمة (5)، ويبطُل كونُهما قِيَمًا لنفائس _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (14 - 15)، «توحيد المفضل» (98). (2) (ح): «حيرة». (ت): «همة». (3) (ق، د): «الضيعة». (ت): «الصيغة». والمثبت أدنى إلى الصواب. فإن غاية ما يمكنهم هو صبغ النحاس مثلًا بصبغ الفضة. انظر: «تفسير ابن كثير» (6/ 2675)، و «البداية والنهاية» (2/ 204)، و «شرح المقاصد» للتفتازاني (1/ 374). وكان أصحاب هذه الصناعة يقولون عن أنفسهم: «نحن صبَّاغون»! «مجموع الفتاوى» (29/ 369). وفي (ح، ن): «الصنعة»، وهي قراءة محتملة؛ فالكيمياء يشبَّه فيها المصنوع بالمخلوق. قال ابن تيمية: «ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق فقوله باطلٌ في العقل والدين». «الفتاوى» (29/ 368). وكانت كتب الكيمياء تسمى «كتب الصَّنعة». انظر: المقالة العاشرة من «الفهرست» للنديم، و «مجموع الفتاوى» (29/ 378). (4) وهو الخزف المكسَّر. «اللسان» (شقف). (5) (ح، ن): «قيمة نفيسة».

(2/631)


الأموال والمعاملات وأرزاق المقاتِلَة (1)، ولم يتسخَّر بعضُ النَّاس لبعض؛ إذ يصيرُ الكلُّ أربابَ ذهبٍ وفضَّة، فلو أغنى خلقَه كلَّهم لأفقَرهم كلَّهم (2)، فمن يرضى لنفسه بامتهانها في الصَّنائع التي لا قِوامَ للعالَم إلا بها؟! فسبحان من جَعَل عِزَّتهما سببَ نظام العالَم، ولم يجعلهما في العزَّة كالكبريت الأحمر الذي لا يوصلُ إليه (3)، فتفوتُ المصلحةُ بالكلِّيَّة، بل وضعهما وبثَّهما في العالَم بقَدْرٍ اقتضته حكمتُه ورحمتُه ومصالحُ عباده. وقرأتُ بخطِّ الفاضل جبريل بن نوح (4) الأنباري، قال: أخبرني بعض من تداوَل المعادنَ (5) أنهم أوغَلوا في طلبها إلى بعض نواحي الجبل، فانتهوا إلى موضعٍ رأوا فيه (6) أمثال الجبال من الفضة، ومن دون ذلك وادٍ يجري مُنْصَلِتًا (7) بماءٍ غزيرٍ لا يُدْرَك (8)، ولا حيلة في عُبوره، فانصرفوا إلى حيث يعملون ما يَعْبُرون به، فلمَّا هيَّؤوه وعادوا راموا طريقَ النَّهر فما وقعوا (9) له _________ (1) لعله يريد: الغنائم. وفي (ح): «المعاملة». (2) ليست في (ت، ح، ن). (3) انظر: «تاج العروس» (كبرت)، والتعليق على «الحيوان» (5/ 95). (4) (ق، د، ت): «روح». ولعله مؤلف الكتاب أو ناسخه، كما مر في المقدمة. (5) (ق، د): «يداول المعادن». (6) (ح، ن): «وإذا فيه». (7) شديد الجري. وفي الأصول: «متصلبا». (ر): «متصلًا». والمثبت من (ض). (8) (ض): «لا يدرك غوره». (9) (ح، ن»: «وقفوا».

(2/632)


على أثر، ولا عرفوا إلى أين يتوجَّهون، فانصرفوا آيسين! (1). وهذا أحدُ ما يدلُّ على بطلان صناعة الكيمياء (2)، وأنها عند التحقيق زَغَلٌ وصِبغةٌ (3) لا غير، وقد ذكرنا بطلانها وبيَّنَّا فسادَها من أربعين وجهًا في رسالةٍ مفردة (4). _________ (1) الخبر في مطبوعة «توحيد المفضل» مختصرًا، دون لفظ «أخبرني»: «ومن أوغل في المعادن انتهى إلى وادٍ عظيم يجري منصلتًا بماءٍ غزير لا يدرك غوره، ولا حيلة في عبوره، ومن ورائه أمثال الجبال من الفضة». كأنه مثلٌ مضروبٌ لا قصةٌ محكية. وبنحو ما أورده المصنف في نسخة «الدلائل» المنسوبة للجاحظ (15). (2) وهي عند القدماء: علمٌ يُعرَفُ به طرقُ سَلب الخواصِّ من الجواهر المعدنية، وإفادتها خواصَّ لم تكن لها، ولا سيَّما تحويلها إلى ذهب. واختلفوا في صحتها وإمكانها على قولين مشهورين، وممن قال ببطلانها: ابن سينا، ويعقوب بن سنان الكندي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والأكثرون. واحتجوا بأدلةٍ مادِّية وشرعية وعقلية. انظر: «الإمتاع والمؤانسة» (2/ 38)، و «الهوامل والشوامل» (324)، و «الغيث الذي انسجم» (1/ 9)، و «كشف الظنون» (2/ 1526). وعند المُحْدَثين: علمٌ يُبحَثُ فيه عن خواصِّ العناصر المادية، والقوانين التي تخضع لها في الظروف المختلفة، وبخاصةٍ عند اتحاد بعضها ببعض. انظر: «المعجم الوسيط» (808)، و «المعجم الفلسفي» (2/ 254). والخلافُ السابق لا يجري على هذا العلم؛ لاختلاف حقيقته عن الأول. (3) (ت): «وصيغة». (ن، ح): «وصنعة». والمثبت من (د، ق)، وهو أقرب، كما تقدم. (4) ذكرها ابن رجب والداوودي وغيرهما. انظر: «ابن القيم» للشيخ بكر (223). ولم يُعثَر عليها بعد، وذكر بعضهم وجودها في إحدى المكتبات الخاصة. وانظر: «الطرق الحكمية» (630). ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالةٌ في إبطالها. انظر: «العقود الدرية» (77). وردَّ عليه نجم الدين الربعي برسالة. انظر: «أعيان العصر» (3/ 101)، و «الغيث الذي انسجم» (1/ 9). وانظر: «مجموع الفتاوى» (28/ 72، 29/ 368 - 391).

(2/633)


والمقصودُ أنَّ حكمةَ الله تعالى اقتضت عِزَّة هذين الجوهرَين وقلَّتهما بالنسبة إلى الحديد والنُّحاس والرَّصاص؛ لصلاح أمر النَّاس (1). واعتَبِر ذلك بأنه إذا ظهرَ الشيءُ الظَّريفُ المستَحسَنُ مما يحدِثُه النَّاسُ من الأمتعة، كان نفيسًا عزيزًا ما دام فيه قِلَّةٌ وهو مرغوبٌ فيه، فإذا فشا وكثُر في أيدي النَّاس وقَدَرَ عليه الخاصُّ والعامُّ سقط عندهم وقلَّت رغباتُهم فيه، ومن هذا قولُ القائل: «نفاسةُ الشيء مِنْ عِزَّتِه» (2)، ولهذا كان أزهدَ النَّاس في العالِم أهلُه وجيرانُه وأرغبَهم فيه البُعداءُ عنه. فصل (3) وتأمَّل الحكمةَ البديعةَ في تيسيره سبحانه على عباده ما هم أحوجُ إليه وتوسيعه وبَذْلِه، فكلَّما كانوا أحوجَ إليه كان أكثرَ وأوسع، وكلَّما استغنَوا عنه كان أقلَّ، وإذا توسَّطت الحاجةُ توسَّط وجودُه، فلم يكن بالعامِّ ولا بالنادر، على مراتب الحاجات وتفاوتها. فاعتَبِر هذا بالأصول الأربعة: التُّراب والماء والهواء والنَّار، وتأمَّل سَعة ما خلق الله منها وكثرتَه وعمومَه. فتأمَّل سَعة الهواء وعمومَه ووجودَه بكلِّ مكان؛ لأنَّ الحيوانَ المخلوق _________ (1) (ح، ن): «أمر المسلمين». (2) انظر: «المثل السائر» (1/ 101). (3) «الدلائل والاعتبار» (15)، «توحيد المفضل» (90، 93).

(2/634)


في البرِّ لا يمكنُه الحياةُ إلا به، فهو معه أين كان وحيثُ كان؛ لأنه لا يستغني عنه لحظةً واحدة، ولولا كثرتُه وسَعتُه وامتدادُه في أقطار العالم لاختنقَ أهل العالَم (1) من الدُّخان والبُخَار المتصاعد المُنعقِد. فتأمَّل حكمةَ ربك في أنْ سخَّر له الرياح، فإذا تصاعدَ إلى الجوِّ أحالتهُ سحابًا أو ضبابًا، فأذهبَت عن العالم شرَّه وأذاه. فسَلِ الجاحدَ: من الذي دبَّر هذا التَّدبيرَ وقدَّر هذا التقدير؟ وهل يقدرُ أهل العالَم (2) كلُّهم لو اجتمعوا أن يُحِيلوا ذلك ويقلبوه سحابًا أو ضبابًا، أو يُذْهِبوه عن النَّاس ويكشفوه عنهم؟ ولو شاء ربُّه تعالى لحبَسَ عنه الرياح فاختنقَ على وجه الأرض، فأهلَك ما عليها من الحيوان والنَّاس. فصل (3) ومِنْ ذلك: سَعةُ هذه الأرض وامتدادُها، ولولا ذلك لضاقت عن مساكن الإنس والحيوان، وعن مزارعهم ومراعيهم، ومنابت ثمارهم وأعشابهم. فإن قلت: فما حكمةُ هذه القِفَار الخالية، والفَلَوات الفارغة المُوحِشَة؟ فاعلم أنَّ فيها معايشَ (4) ما لا يحصيه إلا الله من الوحوش والدَّوابِّ، وعليها أرزاقُهم، وفيها مَطْرَدُهم ومنزلهم؛ كالمدن والمساكن للإنس، وفيها _________ (1) (ت): «كل العالم». (ن، ح): «لاختنق العالم». (ر، ض): «هذا الأنام». (2) (ت، ن): «يقدر العالم». (3) «الدلائل والاعتبار» (16)، «توحيد المفضل» (90، 92). (4) (د، ق): «معاش».

(2/635)


مجالهم ومرعاهم ومَصِيفُهم ومَشْتاهُم. ثمَّ فيها ــ بعدُ ــ متَّسعٌ ومتنفَّسٌ للنَّاس ومُضطرَبٌ إذا احتاجوا إلى الانتقال والبَدْوِ (1) والاستبدال بالأوطان؛ فكم من بيداءَ سَمْلَقٍ (2) صارت قصورًا (3) وجِنانًا ومساكن. ولولا سَعةُ الأرض وفَسْحُها (4) لكان أهلُها كالمحصورين والمحبوسين في أماكنهم، لا يجدون عنها انتقالًا إذا فَدَحَهم (5) ما يزعجُهم عنها ويضطرُّهم إلى النُّقلة منها. وكذلك الماء، لولا كثرتُه وتدفُّقه في الأودية والأنهار لضاق عن حاجة النَّاس إليه، ولغَلَبَ القويُّ فيه الضعيفَ واستبدَّ به دونه، فيحصلُ الضررُ وتَعْظُمُ البليَّة، مع شدَّة حاجة جميع الحيوان إليه من الطَّير والوحوشِ والسِّباع، فاقتضت الحكمةُ أن كان بهذه الكثرة والسَّعة في كلِّ وقت. وأما النَّار، فقد تقدَّم أنَّ الحكمةَ اقتضت كُمونَها (6)؛ متى شاء العبدُ أَوْراها عند الحاجة، فهي وإن لم تكن مبثوثةً (7) في كلِّ مكانٍ فإنها عَتِيدةٌ (8) حاصلةٌ متى احتيجَ إليها، واسعةٌ لكلِّ ما يُحتاجُ إليه منها، غير أنها مُودَعةٌ في أجسامٍ جُعِلَت معادنَ لها؛ للحكمة التي تقدَّمت. _________ (1) (ت): «والبدول». (2) وهي: القَفْر الذي لا نبات فيه. أو القاع المستوى الأملس. «اللسان» (سملق). (3) (ض): «فكم بيداء وكم فدفد حالت قصورا». (4) (ر، ض): «وفسحتها». (5) (ق، ت، ح، ن): «قدحهم». (6) (ح): «كونها». (7) (ن): «مشبوبة». (8) أي: حاضرةٌ مُعَدَّة. «اللسان» (عتد).

(2/636)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في نزول المطر على الأرض من عُلوٍّ ليعُمَّ بسَقْيه وِهادَها وتِلالها، وظِرابها وآكامها، ومنخفَضها ومرتفعَها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها (2) من ناحيةٍ من نواحيها لما أتى الماءُ على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السُّفلى وكثُر، وفي ذلك ضررٌ وفساد. فاقتضت حكمتُه أن سقاها من فوقها؛ فينشاءُ سبحانه السَّحابَ ــ وهي روايا الأرض ــ، ثمَّ يرسلُ الرياح فتحملُ الماءَ من البحر وتَلْقَحُها به كما يَلْقَحُ الفحلُ الأنثى. ولهذا تجدُ البلادَ القريبة من البحر كثيرةَ الأمطار، وإذا بَعُدَت من البحر قلَّ مطرُها (3). وفي هذا المعنى قولُ الشاعر (4) يصفُ السَّحاب: شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثمَّ تَرفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ (5) _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (17)، «توحيد المفضل» (95 - 96). (2) (ر، ض): «يأتيها». (3) نقل ناسخ (ح) في الطرَّة بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تكوُّن المطر. وانظر: «منهاج السنة» (5/ 439 - 444)، و «مجموع الفتاوى» (16/ 16، 24/ 262)، و «شروح سقط الزند» (1/ 355)، و «إضاءة الراموس» (1/ 195). (4) وهو أبو ذؤيب الهذلي. من كلمةٍ في «ديوان الهذليين» (1/ 50). وتخريج البيت في «شرح أشعار الهذليين» (3/ 1387). (5) «متى لجج» يعنى: مِنْ لجج. و «لهن نئيج» أي: مَرٌّ سريعٌ بصوت. انظر: «خزانة الأدب» (7/ 97).

(2/637)


وفي «الموطَّأ» (1) مرفوعًا، وهو أحدُ الأحاديث الأربعة المقطوعة (2): «إذا نَشَأت سحابةٌ بحريَّةً ثمَّ تشاءمت فتلك عينٌ غُدَيْقَة» (3). والله سبحانه ينشاء الماءَ في السَّحاب إنشاءً، تارةً يَقْلِبُ الهواءَ ماءً (4) وتارةً يحملُه الهواءُ من البحر فيَلْقَحُ به السَّحابَ ثمَّ ينزلُ منه على الأرض للحكمة التي ذكرناها، ولو أنه ساقه من البحر إلى الأرض جاريًا على ظهرها لم يحصُل عمومُ السَّقي إلا بتخريب كثيرٍ من الأرض، ولم يحصُل عمومُ السَّقي لأجزائها. فصاعَدَه (5) سبحانه إلى الجوِّ بلُطفه وقدرته، ثمَّ أنزله على الأرض _________ (1) (517) بلاغًا. وأخرجه موصولًا الطبراني في «الأوسط» (7757)، وابن أبي الدنيا في «المطر» (42)، وأبو الشيخ في «العظمة» (722)، عن عائشة مرفوعًا بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا. وأخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 561) من وجهٍ آخر مرسلًا، وإسناده شديد الضعف. وانظر: «التمهيد» (24/ 377)، و «فتح الباري» لابن رجب (9/ 266). (2) ذكر ابن عبد البر في «تجريد التمهيد» (242، 249، 253) أن في «الموطأ» من بلاغات مالك ومرسلاته واحدًا وستين حديثًا، وجَدَها كلَّها متصلةً، حاشا أربعة أحاديث لم يستطع وَصْلَها، وهذا الحديثُ أحدها. وقد صنف ابنُ الصلاح رسالةً في وصل هذه الأحاديث، مطبوعة بذيل «توجيه النظر» للجزائري، وكلامُه عن هذا الحديث فيها (2/ 928). (3) «نشأت»: ابتدأت وارتفعت. «بحرية»: من ناحية البحر. «تشاءمت»: أخذت نحو الشام. «فتلك عينٌ غُدَيقة»: سحابةٌ يكون ماؤها غزيرًا. (4) (ق): «بقلب الهواء ماء». (5) (ح، ن): «فباعده».

(2/638)


بغايةٍ (1) من اللُّطف والحكمة التي لا اقتراحَ لجميع عقول الحكماء فوقها فأنزله ومعه رحمتُه على الأرض. فصل (2) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في إنزاله بقَدْر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرضُ حاجتَها منه، وكان تتابعُه عليها بعد ذلك يضرُّها= أقلَع عنها وأعقَبه بالصَّحو، فهما ــ أعني الصَّحوَ والغَيم ــ يَعْتَقِبان (3) على العالم لما فيه صلاحُه، ولو دام أحدُهما كان فيه فسادُه. فلو توالت الأمطارُ لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوبَ والثِّمار، وعفَّنت الزروعَ والخضروات، وأرخَت الأبدان (4)، وخثَّرت (5) الهواء، فحدثَت ضروبٌ من الأمراض، وفَسَد أكثرُ المآكل، وتقطَّعت المسالكُ والسُّبل. ولو دام الصَّحوُ لجفَّت الأبدان، وغِيض الماءُ، وانقطع مَعِينُ العيون والآبار والأنهار والأودية، وعَظُمَ الضرر، واحْتَدَم الهواء (6)، فيَبِسَ ما على الأرض، وجفَّت الأبدان، وغَلَب اليُبْس، فأحدثَ ذلك ضُروبًا من الأمراض _________ (1) في الأصول: «بعناية». تحريف. (2) «الدلائل والاعتبار» (18)، «توحيد المفضل» (94 - 95). (3) (ح): «معتقبان». (ن): «متعاقبان». (ض): «يتعاقبان». (4) (ر، ض): «واسترخت أبدان الحيوان». (5) جعلته خاثرًا، لتشبعه بالرطوبة. (ح، ن): «وحرت». (ض): «وحصر». وفي «البحار» (3/ 125، 56/ 385): «وخصر». خَصِر: اشتدَّ بردُه. (6) اشتدت حرارته.

(2/639)


عَسِرة الزَّوال. فاقتضت حكمةُ اللطيف الخبير أنْ عاقَبَ بين الصَّحو والمطر على هذا العالم؛ فاعتدل الأمرُ، وصَحَّ الهواءُ، ودَفَع كلُّ واحدٍ منهما عادِيَة الآخر (1)، واستقام أمرُ العالم وصلح. فصل (2) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ الإلهيَّة في إخراج الأقوات والثِّمار والحبوب والفواكه متلاحقةً شيئًا بعد شيء، متتابعةً، ولم يخلقها كلَّها جملةً واحدة؛ فإنها لو خُلِقَت كذلك على وجه الأرض، ولم تكن تَنبتُ على هذه السُّوق والأغصان، لدَخَل الخللُ وفاتت المصالحُ التي رُتِّبت على تلاحُقها وتتابُعها؛ فإنَّ كلَّ فصلٍ وأوانٍ يقتضي من الفواكه والثِّمار (3) غيرَ ما يقتضيه الفصلُ الآخر، فهذا حارٌّ وهذا باردٌ وهذا معتدل، وكلٌّ في فصله موافقٌ للمصلحة لا يليقُ به غيرُ ما خُلِقَ فيه. ثمَّ إنه سبحانه خلق تلك الأقواتَ مقارِنةً لمنافعَ أخرَ من العَصْف والخشب، والوَرَق والنَّوْر (4)، والسَّعَف والكَرَب (5)، وغيرها من منافع النَّبات والشَّجر غير الأقوات، كعَلَف (6) البهائم، وآلات الأبنية والسُّفُن والرِّحال والأواني وغيرها، ومنافعِ النَّوْر من الأدوية والمنظر البهيج الذي _________ (1) (ن، ح): «عادة الآخر». (2) «الدلائل والاعتبار» (19)، «توحيد المفضل» (99، 101). (3) (ق، ت): «والنبات». (4) نَوْرُ الشجر: زَهْرُه. «اللسان» (نور). (5) الكَرَب: أصولُ سَعَف النخل الغِلاظُ العِراض التي تيبس. «اللسان» (كرب). (6) (ح): «وكعلف».

(2/640)


يسرُّ النَّاظرين، وحُسْن مرأى الشجر وخِلْقَتها البديعة الشاهدة لفاطرها ومبدعها بغاية الحكمةِ واللُّطف. ثمَّ إذا تأمَّلتَ إخراجَ ذلك النَّوْر البهيِّ من نفس ذلك الحطب، ثمَّ إخراجَ الوَرَق الأخضر، ثمَّ إخراجَ تلك الثِّمار على اختلاف أنواعها وأشكالها ومقاديرها، وألوانها وطُعومها وروائحها ومنافعها وما يرادُ منها. ثمَّ تأمَّل أين كانت مُستودعَةً في تلك الخشبة وهاتيك العِيدان، وجُعِلت الشجرةُ لها كالأمِّ، فهل كان في قدرة الأب العاجز الضعيف إبرازُ هذا التَّصوير العجيب، وهذا التقدير المُحْكَم، وهذه الأصباغ الفائقة، وهذه الطُّعوم اللذيذة والأراييح (1) الطيِّبة، وهذه المناظر المستحسَنة؟! فسَلِ الجاحدَ: من تولى تقديرَ ذلك وتصويرَه وإبرازه وترتيبَه (2) شيئًا فشيئًا، وسَوْقَ الغذاء إليه في تلك العُروق اللِّطاف التي يكادُ البصرُ يعجزُ عن إدراكها وتلك المجاري الدِّقاق؟! فمن الذي تولى ذلك كلَّه؟! ومن الذي أطْلَع لها الشمس، وسخَّر لها الرياح، وأنزَل عليها المطر، ودَفَع عنها الآفات؟! وتأمَّل تقديرَ اللطيف الخبير؛ فإنَّ الأشجار لما كانت تحتاجُ إلى الغذاء الدَّائم، كحاجة النَّاس وسائر الحيوان، ولم يكن لها أفواهٌ كأفواه الحيوان، ولا حركةٌ تنبعثُ بها لتناول الغذاء؛ جُعِلت أصولُها مركوزةً في الأرض؛ _________ (1) جمعُ الجمع لكلمة «ريح»، وهي شاذة، كما في «اللسان». وتقع في كلام الجاحظ وغيره من أمراء البيان. والمصنف يستعملها أحيانًا. انظر: «زاد المعاد» (4/ 91)، و «شفاء العليل» (648). (2) (ح): «وتربيته».

(2/641)


لتنزع منها (1) الغذاء وتمتصَّه من أسفل الثَّرى، فتؤدِّيه إلى أغصانها، فتؤدِّيه الأغصانُ إلى الوَرق والثَّمر، كلٌّ له شِرْبٌ معلومٌ لا يتعدَّاه، يصلُ إليه في مَجَارٍ وطرقٍ قد أُحكِمَت غايةَ الإحكام، فتأخذُ الغذاءَ من أسفلَ وتَلْقَمه بعروقها كما يلتقمُ الحيوانُ غذاءه بفمه، ثمَّ تقسِّمه على حملها بحسب ما يحتملُه (2)، فتعطي كلَّ جزءٍ منه بحسب ما يحتاجُ إليه لا تظلمُه ولا تزيدُه على قَدْر حاجته. فسَلِ الجاحدَ (3): من أعطاها هذا؟ ومن هداها إليه ووَضَعَه فيها؟ فلو اجتمعَ الأوَّلون والآخِرون هل كانت قدرتُهم وإرادتُهم تصلُ إلى تربية (4) ثمرةٍ واحدةٍ منها هكذا بإشارةٍ أو صناعةٍ أو حيلةٍ أو مزاوَلة؟ وهل ذلك إلا صُنْعُ من شَهِدَت له مصنوعاتُه، ودلَّت عليه آياتُه، كما قيل: فوا عَجبًا كيف يُعصى الإلـ ... ــهُ أم كيف يجحَدُه الجاحِدُ وللهِ في كُلِّ تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبدًا شاهِدُ وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تَدُلُّ على أنه واحِدُ (5) _________ (1) (ت، د، ق): «ليسرع بها». (ح، ن): «ليسوغ بها». والمثبت من (ر، ض). (2) (ت، ن): «يحمله». (3) (ن): «فاسأل المعطل». (4) (ت): «ترتيب». (5) الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه (104)، و «الأغاني» (4/ 37)، و «التمثيل والمحاضرة» (11)، و «بهجة المجالس» (2/ 331)، وغيرها كثير. ونُسِبَت إلى لبيد، ومحمود الوراق، وأبي نواس، وابن المبارك، في مصادر أخرى، ولا يصحُّ من ذلك شيء.

(2/642)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل إذا نصبتَ خيمةً أو فُسطاطًا كيف تُمِدُّه (2) من كلِّ جانبٍ بالأطنابِ ليثبُتَ فلا يسقُط ولا يتعوَّج. فهكذا تجدُ النَّبات والشجرَ له عروقٌ ممتدَّةٌ في الأرض منتشرةٌ إلى كلِّ جانبٍ لتُمسِكه وتُقِيمَه، وكلَّما انتشرت أعاليه امتدَّت (3) عروقُه وأطنابُه من أسفل في الجهات. ولولا ذلك كيف كانت تثبُت هذه النَّخيلُ الطِّوالُ الباسقاتُ والدَّوْحُ العِظام (4) على الرياح العواصف؟! وتأمَّل سَبْق الخِلْقة الإلهية (5) للصِّناعة البشرية؛ حتى يَعْلَم الناسُ نَصْبَ الخِيام والفساطيط من خِلْقة الشَّجر والنَّبات؛ لأنَّ عروقها أطنابٌ لها كأطناب الخيمة، وأغصانُ الشَّجر يُتَّخذُ منها الفساطيط، ثمَّ يحاكى بها الشجرة. فصل (6) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خَلْق الوَرَق؛ فإنك ترى في الورقة الواحدة من جملة العُروق الممتدَّة فيها المبثوثة فيها ما يَبْهَرُ النَّاظر. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (21). (2) (ت): «فسطاط كيف يمد». (3) (ت): «اشتدت». (4) الدَّوْح: الشجر العِظام ذات الفروع الممتدة. «التاج» (دوح). (5) (د، ت): «الخلق الإلهي». (6) «الدلائل والاعتبار» (21)، «توحيد المفضل» (101 - 102).

(2/643)


فمنها غِلاظٌ ممتدَّةٌ في الطُّول والعرض، ومنها دِقاقٌ تتخلَّلُ تلك الغِلاظ، منسوجةً نسجًا دقيقًا مُعْجِبًا لو كان مما يتولى البشرُ صُنْعَ مثله بأيديهم لما فُرِغ من ورقةٍ في عامٍ كامل، ولاحتاجُوا فيه إلى آلاتٍ وحركاتٍ وعلاجٍ تعجزُ قدرتهم عن تحصيله، فبثَّ الخلَّاقُ العليمُ في أيامٍ قلائل من ذلك ما يملأ الأرض سَهْلَها وجبالها بلا آلاتٍ ولا مُعينٍ ولا فكرةٍ ولا معالجة، إن هي إلا إرادتُه النَّافذةُ في كلِّ شيء، وقدرتُه التي لا يمتنعُ منها شيء؛ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. فتأمَّل الحكمةَ في تلك العروق المتخلِّلة للورقة (1) بأسْرِها لتسقيها وتُوصِل (2) إليها المادَّة فتحفظ عليها حياتها ونضارتها، بمنزلة العروق المبثوثة في الأبدان التي تُوصِلُ الغذاءَ إلى كلِّ جزءٍ منه. وتأمَّل ما في العروق الغِلاظ من إمساكها الورقَ بصلابتها ومتانتها لئلَّا تتمزَّق وتضمحلَّ (3)، فهي بمنزلة الأعصاب لبدن الحيوان، فتراها قد أُحكِمَت صَنْعَتُها ومُدَّت العروقُ في طولها وعرضِها لتتماسك فلا يَعْرِضُ لها التَّمزُّق. فصل ثمَّ تأمَّل حكمةَ اللطيف الخبير في كونها (4) جُعِلَت زينةً للشجر، وسِتْرًا ولباسًا للثَّمرة، ووقايةً لها من الآفات التي تمنعُ كمالها؛ ولهذا إذا جُرِّدَت _________ (1) (د، ق): «الورقة». (ت): «المورقة». (2) (ح، ن): «ويرسل». (3) (ر، ض): «تنتهك وتتمزق». (4) أي: الوَرَق.

(2/644)


الشجرةُ من ورقها فَسَدَت الثَّمرةُ ولم يُنتفَع بها. وانظر كيف جُعِلَت وقايةً لِمَنبِت الثَّمرة الضعيف (1) من اليُبْس، فإذا ذهبَت الثَّمرةُ بقي الورقُ وقايةً لتلك الأفنان الضعيفة من الحرِّ، حتى إذا طَفِئت تلك الجمرةُ ولم يَضُرَّ الأفنانَ عُرْيُها عن ورقها سُلِبَتها (2) لتكتسيَ لباسًا جديدًا أحسنَ منه. فتبارك الله ربُّ العالمين الذي يعلمُ مَساقِط (3) تلك الأوراق ومَنابِتَها، فلا تخرجُ منها ورقةٌ إلا بإذنه ولا تسقطُ إلا بعلمه، ومع هذا فلو شاهدها العبادُ على كثرتها وتنوُّعها وهي تسبِّحُ بحمد ربها (4) مع الثِّمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمرًا آخر، ولرأوا خِلْقَتها بعَيْنٍ أخرى، ولعلموا أنها لشأنٍ عظيمٍ خُلِقَت (5)، وأنها لم تُخْلَق سُدى. قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]؛ فالنَّجمُ ما ليس له ساقٌ من النَّبات، والشجرُ ما له ساقٌ (6)، وكلُّها ساجدةٌ لله مسبِّحةٌ بحمده: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. _________ (1) (ن، ح): «الضعيفة». (2) (ن، ح): «سلبها». (3) (ت، ح، ن): «ساقط». (4) (ت): «بحمد ربها وتقدسه». (5) كتب فوقها في (د) بخطٍّ دقيق: «أي: للاعتبار». (6) رُوِي هذا عن ابن عباس، واختاره الطبري (23/ 12).

(2/645)


ولعلَّك أن تكون ممَّن غَلُظ حِجابُه، فتذهبَ (1) إلى أنَّ التَّسبيحَ دلالتُها على صانعها فقط (2)؛ فاعلَم أنَّ هذا القول يظهرُ بطلانُه من أكثر من ثلاثين وجهًا قد ذكرنا أكثرها في موضعٍ آخر (3). وفي أيِّ لغةٍ تسمَّى الدلالةُ على الصَّانع تسبيحًا وسجودًا وصلاةً وتأويبًا وهُبوطًا من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه؟! فتارةً يخبرُ عنها بالتَّسبيح، وتارةً بالسُّجود، وتارةً بالصَّلاة؛ كقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، أفترى يقبلُ عقلُك أن يكون معنى الآية: كلٌّ قد عَلِمَ اللهُ دلالته عليه؟! وسمَّى تلك الدَّلالةَ صلاةً وتسبيحًا، وفرَّق بينهما وعَطَف أحدَهما على الآخر! وتارةً يخبرُ عنها بالتَّأويب؛ كقوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10]. _________ (1) (ح، ن): «فذهبت». (2) كما ذهب إليه المتكلمون، الباقلاني، والرازي، والقفال الشاشي، وابن رشد، والزمخشري، وغيرهم. انظر: «مفاتيح الغيب» (1/ 27، 4/ 144، 20/ 348، 29/ 448)، و «مناهج الأدلة» (153)، و «تفسير السمعاني» (5/ 430)، و «الكشاف» (2/ 626)، و «المعيار المعرب» (12/ 345). (3) انظر بعضها في «الروح» (264). وانظر: «مسائل حرب» (427)، و «معاني القرآن» للزجاج (3/ 242، 419، 5/ 121)، و «تفسير السمعاني» (3/ 244، 428، 5/ 245، 364)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 94، 95)، و «رسالة في قنوت الأشياء كلها لله» (1/ 43 - جامع الرسائل)، و «قاعدة في المحبة» (23)، وله في المسألة قاعدةٌ مفردة ذكرها ابن رشيِّق. انظر: «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (304).

(2/646)


وتارةً يخبرُ عنها بالتَّسبيح الخاصِّ بوقتٍ دون وقت، كالعشيِّ والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما تكونُ في هذين الوقتين؟! وبالجملة؛ فبطلانُ هذا القول أظهرُ لذوي البصائر من أن يطلبوا دليلًا على بطلانه، والحمدُ لله. فصل (1) ثمَّ تأمَّل حكمتَه سبحانه في إيداع (2) العَجَم والنَّوى في جوف الثَّمرة، وما في ذلك من الحِكَم والفوائد التي منها: أنه كالعَظْم لبدن الحيوان، فهو يُمْسِكُ بصلابته رخاوةَ الثَّمرة ورِقَّتَها ولطافتَها، ولولا ذلك لشُدِخَت (3) وتفسَّخَت، ولأسرع إليها الفساد، فهو بمنزلة العَظْم، والثَّمرةُ بمنزلة اللحم الذي يكسوه الله عزَّ وجلَّ العِظام. ومنها: أنَّ في ذلك بقاءَ المادَّة وحِفْظها؛ إذ ربَّما تعطَّلت الشجرةُ أو نوعُها، فخَلَق فيها (4) ما يقومُ مقامها عند تعطُّلها، وهو النَّوى الذي يُغْرَسُ فيعودُ مثلَها. ومنها: ما في تلك الحبوب من أقوات الحيوانات، وما فيها من المنافع والأدهان والأدوية والأصباغ وضروبٍ أُخَر من المصالح التي يتعلَّمها النَّاس (5)، وما خَفِيَ عليهم منها أكثر. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (21)، «توحيد المفضل» (102 - 103). (2) (ح، ق، د): «إبداع» بالموحَّدة. والعَجَم هو النوى. (3) (ر، ض): «لتشدخت». (4) (ح): «فخلف فيها». (5) (ق): «يعلمها الناس».

(2/647)


فتأمَّل الحكمةَ في إخراجه ــ سبحانه ــ هذه الحبوبَ لمنافعَ فيها، وكسوتها لحمًا لذيذًا شهيًّا يتفكَّهُ به ابنُ آدم. ثمَّ تأمَّل هذه الحكمةَ البديعةَ في أنْ جَعَل للثَّمرة الرَّقيقة اللطيفة التي يُفسِدُها الهواءُ والشمسُ غلافًا يحفظُها، وغشاءً يواريها؛ كالرُّمَّان والجَوز واللَّوز ونحوه. وأمَّا ما لا يَفْسُدُ إذا كان بارزًا فجَعَل له في أوَّل خروجه غشاءً يواريه؛ لضعفه ولقلَّة صبره على الحرِّ، فإذا اشتدَّ وقَوِيَ تفتَّق عنه ذلك الغشاءُ وضَحَا للشمس (1) والهواء؛ كطَلْع النَّخل وغيره. فصل (2) ثمَّ تأمَّل خلقَ الرُّمَّان وماذا فيه من الحِكَم والعجائب؛ فإنك ترى داخلَ الرُّمَّانة كأمثال التِّلال (3) شحمًا متراكمًا في نواحيها، وترى ذلك الحَبَّ فيها مرصوفًا رصفًا ومنضودًا نضدًا لا يمكنُ الأيدي أن تنضِّده، وترى الحَبَّ مقسومًا أقسامًا وفِرَقًا، وكلَّ قسمٍ وفرقةٍ منه ملفوفًا (4) بلفائفَ وحُجُبٍ منسوجةٍ أعجبَ نسجٍ وألطفَه وأدقَّه (5) على غير منوالٍ إلا منوال {كُنْ فَيَكُونُ}، ثمَّ ترى الوعاءَ المحكَم الصُّلبَ قد اشتمل على ذلك كلِّه وضمَّه أحسنَ ضمٍّ. _________ (1) أي: بَرَز لها، وأصابه حرُّها. (2) «الدلائل والاعتبار» (22)، «توحيد المفضل» (103 - 104). (3) في الأصول: «القلال»، تحريف. والمثبت من (ر، ض). وإنما ذُكِرت القِلالُ في الحديث في مثَل ثمار الجنة لعِظَمها، وليست كذلك ثمار الدنيا. ثم إن المقصود ههنا تمثيل تراكمها لا عِظَمها. (4) (ح): «ملفوفة». (ن): «ملفوف». (5) «وأدقه» ليست في (ح).

(2/648)


فتأمَّل هذه الحكمةَ البديعةَ في الشَّحم المودَع فيها؛ فإنَّ الحَبَّ لا يمدُّ بعضه بعضًا، إذ لو مدَّ بعضُه بعضًا لاختلط وصار حبَّةً واحدة، فجُعِل ذلك الشحمُ خِلاله (1) ليمدَّه بالغذاء. والدليلُ عليه أنك ترى أصول الحَبِّ مركوزةً في ذلك الشَّحم، وهذا بخلاف حَبِّ العنب فإنه استغنى عن ذلك بأن جَعَل لكلِّ حبَّةٍ مجرًى تشربُ منه، فلا تشربُ حقَّ أختها، بل يجري الغذاءُ في ذلك العِرْق مجرًى واحدًا، ثمَّ ينقسمُ منه في مجاري الحبوب كلِّها، فينصبُّ منه (2) في كلِّ مجرًى غذاءُ تلك الحبَّة، فتبارك الله أحسنُ الخالقين. ثمَّ إنه لَفَّ ذلك الحَبَّ في تلك الرُّمَّانة بتلك اللفائف؛ لتضُمَّه وتمسكه فلا يضطرب ولا يتبدَّد، ثمَّ غشَّى فوق ذلك بالغشاء الصُّلب (3)، صِوانًا له (4) وحافظًا (5) وممسكًا له بإذن الله وقدرته. فهذا قليلٌ من كثيرٍ من حكمة هذه الثَّمرة الواحدة، ولا يمكنُنا ــ ولا غيرَنا ــ استقصاءُ ذلك، ولو طالت الأيامُ واتَّسعَ الفِكْر (6)، ولكنَّ هذا منبِّهٌ على ما وراءه، واللبيبُ يكتفي ببعض ذلك، وأما من غَلبت عليه الشقاوة، فكأيِّن من آيةٍ في السَّموات والأرض يمرُّ عليها وهو معرضٌ عنها (7)، غافلٌ _________ (1) (ح): «غلافه». وسقطت من (ن). (2) (ح): «فينبعث منه». (3) (ر، ض): «بالقشرة المستحصفة». (4) (ت): «صنوانا». (ن، ح): «صونا». (5) (ق، ن): «وحفظا». (ح): «وحفاظا». (ض): «لتصونه وتحصنه». (6) (ت): «الذكر». (7) سها ناسخ (ق) فكتب بدل هذه الجملة آية سورة يوسف: 105، التي اقتبس منها المصنفُ عبارته، ثم عاد فصحَّحها في الطرَّة بما يوافق باقي النسخ.

(2/649)


عن موضع الدَّلالة فيها. فصل (1) ثمَّ تَأمَّل هذا الرَّيعَ (2) والنَّماء الذي وضعه الله في الزَّرع، حتى صارت الحبَّةُ الواحدةُ ربما أنبتت سبعَ مئة حبَّة (3)، ولم تنبت الحبَّةُ حبَّةً واحدةً مثلها؛ ليكون في الغَلَّة متَّسعٌ لما يُرَدُّ في الأرض من الحَبِّ وما يكفي النَّاس ويَقُوتُ الزَّارعَ إلى إدراك زرعه. فصار الزرعُ يَرِيعُ هذا الرَّيعَ ليفيَ بما يحتاجُ إليه للقوت والزِّراعة. وكذلك ثمارُ الأشجار والنَّخيل، وكذلك ما يخرجُ مع الأصل الواحد منها من الصِّنوان؛ ليكون لما يقطعُه النَّاسُ (4) من ذلك ويستعملونه في مآربهم خَلَفًا، فلا تَبطُل المادَّةُ عليهم ولا تَنقُص. ولو أنَّ صاحبَ بلدٍ من البلاد أراد عِمارتَه لأعطى أهلَه ما يَبْذُرونه فيه (5) وما يُقِيتهُم إلى استواء الزَّرع، فاقتضت حكمةُ اللطيف الخبير أن أخرجَ من الحبَّة الواحدة حبَّاتٍ عديدة؛ ليُقِيتَ الخارجُ النَّاسَ ويدَّخرون منه ما يزرعون. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (19)، «توحيد المفضل» (99 - 100). (2) وهو النماء والزيادة. «اللسان» (ريع). (3) (ر، ض): «مئة حبة وأكثر وأقل». وهو أجود. (4) (ت، د): «افلس»، وفي طرة (د): «لعله: الناس». وكذلك هي في (ر، ض). (5) (ق، د، ت): «فيهم».

(2/650)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في الحبوب (2)، كالبُرِّ والشعير ونحوهما؛ كيف يخرجُ الحَبُّ مُدْرَجًا في قُشورٍ على رؤوسها أمثالُ الأسنَّة، فلا يتمكَّنُ جُنْدُ الطَّير من إفسادها والعبث فيها؛ فإنه لو صادفَ الحَبَّ بارزًا لا صِوانَ عليه (3) ولا وقاية تحولُ دونه لتمكَّن منه كلَّ التَّمكُّن، فأفسدَ وعاثَ وعَثَا وأكبَّ عليه أكلًا ما استطاع، وعَجَز أربابُ الزَّرع عن ردِّه. فجعل اللطيفُ الخبيرُ عليه هذه الوقايات لتصونه، فينال الطَّيرُ منه مقدارَ قُوتِه، ويبقى أكثرُه للإنسان؛ فإنه أولى به؛ لأنه هو الذي كَدَحَ فيه وشَقِيَ به (4)، وكان الذي يحتاجُ إليه أضعاف حاجة الطَّير. فصل (5) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ الباهرة في هذه الأشجار؛ كيف تراها في كلِّ عامٍ لها حملٌ ووَضْع، فهي دائمًا في حملٍ وولادة. فإذا أذِنَ لها ربُّها في الحمل احتبسَت (6) الحرارةُ الطَّبيعيةُ في داخلها واختبأت فيها؛ ليكون فيها حملُها في الوقت المقدَّر لها، فيكون ذلك الوقتُ _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (20)، «توحيد المفضل» (100). (2) (ن): «أكثر الحبوب». (3) الصُّوان (بالضم والكسر): الوعاء الذي يصان فيه الشيء. «اللسان». (4) (ح): «كدح فيه وسعى». وفي طرَّة (ن) إشارةٌ إلى أن ذلك في نسخة. (5) «الدلائل والاعتبار» (22)، «توحيد المفضل» (103). (6) (د): «اجتننت». (ت): «اجتبت». (ق): «اجتنبت». والمثبت من (ح، ن)، وهو الصواب. وفي (ر): «فتحتبس الحرارة».

(2/651)


بمنزلة وقت العُلُوق ومبدأ تكوين النُّطَف، فتعملُ المادَّةُ في أجوافها عملَها، وتهيِّئها للعُلُوق، حتى إذا آن وقتُ الحمل دَبَّ فيها الماءُ، فلانت أعطافُها (1)، وتحرَّكت للحَمْل، وسرى الماءُ في أفنانها، وانتشرت فيها الحرارةُ والرُّطوبة. حتى إذا آنَ وقتُ الولادة كُسِيَت من سائر الملابس الفاخرة من النَّوْر والوَرَق ما تتبخترُ فيه (2) وتَمِيسُ به وتفخَرُ على العقيم، فإذا أظهرت أولادها (3)، وبانَ للنَّاظر حملُها، عُلِم حينئذٍ كرمُها وطِيبُها مِنْ لؤمها وبخلها؛ فتولى تغذيةَ ذلك الحمل من تولى غذاءَ الأجنَّة في بطون أمَّهاتها وكساها الأوراق وصانها من الحرِّ والبرد. فإذا تكامل الحملُ وآن وقتُ الفطام، تَدَلَّت إليك أفنانُها كأنما تناولكَ ثمرةَ كبدها (4)، فإذا قابلتَها رأيتَ الأفنانَ كأنها تلقاك بأولادها وتحيِّيكَ وتكرمكَ بهم وتقدِّمهم إليك، حتى كأنَّ مناوِلًا يناولكَ إياها بيده، ولا سيَّما قطوفُ جنَّات النَّعيم الدَّانيةُ التي يتناولها المؤمنُ قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، وكذلك ترى الرَّياحينَ كأنها تحيِّيكَ بأنفُسِها، وتقابلكَ بطِيب رائحتها. وكلُّ هذا إكرامًا لك، وعنايةً بأمرك، وتخصيصًا لك، وتفضيلًا على غيرك من الحيوانات، أفيَجْمُلُ بك الاشتغالُ بهذه النِّعَم عن المُنعِم بها؟! فكيف إذا استعنتَ بها على معاصيه وصرفتَها في مساخطه؟! فكيف إذا جحدتَه وأضفتَها إلى غيره، كما قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]؟! _________ (1) (ت): «فملأت أعطافها». (2) (ن، ح): «تفتخر به». (3) (ح، ن): «ظهرت أولادها». (ت): «ظهرت ولادتها». (4) (ح): «ثمر درها».

(2/652)


فجديرٌ بمن له مُسْكةٌ من عقلٍ أن يسافر بفكره في هذه النِّعَم والآلاء، ويكرِّر ذِكرَها، لعلَّه يُوقِفُه على المراد منها ما هو؟ ولأيِّ شيءٍ خُلِق؟ ولماذا هُيِّاء؟ وأيُّ أمرٍ طُلِب منه على هذه النِّعَم (1)؛ كما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]. فذِكرُ آلائه تبارك وتعالى ونِعَمه على عبده سببُ الفلاح والسَّعادة؛ لأنَّ ذلك لا يزيدُه إلا محبةً لله وحمدًا وشكرًا وطاعةً وشُهودَ تقصيره ــ بل تفريطه ــ في القليل مما يجبُ لله عليه. ولله درُّ القائل: قد هيَّؤُوكَ لأمرٍ لو فَطِنْتَ له ... فاربَأ بنفسِكَ أن ترعى مع الهَمَلِ (2) فصل (3) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في شجر اليَقْطين والبِطِّيخ والخِرْبِز (4)، كيف لما اقتضت الحكمةُ أن يكونَ حملُه ثمارًا كبارًا جُعِل نباتُه منبسطًا على الأرض؛ إذ لو انتصبَ قائمًا كما ينتصبُ الزَّرعُ لضَعُفَت قوَّتُه عن حمل هذه الثِّمار الثَّقيلة، ولنَفَضت (5) قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها. _________ (1) (ت): «في هذه النعم». (2) مضى تخريج البيت (ص: 380). (3) «الدلائل والاعتبار» (23)، «توحيد المفضل» (104). (4) (ق، د، ت): «والجزر». تحريف. والمثبت من (ن، ر). وفي (ض): «الدباء والقثاء والبطيخ». (5) سقَطَت. والنَّفَض: ما تساقط من الثمر. وفي (ت): «ولنقضت». (ح): «ولانقضت». (ق، ن): «ولنقصت». وأهملت في (د). (ر، ض): «ولتقصفت».

(2/653)


فاقتضت حكمةُ مُبدعِه وخالقه أن بَسَطه ومدَّه على الأرض، ليُلقِيَ عليها ثمارَه فتحملها عنه الأرض. فترى العِرْقَ الضعيفَ الدَّقيقَ من ذلك منبسطًا على الأرض وثمارُه مبثوثةٌ حواليه، كأنه حيوانٌ (1) قد اكتنفها جِراؤها (2) فهي ترضعُها. ولما كان شجرُ اللُّوبيا والباذنجان والباقِلَّاء وغيرها مما يَقْوى على حمل ثمرته، أنبتَه الله منتصبًا قائمًا على ساقه؛ إذ لا يَلقى من حمل ثماره مؤنةً ولا يَضْعُف عنها. فصل (3) ثمَّ تأمَّل كيف اقتضت الحكمةُ الإلهيةُ موافاةَ أصناف الفواكه والثِّمار للنَّاس بحسب الوقت المُشاكِل لها المقتضي لها، فتُوافيهم (4) كمُوافاة الماء للظَّمآن، فتلقَّاها (5) الطَّبيعةُ (6) بانشراحٍ واشتياق، منتظرةً لقدومها كانتظار الغائب للغائب. ولو كان الصيفُ (7) ونباتُه إنما يوافي في الشتاء لصادفَ من النَّاس كراهةً واستثقالًا بوُروده، مع ما كان فيه من المضرَّة للأبدان والأذى لها، وكذلك لو وافى ربيعُها في الخريف أو خريفُها في الرَّبيع لم يقع من النفوس _________ (1) (ر، ض): «كأنه هرة ممتدة». (2) صِغارها. (3) «الدلائل والاعتبار» (23)، «توحيد المفضل» (105). (4) (ن): «فتوافيهم فيه». (5) (ن): «فتتلقاها». (6) (ض): «النفوس». (7) (ن): «فلو كانت فاكهة الصيف».

(2/654)


ذلك الموقِع، ولا استطابتْه واستلذَّته ذلك الالتذاذ. ولهذا تجدُ المتأخِّرَ منها عن وقته فائتًا مملولًا محلول (1) الطَّعم، ولا تظنَّ (2) أنَّ هذا لجريان العادة المجرَّدة بذلك؛ فإنَّ العادة إنما جرت به لأنه وَفْقَ الحكمة والمصلحة التي لا يُخِلُّ بها الحكيمُ الخبير. فصل (3) ثمَّ تأمَّل هذه النَّخلةَ التي هي أحدُ آيات الله (4) تجدْ فيها من العجائب والآيات ما يَبْهَرُك؛ فإنه لما قدِّر أن يكون فيه إناثٌ تحتاجُ إلى اللِّقاح جُعِلَت فيها ذكورٌ تَلْقَحُها بمنزلة ذكور الحيوان وإناثه، ولذلك اشتدَّ شَبهُها من بين سائر الأشجار بالإنسان، خصوصًا بالمؤمن، كما مَثَّله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (5)، وذلك من وجوهٍ كثيرة: أحدها: ثباتُ أصلها في الأرض واستقرارُه فيها، وليست بمنزلة الشجرة التي اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار (6). الثاني: طِيبُ ثمرتها وحلاوتُها وعمومُ المنفعة بها، كذلك المؤمنُ طيِّبُ الكلام طيِّبُ العمل، فيه المنفعةُ لنفسه ولغيره. _________ (1) كذا في الأصول. وفي (ط): «مخلول» بالمعجمة، لعله من الخَلِّ، وسمِّي بذلك لأنه اختلَّ منه طعمُ الحلاوة. (2) مهملة في (د). وفي (ح، ت): «يظن». (3) «الدلائل والاعتبار» (23)، «توحيد المفضل» (105 - 106). (4) كذا في الأصول، من باب الحمل على المعنى، وهو كثيرٌ في كتب المصنف. (5) أخرجه البخاري (61)، ومسلم (2811) من حديث ابن عمر. (6) انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 173).

(2/655)


الثالث: دوامُ لباسها وزينتها، فلا يسقطُ عنها صيفًا ولا شتاءً، كذلك المؤمنُ لا يزولُ عنه لباسُ التقوى وزينتُها حتى يُوافي ربَّه تعالى. الرابع: سهولةُ تناول ثمرتها وتيسيره؛ أمَّا قصيرُها فلا يُحْوِجُ المتناوِلَ أن يَرقاها، وأمَّا باسِقُها فصعودُه سهلٌ بالنسبة إلى صعود الشَّجر الطِّوال وغيرها، فتراها كأنها قد هُيِّئت منها المراقي (1) والدَّرَجُ إلى أعلاها؛ وكذلك المؤمنُ خيرُه سهلٌ قريبٌ لمن رام تناوله لا بالعَسِر (2) ولا باللئيم. الخامس: أنَّ ثمرتها من أنفع ثمار العالم؛ فإنه يؤكلُ فاكهةً رطبةً (3) وحلاوةً يابسة؛ فيكونُ قُوتًا وأُدْمًا وفاكهة، ويُتَّخَذُ منه الخَلُّ والنَّاطِفُ (4) والحلوى، ويدخلُ في الأدوية والأشربة، وعمومُ المنفعة به وبالعنب فوق كلِّ الثِّمار. وقد اختلف النَّاسُ في أيهما أنفعُ وأفضل؟ وصنَّف الجاحظُ في المحاكمة بينهما مجلَّدًا (5)، فأطال فيه الحِجَاجَ والتفضيل من الجانبين. وفصلُ النِّزاع في ذلك أنَّ النَّخل في مَعْدِنه ومحلِّ سلطانه أفضلُ من _________ (1) (ح، ن): «فتراها كأنها منها المراقي». (2) (ق، ت): «بالغر». (د): «بالغز». وكلاهما خطأ. (3) (ق): «رطبه فاكهة». وسقطت «رطبة» من (ت). (4) ضربٌ من الحلوى. انظر: «المعجم الوسيط» (نطف)، وحواشي «الحيوان» (3/ 376)، و «نشوار المحاضرة» (3/ 271). (5) وهو كتاب «الزرع والنخل»، ولم يُعْثَر عليه بعد. واختار فيه تفضيل النخل؛ فعابه بذلك بعض الناس. انظر: رسائله (1/ 231، 240)، و «الحيوان» (1/ 4)، و «إرشاد الأريب» (2118).

(2/656)


العنب وأعمُّ نفعًا وأجدى على أهله كالمدينة (1) والحجاز والعراق، والعنبُ في مَعْدِنه ومحلِّ سلطانه أفضلُ وأعمُّ نفعًا وأجدى على أهله كالشام والجبال والمواضع الباردة التي لا تقبلُ النَّخل (2). وحضرتُ مرَّةً في مجلسٍ بمكَّة ــ شرَّفها الله تعالى ــ فيه من أكابر البلد، فجَرَت هذه المسألة (3)، وأخذ بعضُ الجماعة الحاضرين يُطْنِبُ في تفضيل النَّخلِ وفوائده، وقال في أثناء كلامه: ويكفي في تفضيله أنَّا نشتري بِنَواهُ العنبَ؛ فكيف يفضَّلُ عليه ثمرٌ يكون نواهُ ثمنًا له؟! (4). وقال آخرُ من الجماعة: قد فَصَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النِّزاعَ في هذه المسألة، وشفى فيها بنَهْيِه عن تسمية شجر العنب كَرْمًا، وقال: «الكَرْمُ قلبُ المؤمن» (5)، فأيُّ دليلٍ أبينُ من هذا؟! وأخذوا يبالغون في تقرير ذلك. _________ (1) في الأصول: «بالمدينة». تحريف. وسيرد على الصواب في قوله: «كالشام». (2) انظر: «النخلة» لأبي حاتم السجستاني (42، 46)، و «طريق الهجرتين» (808)، و «زاد المعاد» (4/ 399)، و «تهذيب السنن» (13/ 218). (3) وقد جرت من قبلُ في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: «الحيوان» (6/ 140)، و «غريب الحديث» لابن قتيبة (1/ 281)، و «اللآلي» للبكري (2/ 690)، وغيرها. وفي «العقود اللؤلؤية» (2/ 263) خبرُ مناظرةٍ أخرى حول المسألة في مجلس أحد أمراء الدولة الرسولية باليمن. وللقاضي جمال الدين الريمي (ت: 791) رسالة بعنوان: «تحفة أهل الأدب في تفضيل العنب على الرطب». انظر: حاشية الرملي على «أسنى المطالب» (2/ 393)، و «نهاية المحتاج» (5/ 246). (4) قلب بعضهم هذا الدليل. انظر: «بهجة المجالس» (1/ 130). (5) أخرجه البخاري (6183)، ومسلم (2247) من حديث أبي هريرة.

(2/657)


فقلتُ للأوَّل: ما ذكرتَه من كَوْن نوى التَّمر ثمنًا للعنب فليس بدليل؛ فإنَّ هذا له أسباب: أحدها: حاجتُكم إلى النَّوى للعَلف، فيرغبُ صاحبُ العنب فيه لعَلف ناضحه وحمولته. الثاني: أنَّ نوى العنب لا فائدة فيه ولا يجتمع. الثالث: أنَّ الأعنابَ عندكم قليلةٌ جدًّا، والتَّمر فأكثرُ شيءٍ عندكم، فيكثرُ نواهُ، فيشترى به الشيءُ اليسيرُ من العنب، وأمَّا في بلادٍ فيها سلطانُ العنب فلا يشترى بالنَّوى منه شيءٌ ولا قيمة لنوى التَّمرِ فيها. وقلتُ لمن احتجَّ بالحديث: هذا الحديثُ من حُجَج فضل العنب (1)؛ لأنهم كانوا يسمُّونه شجرةَ الكَرْم؛ لكثرة منافعه وخيره، فإنه يؤكلُ رطبًا ويابسًا وحُلوًا وحامضًا، وتجنى (2) منه أنواعُ الأشربة والحلوى والدِّبْس وغير ذلك، فسمَّوه كَرْمًا لكثرة خيره؛ فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ قلبَ المؤمن أحقُّ منه بهذه التَّسمية؛ لكثرة ما أودع الله فيه من الخير والبِرِّ والرَّحمة واللِّين والعدل والإحسان والنُّصح وسائر أنواع البرِّ والخير التي وضعها الله (3) في قلب المؤمن، فهو أحقُّ بأن يسمَّى كَرْمًا من شجر العنب (4). ولم يُرِد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إبطالَ ما في شجر العنب من المنافع والفوائد، وأنَّ _________ (1) (ن): «من حجج من فضل العنب». (2) مهملة في (د). وفي (ن): «وتجيء». وهي قراءة محتملة. (3) (ت، ح): «وصفها الله». (4) من هنا إلى آخر الفصل ساقطٌ من (ح، ن)، وفي (ن): «بياض في الأصل».

(2/658)


تسميتَه كَرْمًا كذبٌ، وأنها لفظةٌ لا معنى تحتها كتسمية الجاهل عالِمًا والفاجر بَرًّا والبخيل سخيًّا، ألا ترى أنه لم يَنْفِ فوائدَ شجر العنب، وإنما أخبر أنَّ قلبَ المؤمنِ أغزرُ فوائدَ وأعظمُ منافعَ منها؟! هذا الكلامُ أو قريبٌ منه جرى في ذلك المجلس. وأنت إذا تدبَّرتَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الكَرْمُ قلبُ المؤمن» وجدتَه مطابقًا لقوله في النَّخلة: «مَثَلُها مثلُ المسلم»؛ فشبَّه النَّخلةَ بالمسلم في حديث ابن عمر (1)، وشبَّه المسلمَ بالكَرْم في الحديث الآخر، ونهاهم أن يخصُّوا شجرَ العنب باسم الكَرْم دون قلب المؤمن. وقد قال بعض النَّاس في هذا معنًى آخر؛ وهو أنه نهاهم عن تسمية شجر العنب كَرْمًا لأنه يُقْتَنى منه أمُّ الخبائث؛ فيُكرَهُ أن يسمَّى باسمٍ يرغِّبُ النفوسَ فيها ويحضُّهم عليها؛ من باب سدِّ الذَّرائع في الألفاظ (2). وهذا لا بأس به لولا أن قوله: «فإنَّ الكَرْمَ قلبُ المؤمن» كالتَّعليل لهذا النَّهي والإشارة إلى أنه أولى بهذه التَّسمية من شجر العنب. ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمُ بما أراد من كلامه، فالذي قَصَدَه هو الحقُّ. وبالجملة؛ فالله سبحانه عَدَّدَ على عباده من نِعَمه عليهم ثمراتِ النَّخيل والأعناب، فساقَها فيما عَدَّده عليهم من نِعَمه. والمعنى الأوَّلُ أظهرُ من المعنى الآخر إن شاء الله (3)؛ فإنَّ أمَّ الخبائث _________ (1) تقدم تخريجه قريبًا. (2) انظر: «المعلم» للمازري (3/ 111)، و «فتح الباري» (10/ 567). (3) ومال إلى المعنى الأول أبو الوليد الباجي في «المنتقى» (4/ 244)، وقدَّمه المصنف في «تهذيب السنن» (13/ 217)، وتردَّد فيه في «زاد المعاد» (2/ 349، 4/ 369).

(2/659)


تُتَّخَذُ من ثمر كلِّ النَّخيل والأعناب؛ كما قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، وقال أنسٌ رضي الله عنه: «نَزَل تحريمُ الخمر وما بالمدينة من شراب الأعناب شيءٌ، وإنما كان شرابُ القوم الفضيخَ المتَّخذَ من التَّمر» (1). فلو كان نهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن تسمية شجر العنب كَرْمًا لأجل المُسْكِر (2) لم يشبِّه النَّخلةَ بالمؤمن؛ لأنَّ المُسْكِرَ يُتَّخَذُ منها، والله أعلم. الوجهُ السَّادس من وجوه التشبيه: أنَّ النَّخلةَ أصبرُ الشجر على الرياح والجَهْد، وغيرُها من الدَّوْح العِظام تُمِيلها الرِّيحُ تارة، وتَقْلَعُها تارة، وتَقْصِفُ أفنانَها، ولا صبرَ لكثيرٍ منها على العطش كصبر النَّخلة (3)؛ فكذلك المؤمنُ صبورٌ على البلاء لا تُزَعْزِعُه الرياح. السَّابع: أنَّ النَّخلةَ كلها منفعةٌ لا يسقطُ منها شيءٌ بغير منفعة، فثمرها (4) منفعةٌ، وجِذْعُها فيه من المنافع ما لا يُجْهَلُ للأبنية والسُّقوف وغير ذلك، وسَعَفُها يُسْقَفُ به البيوتُ مكان القَصَب، ويُسْتَرُ به الفُرَجُ (5) والخَلَل، وخُوصُها يُتَّخَذُ منه المَكاتِلُ والزَّنابيلُ وأنواعُ الآنية والحُصُرُ وغيرُها، ولِيفُها وكَرَبُها فيه من المنافع ما هو معلومٌ عند النَّاس. _________ (1) أخرجه بنحوه البخاري (2464، 5580)، ومسلم (1980، 1981). (2) (ت): «السكر». (3) (ت): «ولا صبر لها، ولا للمثمر منها على العطش». (4) (ق): «فتمرها». (ت): «فثمرتها». (5) (ت): «الفروج».

(2/660)


وقد طابَقَ بعضُ النَّاس هذه المنافعَ وصفاتِ المسلم، وجَعَل لكلِّ منفعةٍ منها صفةً في المسلم تقابلُها، فلمَّا جاء إلى الشَّوك الذي في النَّخلة جَعَل بإزائه من المسلم صفةَ الحِدَّة (1) على أعداء الله وأهل الفُجور؛ فيكونُ عليهم في الشدَّة والغِلظة بمنزلة الشَّوك، وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرُّطَب حلاوةً ولِينًا، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. الثَّامن: أنها كلَّما طال عمرُها ازداد خيرُها وجاد ثمرُها؛ وكذلك المؤمنُ إذا طال عمره ازداد خيرُه وحَسُنَ عملُه. التَّاسع: أنَّ قلبَها من أطيب القلوب وأحلاه، وهذا أمرٌ خُصَّت به دون سائر الشجر؛ وكذلك قلبُ المؤمن من أطيب القلوب. العاشر: أنها لا يتعطَّلُ نفعُها بالكليَّة أبدًا، بل إن تعطَّلت منها منفعةٌ ففيها منافعُ أُخَر، حتى لو تعطَّلت ثمارُها سنةً لكان للنَّاس في سَعَفِها وخُوصِها ولِيفها وكَرَبها منافعُ وآراب؛ وهكذا المؤمنُ لا يخلو عن شيءٍ من خصال الخير قطُّ، بل إن أجْدَبَ منه جانبٌ من الخير أخصَبَ منه جانب، فلا يزالُ خيرُه مأمولًا وشرُّه مأمونًا. وفي «الترمذي» (2) مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُكم من يُرْجى خيرُه ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيرُه ولا يُؤمَنُ شرُّه». فهذا فصلٌ مُعتَرِضٌ ذكرناه استطرادًا للحكمة في خلق النَّخلة وهيئتها، فلنرجِع إليه. _________ (1) «صفة» ليست في (ت). (2) (2263)، وأحمد (2/ 368)، وغيرهما من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وصححه ابن حبان (527).

(2/661)


فتأمَّل خِلْقةَ الجِذْع الذي لها كيف هو، تجدْه كالمنسوج من خيوطٍ ممدودةٍ كالسَّدى، وأخرى معترضةً كاللُّحْمة (1)، كنحو المنسوج باليد، وذلك لتشتدَّ (2) وتَصْلُب، فلا تتقصَّف (3) مِنْ حَمْل القِنْوان الثقيلة (4)، وتصبرَ على هزِّ الرياح (5) العاصفة، ولبثِّها في السُّقوف (6) والجسور والأواني وغير ذلك مما يُتَّخَذُ منها. وهكذا سائرُ الخشب غيرها فيه إذا تأمَّلتَه شِبْه النَّسج، ولا تراه مُصْمَتًا كالحجر الصَّلْد، بل ترى بعضَه كأنه يُداخِلُ بعضًا طولًا وعرضًا كتداخُل أجزاء اللُّحَم بعضها في بعض؛ فإنَّ ذلك أمتنُ له وأهيأُ لما يُرادُ منه، فإنه لو كان مُصْمَتًا (7) كالحجارة لم يُمْكِن أن يُستَعمل في الآلات والأبواب والأواني والأمتعة والأسِرَّة والتَّوابيت وما أشبهها. ومن بديع الحكمة في الخشب أنْ جُعِل يطفو على الماء، وذلك للحكمة البالغة؛ إذ لولا ذلك لمَا كانت هذه السُّفنُ تحملُ أمثال الجبال من الحُمولات والأمتعة، وتَمْخُرُ البحرَ مقبلةً ومدبرة، ولولا ذلك لما تهيَّأ للنَّاس هذه المرافقُ لحمل هذه التِّجارات العظيمة والأمتعة الكثيرة ونقلِها _________ (1) السَّدى: الخيوطُ التي تُمَدُّ طولًا في النسيج. واللُّحْمة: الخيوطُ التي تُمَدُّ عرضًا يُلْحَمُ بها السَّدى. «المعجم الوسيط» (سدا، لحم). (2) أي: جذوع النخل. وفي (ض): «ليشتد» وكذا ما بعده، للمفرد. (3) (ت): «تنقص». (ح، ن): «تنقصف». (4) القِنْوان: جمع قِنْو، وهو العِذْق بما فيه من الرطب. (5) (ت): «مر الرياح». (6) (ر، ض): «وليتهيأ للسقوف». وهي قراءة محتملة. (7) وهو ما لا جوف له. وفي (د، ق، ر، ض): «مستحصفا»، وهو المستحكِم.

(2/662)


من بلدٍ إلى بلد، بحيثُ لو نُقِلَت في البرِّ لعَظُمَت المؤنةُ في نقلها وتعذَّر على النَّاس كثيرٌ من مصالحهم. فصل (1) ثمَّ تأمَّل أحوال هذه العقاقير والأدوية التي يخرجُها اللهُ من الأرض، وما خَصَّ به كلَّ واحدٍ منها وجَعَل عليه من العمل والنَّفع: فهذا يَغُورُ في المفاصل فيستخرجُ الفُضولَ الغليظةَ القاتلةَ لو احتبسَت، وهذا يستخرجُ المِرَّةَ السَّوداء، وهذا يستخرجُ الصَّفراء، وهذا يحلِّلُ الأورام، وهذا يسكِّنُ الهيَجانَ والقَلق، وهذا يجلبُ النَّومَ ويعيدُه إذا أعوَزه الإنسان، وهذا يخفِّفُ البدنَ إذا وجد الثِّقَل، وهذا يُفْرِحُ القلبَ إذا تراكمَت (2) عليه الغُموم، وهذا يَجْلو البلغَم ويكشِطُه، وهذا يُحِدُّ البصر، وهذا يطيِّبُ النَّكهة، وهذا يسكِّنُ هيَجانَ الباه، وهذا يهيِّجُها، وهذا يبرِّدُ الحرارةَ ويطفئها، وهذا يقتلُ البرودةَ ويهيِّجُ الحرارة، وهذا يدفعُ ضررَ غيره من الأدوية والأغذية، وهذا يقاومُ بكيفيَّته كيفيَّةَ غيره، فيعتدلان، فيعتدلُ المزاجُ بتناولِهما، وهذا يسكِّنُ العطش، وهذا يصرفُ الرياح الغليظةَ ويَفُشُّها (3)، وهذا يعطي اللونَ إشراقًا ونضارة، وهذا يزيدُ في أجزاء البدن بالسَّمانة، وهذا يُنقِصُ منها، وهذا يَدْبُغ (4) المعدة، وهذا يَجْلوها ويغسلها، _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (24)، «توحيد المفضل» (106 - 107). (2) (ن، ح): «تراكب». (3) فَشَّ القِربةَ يَفُشُّها: حَلَّ وكاءَها فخرجَ ريحُها. «اللسان» (فشش). وفي (ن): «ويفتتها». (ق، د، ت): «ويهيها». وانظر: «زاد المعاد» (4/ 395). (4) أي: يقوِّيها، وينشِّف الرطوبة، ويحبس البطن. وفي (ت، ن): «يدفع». وانظر: «زاد المعاد» (4/ 285، 288، 306، 400).

(2/663)


إلى أضعاف أضعاف ذلك مما لا يحصيه العباد. فسَلِ المعطِّل: من جَعَل هذه المنافعَ والقُوى في هذه النَّباتات والحشائش والحبوب والعُروق؟! ومن أعطى كلًّا منها خاصيَّته؟! ومن هدى العباد ــ بل الحيوان ــ إلى تناول ما ينفعُ منه (1) وتَركِ ما يضرُّ؟! ومن فَطَّن لها النَّاسَ (2) والحيوانَ البهيم؟! وبأيِّ عقلٍ وتجربةٍ كان يُوقَفُ على ذلك ويُعْرَفُ ما خُلِقَ له ــ كما زعمَ من قلَّ نصيبُه من التَّوفيق ــ لولا إنعامُ الذي أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثمَّ هدى؟! وهَبْ أنَّ الإنسانَ فَطِنَ لهذه الأشياء بذهنه وتجاربه وفكره وقياسه، فمن الذي فَطَّن لها البهائمَ (3)، في أشياء كثيرةٍ منها لا يهتدي إليها الإنسان؟! حتى صار بعض السِّباع يتداوى من جراحه ببعض تلك العقاقير من النَّبات فيبرَأ (4)، فمن الذي جَعَله يقصدُ ذلك النَّباتَ دون غيره؟! وقد شُوهِد بعض الطير يحتقنُ عند الحُصْرِ بماء البحر، فيسهلُ عليه الخارج (5)، وبعض الطَّير يتناولُ إذا اعتلَّ شيئًا من النَّبات فتعودُ صحَّتُه (6). وقد ذكر الأطبَّاءُ في مباداء الطِّبِّ في كتبهم من هذا عجائب (7). _________ (1) (ت): «ينتفع منه». (2) (د، ق، ت): «ومن فطن لها من الناس». (3) (ت): «لهذه البهائم». (4) انظر: «شفاء العليل» (254). (5) انظر: «شفاء العليل» (251). (6) انظر: «الحيوان» (7/ 32). (7) انظر: «زاد المعاد» (4/ 11).

(2/664)


فسَل المعطِّل: من ألهمَها ذلك؟! ومن أرشدَها إليه؟! ومن دلَّها عليه؟! أفيجوزُ أن يكون هذا من غير مدبِّرٍ عزيزٍ حكيم، وتقديرِ عزيزٍ عليم، وتقديرِ لطيفٍ خبيرٍ بَهَرَت حكمتُه العقول، وشهدت له الفِطَر بما استودعها من تعريفه بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الخالقُ الباراء المصوِّر، الذي لا تنبغي العبادةُ إلا له، وأنه لو كان معه في سمواته وأرضه إلهٌ سواه لفسَدَت السَّمواتُ والأرضُ واختلَّ نظامُ المُلك؟! فسبحانه وتعالى عما يقولُ الظَّالمون والجاحدون عُلُوًّا كبيرًا. ولعلَّك أن تقول: ما حكمةُ هذا النَّبات المبثوث في الصَّحاري والقِفَار والجبال التي لا أنيسَ بها ولا ساكن؟! وتظنَّ أنه فَضْلةٌ لا حاجة إليه ولا فائدة في خلقه. وهذا مقدارُ عقلك ونهايةُ علمك؛ فكم لباريه وخالقه فيه من حكمةٍ وآية: مِنْ طُعْم وَحْشٍ وطيرٍ ودوابَّ مساكنُها حيثُ لا تراها تحت الأرض وفوقها، فذلك بمنزلة مائدةٍ نَصَبها الله لهذه الوحوش والطُّيور والدَّوابِّ تتناولُ منها كفايتَها، ويبقى الباقي كما يبقى الرِّزقُ الواسعُ الفاضلُ عن الضَّيف، لِسَعة ربِّ الطَّعام وغِناهُ التَّامِّ وكثرة إنعامه. فصل (1) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في إعطائه سبحانه بهيمةَ الأنعام الأسماعَ والأبصار؛ ليتمَّ تناولها لمصالحها ويَكْمُل انتفاعُ الإنسان بها؛ إذ لو كانت عُمْيًا وصُمًّا لم يتمكَّن من الانتفاع بها. ثمَّ سَلَبها العقولَ التي للإنسان (2) ليتمَّ تسخيرُه إياها، فيقودها _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (26)، «توحيد المفضل» (52، 55 - 56). (2) (ق): «العقول على كبر خلقها التي للإنسان». وضرب ابن بردس في (د) على «كبر خلقها». وفي (ط): «سلبها العقول التي للإنسان على كبر خلقها».

(2/665)


ويصرِّفها (1) حيثُ شاء، ولو أُعطِيَت العقولَ على كِبَر خَلْقِها لامتنعَت من طاعته واستعصَت عليه ولم تكُن مسخَّرةً له، فأُعطِيَت من التَّمييز والإدراك ما تَتِمُّ به مصلحتُها ومصلحةُ من ذُلِّلت له، وسُلِبَت من الذِّهن والعقل ما مُيِّز به عليها الإنسانُ، ولتَظْهَر أيضًا فضيلةُ التَّمييز والاختصاص. ثمَّ تأمَّل كيف قادها وذلَّلها على كِبَر أجسامها، ولم يكن يُطِيقُها (2) لولا تسخيرُ الله لها (3)؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 12 ــ 13]، أي: مُطِيقين ضابطين. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72]، فترى البعيرَ على عِظَم خِلْقَته يقودُه الصبيُّ الصغيرُ ذليلًا منقادًا، ولو أُرسِل عليه (4) لسوَّاهُ بالأرض ولفصَّله عضوًا عضوًا. فسَلِ المعطِّل: من الذي ذلَّله وسخَّره وقاده ــ على قوَّته ــ لبشرٍ ضعيفٍ من أضعف المخلوقات، وفرَّغ بذلك التسخير النَّوعَ الإنسانيَّ لمصالح معاشِه (5) _________ (1) (د، ق، ت): «وقودها وتصريفها». (2) (ق، د): «نكن نطيقها». (3) (د، ت، ق): «لولا تسخيره». (4) «عليه» ليست في (ق). (5) (ت): «لمصالحه ومعاشه».

(2/666)


ومعاده؟! فإنه لو كان يُزاوِلُ من الأعمال والأحمال ما يُزاوِلُ الحيوانُ لشُغِل بذلك عن كثيرٍ من الأعمال؛ لأنه كان يحتاجُ مكانَ الجمل الواحد إلى عدَّة أناسِيَّ (1) يحملون أثقالَه وحِمْلَه، ويعجزون عن ذلك، وكان ذلك يستفرغُ أوقاتهم ويصدُّهم عن مصالحهم؛ فأُعينوا بهذه الحيوانات، مع ما لهم فيها من المنافع التي لا يحصيها إلا الله: مِن الغذاء والشراب، والدَّواء، واللباس والأمتعة، والآلات والأواني، والرُّكوب والحَرْث، والمنافع الكثيرة، والجَمَال. فصل (2) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خَلْق آلات البطش في الحيوانات من الإنسان وغيره: فالإنسانُ لمَّا خُلِق مهيَّأً لمثل هذه الصِّناعات من البناء والخياطة والكتابة والنِّجارة (3) وغيرها خُلِق له كفٌّ مستديرةٌ منبسطةٌ وأصابعُ يتمكَّنُ بها من القبض والبسط والطيِّ والنَّشر والجمع والتفريق وضمِّ الشيء إلى مثله. والحيوانُ البهيمُ لمَّا لم يهيَّأ لتلك الصَّنائع لم يُخْلَق له تلك الأكفُّ والأصابع، بل لمَّا قُدِّر أن يكون غذاءُ بعضها من صَيْده ــ كالسِّباع ــ خُلِق لها أكفٌّ لِطافٌ مُدْمَجَةٌ ذواتُ بَراثِنَ ومخالبَ تصلحُ لاقتناص الصَّيد ولا تصلحُ للصِّناعات. _________ (1) (ت): «أناس». (2) «الدلائل والاعتبار» (26)، «توحيد المفضل» (53). (3) (د، ت، ن، ض): «والتجارة». والمثبت من (ق، ح، ر) و «البحار» (61/ 53)، وهو أشبه.

(2/667)


هذا كلُّه في آكِلَة اللَّحم (1) من الحيوان. وأمَّا آكِلةُ النَّباتِ فلمَّا قُدِّر أنها لا تصطادُ ولا صَنْعةَ لها خُلِق لبعضها أظلافٌ تَقِيها خُشونةَ الأرض إذا جالت في طلب المرعى، ولبعضها حوافرُ مُلملَمةٌ مقعَّرةٌ (2) كأخمَص القدم (3) لتنطبقَ على الأرض وتتهيَّأ للرُّكوب والحُمولة (4)، ولم يُخْلَق لها بَراثِنُ ولا أنيابٌ لأنَّ غذاءها لا يحتاجُ إلى ذلك. فصل (5) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خِلقة الحيوان الذي يأكلُ اللحمَ من البهائم؛ كيف جُعِل له أسنانٌ حِداد، وبراثنُ شِدَاد، وأشداقٌ مَهْرُوتة (6)، وأفواهٌ واسعة، وأُعِينت بأسلحةٍ وأدواتٍ تصلحُ للصَّيد والأكل؛ ولذلك تجدُ سباعَ الطَّير ذواتِ مناقيرَ حِدادٍ ومخالبَ كالكلاليب. ولهذا حرَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كلَّ ذي نابٍ من السِّباع ومِخْلبٍ من الطَّير (7)؛ _________ (1) (ت، ن): «أكلة اللحم». (د، ق): «اكله اللحم». (2) (ر، ض): «ذوات قعر». (3) وهو باطنُ القَدَم وما رَقَّ من أسفلها وتجافى عن الأرض فلا يلصقُ بها عند الوطء. «اللسان» (خمص). (4) (ض): «تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة». (5) «الدلائل والاعتبار» (27)، «توحيد المفضل» (53 - 54). (6) واسعة. والهَرَتُ: سَعَة الشِّدق. والشِّدق: جانب الفم. «اللسان» (هرت). وليست في (ر، ض). (7) أخرجه مسلم (1934) وغيره من حديث ابن عباس.

(2/668)


لضرره وعُدوانه (1) وشرِّه، والمُغتَذِي شبيهٌ بالغاذِي (2)، فلو اغتَذى بها الإنسانُ لصار فيه من أخلاقها وعُدوانها وشرِّها ما يشابهها به، فحرَّم على الأمَّة أكلَها. ولم يحرِّم عليهم الضَّبُعَ وإن كان ذا ناب؛ فإنه ليس من السِّباع عند أحدٍ من الأمم، والتحريمُ إنما كان لِمَا تضمَّن الوصفين: أن يكون ذا نابٍ، وأن يكون من السِّباع (3). ولا يقال: «فهذا ينتقضُ بالسَّبُع إذا لم يكن له ناب»؛ لأنَّ هذا لم يوجد أبدًا. فصلواتُ الله وسلامُه على من أُوتي جوامعَ الكَلِم، فأوضحَ الأحكامَ وبيَّن الحلال من الحرام. فانظُر حكمةَ الله عزَّ وجلَّ في خلقِه وأمرِه فيما خَلَقه وفيما شرَعَه تجدْ مصدرَ ذلك كلِّه الحكمةَ البالغةَ التي لا يختلُّ نظامُها ولا ينخرمُ (4) ولا يختلُّ أبدًا. ومن الناس من يكونُ حظُّه من مشاهدة حكمة الأمر أعظمَ من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤلاء خواصُّ العباد الذين عَقَلُوا عن الله أمرَه ودينَه، وعرفوا _________ (1) (ت): «وعداوته». (2) (د، ق، ت): «والمعتدي شبه بالعادي». وسيرد على الصواب (ص: 909). وانظر: «زاد المعاد» (5/ 746)، و «إعلام الموقعين» (2/ 15)، و «أيمان القرآن» (565)، و «مدارج السالكين» (1/ 403). (3) انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 134). (4) (ق، ت): «لا يخل نظامها». والفعل مهمل في (د).

(2/669)


حكمتَه فيما أحكَمه (1)، وشهدت فِطَنُهم وعقولهم أنَّ مَصدرَ ذلك حكمةٌ بالغةٌ وإحسانٌ تامٌّ ومصلحةٌ أُريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجاتٌ لا يحصيها إلا الله. ومنهم من يكونُ حظُّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفرَ من حظِّه من حكمة الأمر، وهم أكثرُ الأطبَّاء والطبائعيِّين الذين صرفوا أفكارَهم إلى استخراج منافع النَّبات والحيوان وقُوَاها وما تصلحُ له مفردةً ومركَّبة، وليس لهم نصيبٌ في حكمة الأمر إلا كما للفقهاء من حكمة الخَلْق، بل أقلُّ من ذلك. ومنهم من فُتِحَ عليه بمشاهدة حكمة الخلق والأمر (2) بحسب استعداده وقوَّته، فرأى الحكمةَ الباهرةَ التي بَهَرَت العقولَ في هذا وهذا، فإذا نظر إلى خَلْقه وما فيه من الحِكَم ازداد إيمانًا ومعرفةً وتصديقًا بما جاءت به الرُّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمَّنه من الحِكَم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا. لا كمن حُجِبَ بالصَّنعة عن الصَّانع، وبالكواكب عن مُكَوْكِبها؛ فعَمِيَ بصرُه، وغَلُظ عن الله حجابُه، ولو أعطى علمَه حقَّه لكان من أقوى النَّاس إيمانًا؛ لأنه اطَّلع من حكمة الله وباهر آياته (3) وعجائب صُنْعِه الدَّالَّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكنَّ من حكمة الله أيضًا أنْ سَلَبَ كثيرًا من عقول هؤلاء (4) خاصَّتَها (5)، وحَجَبَها عن معرفته، _________ (1) في الأصول: «أحله». والمثبت أشبه. (2) (ح، ن): «بمشاهدة الخلق والأمر». (3) (ن، ح): «وبراهينه». (4) (ت): «عقول كثير من هؤلاء». (5) (ح، ن): «خاصيتها». والخاصيَّة نسبة إلى الخاصَّة.

(2/670)


وأوقَفَها عند ظاهرٍ من العلم بالحياة الدُّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون؛ لدناءتها وخِسَّتها وحقارتها وعدم أهليَّتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه، والفضلُ بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وهذا بابٌ لا يطَّلعُ الخلقُ منه على ما له نسبةٌ إلى الخافي عنهم منه أبدًا، بل علمُ الأوَّلين والآخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بمُوجِبٍ للإعراض عنه واليأس منه، بل يستدلُّ العاقلُ بما ظهر له منه على (1) ما وراءه. فصل (2) ثمَّ تأمَّل أولاد (3) ذواتِ الأربع من الحيوان، كيف تراها تتبعُ أمَّهاتها مستقلَّةً بأنفُسها، فلا تحتاجُ إلى الحمل والتَّربية كما يحتاجُ إليه أولادُ الإنس، فمن أجلِ (4) أنه ليس عند أمَّهاتها ما عند أمَّهاتِ البَشَر من التَّربية والمُلاطفة والرِّفق والآلات المتَّصلة والمنفصلة (5) = أعطاها اللطيفُ الخبيرُ النُّهوض والاستقلالَ بأنفسها، على قُرب العهد بالولادة. _________ (1) (ن): «علم». (2) «الدلائل والاعتبار» (27)، «توحيد المفضل» (54 - 55). (3) (ح): «أولي». وفي باقي الأصول: «أولا»، وضبطت بالتنوين في (د). والمثبت أقوم. وانظر: «الحيوان» (2/ 333). وتأمل اللحاق. والعبارة في (ض): «انظر الآن إلى ذوات الأربع». وفي (ر): «انظر إلى أولاد ذوات الأربع». (4) (ق): «فمن أجل ذلك». (5) (ر): «الترفق والعلم والتربية والقوة عليها بالأكف والأصابع المهيأة لذلك».

(2/671)


ولذلك (1) ترى فِراخَ كثيرٍ من الطَّير ــ كالدَّجاج، والدُّرَّاج، والقَبَج (2) ــ يَدْرُجُ ويَلْقُطُ حين يخرجُ من البيضة (3). وما كان منها ضعيفَ النُّهوض ــ كفِراخ الحمَام واليَمَام ــ أعطى سبحانه أمَّهاتها من فضل العطف (4) والشَّفقة والحنان ما تَمُجُّ به الطُّعْمَ في أفواه الفِراخ من حَواصِلها؛ فتَخْبَؤه في أعزِّ مكانٍ منها، ثمَّ تَسُوقُه من فِيها إلى أفواه الفِراخ، ولا يزالُ بها كذلك (5) حتى ينهض الفرخُ ويستقلَّ بنفسه، وذلك كلُّه من حظِّها وقَسْمِها الذي وَصَلَ إليها من الرَّحمة الواحدة من المئة (6). فإذا استقلَّ بنفسه وأمْكَنه الطَّيرانُ لم يَزَل به الأبوان يعالجانه أتمَّ معالجةٍ وألطفَها حتى يطيرَ من وَكْرِه، ويسترزق لنفسه، ويأكل من حيثُ يأكلان، وكأنهما لم يعرفاهُ ولا عرفهما قطُّ (7)، بل يطردانه عن الوَكْر ولا يدعانه وأقواتَهما وبيتَهما، بل يقولان له بلسانٍ يَفْهَمُه: اتَّخِذ لك وَكْرًا وقُوتًا، فلا وَكْر لك عندنا ولا قُوت! فسَلِ المعطِّل: أهذا كلُّه عن إهمال؟! ومن الذي ألهمها ذلك؟! ومن الذي عَطَّفها على الفِراخ وهي صغارٌ أحوجَ ما كانت إليها، ثمَّ سَلَبَ ذلك _________ (1) (ح، ت، ن، ض): «وكذلك». (2) الدُّرَّاج: ضربٌ من الطير على خِلْقة القَطا إلا أنه ألطف. والقبج: الحَجَل. «اللسان». وسقط من (ح، ن): «والقبج». (3) (ر): «حين ينقات عنها البيض». (ض): «حين تنقاب عنها البيضة». (4) (ن، ح): «من فضله العطف». (5) (ت): «ولا يزال بها ذلك». (6) كما في حديث أبي هريرة عند البخاري (6000)، ومسلم (2752). (7) (ت): «لم يعرفانها ولا عرفاه قط».

(2/672)


عنها إذا استغنت الفراخ؛ رحمةً بالأمَّهات؛ لتسعى (1) في مصالحها، إذ لو دام لها ذلك لأضرَّ بها وشَغَلها عن معاشها، لا سيَّما مع كثرة ما يحتاجُ إليه أولادُها من الغذاء؛ فوضع فيها الرَّحمة والإيثار والحنان رحمةً بالفراخ، وسَلَبَها إياها عند استغنائها رحمةً بالأمَّهات؟! أفيجوزُ أن يكون هذا كلُّه بلا تدبيرِ مدبِّرٍ حكيم، ولا عنايةٍ ولا لُطفٍ منه سبحانه وتعالى؟! لقد قامت أدلَّةُ ربوبيَّته، وبراهينُ ألوهيَّته، وشواهدُ حكمته، وآياتُ قدرته، فلا يستطيعُ العقلُ لها جحودًا (2)، إنْ هي إلا مكابرةُ اللسان من كلِّ جَحُودٍ كفور؛ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وإنما يكونُ الشكُّ فيما تخفى أدلَّتُه وتُشْكِلُ براهينُه، فأما من له في كلِّ شيءٍ محسوسٍ أو معقولٍ آيةٌ بل آياتٌ مؤدِّيةٌ عنه (3)، شاهدةٌ له بأنه الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين؛ فكيف يكونُ فيه شكٌّ؟! فصل (4) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغة في قوائم الحيوان؛ كيف اقتضت أن تكون زوجًا لا فردًا، إمَّا اثنتين وإمَّا أربعًا؛ ليتهيَّأ له المشيُ والسَّعيُ، وتتمَّ بذلك مصلحتُه؛ إذ لو كانت فردًا (5) لم يصلُح لذلك؛ لأنَّ الماشي ينقلُ بعض _________ (1) (ق، ح، ت، د): «تسعى». (2) (ت): «بها جحودا». (3) (ح، ن): «عنها». (4) «الدلائل والاعتبار» (27 - 28)، «توحيد المفضل» (55). (5) (ح، ن): «لو كان ذلك فردا».

(2/673)


قوائمه (1) ويعتمدُ على بعض، فذو القائمتين ينقلُ واحدةً ويعتمدُ على الأخرى، وذو الأربع ينقلُ اثنتين ويعتمدُ على اثنتين، وذلك مِنْ خلافٍ؛ لأنه لو كان ينقلُ قائمتين من جانبٍ ويعتمدُ على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبُت على الأرض حال نقله قوائمَه، ولكان مشيُه نَقْزًا كنَقْز الطَّائر (2)، وذلك مما يؤذيه ويتعبُه؛ لثِقَل بدنه، بخلاف الطَّائر، ولهذا إذا مشى الإنسانُ كذلك قليلًا أجهَده وشَقَّ عليه، بخلاف مشيه الطبيعيِّ الذي هُيِّئ له (3). فاقتضت الحكمةُ تقديمَ نقل اليمنى من يديه مع اليسرى من رجليه، وإقرارَ يسرى اليدين ويمنى الرِّجلين، ثمَّ نَقْلَ الأخريَيْن (4) كذلك، وهذا أسهلُ ما يكونُ من المشي وأخفُّه على الحيوان. فصل (5) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغة في أن جَعَل ظهورَ الدَّوابِّ مسطَّحةً (6) كأنها سقفٌ على عَمَد القوائم؛ ليتهيَّأ ركوبها وتستقرَّ الحمولةُ عليها، ثمَّ خُولِفَ هذا في الإبل فجَعَل ظهورَها مسنَّمةً معقودةً كالقَبْو (7)؛ لِمَا خُصَّت به من فضل القوَّة وعِظَم ما تحملُه، والأقْباءُ تحملُ أكثر مما تحملُ السُّقوف، حتى _________ (1) (ح، ن): «ينتقل ببعض قوائمه». تحريف. (2) (ح، ق، ن، ت): «نقرا كنقر الطائر»، بالمهملة. وهو خطأ. (3) (ح): «عني له». (ن): «يعنى له». (4) (ت): «الأخيرتين». (5) «الدلائل والاعتبار» (29)، «توحيد المفضل» (58). (6) (ح): «متسطحة». (7) وهو الطاقُ المعقود بعضُه إلى بعض في شكل قوس. «المعجم الوسيط».

(2/674)


قيل: إنَّ عَقْدَ الأقباء إنما أُخِذ من ظهور الإبل. وتأمَّل كيف لمَّا طوَّل قوائمَ البعير طوَّل عنقَه؛ ليتناول المرعى من قيام، فلو قَصُرَت عنقُه لم يمكنه ذلك مع طول قوائمه، وليكون أيضًا طولُ عنقه موازِنًا (1) للحِمْل على ظهره إذا استقلَّ به، كما ترى طولَ قَصَبة القَبَّان (2)، حتى قيل: إنَّ القَبَّان إنما عُمِل على (3) خِلْقة الجَمَل من طول عنقه وثِقَل ما يحملُه، ولهذا تراه يَمُدُّ عنقَه إذا استقلَّ بالحِمْل كأنه يوازنُه موازنة. فصل (4) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في كون فَرْج الدَّابَّة جُعِل بارزًا من ورائها؛ ليتمكَّن الفحلُ من ضِرابها، ولو جُعِل في أسفل بطنها كما جُعِل للمرأة لم يتمكَّن الفحلُ من ضِرابها إلا على الوجه الذي تُجامَعُ به المرأة (5). وقد ذُكِر في كتب الحيوان أنَّ فرجَ الفِيلَة في أسفل بطنِها، فإذا كان وقتُ الضِّراب (6) ارتفعَ ونَشَزَ وبَرَز للفحل، فيتمكَّن من ضِرابها (7)، فلمَّا جُعِل في الفِيلَة على خلاف ما هو في سائر البهائم خُصَّت بهذه الخاصَّة (8) عنها _________ (1) (ن، ح): «موازيا». (2) وهو الميزان ذو الذراع الطويلة. كلمةٌ معرَّبة. «اللسان»، و «المعجم الوسيط». (3) (ق، ن، د): «من». (4) «الدلائل والاعتبار» (29)، «توحيد المفضل» (58، 59). (5) (ح، ن): «تجامع المرأة». (6) (ت): «فإذا كان في وقت الجماع في الضراب». (7) انظر: «حياة الحيوان» (3/ 430). (8) (ح، ت): «الخاصية».

(2/675)


ليتهيَّأ الأمرُ الذي به دوامُ النَّسل. فصل (1) ثمَّ تأمَّل كيف كُسِيَت أجسامُ الحيوان البهيميِّ هذه الكسوةَ من الشَّعر والوَبَر والصُّوف، وكُسِيَت الطُّيورُ الرِّيش، وكُسِيَ بعضُ الدَّاوبِّ من الجلد ما هو في غاية الصَّلابة والقوَّة، كالسُّلَحْفاة، وبعضُها من الرِّيش ما هو كالأسنَّة، كلُّ ذلك بحسب حاجتها إلى الوقاية من الحرِّ والبرد والعدوِّ الذي يريدُ أذاها. فإنها لما لم يكن لها سبيلٌ إلى اتِّخاذ الملابس واصطناع الكسوة وآلات الحرب، أُعِينَت بملابسَ وكسوةٍ لا تفارقُها، وآلاتٍ وأسلحةٍ تَدْفَعُ بها عن نفسها (2). وأُعِينَت بأظلافٍ وأخفافٍ وحوافرَ لمَّا عَدِمَت الأحذيةَ والنِّعال، فمعها حذاؤها وسِقاؤها، وخُصَّ الفرسُ والبغلُ والحمارُ بالحوافر لمَّا خُلِقَ للرَّكض والشَّدِّ والجري، وجُعِل لها ذلك أيضًا سلاحًا عند انتصافها من خصمها عِوَضًا من الصَّياصي (3) والمخالب والأنياب والبَراثِن. فتأمَّل هذا الُّلطفَ والحكمة، فإنها لما كانت بهائمَ خُرْسًا لا عقول لها، ولا أكفَّ ولا أصابعَ مهيَّأةً للانتفاع والدِّفاع، ولا حظَّ لها فيما يتصرَّفُ فيه الآدميُّون من النَّسج والغَزْل ولُطف الحيلة= جُعِلَت كسوتُها من خِلْقَتِها باقيةً _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (29 - 30)، «توحيد المفضل» (61 - 62). (2) (ح، ن): «تدفع عن نفسها». (3) وهي القُرون. كما تقدَّم.

(2/676)


عليها ما بَقِيَت لا تحتاجُ إلى الاستبدال بها، وأُعطِيَت آلةً وأسلحةً تحفظُ بها أنفسَها، كلُّ ذلك لتتمَّ الحكمةُ التي أُريدت بها (1) ومنها. وأمَّا الإنسانُ فإنه ذو حيلةٍ وكفٍّ مهيَّأةٍ للعمل؛ فهي تغزلُ وتنسجُ (2)، ويتَّخذُ لنفسه الكسوةَ ويستبدلُ بها حالًا بعد حال، وله في ذلك صلاحٌ من جهاتٍ عديدة (3): منها: أن يستريحَ إذا خَلَع كسوتَه إذا شاء ويلبسها إذا شاء، ليس كالمضطرِّ إلى حمل كسوة. ومنها: أنه يتَّخذُ لنفسه ضروبًا من الكسوة للصَّيف وضروبًا للشتاء؛ فإنَّ كسوة الصَّيف لا تليقُ بالشتاء وكسوةَ الشتاء لا تليقُ بالصَّيف، فيتَّخذُ لنفسه في كلِّ فصلٍ كسوةً تناسبُه (4). ومنها: أنه يجعلُها تابعةً لشهوته وإرادته. ومنها: أنه يتلذَّذُ بأنواع الملابس كما يتلذَّذُ بأنواع المَطاعِم، فجُعِلَت كسوتُه متنوِّعةً تابعةً لاختياره كما جُعِلَت مطاعمُه كذلك، فهو يكتسي ما شاء من أنواع الملابس المتَّخَذة من النبات (5) تارةً كالقُطن والكَتَّان، ومن _________ (1) (ق، ت، د): «لها». (2) (ض): «فهو يغزل وينسج». (3) أول تلك الجهات في (ر، ض): «من ذلك: أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما تخرجه إليه الكفاية». وقد وردت هذه الحكمة في مواضع وسياقات أخرى من كتاب «الدلائل»، ولا أدري لِمَ أسقطها ابن القيم من جميعها. (4) (ن، ح): «كسوة موافقة». (5) في الأصول: «الثياب». تحريف.

(2/677)


الحيوان تارةً كالوَبَر والصُّوف والشَّعَر، ومن الدُّود تارةً كالحرير والإبرِيسَم (1)، ومن المعادن تارةً كالذَّهب والفضَّة، فجُعِلَت كسوتُه متنوِّعةً لتتمَّ لذَّتُه وسرورُه وابتهاجُه وزينتُه بها (2). وكذلك (3) كانت كسوةُ أهل الجنَّة منفصلةً عنهم، كما هي في الدُّنيا، ليست مخلوقةً من أجسامهم كالحيوان، فدلَّ على أنَّ ذلك أكملُ وأجلُّ وأبلغُ في النِّعمة. ومنها: إرادةُ تمييزه عن الحيوان في ملبسه كما مُيِّز عنه في مطعمه ومسكنه وبيانه وعقله وفهمه. ومنها: اختلافُ الكسوة واللباس وتبايُنه بحسب تبايُن أحواله وصنائعه، وحربه وسِلْمه، وظَعْنه وإقامته، وصحَّته ومرضه، ونومه ويقظته، ورفاهيَّته (4)، فلكلِّ حالٍ من هذه الأحوالِ لباسٌ وكسوةٌ تخصُّها لا تليقُ إلا بها، فلم يجعل كسوتَه في هذه الأحوال كلِّها واحدةً لا سبيل إلى الاستبدال بها؛ فهذا من تكريمه وتفضيله على سائر الحيوان. فصل (5) ثمَّ تأمَّل خَلَّةً (6) عجيبةً جُعِلَت للبهائم والوحوش والسباع والدَّوابِّ، _________ (1) وهو أحسن الحرير. معرَّبة. (2) (ن): «بهذا». وسقطت من (ت). (3) (د، ق، ن): «ولذلك». (4) (ت): «ورفاهته». (5) «الدلائل والاعتبار» (30)، «توحيد المفضل» (62 - 63). (6) (ح، ن): «حكمة». (ر، ض): «خلقة»، خطأ.

(2/678)


على كثرتها، لا يُرى منها شيءٌ (1)، وليست شيئًا قليلًا فتخفى لقلَّتها، بل قد قيل: إنها أكثرُ من النَّاس. واعتَبِر ذلك بما تراه في هذه الصَّحاري من أسراب الظِّباء والبقر والوُعول، والذِّئاب والنُّمور، وضُروب الهوامِّ على اختلافها، وسائر دوابِّ الأرض، وأنواع الطُّيور، التي هي أضعافُ أضعاف بني آدم؛ لا تكادُ ترى منها شيئًا ميتًا، لا في كِناسِه (2)، ولا في أوكاره، ولا في مَسَاقِطه ومَراعِيه وطُرقه ومَوارده ومَناهِله ومَعاقِله ومَعاصِمه؛ إلا ما عدا عليه عادٍ؛ إمَّا افتَرسه سَبُعٌ أو رماه صائدٌ أو عدا عليه عادٍ أشغلَه وأشغلَ بني جنسه عن إحراز جسمه وإخفاء جيفته. فدلَّ ذلك على أنها إذا أحسَّت بالموت، ولم تُغْلَب على أنفُسها، كَمَنَت (3) حيثُ لا يوصَلُ إلى أجسامها، وقَبَرت جِيفَها قبل نزول البَيْن بها، ولولا ذلك لامتلأت الصَّحاري بجِيَفها وأفسدت الهواءَ بروائحها، فعاد ضررُ ذلك بالنَّاس، وكان سبيلًا إلى وقوع الوباء. وقد دلَّ على هذا قولُه تعالى في قصَّة ابنَي آدم: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]. وأما ما جُعِل عَيشُه بين النَّاس، كالأنعام والدَّوابِّ؛ فلقُدرة الإنسان على _________ (1) أي: ميتًا، إلا في أحوالٍ قليلة، كما سيأتي. وفي السياق هاهنا اختصارٌ مخل، والنص في (ر، ض): « ... فإنها تواري أنفسها كما يواري الناسُ موتاهم، وإلا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء؟! ... ». (2) وهو الموضعُ الذي يأوي إليه الظبيُ؛ ليستكنَّ به ويستتر. «اللسان» (كنس). (3) (ن، ح): «مكثت». (ض): «كمنوا».

(2/679)


نقله، واحتياله في دفع أذيَّته، مُنِع مما جُعِل في الوحوش كالسِّباع. فتأمَّل هذا الذي حارَ بنو آدم فيه وفيما يفعلون به؛ كيف جُعِل طبعًا في البهائم، وكيف تعلَّموه من الطَّير! وتأمَّل الحكمة في إرسال الله تعالى لابن آدم الغرابَ المُؤْذِن اسمُه بغُربة القاتل من أخيه، وغربته هو من رحمة الله تعالى، وغربته بين أبيه وأهل بيته (1)، واستيحاشه منهم واستيحاشهم منه. وهو من الطُّيور التي تنفرُ منها الإنسُ ومن نعيقها وتستوحشُ بها، فأرسل اللهُ إليه مثل هذا الطَّائر حتى صار كالمعلِّم له والأستاذ، وصار بمنزلة المتعلِّم والمستدِلِّ. ولا تُنكِر حكمةَ هذا الباب وارتباط المسمَّيات فيه بأسمائها، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بعثتم إليَّ بَرِيدًا فابعثوه حَسَن الاسم حَسَن الوجه» (2)، وكان يَسألُ عن اسم الأرض إذا نزلها (3)، واسم الرسول إذا جاء إليه (4)، ولما _________ (1) (ح، ن): «من أبيه وأهله». (2) روي من طرقٍ واهية. وأقوى ما في الباب حديث بريدة عند البزار (4383) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. وظاهرُ إسناده الحُسْن لو صحَّ سماع قتادة من ابن بريدة، وفيه نظر، ولعلَّ البلاء فيه من معاذ بن هشام؛ فإن له أوهامًا، والحديث محفوظٌ عن هشامٍ بلفظٍ آخر أشبه من رواية معاذ، وهو الآتي تخريجه بعد هذا. وانظر: «علل ابن أبي حاتم» (2/ 329)، و «الموضوعات» (332)، و «اللآلي المصنوعة» (1/ 112)، و «السلسلة الصحيحة» (1186). (3) جزءٌ من حديثٍ أخرجه أحمد (5/ 347)، وأبو داود (3920)، والنسائي في «الكبرى» (8771)، وغيرهم عن بريدة. وصححه ابن حبان (5827). وحسنه ابن حجر في «الفتح» (10/ 215). (4) كما سأل بريدةَ عن اسمه حين جاءه في سبعين من أهل بيته في طريق هجرته. وفي إسناده ضعفٌ شديد. وسيأتي تخريجه (ص: 1526).

(2/680)


جاءهم سُهيلُ بن عمرو يوم الحديبية قال: «قد سَهُل لكم من أمركم» (1)، ولما أراد تغييرَ اسم حَزْنٍ بسَهْل (2)، قال (3): «لم يَزَل معنى اسمه فيه وفي ذريَّته»، ولما سأل عمرُ بن الخطَّاب الرجلَ عن اسمه واسم أبيه وداره ومنزله فأخبَره أنه جمرةُ بن شهاب، وأنَّ داره بالحَرَّة (4)، وأنَّ مسكنَه منها ذاتُ لظى، قال له: «أدرِكْ بيتَك فقد احتَرق»؛ فكان كما قال (5). وشواهدُ هذا الباب أكثرُ من أن تُذْكَر هاهنا، وهو بابٌ لطيفُ المنزع، شديدُ المناسبة بين الأسماء والمسمَّيات (6). وكثيرًا ما أُولِعَ النَّاسُ قديمًا وحديثًا بنَعِيق الغراب، واستدلالهم به على البَيْن والاغتراب (7)، وينسبونها إلى الشُّؤم، ويَنْفِرون منها وتَنْفِر منهم؛ فكان _________ (1) أخرجه البخاري (2731) مرسلًا ضمن حديث صلح الحديبية الطويل. وقال ابن حجر في «الفتح» (5/ 342): «وهو مرسل، ولم أقف على من وصله بذكر ابن عباسٍ فيه، لكن له شاهد موصول ... ». (2) فأبى حَزْنٌ، وقال: «لا أغيِّر اسمًا سمَّانيه أبي». كما في الحديث. (3) أي: سعيد بن المسيب بن حَزْن. والحديث في البخاري (6910) بلفظ: «فما زالت الحُزونةُ فينا بعد». (4) في الأصول: «بالحرقة». تحريف. وسيأتي الخبر (ص 1492). (5) أخرجه مالك في «الموطأ» (2790) بإسنادٍ منقطع. وأخرجه معمر في «الجامع» (11/ 43) من وجهٍ آخر، وفيه راوٍ لم يسمَّ. وروي من وجوه أخرى. انظر: «الإصابة» (1/ 539). وانظر تعليق ابن عبد البر على الأثر في «الاستذكار» (27/ 236). (6) انظر: «زاد المعاد» (2/ 236 - 240)، و «تحفة المودود» (55، 122). (7) انظر: «الحيوان» (2/ 315، 3/ 431 - 443)، و «ثمار القلوب» (2/ 671)، و «الجليس والأنيس» (2/ 139)، وغيرها.

(2/681)


جديرًا أن يُرسَل هذا الطَّائرُ إلى القاتل من ابنَيْ آدم دون غيره من الطُّيور، فكأنه صورةُ طائره الذي أُلزِمَه في عنقه، وطار عنه من عمله. ولا تظُنَّ أنَّ إرسال الغُراب وقع اتفاقًا خاليًا من الحكمة؛ فإنك إذا خَفِيَ عليك وجهُ الحكمة فلا تُنكِرْها، واعلم أنَّ خفاءها من لُطفها وشرفها، ولله تعالى فيما يُخْفِي وجهَ الحكمة فيه على البشر الحِكَمُ الباهرةُ (1) المتضمِّنةُ للغايات المحمودة. فصل (2) ثمَّ تأمَّل الحكمةَ الباهرةَ في وجه الدَّابَّة كيف هو؛ فإنك ترى العينين فيه شاخصتَيْن أمامها لتبصرَ ما بين يديها أتمَّ من بصر غيرها؛ لأنها تحرسُ نفسَها وراكبَها فتتَّقي أن تَصْدِم حائطًا أو تتردَّى في حُفرة، فجُعِلت عيناها كعينَيْ المنتصِب القامة لأنها طليعتُه، وجُعِل فُوها مشقوقًا (3) في أسفل الخَطْم (4) لتتمكَّن من العضِّ والقبض على العَلَف؛ إذ لو كان فُوها في مقدَّم الخَطْم كمكانه (5) من الإنسان في مقدَّم الذَّقن لما استطاعت أن تتناول به شيئًا من الأرض. ألا ترى الإنسانَ لا يتناولُ الطَّعام بفِيه لكن بيده، فلمَّا لم تكن الدَّابَّةُ _________ (1) (ت): «الحكمة البالغة الباهرة». (2) «الدلائل والاعتبار» (31)، «توحيد المفضل» (57 - 58). (3) (ح، ن): «مستوفيا». (4) الخَطْم: الأنف، أو مقدَّمه. «المعجم الوسيط» (خطم). (5) (ح، ن): «كما انه».

(2/682)


ممَّن (1) تتناولُ طعامها بيدها (2) جُعِل خَطْمُها مشقوقًا من أسفله لتضعَه (3) على العَلَف ثمَّ تَقْضِمَه، وأُعِينَت بالجَحْفَلة ــ وهي لها كالشَّفَة للإنسان ــ لِتَقُمَّ (4) بها ما قَرُبَ منها وما بَعُد. وقد أشكلَت منفعةُ الذَّنَب على بعض النَّاس ولم يهتدِ إليها. وفيها منافعُ عديدة: فمنها: أنه بمنزلة الطَّبَق على الدُّبر والغطاء على حَيَاها (5)، يواريهما ويسترُهما. ومنها: أنَّ ما بين الدُّبر ومَرَاقِّ البطن من الدَّابَّة له وَضَرٌ (6) يجتمعُ عليه الذُّبابُ والبعوض، فيؤذي الدَّابَّة، فجُعِل أذنابُها كالمَذَابِّ لها والمراوح تطردُ به ذلك. ومنها: أنَّ الدَّابَّة تستريحُ إلى تحريكه وتصريفه يمنةً ويسرة؛ فإنه لما كان قيامُها على الأربع بكلِّ جسمها (7)، وشُغِلَت قدماها بحَمْل البدن عن التصرُّف والتقلُّب، كان لها في تحريك الذَّنَب راحةٌ ونَشْرَة (8). _________ (1) (ت، د): «مما». (2) (ح، ن): «فلما لم تكن الدابة لا تتناول بيدها». (3) (ض): «لتقبض». (4) أي: تتناول. وفي (ق، ن): «لتتقم». (ت): «لتقمم». (ر): «لتقمقم». (5) الحَيَا والحياء: الفَرْجُ من ذوات الخُفِّ والظِّلف. «اللسان». (6) وهو الوسَخ. (7) (ر، ض): «بأسرها». (8) مهملة في (د). (ر): «مسرة». وليست في (ح، ن، ض). وفي «اللسان» (نشر): «النَّشرةُ والنسيمُ الذي يحيي الحيوانَ إذا طال عليه الخُمُوم والعفنُ والرُّطوبات ... ».

(2/683)


وعسى أن يكون فيه حِكَمٌ أُخر تقصُر عنها أفهامُ الخلق أو يزدريها السَّامعُ إذا عُرِضت عليه؛ فإنه لا يعرفُ موقعَها إلا في وقت الحاجة، فمن ذلك أنَّ الدَّابَّةَ ترتَطِمُ (1) في الوَحَل فلا يكونُ شيءٌ أعونَ على رفعها من الأخذ بذنَبها. فصل (2) ثمَّ تأمَّل مِشْفَر الفيل وما فيه من الحِكَم الباهرة، فإنه يقومُ له مقام اليد في تناول العلَف والماء وإيرادهما (3) إلى جوفه، ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئًا من الأشياء من الأرض؛ لأنه ليست له عنقٌ يمدُّها (4) كسائر الأنعام، فلمَّا عدم العنقَ أُخلِفَ عليه مكانه الخرطومُ الطَّويلُ ليَسُدَّ مَسَدَّه، وجُعِل قادرًا على سَدْله ورفعه وثَنْيه والتصرُّف به كيف شاء، وجُعِل وعاءً أجوفَ ليِّن الملمس، فهو يتناولُ به حاجتَه ويحمِّلُه ما أراد إلى جوفه، ويحبسُ منه (5) ما يريد، ويكيدُ به إذا شاء، ويعطي ويتناولُ إذا أراد. فسَلِ المعطِّل: من الذي عوَّضه وأخلَف عليه مكان العضو الذي مُنِعَه ما يقومُ له مقامه وينوبُ منابه غيرُ الرَّؤوف الرَّحيم بخلقه، المتكفِّل بمصالحهم، اللطيف بهم؟! وكيف يتأتَّى ذلك مع الإهمال وخلوِّ العالَم عن قيِّمه وبارئه ومبدعه وفاطره لا إله إلا هو العزيزُ الحكيم؟! _________ (1) تتردَّى. وفي (ن): «تربض». (ح): «تورط». والمثبت من (د، ق، ت، ر، ض). (2) «الدلائل والاعتبار» (31 - 32)، «توحيد المفضل» (58 - 59). (3) (ض): «وازدرادهما». (4) (ن، ح): «يمد بها». (5) (ن، ح): «فيه».

(2/684)


فإن قلت: فما بالُه لم يُخْلَق ذا عُنقٍ كسائر الأنعام؟ وما الحكمةُ في ذلك؟ قيل: ذلك ــ والله أعلمُ بحكمته في مصنوعاته ــ لأنَّ رأسَه وأذنيه أمرٌ هائلٌ عظيم، وحملٌ ثقيل (1)، فلو كان ذا عُنقٍ كسائر الأعناق لانهدَّت رقبتُه بثقله (2)، ووَهَنت بحمله؛ فجُعِل رأسُه مُلْصَقًا بجسمه لئلَّا يناله منه شيءٌ من الثِّقَل والمؤنة، وخُلِق له مكان العُنق هذا المِشْفرُ الطَّويل يتناولُ به غذاءه. ولما طالت عنقُ البعير للحكمة في ذلك صَغُر رأسُه بالنسبة إلى عِظَم جثَّته؛ لئلَّا يؤذيه (3) ثِقَلُه ويُوهِن عنقَه. فسبحان من فاتت أدلَّةُ حكمته (4) عدَّ العادِّين وحصرَ الحاصرين. فصل (5) ثمَّ تأمَّل خَلْق الزَّرافة واختلافَ أعضائها وشبهَها بأعضاء جميع الحيوان؛ فرأسُها رأسُ فَرَس (6)، وعنقُها عنقُ بعير، وأظلافُها أظلافُ بقرة، وجلدُها جلدُ نَمِر، حتى زعم بعضُ النَّاس أنَّ لقاحَها من فحولٍ شتَّى. _________ (1) (ح، ن): «أمر هائل ثقيل». (ر، ض): «أمر عظيم وثقل ثقيل». (2) (ت): «لثقله». (3) (ق): «يوده». لعلها: يؤوده. (4) (ق، د، ت): «فاتت حكمته». (5) «الدلائل والاعتبار» (32 - 33)، «توحيد المفضل» (59 ــ 60). (6) «الحيوان» (7/ 242): «وللزرافة خَطْم الجمل»، وفي «حياة الحيوان» (2/ 481): «رأسها كرأس الإبل».

(2/685)


وذكروا أنَّ أصنافها من حيوان البرِّ إذا وَرَدَت الماءَ ينزو بعضُها على بعض، فتنزو المستوحشةُ على السَّائمة؛ فتُنتِجُ مثل هذا الشخص الذي هو كالمُلْتقَط من أناسٍ شتَّى (1). وما أرى هذا القائل إلا كاذبًا عليها وعلى الخِلْقة (2)؛ إذ ليس في الحيوان صنفٌ يَلْقَحُ صنفًا آخر، فلا الجملُ يلقحُ البقر، ولا الثَّورُ يلقحُ النَّاقة، ولا الفرسُ يلقحُها ولا يلقحانه، ولا الوحوشُ يلقحُ بعضُها بعضًا، ولا الطُّيور، وإنما يقعُ هذا نادرًا فيما يتقارب، كالبقر الوحشيِّ والأهليِّ، والضَّأن (3) والمَعْز، والفَرس والحمار، والذِّئب والضَّبُع؛ فيتولَّدُ من ذلك: البغلُ، والسِّمْع، والعِسْبار (4). وقولُ الفقهاء: «هل تجبُ الزَّكاةُ في المتولِّد من الوحشيِّ والأهليِّ؟ فيه وجهان» (5)؛ هذا إنما يُتَصوَّرُ في واحدٍ أو اثنين أو ثلاثةٍ يَكْمُلُ بها النِّصاب، فأمَّا نصابٌ كلُّه متولِّدٌ (6) من الوحشيِّ والأهليِّ فلا وجود لذلك. _________ (1) انظر: «الحيوان» (1/ 142، 151، 7/ 241 ــ 243)، و «مروج الذهب» (2/ 111)، و «وفيات الأعيان» (4/ 400)، و «عجائب المخلوقات» (248)، و «حياة الحيوان» (2/ 481). (2) وكذَّب الجاحظُ ذلك أيضًا. (3) (د): «والضبع». وفي الطرَّة: «لعلها: والضأن». (4) السِّمْع: ولد الذئب من الضبع. والعِسْبار: ولد الضبع من الذئب. والبغل: متولِّد من الفرس والحمار، وانظر: كتاب «البغال» للجاحظ (2/ 298 ــ رسائله). (5) انظر: «المغني» (4/ 35). (6) في الأصول: «كل متولد». وهو تحريف.

(2/686)


والأحكامُ المتعلقةُ بهذه المتولِّدات تُذْكَرُ في الزَّكاة وجزاء الصَّيد والأضاحي والأطعمة (1)، فيغلَّبُ في كلِّ بابٍ الأحوط (2)؛ ففي الأضاحي يغلَّبُ عدمُ الإجزاء، وفي الإحرام والحَرَم يغلَّبُ وجوبُ الجزاء، وفي الأطعمة يغلَّبُ جانبُ التحريم، وفي الزَّكاة اختلافٌ مشهور (3). وسئل شيخنا أبو العبَّاس ابنُ تيميَّة ــ قدَّس الله روحه ــ عن حمارٍ نَزَا على فَرسٍ فأحبَلها، فهل يكونُ لبنُ الفَرس حلالًا أو حرامًا؟ فأجاب بأنه حلال (4)، ولا حكمَ للفحل في اللَّبن في هذا الموضع، بخلاف الأناسيِّ؛ لأنَّ لبنَ الفَرس حادثٌ من العلَف فهو تابعٌ لِلَحْمِها، ولم يَسْرِ وطءُ الفحل إلى هذا اللبن؛ فإنه لا حُرمة هناك تنتشر، بخلاف لبن الفحل في الأناسيِّ فإنه تنتشرُ به حُرمةُ الرَّضاع، ولا حُرمة هاهنا (5) تنتشرُ من جهة الفحل إلا إلى الولد خاصَّة؛ فإنه يتكوَّنُ منه ومن الأمِّ، فغُلِّب عليه التحريم، وأمَّا اللبنُ فلم يتكوَّن بوطئه وإنما تكوَّن (6) من العلَف، فلم يكن حرامًا. _________ (1) في الأصول: «والأحوط». وهو خطأ، بدلالة اللحاق، وواقع مدونات الفقه. (2) العبارة مضطربة في (ح، ن). (3) انظر: «المغني» (5/ 399، 13/ 319، 368). (4) أي: من هذه الجهة. وذلك ما لم يُسْكِر. أما المسكر منه ــ وهو شرابٌ مشهورٌ في عهد المماليك، يسمى: القِمِزُّ، انظر: «رحلة ابن بطوطة» (1/ 220)، و «نهاية الأرب» (27/ 231) ــ فحرام. انظر: «جامع المسائل» (4/ 344)، و «مجموع الفتاوى» (34/ 193)، و «الأشربة» لابن قتيبة (129). (5) (ح، ن): «هناك». (6) (ح، ت، ن): «يكون».

(2/687)


هذا بسطُ كلامه وتقريرُه. والمقصودُ إبطالُ زعم (1) أنَّ هذه الحيوانات المختلفة يلقحُ بعضُها بعضًا عند الموارد، فتتكوَّنُ الزَّرافة، وأنه كاذبٌ عليها وعلى الإبداع. والذي يدلُّ على كذبه أنه ليس الخارجُ من بين ما ذكرنا من الفَرس والحمار، والذِّئب والضَّبُع، والضَّأن والمَعْز، له عضوٌ من كلِّ واحدٍ من أبيه وأمِّه كما يكونُ للزَّرافة عضوٌ من الفَرس وعضوٌ من الجمل، بل يكونُ كالمتوسِّط بينهما الممتزج منهما، كما نشاهده في البغل؛ فإنك ترى رأسَه وأذنيه وكَفَلَه (2) وحوافره وسطًا بين أعضاء أبيه وأمِّه، مشتقَّةً منهما، حتى تجدَ شَحِيجَه (3) كالممتزج من صَهِيل الفَرس ونهيق الحمار. فهذا يدلُّ على أنَّ الزَّرافة ليست بنِتاج آباءٍ مختلفةٍ كما زعمَ هذا الزَّاعم، بل من خَلْقٍ عجيبٍ وصُنْعٍ بديعٍ من خَلْق الله الذي أبدعه آيةً ودلالةً على قدرته وحكمته التي لا يُعْجِزُها شيء؛ ليُرِيَ عبادَه أنه خالقُ أصناف الحيوان كلِّها كما شاء، وفي أيِّ صورةٍ شاء (4)، وفي أيِّ لونٍ شاء؛ فمنها: المتشابهُ الخِلْقة المتناسبُ الأعضاء، ومنها: المختلفُ التَّركيب والشكل والصُّورة. كما أرى عبادَه قدرتَه التَّامَّة في خلقه لنوع الإنسان على الأقسام الأربعة الدَّالَّة على أنه مخلوقٌ بقدرته ومشيئته تابعٌ لها: _________ (1) (ن): «من زعم». (2) (ض): «وكفله وذنبه». (3) الشَّحِيجُ والشُّحاج: صوتُ البغل. «اللسان» (شحج). (4) «وفي أي صورة شاء» ليست في (ح، ن).

(2/688)


* فمنه ما خُلِق من غير أبٍ ولا أمٍّ؛ وهو أبو النَّوع الإنساني. * ومنه ما خُلِق من ذكرٍ بلا أنثى؛ وهي أمُّهم التي خُلِقَت من ضِلَع آدم. * ومنه ما خُلِق من أنثى بلا ذكرٍ؛ وهو المسيحُ بن مريم. * ومنه ما خُلِق من ذكرٍ وأنثى؛ وهو سائرُ النَّوع الإنسانيِّ. ليُرِيَ عبادَه آياتِه، ويتعرَّف إليهم بآلائه وقدرته، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: «كُن»؛ فيكون. وأما طولُ عنُق الزَّرافة وما لها فيه من المصلحة؛ فلأنَّ منشأها ومَرْعاها ــ كما ذكر المعتنونَ (1) بمحالِّها ومساكنها ــ في غَيَاطِلَ (2) ذوات أشجارٍ (3) شاهقةٍ ذاهبةٍ طولًا؛ فأُعِينَت بطول العُنق لتتناول أطرافَ الشجر التي هناك وثمارَها. فهذا ما وصلت إليه معرفتُهم، وحكمةُ اللطيف الخبير فوق ذلك وأجلُّ منه. _________ (1) (ن): «المعنون». (ت): «المعينون». (ح): «المفتون». (2) جمع غيطل، وهو الشجر الكثير الملتف. «اللسان» (غطل). والمثبت من (ر، ض). وتحرفت في (ن، ح): «عناظل»، وفي (د، ت، ق): «عياطل»، وناقةٌ عيطل: طويلة العنق. وهضبةٌ عيطل: طويلة. «اللسان» (عطل). ولا علاقة لعلو المكان بما نحن بسبيله، إنما الشأن علو الأشجار. ونقل الجاحظ في «الحيوان» (7/ 242) أنها في أعالي بلاد النُّوبة. وانظر: «مروج الذهب» (2/ 111)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 531)، و «وصف أفريقيا» (2/ 258)، و «معجم البلدان» (بربرة)، و «آثار البلاد» (7، 12، 15). وفي «الموسوعة العربية الميسرة» (923): «تعيش في أفريقيا بالمناطق المكشوفة جنوبي الصحراء الكبرى». (3) (ح): «تحت أشجار». وفي طرتها إشارةٌ إلى أن في نسخة: «ذوات».

(2/689)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل هذه النَّملةَ الضعيفةَ وما أُعطِيَته من الفطنة والحيلة في جمع القُوت وادِّخاره وحِفْظه ودفع الآفة عنه؛ فإنك ترى في ذلك عِبَرًا وآيات. فترى جماعةَ النَّمل إذا أرادت إحراز القُوت خرجت من أسرابها طالبةً له، فإذا ظَفِرَت به أخذت طريقًا من أسرابها إليه وشَرَعت في نقله، فتراها رِفْقتين: رِفْقةً (2) حاملةً تحملُه إلى بيوتها سِرْبًا ذاهبًا، ورِفْقةً خارجةً من بيوتها إليه لا تخالطُ تلك في طريقها، بل هما كالخيطيْن، بمنزلة جماعة النَّاس الذَّاهبينَ في طريقٍ والجماعة الرَّاجعينَ من جانبهم في طريق. فإذا ثَقُل عليها حملُ الشيء من ذلك اجتمعت عليه جماعةٌ من النَّمل وتساعدَت على حمله، بمنزلة الخشبة والحجر الذي تتساعدُ الفئةُ من النَّاس عليه. فإذا كان الذي ظَفِرَ به منهنَّ واحدةً ساعدَها رِفقتُها عليه إلى بيتها وخلَّوا بينها وبينه، وإن كان الذي صادفه جماعةً منهنَّ تساعَدنَ عليه ثمَّ تقاسمنَه على باب البيت. ولقد أخبرني (3) بعض الصادقينَ (4) أنه شاهدَ منهنَّ يومًا عجبًا، قال: رأيتُ نملةً جاءت إلى شِقِّ جرادةٍ فزاولَتْهُ، فلم تُطِق رفعَه (5) من الأرض، _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (36)، «توحيد المفضل» (65 ــ 66). (2) الرفقة ــ بضم الراء وكسرها ــ: الجماعة المترافقون. «اللسان». (3) (ح، ق، ن): «أخبر». وفي «شفاء العليل» (239): «حدثني من أثق به». (4) (ن): «العارفين». (5) (ح، ن): «حمله».

(2/690)


فذهبَت غيرَ بعيد، ثمَّ جاءت معها بجماعةٍ من النَّمل. قال: فرفعتُ ذلك الشِّقَّ من الأرض، فلمَّا وصلَت النَّملةُ برِفْقتها إلى مكانه دارت حوله ودُرْنَ معها فلم يجدنَ شيئًا، فرجَعْن، فوضعتُه، ثمَّ جاءت فصادفَتْهُ فزاوَلَتْهُ فلم تُطِق رفعَه من الأرض، فذهبَت غيرَ بعيد، ثمَّ جاءت بهنَّ، فرفعتُه، فدُرْنَ حول مكانه فلم يجدنَ شيئًا، فذهبنَ، فوضعتُه، فعادت فجاءت بهنَّ، فرفعتُه، فدُرْنَ حول المكان، فلمَّا لم يجدنَ شيئًا تحلَّقنَ حلقةً وجعلنَ تلك النَّملةَ في وسطها ثمَّ تحامَلْنَ عليها فقطَّعنَها عضوًا عضوًا وأنا أنظُر!! (1). ومن عجيب الفطنة فيها (2): إذا نَقَلت الحَبَّ إلى مساكنها كسَّرته لئلَّا ينبُت، فإن كان مما ينبتُ الفلقتان منه كسَّرته أربعًا، فإذا أصابه ندًى أو بللٌ وخافت عليه الفسادَ أخرجَتْه للشمس ثمَّ تردُّه إلى بيوتها، ولهذا ترى في بعض الأحيان حَبًّا كثيرًا على أبواب مساكنها مكسَّرًا ثمَّ تعودُ عن قريبٍ فلا ترى منه واحدة. ومن فطنتها: أنها لا تتَّخذُ قريتَها (3) إلا على نَشْزٍ من الأرض (4)؛ لئلَّا يَفِيض عليها السَّيلُ فيُغْرِقَها، فلا ترى قرية نملٍ في بطن وادٍ ولكنْ في أعلاه وما ارتفع عن السَّيل منه. _________ (1) انظر: «الحيوان» (4/ 6، 7). وانظر تعليق ابن تيمية على القصة ــ وقد حكاها له المصنف ــ في «شفاء العليل» (240). (2) (ن، ح): «ومن عجيب أمرها الفطنة فيها». (3) (ر): «الزبية»، (ض): «زبيتها». والزُّبية: الرابية لا يعلوها الماء. (4) النَّشز ــ بإسكان الشين وفتحها ــ: المتن المرتفعُ من الأرض.

(2/691)


ويكفي من فطنتها ما قصَّ الله سبحانه (1) في كتابه من قولها لجماعة النَّمل ــ وقد رأت سليمان عليه الصَّلاةُ والسَّلام وجنودَه ــ: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]. فتكلَّمت بعشرة أنواعٍ من الخطاب في هذه النَّصيحة: النِّداء، والتَّنبيه، والتَّسمية، والأمر، والنَّص، والتَّحذير، والتَّخصيص، والتَّعميم (2)، والاعتذار. فاشتملت نصيحتُها مع الاختصار على هذه الأنواع العشرة (3). ولذلك أعجبَ سليمانَ قولُها، وتبسَّم ضاحكًا منه، وسأل الله أن يُوزِعَه شُكرَ نعمته عليه لمَّا سمعَ كلامها (4). ولا تُستبعَدُ هذه الفطنةُ من أمَّةٍ من الأمم تسبِّحُ بحمد ربها كما في «الصَّحيح» (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجَهازه (6) فأُخرِج، ثمَّ أحرقَ قريةَ النَّمل، فأوحى الله إليه: مِنْ أجل أنْ لدغتكَ نملةٌ أحرقتَ أمَّةً من الأمم تسبِّح!، فهلَّا نملةً واحدة؟!». _________ (1) (ح، ن): «ما نص الله عز وجل». (2) (ت): «والتفهيم» بدل «والتعميم». وكذا في (ق)، ثم أصلحت في طرتها. (د): «والتفهم»، وفي الطرة: «لعله: والتعميم». (3) والاختصار عاشر الأنواع. وانظر لهذه اللطيفة: «اجتماع الجيوش الإسلامية» (328)، و «شفاء العليل» (237)، و «المدهش» (210)، و «زاد المسير» (6/ 162). (4) (ح): «لما سمع من كلامها». (5) صحيح البخاري (3019)، ومسلم (2241) من حديث أبي هريرة. (6) أي: متاعه ورَحْله.

(2/692)


فصل (1) ومِنْ عجيب الفطنة في الحيوان: أنَّ الثَّعلبَ إذا أعوَزه الطَّعامُ ولم يجد صيدًا تَماوَتَ ونفخَ بطنَه حتى يحسبه الطَّيرُ ميتًا، فيقعُ عليه ليأكل منه، فيثبُ عليه الثَّعلبُ فيأخذه (2). ومِنْ عجيب الفطنة في هذه الذُّبابة الكبيرة التي تسمَّى: «أسد الذُّباب» (3)؛ فإنك تراها حين تحسُّ بالذُّباب قد وقعَ قريبًا منه يسكنُ مليًّا حتى كأنه مَوَاتٌ لا حَراك به (4)، فإذا رأى الذُّبابَ قد اطمأنَّ وغفلَ عنه دَبَّ دبيبًا رفيقًا (5) حتى يكون منه بحيثُ تنالُه وثبتُه (6)، ثمَّ يثبُ عليه فيأخذه. ومِنْ عجيب حِيَل العنكبوت أنه يَنْسِجُ تلك الشبكةَ شَرَكًا للصَّيد، ثمَّ يَكْمُنُ في جوفها، فإذا نَشِبَ فيها البَرْغَشُ (7) والذُّبابُ وثبَ عليه وامتصَّ _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (35)، «توحيد المفضل» (64 ــ 67). (2) انظر: «شفاء العليل» (254)، و «الحيوان» (2/ 289، 290، 6/ 312)، و «حياة الحيوان» (1/ 572). (3) (ر): «يسمى بالسريانية: أسد الذباب». ويقال له: «الليث»، وهو ضربٌ من العناكب. انظر: «الحيوان» (3/ 377، 5/ 412، 414)، و «اللسان» (ليث). ويسمى: «صائد الذباب»، و «خاطف الذباب». انظر: «ديوان المعاني» (1065)، و «معجم الحيوان» (108). (4) (ح، ن): «فيه». وسقطت من (ت). (5) (ض): «دقيقا». (6) (ر): «وثبة». (د، ق، ت): «يناله ويثبته». وسقطت الكلمة الثانية من (ح، ن). والمثبت من (ض)، وهو أشبه. (7) وهو البعوضُ يَلْسَعُ الناس. «التاج» (برغش). وفي (ر، ض): «الذباب».

(2/693)


دمَه؛ فهذا يحكي صيدَ الأشراك والشِّباك (1)، والأوَّل يحكي صيدَ الكلاب والفُهود. ولا تزدرِيَنَّ العبرةَ بالشيء الحقير من الذَّرَّة والنملة (2) والبعوض والعنكبوت؛ فإنَّ المعنى النفيسَ يُقتَبسُ من الشيء الحقير، والازدراءُ بذلك ميراثٌ من الذين استنكرت عقولهم ضربَ الله تعالى في كتابه المثلَ بالذُّباب والعنكبوت والكلب والحمار؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، فما أغزرَ الحِكَم وأكثرَها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرُها (3)! وكم مِنْ دلالةٍ فيها على الخالق وحكمته ولطفه ورحمته! فسَلِ المعطِّل: من ألهمَها هذه الحِيَل والتلطُّفَ في اقتناص صيدها الذي جُعِل قوتَها؟! (4) ومن جعل هذه الحِيَل فيها بدل ما سَلَبها من القوَّة والقدرة، فأغناها بما أعطاها (5) من الحيلة عما سَلَبها من القوَّة والقدرة سوى اللطيف الخبير؟! _________ (1) (ر، ض): «الأشراك والحبائل». (2) «والنملة» ليست في (ح، ن). (3) (ت، ح): «وتحقرها». (4) (ت): «فوقها». (ح، ن): «قوامها». (5) (ح، ن): «ما أعطاها».

(2/694)


فصل (1) ثمَّ تأمَّل جسمَ الطَّائر وخِلقَته؛ فإنه حين قُدِّر بأن يكون طائرًا في الجوِّ خُفِّفَ جسمُه، وأُدْمِجَ خَلقُه، واقتُصِرَ به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزِّبل على واحدٍ يجمعُهما جميعًا. ثمَّ خُلِقَ ذا جُؤْجُؤٍ (2) محدودٍ (3) ليسهُل عليه اختراقُ الهواء كيف توجَّه فيه، كما يُجْعَلُ صدرُ السَّفينة بهذه الهيئة ليشقَّ الماءَ بسرعةٍ ويَنْفُذ فيه، وجُعِلَت في جناحيه وذنبه رِيشاتٌ طِوالٌ مِتانٌ لينهض بها للطَّيران، وكُسِيَ جسمُه كلُّه الرِّيشَ ليتداخَله الهواءُ فيحمله. ولمَّا قُدِّر أن كان (4) طعامُه اللَّحمَ والحَبَّ، يبلعُه بلعًا بلا مضغ، نُقِصَ من خَلْق الأسنان، وخُلِق له مِنقارٌ صُلبٌ يتناولُ به طعامه، فلا يَنْسَحِجُ (5) مِنْ لَقْطِ الحبِّ ولا يَنْقَصِفُ من نهش اللحم (6). ولمَّا عَدِم الأسنانَ وصار يزدَرِدُ الحَبَّ صحيحًا واللَّحمَ غَرِيضًا (7) _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (37)، «توحيد المفضل» (67 - 68). (2) وهو الصَّدر. وقيل: عظامُه. وقيل: مجتَمعُ رؤوس عظامه. «اللسان» (جأجأ). (3) (ض): «محدد». (4) (ح، ض، ر): «يكون». وسقطت من (ن). (5) أي: يتقشَّر. «اللسان» (سحج). (6) (ق): «نهس اللحم». والنهس: أخذُ اللحم بمقدَّم الأسنان، والنهش: الأخذ بجميعها. وقيل فيهما غير ذلك. «اللسان» (نهش، نهس). (7) (ح، ت، ن): «عريضًا». والغريض من اللحم: الطَّري. «اللسان».

(2/695)


أُعِين بفضل حرارةٍ في الجوف تطحنُ الحَبَّ وتطبخُ اللَّحم، فاستغنى عن المضغ. والذي يدلُّك على قوَّة الحرارة التي أُعِين بها أنك ترى عَجَمَ الزَّبيب وأمثاله يخرجُ من بطن الإنسان صحيحًا، وينطحنُ (1) في جوف الطَّائر حتى لا يُرى له أثر. ثمَّ اقتضت الحكمةُ أن جُعِل يبيض بيضًا ولا يلدُ ولادةً؛ لئلَّا يثقُل عن (2) الطَّيران؛ فإنه لو كان مما يحملُ ويمكثُ حملُه في جوفه حتى يَستحكِمَ ويكمُل لأثقَله وعاقَه عن النُّهوض والطَّيران. وتأمَّل الحكمةَ في كون الطَّائر المُرسَل السَّابح (3) في الجوِّ يُلْهَمُ صبرَ نفسِه أسبوعًا أو أسبوعين باختياره، قاعدًا على بيضه، حاضنًا له، ويحتملُ مشقَّة الحبس، ثمَّ إذا خرجَ فِراخُه تحمَّل مشقَّة الكسب وجمع الحبِّ في حَوْصلته، ثمَّ يَزُقُّه فراخَه (4)، وليس بذي رويَّةٍ ولا فكرةٍ (5) في عاقبة أمره، ولا يؤمِّلُ في فِراخه ما يؤمِّلُ الإنسانُ في ولده من العون (6) والرِّفد وبقاء الذِّكر. _________ (1) (ح، ن): «وينطبخ». (2) (ت): «في». (3) (ض): «السائح». (4) زقَّ الطائرُ الفَرخَ: أطعمَه بفمه. (ر): «فيغذو به فراخه». وفي (ض): «ثم يقبل عليه فيزقه الريحَ؛ لتتسع حوصلته للغذاء، ثم يربيه ويغذيه بما يعيش به». (5) (ق): «تفكر». (ت): «يفكر». (6) (ر، ض): «العز».

(2/696)


فهذا مِنْ فعله يشهدُ بأنه معطوفٌ على فِراخه لعلَّةٍ لا يعلمُها هو ولا يفكِّرُ فيها مِنْ دوام النَّسل وبقائه. فصل (1) ثمَّ تأمَّل خِلْقَة البيضة وما فيها من المُحِّ الأصفر الخاثر والماء الأبيض الرقيق، فبعضُه ينشأ منه الفَرخ، وبعضه يغتذي منه (2) إلى أن يخرجَ من البيضة، وما في ذلك من الحكمة. فإنه لمَّا كان نشوءُ الفَرخ في تلك القشرة (3) المستحصِفة (4) التي لا نفاذَ فيها للواصِل (5) مِن خارج، جعَل معه في جوف البيضة (6) من الغذاء ما يكتفي به إلى خروجه. فصل (7) وتأمَّل الحكمةَ في حَوْصَلة الطَّائر (8) وما قُدِّرَت له؛ فإنَّ مسلك _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (38)، «توحيد المفضل» (69). (2) (ت، ح، ن): «يتغذى منه». (3) (ت، ح، ق): «البشرة». وأهملت في (د). (4) (د): «المتحفضة». (ن): «المحتفظة». (ق، ت): «المنخفضة». (ض): «المستحفظة». وكله تحريف. والمثبت من (ر). (5) (ح): «للأصل». (ن): «لأصل». (6) (ض): «التي لا مساغ لشيء إليها جعل معه في جوفها». (7) «الدلائل والاعتبار» (38)، «توحيد المفضل» (69). (8) وهي انتفاخٌ في المريء يُختَزنُ فيه الغذاء قبل وصوله إلى المعدة. «المعجم الوسيط».

(2/697)


الطَّعام (1) إلى القانِصة (2) ضيِّقٌ لا ينفُذ فيه الطَّعامُ إلا قليلًا، فلو كان الطَّائرُ لا يلتقطُ حبَّةً ثانيةً حتى تصل الأولى إلى جوفه لطال ذلك عليه، فمتى كان يستوفي طعامَه؟! وإنما يختلسُه اختلاسًا؛ لشدَّة الحذر، فجُعِلت له الحوصلةُ كالمِخلاة المعلَّقة أمامه ليُوعِيَ فيها ما ازدَردَ (3) من الطُّعم بسرعة، ثمَّ ينفُذ إلى القانِصة على مهَل. وفي الحوصلة أيضًا خصلةٌ أخرى؛ فإنَّ من الطَّير ما يحتاجُ إلى أن يَزُقَّ فراخَه (4)، فيكون ردُّه الطُّعمَ (5) مِنْ قُربٍ ليسهُل عليه. فصل (6) ثمَّ تأمَّل هذه الألوانَ والأصباغَ والوَشْيَ التي تراها في كثيرٍ من الطير، كالطاووس والدُّرَّاج وغيرهما، التي لو خُطَّت بدقيق الأقلام ووُشِيَت بالأيدي لم يكن هذا. فمِن أين في الطبيعة المجرَّدة هذا التشكيلُ والتخطيطُ والتلوينُ والصَّبغُ (7) العجيبُ البسيطُ والمركَّب، الذي لو اجتمعت الخليقةُ على أن _________ (1) (ح، ن): «فإن في مسلك الطعام». (2) وهي جزءٌ عضليٌّ من المعدة يتمُّ فيه طحنُ الغذاء. «المعجم الوسيط». وتحرفت في (ح، ن) إلى: «القابضة» في الموضعين. (3) (ض): «أدرك». (4) تقدَّم تفسير ذلك قريبًا. (5) (ح، ن): «رد الطعم». (ض): «رده للطعم». (6) «الدلائل والاعتبار» (39)، «توحيد المفضل» (70). (7) (ق): «والصنع».

(2/698)


يحاكوهُ لتعذَّر عليهم؟! فتأمَّل ريشَ الطاووس كيف هو، فإنك تراه كنَسْج الثَّوب الرفيع من خيوطٍ رِفاعٍ جدًّا (1)، قد أُلِّف بعضُها إلى بعضٍ كتأليف الخيط إلى الخيط، بل الشَّعرة إلى الشَّعرة، ثمَّ ترى النَّسجَ إذا مَدَدتَه ينفتحُ قليلًا قليلًا ولا ينشقُّ؛ ليتداخَله الهواءُ، فيُقِلُّ (2) الطَّائر إذا طار، فترى في وسط الرِّيشة عمودًا غليظًا متينًا (3) قد نُسِجَ عليه ذلك الثَّوبُ الذي (4) كهيئة الشَّعر ليُمْسِكه بصلابته؛ وهو القَصَبةُ التي تكونُ في وسط الرِّيشة، وهو مع ذلك أجوفُ؛ ليشتمل على الهواء، فيحمل الطَّائر. فأيُّ طبيعةٍ فيها هذه الحكمةُ والخبرةُ واللُّطف؟! ثمَّ لو كان ذلك في الطبيعة كما يقولون (5) لكانت من أدلِّ الدَّلائل وأعظم البراهين على قدرة مبدعها ومنشئها وعلمِه وحكمته، فإنه لم يكن لها ذلك من نفسها، بل إنما هو لها ممَّن خلقها وأبدعها. فما كذَّبه المعطِّل هو أحدُ البراهين والآيات التي (6) على مثلها يزدادُ إيمانُ المؤمنين. وهكذا آياتُ الله يضلُّ بها من يشاء ويهدي من يشاء. _________ (1) (ر، ض): «سلوك دقاق». وهي الخيوط. (2) (د، ت، ق): «فيقتل». (ح): «فيثقل». (ن): «فينتقل». والمثبت من (ر، ض)، وهو الصواب، وانظر آخر الفقرة. (3) (ت): «منبنيا». (ح، ن): «مبنيا». (4) (ح، ن): «التي». وسقطت من (ق). (5) (ق، ت): «تقولون». (6) «التي» ليست في (ق).

(2/699)


فصل (1) تأمَّل هذا الطَّائر الطَّويل السَّاقين، واعرِف المنفعةَ في طول ساقَيْه؛ فإنه يرعى أكثر مرعاهُ في ضَحْضاحٍ من الماء، فتراه يركزُ (2) على ساقَيه كأنه ربيئةٌ فوق مَرْقَب (3)، ويتأمَّلُ ما دبَّ في الماء؛ فإذا رأى شيئًا من حاجته خطا خطوًا رفيقًا حتى يتناوله، ولو كان قصيرَ القائمتين كان [حين] (4) يخطو نحو الصَّيد ليأخذَه يَصْفِقُ بطنُه الماءَ (5) فيثوِّرُه، ويَذْعَرُ الصَّيدُ منه فيَنْفِر (6)، فخُلِقَ له ذانِك العمودان ليدرك بهما حاجتَه ولا يَفْسُدَ عليه مطلبُه. وكلُّ طائرٍ فله نصيبٌ من طول السَّاقين والعُنق؛ ليمكنَه تناولُ الطُّعم (7) من الأرض، ولو طال ساقاه وقَصُرَت عنقُه لم يمكنه أن يتناول شيئًا من الأرض، وربَّما أعينَ مع طول عنقه (8) بطول المنقار ليزداد مطلبُه سهولةً عليه وإمكانًا. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (39)، «توحيد المفضل» (71)، «المدهش» (589). (2) (ح): «يتركز». (ن): «تركز». (3) (ح، ن): «كأنه دسة فوق مركب». والربيئة: الطليعة الذي يَرْقُبُ العدوَّ، ولا يكون إلا على جبلٍ أو شَرَفٍ ينظر منه. والمَرْقَب: الموضعُ المُشْرِف يرتفعُ عليه الرقيب. (4) زيادة يقتضيها السياق من (ر) و «المدهش» (589). وفي (ض): «وكان». (5) (ح): «لصق بطنه في الماء». (ق): «يصفق بطنه بالماء». (ن): «لصق بطنه بالماء». (د): «لصفق بطنه الماء». (ض): «يصيب بطنه الماء». (ر): «يشق بطنه الماء». وفي «المدهش»: «يضرب الماء ببطنه». (6) (ح): «فيقفز». (ض): «فيفرق عنه». (ر): «فيتفرق عنه». (7) «المدهش»: «تناول طعمه». (8) (ق، ح، ن): «مع عنقه».

(2/700)


ثمَّ تأمَّل هذه العصافيرَ كيف تطلُب أكلَها بالنَّهار كلِّه، فلا هي تفقدُه ولا هي تجدُه مجموعًا مُعَدًّا، بل تنالُه بالحركة والطلب في الجهات والنَّواحي، فسبحان الذي قدَّره ويسَّره، كيف لم يجعله مما يتعذَّرُ عليها إذا التمسَته، ولا مما يفُوتها إذا قعدَت عنه، وجعلها قادرةً عليه في كلِّ حينٍ وأوان، وبكلِّ أرضٍ ومكان، حتى من الجدران والأسطحة والسُّقوف، تنالُه بالهُوَينا من السَّعي، فلا يشاركُها فيه غيرُ بني جنسها من الطير. ولو كان ما تقتاتُ به يوجدُ مُعَدًّا مجموعًا كلُّه كانت الطيرُ تَشْرَكُها فيه وتغلبُها عليه (1). ولحكمة (2) أخرى بديعة؛ وذلك (3) أنها لو وجدَته مُعَدًّا مجموعًا لأكبَّت عليه بحرص الرَّغبة فلا تقلعُ (4) عنه وإن شبعَت حتى تَبْشَم وتهلك. وكذلك الناسُ لو جُعِل طعامُهم مُعَدًّا لهم بغير سعيٍ ولا تعبٍ لأخرجهم وُجدانُهم له كذلك (5) إلى الشَّره والبِطْنة والبَرَدة (6)، ولكثُر الفسادُ وعمَّت الفواحش، ولبغَوا في الأرض. فسبحان اللطيف الخبير الذي لم يخلق شيئًا سدًى ولا عبثًا. _________ (1) (ح، ن): «كانت يشركها فيه ويغلبها عليه». (2) (ت، ق، د): «وبحكمة». (ح، ن): «وحكمة». والمثبت أقوم. (3) (د، ق، ت): «وكذلك». (4) (ض): «تنقلع». (5) (ح، ن): «ولا تعب أدى ذلك». (6) مهملة في (ق). (ت، د): «والرده». وعلق ابن بردس في طرة (د): «لعلها: والبرده». وليست في (ح، ن). والبَرَدة: التُّخمة وثقل الطعام على المعدة. سمِّيت بذلك لأنها تبرد المعدة فلا تستمرئ الطعام. «النهاية» (برد).

(2/701)


وانظر في هذه الطير التي لا تخرجُ إلا بالليل، كالبُوم والهام والخفَّاش، فإنَّ أقواتها هيِّئت لها في الجوِّ، لا من الحَبِّ ولا من اللحم، بل من البعوض والفَراش وأشباههما مما تلتقطُه من الجوِّ، فتأخذُ منه بقَدْر حاجتها ثمَّ تأوي إلى بيوتها فلا تخرجُ إلى مثل ذلك الوقت من الليل. وذلك أنَّ هذه الضُّروبَ من البعوض والفَراش وأشباههما مبثوثةٌ في الجوِّ لا يكادُ يخلو منها موضعٌ منه. واعتبِرْ ذلك بأن تضعَ سراجًا بالليل في سطح أو عَرْصَة الدَّار (1)، فيجتمعُ عليه من هذا الضَّرب شيءٌ كثير. وهذا الضَّربُ من الفَراش ونحوها ناقصُ الفطنة، ضعيفُ الحيلة، ليس في الطَّير أضعفُ منه ولا أجهل، وفيما ترى مِنْ تهافُته (2) في النَّار وأنت تطرده عنها حتى يحرق نفسَه (3) دليلٌ على ذلك. فجعل معاشَ هذه الطُّيور التي تخرجُ بالليل من هذا الضَّرب، فتقتاتُ منه، فإذا أتى بالنهار انقطعَت إلى أوكارها؛ فالليلُ لها بمنزلة نهار غيرها من الطَّير، ونهارُها بمنزلة ليل غيرها، ومع ذلك فسَاق لها الذي تكفَّل بأرزاق الخلقِ رزقَها، وخلَقه لها في الجوِّ، ولم يَدَعها بلا رزقٍ مع ضعفها وعجزها. وهذه إحدى الحِكَم والفوائد في خَلْق هذه الفَراش والجنادِب والبعوض؛ فكم فيها من رزقٍ لأمَّةٍ تسبِّحُ بحمد ربها! ولولا ذلك لانتشرَت وكثُرت حتى أضرَّت بالنَّاس ومنعتهم القرار. _________ (1) وهي وسطُها. وقيل: كل بقعةٍ بين الدور واسعةٍ ليس فيها بناء. «اللسان». (2) (ت): «تساقطه». (3) (ن): «حتى يحترق ويحرق نفسه».

(2/702)


فانظُر إلى عجيب تقدير الله وتدبيره، كيف اضطرَّ العقولَ إلى أن شَهِدَت بربوبيَّته وقدرته وعلمه وحكمته، وأنَّ ذلك الذي تشاهدُه ليس باتِّفاقٍ ولا بإهمالٍ من سائر وجوه الأدلَّة التي لا تتمكَّنُ الفِطَر من جَحْدِها أصلًا. وإذ قد جرى الكلامُ إلى ذكر الخفَّاش؛ فهو من الحيوانات العجيبة الخِلقَة بين خِلقَة الطَّير وذوات الأربع، وهو إلى ذوات الأربع أقرب، فإنه ذو أذنين ناشزتَين (1) وأسنانٍ ووَبَر (2)، وهو يلدُ وِلادًا، ويُرضِع (3)، ويمشي على أربع، وكلُّ هذا صفةُ ذوات الأربع، وله جناحان يطيرُ بهما مع الطُّيور. ولما كان بصرُه يضعُف عن نور الشمس كان نهارُه كلَيْلِ غيره، فإذا غابت الشمسُ انتشر، ومِنْ ذلك سمِّي ضعيفُ البصر: أخفَش، والخَفَشُ ضعفُ البصر، ولما كان كذلك جُعِلَ قوتُه (4) من هذه الطُّيور الضِّعاف التي تطيرُ بالليل (5). وقد زعمَ بعض (6) من تكلَّم في الحيوان أنه ليس يَطْعَمُ شيئًا، وإنما غذاؤه من النَّسيم البارد فقط (7). _________ (1) في الأصول و (ر) وبعض نسخ (ض) بالراء المهملة. والمثبت أصوب. (2) (ح، ن): «ودبر». والمراد أنه ليس بذي ريشٍ كالطيور. انظر: «الحيوان» (3/ 527). (3) (ر، ض): «ويرضع ويبول». (4) في الأصول: «جعلت قوته». لعله سبق قلم في أصل المصنف. (5) (ح): «لا تطير إلا بالليل». (6) «بعض» ليست في (ح). (7) في طرة (د) علَّق أحد القراء بقوله: «قد شاهدته ليلًا وهو يأكل من ثمر النبق ويلقي النوى، ويأكل من ثمر التوت».

(2/703)


وهذا كذبٌ عليه وعلى الخِلْقة؛ لأنه يبُول، وقد تكلَّم الفقهاءُ في بوله: هل هو نجسٌ لأنه بولُ غيرِ مأكولٍ؟ أو نجسٌ معفوٌّ عن يسيره لمشقَّة التحرُّز منه؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. وبعضُ الفقهاء لا ينجِّسُ بولَه بحالٍ، وهذا أقيسُ الأقوال (1)؛ إذ لا نصَّ فيه، ولا يصحُّ قياسُه على الأبوال النَّجسة؛ لعدم الجامع المؤثِّر، ووضوح الفرق. وليس هذا موضع استيفاء الحجج في هذه المسألة من الجانبين (2). والمقصودُ أنه لو كان لا يأكلُ شيئًا لم يكن له أسنان، إذ لا معنى للأسنان في حقِّ من لا يأكلُ شيئًا، ولهذا لما عَدِم الطفلُ الرضيعُ الأكلَ لم يُعْط الأسنان، فلما كبر واحتاج إلى الغذاء أُعِينَ عليه بالأسنان التي تقطعُه والأضراس التي تطحنُه. وليس في الخليقة شيءٌ مهمل، ولا عن الحكمة بمعطَّل، ولا شيءٌ لا معنى له. وأمَّا الحِكَمُ والمنافعُ في خَلْق الخفَّاش، فقد ذكر منها الأطبَّاءُ في كتبهم ما انتهت إليه معرفتُهم (3)، حتى إنَّ بوله (4) يدخلُ في بعض الأكحال (5)، _________ (1) «الأقوال» ليست في (ت). (2) انظر: «روضة الطالبين» (1/ 280)، و «المحلى» (1/ 191)، و «المغني» (2/ 486)، و «البحر الرائق» (1/ 398)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 17). (3) انظر: «التذكرة» لداود (1/ 142)، و «المفردات» لابن البيطار (2/ 65)، و «حياة الحيوان» (2/ 232). (4) (ر، ض): «زبله». (5) (ض): «الأعمال».

(2/704)


فإذا كان هذا بوله الذي لا يخطرُ بالبال أنَّ فيه منفعةً البتة، فما الظَّنُّ بجُملته؟! ولقد أخبَر بعض من شُهِدَ (1) بصدقه أنه رأى دُخَّلًا (2) ــ وهو طائرٌ معروف ــ قد عَشَّش في شجرة، فنظر إلى حيَّةٍ عظيمةٍ قد أقبلت نحو عُشِّه فاتحةً فاها لتبتلعه، فبينما هو يضطربُ في حيلة النَّجاة منها إذ وَجَد حَسَكةً (3) في العُشِّ، فحملها فألقاها في فَم الحيَّة، فلم تزل تلتوي حتى ماتت (4). فصل (5) ثمَّ تأمَّل أحوال النَّحل وما فيها من العِبَر والآيات. _________ (1) (ق): «شهر». (2) (ق، د): «رخلا». (ن): «رخما». (ح): «رخا». (ت): «رجلا»!. وكل أولئك تحريف. والمثبت من (ر). وفي (ض)، و «بحار الأنوار» (3/ 108، 61/ 69): «ابن تمرة»، وهو طائر صغير. وفي «البصائر والذخائر»: «عصفورا». والدُّخَّل: طائر صغير مثل العصفور يأوي إلى الغِيران والشجر الملتف. «معجم الحيوان» (242، 243، 261). أما الرخُّ فطائرٌ أسطوريٌّ ضخم جدًّا، والرخمة تشبه النسر ولا تعشِّش في الأشجار بل تختار لبيضها أطراف الجبال الشاهقة وصدع الصخور، كما في «معجم الحيوان» (207، 259)؛ فلا يناسب ذكرهما ما ترومه القصة من بيان عظيم لطف الله في هبة الضعيف ما يحتال به للدفاع عن نفسه. (3) وهي شوكةٌ صلبةٌ معروفة. وفي طرة (ح): «لعله: خفاشًا»، ذهَب إلى أن السِّياق في بيان منافع وحِكَم خلق الخفاش، فلم يصب. (4) انظر: «البصائر والذخائر» (6/ 78). وفي «الحيوان» (7/ 23)، و «الإمتاع والمؤانسة» (2/ 104)، و «محاضرات الأدباء» (4/ 747) قصةٌ أخرى نحوها. (5) «الدلائل والاعتبار» (41)، «توحيد المفضل» (74)، ولم ينقل عنه شيئًا ذا بال.

(2/705)


فانظُر إليها وإلى اجتهادها (1) في صَنعة العسل وبنائها البيوتَ المسدَّسة التي هي من أتمِّ الأشكال وأحسنها استدارةً وأحكمها صنعًا، فإذا انضمَّ بعضُها إلى بعضٍ لم يكن بينها (2) فُرجةٌ ولا خَلَل، كلُّ هذا بغير مقياسٍ ولا آلةٍ ولا بِرْكار (3). وذلك مِنْ أثر صُنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها؛ كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69]. فتأمَّل كمال طاعتها وحُسْنَ ائتمارها (4) لأمر ربها تعالى، كيف (5) اتَّخذت بيوتها من هذه الأمكنة الثَّلاثة: في الجبال والشقفانات (6)، وفي الشَّجر، وفي بيوت الناس حيثُ يَعْرِشُون، أي: يبنون العُروش (7) وهي _________ (1) في الأصول: «اجسادها». والمثبت من (ط)، وهو أشبه. (2) (ق): «منها». (ح، ن): «في بيتها». (3) (ح، ن): «بيكار». وهي آلةٌ هندسيَّةٌ معروفة. انظر: «التاج» (دور)، و «قصد السبيل» (1/ 272)، و «المعجم الوسيط» (برج). (4) (ن): «إيثارها». (5) (ح، ن): «يقال». (6) مفردها: شَقِيف. والجمع: شقفان. وجمع الجمع: شقفانات. كلمة آرامية سريانية، تطلق على الكهف والمغارة والصخر الشاهق المشرف. انظر: «معجم البلدان» (3/ 356)، و «الروضتين» لأبي شامة (3/ 106)، و «معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية» لأنيس فريحة (97). (7) (ت): «أي: في هذه الأمكنة يبنون العروش».

(2/706)


البيوت. فلا يُرى للنَّحل بيتٌ غير هذه الثَّلاثة البتة. وتأمَّل كيف أكثرُ بيوتها في الجبال والشقفان، وهو البيتُ المقدَّمُ في الآية، ثمَّ في الأشجار، وهي مِنْ أكثر بيوتها (1)، وفيما يَعْرِشُ الناس، وأقلُّ بيوتها بينهم حيثُ يَعْرِشُون، وأما في الجبال والشجر بيوتٌ (2) عظيمةٌ يؤخذُ منها من العسل (3) الكثيرُ جدًّا. وتأمَّل كيف أدَّاها حُسْنُ الامتثال إلى أن ا تخذت البيوتَ قبل المرعى؛ فهي تتَّخذ البيوتَ أوَّلًا، ثمَّ إذا استقرَّ لها بيتٌ خرجت منه فرعَت وأكلت من الثِّمار، ثمَّ أوتْ إلى بيوتها؛ لأنَّ ربها سبحانه أمرها با تخاذ البيوت أوَّلًا، ثمَّ بالأكل بعد ذلك، ثمَّ إذا أكلت سلكت سُبلَ ربها مذلَّلةً لها (4) لا يستَوعِرُ عليها شيءٌ، ترعى ثمَّ تعود. ومن عجيب شأنها أنَّ لها أميرًا يسمَّى: «اليَعْسُوب» لا يتمُّ لها رواحٌ ولا إيابٌ ولا عملٌ ولا مرعًى إلا به، فهي مؤتمرةٌ لأمره، سامعةٌ له مطيعة، وله عليها تكليفٌ وأمرٌ ونهي، وهي رعيَّةٌ له (5)، منقادةٌ لأمره، متَّبعةٌ لرأيه، يدبِّرها كما يدبِّرُ الملكُ أمرَ رعيَّته، حتى إنها إذا أوتْ إلى بيوتها وقفَ على _________ (1) «حياة الحيوان» (4/ 32): «وهي دون ذلك». وقد نقل الدميريُّ من هذا الموضع دون تصريح، وصرَّح بالنقل في موضعٍ آخر. (2) كذا في الأصول، بحذف الفاء من جواب (أما). وهي لغةٌ قليلة، ولها شواهد، وزعم بعضهم أنها ضرورةٌ في الشعر، وليس كذلك، والجادة إثباتها. انظر: «شواهد التوضيح» (136)، و «فتح الباري» (10/ 36). (3) (ت): «يؤخذ منها العسل». (4) «لها» ليست في (ن، ح). (5) (ن): «وهي راغبة له».

(2/707)


باب البيت فلا يدعُ واحدةً تزاحمُ الأخرى ولا تتقدَّم عليها في العُبور، بل تَعْبُرُ بيوتها واحدةً بعد واحدةٍ بغير تزاحُمٍ ولا تصادمٍ ولا تراكُم، كما يفعلُ الأميرُ إذا انتهى بعسكره إلى معْبرٍ ضيِّقٍ لا يجُوزه إلا واحدٌ واحد. ومن تدبَّر أحوالها وسياستَها وهدايتها، واجتماعَ شملها، وانتظامَ أمرها، وتدبيرَ مُلْكِها، وتفويض كلِّ عملٍ إلى واحدٍ منها= يتعجَّبُ منها كلَّ العجب، ويعلمُ أنَّ هذا ليس في مقدورها ولا هو مِنْ ذاتها؛ فإنَّ هذه أعمالٌ محكمةٌ متقنةٌ في غاية الإحكام والإتقان، فإذا نظرتَ إلى العامل (1) رأيتَه مِنْ أضعف خلق الله وأجهَلِه بنفسه وبحاله، وأعجَزِه (2) عن القيام بمصلحته فضلًا عمَّا يصدُر منه من الأمور العجيبة. ومن عجيب أمرها أنَّ أميرين فيها لا يجتمعان (3) في بيتٍ واحد، ولا يتأمَّران على جمعٍ واحد، بل إذا اجتمع منها جُنْدان وأميران قتلوا أحدَ الأميرين وقطَّعوه واتفقوا على الأمير الواحد، مِنْ غير معاداةٍ بينهم ولا أذًى من بعضهم لبعض، بل يصيرون يدًا واحدةً وجندًا واحدًا. فصل ومن عجيب أمرها ما لا يهتدي له أكثرُ الناس ولا يعرفونه؛ وهو النِّتاجُ الذي يكونُ لها، هل هو على وجه الولادة أو التَّولُّد والاستحالة؟ (4) فقَلَّ من _________ (1) (ح، ن): «القائل». (2) (ت): «وأجهلهم ... وأعجزهم». (3) (ح، ن): «أن فيها أميرين لا يجتمعان». والمثبت أجود. (4) (ح): «الولادة والتولد أو الاستحالة». وفي (ت، ق): «الولادة والتولد والاستحالة». (د): «الولادة والتوالد والاستحالة».

(2/708)


يعرفُ ذلك أو يَفْطِنُ له (1). وليس نِتاجُها على واحدٍ من هذين الوجهين، وإنما نِتاجُها بأمرٍ مِنْ أعجب العجب، فإنها إذا ذهبت إلى المرعى أخذَت تلك الأجزاءَ الصَّافيةَ التي على الوَرَق، من الورد والزَّهر والحشيش وغيره، وهي الطَّلُّ؛ فتمصُّها، وذلك مادةُ العسل، ثمَّ أنها تكبِسُ (2) الأجزاءَ المنعقدةَ على وجه الورقة وتَعْقِدُها على رِجْلِها كالعَدَسَة، فتملأ بها المسدَّسات الفارغة من العسل، ثمَّ يقومُ يَعْسُوبها على بيته مبتدئًا منه، فينفخُ فيه، ثمَّ يطوفُ على تلك البيوت بيتًا بيتًا وينفخُ فيها كلِّها، فتدبُّ فيها الحياةُ بإذن الله عزَّ وجلَّ، فتتحرَّكُ وتخرجُ طيورًا بإذن الله (3). وتلك إحدى الآيات والعجائب التي قلَّ من يتفطَّنُ إليها، وهذا كلُّه من ثمرة ذلك الوحي الإلهيِّ، أفادها وأكسَبها (4) هذا التَّدبير والسَّفر والمعاشَ والبناءَ والنِّتاج. فسَل المعطِّل الضالَّ (5): من الذي أوحى إليها أمرَها وجَعَل ما جَعَل في طباعها؟! ومن الذي سهَّل لها سُبلَه ذُللًا منقادةً لا تستعصي (6) عليها ولا _________ (1) انظر: «الفِصَل» (5/ 278). (2) (ح، ن): «تلبس». (3) الثابت اليوم علميًّا أن ملكة النحل تضع بيضها في تلك البيوت، بعد أن يلقحها الذكر خلال عملية التزاوج بسائله المنوي، فإذا فقست تولت شغَّالات النحل تغذية تلك اليرقات حتى تكبر. «الموسوعة العربية العالمية». (4) (ح، ن): «وألبسها». (5) «الضال» ليست في (ح). (6) (ح، ت): «يستعصي». (ن): «يتعصى».

(2/709)


تستوعرُها ولا تضلُّ عنها على بُعدها؟! ومن الذي هداها لشأنها؟! ومن الذي أنزل لها من الطَّلِّ ما إذا جَنَته ردَّته عسلًا صافيًا مختلفًا ألوانُه في غاية الحلاوة واللَّذاذة والمنفعة، مِنْ بين أبيض يُرى فيه الوجهُ أعظمَ من رؤيته في المرآة ــ وسمَّاه لي من جاء به (1)، وقال: هذا أفخرُ ما يعرفُ الناسُ من العسل وأصفاه وأطيبُه، فإذا طعمُه ألذُّ شيءٍ يكونُ من الحلوى (2) ــ، ومِنْ بين أحمرَ وأخضرَ ومُورَّدٍ وأسودَ وأشقرَ (3) وغير ذلك من الألوان والطُّعوم المختلفة فيه بحسب مَراعيه ومادَّتها. وإذا تأمَّلتَ ما فيه من المنافع والشِّفاء، ودخولَه في غالب الأدوية، حتى كان المتقدِّمون لا يعرفون السُّكَّر ولا هو مذكورٌ في كتبهم أصلًا، وإنما كان الذي يستعملونه في الأدوية هو العسل، وهو المذكورُ في كتب القوم. ولعمرُ الله إنه لأنفعُ من السُّكَّر، وأجدى وأجلى للأخلاط، وأقمَعُ لها وأذهبُ لضررها، وأقوى للمعدة، وأشدُّ تفريحًا للنفس، وتقويةً للأرواح، وتنفيذًا للدَّواء، وإعانةً له على استخراج الدَّاء من أعماق البدن. ولهذا لا يجيءُ في شيءٍ من الحديث قطُّ ذكرُ السُّكَّر، ولا كانوا يعرفونه أصلًا (4)، ولو عُدِم من العالم لما احتاج إليه، ولو عُدِم العسلُ لاشتدَّت _________ (1) (ح، ن): «وسماه لمن جاء به». (2) (ت): «فإذا طعمه الذي أشد من الحلوى». (3) (ق، د): «وأصفر». (4) ورد ذكره في حديثٍ أخرجه الترمذي (2404) بإسناد ضعيفٍ جدًّا. وفي حديثٍ آخر في صفة الحوض صحَّحه المصنفُ في «زاد المعاد» (4/ 355)، وقال: «ولا أعرف السُّكَّر في الحديث إلا في هذا الموضع». ولم أقف على هذا الحديث ولا أظنه يصحُّ مرفوعًا، ولعل ذكر «السُّكَّر» فيه من تصرُّف بعض الرواة. وانظر: «فيض القدير» (2/ 448). وأمَّا ما في «الصحيح» من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الحلواء والعسل؛ فالمراد بالحلواء كل حُلْوٍ، وإن لم تدخله الصَّنعة، كالفاكهة. وأصل لفظة «السُّكَّر» فارسيَّةٌ معرَّبة. انظر: «الصحاح» (سكر)، و «قصد السبيل» (2/ 143) وحاشيته.

(2/710)


الحاجةُ إليه، وإنما غَلَب على بعض المدن استعمالُ السُّكَّر حتى هجروا العسلَ واستطابوه عليه ورأوهُ أقلَّ حِدَّةً وحرارةً منه، ولم يعلموا أنَّ من منافع العسل ما فيه من الحِدَّة والحرارة، فإذا لم يوافِق من يستعملُه كَسَرَها بمقابلها فيصيرُ أنفع له من السُّكَّر. وسنفردُ ــ إن شاء الله ــ مقالةً نبيِّنُ فيها فضل العسل على السُّكَّر من طرقٍ عديدةٍ لا تُمنَع، وبراهين كثيرةٍ لا تُدفَع (1). ومتى رأيتَ السُّكَّر يجلُو بلغمًا، ويذيبُ خِلْطًا، أو يشفي من داء؟! وإنما غايتُه بعض التنفيذ للدَّواء إلى العُروق؛ للطافته وحلاوته. وأمَّا الشفاءُ الحاصلُ من العسل فقد حرَمه اللهُ الكثيرَ (2) من النَّاس، حتى صاروا يذمُّونه ويخشون غائلتَه من حراراته وحِدَّته. ولا ريب أنَّ كونه شفاءً، وكونَ القرآن شفاءً، والصَّلاةِ شفاءً، وذكرِ الله والإقبال عليه شفاءً = أمرٌ _________ (1) لم أقف مِنْ خبرها على شيءٍ عند من بعده؛ فلعله لم يتيسَّر له ذلك. وراجع ما قدمناه (ص: 588). ولم أر المصنف تعرَّض للمسألة في غير «زاد المعاد» (4/ 34، 224، 355). وانظر: «ابن قيم الجوزية» (282)، و «التقريب لعلوم ابن القيم» (80)، والإحالةُ فيهما على «شفاء العليل» وهمٌ. (2) (ت، د، ق، ح): «لكثير».

(2/711)


لا يَعُمُّ الطَّبائعَ والأنفس؛ فهذا كتابُ الله هو الشِّفاءُ النافع، وهو أعظمُ الشِّفاء، وما أقلَّ المُستَشْفِين به! بل لا يزيدُ الطَّبائعَ الرَّديئة إلا رداءةً، ولا يزيدُ الظَّالمين إلا خسارًا. وكذلك ذكرُ الله والإقبالُ عليه والإنابةُ إليه والفزعُ إلى الصَّلاة، كم قد شُفِي به مِنْ عليل! وكم قد عُوفي به مِنْ مريض! وكم قام مقام كثيرٍ من الأدوية التي لا تبلغُ قريبًا من مبلغه في الشفاء! وأنت ترى كثيرًا من النَّاس ــ بل أكثرهم ــ لا نصيب لهم من الشفاء بذلك إليه أصلًا. ولقد رأيتُ في بعض كتب الأطبَّاء المسلمين في ذكر الأدوية المفردة ذكر الصَّلاة؛ ذكرها في باب «الصَّاد» وذَكَر من منافعها في البدن التي توجبُ الشفاء وجوهًا عديدةً ومن منافعها في الرُّوح والقلب (1). وسمعتُ شيخنا أبا العبَّاس ابن تيمية رحمه الله يقول، وقد عَرَض له بعضُ الألم، فقال له الطَّبيب: أضرُّ ما عليك الكلامُ في العلم والفِكرُ فيه والتوجُّه والذِّكر، فقال: ألستم تزعمون أنَّ النفسَ إذا قَوِيَت وفَرِحَت أوجبَ فرحُها لها قوَّةً تُعِينُ بها الطبيعةَ على دفع العارض (2)؛ فإنه عدوُّها، فإذا قَوِيَت عليه قهرتْه؟ فقال له الطَّبيب: بلى؛ فقال: وأنا إذا اشتغلتْ نفسي بالتَّوجُّه والذِّكر والكلام في العلم وظَفِرَت بما يُشْكِلُ عليها منه فَرِحَت به وقَوِيَت، فأوجبَ ذلك دفعَ العارض. هذا أو نحوه (3) من الكلام (4). _________ (1) كما فعل المصنف في «زاد المعاد» (4/ 331). (2) (د، ق، ت): «المعارض»، في الموضعين. والمثبت أجود. (3) (ح، ن): «أو غيره»!. (4) انظر: «روضة المحبين» (109).

(2/712)


والمقصودُ أنَّ ترك كثيرٍ من النَّاس الاستشفاءَ بالعسل لا يخرجُه عن كونه شفاءً، كما أنَّ ترك أكثرهم الاستشفاءَ بالقرآن من أمراض القلوب لا يخرجُه عن كونه شفاءً لها، وهو شفاءٌ لما في الصُّدور وإن لم يَسْتَشفِ به أكثرُ المرضى، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، فعَمَّ بالموعظة والشِّفاء، وخصَّ بالهدى والرحمة (1)؛ فهو نفسُه شفاءٌ استُشْفِيَ به أو لم يُسْتَشْفَ به. ولم يَصِف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل، فهما الشِّفاءان؛ هذا شفاءُ القلوب من أمراض غيِّها وضلالها وأدواء (2) شبهاتها وشهواتها، وهذا شفاءٌ للأبدان من كثيرٍ من أسقامها وأخلاطها وآفاتها. ولقد أصابني أيام مُقامي بمكَّة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيبَ هناك ولا أدويةَ كما في غيرها من المدن، فكنتُ أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيتُ فيهما من الشفاء أمرًا عجيبًا (3). وتأمَّل إخبارَه سبحانه وتعالى عن القرآن بأنه نفسَه شفاءٌ، وقال عن _________ (1) تحرفت في (ح، ن) إلى: «والمعرفة». واقرأ الآية. (2) (ت): «ودواء». (3) انظر إخباره بذلك أيضًا في «مدارج السالكين» (1/ 58)، و «زاد المعاد» (4/ 178)، و «الداء والدواء» (8). وانظر لمجاورة المصنف بمكة: «ابن قيم الجوزية» للشيخ بكر (57 ــ 59). وقد ذكر ــ رحمه الله ــ في صدر كتابنا هذا أن تأليفه له كان من بعض النُّزل والتُّحف التي فتح الله بها عليه حين انقطاعه إلى بيته.

(2/713)


العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]؛ وما كان نفسُه شفاءً أبلغُ مما جُعِل فيه شفاءٌ، وليس هذا موضع استقصاء فوائد العسل ومنافعه (1). فصل ثمَّ تأمَّل العبرةَ التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في الأنعام وما أسقانا من بطونها من اللبن الخالص السَّائغ الهنيء المريء الخارج من بين الفَرْث والدَّم. فتأمَّل كيف ينزلُ الغذاءُ من أفواهها إلى المعدة، فينقلبُ بعضُه بإذن الله دمًا يَسْري (2) في عروقها وأعضائها وشُعورها ولحومها، فإذا أرسلتْه العروقُ في مجاريها إلى جملة الأجزاء قَلَبه كلُّ عضوٍ وعَصَبٍ وغُضروفٍ وشَعرٍ وظُفرٍ وحافرٍ إلى طبيعته، ثمَّ يبقى الدَّمُ في تلك الخزائن التي له؛ إذ به قِوامُ الحيوان، ثمَّ ينصبُّ ثُفْله إلى الكِرْش فيصيرُ زِبْلاً، ثمَّ ينقلبُ باقيه لبنًا صافيًا أبيضَ سائغًا للشاربين، فيخرجُ من بين الفَرْث والدَّم، حتى إذا أُنهِكَت الشاةُ (3) ــ أو غيرها ــ حَلْبًا خرجَ الدَّمُ (4) مُشْرَبًا بحُمرته. فصفَّى الله سبحانه الألطفَ من الثُّفْل بالطَّبخ الأوَّل، وانفصل إلى الكبد وصار دمًا، وكان مخلوطًا بالأخلاط الأربعة (5)؛ فأذهبَ الله عزَّ وجلَّ كلَّ خِلْطٍ منها إلى مقرِّه وخزانته المهيَّأة له من المرارة والطِّحال والكُلْية، وباقي الدَّم الخالص يدخلُ في أوردة الكبد، فينصبُّ من تلك العروق إلى الضَّرع، _________ (1) انظر: «زاد المعاد» (4/ 34 ــ 36، 51، 224، 340، 356). (2) (ق): «وما يسري». وهو تحريف. وصحِّحت في طرة (د). (3) (ح، ن): «أبهلت الشاة»، ولم أجد في مادة (بهل) ما يناسب المقام. (4) كذا في الأصول. وهو سهوٌ وسبق قلم، أراد: «خرج اللبن». (5) راجع ما قدَّمناه بشأنها (ص: 559).

(2/714)


فيقلبُه الله تبارك وتعالى مِنْ صورة الدَّم وطبعه وطعمه إلى صورة اللَّبن وطبعه وطعمه؛ فاستُخرِجَ من الفَرْث والدَّم. فسَل المعطِّل الجاحد: من الذي دبَّر هذا التَّدبير، وقدَّر هذا التقدير، وأتقنَ هذا الصُّنع، ولَطَف هذا اللُّطفَ سوى اللطيف الخبير؟! فصل (1) ثمَّ تأمَّل العِبرة في السَّمك وكيفية خِلْقته: فإنه خُلِق غيرَ ذي قوائم؛ لأنه لا يحتاجُ إلى المشي؛ إذ كان مسكنُه (2) الماء. ولم تُخلق له رئةٌ؛ لأنَّ منفعةَ الرِّئة التنفُّسُ، والسَّمكُ لم يحتج إليه؛ لأنه ينغمسُ في الماء. وخُلِقَت له عِوَض القوائم أجنحةٌ شدادٌ يَقْذِفُ بها مِنْ جانبيه، كما يَقْذِفُ صاحبُ المركب بالمقاذيف (3) مِنْ جانبي السَّفينة. وكُسِيَ جلدُه قشورًا متداخلةً كتداخُل الجَوْشَن (4) ليَقِيَه من الآفات. وأُعِينَ بقوَّة الشمِّ؛ لأنَّ بصره ضغيفٌ، والماءُ يحجُبه، فصار يشمُّ الطَّعام مِنْ بُعْدٍ فيقصدُه. _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (42)، «توحيد المفضل» (75 - 77). (2) (ت): «مسلكه». (3) (ت): «المقاديف». وهي المجاديف. (4) الدرع. «اللسان» (جشن). (ض): «كتداخل الدروع والجواشن».

(2/715)


وقد ذُكِر في بعض كتب الحيوان (1) أنَّ مِنْ فِيه إلى صِماخَيْه (2) منافذَ فهو يعُبُّ (3) الماءَ فيها بفِيه، ويرسلُه من صِماخَيْه، فيتروَّحُ بذلك، كما يأخذُ الحيوانُ النَّسيمَ الباردَ بأنفه ثمَّ يرسلُه ليتروَّحَ به (4). فإنَّ الماء للحيوان البحريِّ كالهواء للحيوان البريِّ، فهما بَحْران أحدُهما ألطفُ من الآخَر: بحرُ هواءٍ يَسْبَحُ فيه حيوانُ البرِّ، وبحرُ ماءٍ يَسْبَحُ فيه حيوانُ البحر، فلو فارق كلٌّ من الصِّنفين بحرَه إلى البحر الآخر مات، فكما يختنقُ الحيوانُ البرِّيُّ في الماء يختنقُ الحيوانُ البحريُّ في الهواء. فسبحان من لا يحصي العادُّون آياته، ولا يحيطون بتفصيل آيةٍ منها على الانفراد، بل إن علموا منها وجهًا جَهِلوا منها أوجهًا. فتأمَّل الحكمةَ البالغة في كَوْن السَّمك أكثر الحيوان نسلًا، ولهذا ترى في جوف السَّمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة. وحكمةُ ذلك أن يتَّسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان؛ فإنَّ أكثرها يأكلُ السَّمك، حتى السِّباع؛ فإنَّ غالبها (5) في حافَات الآجام (6) جاثمةٌ _________ (1) (ر): «وقد ذكر أرسطاطاليس». (2) (ت، ق، ح): «صماخه». (3) (ت، ن، ح): «يصب». تحريف. (4) انظر: «حياة الحيوان» (2/ 553). (5) (ق، ح، ن): «حتى السباع؛ لأنها». (6) جمع أجَمة، وهي الشجر الكثير الملتفُّ. والمراد: أجَمة القصب، وهو نباتٌ مائي له سوقٌ طوال، ينمو حول الأنهار.

(2/716)


تعكُف على الماء الصَّافي (1)، فإذا تعذَّر عليها صيدُ البرِّ رَصَدَت السَّمكَ (2) فاختطفَته. فلمَّا كانت السِّباعُ تأكلُ السَّمك، والطَّيرُ تأكلُه، والنَّاسُ تأكلُه، والسَّمكُ الكبارُ تأكلُه، وداوبُّ البرِّ تأكلُه، وقد جعله الله سبحانه غذاءً لهذه الأصناف اقتضت حكمتُه أن يكون بهذه الكثرة. ولو رأى العبدُ ما في البحر مِنْ ضروب الحيوانات والجواهر والأصناف التي لا يحصيها إلا الله، ولا يعرفُ النَّاسُ منها إلا الشيء القليل الذي لا نسبة له أصلًا إلى ما غاب عنهم= لرأى العجب، ولعَلِمَ سَعةَ مُلك الله وكثرة جنوده التي لا يعلمُها إلا هو. هذا الجرادُ نَثْرةُ حوتٍ من حيتان البحر ينثُره مِنْ مِنْخَريه (3)، وهو جندٌ _________ (1) (ض): «على الماء أيضا كي ترصد السمك». تحريف. (2) (ق): «صادت السمك». (ت): «تصدت للسمك». (3) علَّق العلَّامة شهاب الدين محمود الآلوسي على طرَّة نسخة (ق) بخطِّه: «ليس كذلك؛ بل المراد من كونه نثرة حوت اتحادُ حكمهما، كحِلِّ ميتتهما، كما صرَّح بذلك شرَّاحُ الحديث». قلت: اختلف أهل العلم في الأخبار الواردة في أن الجراد نثرة حوتٍ ــ ولا يصحُّ منها شيءٌ مرفوعًا، إنما هو عن كعب الأحبار، من أخبار أهل الكتاب، أخرجه مالك في «الموطأ» (784) ــ هل هي على ظاهرها؟ فظاهر كلام المصنف وبعض رواة الخبر المرفوع أنها كذلك، وحملها ابن قتيبة في «غريب الحديث» (2/ 361) وغيره على ما ذكر الآلوسي، وتوسَّط ابنُ عبد البر فحملها في «الاستذكار» (11/ 290) على أن أول خلق الجراد كان من منخر حوتٍ، لا أنه اليوم مخلوقٌ من نثرة حوت؛ لأن المشاهدة تدفع ذلك.

(2/717)


من جنود الله، ضعيفُ الخِلْقة، عجيبُ التَّركيب، فيه خَلْقُ سبع حيوانات (1)؛ فإذا رأيتَ عساكرَه قد أقبلت أبصرتَ جندًا لا مردَّ له، ولا يحمي منه عَدَدٌ ولا عُدَّة، فلو جمع الملكُ خيلَه ورَجِلَه ودوابَّه وسلاحَه ليصدَّه عن بلده لما أمكنه ذلك. فانظر كيف ينسابُ على الأرض كالسَّيل، فيغشى السَّهل والجبل، والبَدْو والحضر، حتى يستُر نورَ الشمس بكثرته، ويَسُدَّ وجهَ السَّماء بأجنحته، ويبلغ من الجوِّ إلى حيثُ لا يبلغُ طائرٌ أكبرُ جناحين منه. فسَل المعطِّل: من الذي بعث هذا الجندَ الضعيفَ الذي لا يستطيعُ أن يردَّ (2) عن نفسه حيوانًا رام أخذَه بفِيه (3) على العسكر أهل القوَّة والكثرة والعَدَد والعُدَّة والحيلة، فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه، بل ينظرون إليه يستبدُّ بأقواتهم دونهم، ويمزِّقها كلَّ ممزَّق، ويذرُ الأرض قفرًا منها، وهم لا يستطيعون أن يردُّوه ولا يحولوا بينه وبينها؟! وهذا من حكمته سبحانه أن يسلِّط الضعيفَ مِنْ خلقه الذي لا مؤنة له على القويِّ، فينتقم به منه، ويُنْزِل به ما كان يَحْذَرُه منه، حتى لا يستطيع لذلك مردًّا ولا صرفًا، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6]. _________ (1) انظر: «الجليس والأنيس» (3/ 273)، و «وفيات الأعيان» (4/ 247)، و «فتح الباري» (9/ 620). (2) (د): «يدفع». (ت): «يرفع». (3) (ح، ن): «بعثه». تحريف. ولم تحرر في (ت، ق).

(2/718)


فواحسرتاه على استقامةٍ مع الله وإيثارٍ لمرضاته في كلِّ حالٍ يمكَّنُ به الضعيفُ (1) المُسْتضعَفُ حتى يَرى من استضعفَه أنه أولى بالله ورسوله منه! ولكن اقتضت حكمةُ الله العزيز الحكيم أنْ يأكل الظَّالمُ الباغي ويتمتَّع (2) في خَفارة ذنوب المظلوم المبغيِّ عليه، فذنوبُه مِنْ أعظم أسباب الرحمة في حقِّ ظالمه، كما أنَّ المسؤول إذا رَدَّ السَّائل فهو في خَفارة كذبه، ولو صَدَق السَّائلُ لما أفلحَ من ردَّه (3)، وكذلك السَّارقُ وقاطعُ الطَّريق في خَفارة مَنْع أصحاب الأموال حقوقَ الله فيها، ولو أدَّوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم. وهذا أيضًا بابٌ عظيمٌ من حكمة الله، يُطْلِعُ النَّاظرَ فيه على أسرارٍ من أسرار التقدير (4)، وتسليطِ العالم بعضِهم على بعض، وتمكين الجُناة والبُغاة. فسبحان من له في كلِّ شيءٍ حكمةٌ بالغةٌ وآيةٌ باهرة، حتى إنَّ الحيوانات العادِيَة على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيشُ في خَفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلَّط عليهم منها شيء. ولعلَّ هذا الفصل الطَّرديَّ (5) أنفعُ لمتأمِّله من كثيرٍ من الفصول المتقدِّمة؛ فإنه إذا أعطاه حقَّه من النَّظر والفكر عَظُم انتفاعُه به جدًّا، والله الموفق. _________ (1) (ق): «للضعيف». (2) (ن): «ويمنع». (ت): «ويمنع». (3) وفي ذلك حديثٌ مشهورٌ لا يثبت، لكنَّ معناه صحيح. وانظر حوله موقفًا طريفًا في «مسائل الإمام أحمد» (2/ 177) رواية ابن هاناء. (4) (ت): «على أسرار التقدير». (5) (ن): «المطرد».

(2/719)


ويحكى أنَّ بعض أصحاب الماشية كان يشوبُ اللبنَ (1) ويبيعُه على أنه خالص، فأرسل الله عليه سيلًا فذهبَ بالغنم، فجعل يعجَب، فأُتي في منامه فقيل له: أتعجبُ مِنْ أخذِ السَّيل غنمَك؟! إنه (2) تلك القطراتُ التي شُبْتَ (3) بها اللَّبن، اجتمعَت وصارت سيلًا (4). فقِسْ على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك، تعلَمْ حينئذٍ أنَّ الله قائمٌ بالقسط، وأنه قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وأنه لا يظلمُ مثقال ذرَّة. والأثر الإسرائيليُّ معروف: أنَّ رجلًا كان يشوبُ الخمرَ ويبيعُه على أنه خالص، فجَمعَ من ذلك كيسَ ذهبٍ وسافر به، فركبَ البحر ومعه قِرْدٌ له، فلمَّا نام أخذ القردُ الكيسَ وصعد به إلى أعلى المركب، ثمَّ فتحه وجعل يلقي دينارًا في الماء ودينارًا في المركب (5). كأنه يقالُ له (6) بلسان الحال: ثمنُ _________ (1) (ح، ن): «يشيب اللبن». (2) (ح): «إنما هي». (ن): «إن». (3) (ق، د): «شيب». (ح): «التي كنت تشيب». (4) انظر: «المدهش» (1/ 389). (5) أخرجه أحمد (2/ 306، 336، 407)، والحارث بن أبي أسامة (425 ــ بغية الباحث)، وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا بإسنادٍ ظاهره الحُسْن، إلا أن البيهقيَّ أخرجه في «شعب الإيمان» (4924) من وجهٍ يُعِلُّه. وروي من طرقٍ أخرى عند الطبراني في «الأوسط» (7585)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 253)، والبيهقي في «الشعب» (9/ 500)، وغيرهم. وروي من حديث أنس. أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 106) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، ونبَّه على الوهم فيه. وانظر تعليق محققي «المسند» (13/ 420) طبعة الرسالة. (6) (ق): «كأنه يقول له».

(2/720)


الماء صار إلى الماء، ولم نظلِمْك! وتأمَّل الحكمةَ في حبس الله الغيثَ عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا منعوا الزَّكاة وحرموا المساكين، كيف جُوزوا على منع ما للمساكين قِبَلهم من القوت بمنع الله مادَّة القوت والرزق وحبسِها عنهم، يقالُ لهم (1) بلسان الحال: مَنعتُم الحقَّ فمُنِعتُم الغيث، فهلَّا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلكم! وتأمَّل حكمةَ الله تعالى في صَرْفِه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناسَ عنه، فصدَّهم عنه كما صدُّوا عبادَه، صدًّا بصدٍّ ومنعًا بمنع. وتأمَّل حكمتَه تعالى في مَحْقِ أموال المرابينَ وتسليط المتلفات عليها (2)، كما فعلوا بأموال الناس ومَحَقُوها عليهم وأتلفوها بالربا؛ جُوزوا إتلافًا بإتلاف، فقلَّ أن ترى مُرابيًا (3) إلا وآخرتُه إلى مَحْقٍ وقِلَّةٍ وحاجة. وتأمَّل حكمتَه تعالى في تسليط العدوِّ على العباد إذا جار قويُّهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقُّه من ظالمه، كيف يسلَّطُ عليهم من يفعلُ بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواءً. وهذه سنَّته تعالى منذ قامت الدُّنيا إلى أن تطوى الأرضُ ويعيدُها كما بدأها. وتأمَّل حكمتَه تعالى في أن جَعَل ملوكَ العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأنَّ أعمالهم ظهرت في صُوَر وُلاتهم وملوكهم؛ فإن استقاموا استقامت ملوكُهم، وإن عدلوا عدلوا عليهم، وإن جاروا جارت _________ (1) (ت، ق): «فقال له». (د): «فقال لهم». (2) (ح): «عليهم». (3) (ق): «مراب».

(2/721)


ملوكُهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكرُ والخديعةُ فوُلاتهم (1) كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبَخِلوا بها منعت ملوكُهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحقِّ وبَخِلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممَّن يستضعفونه ما لا يستحقُّونه في معاملاتهم أخذت منهم الملوكُ ما لا يستحقُّونه وضربوا عليهم المُكوسَ والوظائف (2)، وكلُّ ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجُه الملوكُ منهم بالقوَّة؛ فعمَّالهم ظهرت في صُوَر أعمالهم. وليس في الحكمة الإلهيَّة أن يولَّى على الأشرار الفجَّار إلا من يكونُ من جنسهم (3). ولما كان الصَّدرُ الأوَّلُ خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتُهم كذلك، فلمَّا شابوا شِيبَت (4) لهم الولاة، فحكمةُ الله تأبى أن يولَّى علينا في هذه الأزمان مثلُ معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلًا عن مثل أبي بكرٍ وعمر، بل ولاتُنا على قَدْرِنا وولاةُ من قبلنا على قَدْرِهم، وكلٌّ من الأمرين مُوجَبُ الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنةٌ إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمةَ الإلهيَّة سائرةً (5) في القضاء والقدر، ظاهرةً وباطنةً فيه، كما في الخلق والأمر سواء. فإياك أن تظنَّ بظنك الفاسد أنَّ شيئًا من أقضيته وأقداره عارٍ عن الحكمة البالغة، بل جميعُ أقضيته تعالى وأقداره واقعةٌ على أتمِّ وجوه الحكمة _________ (1) (ق، ت): «فملوكهم». (2) وهي الضرائب، جمع وظيفة، ما يقدَّر في زمانٍ معين. (3) انظر: «سراج الملوك» (467)، و «منهاج السنة» (4/ 328)، و «كشف الخفاء» (2/ 184). (4) (ح): «شيب». (5) (ت، ق): «سارية».

(2/722)


والصَّواب، ولكنَّ العقول الخفَّاشيَّة محجوبةٌ بضعفها عن إدراكها، كما أنَّ الأبصار الخفَّاشيَّة محجوبةٌ بضعفها عن ضوء الشمس، وهذه العقولُ الصِّغارُ (1) إذا صادفها الباطلُ جالت فيه وصالت، ونطقت وقالت، كما أنَّ الخفَّاش إذا صادفه ظلامُ الليل طار وسار. خفافيشُ أعشاها النَّهارُ بضوئه ... ولازَمها قِطْعٌ من الليلِ مُظْلِمُ (2) وتأمَّل حكمتَه تبارك وتعالى في عقوبات الأمم الخالية، وتنويعها عليهم بحسب تنوُّع جرائمهم (3)، كما قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 38 - 40]. وتأمَّل حكمتَه تعالى في مَسْخ مَنْ مُسِخ من الأمم في صُوَرٍ مختلفةٍ مناسبةٍ لتلك الجرائم؛ فإنهم لما مُسِخَت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمةُ البالغةُ أن جُعِلت صورُهم على صورها؛ _________ (1) (ت): «الضعفاء». ولعلها: «الضعيفة» أو «الضعاف». (2) البيت لابن الرومي، في ديوانه (1/ 157)، و «التمثيل والمحاضرة» (374)، وغيرهما. وروايةُ الشطر الثاني في «الديوان» وغيره: * ولاءمها قِطْعٌ من الليل غيهبُ * (3) (ق، ن، ت، د): «تنويع جرائمهم».

(2/723)


لتتمَّ المناسبةُ ويكمُل الشَّبه (1)، وهذا غايةُ الحكمة. واعتبِر هذا بمن مُسِخوا قردةً وخنازير، كيف غَلبت عليهم صفاتُ هذه الحيوانات وأخلاقُها وأعمالها. ثمَّ إن كنتَ من المتوسِّمين (2) فاقرأ هذه النُّسخةَ من وجوه أشباههم ونظرائهم، كيف تراها باديةً عليها وإن كانت مستورةً بصورة الإنسانية. فاقرأ نسخةَ القردة من صور أهل المكر والخديعة والفسق الذين لا عقول لهم، بل هم أخفُّ النَّاس عقولًا، وأعظمُهم مكرًا وخداعًا وفسقًا (3). فإن لم تقرأ نسخةَ القردة من وجوههم فلست من المتوسِّمين. واقرأ نسخةَ الخنازير من صور أشباههم، ولا سيَّما أعداءُ خيار خلق الله بعد الرُّسل، وهم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ هذه النُّسخة ظاهرةٌ على وجوه الرَّافضة، يقرؤها كلُّ مؤمنٍ كاتبٍ وغير كاتب، وهي تظهرُ وتخفى بحسب خِنزيريَّة القلب وخُبثه؛ فإنَّ الخنزيرَ أخبثُ الحيوانات وأردؤها طباعًا، ومن خاصَّته (4) أنه يدعُ الطيِّبات فلا يأكلُها ويقومُ الإنسانُ عن رجيعه فيبادرُ إليه. فتأمَّل مطابقةَ هذا الوصف لأعداء الصَّحابة كيف تجدُه منطبقًا عليهم! فإنهم عَمَدوا إلى أطيب خلق الله وأطهرهم فعادوهم وتبرَّؤوا منهم، ثمَّ والَوا كلَّ عدوٍّ لهم من النصارى واليهود والمشركين، فاستعانوا في كلِّ زمانٍ على _________ (1) (ح، ن): «التشبه». (2) المتفرِّسين. من الوَسْم، وهو السِّمة والعلامة. «اللسان». (3) انظر: «إغاثة اللهفان» (1/ 267، 342، 345). (4) (ح): «خاصيته». (ن): «خاصيتها».

(2/724)


حرب المؤمنين الموالين لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمشركين والكفَّار وصرَّحوا بأنهم خيرٌ منهم (1). فأيُّ شبهٍ ومناسبةٍ أولى بهذا الضرب من الخنازير؟! فإن لم تقرأ هذه النُّسخة من وجوههم فلستَ من المتوسِّمين. وأمَّا الأخبارُ التي تكادُ تبلغُ حدَّ التَّواتر (2) بمَسْخ مَنْ مُسِخ منهم عند الموت خنزيرًا فأكثرُ من أن تُذكرَ هاهنا، وقد أفرد لها الحافظُ محمَّد بن عبد الواحد المقدسي (3) كتابًا (4). وتأمَّل حكمتَه تعالى في عذابه الأممَ السَّالفةَ بعذاب الاستئصال لمَّا كانوا أطول أعمارًا، وأعظمَ قُوى، وأعتى على الله وعلى رسله، فلما تقاصرت الأعمارُ وضعُفت القُوى رَفَعَ عذابَ الاستئصال وجَعَل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمةُ في كلِّ واحدٍ من الأمرين ما اقتضته في وقته (5). وتأمَّل حكمتَه تبارك وتعالى في إرسال الرُّسل في الأمم واحدًا بعد واحد، كلَّما مات واحدٌ خَلَفه آخر، لحاجتها إلى تتابع الرُّسل والأنبياء؛ _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 199) والتعليق عليه. (2) (ت، د): «عدد التواتر». (3) ضياء الدين، صاحب التصانيف والرحلة الواسعة (ت: 643). انظر: «السير» (23/ 126)، و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 236). (4) ظاهر كلام المصنف أنه كتابٌ مفردٌ لهذه الأخبار. ولم أقف علاه. ولعلَّه قصد كتابه «النهي عن سبِّ الأصحاب، وما ورد فيه من الذمِّ والعقاب»؛ فإنَّ فيه بعض تلك الأخبار (39، 46، 49، 50، 51، 52)، وهو الذي ذكره ابن تيمية حين حديثه عن المسألة في «منهاج السنة» (1/ 485)، و «الصارم المسلول» (3/ 1112). وانظر: «الاستقامة» (1/ 365)، و «الرد على البكري» (2/ 693). (5) (ن): «وفي وقته».

(2/725)


لضعفٍ (1) في عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السَّابق. فلما انتهت النَّوبةُ (2) إلى محمَّد بن عبد الله رسول الله ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، فأرسله إلى أكمل الأمم عقولًا ومعارف، وأصحِّها أذهانًا، وأغزرها علومًا، وبعثَه بأكمل شريعةٍ ظهرت في الأرض منذ قامت الدُّنيا إلى حين مَبْعثه، فأغنى الله الأمَّة بكمال رسولها، وكمال شريعته، وكمال عقولها، وصحَّة أذهانها، عن رسولٍ يأتي بعده، وأقام له من أمَّته ورثةً يحفظون شريعتَه، ووكَّلهم بها حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم؛ فلم يحتاجوا معه إلى رسولٍ آخر ولا نبيٍّ ولا محدَّث. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنه قد كان قبلكم في الأمم محدَّثون (3)، فإن يكن في أمَّتي أحدٌ فعُمَر» (4)، فجزم بوجود المحدَّثين في الأمم، وعلَّق وجودَه في أمَّته بحرف الشرط؛ وليس هذا بنقصانٍ لأمَّته عمَّن قبلهم، بل هذا من كمال أمَّته على من قبلها، فإنها لكمالها وكمال نبيِّها وكمال شريعته لا تحتاجُ إلى محدَّث، بل إن وُجِدَ فهو صالحٌ للمتابعة والاستشهاد، لا أنه عمدة؛ لأنها في غنيةٍ بما بعثَ الله به نبيَّها عن كلِّ منامٍ أو مكاشفةٍ أو إلهامٍ أو تحديث، وأمَّا من قبلها فلحاجتهم إلى ذلك (5) جُعِل فيهم المحدَّثون (6). _________ (1) (د، ق، ت): «لضعفها». (2) (ن): «النبوة». تحريف. (3) أي: مُلْهَمون. فسَّره بهذا عبد الله بن وهب في رواية مسلم. (4) أخرجه البخاري (3469)، ومسلم (2398). (5) (ن، ح): «فللحاجة إلى ذلك». (6) انظر: «الصفدية» (1/ 259)، و «الأصفهانية» (159)، و «الجواب الصحيح» (2/ 383)، و «مجموع الفتاوى» (17/ 46)، و «مدارج السالكين» (1/ 39).

(2/726)


ولا تظنَّ أنَّ تخصيصَ عمرَ رضي الله عنه بهذا تفضيلٌ له على أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، بل هذا مِنْ أقوى مناقب الصِّدِّيق، فإنه لكمال مَشْرَبه من حوض النُّبوَّة، وتمام رَضاعه من ثَدْي الرسالة، استغنى بذلك عمَّا يتلقَّاه من تحديثٍ أو غيره؛ فالذي يتلقَّاه من مشكاة النُّبوَّة أتمُّ من الذي يتلقَّاه عمرُ من التَّحديث (1). فتأمَّل هذا الموضعَ وأعطه حقَّه من المعرفة، وتأمَّل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيمُ الخبير، وأنَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أكملُ خَلْقِه، وأكملُهم شريعة، وأنَّ أمَّته أكملُ الأمم. وهذا فصلٌ معترض، وهو من أنفع فصول الكتاب (2)، ولولا الإطالةُ لوسَّعنا فيه المقال، وأكثرنا فيه من الشواهد والأمثال، ولقد فتحَ الله الكريمُ فيه الباب، وأرشدَ فيه إلى الصَّواب، وهو المرجوُّ لتمام نعمته، ولا قوَّة إلا به (3). فصل (4) فأعِد الآنَ النَّظر فيك وفي نفسك مرَّةً ثانية: من الذي دبَّرك بألطف التَّدبير وأنت جنينٌ في بطن أمِّك، في موضعٍ لا يدَ تنالُك، ولا بصرَ يُدْرِكُك، ولا حيلةَ لك في التماس الغذاء ولا في دفع _________ (1) انظر: «درء التعارض» (5/ 28)، و «منهاج السنة» (6/ 114)، و «الرد على المنطقيين» (514)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 377). (2) (ح، ن): «وهو أنفع فصول الكتاب». (3) (ح): «ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». (4) «الدلائل والاعتبار» (43)، «توحيد المفضل» (12 - 16).

(2/727)


الضَّرَّاء (1)؟! فمن الذي أجرى إليك من دم الأمِّ ما يَغْذُوك كما يَغْذو الماءُ النَّباتَ، وقَلَبَ ذلك الدَّمَ لبنًا، ولم يزل يغذِّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسُّب والطَّلب؟! حتى إذا كَمُلَ خَلقُك (2) واستحكم، وقَوِي أديمُك على مباشرة الهواء وبصرُك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامُك على مباشرة الأيدي والتقلُّب على الغَبراء= هاجَ الطَّلقُ بأمِّك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاجٍ إلى عالم الابتلاء، فرَكَضَك الرَّحمُ ركضةَ من كأنه لم يضمَّك قطُّ (3)، ولم يَشْتَمِل عليك! فيا بُعْدَ ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعْتَ نطفةً وبين هذا الدَّفع والطَّرد والإخراج! وكان مبتهجًا بحَمْلك فصار يستغيثُ ويَعُجُّ إلى ربِّك مِنْ ثِقَلك. فمن الذي فتحَ لك بابَه حتى وَلجتَ، ثمَّ ضمَّه عليك حتى حُفِظتَ وكمُلت، ثمَّ فتحَ لك ذلك البابَ ووسَّعه حتى خرجتَ منه كلمح البصر، لم يخنُقك (4) ضِيقُه، ولم تحبسك صعوبةُ طريقك فيه؟! فلو تأمَّلتَ حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهبَ بك _________ (1) (ح، ن): «الضرر عنك». (2) (ن): «سوى خلقك». (3) (ح، ن): «ركضة في مكان (ن: مكانه) كأنه لم يضمك قط». (4) (ن): «يخفيك». (ح): «يحفيك».

(2/728)


العجبُ كلَّ مذهب؛ فمن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفةٌ حتى لا تفسُد هناك، ثمَّ أوحى إليه أن يتَّسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليمًا؟! إلى أن خرجتَ فريدًا وحيدًا ضعيفًا، لا قِشْرة ولا لباسَ ولا متاع ولا مال، أحوجَ خلق الله وأضعفَهم وأفقرَهم. فصُرِف ذلك اللبنُ الذي كنت تتغذَّى به في بطن أمِّك إلى خزانتين معلَّقتين على صدرها، تحملُ غذاءك على صدرها كما حملتْك في بطنها، ثمَّ ساقه إلى تلك الخزانتين ألطفَ سَوْقٍ في مَجارٍ (1) وطرقٍ قد تهيَّأت له، فلا يزالُ واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانتين (2) فيجري وينساقُ إليك، فهو بئرٌ لا تنقطعُ مادَّتُها، ولا تنسدُّ طرقُها، يسوقُها إليك في طرقٍ لا يهتدي إليها الطَّوَّاف (3)، ولا يسلكُها الرَّجَّال (4). فمن رقَّقه لك وصفَّاه، وأطابَ طعمَه، وحسَّن لونَه، وأحكمَ طبخَه أعدَل إحكام؛ لا بالحارِّ المؤذي، ولا بالبارد المُردي (5)، ولا المُرِّ ولا المالح، ولا الكريه الرائحة، بل قَلَبَه إلى ضربٍ آخرَ من التَّغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن، فوافاك في أشدِّ أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأٍ شديدٍ وجوعٍ مُفْرِط، جمعَ لك فيه بين الشراب والغذاء؟! _________ (1) (ح، ن): «على مجار». (2) (د، ت، ن): «الخزانة». (3) وهو العسَس، الذي يطوف بالليل يحرس الناس. أو هو كثير التطواف مطلقًا. (4) لعله مبالغةٌ من الراجل، الماشي على رجليه، خلاف الفارس. ويمكن أن تقرأ: الرحَّال، بالحاء المهملة، كثير الترحال. (5) (ت، ق): «المودي». (ح، ن): «الردي».

(2/729)


فحين تُولَدُ قد تَلمَّظتَ وحرَّكتَ شفتيك للرَّضاع، فتجدُ الثَّديَ المعلَّق كالإداوة قد تدلى إليك، وأقبل بدَرِّه عليك، ثمَّ جعل في رأسه تلك الحَلَمة التي هي بمقدار صِغَر فمك فلا يضيقُ عنها ولا يتعب (1) بالتقامها، ثمَّ ثقبَ لك في رأسها ثقبًا لطيفًا (2) بحسب احتمالك، ولم يوسِّعه فتختنقَ باللبن، ولم يضيِّقه فتمصَّه بكُلفة، بل جعله بقَدْرٍ اقتضته حكمتُه ومصلحتُك. فمن عطفَ عليك قلبَ الأمِّ ووضعَ فيه الحنانَ العجيبَ والرحمةَ الباهرة، حتى تكون في أهنأ ما يكونُ من شأنها وراحتها ومَقِيلها، فإذا أحسَّت منك بأدنى صوتٍ أو بكاءٍ قامت إليك وآثرتْكَ على نفسها، على مدى الأنفاس، منقادةً إليك بغير قائدٍ ولا سائقٍ إلا قائدَ الرحمة وسائقَ الحنان، تودُّ لو أنَّ كلَّ ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرُقكَ منه شيء، وأنَّ حياتها تزادُ في حياتك، فمن الذي وضع ذلك في قلبها؟! حتى إذا قَوِيَ بدنُك، واتسعت أمعاؤك، وخشُنت عظامُك، واحتجتَ إلى غذاءٍ أصلبَ من غذائك؛ ليشتدَّ به عظمُك، ويقوى عليه لحمُك= وضعَ في فِيك آلةَ القطع والطَّحن، فنَصَبَ لك أسنانًا تقطعُ بها الطَّعام وطواحينَ تطحنُه بها. فمن الذي حبسها عنك أيامَ رضاعك رحمةً بأمِّك ولطفًا بها، ثمَّ أعطاكها أيام أكلِك رحمةً بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟! فلو أنك خرجتَ من البطن ذا سِنٍّ ونابٍ وناجذٍ وضِرس، كيف كان حالُ أمِّك بك؟! ولو أنك مُنِعتَها وقتَ الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تُسِيغُها إلا _________ (1) (ح): «يضعف». (2) (ح، ن): «ثم نقب ... نقبا لطيفا».

(2/730)


بعد تقطيعها وطحنها؟! وكلَّما ازددتَ قوَّةً وحاجةً إلى الافتنان (1) في أكل المطاعم المختلفة زِيدَ لك في تلك الآلات (2)، حتى تنتهي إلى النَّواجذ فتطيقَ نهشَ اللحم وقطعَ الخبز وكسرَ الصُّلب، ثمَّ إذا ازددتَ قوَّةً زِيدَ لك فيها حتى تنتهي إلى الطَّواحين (3) التي هي آخرُ الأضراس؛ فمن الذي ساعدك بهذه الآلات وأنجدَك بها ومكَّنك (4) بها من ضروب الغذاء؟! ثمَّ إنه اقتضت حكمتُه أن أخرجك من بطن أمِّك لا تعلمُ شيئًا، بل غبيًّا لا عقلَ ولا فهمَ ولا عِلم، وذلك مِنْ رحمته بك؛ فإنك على ضعفك لا تحتملُ العقلَ والفهمَ والمعرفة، بل كنت تتمزَّقُ وتتصدَّع، بل جَعَل ذلك ينشأُ فيك (5) بالتَّدريج شيئًا فشيئًا، فلا يصادفُك ذلك وَهلةً واحدة، بل يصادفُك يسيرًا يسيرًا حتى يتكامل فيك. واعتَبِر ذلك بأنَّ الطفل إذا سُبِيَ صغيرًا من بلده ومن بين أبويه ولا عقلَ له فإنه لا يؤلمُه ذلك (6)، وكلَّما كان أقربَ إلى العقل كان أشقَّ عليه وأصعب، حتى إذا كان محتنِكًا (7) عاقلًا فلا تراه إلا كالوالِه الحيران. _________ (1) مهملة في (د). (ح، ت، ن): «الأسنان». (2) (ت، ق، د): «الآلة». (3) (ق): «زيد لك الطواحين». (4) (ق، د، ت): «ومكن لك». (5) (ح، ن): «ينتقل فيك». (6) (ت): «يهيله ذلك». وكذا رسمها في (د، ق) دون إعجام. (7) المحتنك: الذي تمَّ عقله وسنُّه. وليست في (ح، ن).

(2/731)


ثمَّ لو وُلِدتَ عاقلًا فَهِمًا كحالك في كِبَرك لتنغَّصت عليك حياتُك أعظمَ تنغيص، وتنكَّدت أعظمَ تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولًا رضيعًا، معصَّبًا بالخِرَق، مربَّطًا بالقُمُط (1)، مسجونًا (2) في المهد، عاجزًا ضعيفًا عمَّا يحاولُه الكبير، فكيف كان يكون عيشُك مع تعقُّلك التَّامِّ في هذه الحالة؟! ثمَّ لم يكن يوجدُ لك من الحلاوة واللَّطافة والوَقْع في القلب والرحمة بك ما يوجدُ للمولود الطفل، بل تكونُ أنكدَ خلق الله وأثقلَهم وأعنتَهم وأكثرهم فضولًا. وكان دخولُك هذا العالم وأنت غبيٌّ (3) لا تعقلُ شيئًا ولا تعلمُ ما فيه أهلُه محض الحكمة والرحمة بك والتَّدبير، فتلقى الأشياءَ بذهنٍ ضعيفٍ ومعرفةٍ ناقصة، ثمَّ لا يزالُ يتزايدُ فيك العقلُ والمعرفةُ شيئًا فشيئًا حتى تَأْلفَ الأشياءَ وتَمْرُنَ عليها، وتخرجَ من التأمُّل لها والحيرة فيها، وتستقبلها بحُسْن التصرُّف فيها والتَّدبير لها والإتقان لها. وفي ذلك وجوهٌ أُخرُ من الحكمة غيرُ ما ذكرناه (4). فمَن هذا الذي هو قيِّمٌ عليك بالمرصاد، يرصدُك (5) حتى يُوافيك بكلِّ شيءٍ من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدِّمها عن وقتها _________ (1) جمعُ «قِماط»، وهي خرقةٌ عريضةٌ يُلَفُّ بها المولود. «اللسان» (قمط). أو هو الحبل الذي يُشَدُّ به الصبيُّ في المهد. (2) (ر، ض): «مسجى». وهي قراءة جيدة. (3) «غبي» ليست في (ت). (4) ذُكِرت في «دلائل الاعتبار» (45). (5) (ت): «فمن رصدك».

(2/732)


ولا يؤخِّرها عنه؟! ثمَّ إنه أعطاك الأظفارَ وقتَ حاجتك إليها لمنافع شتى؛ فإنها تُعِينُ الأصابعَ وتقوِّيها، فإنَّ أكثر العمل لما كان برؤوس الأصابع، وعليها الاعتماد، أُعِينَت بالأظفار قوَّةً لها، مع ما فيها من منفعة حَكِّ الجسم وقَشْط الأذى الذي لا يخرجُ باللحم عنه، إلى غير ذلك من فوائدها (1). ثمَّ جمَّلك بالشَّعر على الرَّأس زينةً ووقايةً وصيانةً من الحرِّ والبرد؛ إذ هو مجمَعُ الحواسِّ ومعدِنُ الفِكر والذِّكر وثمرةُ العقل تنتهي إليه (2). ثمَّ خَصَّ الذَّكر بأن جمَّل وجهَه باللِّحية وتوابعها؛ وقارًا وهيبةً وجمالًا، وفصلًا له عن سِنِّ الصِّبا (3)، وفرقًا بينه وبين الإناث، وبقَّى الأنثى على حالها لما خُلِقَت له من استمتاع الذَّكر بها، فبقَّى وجهَها على حاله ونضارته ليكون أهيجَ للرجُل (4) على الشَّهوة وأكمل للذَّة الاستمتاع. فالماءُ واحد، والجوهرُ واحد، والوعاءُ واحد، واللِّقاحُ واحد، فمن الذي أعطى الذَّكر الذُّكورية والأنثى الأنوثية؟! ولا تلتفِت إلى ما يقوله الجهلةُ من الطَّبائعيِّين في سبب الإذكار والإيناث، وإحالةِ ذلك على الأمور الطَّبيعية التي لا تكادُ تصدُق في هذا الموضع إلا اتفاقًا، وكذبُها أكثر من صدقها. _________ (1) انظر ما مضى (ص: 549، 559). (2) (ت): «تنتهي». (د): «ينتهي إليه». (ق): «وينتهي إليه». (3) (ق، ن): «سن الصبي». (4) (ح، ن): «أبهج للرجل».

(2/733)


وليس استنادُ الإذكار والإيناث إلا إلى محض المرسوم الإلهيِّ (1) الذي يلقيه إلى ملَك التَّصوير حين يقول: يا ربِّ ذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟ فما الرِّزق؟ فما الأجل؟ فيوحي ربُّك ما يشاء، ويكتبُ الملَك؛ فإذا كان للطَّبيعة تأثيرٌ في الإذكار والإيناث فلها تأثيرٌ في الرِّزق والأجل والشَّقاوة والسَّعادة، وإلا فلا؛ إذ مخرجُ الجميع ما يوحيه الله إلى الملَك. ونحن لا ننكرُ أنَّ لذلك أسبابًا أُخَر، ولكنَّ تلك من الأسباب التي استأثر الله بها دون البشر، قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]. فذَكَر أصنافَ النساء الأربعة مع الرجال: إحداها: من تلدُ الإناثَ فقط. الثانية: من تلدُ الذُّكورَ فقط. الثالثة: من تلدُ الزَّوجين الذَّكر والأنثى. وهو معنى التَّزويج هنا، أي: يجعلُ ما يهبُ له زوجين ذكرًا وأنثى (2). الرابعة: العقيمُ التي لا تلدُ أصلًا. ومما يدلُّ على أنَّ سببَ الإذكار والإيناث لا يعلمُه البشر، ولا يُدْرَكُ بالقياس والفكر، وإنما يُعْلَمُ بالوحي، ما روى مسلمٌ في «صحيحه» (3) من _________ (1) (ت): «إلا إلى الأمر الإلهي». (2) من قوله: «وهو معنى التزويج ... » إلى هنا ليس في (ت). (3) (315)، وابن خزيمة (232)، وابن حبان (7422).

(2/734)


حديث ثوبان، قال: كنتُ قائمًا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجاء حَبْرٌ من أحبار اليهود، فقال: السَّلامُ عليك (1) يا محمَّد. فدفعتُه دفعةً كاد يُصْرَعُ منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعُوه باسمه الذي سمَّاه به أهلُه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اسمي محمدٌ الذي سمَّاني به أهلي». فقال اليهودي: جئتُ أسألك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أينفعُك شيءٌ إن حدَّثتك؟!» قال: أسمعُ بأذني. فنكَت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعُودٍ معه، فقال: «سَل». فقال اليهودي: أين يكونُ الناسُ يوم تبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض والسموات؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هم في الظُّلمة دون الجِسْر». قال: فمن أوَّلُ الناس إجازةً؟ قال: «فقراء المهاجرين». قال اليهودي: فما تحفتُهم حين يدخلون الجنَّة؟ فقال: «زيادةُ كبد النُّون (2)». قال: فما غذاؤهم (3) على إثرها؟ قال: «يُنْحَرُ لهم ثَورُ الجنَّة الذي يأكلُ من أطرافها». قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «مِنْ عَيْن تسمَّى سلسبيلًا». قال: صَدَقْتَ، وجئتُ أسألك عن شيءٍ لا يعلمُه إلا نبيٌّ أو رجلٌ أو رجلان. قال: «ينفعُك إن حدَّثتك؟!» قال: أسمعُ بأذني. قال: جئتُ أسألك عن الولد؟ قال: «ماءُ الرَّجل أبيض، وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرَّجل منيَّ المرأة أذكَرا بإذن الله، وإن علا منيُّ المرأة منيَّ الرَّجل آنثا (4) بإذن الله». قال اليهودي: لقد صَدَقْتَ، وإنك لنبيٌّ. ثم انصرف، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد سألني عن هذا الذي سألني عنه وما لي علمٌ به، حتى أتاني الله به». _________ (1) (ق، د، ت): «السام عليك». والمثبت من (ن، ح) ورواية «الصحيح». (2) النون: الحوت. وفي (ح، ن): «كبد حوت النون». (3) (ح، ت، ن): «غداهم». وفي بعض الروايات: «غداؤهم». (4) (ن): «أذكر ... أنث». وفي باقي النسخ: «ذكر ... أنثى». والمثبت رواية «الصحيح».

(2/735)


والذي دلَّ عليه العقلُ والنقلُ (1) أنَّ الجنينَ يُخلقُ من الماءين جميعًا، فالذَّكر يقذفُ ماءه في رَحِم الأنثى، وكذلك هي تُنزلُ ماءها (2) إلى حيث ينتهي ماؤه، فيلتقي الماآن على أمرٍ قد قدَّره الله وشاءه، فيُخلقُ الولدُ منهما (3) جميعًا، وأيهما غَلَبَ كان الشَّبهُ له؛ كما في «صحيح البخاري» (4) عن حميد، عن أنسٍ قال: بلغَ عبد الله بن سلام مَقْدَمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه، فقال: إني سائلُك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبيٌّ. قال: ما أوَّلُ أشراط السَّاعة؟ وما أوَّلُ طعامٍ يأكله أهلُ الجنَّة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولدُ إلى أبيه؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ إلى أخواله؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أخبرني بهنَّ آنفًا جبريل». فقال عبد الله: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا أوَّلُ أشراط السَّاعة فنارٌ تحشرُ النَّاسَ من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أوَّلُ طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنَّة فزيادةُ كبدِ حُوتٍ، وأمَّا الشَّبه في الولد فإنَّ الرَّجل إذا غَشِي المرأة فسبقَها ماؤه كان الشَّبهُ له، وإذا سبقت كان الشَّبهُ لها»، فقال: أشهدُ أنك رسولُ الله. وذَكَر الحديث. وفي «الصحيحين» (5) عن أم سلمة [أنَّ أمَّ سُلَيم] (6) قالت: يا رسول الله! إنَّ الله لا يستحي من الحقِّ؛ هل على المرأة مِنْ غُسلٍ إذا هي احتلمَت؟ _________ (1) «والنقل» ليست في (ن). (2) (د، ق): «ينزل ماؤها». (ت): «ماؤها ينزل». (3) (ح، ن): «بينهما». تحريف. (4) (3329). (5) «صحيح البخاري» (130)، و «صحيح مسلم» (313). (6) زيادة ضرورية من «الصحيحين»، وليست في الأصول.

(2/736)


قال: «نعم، إذا رأت الماء» (1)، فضحكت أمُّ سلمة، فقالت: أو تحتلمُ المرأة؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فبِمَ يُشْبِهُ الولد؟!». فهذه الأحاديثُ الثَّلاثة تدلُّ على أنَّ الولدَ يُخلقُ من الماءين، وأنَّ الإذكارَ والإيناثَ يكونُ بغلبة أحد الماءين وقَهْرِه للآخر وعلوِّه عليه، وأنَّ الشَّبه يكون بالسَّبق، فمن سبقَ ماؤه إلى الرَّحم كان الشَّبهُ له. وهذه أمورٌ ليس عند أهل الطَّبيعة ما يدلُّ عليها، ولا يعلمُه إلا بالوحي (2)، وليس في صناعتهم أيضًا ما ينفيها. على أنَّ في النَّفس من حديث ثوبان ما فيها، وأنه يُخافُ أن لا يكون أحدُ رواته حَفِظه كما ينبغي، وأن يكون السُّؤالُ إنما وقعَ فيه عن الشَّبه لا عن الإذكار والإيناث، كما سأل عنه عبد الله بن سلام، ولذلك لم يخرجه البخاري (3). وفي «الصحيحين» (4) من حديث عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن _________ (1) (ح، ن): «الماء الأصفر». وليست هذه الرواية في الصحيحين، وأخرجها الطبراني في «الكبير» (23/ 297). (2) كذا في الأصول. أي: ولا يَعْلم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمور إلا بالوحي. وفي (ط): «ولا تُعْلَمُ إلا بالوحي». (3) وقال ابن تيمية عن الإذكار والإيناث في الحديث: «في صحَّة هذا اللفظ نظر». نقله عنه المصنف في «الطرق الحكمية» (584)، و «إعلام الموقعين» (4/ 269). وانظر: «أيمان القرآن» (511)، و «تحفة المودود» (221)، و «التمهيد» (8/ 335)، و «تفسير القرطبي» (16/ 50). (4) «صحيح البخاري» (318)، و «صحيح مسلم» (2646).

(2/737)


أنس (1)، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله وكَّل بالرَّحم ملَكًا، فيقول: يا ربِّ نطفة (2)، يا ربِّ علقة، يا ربِّ مضغة، فإذا أراد أن يخلقها قال: يا ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ يا ربِّ شقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتَبُ كذلك في بطن أمِّه». أفلا تراهُ كيف أحال بالإذكار والإيناث على مجرَّد المشيئة، وقَرَنه بما لا تأثير للطَّبيعة فيه مدخل؟! أوَلا ترى عبد الله بن سلامٍ لم يسأل إلا عن الشَّبه الذي يمكنُ الجوابُ عنه، ولم يسأل عن الإذكار والإيناث، مع أنه أبلغُ من الشَّبه؟! والله أعلم. وإن كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد قاله فهو عينُ الحقِّ. وعلى كلِّ تقديرٍ فهو يُبْطِلُ ما زعمه بعض الطَّبائعيِّين من معرفة أسباب الإذكار والإيناث، والله أعلم. فصل (3) فانظُر كيف جُعِلت آلاتُ الجماع في الذَّكر والأنثى جميعًا على وَفْق الحكمة. فجُعِلت في حقِّ الذَّكر آلةٌ ناشِزَة (4) تمتدُّ حتى تُوصِل المنيَّ إلى قَعْر _________ (1) في الأصول: «عن أبيه». وهو تحريف. والتصويب من الصحيحين. (2) أي: وَقَعَت في الرحم نطفةٌ. وفي رواية بالنصب، أي: خلقتَ يا رب نطفةً. «فتح الباري» (1/ 498). (3) «الدلائل والاعتبار» (45)، «توحيد المفضل» (17 ــ 18). (4) (ض، ق، ح، ت، ن): «ناشرة»، بالمهملة، أي: منشورة مبسوطة. والوجهان محتملان، والمثبت أقرب. وانظر ما سيأتي (ص: 772).

(2/738)


الرَّحِم، بمنزلة من يناولُ غيرَه شيئًا فهو يَمُدُّ يدَه (1) إليه حتى يُوصِله إياه، ولأنه يحتاجُ إلى أن يقذفَ ماءه في قَعْر الرَّحِم. وأمَّا الأنثى فجُعِل لها وعاءٌ مجوَّف؛ لأنها تحتاجُ إلى أن تقبل ماءَ الرجل وتمسكه وتشتمل عليه؛ فأُعطِيَت آلةً تليقُ بها. ثمَّ لما كان ماءُ الرجل ينحدرُ من أجزاء الجسد رقيقًا ضعيفًا لا يُخلقُ منه الولد، جُعِل له الأُنثَيان وعاءً يُطبخُ فيهما، ويُحْكَمُ إنضاجُه؛ فيشتدُّ (2) وينعقدُ ويصيرُ قابلًا لأن يكون مبدأً للتَّخليق، ولم تحتَجْ المرأةُ إلى ذلك؛ لأنَّ رقَّة مائها ولطافتَه إذا مازجَ غِلَظ ماء الرجل وشدَّتَه قَوِيَ به واستحكم، ولو كان الماآن رقيقَيْن ضعيفَيْن لم يتكوَّن الولدُ منهما. وخُصَّ الرجلُ بآلة النُّضج والطَّبخ لحِكَم: منها: أنَّ حرارته أقوى، والأنثى باردة، فلو أُعطِيَت تلك الآلةَ لم يَسْتَحْكِم طبخُ الماء وإنضاجُه فيها. ومنها: أنَّ ماءها لا يخرجُ عن محلِّه، بل ينزلُ من بين ترائبها إلى محلِّه، بخلاف ماء الرجل، فلو أُعطِيَت المرأةُ تلك الآلة لكانت تحتاجُ إلى آلةٍ أخرى يوصَلُ بها الماءُ إلى محلِّه. ومنها: أنها لمَّا كانت محلًّا للجماع أُعطِيَت من الآلة ما يليقُ بها، فلو أُعطِيَت آلةَ الرجل لم تحصُل لها اللذَّةُ والاستمتاع بها (3)، ولكانت تلك _________ (1) (ق، ن): «يديه». (د): «بدنه». (2) (ح، ن): «ليشتد». (3) «بها» ليست في (ن، ح).

(2/739)


الآلةُ معطَّلةً بغير منفعة، فالحكمةُ التَّامَّةُ فيما وُجِدَت خلقةُ كلٍّ منهما عليه. فصل (1) فارجِع الآن إلى نفسك، وكرِّر النَّظر فيك، فهو يكفيك (2). وتأمَّل أعضاءك وتقديرَ كلِّ عضوٍ منها للأرب والمنفعة المهيَّأ لها: فاليدان للعلاج والبطش، والأخذ والإعطاء، والمحاربة والدَّفع. والرِّجلان لحمل البدن (3)، والسَّعي والرُّكوب، وانتصاب القامة. والعينان للاهتداء، والجمال، والزِّينة، والملاحة، ورؤية ما في السَّموات والأرض وآياتهما وعجائبهما. والفمُ للغذاء، والكلام، والجمال، وغير ذلك. والأنفُ للنفَس، ولإخراج فضلات الدِّماغ، وزينةٌ للوجه. واللسانُ للبيان والتَّرجمة عنك. والأذنان صاحبا الأخبار يؤدِّيانها إليك. فاللسانُ رسولٌ إلى خارج، والأذنان رسولان من خارجٍ إليك؛ فهما يؤدِّيان إليك (4)، واللسانُ يبلِّغُ عنك. والمعدةُ خزانةٌ يستقرُّ فيها الغذاء، فتطبخُه وتنضجُه، وتصلحُه إصلاحًا آخرَ وطبخًا آخرَ غيرَ الإصلاح والطَّبخ الذي تولَّيتَه مِنْ خارج، فأنت تُعاني _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (46)، «توحيد المفضل» (18 - 20). (2) (ت): «ويكفيك». (ن): «وكرر النظر فيك يكفيك». (3) (ح): «لحملان البدن». (ن): «يحتملان البدن». (4) من قوله: «فاللسان رسول ... » إلى هنا ساقط من (ح، ن).

(2/740)


إنضاجَه وطبخَه وإصلاحَه مِنْ خارجٍ (1) حتى تظنَّ أنه قد كَمُل، وأنه قد استغنى عن طبخٍ آخرَ وإنضاجٍ آخر، وطبَّاخُه الدَّاخلُ ومُنْضِجُه يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي أنت إليه ولا تقدرُ عليه؛ فهو يوقدُ عليه نيرانًا تذيبُ الحصى (2) وتذيبُ ما لا تذيبُه النَّار، وهي في ألطف موضعٍ منك، لا تحرقُك ولا تلتهبُ عليك، وهي أشدُّ حرارةً من النَّار، وإلا فما يذيبُ هذه الأطعمة الغليظة الشديدة جدًّا (3) حتى يجعلها ماءً ذائبًا؟! وجَعَل الكبد للتَّخليص وأخذِ صَفْو الغذاء وألطفه، ثمَّ رتَّب منها مجاري وطُرقًا يَسُوقُ بها الغذاء إلى كلِّ عضوٍ وعظمٍ وعَصَبٍ ولحمٍ وشَعرٍ وظُفر. وجَعَل المنافذَ والأبوابَ لإدخال ما ينفعُك وإخراج ما يضرُّك. وجَعَل الأوعيةَ المختلفةَ خزائنَ تحفظُ مادَّة حياتك؛ فهذه خزانةٌ للطَّعام، وهذه خزانةٌ للحرارة، وهذه خزائنُ للدَّم (4)، وجَعَل منها خزائن مؤديات (5) لئلَّا تختلط بالخزائن الأُخر، فجعل خزانةً للمِرَّة السَّوداء، وأخرى للمِرَّة الصَّفراء، وأخرى للبول، وأخرى للمنيِّ. _________ (1) «من خارج» ليست في (ح، ن). (2) (ت): «تذيبه وتذيب الحصى». (3) «جدًّا» ليست في (ق، ت). (4) (ن): «خزانة للدم». (5) كذا في الأصول. ولعلَّها: «مؤدِّيات»، أي: تؤدِّي الدم إلى جهاتٍ أخرى. والجملة معترضة. وقد تكون الكلمة محرفة. أفاده شيخنا الإصلاحي.

(2/741)


فتأمَّل حال الطَّعام في وصوله إلى المعدة، وكيف يَسْري منها في البدن؛ فإنه إذا استقرَّ فيها اشتملت عليه وانضمَّت، فتطبخُه وتجيدُ صَنْعتَه، ثمَّ تبعثُه إلى الكبد في مجارٍ دِقاق، وقد جُعِل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاءٌ (1) كالمِصْفاة الضيِّقة الأبخَاش (2) تصفِّيه، فلا يصلُ إلى الكبد منه شيءٌ غليظٌ خَشِنٌ فينكؤها؛ لأنَّ الكبد رقيقةٌ لا تحملُ الغليظ (3). فإذا قَبِلتْه الكبدُ أنفَذتْه إلى البدن كلِّه في مجارٍ مهيَّأةٍ له بمنزلة المجاري المعدَّة للماء ليسلُك في الأرض فيعُمَّها بالسَّقي، ثمَّ يبعثُ ما بقي من الخَبث والفُضول إلى مغَايِض (4) ومصارف قد أُعِدَّت لها، فما كان مِنْ مِرَّةٍ صفراء بعثَت به إلى المَرارة، وما كان مِنْ مِرَّةٍ سوداء بعثَت به إلى الطُّحال، وما كان من الرُّطوبةِ المائية بعثَت به إلى المَثانة. فمن ذا الذي تولى ذلك كلَّه وأحكمَه ودبَّره وقدَّره فأحسَن تقديرَه؟! وكأني بك أيها المسكينُ تقول: هذا كلُّه مِنْ فعل الطَّبيعة، وفي الطبيعة عجائبُ وأسرار. فلو أراد الله أن يهديَك لسألتَ نفسك بنفسك، وقلتَ: أخبريني عن هذه _________ (1) (ن): «غشاء رقيق». (2) جمع: بخش، بمعنى الثُّقب والمنفذ. وهي عامية سريانية الأصل. انظر: «حياة الحيوان» (1/ 650)، و «البراهين الحسية على تقارض السريانية والعربية» لأغناطيوس يعقوب (65). وتحرفت في (ت، ح). وستأتي (ص: 765). (3) (ر، ض): «لا تحتمل العنف». (4) المواضع التي يغيض فيها الماء، أي: ينزل في الأرض ويغيب فيها. «المعجم الوسيط» (غاض). (ق): «مقايض». وفي بعض نسخ (ض): «مفائض».

(2/742)


الطَّبيعة، أهي ذاتٌ قائمةٌ بنفسها لها علمٌ وقدرةٌ على هذه الأفعال العجيبة، أم ليست كذلك، بل عَرَضٌ وصفةٌ قائمةٌ بالمطبوع تابعةٌ له محمولةٌ فيه؟ فإن قالت لك: بل مِنْ ذاتٍ قائمةٍ بنفسها، لها العلمُ التَّامُّ والقدرةُ والإرادةُ والحكمة. فقل لها: هذا هو الخالقُ الباراءُ المصوِّر، فلِمَ تسمِّينه طبيعةً؟! * وبالله (1) عن ذكر الطَّبائع يُرْغَبُ (2) * فهلَّا سمَّيته بما سمَّى به نفسَه على ألسُن رسله، ودخلْت في جملة العقلاء والسُّعداء؛ فإنَّ هذا الذي وصفْت به الطَّبيعةَ صفتُه تعالى. وإن قالت لك: بل الطَّبيعةُ عَرَضٌ محمولٌ مفتقرٌ إلى حامل، وهذا كلُّه فعلُها بغير علمٍ منها ولا إرادةٍ ولا قدرةٍ ولا شُعورٍ أصلًا، وقد شُوهِد من آثارها ما شُوهِد. فقل لها: هذا ما لا يصدِّقُه ذو عقلٍ سليم، كيف تصدُر هذه الأفعالُ العجيبةُ والحِكَمُ الدَّقيقةُ التي تعجزُ عقولُ العقلاء (3) عن معرفتها وعن القدرة عليها ممَّن لا فِعل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شُعور؟! وهل التَّصديقُ _________ (1) (ح، ن): «ويا لله». ومهملة في (د). (2) شطر بيت ينسبُ لزرارة بن أعين، من أبياتٍ يجوِّز فيها القول بالبداء. وصدره: * وكان كضوءٍ مشرقٍ بطبيعةٍ * انظر: «اللمع» للشيرازي (29)، و «الإحكام» للآمدي (3/ 110)، و «الواضح» لابن عقيل (4/ 199) وغيرها. وفي بعض المصادر: «نرغب»، وفي بعضها: «مرغب». وزيد في الأصول: «فيها» بعد الشطر، ووردت مهملة في (د). (3) (ت): «تعجز العقول».

(2/743)


بمثل هذا إلا دخولٌ في سِلْك المجانين والمُبَرسَمين (1). ثمَّ قل لها بعدُ: ولو ثبت لكِ ما ادَّعيت فمعلومٌ أنَّ مثل هذه الصِّفة ليست بخالقةٍ لنفسها ولا مبدعةٍ لذاتها، فمن ربُّها ومبدعُها وخالقُها؟! ومن طبَّعها وجعلها تفعلُ ذلك؟! فهي إذن مِنْ أدلِّ الدَّلائل (2) على بارئها وفاطرها، وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِ عليك تعطيلُك ربَّ العالم وجحدُك لصفاته وأفعاله إلا مخالفتك لموجَب العقل والفطرة (3). ولو حاكمناك إلى الطَّبيعة لأريناك أنك خارجٌ عن مُوجَبها، فلا أنت مع مُوجَب العقل، ولا الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانيَّة أصلًا، وكفى بذلك جهلًا وضلالًا. فإن رجعتَ إلى العقل، وقلتَ: لا يوجدُ حكمةٌ إلا من حكيمٍ قادرٍ عليم، ولا تدبيرٌ متقنٌ محكَمٌ إلا من صانعٍ قادرٍ مختارٍ مدبِّر، عليمٍ بما يريد (4)، قادرٍ عليه، لا يُعْجِزُه ولا يَصْعُبُ عليه ولا يؤودُه. قيل لك: فقد أقررتَ ــ ويحكَ ــ بالخلَّاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربَّ سواه، فدَع تسميتَه طبيعةً أو عقلًا فعَّالًا أو مُوجِبًا بذاته، وقل: هذا هو الله _________ (1) البِرْسام (بكسر الباء وفتحها): علَّة يهذى فيها. فارسية معرَّبة. انظر: «المعرب» للجواليقي (93)، و «قصد السبيل» (1/ 270). (2) (ق، د، ت): «من أدل الدليل». (3) (ح، ن): «مخالفتك العقل والفطرة». (4) (ت): «يدبره». (ن): «يدبر».

(2/744)


الخالقُ الباراءُ المصوِّرُ ربُّ العالمين، وقيُّومُ السَّموات والأرضين وربُّ المشارق والمغارب الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقه، وأتقنَ ما صنع. فما لك جحدتَ أسماءَه وصفاته، بل وذاتَه، وأضفتَ صُنْعَه إلى غيره وخلقَه إلى سواه، مع أنك مضطرٌّ إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والرُّبوبيَّة والتَّدبير إليه ولا بُدَّ؟! فالحمدُ لله ربِّ العالمين. على أنك لو تأمَّلتَ قولك: «طبيعة» ومعنى هذه اللفظة، لدلَّك على الخالق الباراء لفظُها كما دَلَّ العقولَ عليه معناها (1)؛ لأنَّ «طبيعة» فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي: مطبوعة، ولا يحتَملُ غيرُ هذا (2) البتَّة؛ لأنها على بناء الغرائز التي رُكِّبت في الجسم ووُضِعَت فيه، كالسَّجِيَّة والغريزة والنَّحِيزة (3) والسَّليقة والطَّبيعة؛ فهي التي طُبِع عليها الحيوانُ وطُبِعَت فيه. ومعلومٌ أنَّ طبيعةً مِنْ غير طابعٍ لها محال؛ فقد دلَّ لفظُ الطَّبيعة على الباري تعالى كما دلَّ معناها عليه. والمسلمون يقولون: إنَّ الطَّبيعة خلقٌ مِنْ خَلْق الله مسخَّرٌ مربوب، وهي سنَّته في خليقته التي أجراها عليها، ثمَّ إنه يتصرَّفُ فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلُبها تأثيرَها إذا أراد، ويقلبُ تأثيرَها إلى ضدِّه إذا شاء؛ ليُرِيَ عبادَه أنه _________ (1) هذا الموضع غير محرَّر في الأصول كما ينبغي. (د): «المعقول عليه لمعناها». (ق، ت): «العقول عليه لمعناها». (ح، ن): «ومعنى هذه اللفظة على الخالق الباراء ولفظها كما دل المعقول عليه لمعناها»، إلا أن في (ن): « ... كما دل المعقول عليه هذه اللفظة لمعناها». (2) (ت): «ذلك». (ن، ح): «هذه». (3) تحرَّفت في الأصول إلى: «والبحيرة»، وأهملت في (د).

(2/745)


وحده الخالقُ الباراءُ المصوِّر، وأنه يخلقُ ما يشاءُ كما يشاء، وإنما أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له كُن فيكون، وأنَّ الطَّبيعة التي انتهى نظرُ الخفافيش إليها إنما هي خلقٌ مِنْ خَلْقِه بمنزلة سائر مخلوقاته. فكيف يحسُن بمن له حظٌّ من إنسانيَّةٍ أو عقلٍ أن ينسى من طبَعَها وخلقها ويُحِيل الصُّنعَ والإبداع عليها؟! ولم يزل الله سبحانه يسلُبها قوَّتها ويُحِيلُها ويقلبُها إلى ضدِّ ما جُعِلَت له حتى يُرِيَ عباده أنها خلقُه وصنعُه مسخَّرةٌ بأمره، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. فصل (1) فأعِد النَّظر في نفسك، وتأمَّل حكمةَ اللطيف الخبير في تركيب البدن ووَضْع هذه الأعضاء مواضعَها منه، وإعدادها لما أُعِدَّت له، وإعداد هذه الأوعية المُعَدَّة لحمل الفَضلات وجمعِها لكيلا تنتشر في البدن فتفسده. ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في تنميتك (2) وكثرة أجزائك (3)، مِنْ غير تفكيكٍ ولا تفصيل، ولو أنَّ صانعًا أخذ تمثالًا من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو نُحاسٍ فأراد أن يجعله أكبر مما هو، هل كان يمكنُه ذلك إلا بعد أن يكسِرَه ويصُوغه صياغةً أخرى؟! والربُّ تعالى ينمِّي (4) جسمَ الطِّفل وأعضاءه الظَّاهرة والباطنة وجميعَ أجزائه وهو باقٍ ثابتٌ على شكله وهيئته لا يتزايلُ ولا ينفكُّ _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (47)، «توحيد المفضل» (20 - 21). (2) (ح، ن): «تنميك». (3) يعني: مع كثرة أجزائك. (4) (ح، ن): «يبني».

(2/746)


ولا ينتقص (1). وأعجبُ من هذا كلِّه تصويرُه في الرَّحِم حيثُ لا تراه العيون، ولا تلمسُه الأيدي، ولا تصلُ إليه الآلات؛ فيخرجُ بشرًا سويًّا مستوفيًا (2) لكلِّ ما فيه مصلحتُه وقِوَامُه مِنْ عضوٍ وحاسَّةٍ وآلةٍ من الأحشاء، والجوارح، والحوامل، والأعصاب، والرِّباطات، والأغشية، والعظام المختلفة الشَّكل والقَدْر والمنفعة والموضع، إلى غير ذلك من اللحم والشَّحم والمخِّ، وما في ذلك من دقيق التَّركيب، ولطيف الخِلْقة، وخفيِّ الحكمة، وبديع الصَّنعة. كلُّ هذا صنعُ الله أحسن الخالقين، في قطرةٍ من ماءٍ مهين. وما كرَّر عليك في كتابه مبدأ خَلْقِك وإعادته (3)، ودعاك إلى التفكُّر فيه، إلا لما لك من العبرة والمعرفة. فلا تَسْتَطِل هذا الفصلَ وما فيه من نوع تكرارٍ يشتملُ على مزيد فائدة؛ فإنَّ الحاجة إليه ماسَّة، والمنفعة به عظيمة. فانظُر إلى بعض ما خصَّك به وفضَّلك به على البهائم المهملة، إذ خلقَك على هيئةٍ تنتصبُ قائمًا، وتستوي جالسًا، وتستقبلُ الأشياء ببدنك، وتُقبِلُ عليها بجملتك، فيمكنُك العملُ والصَّلاحُ والتَّدبير (4)، ولو كنت كذوات الأربع المكبوبة على وجهها لم يَظهر لك فضيلةُ التَّمييز _________ (1) (ر): «لا يتزيد ولا يتنقص». (ق): «لا تتزايل ولا تتفكك ولا تنتقص». (2) (ن): «مستويا». (3) (ت): «وأعاده». وهي قراءة محتملة. (4) «والتدبير» ليست في (ق).

(2/747)


والاختصاص، ولم يتهيَّأ منك ما تهيَّأ من هذه النِّصبة (1). قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]؛ فسبحان من ألبَس خِلَع الكرامة كلَّها لبني آدم؛ من العقل، والعلم، والبيان، والنُّطق، والشَّكل، والصُّورة الحسنة، والهيئة الشريفة، والقدِّ المعتدل، واكتساب العلوم بالاستدلال والفِكْر، واقتناص الأخلاق الشريفة الفاضلة من البرِّ والطَّاعة (2) والانقياد؛ فكم بين حاله وهو نطفةٌ داخلٌ إلى الرَّحِم، مستَودَعٌ هناك، وبين حاله والمَلَكُ يدخلُ عليه في جنَّات عَدْن (3)؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين. فالدُّنيا قرية، والمؤمنُ رئيسُها (4)، والكلُّ مشغولٌ به ساعٍ في مصالحه تسخُّرًا وتذليلًا، وهو مشغولٌ بربِّه وخالقه (5)، والكلُّ قد أُقِيم في خدمته وحوائجه؛ فالملائكةُ الذين هم حملةُ عرش الرحمن ومَنْ حوله يستغفرون له، والملائكةُ الموكَّلون به يحفظونه، والموكَّلون بالقَطر والنَّبات يسعَون في _________ (1) وهي «هيئة المتمكن في المكان، كقيامه فيه أو قعوده أو بروكه أو اضطجاعه وما أشبه ذلك». «التقريب لحد المنطق» لابن حزم (4/ 170 - رسائله). وتحرفت في الأصول، (ق): «المنصة». (ح): «النسبية». (ت، د): «المنصبة». (ن): «النسبة». (2) (ق، ت): «بالبر والطاعة». (3) (ت، د، ق): «والملك يدخل به على ربه في جنات عدن». والمثبت أحسن؛ وهو إشارةٌ إلى آية الرعد: 23. (4) (ت): «زينتها». (5) من قوله: «تسخرا» إلى هنا ليس في (ح، ن).

(2/748)


رزقه ويعملون فيه، والأفلاكُ مسخَّرةٌ منقادةٌ دائرةٌ بما فيه مصالحُه، والشمسُ والقمرُ والنُّجومُ مسخَّراتٌ جارياتٌ بحساب أزمنته وأوقاته، وإصلاح رواتب أقواته، والعالمُ الجويُّ مسخَّرٌ له برياحه وهوائه، وسحابه وطيره، وما أُودِع فيه، والعالمُ السُّفليُّ كلُّه مسخَّرٌ له مخلوقٌ لمصالحه؛ أرضُه وجبالُه، وبحارُه وأنهارُه، وأشجارُه وثمارُه، ونباتُه وحيوانُه، وكلُّ ما فيه. كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12 - 13]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34]. فالسَّائرُ (1) في معرفة آلاء الله وتأمُّل حكمته وبديع صَنْعته (2) أطولُ باعًا وأملأُ صُواعًا من اللصيق بمكانه، المقيم في بلد عادته وطبعه، راضيًا بعَيْش بني جنسه، لا يأنفُ لنفسه أن يكون واحدًا منهم، يقول: لي أسوةٌ بهم، * وهل أنا إلا مِنْ ربيعة أو مُضَر (3) * _________ (1) (ن، ق): «فالسير». وفي (ت): «فالستر». (2) (ت): «صفته». وفي (ن): «صفاته». (3) عجز بيتٍ للبيد بن ربيعة، في ديوانه (213)، من أبياتٍ قالها لما حضرته الوفاة، يخاطب ابنتيه. وصدرُه: * تمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما *

(2/749)


وليست نفائسُ البضائع إلا لمن امتطى غاربَ الاغتراب، وطوَّف في الآفاق حتى رَضِيَ من الغنيمة بالإياب، فاستلانَ ما استَوعَره البطَّالون، وأنِسَ بما استَوحش منه الجاهلون. فصل (1) فأعِد النَّظر في نفسك، وحكمة الخلَّاق العليم في خَلْقِك، وانظُر إلى الحواسِّ التي منها تُشْرِفُ على الأشياء، كيف جعلها الله في الرأس (2) كالمصابيح فوق المنارة؛ لتتمكَّن بها من مطالعة الأشياء، ولم تُجْعَل في الأعضاء التي تُمْتَهنُ (3) كاليدين والرِّجلين، فتَعْرِضُ للآفات بمباشرة الأعمال والحركات، ولا جعلها في الأعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظَّهر، فيعسُر عليها التلفُّتُ (4) والاطلاعُ على الأشياء؛ فلما لم يكن لها في شيءٍ من هذه الأعضاء موضعٌ كان الرأسُ أليقَ المواضع بها وأجملها (5)، فالرأسُ (6) صومعةُ الحواسِّ (7). ثمَّ تأمَّل الحكمة في أنْ جعل الحواسَّ خمسًا في مقابلة المحسوسات الخمس؛ ليلقى خمسًا بخمسٍ، كي لا يبقى شيءٌ من المحسوسات لا ينالُه _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (47)، «توحيد المفضل» (21 - 22). (2) (ر): «جعلت في الرأس». (ض): «جعلت العينان في الرأس». (3) (ض): «تحتهن». (4) (ن): «التقلب». (ض): «فيعسر تقلبها». (5) (ت): «وأجلها». (ض): «كان الرأس أسنى المواضع». (6) (ن): «أليق المواضع بها، وجعلها في الرأس». (7) من أمثال المولَّدين. انظر: «مجمع الأمثال» (2/ 101).

(2/750)


بحاسَّة (1). فجعل البصرَ في مقابلة المبصَرات، والسَّمعَ في مقابلة الأصوات، والشَّمَّ في مقابلة أنواع الرَّوائح المختلفات، والذَّوقَ في مقابلة الكيفيَّات المَذُوقات، واللَّمسَ في مقابلة الملموسات. فأيُّ محسوسٍ بقي بلا حاسَّة؟! ولو كان في المحسوسات شيءٌ غير هذه لأعطاك له حاسَّةً سادسة. ولمَّا كان ما عداها إنما يُدْرَكُ بالباطن أعطاك الحواسَّ الباطنة؛ وهي هذه الأخماسُ التي جرت عليها ألسنةُ العامَّة والخاصَّة، حيثُ يقولون للمفكِّر المتأمِّل: «ضَرَبَ أخماسَه في أسداسه»؛ فأخماسُه حواسُّه الخمس، وأسداسُه جهاتُه السِّت (2)، وأرادوا بذلك أنه جَذبه القلبُ وسار به في _________ (1) (ح): «إلا يناله بحاسته». (2) كذا قال المصنف رحمه الله تعالى. وهو تفسيرٌ طريفٌ لاستعمال المتأخرين لهذا المثل في غير موضعه. وإنما هو مثلٌ تضربه العربُ للمماكرة والخِداع. وأصلُه في أوراد الإبل، وهو أن يُظهِرَ الرجلُ أنَّ وِرْدَه سِدْس (وهو أن تُحْبَس عن الماء خمسًا، وترد في اليوم السادس)، وإنما يريد الخِمْس. فيحكى أنَّ رجلًا كان له بنونٌ يرعون مالًا له، ولهم نساء، فكانوا يقولون لأبيهم: إنا نرعى سِدْسًا، فيرعون خِمْسًا، ويسرقون يومًا يأتون فيه نساءهم، وكذلك كانوا يقولون في الخِمْس، فيرعون رِبْعًا ويسرقون يومًا، ففطن لذلك أبوهم، فقال: وذلك ضَرْبُ أخماسٍ أُريدَتْ ... لأسداسٍ عسى ألَّا تكونا فصارت مثلًا في كلِّ مكر. ويقال للذي لا يعرف المكر والحيلة: إنه لا يعرف ضرب أخماسٍ لأسداس، وذلك إذا لم يكن له دهاء. انظر: «جمهرة الأمثال» (2/ 4)، و «المستقصى» (2/ 145)، و «فصل المقال» (1/ 105)، و «مجمع الأمثال» (1/ 283).

(2/751)


الأقطار والجهات حتى قلَّب حواسَّه الخمسَ في جهاته السِّتِّ وضربها فيها (1) لشدَّة فكره. فصل (2) ثمَّ أُعِينَت هذه الحواسُّ بمخلوقاتٍ أُخَر منفصلةٍ عنها تكونُ واسطةً في إحساسها (3)؛ فأُعِينَت حاسَّةُ البصر بالضياء والشُّعاع، فلولاه لم ينتفع النَّاظرُ ببصره، فلو مُنِعَ الضياءَ والشُّعاع لم تنفع (4) العينُ شيئًا. وأُعِينَت حاسَّةُ السَّمع بالهواء يحملُ الأصواتَ في الجوِّ، ثمَّ يلقيه إلى الأذن فتحويه ثمَّ تلقيه إلى القوَّة السَّامعة، ولولا الهواءُ لم يسمع الرَّجلُ شيئًا. وأُعِينَت حاسَّةُ الشمِّ بالنَّسيم اللطيف يحملُ الرائحة، ثمَّ يؤدِّيها إليها، فيدركُها، فلولا هو لم يشمَّ شيئًا. وأُعِينَت حاسَّةُ الذَّوق بالرِّيق المتحلِّل في الفم، تُدْرِكُ القوَّةُ الذَّائقةُ به طُعومَ الأشياء، ولهذا لم يكن له طعمٌ لا حلوٌ ولا حامضٌ ولا مالحٌ ولا حِرِّيف (5)؛ لأنه كان يُحِيلُ (6) تلك الطُّعومَ إلى طعمه فلا يحصلُ به مقصوده. _________ (1) (د، ق): «وضربها فيه». (ح): «وضروبها فيها». (ت): «وضرب فيها». (ن): «وضروبها فيه». ولعل المثبت هو الصواب. (2) «الدلائل والاعتبار» (48)، «توحيد المفضل» (22 - 23). (3) (ت، ح، ن): «أجسامها». وهو تحريف. (4) (ح، ق، ت): «ينفع». وأهمل الحرف الأول في (د). (5) وهو الذي يلذعُ اللسانَ بحرارة مذاقه. «اللسان» (حرف). (6) (ن، ح): «يتحلل». تحريف.

(2/752)


وأُعِينَت حاسَّةُ اللَّمس بقوَّةٍ جعلها الله فيها تُدْرِكُ بها الملموسات، ولم تحتَجْ إلى شيءٍ من خارج، بخلاف غيرها من الحواسِّ، بل تُدْرِكُ الملموسات بلا واسطةٍ بينها وبينها؛ لأنها إنما تدركُها بالاجتماع (1) والملامسة، فلم تحتج إلى واسطة. فصل (2) فتأمَّل (3) حال من عَدِمَ البصر، وما ينالُه من الخلل في أموره، فإنه لا يعرفُ موضعَ قدمه، ولا يبصرُ ما بين يديه، ولا يفرِّقُ بين الألوان والمناظر الحسنة من القبيحة، ولا يتمكَّنُ من استفادة علمٍ من كتابٍ يقرؤه، ولا يتهيَّأ له الاعتبارُ والنَّظرُ في عجائب مُلك الله. هذا مع أنه لا يشعرُ بكثيرٍ من مصالحه ومضارِّه؛ فلا يشعرُ بحفرةٍ يهوي فيها، ولا بحيوانٍ يقصدُه، كالسَّبُع، فيحترزُ منه (4)، ولا بعدوٍّ يهوي نحوه ليقتلَه، ولا يتمكَّنُ من هربٍ إن طُلِبَ (5)، بل هو مُلْقٍ السَّلَم لمن رامه بأذى، ولولا حفظٌ خاصٌّ من الله له قريبٌ من حفظ الوليد وكلاءته لكان عطبُه إليه أقربَ من سلامته؛ فإنه بمنزلة لحمٍ على وَضَم (6)، ولذلك جعل الله ثوابَه إذا _________ (1) (ق، ت): «يدركها الاجتماع». وأهمل حرف المضارعة في (د). (2) «الدلائل والاعتبار» (48)، «توحيد المفضل» (23). (3) (ت): «وأما». (4) (ن، ح): «فيتحرز منه». (5) (ت): «من هرب إذا هرب أو طلب». (6) هذا مثلٌ يضربُ في الانقياد والذُّل، يقال: أضيَعُ من لحمٍ على وَضَم. انظر: «شرح الحماسة» للمرزوقي (207)، و «جمهرة الأمثال» (2/ 3)، و «اللسان» (وضم). والوَضَم: كلُّ شيء يوضع عليه اللحمُ يوقى به من الأرض.

(2/753)


صبر واحتسبَ الجنَّة. ومن كمال لطفه أنْ عَكَس (1) نورَ بصره إلى بصيرته، فهو أقوى النَّاس بصيرةً وحَدْسًا، وجمع عليه همَّه، فقلبُه مجموعٌ عليه غيرُ مشتَّت؛ ليَهْنَأ له العيش، وتتمَّ مصلحتُه، فلا يُظنَّ (2) أنه مغمومٌ حزينٌ متأسِّف. هذا حكمُ من وُلِد أعمى. فأما من أصيبَ بعينيه بعد البصر، فهو بمنزلة سائر أهل البلاء المنتقلين من العافية إلى البليَّة، فالمحنةُ عليه شديدة؛ لأنه قد حِيل بينه وبين ما ألِفَه من المرائي والصُّور ووجوه الانتفاع ببصره؛ فهذا له حكمٌ آخر. وكذلك من عَدِم السَّمع؛ فإنه يفقدُ روحَ المخاطبة والمحاورة، ويَعْدَمُ لذَّة المذاكرة ونَغَمةَ الأصوات الشَّجيَّة، وتعظُم المؤنة على النَّاس في خطابه (3)، ويتبرَّمون به، ولا يسمعُ شيئًا من أخبار النَّاس وأحاديثهم، فهو بينهم شاهدٌ كغائب، وحيٌّ كميِّت، وقريبٌ كبعيد. وقد اختلف النُّظَّارُ في أيهما أقربُ (4) إلى الكمال وأقلُّ اختلالًا لأموره: الضريرُ أو الأطرش؟ (5) وذكروا في ذلك وجوهًا (6). _________ (1) (ح): «عطف». (2) (ح): «ولا يظن». (3) (ض): «محاورته». (4) (ت): «أفضل وأقرب». (5) الطَّرَشُ هو الصَّمم. وقيل: أهونُ الصَّمم. والكلمة مولَّدة، على المشهور. وقيل بعربيَّتها. انظر: «المعرب» للجواليقي (272)، و «تاج العروس» (طرش). (6) انظر: «البصائر والذخائر» (7/ 227).

(2/754)


وهذا مبنيٌّ على أصلٍ آخر؛ وهو: أيُّ الصِّفتين أكمل: صفةُ السَّمع أو صفةُ البصر؟ وقد ذكرنا الخلافَ فيهما فيما تقدَّم من هذا الكتاب (1)، وذكرنا أقوال النَّاس وأدلَّتهم والتَّحقيقَ في ذلك (2)، فأيُّ الصِّفتين كانت أكمل فالضررُ بعدمها أقوى. والذي يليقُ بهذا الموضع أن يقال: عادمُ البصر أشدُّهما ضررًا، وأسلمُهما دِينًا، وأحمدُهما عاقبة، وعادمُ السَّمع أقلُّهما ضررًا في دنياه، وأجهلُهما بدينه، وأسوؤهما عاقبة؛ فإنه إذا عَدِم السَّمعَ عَدِم المواعظ والنَّصائح، وانسدَّت عليه أبوابُ العلوم النَّافعة، وانفتحت له (3) طرقُ الشَّهوات التي يدركُها البصر، ولا ينالُه من العلم ما يكفُّه عنها، فضررُه في دينه أكثر، وضررُ الأعمى في دنياه أكثر. ولهذا لم يكن في الصَّحابة أطرش، وكان فيهم جماعةٌ أضرَّاء، وقلَّ أن يبتلي الله أولياءه بالطَّرَش، ويبتلي كثيرًا منهم بالعمى. هذا فصلُ الخطاب في هذه المسألة؛ فمضرَّةُ الطَّرَش في الدِّين، ومضرَّةُ العمى في الدنيا، والمعافى من عافاه الله منهما ومتَّعه بسمعه وبصره وجَعَله الوارثَ منه (4). _________ (1) (ص: 288 - 292). (2) (ح، ن): «وأدلة التحقيق في ذلك». (3) (ح، ن): «واتضح له». (ق، ت): «وانفتح له». (4) أي: جعل البصر (أو المذكور، من السمع والبصر) آخرَ ما يخرجُ منه، فيبقى ممتَّعًا به إلى أن تفارقه روحُه؛ فيكون هو الوارث لجوارحه، الباقي بعدها. انظر: «غريب الحديث» للخطابي (1/ 343)، و «نوادر الأصول» (3/ 105).

(2/755)


فصل وأما من عَدِم البيانَيْن: بيانَ القلب وبيانَ اللسان (1)، فذلك بمنزلة الحيوانات البهيميَّة، بل هي أحسنُ حالًا منه؛ فإنَّ فيها ما خُلِقَت له من المنافع والمصالح التي تُستعملُ فيها، وهذا يجهلُ كثيرًا مما تهتدي إليه البهائم، ويُلْقِي نفسَه فيما تكفُّ البهائمُ أنفسَها عنه. وإن عَدِم بيانَ اللسان دون بيان القلب عَدِم خاصَّةَ الإنسان، وهي النُّطق، واشتدَّت المؤنةُ به وعليه، وعَظُمَت حسرتُه، وطال تأسُّفه على ردِّ الجواب ورَجْع الخطاب، فهو كالمُقْعَد الذي يرى ما هو محتاجٌ إليه ولا تمتدُّ إليه يدُه ولا رجلُه. فكم لله على عبده من نعمةٍ سابغةٍ في هذه الأعضاء والجوارح والقُوى والمنافع التي فيه (2)، فهو لا يلتفتُ إليها ولا يشكرُ الله عليها، ولو فقد شيئًا منها لتمنَّى أنه له بالدُّنيا وما عليها؛ فهو يتقلَّبُ في نعم الله بسلامة أعضائه وجوارحه وقُواه وهو عارٍ مِنْ شُكرها، ولو عُرِضت عليه الدُّنيا بما فيها بزوال واحدةٍ منها لأبى المعاوضةَ وعَلِم أنها معاوضةُ غَبْنٍ؛ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. فصل (3) ثمَّ تأمَّل حكمتَه في الأعضاء التي خُلِقَت فيك آحادًا ومثنى وثُلاث _________ (1) (ر، ض): «فأما من عدم العقل». (2) (ح): «فيها». (3) «الدلائل والاعتبار» (50)، «توحيد المفضل» (24 - 25).

(2/756)


ورُباع، وما في ذلك من الحِكَم البالغة. فالرَّأسُ واللسانُ والأنفُ والذَّكَرُ خُلِق كلٌّ منها واحدًا فقط، ولا مصلحة في كونه أكثر من ذلك، ألا ترى أنه لو أضيف إلى الرَّأس رأسٌ آخرُ لأثقلا بدنَه من غير حاجةٍ إليه؛ لأنَّ جميع الحواسِّ التي يحتاجُ إليها مجتمعةٌ في رأسٍ واحد، ثمَّ إنَّ الإنسان كان ينقسمُ برأسيه قسمين، فإن تكلَّم من أحدهما وسَمِع به وأبصر وشَمَّ وذاق بقي الآخرُ معطَّلاً لا أَرَبَ فيه، وإن تكلَّم وأبصر وسمع بهما معًا كلامًا واحدًا وسمعًا واحدًا وبصرًا واحدًا كان الآخرُ فضلةً لا فائدة فيه، وإن اختلف إدراكُهما اختلفت عليه أحوالُه وإدراكاتُه. وكذلك لو كان له لسانان في فمٍ واحد، فإن تكلَّم بهما كلامًا واحدًا كان أحدهما ضائعًا، وإن تكلَّم بأحدهما دون الآخر فكذلك، وإن تكلَّم بهما معًا كلامَيْن مختلفَيْن خَلَط على السَّامع ولم يَدْرِ بأيِّ الكلامين يأخذ. وكذلك لو كان له هَنَوانِ (1) أو فَمَانِ لكان ــ مع قُبح الخِلْقة ــ أحدُهما فضلةً لا منفعة فيه. وهذا بخلاف الأعضاء التي خُلِقت مثنى، كالعينين والأذنين والشَّفتين واليدَيْن والرِّجلين والسَّاقين والفَخِذين والوَرِكين والثَّديين؛ فإنَّ الحكمة فيها ظاهرة، والمصلحة فيها بيِّنة (2)، والجمال والزِّينة عليها بادية، فلو كان الإنسانُ بعينٍ واحدةٍ لكان مشوَّه الخِلقة ناقِصَها، وكذلك الحاجبان. وأما اليدان والرِّجلان والسَّاقان والفَخِذان فتعدُّدهما ضروريٌّ للإنسان _________ (1) مثنى «هَن»، بتخفيف النون، كنايةٌ عن الفَرْج. (2) (ح، ن): «والمصلحة بادية بينة».

(2/757)


لا تتمُّ مصلحتُه إلا بذلك، ألا ترى من قُطِعَت إحدى يديه أو رجليه كيف يبقى حالُه وعجزُه؛ فلو أنَّ النَّجَّار والخيَّاط والحدَّاد والخبَّاز والبنَّاء وأصحابَ الصَّنائع التي لا تتأتَّى إلا باليدين شُلَّت يدُ أحدِهم (1) لتعطَّلت عليه صنعتُه؛ فاقتضت الحكمةُ أن أُعطِيَ مِنْ هذا الضَّرب من الجوارح والأعضاء اثنين اثنين. وكذلك أُعطِيَ شفتَيْن لأنه لا تكمُل مصلحتُه إلا بهما، وفيهما ضروبٌ عديدةٌ من المنافع ومن الكلام والذَّوق وغطاء الفَم والجمال والزِّينة والقُبلة وغير ذلك. وأمَّا الأعضاءُ الثلاثية (2)، فهي جوانبُ أنفه وحيطانُه الثلاثة (3)، وقد ذكرنا حكمةَ ذلك فيما تقدَّم (4). وأما الأعضاءُ الرُّباعيةُ، فالكِعابُ الأربعةُ التي هي مَجْمَعُ القدمين، والممسِكةُ لهما، وبهما قوَّةُ القدمين وحركتُهما، وفيهما منافعُ السَّاقين. وكذلك أجفانُ العينين الأربعة، فيها من الحِكَم والمنافع أنها غطاءٌ للعينين، ووقايةٌ لهما، وجمالٌ وزينة، وغيرُ ذلك من الحِكَم. فاقتضت الحكمةُ البالغةُ أن جُعِلت الأعضاءُ على ما هي عليه من العَدَد والشَّكل والهيئة، فلو زادت أو نقصت لكان نقصًا في الخِلقة. _________ (1) (ح، ن): «أحدهما». وهو خطأ. (2) في الأصول: «الثلاثة». والأولى ما أثبت. (3) «الثلاثة» ليست في (ح، ن). (4) (ص: 545).

(2/758)


ولهذا يوجدُ في النَّوع الإنسانيِّ مِنْ زائدٍ في خَلْقِه (1) وناقصٍ منه ما يدلُّ على حكمة الربِّ تعالى، وأنه لو شاء لجعل خلقَه كلَّهم هكذا، وليَعْلَم الكاملُ الخِلقة تمامَ النِّعمة عليه، وأنه خُلِق خلقًا سويًّا معتدلًا، لم يُزَد في خَلْقه ما لا يحتاجُ إليه، ولم يُنْقَص منه ما يحتاجُ إليه كما يراه في غيره، فهو أجدرُ أن يزداد شكرًا وحمدًا لربِّه، ويعلم أنَّ ذلك ليس مِنْ صُنع الطَّبيعة، وإنما ذلك صنعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، وأنه يخلقُ ما يشاء. فصل (2) مِنْ أين للطَّبيعة هذا الاختلافُ والفَرقُ الحاصلُ في النَّوع الإنسانيِّ بين صُوَرهم؟! فقلَّ أن ترى اثنين متشابهين (3) من كلِّ وجه، وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان، كالنَّعم والوحوش والطَّير وسائر الدَّوابِّ؛ فإنك ترى السِّربَ من الظِّباء، والثُّلَّة من الغنم، والذَّوْد من الإبل، والصُّوار من البقر (4)، تتشابهُ حتى لا يفرَّق بين أحدٍ منها وبين الآخر إلا بعد طول تأمُّلٍ أو بعلامةٍ ظاهرة، والنَّاسُ مختلفةٌ صُوَرهم وخلقُهم (5)، فلا يكادُ اثنان منهم يجتمعان في صفةٍ واحدةٍ وخِلقةٍ واحدة بل ولا صوتٍ واحدٍ (6) _________ (1) (ت): «خلقته». (2) «الدلائل والاعتبار» (65)، «توحيد المفضل» (46). (3) (ح، ن): «يرى اثنان متشابهان». (4) انظر: «فقه اللغة» للثعالبي (2/ 372، 375، 376، 377). (5) كذا في الأصول و (ض)، سوى (ح): «وخلقتهم». (6) (ن): «ولا صورة واحدة».

(2/759)


وحنجرةٍ واحدة (1). والحكمةُ البالغةُ في ذلك أنَّ النَّاس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحِلاهم (2)؛ لما يجري بينهم من المعاملات، فلولا الفرقُ والاختلافُ في الصُّوَر لفسدت أحوالهم، وتشتَّت نظامُهم، ولم يُعرَف الشاهدُ من المشهود عليه، ولا المَدِينُ من ربِّ الدَّين، ولا البائعُ من المشتري، ولا كان الرَّجلُ يعرفُ عِرْسَه (3) من غيرها عند الاختلاط (4)، ولا هي تعرفُ بعلَها من غيره. وفي ذلك أعظمُ الفساد والخلل. فمن الذي ميَّز بين حِلاهم وصُوَرهم وخلقهم (5) وأصواتهم، وفرَّق بينها بفروقٍ لا تنالها العبارةُ ولا يدركُها الوصف؟! فسَل المعطِّل: أهذا فعلُ الطَّبيعة؟! وهل في الطَّبيعة اقتضاءُ هذا الاختلاف والافتراق (6) في النَّوع؟! وأين قولُ الطَّبائعيِّين: إنَّ فعلها متشابهٌ لأنها واحدةٌ في نفسها، لا تفعلُ بإرادةٍ ولا مشيئة، فلا يمكنُ اختلافُ أفعالها؟! فكيف يجمعُ المعطِّل بين هذا وهذا؟! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. _________ (1) انظر: «الطرق الحكمية» (603). (2) خِلقتهم وصُوَرُهم. جمع «حِلية». «اللسان» (حلا). (3) العِرْس: الزوج، يقال: هو عِرْسُها، وهي عِرْسُه. «اللسان» (عرس). (4) (ح، ن): «للاختلاط». (5) ليست في (ح، ن). (6) (ت): «والاقتران».

(2/760)


وربَّما وقع في النَّوع الإنسانيِّ تشابهٌ بين اثنين لا يكادُ يميَّز بينهما، فتعظُم عليهم المؤنةُ في معاملتهما، وتشتدُّ الحاجةُ إلى تمييز المستحقِّ منهما والمؤاخَذ بذنبه ومن عليه الحقُّ (1)، وإذا كان يَعْرِضُ هذا في التَّشابه في الأسماء كثيرًا، ويلقى الشاهدُ والحاكمُ من ذلك ما يلقى، فما الظنُّ لو وُضِعَ التشابُه (2) في الخِلقة والصُّورة؟! ولمَّا كان الحيوانُ البهيمُ والطَّيرُ والوحوشُ لا يضرُّها هذا التَّشابهُ شيئًا لم تَدْعُ الحكمةُ إلى الفرق بين كلِّ زوجين منها. فتبارك الله أحسنُ الخالقين، الذي وسعت حكمتُه كلَّ شيء. فصل (3) ثمَّ تأمَّل لم صارت المرأةُ والرجلُ إذا أدركا اشتركا في نبات العانة، ثمَّ ينفردُ الرجلُ عن المرأة باللِّحية؟ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لمَّا جعل الرجل قيِّمًا على المرأة، وجعلها كالخَوَل له والعاني في يديه (4)، ميَّزه عليها بما فيه له المهابةُ والعزُّ والوقارُ والجلالة؛ لكماله وحاجته إلى ذلك، ومُنِعَتها المرأةُ لكمال الاستمتاع بها والتلذُّذ؛ _________ (1) (ق، ت، د): «وأن عليه الحق». (2) (ن): «لو وقع التشابه». (3) «الدلائل والاعتبار» (65)، «توحيد المفضل» (49). (4) الخَوَل: العبيد والإماء وغيرُهم من الحاشية. والعاني: الأسير. وفي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء في خطبة حجة الوداع: «واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هنَّ عوانٍ عندكم». أخرجه الترمذي (1163) وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. ومعنى قوله عوانٍ عندكم يعني: أسرى في أيديكم».

(2/761)


لتبقى (1) نضارةُ وجهها وحُسْنُه لا يَشِينُه الشَّعر. واشتركا في سائر الشُّعور للحكمة والمنفعة التي فيها. فصل (2) ثمَّ تأمَّل (3) هذا الصَّوتَ الخارجَ من الحلق وتهيئةَ آلاته، والكلامَ وانتظامَه، والحروفَ ومخارجَها وأدواتها ومقاطعَها وأجراسَها= تجد الحكمةَ الباهرة في هواءٍ ساذَجٍ يخرجُ من الجوف، فيسلكُ في أنبوبة الحنجرة، حتى ينتهي إلى الحلق واللسان والشفتين والأسنان، فيحدثُ له هناك مقاطعُ ونهاياتٌ وأجراس، يُسْمَعُ له عند كلِّ مقطعٍ ونهايةٍ جَرْسٌ متميزٌ منفصلٌ عن الآخر، يحدثُ بسببه الحرف (4). فهو صوتٌ واحدٌ ساذَجٌ يجري في قَصَبةٍ واحدةٍ حتى ينتهي إلى مقاطع وحدودٍ تُسمَعُ له منها تسعةٌ وعشرون جَرْسًا، يدورُ عليها الكلامُ كلُّه: أمرُه ونهيُه، وخبرُه واستخبارُه، ونظمُه ونثرُه، وخطبُه ومواعظُه وفصولُه. فمنه المضحِك، ومنه المبكِي، ومنه المُؤْيِس، ومنه المُطْمِع، ومنه المخوِّف، ومنه المرجِّي، والمسلِّي، والمُحْزِن، والقابضُ للنَّفس والجوارح، والمنشِّطُ لهما، والذي يُسْقِمُ الصَّحيحَ ويُبرِاءُ السَّقيم، ومنه ما يزيلُ النِّعمَ ويُحِلُّ النِّقم، ومنه ما يُستَدفعُ به البلاء، ويُستَجلبُ به النَّعماء، _________ (1) (ح، ن): «ليبقى». (2) «الدلائل والاعتبار» (50)، «توحيد المفضل» (25). (3) «ثم» ليست في (د، ق، ح، ن). (4) (ح): «تحدث بسبب الحروف». (ت): «يحدث شبيه الحرف».

(2/762)


ويستمالُ به القلوبُ، ويؤلَّفُ (1) بين المتباغضين، ويُوالى بين المتعاديين، ومنه ما هو بضدِّ ذلك، ومنه الكلمةُ التي لا يلقي لها صاحبُها بالًا يهوي بها في النَّار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب، والكلمةُ التي لا يلقي لها بالًا صاحبُها يَرْكُض بها في أعلى عِلِّيِّين في جوار ربِّ العالمين. فسبحان من أنشأ ذلك كلَّه من هواءٍ ساذَجٍ يخرجُ من الصَّدر، لا يدري ما يرادُ به، ولا أين ينتهي، ولا إلى أين مستقرُّه! هذا إلى ما في ذلك من اختلاف الألسنة واللُّغات التي لا يحصيها إلا الله عزَّ وجل، فيجتمعُ الجمعُ من النَّاس من بلادٍ شتَّى فيتكلَّمُ كلٌّ منهم بلُغَته، فتسمعُ لغاتٍ مختلفةً (2) وكلامًا منتظمًا مؤلَّفًا، ولا يدرِكُ كلٌّ منهم ما يقولُ الآخر. واللسانُ الذي هو جارحةٌ واحدٌ في الشَّكل والمنظر، وكذلك الحلقُ والأضراسُ والشَّفتان، والكلامُ مختلفٌ متفاوتٌ أعظمَ اختلاف (3)، فالآيةُ في ذلك كالآية في الأرض التي تسقى بماءٍ واحد، ويخرجُ من ذلك من أنواع النَّبات والأزهار والحبوب والثمار تلك الأنواعُ المختلفةُ المتباينة. ولهذا أخبر الله سبحانه في كتابه أنَّ في كلٍّ منهما آياتٍ (4)؛ فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ _________ (1) (ت): «ويتألف». (2) (ت): «فيتكلم كل منهم بكلام بلغته فيسمع كلامًا بلغات شتى مختلفة». (3) (ح، ن): «أعظم تفاوت». (4) (ن، ح): «آيات للعالمين».

(2/763)


لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. فانظر الآن إلى الحَنجَرة، كيف هي كالأنبوب لخروج الصَّوت، واللسانُ والشَّفتان والأسنانُ لصياغة (1) الحروف والنَّغَمات. ألا ترى أنَّ من سقطت أسنانُه لم يُقِم الحروفَ التي تخرجُ منها ومن اللسان، ومن نقصت شفتُه كيف لم يُقِم الحروفَ الشفهيَّة (2)، ومن ثقُل لسانُه (3) كيف لم يُقِم الرَّاء واللام والذال، ومن عرضت له آفةٌ في حلقه كيف لم يتمكَّن من الحروف الحلقيَّة؟! وقد شبَّه أصحابُ التَّشريح مخرجَ الصَّوت بالمزمار، والرِّئةَ بالزِّقِّ الذي يُنفَخُ به (4) مِنْ تحته ليدخل الرِّيح فيه، والعضلات (5) التي تَقْبِض (6) على الرِّئة ليخرجَ الصَّوتُ من الحَنجَرة بالأكُفِّ (7) التي تقبض على الزِّقِّ حتى يخرجَ الهواءُ في القَصَبة، والشفتين والأسنانَ واللسانَ التي تَصُوغُ الصَّوتَ _________ (1) (ت): «لصناعة». (ح، ن): «بصياغة». (2) (ض): «لم يصحح الفاء». (ر): «من تقضب شفته لم يصح الفاء». (3) (ت): «نقص لسانه». (4) (ت، ق): «فيه». والزِّقُّ: وعاءٌ من جِلد. (5) في الأصول: «والفضلات». تحريف. والتصويب من (ر، ض). وانظر: «شرح تشريح القانون» لابن النفيس (54، 63، 122، 130، 284). (6) (ق، ت): «تفيض». (7) (ض): «بالأصابع».

(2/764)


حروفًا ونَغَمًا بالأصابع التي تختلفُ على المزمار فتصوغُه ألحانًا، والمقاطعَ التي ينتهي إليها الصَّوتُ (1) بالأبخاش (2) التي في القَصَبة، حتى قيل: إنَّ المزمار إنما اتُّخِذ على مثال ذلك من الإنسان (3). فإذا تعجَّبتَ من الصِّناعة التي تعملُها أكُفُّ النَّاس حتى تخرجَ منها تلك الأصوات، فما أحراكَ بطول التَّعجُّب من الصِّناعة الإلهيَّة التي أخرجت تلك الحروفَ والأصوات منك، من اللحم والدَّم والعُروق والعظام، ويا بُعْد ما بينهما! ولكنَّ المألوفَ المعتاد لا يقعُ عند النُّفوس موقعَ التَّعجُّب، فإذا رأت ما لا نسبة له إليه أصلًا إلا أنه غريبٌ عندها تلقَّته بالتَّعجُّب وتسبيح الرَّبِّ تعالى (4)، وعندها من آياته العجيبة الباهرة ما هو أعظمُ من ذلك مما لا يدركُه القياس. ثمَّ تأمَّل اختلاف هذه النَّغَمات، وتبايُن هذه الأصوات، مع تشابه الحناجر والحُلُق (5) والألسنة والشِّفاه والأسنان، فمن الذي ميَّز بينها أتمَّ تمييزٍ مع تشابهِ محالِّها سوى الخلَّاق العليم؟! فصل (6) وفي هذه الآلات مآربُ أخرى ومنافعُ سوى منفعة الكلام: _________ (1) «تنتهي إليها الأصوات». (2) الثقوب والمنافذ. وفي (ح): «بالأنجاش». وانظر ما تقدم (ص: 742). (3) انظر: «الموسيقى الكبير» للفارابي (79، 80). (4) انظر: «الإحياء» (4/ 437)، و «مجموع الفتاوى» (11/ 379). (5) جمع حَلْق. وهي لغةٌ عزيزة، كما في «اللسان» (حلق). (6) «الدلائل والاعتبار» (51)، «توحيد المفضل» (26 - 27).

(2/765)


ففي الحَنجَرة مسلكُ النَّسيم البارد الذي يروِّحُ عن الفؤاد (1) بهذا النَّفَس الدَّائم المتتابع. وفي اللسان منفعةُ الذَّوق، فيُذاقُ به الطُّعوم، ويُدْرِكُ لذَّتها، ويميِّز به بينها، فيعرفُ حقيقة كلِّ واحدٍ منها، وفيه مع ذلك معونةٌ (2) على إساغَة الطَّعام وأنه يَلُوكه ويقلِّبه حتى يسهُل مسلكُه في الحَلْق. وفي الأسنان من المنافع ما هو معلومٌ مِنْ تقطيع الطَّعام كما تقدَّم، وفيها إسنادُ الشَّفتين وإمساكهما عن الاسترخاء وتشويه الصُّورة، ولهذا ترى من سقطت أسنانُه كيف تسترخي شفتاه. وفي الشَّفتين منافعُ عديدة، يُرْشَفُ بهما الشرابُ حتى يكون الدَّاخلُ منه إلى حَلْقِه بقَدَرٍ، فلا يَشْرَقُ به الشَّارب وينكأ جوفَه (3). ثمَّ هما بابٌ مغلقٌ على الفم الذي إليه ينتهي ما يخرجُ من الجوف، ومنه يبتدي ما يَلِجُ فيه، فهما غطاءٌ وطابَقٌ عليه، يفتحُهما البوَّابُ متى شاء، ويغلقُهما إذا شاء، وهما أيضًا جمالٌ وزينةٌ للوجه، وفيهما منافعُ أخرُ سوى ذلك. وانظُر إلى من سقطت شَفَتاه ما أشوهَ منظرَه! فقد بان أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأعضاء يتصرَّفُ إلى وجوهٍ شتَّى من المنافع والمآرب والمصالح كما تتصرَّفُ الأداةُ الواحدةُ في أعمالٍ شتَّى. _________ (1) (ن، ح): «على الفؤاد». (2) (ح، ن): «وفي ذلك مع معونته». (3) (ق): «يتكامل قوته». (د): «ويتكا قوته». (ت): «ويتكافونه». وسقطت من (ح، ن). والعبارة في (ر): «حتى يكون الذي يدخل منه بقصد وقدر لا يثج ثجًّا فيغص به الشارب وينكأ في الجوف». وفي (ض) نحوها.

(2/766)


هذا؛ ولو رأيتَ الدِّماغَ وكُشِفَ لك عن تركيبه وخَلْقِه لرأيتَ العجبَ العُجاب، ولكُشِفَ لك عن تركيبٍ يَحارُ فيه العقل، قد لُفَّ (1) بحُجُبٍ وأغشيةٍ بعضها فوق بعض؛ لتصُونه عن الأعراض، وتحفظه عن الاضطراب. ثمَّ أطبِقَت عليه الجمجُمة بمنزلة الخُوذَة وبَيْضة الحديد (2)؛ لتقيه حدَّ الصَّدمة والسَّقطة والضَّربة التي تصلُ إليه، فتتلقَّاها تلك البيضةُ عنه، بمنزلة التي على رأس المحارب. ثمَّ جُلِّلت تلك الجمجمةُ بالجِلد الذي هو فروةُ الرَّأس تستُر العظمَ من البُروز للمؤذيات. ثمَّ كُسِيَت تلك الفروةُ حُلَّةً من الشَّعر الوافر وقايةً لها وسترًا من الحرِّ والبرد والأذى وجمالًا وزينةً له. فسَل المعطِّل: من الذي حصَّن الدِّماغ هذا التَّحصين (3)، وقدَّره هذا التقدير، وجعله خِزانةً أودع فيها من المنافع والقوى والعجائب ما أودعَه، ثمَّ أحكَم سدَّ تلك الخزانة، وحصَّنها أتمَّ تحصين، وصانها أعظم صيانة، وجعلها مَعْدِن الحواسِّ والإدراكات؟! ومن الذي جعل الأجفانَ على العينين كالغِشاء، والأشفارَ كالأشراج (4)، _________ (1) (ح، ن): «كف». (2) الخُوذة وبيضة الحديد: المِغْفَر الذي يجعلُ على رأس المحارب. (3) (ت): «من الذي خص الدماغ هذا التخصيص». (4) الأشفار: جمع شَفْر، وشَفْر الجفن: حرفُه الذي ينبت عليه الهُدْب. والأشراج: جمع شَرَج، وهي عُرا الخِباء ونحوه، وعروة الثوب: مدخلُ زِرِّه. «اللسان» (شفر، شرج، عري). ولم تحرر في الأصول. (د): «كالأشراح». (ن، ح): «كالأسراج». (ق): «كالأسراح». (ت): «كالسراج». والمثبت من (ر، ض)، ووجهُ التشبيه عليه ظاهر.

(2/767)


والأهدابَ (1) كالرُّفوف عليها إذا انفتحت؟! ومن الذي ركَّب طبقاتها المختلفة طبقةً فوق طبقةٍ حتى بلغت عدد السَّموات سبعًا، وجعل لكلِّ طبقةٍ منفعةً وفائدة، فلو اختلَّت طبقةٌ منها لاختلَّ البصر؟! ومن شقَّهما في الوجه أحسنَ شقٍّ (2)، وأعطاهما أحسنَ شكل، وأودع الملاحةَ فيهما، وجعلهما مِرآةً للقلب، وطليعةً وحارسًا للبدن، ورائدًا يرسلُه كالجُنْد في مهمَّاته، فلا يتعبُ ولا يَعْيَا (3) على كثرة ظعنه وطول سفره؟! ومن أودع النُّور الباصر فيه في قَدْر جِرْم العَدَسَة، فيرى به السَّموات والأرض والجبال والشمس والقمر والبحار والعجائب مِنْ داخل سبع طبقات، وجعلهما في أعلى الوجه بمنزلة الحارس على الرَّابية العالية ربيئةً (4) للبدن؟! ومن حجب المَلِك في الصَّدر، وأجلسه هناك على كرسيِّ المملكة، وأقام جُنْدَ الجوارح والأعضاء والقُوى الباطنة والظَّاهرة في خدمته، وذلَّلها له، فهي مؤتمِرةٌ إذا أمرها، منتهيةٌ إذا نهاها، سامعةٌ له مطيعة، تكدَحُ وتسعى في مرضاته، فلا تستطيعُ له خلافًا (5)، ولا خروجًا عن أمره. _________ (1) جمع هُدْب، وهو شعر أشفار العين. «اللسان» (هدب). (2) (ت، ق، د): «أحسن شيء». (3) (ق): «ولا يعنى». (4) (ن): «زينة». وانظر ما مضى (ص: 750). (5) (ن، ت، ح): «خلاصًا». وهو تحريف.

(2/768)


فمنها رسولُه، ومنها بَرِيدُه، ومنها تُرجُمانه، ومنها أعوانُه وخَدَمُه (1) وكلٌّ منها على عملٍ لا يتعدَّاه ولا يتصرَّفُ (2) في غير عمله، حتى إذا أراد الرَّاحة أوعَز إليها بالهدوء والسُّكون ليأخذ المَلِكُ راحتَه، فإذا استيقظ من منامه قامت جنودُه بين يديه على أعمالها، وذهبت حيثُ وجَّهها دائمًا لا تفتُر. فلو شاهدتَه في محلِّ مُلكه، والأشغالُ والمراسيمُ صادرةٌ عنه وواردة، والعساكرُ في خدمته، والبُرُدُ (3) تتردَّدُ بينه وبين جُنده ورعيَّته؛ لرأيتَ له شأنًا عجيبًا! فماذا فات الجاهلَ الغافل من العجائب والمعارف والعِبَر التي لا يحتاجُ فيها إلى طول الأسفار وركوب القِفار! قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]؛ فدعا عبادَه إلى التفكُّر في أنفسهم، والاستدلال بها على فاطرها وباريها، ولولا هذا لم نوسِّع الكلام في هذا الباب، ولا أطلنا النَّفَس إلى هذه الغاية (4)، ولكنَّ العبرة بذلك حاصلة، والمنفعة به عظيمة، والفكرة فيه مما يزيدُ المؤمنَ إيمانًا. فكم دون القلب مِنْ حَرَس! وكم له مِنْ خادم! وكم له مِنْ عبد ولا يشعُر به! ولله ما خُلِقَ له، وهُيِّاء له، وأُريد منه، وأُعِدَّ له من الكرامة والنَّعيم أو الهوان والعذاب! فإمَّا على سرير المُلك في مقعد صِدْقٍ عند مليكٍ _________ (1) «وخدمه» ليست في (ح، ن). (2) (د، ق، ن): «ينصرف». (3) جمع بريد، وهو الرسول. «اللسان». (4) (ت): «الغايات».

(2/769)


مقتدر، ينظرُ إلى وجه ربِّه ويسمعُ خطابَه، وإمَّا أسيرٌ في السِّجن الأعظم بين أطباق النِّيران في العذاب الأليم. فلو عَقَل هذا السُّلطانُ ما هُيِّاء له لضَنَّ بمُلكه، ولسعى في المُلك الذي لا ينقطعُ ولا يبيد، ولكنَّه ضُرِبَت عليه حُجُبُ الغفلة، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا. فصل (1) * من جعل (2) في الحلق منفذين: أحدهما: للصَّوت وللنَّفَس الواصل إلى الرِّئة (3). والآخر: للطَّعام والشراب، وهو المريءُ الواصلُ إلى المعدة. وجَعَل بينهما حاجزًا يمنعُ عُبورَ أحدهما في طريق الآخر، فلو وَصَل الطَّعامُ من منفذ النَّفَس إلى الرِّئة لأهلك الحيوان؟! * من جعل الرِّئة مِرْوحةً للقلب تروِّحُ عليه لا تَنِي ولا تفتُر، لكيلا تنحصر (4) الحرارةُ فيه فيهلك؟! * من جعل المنافذ لفضلات الغذاء، وجعل لها أشراجًا (5) تضبطها (6) _________ (1) «الدلائل والاعتبار» (52)، «توحيد المفضل» (28 - 34). (2) (ن): «تأمل من جعل». (3) (ر): «وهو الحلقوم الواصل إلى الرئة». (4) (ر): «تخل». (ض): «تتحير». وفي نسخة: «تتحيز». (5) في الأصول: «أسراجا»، بالمهملة. والمثبت من (ر، ض). جمع شَرْج، وهو مجرى الماء، ومجمع حلقة الدبر. والشَّرَج: عرى الخباء. «المصباح المنير». (6) (د، ق): «يضبطها». (ر): «يضمها ويضبطها». (ح، ن): «تقبضها».

(2/770)


لكيلا تجري جريًا دائمًا، فيفسُد على الإنسان عيشُه، ويمنع النَّاس من مجالسة بعضهم بعضًا؟! * من جعل المعدة كأشدِّ ما يكونُ من العَصَب، لأنها هيِّئت لطبخ الأطعمة وإنضاجها، فلو كانت لحمًا غضًّا لانطبخت هي ونَضِجَت، فجُعِلت كالعَصَب الشَّديد لتقوى على الطَّبخ والإنضاج، ولا تُنْهِكها النَّارُ التي تحتها؟! * من جعل الكبدَ رقيقةً ناعمة؛ لأنها هيِّئت لقبول الصَّفو اللطيف من الغذاء والهضم، وعملٍ هو ألطفُ (1) من عمل المعدة؟! * من حصَّن المخَّ اللطيف الرَّقيق في أنابيب صلبةٍ من العظام، لتحفظه وتصونه (2)، فلا يفسُد (3) ولا تذوب؟! * من جعل الدَّم السَّيَّال محبوسًا محصورًا في العُروق بمنزلة الماء في الوعاء، لينضبط فلا يجري؟! * من جعل الأظفار على أطراف الأصابع، وقايةً لها ومعونةً على الأعمال والصِّناعات؟! * من جعل داخلَ الأذن ملتويًا كهيئة اللَّولب (4)؛ ليطرد فيه الصَّوتُ _________ (1) (ض): «ولتهضم وتعمل ما هو ألطف». (2) (ت، د، ق): «لتحفظها وتصونها». (ح، ن): «ليحفظها ويصونها». والوجه ما أثبت. (ر): «لتحيطه وتصونه». وفي (ض): «ليحفظه ويصونه». (3) (د، ق، ت، ن): «تفسد». (4) (ت): «مكتوبًا كهيئة الكواكب». (ن): «ملتويا كهيئة الكواكب». (ح): «ملتويا كهيئة الكوب». (ط): «مستويا كهيئة الكوكب». وكلُّ ذلك تحريف. والمثبت من (د، ق، ر، ض). واللولب: أداةٌ تنتهي بشكلٍ حلزوني. «المعجم الوسيط» (847) وفيه رسم توضيحيٌّ لها.

(2/771)


حتى ينتهي إلى السَّمع الدَّاخل وقد انكسرت حِدَّةُ الهواء فلا ينكؤه، وليتعذَّر على الهوامِّ النُّفوذُ إليه قبل أن يمسك، وليمسك ما عساه أن يغشاها من القذى والوسخ، ولغير ذلك من الحِكَم؟! * من جعل على الفَخِذين والوَرِكين من اللحم أكثر مما على سائر الأعضاء، ليَقِيَها من الأرض، فلا تألمُ عظامُها من كثرة الجلوس كما يألمُ مَنْ قد نَحَل جسمُه وقلَّ لحمُه من طول الجلوس، حيثُ لم يَحُل بينه وبين الأرض حائل؟! * من جعل ماء العينين مِلْحًا (1) يحفظُها من الذَّوبان (2)، وماءَ الأذن مرًّا يحفظُها من الذُّباب والهوامِّ والبعوض، وماءَ الفم عذبًا يُدْرَكُ به طُعومُ الأشياء فلا يخالطُها طعمُ غيرها؟! * من جعل بابَ الخلاء في الإنسان في أستر موضعٍ منه، كما أنَّ البنَّاء الحكيم يجعلُ موضع التخلِّي في أستر موضعٍ في الدَّار، وهكذا منفذُ الخلاء في الإنسان في أستر موضع، ليس بارزًا مِنْ خلفه ولا ناشزًا (3) بين يديه، بل مغيَّبٌ (4) في موضعٍ غامضٍ من البدن، يلتقي عليه الفَخِذان بما عليهما من اللحم فتوارِيانه (5)، فإذا جاء وقتُ الحاجة وجلس لها الإنسانُ بَرَز ذلك _________ (1) (ق): «مالحا». وانظر ما قدمناه (ص: 544) تعليقًا. (2) (ت): «يمنعها ويحفظها من الذوبان». (3) (ت، ح): «ناشرا». وراجع (ص: 738) والتعليق عليه. (4) (ت، ق): «يغيب». ومهملة في (د). (ض): «منيب»، تحريف. (5) (د، ت، ق): «متواريًا به». (ح، ن): «متواريا». وهو تحريف. (ض): «يلتقي عليه الفخذان وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه».

(2/772)


المخرجُ للأرض؟! * من جعل الأسنانَ حِدَادًا لقَطْع الطَّعام وتفصيله، والأضراسَ عِراضًا لرضِّه وطحنه؟! * من سَلَبَ الإحساسَ الحيوانيَّ الشُّعورَ والأظفار التي في الآدميِّ؛ لأنها قد تطولُ وتمتدُّ وتدعو الحاجةُ إلى أخذها وتخفيفها، فلو أعطاها الحسَّ لآلمتْه وشقَّ عليه أخذُ ما شاء منها، فلو كانت تحسُّ لوقع الإنسانُ منها في إحدى البليَّتين: إمَّا تركها حتى تطول وتفحُش وتثقل عليه، وإمَّا مقاساةُ الألم والوجع عند أخذها؟! * من جعل باطنَ الكفِّ غير قابلٍ لإنبات الشَّعر؛ لأنه لو أشعَر لتعذَّر على الإنسان صحَّةُ اللَّمس، ولشقَّ عليه كثيرٌ من الأعمال التي تُباشَرُ بالكفِّ، ولهذه الحكمة لم يكن هَنُ الرَّجل قابلًا لإنباته؛ لأنه يمنعُه من الجماع، ولمَّا كانت المادَّةُ تقتضي إنباته هناك نبت حول هَنِ الرَّجل والمرأة. ولهذه الحكمة سُلِب عن الشَّفتين، وكذا باطن الفم، وكذا أيضًا عن القدم أخمصِها وظاهرِها؛ لأنها تلاقي التُّرابَ والوسخَ والطِّينَ والشَّوك، فلو كان هناك شعرٌ لآذى الإنسان جدًّا، وحمل من الأرض كلَّ وقتٍ ما يُثقِلُ الإنسان. وليس هذا للإنسان وحده، بل ترى البهائم قد جلَّلها الشَّعرُ (1) كلَّها، وأُخْلِيَت هذه المواضعُ منه لهذه الحكمة. _________ (1) (ن): «جللها بالشعر». (ض): «ترى أجسامها مجللة بالشعر».

(2/773)


أفلا ترى الصَّنعةَ الإلهيَّة كيف سَلَبت وجوهَ الخطأ (1) والمضرَّة، وجاءت بكلِّ صوابٍ وكلِّ منفعةٍ وكلِّ مصلحة؟! ولمَّا اجتهدَ الطَّاعنون في الحكمة (2)، العائبون للخِلقة، فيما يطعنون به، عابوا الشَّعرَ تحتَ الآباط، وشعرَ العانة، وشعرَ باطن الأنف، وشعرَ الرُّكبتين، وقالوا: أيُّ حكمةٍ فيها؟! وأيُّ فائدة؟! وهذا مِنْ فَرط جهلهم وسخافة عقولِهم؛ فإنَّ الحكمة لا يجبُ أن تكون بأسرها معلومةً للبشر، ولا أكثرِها، بل لا نسبة لما عَلِمُوه إلى ما جهلوه منها، فلو قِيسَت علومُ الخلائق كلِّهم بوجوه حكمة الله تعالى في خلقه وأمره إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرة عصفورٍ في البحر. وحسبُ الفَطِن اللبيب أن يستدلَّ بما عَرَف منها على ما لم يعرف، ويعلم [أنَّ] (3) الحكمة فيما جهله مثلُها (4) فيما عَلِمَه، بل أعظمُ وأدقُّ وألطف (5). وما مثلُ هؤلاء الحمقى النَّوكى إلا كمثل رجلٍ لا علمَ له بدقائق الصَّنائع والعلوم، من البناء والهندسة والطبِّ، بل والحياكة والخياطة والنجارة؛ إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيءٍ من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعاتهم، فخَفِيَت عليه (6)، فجعل كلَّما خَفِيَ عليه منها _________ (1) (ض): «تتحرز وجوه الخطأ». (2) وهم المنانية (المانوية) وأشباههم، كما في (ر، ض). (3) زيادة يقتضيها السياق. (4) (ح، ن): «منها». وهو تحريف. (5) ليست في (ح، ن). (6) كذا في الأصول.

(2/774)


شيءٌ قال: هذا لا فائدة فيه، وأيُّ حكمةٍ تقتضيه؟! هذا مع أنَّ أربابَ الصَّنائع بشرٌ مثله يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم ويفُوقهم فيها. فما الظَّنُّ بمن بهرت حكمتُه العقول، الذي لا يشاركه مشاركٌ في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجهٍ ما؟! فمن ظنَّ أن يكتال حكمتَه (1) بمكيال عقله، ويجعل عقله عِيارًا عليها فما أدركه أقرَّ به وما لم يدركه نفاه؛ فهو من أجهل الجاهلين. ولله في كلِّ ما خَفِي على النَّاس وجهُ الحكمة فيه حِكَمٌ عديدةٌ لا تُدْفَعُ ولا تُحْجَب. فاعلم الآن أنَّ تحت منابت هذه الشُّعور من الحرارة والرُّطوبة ما اقتضت الطَّبيعةُ إخراجَ هذه الشُّعور عليها، ألا ترى أنَّ العُشبَ ينبتُ في مستنقع المياه بعد نُضوب الماء عنها، لِمَا خُصَّت به من الرُّطوبة؟! ولهذا كانت هذه المواضعُ مِنْ أرطب مواضع البدن، وهي أقبلُ لنبات الشعر وأهيَأ (2)، فدَفعَت الطَّبيعةُ تلك الفضلات والرُّطوبات إلى خارجٍ فصارت شَعرًا، ولو حبسَتها في داخل البدن لأضرَّته وآذت باطنَه، فخروجُها عينُ مصلحة الحيوان، واحتباسُها إنما يكونُ لنقصٍ وآفةٍ فيه. وهذا كخروج دم الحيض من المرأة، فإنه عينُ مصلحتها وكمالها، ولهذا يكونُ احتباسُه لفسادٍ في الطَّبيعة ونقصٍ فيها. _________ (1) (ت): «مكيال حكمته». (ن): «يكال حكمته». (2) «وهي أقبل لنبات الشعر وأهيأ» ليس في (ت).

(2/775)


ألا ترى أنَّ من احتَبس عنه شعرُ الرَّأس واللحية بعد إبَّانه (1) كيف تراه ناقصَ الطَّبيعة، ناقصَ الخِلقة، ضعيفَ التَّركيب؟! فإذا شاهدتَ ذلك في الشَّعر الذي عرفتَ بعض حكمته، فما لك لا تعتبرُه في الشَّعر الذي خَفِيَت عليك حكمتُه؟! * من جعل الرِّيقَ يجري جريًا دائمًا إلى الفم لا ينقطعُ عنه، ليَبُلَّ الحلقَ واللَّهوات، ويسهِّل الكلام، ويُسِيغ الطَّعام؟! قال أبُقْراط (2): «الرُّطوبةُ في الفم مطيَّةُ الغذاء». فتأمَّل حالك عند ما يجفُّ ريقُك بعض الجفاف، ويقلُّ ينبوعُ هذه العَيْن التي لا يستغنى عنها! فصل (3) تأمَّل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الأطفال وما لهم فيه من المنفعة؛ فإن الأطبَّاء والطَّبائعيِّين شهدوا منفعةَ ذلك وحكمته، وقالوا: في أدمغة الأطفال رطوبةٌ لو بقيَت في أدمغتهم لأحدثت أحداثًا عظيمة، فالبكاءُ يسيلُ ذلك ويُحْدِرُه من أدمغتهم، فتقوى أدمغتُهم وتصحُّ. _________ (1) (ح، ن): «إنباته». تحريف. وإبَّان الشيء: أوانه ووقته. (2) (ح، ن): «بقراط». والوجهان صحيحان. وهو طبيبٌ فيلسوفٌ مشهور له تآليف. وكان قبل الإسكندر بنحو مئة سنة. ترجمته في «طبقات الأطباء» لابن جلجل (16)، و «أخبار الحكماء» للقفطي (121)، وغيرهما. (3) «الدلائل والاعتبار» (55)، «توحيد المفضل» (16).

(2/776)


وأيضا؛ فإنَّ البكاء والعِياط (1) يوسِّعُ عليه مجاري النَّفَس، ويفتحُ العُروق ويصلِّبها، ويقوِّي الأعصاب (2). وكم للطِّفل من منفعةٍ ومصلحةٍ فيما تسمعُه من بكائه وصُراخه! فإذا كانت هذه الحكمةُ في البكاء الذي سببُه ورودُ الألم والمؤذي وأنت لا تعرفُها ولا تكادُ تخطُر ببالك، فهكذا إيلامُ الأطفال فيه وفي أسبابه وعواقبه الحميدة من الحِكَم ما قد خَفِي على أكثر النَّاس، واضطربَ عليهم الكلامُ في حكمته اضطرابَ الأَرْشِيَة (3)، وسلكوا في هذا الباب مسالك: * فقالت طائفة: ليس إلا محض المشيئة العارية عن الحكمة والغاية المطلوبة. وسدُّوا على أنفسهم هذا البابَ جملة، وكلَّما سئلوا عن شيءٍ أجابوا بـ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}. وهذا (4) مِنْ أصدق الكلام، وليس المرادُ به نفيَ حكمته تعالى وعواقبِ أفعاله الحميدة وغاياتها المطلوبة منها، وإنما المرادُ بالآية إفرادُه بالإلهيَّة والرُّبوبيَّة، وأنه لكمال حكمته لا معقِّب لحكمه، ولا يُعْتَرض عليه بالسُّؤال؛ لأنه لا يفعلُ شيئًا سُدى، ولا خَلَق شيئًا عبثًا، وإنما يُسألُ عن فعله مَنْ خرجَ _________ (1) عيَّط: إذا مدَّ صوته بالصُّراخ. وهو العِياط. «أساس البلاغة» (عيط). ويأتي بمعنى البكاء في كلام بعض العامة. انظر: «معجم تيمور» (4/ 457). (2) انظر: «تحفة المودود» (188). (3) أي: في البئر. والأرشية جمعُ رِشاء، وهو حبل الدَّلو. وهذا تشبيهٌ مشهور، ورد في كلامٍ ينسبُ لعلي رضي الله عنه، واستعمله الشعراء والكتَّاب. انظر: «شرح نهج البلاغة» (1/ 213)، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (656). (4) أي: قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}.

(2/777)


عن الصَّواب، ولم يكن فيه منفعةٌ ولا فائدة. ألا ترى إلى قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 21 - 23]، كيف ساق الآية في الإنكار على من اتخذ من دونه آلهةً لا تساويه، فسوَّاها به مع أعظم الفَرق؟! فقوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} إثباتٌ لحقيقة الإلهيَّة، وإفرادٌ له بالرُّبوبيَّة والإلهيَّة، وقولُه: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} نفيٌ لصلاح تلك الآلهة المتَّخَذة للإلهيَّة؛ فإنها مسؤولةٌ مربوبةٌ مدبَّرة، فكيف يسوَّى بينها وبينه مع أعظم الفرقان؟! فهذا الذي سِيقَ له الكلام، فجعلها الجبريَّةُ مَعْقِلًا وملجأً في إنكار حكمته وتعليل أفعاله بغاياتها المحمودة وعواقبها السَّديدة (1). والله الموفِّق للصَّواب. * وقالت طائفة: الحكمةُ في ابتلائهم تعويضُهم في الآخرة بالثَّواب التَّامِّ. فقيل لهم: قد كان يمكنُ إيصالُ الثَّواب إليهم بدون هذا الإيلام. فأجابوا بأنَّ توسُّط الإيلام في حقِّهم كتوسُّط التكاليف في حقِّ المكلَّفين. فقيل لهم: فهذا ينتقض عليكم بإيلام أطفال الكفَّار. _________ (1) انظر: «شفاء العليل» (731).

(2/778)


فأجابوا بأنا لا نقول: إنهم في النَّار كما قاله من قاله من النَّاس، والنَّارُ لا يُدخِلُها ربُّها أحدًا إلا بذنب (1)، وهؤلاء لا ذنبَ لهم. وكذا الكلامُ معهم في مسألة الأطفال (2)، والحِجَاجُ فيها من الجانبين بما ليس هذا موضعه (3). فأُورِد عليهم ما لا جواب لهم عنه، وهو إيلامُ أطفالهم الذين قُدِّر بلوغُهم وموتُهم على الكفر، فإنَّ هذا لا تعويض فيه قطعًا ولا هو عقوبةٌ على الكفر، فإنَّ العقوبة لا تكونُ سلفًا وتعجيلًا. فحاروا في هذا الموضع، واضطربت أصولهم، ولم يأتوا بما يقبلُه العقل. * وقالت طائفةٌ ثالثة: هذا السُّؤال لو تأمَّله مُورِدُه لعَلِمَ أنه ساقط، وأنَّ تكلُّف الجواب عنه إلزامُ ما لا يَلْزَم، فإنَّ هذه الآلام وتوابعَها وأسبابها (4) من لوازم النَّشأة الإنسانيَّة التي لم يخلق منفكًّا عنها، فهي كالحرِّ والبرد، والجوع والعطش، والتَّعب والنَّصَب، والهمِّ والغمِّ، والضعف والعجز، فالسُّؤال عن حكمتها كالسُّؤال عن حكمة الحاجة إلى الأكل عند الجوع، والحاجة إلى الشراب عند الظَّمأ، وإلى النَّوم والرَّاحةِ عند التَّعب؛ فإنَّ هذه الآلام هي من لوازم النَّشأة الإنسانيَّة التي لا ينفكُّ عنها الإنسانُ ولا _________ (1) (ح، ن): «لا يدخلها أحد إلا بذنب». (2) أطفال المشركين، ومآلهم في الآخرة. (3) بسط المصنفُ الكلام في هذه المسألة في: «طريق الهجرتين» (842 - 877)، و «أحكام أهل الذمة» (1071 - 1158)، و «تهذيب السنن» (12/ 316 - 323). (4) «وأسبابها» ليست في (ق).

(2/779)


الحيوان، فلو تجرَّد عنها لم يكن إنسانًا، بل كان مَلَكًا أو خلقًا آخر. وليست آلامُ الأطفال بأصعبَ من آلام البالغين، لكن لمَّا صارت لهم عادةً سهُل موقعُها عندهم، وكم بين ما يقاسيه الطفلُ ويعانيه البالغُ العاقل! وكلُّ ذلك مِنْ مقتضى الإنسانيَّة ومُوجَب الخِلقة، فلو لم يُخْلَق كذلك لكان خَلْقًا آخر، أفترى أنَّ الطفل إذا جاع أو عطش أو بَرَد أو تَعِب قد خُصَّ من ذلك بما لم يُمتَحن به الكبير؟! فإيلامُه بغير ذلك من الأوجاع والأسقام كإيلامه بالجوع والعطش والبرد والحرِّ أو دون ذلك (1) أو فوقه، وما خُلِق الإنسانُ بل الحيوانُ إلا على هذه النشأة. قالوا: فإن سأل سائلٌ وقال: فلِمَ خُلِق كذلك؟ وهلَّا خُلِق خِلقةً غير قابلةٍ للألم؟ فهذا سؤالٌ فاسد؛ فإنَّ الله تعالى خلقه في عالم الابتلاء والامتحان من مادَّةٍ ضعيفة، فهي عُرضةٌ للآفات، وركَّبه تركيبًا معرَّضًا لأنواعٍ من الآلام (2)، وجعل فيه الأخلاط الأربعة التي لا قِوام له إلا بها (3)، ولا يكونُ إلا عليها، وهي لا محالة توجبُ امتزاجًا واختلاطًا وتفاعُلًا يبغي بعضها على بعضٍ بكيفيَّته تارة، وبكميَّته تارة، وبهما تارة، وذلك مُوجِبٌ للآلام قطعًا (4)، ووجودُ الملزوم بدون لازمه محال. _________ (1) (ح، ن): «والبرد والحر دون ذلك». (2) (ت): «لأنواع الابتلاء والإيلام». (ح، ن): «للأنواع من الآلام». (3) انظر ما تقدم (ص: 559)، والتعليق عليه. (4) (د، ت، ق): «موجب الألم قطعا».

(2/780)


ثمَّ إنه سبحانه ركَّب فيه من القُوى والشَّهوة (1) والإرادة ما يوجبُ حركتَه الدَّائمة، وسعيَه في طلب ما يُصْلِحُه ودفع ما يضرُّه؛ بنفسه تارةً وبمن يعينُه تارة، فأحوجَ النَّوعَ بعضه إلى بعض، فحدث من ذلك الاختلاطُ بينهم، وبغيُ بعضهم على بعض، فيحدُث من ذلك من الآلام والشُّرور بنحو ما يحدُث من امتزاج أخلاطه واختلاطها، وبغي بعضها على بعض، والآلامُ لا تتخلَّفُ عن هذا الاختلاط والامتزاج أبدًا إلا في دار البقاء والنَّعيم المقيم، لا في دار الابتلاء (2) والامتحان. فمن ظنَّ أنَّ الحكمة في أن يجعل خصائصَ تلك الدَّار في هذه فقد ظنَّ باطلًا، بل الحكمةُ التَّامَّةُ البالغةُ اقتضت أن تكون هذه الدَّارُ ممزوجةً عافيتُها ببلائها، وراحتُها بعنائها، ولذَّتها بآلامها، وصحَّتُها بسقَمها، وفرحُها بغمِّها، فهي دارُ ابتلاءٍ تُدْفَعُ بعضُ آفاتها ببعض، كما قال القائل: أصبحتُ في دار بَليَّاتِ ... أدْفَعُ آفاتٍ بآفاتِ (3) ولقد صدق؛ فإنك إذا فكَّرتَ في الأكل والشُّرب واللباس والجماع والراحة وسائر ما يُستلذُّ به؛ رأيته يدفعُ بها ما قابله (4) من الآلام والبليَّات، أفلا تراك تدفعُ بالأكل ألم الجوع، وبالشُّرب ألم العطش، وباللباس ألم الحرِّ والبرد، وكذا سائرها. _________ (1) «والشهوة» ليست في (ح، ن). (2) (ن): «البلاء». (3) تقدم تخريج البيت (ص: 376). (4) (ن): «يقابله». (ت): «قبله».

(2/781)


ومن هنا قال بعض العقلاء: إنَّ لذَّاتها إنما هي دفعُ آلامٍ لا غير (1)، فأمَّا اللذاتُ الحقيقيَّة فلها دارٌ أخرى، ومحلٌّ آخرُ غيرُ هذه (2). فوجودُ هذه الآلام واللذَّات الممتزجة المختلطة من الأدلَّة على المعاد، وأنَّ الحكمة التي اقتضت ذلك هي أولى باقتضاء دارَيْن: دارٍ خالصةٍ للَّذَّاتِ (3) لا يشُوبها ألمٌ ما، ودارٍ خالصةٍ للألم لا يشُوبها لذَّةٌ ما؛ والدَّار الأولى هي الجنَّة، والدَّارُ الثانيةُ النَّار. أفلا ترى كيف دلَّك (4) ما أنت مجبولٌ عليه في هذه النَّشأة من اللذَّة والألم على الجنَّة والنَّار، ورأيتَ شواهدهما وأدلَّة وجودهما مِنْ نفسك _________ (1) (ح، ن): «إن لذاذتها إنما هي دفع الألم لا غير». (2) انظر: «رسائل إخوان الصفا» (3/ 52)، و «رسائل فلسفية» لمحمد بن زكريا الرازي (36 ــ 39، 139 ــ 155)، و «مقالة عن ثمرة الحكمة» لابن الهيثم (20)، و «الهوامل والشوامل» (296)، و «تهذيب الأخلاق» لمسكويه (60)، و «مفاتيح الغيب» (12/ 166، 17/ 95، 18/ 175، 19/ 62)، و «المواقف» للإيجي (2/ 164)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (10/ 295)، و «عيون الأنباء» (597). وأصل هذا المعنى يذكره المتفلسفة في تقسيمهم للَّذَّات، وبنوا عليه أمورًا فاسدة، والتحقيق أن اللذة أمرٌ وجوديٌّ يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضاد. انظر: «النبوات» (381)، و «جامع المسائل» (6/ 118، 185)، و «قاعدة في المحبة» (64)، و «الأصفهانية» (281)، و «الصفدية» (2/ 235، 261)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 536، 10/ 205، 325)، و «الرد على المنطقيين» (424)، و «الصواعق المرسلة» (1457)، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (305)، و «روضة المحبين» (207)، وما مضى (ص: 376، 381). (3) (ت، ق، د): «خالصة اللذات». (4) (ق، ح، ت، ن): «ذلك». وهو تحريف.

(2/782)


حتى كأنك تعاينُهما عِيانًا؟! وانظُر كيف دلَّ العِيانُ والحِسُّ والوجودُ على حكمة الربِّ تعالى وعلى صدق رسله فيما أخبَروا به من الجنَّة والنَّار! فتأمَّل كيف قاد النَّظرُ في حكمة الله تعالى إلى شهادة العقول والفطر بصدق رسله، وأنَّ ما أخبَروا به تفصيلًا يدلُّ عليه العقلُ مجملًا؛ فأين هذا مِنْ مقام من أدَّاه علمُه إلى المعارضة بين ما جاءت به الرُّسلُ وبين شواهد العقل وأدلَّته؟! ولكنَّ تلك عقولٌ كادَها باريها، ووَكَلها إلى أنفسها؛ فحلَّت بها عساكرُ الخِذلان من كلِّ جانب. وحسبُك بهذا الفصل وعظيم منفعته مِنْ هذا الكتاب، والله المحمودُ المسؤولُ تمام نعمته. فهذه كلماتٌ مختصرةٌ نافعةٌ في مسألة إيلام الأطفال لعلَّك لا تظفرُ بها في أكثر الكتب (1). * ... * ... * فارجع الآن إلى نفسك (2): وفكِّر في هذه الأفعال الطَّبيعية التي جُعِلت في الإنسان، وما فيها من الحكمة والمنفعة، وما جُعِل لكلِّ واحدٍ منها في الطَّبع من المحرِّك (3) _________ (1) وانظر: «شفاء العليل» (524، 600، 666، 679، 688)، و «طريق الهجرتين» (329 - 333). (2) «الدلائل والاعتبار» (56 - 61)، «توحيد المفضل» (35 - 41). (3) (ح، ن): «في الطبع المحرك».

(2/783)


والدَّاعي الذي يقتضيه ويستحثُّه: فالجوعُ يستحِثُّ الأكلَ ويطلُبه؛ لِمَا فيه من قِوام البدن وحياته ومماته (1). والكرى يقتضي النَّوم ويستحِثُّه؛ لما فيه من راحة البدن والأعضاء وجَمام القُوى وعَوْدِها إلى قوَّتها حديدةً (2) غير كالَّة. والشَّبَقُ يقتضي الجماع الذي به دوامُ النَّسل، وقضاءُ الوطر، وتمامُ اللذَّة. فتجدُ هذه الدَّواعي تستحثُّ الإنسانَ لهذه الأمور وتتقاضاها منه بغير اختياره، وذلك عينُ الحكمة؛ فإنه لو كان الإنسانُ إنما يستدعي هذه المُسْتَحثَّات إذا أرادها لأوشك أن يَشْتغل عنها بما يَعْروه (3) من العوارض مدَّةً فينحلَّ بدنُه ويهلك ويترامى إلى الفساد وهو لا يشعر، كما إذا احتاج بدنُه إلى شيءٍ من الدَّواء والعلاج (4) فدافَعه وأعرض عنه حتى استَحكم به الدَّاءُ فأهلَكه. فاقتضت حكمةُ اللطيف الخبير أن جُعِلت فيه بواعثُ ومُسْتَحثَّاتٌ تؤزُّه _________ (1) (ر): «فالجوع يقتضي الطُّعم الذي فيه حياة البدن وقوامه». (2) (ح، ت، ن): «جديدة». والمثبت من (د، ق) أولى بالصواب؛ يقال: «فلانٌ حديد الفهم» أي: ذكيُّ القلب صافي الذهن. وقال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي: ثابتٌ نافذ. وانظر: «عمدة الحفاظ» للسمين (حدد). (3) (ح، ن): «يعوزه». (4) (د، ق، ح، ن): «والصلاح». والمثبت من (ت، ر) أشبه. والعبارة في (ض): «كما يحتاج الواحد الدواء لشيء مما يصلح به بدنه».

(2/784)


أزًّا إلى ما فيه قِوَامه وبقاؤه ومصلحتُه، وتَرِدُ عليه بغير اختياره ولا استدعائه، فجُعِل لكلِّ واحدٍ من هذه الأفعال محرِّكٌ من نفس الطَّبيعة يحرِّكُه ويَحْدُوه عليه. ثمَّ انظُر إلى ما أُعطِيَه من القُوى المختلفة التي بها قِوَامُه: * فأُعطِي القوَّة الجاذبة (1) الطَّالبة المُسْتَحِثَّة التي تقتضي معلُومَها من الغذاء، فتأخذه وتُورِدُه على الأعضاء بحسب قبولها. * ثمَّ أُعطِي القوَّة المُمْسِكة التي تمسكُ الطَّعام وتحبسُه ريثما تُنْضِجُه الطَّبيعةُ وتُحْكِمُ طبخَه وتهيِّئه لمصارفه وتبعثُه لمستحقِّيه. * ثمَّ أُعطِي القوَّة الهاضمة التي تَصْرِفُه في البدن وتَهْضِمُه عن المعدة. * ثمَّ أُعطِي القوَّة الدَّافعة، وهي التي تدفعُ ثُفْلَه وما لا منفعة فيه، فتدفعُه وتخرجُه عن البدن لئلَّا يؤذيه (2) ويُنْهِكه. فمن أعطاك هذه القُوى عند شدَّة حاجتك إليها؟! ومن جعلها خدَمًا لك؟! ومن أعطاها أفعالها (3) واستعمل كلَّ واحدٍ منها على عملٍ غير عمل الآخر؟! ومن ألَّف بينها على تباينها حتى اجتمعت في شخصٍ واحدٍ ومحلٍّ واحد، ولو عادى بينها كان بعضها يُذْهِبُ بعضًا؟! فمن كان يَحُولُ بينه وبين ذلك؟! فلولا القوَّةُ الجاذبةُ بِمَ كنت تتحرَّك لطلب الغذاء الذي به قِوامُ البدن؟! _________ (1) (ح، ن): «الحادية». (2) (ت): «يرديه». (3) (ن): «أعطاك أفعالها».

(2/785)


ولولا المُمْسِكةُ كيف كان الطَّعام يذهبُ (1) في الجوف حتى تَهْضِمَه المعدة؟! ولولا الهاضمةُ كيف كان ينطبِخُ (2) حتى يَخْلُصَ منه الصَّفوُ إلى سائر أجزاء البدن وأعماقه؟! ولولا الدَّافعةُ كيف كان الثُّفْلُ المؤذي القاتلُ لو انحبَس يخرجُ أوَّلًا فأوَّلًا، فيستريحُ البدن، فيخفُّ ويَنْشَط؟! فتأمَّل كيف وُكِّلت هذه القُوى بك والقيام بمصالحك. فالبدنُ كدارٍ للمَلِك فيها حشَمُه وخدمُه، قد وكَّل بتلك الدَّار قُوَّامًا (3) يقومون بمصالحها، فبعضهم لاقتضاء حوائجها وإيرادها عليها (4)، وبعضهم لقبض الوارد وحِفظه وخَزْنه إلى أن يُهيَّأ ويُصْلح، وبعضهم يقبضه فيهيِّئه ويصلحُه ويدفعُه إلى أهل الدَّار ويفرِّقُه عليهم بحسب حاجاتهم، وبعضهم لكَسْح الدَّار (5) وتنظيفها وكَنْسِها من الزِّبْل والأقذار. فالمَلِك: هو المَلِكُ الحقُّ المبينُ جلَّ جلاله، والدَّار: أنت (6)، والحَشَم والخدم: الأعضاءُ والجوارح، والقُوَّامُ عليها: هذه القُوى التي _________ (1) (ر، ض): «يلبث». (2) (ن، ح): «يطبخ». والمثبت من (د، ق، ت، ر، ض). (3) في الأصول: «أقواما». تحريف. والتصحيح من (ر، ض). وستأتي على الصواب في آخر الفقرة. (4) (ر): «لقضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم». (5) الكَسْح: الكَنْس. وفي (ح): «لمسح الدار». (6) (ر، ض): «والدار هي البدن».

(2/786)


ذكرناها (1). تنبيه: فرقٌ بين نظر الطَّبيب والطَّبائعيِّ في هذه الأمور، وكونه مقصورًا على النَّظر في حِفظ الصِّحة ودَفْع السَّقم، فهو ينظرُ فيها من هذه الجهة فقط= وبين نظر المؤمن العارف فيها، فهو ينظرُ فيها من جهة دلالتها على خالقها وباريها، وما له فيها من الحِكَم البالغة، والنِّعَم السَّابغة، والآلاء التي دعا العبادَ إلى ذِكْرها وشُكرها. تنبيه: تأمَّل حكمة الله عزَّ وجلَّ في الحفظ والنِّسيان الذي خَصَّ به نوعَ الإنسان وما له فيهما من الحِكم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوَّةُ الحافظةُ التي خُصَّ بها لدَخَل عليه الخللُ في أموره كلِّها ولم يَعْرِف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سَمِع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذَكر من أحسَن إليه ولا من أساء إليه، ولا من عامله، ولا من نفَعه فيقرُب منه، ولا من ضرَّه فينأى عنه، ثمَّ كان لا يهتدي الطَّريق الذي سلكه أوَّل مرَّةٍ ولو سلكه مرارًا، ولا يعرفُ (2) علمًا ولو دَرَسَه عمرَه، ولا ينتفعُ بتجربة، ولا يستطيعُ أن يعتبر شيئًا (3) على ما مضى، بل كان خليقًا (4) أن ينسلخ من الإنسانيَّة أصلًا. فتأمَّل عظيمَ المنفعة عليك في هذه الخِلال، وموقع الواحدة منهنَّ فضلًا عن جميعهنَّ. _________ (1) انظر: «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (81)، و «تفصيل النشأتين» (92)، و «الفوز الأصغر» لمسكويه (92). (2) (ر): «يعقل». (ض): «يحفظ». (3) (ح، ن): «يعبر». (ت): «يغير». (4) (ض): «حقيقا».

(2/787)


ومِنْ أعجب النِّعم عليه نعمةُ النِّسيان؛ فإنه لولا النِّسيانُ لما سَلَا شيئًا (1)، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزَّى عن مصيبة، ولا مات له حُزن، ولا بَطَل له حِقْد، ولا استمتع بشيءٍ من متاع الدُّنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلةً من عدوِّه ولا فترةً (2) من حاسده. فتأمَّل نعمة الله عليه (3) في الحفظ والنِّسيان مع اختلافهما وتضادِّهما وجعَل له (4) في كلِّ واحدٍ منهما ضربًا (5) من المصلحة. تنبيه: تأمَّل هذا الخُلق الذي خُصَّ به الإنسانُ دون جميع الحيوان، وهو خُلق الحياء الذي هو مِنْ أفضل الأخلاق وأجلِّها، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّةُ الإنسانيَّة، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانيَّة إلا اللحمُ والدَّمُ وصورتهما الظَّاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء. ولولا هذا الخُلقُ لم يُقْرَ الضيف، ولم يُوفَ بالوعد، ولم تؤدَّ أمانة، ولم تُقْض لأحدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الجميلَ فآثره والقبيحَ فتنكَّبه (6)، _________ (1) أي: نَسِيَه وطابت نفسُه بعد فراقه. (2) مهملة في (د). (ق، ح، ن): «نقمة»، تحريف. وسقطت من (ت). والمثبت من (ر، ض) أشبه. وانظر: «بدائع الفوائد» (768، 772). (3) «عليه» ليست في (ح، ن). (4) كذا في الأصول و (ر، ض)، لكن السياق فيهما: «أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان، وجعل له ... »، فغيَّر المصنف صدر الجملة الأولى وسها عن إصلاح الثانية، ولو قال: «وجعله» لاستقام سياق الكلام. (5) (ن): «ضرب». (6) مهملة في (د). (ق، ح، ن): «فسلبه»، وهو تحريفٌ عن المثبت من (ر، ض). والجملة برمتها ساقطة من (ت).

(2/788)


ولا سَتَر له عورةً، ولا امتنع من فاحشة. وكثيرٌ من النَّاس لولا الحياءُ الذي فيه لم يؤدِّ شيئًا من الأمور المفتَرضة عليه، ولم يَرْع لمخلوقٍ حقًّا، ولم يَصِل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا (1)؛ فإنَّ الباعث على هذه الأفعال إمَّا دينيٌّ ــ وهو رجاءُ عاقبتها الحميدة ــ، وإمَّا دنيويٌّ عاديٌّ (2) ــ وهو حياءُ فاعلها من الخلق ــ؛ فقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ إمَّا من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبُها. وفي التِّرمذي (3) وغيره مرفوعًا: «استحيُوا من الله حقَّ الحياء»، قالوا: وما حقُّ الحياء؟ قال: «أن تحفظ الرَّأسَ وما حوى، والبطنَ وما وعى، وتذكُر المقابرَ والبِلى». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا لم تستَح فاصنع ما شئت» (4). _________ (1) (ت): «ولا بر له والدا ولا ولدا». (2) في طرة (ح) إشارةٌ إلى أن في نسخة: «دنيوي علوي»، وهي تحريف. (3) (2458)، و «مسند أحمد» (1/ 387)، وأبي يعلى (5047)، والبزار (2025)، وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعودٍ بإسنادٍ ضعيف، والأشبه أنه موقوف. قال الترمذي: «هذا حديثٌ إنما نعرفه من هذا الوجه». وصححه الحاكم (4/ 323)، ولم يتعقبه الذهبي. وروي مرفوعًا من وجوه أخرى لا يصحُّ منها شيء. وانظر: «المجروحين» (1/ 377)، و «الميزان» (1/ 5، 2/ 306)، و «الترغيب والترهيب» للمنذري (3/ 383). (4) أخرجه البخاري (3483) من حديث أبي مسعود الأنصاري.

(2/789)


وأصحُّ القولين فيه قولُ أبي عبيدٍ (1) والأكثرين أنه تهديد (2)؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات: 46]. وقالت طائفة: هو إذنٌ وإباحة (3)، والمعنى: أنك إذا أردتَ أن تفعل فعلًا فانظر قبل فعله، فإن كان مما يُستحيى فيه من الله ومن النَّاس فلا تفعلْه وإن كان مما لا يُستحيى منه فافعلْه فإنه ليس بقبيح. وعندي أنَّ هذا الكلام صورتُه صورةُ الطَّلب، ومعناه معنى الخبر (4)، وهو في قوَّة قولهم: «من لا يستحي صَنَعَ ما يشتهي»؛ فليس بإذنٍ ولا هو مجرَّد تهديد، وإنما هو في معنى الخبر، والمعنى: أنَّ الرَّادع عن القبيح إنما هو الحياء، فمن لم يَسْتح فإنه يصنعُ ما شاء. وأخرجَ هذا المعنى (5) في صيغة الطَّلب لنكتةٍ بديعةٍ جدًّا (6)؛ وهي أنَّ _________ (1) الذي في كتابه «غريب الحديث» (2/ 331، 332)، ونقله عنه الخطابي: أن هذا أمرٌ بمعنى الخبر. وهو القول الثالث الذي اختاره المصنف. (2) وبه قال ثعلب، كما في «غريب الحديث» للخطابي (1/ 156). وانظر: «شرح مشكل الآثار» (4/ 198)، و «الفتح» (6/ 523، 10/ 523). (3) حكاه المصنف في «الداء والدواء» (169) عن الإمام أحمد. وذكره الحليمي في «المنهاج» (3/ 232) مع القول الثالث، وقال: «وكلاهما حسنٌ وحق». (4) وهذا قول أبي عبيد كما تقدم، وابن قتيبة في «غريب الحديث» (1/ 365)، ومحمد بن نصر كما في «جامع العلوم والحكم» (376). وقد ساقه المصنف في «الداء والدواء» بيانًا لمعنى التهديد، وفرَّق بينهما هنا، وهو أجود. (5) (ح، ن): «وإخراج هذا المعنى». (6) انظر: «بدائع الفوائد» (182).

(2/790)


للإنسان آمِرَين وزاجِرَين: فله آمرٌ وزاجرٌ من جهة الحياء، فإذا أطاعه امتنع من فعل كلِّ ما يشتهي، وله آمرٌ وزاجرٌ من جهة الهوى والشهوة والطَّبيعة، فمن لم يُطِع آمِرَ الحياء وزاجِرَه أطاع آمِرَ الهوى والشهوة ولا بدَّ؛ فإخراجُ الكلام في قالب الطَّلب يتضمَّنُ هذا المعنى دون أن يقال: من لا يستحي يصنعُ ما يشتهي. تنبيه: تأمَّل نعمة الله على الإنسان بالبيانَيْن: البيان النُّطقيِّ، والبيان الخطِّيِّ، وقد اعتدَّ بهما سبحانه في جملة ما اعتدَّ به مِنْ نِعَمه على العبد؛ فقال تعالى في أوَّل سورةٍ أنزلت على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]. فتأمَّل كيف جمع في هذه الكلمات مراتبَ الخلق كلَّها، وكيف تضمَّنت مراتبَ الموجودات الأربعة بأوجز لفظٍ وأوضحه وأحسنه: * فذكر أوَّلًا عمومَ الخَلق، وهو إعطاءُ الوجود الخارجيِّ. * ثمَّ ذكر ثانيًا خصوصَ خَلق الإنسان؛ لأنَّ موضع العِبرة (1) والآية فيه عظيمة، ومن شُهوده عن ما فيه محض تعدُّد النِّعم (2). وذكر مادَّة خَلقه هاهنا من العَلقة، وفي سائر المواضع يذكُر ما هو سابقٌ عليها، إمَّا مادَّةً أصليَّةً وهو التُّرابُ أو الطِّين أو الصَّلصالُ كالفخَّار، وإمَّا مادَّة الفرع وهو الماءُ المَهِين، وذكر في هذا الموضع أوَّل مباداء تعلُّق التَّخليق _________ (1) (ح، ن): «لأنه موضع العبرة». والمثبت أصح. (2) كذا في الأصول.

(2/791)


به وهي العَلقة؛ فإنه كان قبلها نطفة، فأوَّلُ انتقالها إنما هو إلى العَلقة. * ثمَّ ذكر ثالثًا التعليمَ بالقلم الذي هو من أعظم نِعَمه على عباده؛ إذ به تُخَلَّدُ العلوم، وتثبتُ الحقوق، وتُعْلمُ الوصايا، وتُحْفظُ الشهادات، ويُضْبطُ حسابُ المعاملات الواقعة بين النَّاس، وبه تقيَّدُ أخبارُ الماضين للباقين، وأخبارُ الباقين للَّاحقين (1). ولولا الكتابةُ لانقطعت أخبارُ بعض الأزمنة عن بعض، ودَرَسَت السُّنن (2)، وتخبَّطت الأحكام، ولم يَعْرِف الخلَفُ مذاهبَ السَّلف، وكان يعظُم الخللُ الدَّاخلُ على النَّاس في دينهم ودنياهم؛ لِمَا يعتريهم من النِّسيان الذي يمحو صُوَر العلم من قلوبهم، فجَعَل لهم الكتابَ وعاءً حافظًا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظُ الأمتعة من الذَّهاب والبطلان. فنعمةُ الله عزَّ وجلَّ بتعليم القلم (3) مِنْ أجلِّ النِّعم، والتعليمُ به وإن كان مما يتخلَّصُ إليه الإنسانُ بالفطنة والحيلة فإنَّ الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطيَّةٌ وهبها الله منه، وفضلٌ أعطاه الله إياه، وزيادةٌ في خَلْقه وفضيلة (4)؛ فهو الذي علَّمه الكتابة، وإن كان هو المتعلِّم ففعلُه فعلُ مُطاوعٍ لتعليم الذي علَّم بالقلم؛ فإنه علَّمه فتعلَّم، كما أنه علَّمه الكلام فتكلَّم. هذا، ومن أعطاه الذِّهن الذي يَعِي به، واللسانَ الذي يُتَرْجِمُ به، والبنانَ الذي يَخُطُّ به؟! ومن هيَّأ ذهنَه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات؟! _________ (1) «وأخبار الباقين للاحقين» ليست في (ح، ن). (2) أي: ذَهَبَت ومُحِيَت آثارها. وفي (ح، ت، ن): «السنين». (3) (ح، ن): «بتعليم القلم بعد القرآن». (4) (ح، ن): «وفضله».

(2/792)


ومن الذي أنطق لسانه، وحرَّك بنانه؟! ومن الذي دَعَمَ البنانَ بالكفِّ، ودَعَمَ الكفَّ بالسَّاعد؟! فكم لله من آيةٍ نحنُ غافلون عنها في التعليم بالقلم! فقِف وقفةً في حال الكتابة، وتأمَّل حالك وقد أمسكتَ القلمَ وهو جماد، ووضعتَه على القرطاس وهو جماد، فيتولَّدُ من بينهما أنواعُ الحِكَم، وأصنافُ العلوم، وفنونُ المراسلات والخُطب، والنَّظم والنَّثر، وجوابات المسائل! فمن الذي أجرى تلك المعاني (1) على قلبك ورَسَمها (2) في ذهنك، ثمَّ أجرى العبارات الدَّالَّة عليها على لسانك، ثمَّ حرَّك بها بنانك حتى صارت نقشًا عجيبًا، معناه أعجبُ مِنْ صورته، فتقضي به مآربك وتبلُغ (3) به حاجةً في صدرك، وترسله إلى الأقطار النَّائية والجهات المتباعدة فيقومُ مقامَك، ويُتَرْجِمُ عنك، ويتكلَّمُ على لسانك، ويقومُ مقام رسولك، ويُجْدِي عليك ما لا يُجْدِي من ترسلُه= سوى من علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلم؟! والتعليمُ بالقلم يستلزمُ المراتبَ الثلاثة: مرتبة الوجود الذِّهنيِّ، والوجود اللفظيِّ، والوجود الرَّسميِّ. فقد دلَّ التعليمُ بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب، ودلَّ قولُه: {خَلَقَ} على أنه يعطي الوجود العينيَّ؛ فدلَّت هذه الآياتُ ــ مع _________ (1) (د، ق، ح، ن): «فلك المعاني». (2) (ت): «ورتبها». (3) (ح، ن): «وتقضي».

(2/793)


اختصارها ووجازتها وفصاحتها ــ على أنَّ مراتبَ الوجود بأسرها مسندةٌ إليه تعالى خلقًا وتعليمًا. وذكر خَلقَين وتعليمَين: خَلقًا عامًّا وخَلقًا خاصًّا، وتعليمًا خاصًّا وعامًّا. وذكر مِنْ صفاته هاهنا: اسمَ {الْأَكْرَمُ} الذي فيه كلُّ خيرٍ وكلُّ كمال؛ فله كلُّ كمالٍ وُصِف (1)، ومنه كلُّ خيرٍ فُعِل (2)، فهو الأكرمُ في ذاته وأوصافه وأفعاله، وهذا الخَلقُ والتعليمُ إنما نشأ مِنْ كرمه وبِرِّه وإحسانه، لا من حاجةٍ دَعَتْهُ إلى ذلك، وهو الغنيُّ الحميد. وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 ــ 4]، دلَّت هذه الكلماتُ على إعطائه سبحانه مراتبَ الوجود بأسرها: * فقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} إخبارٌ عن الإيجاد الخارجيِّ العَينيِّ، وخَصَّ الإنسانَ بالخَلق لِمَا تقدَّم. * وقوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} إخبارٌ عن إعطاء الوجود العلميِّ الذِّهنيِّ؛ فإنما تعلَّم الإنسانُ القرآنَ بتعليمه، كما أنه إنما صار إنسانًا بخَلقه، فهو الذي خلقه وعلَّمه. * ثمَّ قال: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، والبيانُ هنا يتناولُ مراتبَ ثلاثةً كلٌّ منها يسمَّى بيانًا: _________ (1) (ق): «وصفا». (2) (ق، د): «فعلا».

(2/794)


أحدها: البيانُ الذِّهنيُّ الذي يميِّز فيه بين المعلومات. الثاني: البيانُ اللفظيُّ الذي يعبِّر به عن تلك المعلومات ويُتَرْجِمُ عنها فيها (1) غيره. الثالث: البيانُ الرَّسميُّ الخطِّيُّ الذي يرسُم به تلك الألفاظ، فتَبِينُ للنَّاظر معانيها كما تَبِينُ للسَّامع معاني الألفاظ. فهذا بيانٌ للعَين، وذاك بيانٌ للسَّمع، والأوَّلُ بيانٌ للقلب. وكثيرًا ما يجمعُ سبحانه بين هذه الثَّلاثة؛ كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، ويذُمُّ من عَدِم الانتفاع بها في اكتساب الهدى والعلم النَّافع؛ كقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]. وقد تقدَّم بسطُ هذا المعنى (2). تنبيه: تأمَّل حكمة اللطيف الخبير فيما أعطى الإنسانَ علمَه (3) بما فيه صلاحُ معاشه ومعاده، ومَنَعَ عنه علمَ ما لا حاجة له به، فجهلُه به لا يضرُّ، وعلمُه به لا ينتفعُ به انتفاعًا طائلًا. _________ (1) كذا في الأصول. ولعلها: فيفهمها. (2) (ص: 293، 552). وفي (ن، ح): «وقد تقدم البسط لهذا الكلام». (3) (ر، ض): «فكِّر فيما أعطي الإنسانُ علمَه وما مُنِع منه». وسيأتي قوله: «ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك مما ليس من شأنهم ولا فيه مصلحة لهم».

(2/795)


ثمَّ يسَّر عليه طرق ما هو محتاجٌ إليه من العلم أتمَّ تيسير، وكلَّما كانت حاجتُه إليه من العلم أعظمَ كان تيسيرُه إياه عليه أتمَّ. فأعطاه معرفةَ خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، والإقرارَ به، ويسَّر عليه طرق هذه المعرفة؛ فليس في العلوم ما هو أجلُّ منها ولا أظهرُ عند العقل والفطرة، وليس في طرق العلوم التي تُنالُ بها أكثرُ من طرقها، ولا أدلُّ ولا أبينُ ولا أوضح؛ فكلُّ ما تراه بعينك أو تسمعُه بأذنك أو تَعْقِلُه بقلبك، وكلُّ ما يخطرُ ببالك، وكلُّ ما نالته (1) حاسَّةٌ من حواسِّك؛ فهو دليلٌ على الرَّبِّ تبارك وتعالى. فطرقُ العلم بالصَّانع فطريَّةٌ ضروريَّة، ليس في العلوم أجلُّ منها، وكلُّ ما استُدِلَّ به على الصَّانع فالعلمُ بوجوده أظهرُ مِنْ دلالته؛ ولهذا قالت الرسلُ لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]؛ فخاطَبوهم مخاطبةَ من لا ينبغي أن يخطُر له شكٌّ ما في وجود الله سبحانه. ونَصَب من الأدلَّة على وجوده ووحدانيَّته وصفات كماله الأدلَّة على اختلاف أنواعها، ولا يطيقُ حصرَها إلا الله. ثمَّ رَكَز ذلك في الفطرة، ووضَعه في العقل جملة. ثمَّ بَعَث الرُّسل مذكِّرين به، ولهذا يقول تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، وقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ _________ (1) (ت): «تناله». (ح، ن): «ناله».

(2/796)


مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، وهو كثيرٌ في القرآن، ومفصِّلين (1) لما في الفطرة والعقل من العلم به جملة. فانظر كيف وُجِد الإقرارُ به، وبتوحيده، وصفات كماله، ونُعوت جلاله، وحكمته في خلقه وأمره المقتضية إثباتَ رسالة رسله، ومجازاةَ المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته= مُودَعًا في الفطرة مركوزًا فيها. فلو خُلِّيت على ما خُلِقت عليه لم يَعْرِض لها ما يفسدُها ويحوِّلها ويغيِّرها عما فُطِرَت عليه= لأقرَّت (2) بوحدانيَّته ووجوب شكره وطاعته، وبصفاته وحكمته في أفعاله، وبالثَّواب والعقاب، ولكنَّها لما فَسَدَت وانحرفت عن المنهج الذي خُلِقت عليه، أنكَرت ما أنكَرت، وجَحَدَت ما جَحَدَت. فبعث الله رسلَه مذكِّرين لأصحاب الفطر الصَّحيحة السَّليمة، فانقادوا طوعًا واختيارًا، ومحبَّةً وإذعانًا، بما جَعَل مِنْ شواهد ذلك في قلوبهم، حتى إنَّ منهم من لم يسأل عن المعجزة والخارِق (3)، بل عَلِم صحَّة الدَّعوة مِنْ ذاتها، وعَلِم أنها دعوةُ حقٍّ برهانُها فيها، ومُعْذِرين (4) ومقيمين البينة على أصحاب الفطر الفاسدة؛ لئلَّا تحتجَّ على الله بأنه ما أرشدها ولا هداها؛ فيحقَّ القولُ عليها بإقامة الحجَّة (5)، فلا يكونُ سبحانه ظالمًا لها بتعذيبها _________ (1) معطوفٌ على قوله: «ثم بعث الرسل مذكرين به». (2) (ت، ن): «ولأقرت». وهو خطأ. (3) (ت): «والخارقة». (4) معطوفٌ على قوله: «فبعث الله رسله مذكرين». (5) (ت): «الحجج». (ح): «بعد إقامة الحجة».

(2/797)


وإشقائها. وقد بيَّن ذلك سبحانه في قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70]. فتأمَّل كيف ظهرت معرفةُ الله والشهادةُ له بالتوحيد، وإثباتُ أسمائه وصفاته، ورسالة رسله، والبعث للجزاء= مسطورةً مثبتةً في الفطرة، ولم يكن ليعرف بها أنها ثابتةٌ في فطرته، فلمَّا ذكَّرته الرسلُ ونبَّهته رأى ما أخبروه به مستقرًّا في فطرته، شاهدًا به عقلُه، بل وجوارحُه ولسانُ حاله. وهذا أعظمُ ما يكونُ من الإيمان، وهو الذي كتبه سبحانه في قلوب أوليائه وخاصَّته، فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]. فتدبَّر هذا الفصل فإنه من الكنوز في هذا الكتاب، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصِر، ولله الحمدُ والمنَّة. والمقصودُ أنَّ الله سبحانه أعطى العبدَ من هذه المعارف وطُرقها ويسَّرها عليه ما لم يُعْطِه من غيرها؛ لعِظَم حاجته في معاشه ومعاده إليها، ثمَّ وضع في العقل من الإقرار بحُسْن شرعه ودينه الذي هو ظلُّه في أرضه، وعدلُه بين عباده، ونورُه في العالم، ما لو اجتمعت عقولُ العالمين كلِّهم فكانوا على أعقل رجلٍ (1) واحدٍ منهم لما أمكنَهم أن يقترحوا شيئًا أحسنَ منه، ولا أعدل، ولا أصلح، ولا أنفعَ للخليقة في معاشها ومعادها. فهو أعظمُ آياته، وأوضحُ بيِّناته، وأظهرُ حُجَجه على أنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه المتَّصفُ بكلِّ كمال، المنزَّهُ عن كلِّ عيبٍ ومثال، فضلًا عن أن _________ (1) (ت): «على عقل رجل».

(2/798)


يحتاج إلى إقامة شاهدٍ مِنْ خارجٍ عليه بالأدلَّة والشواهد، لتكثير (1) طرق الهدى، وقطع المعذرة، وإزاحة العلَّة والشُّبهة؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]. فأثبتَ في الفطرة حُسْنَ العدل، والإنصاف، والصِّدق، والبِرِّ، والإحسان، والوفاء بالعهد، والنَّصيحة للخلق، ورحمة المسكين، ونصرة المظلوم، ومواساة أهل الحاجةِ والفاقة، وأداء الأمانات، ومقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالعفو والصَّفح، والصَّبر في مواطن الصَّبر، والبذل في مواطن البذل، والانتقام في موضع الانتقام، والحِلْم في موضع الحِلْم، والسَّكينة، والوقار، والرَّأفة، والرِّفق، والتَّودُّد (2) في حُسْن الأخلاق (3)، وجميل المعاشرة مع الأقارب والأباعد، وسَتْر العورات، وإقالة العثرات، والإيثار عند الحاجات، وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، والتَّعاون على أنواع الخير والبرِّ، والشَّجاعة، والسَّماحة، والبصيرة، والثَّبات، والعزيمة، والقوَّة في الحقِّ، واللين لأهله، والشِّدَّة على أهل الباطل، والغلظة عليهم، والإصلاح بين النَّاس، والسَّعي في إصلاح ذات البَيْن، وتعظيم من يستحقُّ التعظيم، وإهانة من يستحقُّ الإهانة، وتنزيل النَّاس منازلهم، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وأخذِ ما سَهُل عليهم وطوَّعت به أنفسُهم من الأعمال والأموال والأخلاق، وإرشاد ضالِّهم، وتعليم جاهلهم، واحتمال جَفْوتهم، واستواء قريبهم وبعيدهم في الحقِّ؛ فأقربهم إليه أولاهم بالحقِّ وإن كان بعيدًا، وأبعدُهم عنه أبعدُهم من الحقِّ وإن كان حبيبًا قريبًا. _________ (1) (ق): «لتكثر». (ت): «ليكثر». ومهملة في (د). (2) (ت، ق): «والمودة». (ت): «والتودة». (3) كذا في الأصول. وفي (ط): «والتؤدة، وحسن الأخلاق».

(2/799)


إلى غير ذلك مِنْ معرفة العدل (1) الذي وضعه بينهم في المعاملات والمناكحات والجنايات، وما أودع في فِطرهم مِنْ حُسْن شكره وعبادته وحده لا شريك له، وأنَّ نِعَمه عليهم توجبُ بذل قدرتهم وطاقتهم في شكره والتقرُّب إليه وإيثاره على ما سواه، وأثبت في الفِطر عِلْمَها (2) بقبح أضداد ذلك. ثمَّ بعث رسله في الأمر بما أثبت في الفِطر حُسْنَه وكماله، والنَّهي عمَّا أثبت فيها قبحَه وعيبه وذمَّه. فطابقت الشريعةُ المنزَّلةُ للفطرة المكمِّلة مطابقةَ التفصيل لجملته، وقامت شواهدُ دينه في الفطرة تنادي للإيمان: حيَّ على الفلاح!، وصدَّعت تلك الشواهدُ والآياتُ دياجي ظُلَم الإباء (3) كما صدَّع الليلَ ضوءُ الصَّباح، وقَبِل حاكمُ الشريعة شهادةَ العقل والفطرة لمَّا كان الشاهدُ غير متَّهمٍ ولا معرَّضٍ للجِرَاح (4). فصل (5) وكذلك أعطاهم من الأمور المتعلِّقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزِّراعة والغِرَاس (6)، وضروب _________ (1) (د، ت، ح، ن): «العقل». (ق): «العاقل». والمثبت أشبه. (2) «علمها» ليست في (ت). وفي (د، ن، ق): «عليها». (3) كذا في الأصول. والإباء: الامتناع مع تكرُّهٍ واستعصاء. (4) (ت): «للجرح». والمثبت أنسبُ للفاصلة. (5) «الدلائل والاعتبار» (60)، «توحيد المفضل» (41). (6) (ق): «الغرس». (ر، ح): «الغراسة».

(2/800)


الصَّنائع، واستنباط المياه، وعَقْد الأبنية، وصَنْعة السُّفن، واستخراج المعادن وتهيئتها لما يرادُ منها، وتركيب الأدوية، وصَنْعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطَّير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التِّجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معاشهم (1). ثمَّ منعَهم سبحانه عِلْمَ ما سوى ذلك مما ليس مِنْ شأنهم، ولا فيه مصلحةٌ لهم، ولا نشأتُهم قابلةٌ له؛ كعِلْم الغيب، وعِلْم ما كان وكلِّ ما يكون، والعلم بعدد القَطْر وأمواج البحر وذرَّات الرِّمال ومَساقط (2) الأوراق، وعدد الكواكب ومقاديرها، وعِلْم ما فوق السَّموات (3) وما تحت الثَّرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناسُ في صدورهم، وما تحملُ كلُّ أنثى وما تَغِيضُ الأرحامُ وما تزداد، إلى سائر ما حَجَبَ (4) عنهم علمَه؛ فمن تكلَّف معرفة ذلك فقد ظلم نفسَه، وبَخَسَ من التَّوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثر أمره. وجرت سنَّةُ الله وحكمتُه أنَّ هذا الضربَ من النَّاس أجهلُهم بالعلم النَّافع وأقلُّهم صوابًا؛ وترى (5) عند من لا يرفعون به رأسًا من الحِكَم والعلم الحقِّ النَّافع ما لا يخطرُ ببالهم أصلًا، وذلك مِنْ حكمة الله في خلقه وهو العزيزُ الحكيم. _________ (1) (ح، ن): «معايشهم». (2) (ح، ن): «وساقط». (3) (ح): «ما في السموات». (4) (ح، ن): «عزب». (5) (ت، ق): «فيرى». ومهملة في (د).

(2/801)


ولا يعرفُ هذا إلا من اطَّلع على ما عند القوم من أنواع الخيال، وضروب المُحال، وفُنون الوساوس والهوى (1)، والهَوَس والخَبْط، وهم يحسبون أنهم على شيء (2)، ألا إنهم هم الكاذبون (3). فالحمدُ لله الذي منَّ على المؤمنين {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. فصل (4) ومن حكمته سبحانه ما منعهم من العلم، علمِ السَّاعة (5) ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاجُ إلى نظر. فلو عرف الإنسانُ مقدار عمره؛ فإن كان قصيرَ العمر لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّبُ الموت في ذلك الوقت؟! فلولا طولُ الأمل لخرِبَت الدُّنيا، وإنما عمارتُها بالآمال. وإن كان طويلَ العمر ــ وقد تحقَّق ذلك ــ فهو واثقٌ بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُبَ _________ (1) «والهوى» ليست في (ق). (2) (ت): «وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا على شيء». (3) كأن المصنف رحمه الله تعالى يقصد بهؤلاء القوم من الناس: أهل التنجيم. وسيفصِّل الردَّ عليهم فيما يأتي. (4) «الدلائل والاعتبار» (61)، «توحيد المفضل» (41 - 43). (5) (ق): «من علم الساعة».

(2/802)


الوقتُ (1) أحدثتُ توبةً. وهذا مذهبٌ لا يرتضيه الله تعالى عزَّ وجلَّ من عباده، ولا يقبلُه منهم (2)، ولا يصلُح عليه أحوالُ العالم، ولا يصلُح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمتُه وسبق في علمه. فلو أنَّ عبدًا من عبيدك عمل على أن يُسْخِطك أعوامًا ثمَّ يرضيك ساعةً واحدةً إذا تيقَّن أنه صائرٌ إليك لم تَقْبَل منه، ولم يفُز لديك بما يفوزُ به من همُّه رضاك (3). وكذا سنةُ الله عزَّ وجلَّ أنَّ العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه توبةٌ ولا إقلاع؛ قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 84 - 85]. والله تعالى إنما يغفرُ للعبد إذا كان وقوعُ الذَّنب منه على وجه غلبة الشَّهوة وقوَّة الطَّبيعة، فيُواقِعُ الذَّنبَ مع كراهته له من غير إصرارٍ (4) في نفسه، فهذا تُرجى له مغفرةُ الله وصفحُه وعفوُه؛ لعلمه تعالى بضعفه وغلبة شهوته له، وأنه يرى كلَّ وقتٍ (5) ما لا صبر له عليه، فهو إذا واقع الذَّنبَ _________ (1) «الوقت» ليست في (ت). (2) (ح، ن): «ولا يقبل منهم». (3) (ت): «مرضاتك». (د، ق): «برضاك». (4) (ت): «إضمار». (ح، ن): «احتراز». (5) (ت): «كل ساعة».

(2/803)


واقعَه مواقعةَ ذليلٍ منكسرٍ خاضعٍ لربِّه خائفٍ منه، يَعْتَلِجُ في صدره شهوةُ النفس الذَّنبَ وكراهةُ (1) الإيمان له؛ فهو يجيبُ داعي النفس تارةً وداعي الإيمان تارات (2). فأمَّا من بنى أمرَه على أن لا يَعِفَّ عن ذنب (3)، ولا يقدِّم خوفًا، ولا يدَع لله شهوةً وهو فَرِحٌ مسرورٌ يضحكُ ظهرًا لبطنٍ إذا ظفر بالذَّنب، فهذا الذي يُخافُ عليه أن يُحال بينه وبين التَّوبة، ولا يوفَّق لها؛ فإنه مِنْ معاصيه وقبائحه على نقدٍ عاجلٍ يتقاضاه سلفًا وتعجيلًا، ومِنْ توبته وإيابه ورجوعه إلى الله على دَينٍ مؤجَّلٍ إلى انقضاء الأجل. وإنما كان هذا الضَّربُ من النَّاس يُحالُ بينهم وبين التَّوبة غالبًا لأنَّ النُّزوع عن اللذَّات والشهوات إلى مخالفة الطَّبع والنفس ــ والاستمرار على ذلك ــ شديدٌ على النفس، صعبٌ عليها، أثقلُ من الجبال عليها، ولا سيَّما إذا انضاف إلى ذلك ضعفُ البصيرة، وقلَّةُ النَّصيب من الإيمان، فنفسُه لا تطوِّعُ له (4) أن يبيع نقدًا بنسيئةٍ ولا عاجلًا بآجل، كما قال بعضُ هؤلاء وقد سُئل: أيما أحبُّ إليك درهمٌ اليوم أو دينارٌ غدًا؟ فقال: لا هذا ولا هذا، ولكن ربعُ درهمٍ من أوَّل أمس! فحرامٌ على هؤلاء أن يوفَّقوا للتَّوبة إلا أن يشاء الله. _________ (1) (ح، ن): «شهوة النفس وكراهة». (ت): «شهوة النفس الذنب وكراهته». (2) (ت، ح): «تارة». (3) (ح): «يقف عن ذنب». (ن): «يقف عن ذلك عن ذنب». (4) (ق): «تطاوع له».

(2/804)


فإذا بلغ العبدُ حدَّ الكِبَر، وضَعُف نظرُه (1)، ووَهَت قُواه (2)، وقد أوجبت له تلك الأعمالُ قوَّةً في غيِّه، وضعفًا في إيمانه، صارت كالمَلَكة له بحيثُ لا يتمكَّنُ من تركها؛ فإنَّ كثرة المزاولات تعطي المَلَكات، فتبقى للنفس هيئةٌ راسخةٌ ومَلَكةٌ ثابتةٌ في الغيِّ والمعاصي، وكلَّما صَدَر منه واحدٌ منها أثَّر أثرًا زائدًا على أثر ما قبله، فيقوى الأثران، وهلمَّ جرًّا، فيهجُم عليه الضَّعفُ والكِبَر ووهنُ القوَّة على هذه الحال، فينتقلُ إلى الله بنجاسته وأوساخه وأدرانه لم يتطهَّر للقدوم على الله، فما ظنُّه بربِّه؟! ولو أنه تاب وأناب وقت القدرة والإمكان لقُبِلت توبتُه، ومُحِيَت سيِّئاتُه، ولكن حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون. ولا شيء أشهى لمن انتقل إلى الله على هذه الحال من التَّوبة، ولكن فرَّط في أداء الدَّين حتى نَفِد المال، ولو أدَّاه وقت الإمكان لقَبِله ربُّه، وسيعلمُ المسوِّفُ المفرِّطُ (3) أيَّ ديَّانٍ ادَّان! وأيَّ غريمٍ يتقاضاه يوم يكونُ الوفاءُ من الحسنات، فإن فَنِيَت فبحملِ (4) السَّيئات! فبانَ أنَّ من حكمة الله (5) ونِعَمه على عباده أن ستر عنهم مقاديرَ آجالهم، ومبلَغ أعمارهم، فلا يزالُ الكيِّسُ يترقَّبُ الموتَ وقد وضعه بين عينيه، فينكفُّ عمَّا يضرُّه في معاده، ويجتهدُ فيما ينفعُه ويُسَرُّ به عند القُدوم. _________ (1) (ح، ن): «وضعفت بصيرته». وسقطت من (ت). (2) (ت): «ووهنت قواه». (ت): «وذهب قوته». (3) (ت، ح، ن): «المسرف والمفرط». والجملة ساقطة من (ق). (4) مهملة في (د). (ح، ق): فيحمل». (ت، ن): «فتحمل». (5) (ن): «أن حكمة الله».

(2/805)


فإن قلت: فها هو مع ذلك (1) قد غُيِّبَ عنه مقدارُ أجله، وهو يترقَّبُ الموتَ في كلِّ ساعة، ومع ذلك يُقارِفُ الفواحشَ وينتهكُ المحارم، فأيُّ فائدةٍ وحكمةٍ حصلت بستر أجله عنه؟! (2). قيل: لَعَمْرُ الله إنَّ الأمر كذلك، وهو الموضعُ الذي حيَّر ألبابَ العقلاء (3)، وافترق النَّاسُ لأجله فِرَقًا شتى: * ففرقةٌ أنكرت الحكمةَ وتعليلَ أفعال الرَّبِّ جملة، وقالوا بالجَبْر المحض، وسدُّوا على أنفسهم الباب وقالوا: لا تُعلَّلُ أفعالُ الرَّبِّ تعالى، ولا هي مقصودٌ بها مصالحُ العباد، وإنما مصدرُها محضُ المشيئة وصِرْفُ الإرادة. فأنكروا حكمةَ الله في خلقه وأمره (4). * وفرقةٌ نفت لأجله القَدَر جملة، وزعموا أنَّ أفعال العباد غيرُ مخلوقةٍ لله حتى يُطلبَ لها وجوهُ الحكمة، وإنما هي خَلقُهم وإبداعُهم، فهي واقعةٌ بحسب جهلهم وظلمهم وضعفهم، فلا يقعُ على السَّداد والصَّواب إلا أقلُّ القليل منها. فهاتان الطَّائفتان متقابلتان أعظمَ تقابُل: فالأولى غَلَت في الجَبْر وإنكار الحِكَم المقصودة في أفعال الله. والثَّانية غَلَت في القَدَر وأخرجت كثيرًا من الحوادث، بل أكثرَها، عن مُلك الرَّبِّ وقدرته. _________ (1) في الأصول: «فما هو مع ذلك». ولعل الصواب ما أثبت. (2) هذا آخر ما نقله المصنف من كتاب «الدلائل والاعتبار». (3) (ح، ن): «الألباب والعقلاء». (4) (ح، ن): «في أمره ونهيه».

(2/806)


وهدى الله أهل السنَّة الوَسَطَ لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، فأثبتوا لله عزَّ وجلَّ عموم القدرة والمشيئة، وأنه تعالى (1) أن يكون في ملكه ما لا يشاء، أو يشاء ما لا يكون، وأنَّ أهل سمواته وأرضه أعجزُ وأضعفُ مِنْ أن يخلقوا ما لا يخلقُه الله أو يُحْدِثوا ما لا يشاؤه (2)، بل ما شاء الله كان ووَجَبَ وجودُه بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن وامتنَع وجودُه لعدم مشيئته له (3)، وأنه لا حول ولا قوَّة إلا به، ولا تتحرَّك في العالم العُلويِّ والسُّفليِّ ذرَّةٌ إلا بإذنه. ومع ذلك فله في كلِّ ما خلق وقضى وقدَّر وشرع من الحِكَم البالغة والعواقب الحميدة ما اقتضاه كمالُ حكمته وعلمه، وهو العليمُ الحكيم؛ فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعَه إلا لحكمةٍ بالغة، وإن تقاصَرَت عنها عقولُ البشر، فهو الحكيمُ القدير، فلا تُجْحَدُ حكمتُه كما لا تُجْحَدُ قدرتُه. والطَّائفة الأولى جَحَدت الحكمة، والثَّانية جَحَدت القدرة، والأمَّةُ الوسطُ أثبتت له كمال الحكمة وكمال القدرة. فالفرقةُ الأولى تشهدُ في المعصية مجرَّدَ المشيئة والخَلق العاري عن الحكمة، وربَّما شَهِدَت الجَبْرَ وأنَّ حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار ونحوها. والفرقةُ الثَّانية تشهدُ في المعصية مجرَّدَ كونها فاعلةً محدِثةً مختارةً هي التي شاءت ذلك بدون مشيئة الله. _________ (1) (ح): «وأنه يتعالى». (2) (ح): «ما لا يشاء». (ق): «ما لم يشأ». (د): «ما لم يشاءه». (3) (ح): «لعدم المشيئة له».

(2/807)


والأمَّةُ الوسطُ تشهدُ عِزَّ الرُّبوبية، وقَهْرَ المشيئة ونفوذها في كلِّ شيء، وتشهدُ مع ذلك فِعْلَها وكسبها واختيارها وإيثارها شهواتها على مرضاة ربها. فيوجبُ الشُّهودُ الأوَّلُ لها سؤالَ ربها والتَّذلُّل له والتَّضرُّع إليه (1) أن يوفِّقها لطاعته، ويحُول بينها وبين معصيته، وأن يثبِّتها على دينه ويعصمها بطواعِيَتِه (2). ويوجبُ الشُّهودُ الثَّاني لها اعترافَها بالذَّنب وإقرارها به على نفسها وأنها هي (3) الظَّالمةُ المستحقَّةُ للعقوبة، وتنزيهَ ربها عن الظُّلم وأن يعذِّبها بغير استحقاقٍ منها، أو يعذِّبها على ما لم تعمله (4). فيجتمعُ لها من الشُّهودَين شهودُ التَّوحيد والشرع والعدل والحكمة. وقد ذكرنا في «الفتوحات القُدُسيَّة» (5) مشاهدَ الخَلق في مُواقعة الذَّنب، وأنها تنتهي إلى ثمانية مشاهد (6): _________ (1) (ح، ن): «والتذلل والتضرع له». (ت): «والتذلل له». (2) أي: بطاعته. (3) (ت، ح، ق، ن): «وأنما هي». (4) (ق، د، ت): «تعلمه». والمثبت من (ح، ن) أشبه. (5) لعله هو «الفتح القدسي»، وهو من كتب المصنف التي لم يُعْثَر عليها بعد، وقد ذكره في بعض كتبه، وذكره له غيرُ واحد. انظر: «ابن القيم» للشيخ بكر (278). (6) ذكرها المصنف في «طريق الهجرتين» (350 - 372). وأفاض في «مدارج السالكين» (1/ 399 - 433) القول فيها، فبلغت ثلاثة عشر مشهدًا، وأفردها بعض النساخ، ومنها نسخة في تشستربتي، ونشرها المكتب الإسلامي. وهذا البابُ مما اعتنى ابن القيم بتحريره وتجويده، ولم أره في المطبوع من تراث شيخه. وقال في «المدارج»: «وهذا الفصل من أجلِّ فصول الكتاب، وأنفعها لكل أحد، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتابٍ سواه إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى: سفر الهجرتين في طريق السعادتين». وسيأتي تنبيهه على قلَّة من استفتحه من الناس، وأن جلَّ بحثهم هو في شهود حِكَم المخلوقات والأوامر والنواهي.

(2/808)


أحدها: المشهدُ الحيوانيُّ البهيميُّ؛ الذي شُهودُ صاحبه مقصورٌ على شُهود لذَّته به فقط، وهو في هذا المشهد مشاركٌ لسائر الحيوانات، وربَّما يزيدُ عليه (1) في اللذَّة وكثرة التمتُّع. والثَّاني: مشهدُ الجَبْر؛ وأنَّ الفاعل فيه سواه، والمحرِّك له غيرُه، ولا ذنبَ له هو. وهذا مشهدُ المشركين وأعداء الرُّسل. الثَّالث: مشهدُ القَدَر؛ وهو أنه هو الخالقُ لفعله المُحْدِثُ له بدون مشيئة الله (2) وخَلْقِه. وهذا مشهدُ القَدَريَّة المجوسيَّة. الرَّابع: مشهدُ أهل العلم والإيمان، وهو مشهدُ القدر والشَّرع، يَشْهَدُ فعلَه وقضاءَ الله وقدرَه، كما تقدَّم. الخامس: مشهدُ الفقر والفاقة والعجز والضَّعف وأنه إن لم يُعِنْه الله (3) ويثبِّته ويوفِّقه فهو هالك. والفرقُ بين هذا (4) ومشهد الجبريَّة ظاهر. السَّادس: مشهدُ التَّوحيد الذي يُشْهَدُ فيه انفرادُ الله عزَّ وجلَّ بالخَلق والإبداع ونفوذ المشيئة، وأنَّ الخلقَ أعجزُ من أن يعصُوه بغير مشيئته. _________ (1) أي: يزيد الحيوانُ عليه. (2) (ت): «من غير مشيئة الله». (3) (ح، ن): «يغثه الله». (4) (ح، ن): «مشهد هذا».

(2/809)


والفرقُ بين هذا وبين المشهد الخامس أنَّ صاحبَه شاهدٌ لكمال فقره وضعفه وحاجته، وهذا شاهدٌ لتفرُّد الله بالخلق والإبداع، وأنه لا حول ولا قوَّة إلا به. السَّابع: مشهدُ الحكمة، وهو أن يَشْهَد حكمةَ الله عزَّ وجلَّ في قضائه وتخليته بين العبد وبين الذَّنب. ولله في ذلك حِكَمٌ تعجزُ العقولُ عن الإحاطة بها، وذكرنا منها في ذلك الكتاب (1) قريبًا من أربعين حكمة (2)، وقد تقدَّم في أوَّل هذا الكتاب التنبيهُ على بعضها (3). الثَّامن: مشهدُ الأسماء والصِّفات، وهو أن يَشْهَد ارتباط الخلق والأمر والقضاء والقدر بأسمائه تعالى وصفاته، وأنَّ ذلك مُوجَبُها ومقتضاها؛ فأسماؤه الحسنى اقتضت ما اقتضته من التَّخلية بين العبد وبين الذَّنب؛ فإنه الغفَّارُ التوَّابُ العفوُّ الحليم، وهذه أسماءُ تطلُب آثارَها ومُوجِباتها ولا بدَّ، «فلو لم تذنبوا لذهبَ الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفرُ لهم» (4). وهذا المشهدُ والذي قبله أجلُّ هذه المشاهد وأشرفُها، وأرفعُها قدرًا، وهما لخواصِّ الخليقة. فتأمَّل بُعْد ما بينهما وبين المشهد الأول. _________ (1) أي: «الفتوحات القدسية» المتقدِّم ذكره. (2) وذكرها كذلك في كتاب «التحفة المكية». انظر: «بدائع الفوائد» (1552). وسيبسط القول فيما يأتي في إحدى وثلاثين حكمةٍ منها، وساقها مختصرةً في «طريق الهجرتين» (362 - 372). (3) (ص: 12، 65). وانظر التعليق عليه. (4) كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم (2749) عن أبي هريرة.

(2/810)


وهذان المشهدان يَطْرحان العبدَ على باب المحبة، ويفتحان له من المعارف والعلوم أمورًا لا يُعَبَّرُ عنها. وهذا بابٌ عظيمٌ من أبواب المعرفة قلَّ من استفتحه من النَّاس، وهو شهودُ الحكمة البالغة في قضاء السيِّئات وتقدير المعاصي، وإنما استفتح النَّاسُ بابَ الحِكَم في الأوامر والنَّواهي، وخاضوا فيها، وأتوا بما وصلت إليه علومُهم، واستفتحوا أيضًا بابها في المخلوقات، كما قدَّمناه، وأتوا فيه بما وصلت إليه قُواهم، وأمَّا هذا البابُ فكما رأيتَ كلامهم فيه، فقلَّ أن ترى لأحدهم (1) فيه ما يشفي أو يُلِمُّ (2). وكيف يطَّلعُ على حكمة هذا الباب من عنده أنَّ أعمال العباد ليست مخلوقةً لله، ولا داخلةً تحت مشيئته أصلًا؟! وكيف يتطلَّبُ لها حكمةً أو يثبتُها؟! أم كيف يطَّلعُ عليها من يقول: هي خلقُ الله، ولكنَّ أفعاله غيرُ معلَّلةٍ بالحِكَم ولا تَدْخُلها لامُ تعليلٍ أصلًا، وإن جاء شيءٌ من ذلك صُرِف إلى لام العاقبة لا إلى لام العلَّة والغاية، فإذا جاءت الباءُ في أفعاله صُرِفت إلى باء المصاحبة لا إلى باء السَّببية؟! وإذا كان المتكلِّمون عند النَّاس هم هؤلاء الطَّائفتين، فإنهم لا يرون الحقَّ خارجًا عنهما، ثمَّ كثيرٌ من الفضلاء يتحيَّر إذا رأى بعض أقوالهم الفاسدة من ... (3)، ولا يدري أين يذهب. _________ (1) (ح): «لأحد». (2) أي: أو يأتي بقريبٍ من الشِّفاء. (3) بياض بمقدار كلمة في (ت، د، ق). وفي (ح): «مر» بدل «من». والعبارة في (ن): «من لا يدري أين يذهب».

(2/811)


ولما عُرِّبت كتبُ الفلاسفة صار كثيرٌ من النَّاس إذا رأى أقوال المتكلِّمين الضعيفة، وقد قالوا: إنَّ هذا هو الذي جاء به الرسول= قَطَع القنطرةَ وعدَّى (1) إلى ذلك البرِّ (2)، وكلُّ هذا من الجهل القبيح والظَّنِّ الفاسد أنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن أقوالهم، فما أكثر خروجَ الحقِّ عن أقوالهم! وما أكثر ما يذهبون في المسائل التي هي حقٌّ وصوابٌ (3) إلى خلاف الصَّواب! والمقصودُ أنَّ المتكلِّمين لو أجمعوا على شيءٍ لم يكن إجماعُهم حجَّةً عند أحدٍ من العلماء، فكيف إذا اختلفوا؟! والمقصودُ أنَّ مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يُجْرِيها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي من ألطف ما تكلَّم فيه النَّاسُ وأدقِّه وأغمضِه، وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيمُ العليمُ سبحانه، ونحن نشيرُ إلى بعضها: فمنها: أنه سبحانه يحبُّ التَّوابين، حتى إنَّ مِنْ محبَّته لهم أنه يفرحُ بتوبة أحدهم أعظمَ من فرح الواجد (4) لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدَّوِّيَّة المَهْلَكة (5) إذا فقدها وأيِسَ منها (6)، وليس في أنواع الفرح _________ (1) (ح): «فقطع القنطرة وعبر». (2) أي: صار إلى قول الفلاسفة وكتبهم. (3) (ح): «الحق والصواب». (4) (ت، ن، ق): «الواحد». (5) الدوية: الفلاة الواسعة. وهي المهلكة؛ لأن الأرواح تهلك فيها. (6) انظر ما تقدم (ص: 18).

(2/812)


أكملُ ولا أعظمُ من هذا الفرح، كما سنوضِّحُ ذلك ونزيدُه تقريرًا عن قريبٍ إن شاء الله (1)، ولولا المحبةُ التامَّةُ للتَّوبة ولأهلها لم يحصل هذا الفرح. ومن المعلوم أنَّ وجود المُسَبَّب بدون سببه ممتنع، وهل يوجدُ ملزومٌ بدون لازمه، أو غايةٌ بدون وسيلتها؟! وهذا معنى قول بعض العارفين: «لو لم تكن التَّوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذَّنب أكرمَ المخلوقات عليه» (2). فالتَّوبةُ هي غايةُ كمال كلِّ آدميٍّ، وإنما كان كمالُ أبيهم بها، فكم بين حاله وقد قيل له: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119] وبين قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]! فالحالُ الأوَّلُ حالُ أكلٍ وشربٍ وتمتُّع، والحالُ الأخرى حالُ اجتباءٍ واصطفاءٍ وهداية، فيا بُعْدَ ما بينهما! ولمَّا كان كمالُه بالتَّوبة كان كمالُ بَنِيه أيضًا بها، كما قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73]. _________ (1) لم يقع ذلك في باقي الكتاب. وانظر ما كتبناه في المقدمة. (2) أخرجه الخطيب في «الزهد» (114 - منتخبه) عن يحيى بن معاذ، بلفظ: «لولا أن العفو من أحب الأشياء إليه ... ». وانظر: «صفة الصفوة» (4/ 92). وهو بلفظ التوبة في مصنفات ابن تيمية، وعنه المصنف. انظر: «منهاج السنة» (2/ 432، 6/ 210)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 294)، و «جامع المسائل» (4/ 41)، و «طريق الهجرتين» (510)، و «مدارج السالكين» (1/ 297)، و «شفاء العليل» (617).

(2/813)


فكمالُ الآدميِّ في هذه الدَّار (1) بالتَّوبة النَّصُوح، وفي الآخرة بالنَّجاة من النَّار ودخول الجنة، وهذا الكمالُ مرتَّبٌ على كماله الأوَّل. والمقصودُ أنه سبحانه لمحبَّته التَّوبةَ وفرحه بها يقضي على عبده بالذَّنب، ثمَّ إن كان ممَّن سبقت له الحسنى قضى له بالتَّوبة، وإن كان ممَّن غَلَبت عليه شقاوتُه (2) أقام عليه حجَّةَ عدله وعاقبه بذنبه. فصل ومنها (3): أنه سبحانه يحبُّ أن يتفضَّل على عباده (4)، ويُتِمَّ عليهم نِعَمَه، ويُرِيهم مواقع برِّه وكرمه، فلمحبَّته الإفضالَ والإنعامَ ينوِّعُه عليهم أعظمَ الأنواع وأكثرها في سائر الوجوه الظَّاهرة والباطنة. ومِنْ أعظم أنواع الإحسان والبرِّ أن يحسِن إلى من أساء، ويعفُو عمَّن ظَلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تابَ إليه، ويقبل عذرَ من اعتذر إليه. وقد نَدَبَ عبادَه إلى هذه الشِّيَم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحقُّ، وكان له في تقدير أسبابها من الحِكَم والعواقب الحميدةِ ما يَبْهَرُ العقول، فسبحانه وبحمده (5). _________ (1) (ن): «مشاهدة هذه الدار». (ت): «فكمال الآدمي مشاهدة الدار». (2) (ح): «الشقاوة». (3) أي: ومن حِكَم الله في قضاء السيئات وتقدير المعاصي على العباد. (4) (ح، ن): «يتفضل عليهم». (5) «وبحمده» ليست في (ح، ن).

(2/814)


وحكى بعض العارفين (1) أنه قال: طفتُ في ليلةٍ مطيرةٍ شديدة الظُّلمة وقد خلا الطَّوافُ وطابت نفسي، فوقفتُ عند الملتَزم ودعوتُ، فقلت: «اللهمَّ اعصمني حتى لا أعصيك»، فهَتَف به هاتفٌ: أنت تسألني العصمة، وكلُّ عبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتُهم فعلى من أتفضَّل؟ ولمن أغفر؟ قال: فبقيتُ ليلتي إلى الصَّباح أستغفرُ الله حياءً منه (2). هذا ولو شاء الله عزَّ وجلَّ أن لا يعصى في الأرض طرفةَ عَيْنٍ لم يُعْصَ، ولكن اقتضت مشيئتُه (3) ما هو مُوجَبُ حكمته سبحانه، فمن أجهلُ بالله ممَّن يقول: إنه يعصى قسرًا (4) بغير اختياره ومشيئته؟! سبحانه وتعالى (5) عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. فصل ومنها: أنه سبحانه له الأسماءُ الحسنى، ولكلِّ اسمٍ من أسمائه أثرٌ من الآثار في الخلق والأمر لا بدَّ من ترتيبه عليه (6)، كترتُّب المرزوق والرِّزق على _________ (1) هو إبراهيم بن أدهم، في «قوت القلوب» (2/ 102)، و «الإحياء» (4/ 152)، و «العاقبة» لعبد الحق (320). وانظر: «مدارج السالكين» (1/ 301)، و «شفاء العليل» (617). (2) في رواية ابن ماجه (757) لحديث أبي هريرة مرفوعًا في دعاء الخروج من المسجد: «اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم». وروي بلفظ: «اللهم باعدني من الشيطان»، «اللهم أجِرني من الشيطان الرجيم». ولا يصحُّ رفعه، إنما هو عن كعب الأحبار. انظر: «نتائج الأفكار» (1/ 280). (3) (ت): «حكمته ومشيئته». (4) (ت): «قهرا». (5) (ت): «سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى». (6) (ح، ن): «ترتبه عليه».

(2/815)


الرَّازق، وترتُّب المرحوم وأسباب الرَّحمة على الرَّاحِم (1)، وترتُّب المرئيَّات والمسموعات على السَّميع والبصير، ونظائر ذلك في جميع الأسماء. فلو لم يكن في عباده من يخطاء ويذنبُ ليتوب عليه، ويغفر له، ويعفُو عنه، لم يَظْهَرْ أثرُ أسمائه الغفور، والعفوِّ، والحليم، والتَّواب، وما جرى مجراها. وظهورُ أثر هذه الأسماء ومتعلَّقاتها في الخليقة كظهور آثار سائر الأسماء الحسنى ومتعلَّقاتها؛ فكما أنَّ اسمه «الخالق» يقتضي مخلوقًا، و «البارئ» يقتضي مبروءًا، و «المصوِّر» يقتضي مصوَّرًا ولا بدَّ، فأسماؤه «الغفَّار، التَّواب، العفوُّ، الحليم» تقتضي مغفورًا له (2) وما يغفرُه له، وكذلك من يتوبُ عليه، وأمورًا يتوبُ عليه مِنْ أجلِها، ومَنْ يَحْلُمُ عنه ويعفو عنه، وما يكونُ متعلَّق الحِلْم والعفو؛ فإنَّ هذه الأمور متعلِّقةٌ بالغير ومعانيها مستلزمةٌ لمتعلَّقاتها. وهذا بابٌ أوسعُ (3) من أنْ يُدْرَك، واللبيبُ يكتفي منه باليسير، وغليظُ الحجاب في وادٍ ونحنُ في واد. وإن كان أثلُ الوادِ يجمعُ بيننا ... فغيرُ خفيٍّ شِيحُه مِنْ خُزامِه (4) _________ (1) كذا وقع في الأصول: الرازق، الراحم. وليسا من الأسماء الحسنى. وإنما هما: الرزاق، الرحيم. فلو أوردهما لكان أولى. (2) (ح، ن): «والمصور يقتضي مصورا، والغفور يقتضي مغفورا له». (3) (ق): «واسع». (ت): «واسع أوسع». (4) مأخوذٌ من قول أبي العلاء: وإن يكُ وادينا من الشِّعر واحدًا ... فغيرُ خفيٍّ أثلُه من ثمامِه انظر: «شروح سقط الزند» (2/ 474)، و «الانتصار» للبطليوسي (22). والشِّيح والخُزامى نبتان طيِّبا الرائحة، إلا أن الخزامى أطيب. قال بعضهم: لم نجد من الزهر زهرةً أطيب نفحةً من زهرة الخزامى. «اللسان». والمقابلة بين الأثل والثمام أظهر منها بين الشِّيح والخزامى.

(2/816)


فتأمَّل ظهور هذين الاسمين: اسم الرزَّاق واسم الغفَّار في الخليقة، ترى ما يُعْجِبُ العقول، وتأمَّل آثارهما حقَّ التأمُّل في أعظم مجامع الخليقة، وانظر كيف وَسِعَهم رزقُه ومغفرتُه، ولولا ذلك لما كان لهم (1) مِنْ قيامٍ أصلًا، فلكلٍّ منهم نصيبٌ من الرِّزق والمغفرة؛ فإمَّا متَّصلًا (2) بنشأته الثَّانية، وإمَّا مختصًّا بهذه النَّشأة. فصل ومنها: أنه سبحانه يعرِّفُ عبدَه (3) عِزَّه في قضائه وقدره، ونفوذ مشيئته، وجريان حُكمه (4)، وأنه لا محيصَ للعبد عمَّا قضاه عليه، ولا مفرَّ له منه، بل هو في قبضة مالكه وسيِّده، وأنه عبدُه وابنُ عبده وابنُ أمته، ناصيتُه بيده، ماضٍ فيه حكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه (5). _________ (1) في الأصول: «له». (2) (ت): «مختصا». (3) (ت، ح، ق، ن): «عباده». (4) في الأصول: «حكمته». تحريف. انظر: «طريق الهجرتين» (353، 355، 362)، و «مدارج السالكين» (2/ 500). (5) كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا، عند أحمد (1/ 391). وصححه ابن حبان (972)، والمصنف في بعض كتبه، وحسنه ابن حجر. انظر التعليق على «الوابل الصيب» (298)، و «علل الدارقطني» (5/ 201)، و «مسند أحمد» (6/ 247) طبعة الرسالة.

(2/817)


فصل ومنها: أنه سبحانه يعرِّفُ العبدَ حاجتَه إلى حفظه له ومعونته وصيانته، وأنه كالوليد (1) الطِّفل في حاجته إلى من يحفظُه ويصونُه، فإن لم يحفظه مولاه الحقُّ ويصونه ويعينه (2) فهو هالكٌ ولا بدَّ، وقد مَدَّت الشياطينُ أيديها إليه من كلِّ جانبٍ تريدُ تمزيقَ حاله كلِّه، وإفسادَ شأنه كلِّه، وأنَّ مولاه وسيِّده إن وَكَلَه إلى نفسه وكَلَه إلى ضيعةٍ وعجزٍ وذنبٍ وخطيئةٍ وتفريط، فهلاكُه أدنى إليه من شِراك نعله. فقد أجمع العلماءُ بالله على أنَّ التَّوفيق أن لا يَكِل الله العبدَ إلى نفسه، وأجمعوا على أنَّ الخِذلان أن يخلِّي بينه وبين نفسه (3). فصل ومنها: أنه سبحانه يَسْتَجْلِبُ مِنْ عبده بذلك ما هو من أعظم أسباب السَّعادة له (4)؛ من استعاذته واستعانته به من شرِّ نفسه، وكيد عدوِّه، ومن أنواع الدُّعاء والتضرُّع، والابتهال والإنابة، والفاقة والمحبة، والرَّجاء والخوف، وأنواعٍ من كمالات العبد تبلغُ نحو المئة (5)، ومنها ما لا تدركُه _________ (1) (ت): «كالولد». (2) كذا في الأصول، في الفعلين. والجادة حذف حرف العلة. (3) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 180، 413)، و «الفوائد» (141)، و «الوابل الصيب» (10). (4) (ق): «أسباب سعادة العبد». (5) يريد المنازل التي ذكرها أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في «منازل السائرين»، وهي مئة منزلة، وقد شرحها المصنف في كتابه «مدارج السالكين».

(2/818)


العِبارة، وإنما يُدْرَكُ بوجوده، فيحصُل للرُّوح بذلك قُربٌ خاصٌّ لم يكن يحصُل بدون هذه الأسباب، ويجدُ العبدُ من نفسه كأنه مُلقًى على باب مولاه بعد أن كان نائيًا عنه، وهذا الذي أثمَر له: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}، وهو ثمرة: «لَلَّهُ أفرحُ بتوبة عبده» (1). وأسرارُ هذا الوجه يضيقُ عنها القلبُ واللسان، وعسى أن يجيئك في القسم الثَّاني من الكتاب ما تقرُّ به عينُك إن شاء الله تعالى (2). فكم بين عبادة مُدِلٍّ على ربِّه بعبادته، شامخٍ بأنفه، كلَّما طُلِبَت منه (3) أوصافُ العبد قامت صُوَرُ تلك الأعمال في نفسه فحجبَته عن معبوده وإلهه، وبين عبادة من قد كَسَرَ الذلُّ قلبَه كلَّ الكَسْر (4)، وأحرَق ما فيه من الرُّعونات والحماقات والخيالات، فهو لا يرى نفسَه مع الله إلا مسيئًا، كما لا يرى ربَّه إليه إلا محسنًا؛ فهو لا يرضى (5) نفسَه لله طرفةَ عين؛ قد كَسَرَ إزراؤه (6) على نفسه قلبَه، وذلَّل لسانَه وجوارحَه، وطأطأ منه ما ارتفع من غيره، فقلبُه واقفٌ بين يدي ربِّه وقوفَ ناكسِ الرَّأس، خاضعٍ (7) غاضِّ البصر، خاشع الصَّوت، _________ (1) والحديث في الصحيحين، وقد تقدم قريبًا. (2) انظر ما كتبناه في المقدمة حول تقسيم الكتاب. (3) (د، ق، ن، ت): «كلما طلب منه». (4) (ح): «كل الكسرة». (5) (د، ت): «يرى». وفي طرة (د): «لعله: يرضى». ولم يتنبه ناسخ (ق)، فجعلها: «يرضى يرى». والعبارة في (ح، ن): «لا يرى نفسه طرفة عين». والصواب المثبت. وانظر: «مدارج السالكين» (2/ 94). (6) (ن): «ازدراؤه». (7) (د، ت، ق): «خاشع». (ن): «خاشع خاضع».

(2/819)


هادئ الحركات، قد سَجَد بين يديه سجدةً إلى الممات. فلو لم يكن من ثمرة ذلك القضاء والقدر إلا هذا وحده لكفى به حكمة، والله المستعان. فصل ومنها: أنه سبحانه يستخرجُ بذلك مِنْ عبده تمامَ عبوديَّته؛ فإنَّ تمام العبوديَّة هو بتكميل مقام الذُّلِّ والانقياد، وأكملُ الخلق عبوديَّةً أكملُهم ذلًّا لله وانقيادًا وطاعة. والعبدُ ذليلٌ لمولاه الحقِّ بكلِّ وجهٍ من وجوه الذلِّ؛ فهو ذليلٌ لعِزِّه، وذليلٌ لقهره (1)، وذليلٌ لربوبيَّته وتصرُّفه فيه، وذليلٌ لإحسانه إليه وإنعامه عليه؛ فإنَّ من أحسَن إليك فقد استَعْبَدك وصار قلبُك معبَّدًا له، وذليلٌ لغِنَاه (2)؛ لحاجته إليه (3) على مدى الأنفاس في جلب كلِّ ما ينفعُه ودفع كلِّ ما يضرُّه. وبقي نوعان (4) من أنواع التذلُّل والتعبُّد، لهما أثرٌ عجيب، ويقتضيان من صاحبهما من الطَّاعة والفوز (5) ما لا يقتضيه غيرُهما: أحدهما: ذلُّ المحبة، وهذا نوعٌ آخرُ غيرُ ما تقدَّم، وهو خاصَّةُ المحبة ولبُّها، بل روحُها وقِوامُها وحقيقتُها، وهو المرادُ على الحقيقة من العبد لو فَطِن. _________ (1) (ت): «فهو ذليل العزة وذليل القهرية». (2) (ت، د، ق، ح): «تعبد». تحريف. (3) (ن): «وذليلا بقدر الحاجة إليه». (4) (ت، ح، ن): «وهنا نوعان». (5) (ت، ق، د): «والنور».

(2/820)


وهذا يستخرجُ مِنْ قلب المُحِبِّ من أنواع التقرُّب والتودُّد والتملُّق والإيثار والرِّضا والحمد والشُّكر والصَّبر والتقدُّم وتحمُّل العظائم ما لا يستخرجُه الخوفُ وحده، ولا الرَّجاءُ وحده؛ كما قال بعض الصَّحابة: «إنه ليسْتَخْرِجُ محبتُه من قلبي من طاعته ما لا يستخرجُه خوفُه» (1) أو كما قال. فهذا ذلُّ المحبِّين. الثَّاني: ذلُّ المعصية؛ فإذا انضاف هذا إلى هذا هناك فَنِيَت الرُّسوم، وتلاشَت الأنفُس، واضمحلَّت القُوى (2)، وبطَلَت الدَّعاوى جملة، وذهبت الرُّعونات، وطاحت الشَّطحات، ومُحِيَ من القلب واللسان: أنا وأنا، واستراح المسكينُ من شكاوى الصُّدود والإعراض والهجر، وتجرَّد الشُّهود، فلم يبق إلا شهودُ العزِّ والجلال المحض الذي تفرَّد به ذو الجلال والإكرام، الذي لا يشاركه أحدٌ من خلقه في ذرَّةٍ من ذرَّاته، وشهودُ الذُّلِّ والفقر المحض من جميع الوجوه بكلِّ اعتبار؛ فيشهدُ غاية ذلِّه وانكساره، وعزَّة محبوبه وجلاله وعظمته وقدرته وغِناه. فإذا تجرَّد له هذان الشُّهودان، ولم يبق ذرَّةٌ من ذرَّات الذُّلِّ والفقر والضرورة إلى ربِّه شَهِدَها فيه بالفعل (3)، وقد شَهِد مقابِلها هناك= فلِلَّه أيَّ _________ (1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 363) عن الفضيل بن عياض، عن حكيمٍ من الحكماء. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (219) - ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 54) - عن وهب بن منبه عن حكيمٍ من الحكماء. ونسبه أبو طالب في «قوت القلوب» (2/ 90) لصهيب رضي الله عنه. وانظر: «بدائع الفوائد» (95)، وما سيأتي (ص: 1082). (2) (ح): «القلوب». (3) (ح، ن): «إلا شاهدها فيه بالعقل».

(2/821)


مقامٍ أُقِيم هذا القلبُ إذ ذاك؟! وأيَّ قربٍ حَظِي به؟! وأيَّ نعيمٍ أدركه؟! وأيَّ رَوْحٍ باشره؟! فتأمَّل الآن موقعَ الكَسْرة التي حصلت له بالمعصية في هذا الموطن، ما أعجبَها! وما أعظمَ موقعَها! كيف جاءت فمحقَت (1) من نفسه الدَّعاوى والرُّعونات وأنواع الأماني الباطلة، ثمَّ أوجَبَت له الحياءَ والخجل من صالح ما عَمِل، ثمَّ أوجبت له استكثارَ قليلِ ما يَرِدُ عليه من ربِّه لعِلْمه بأنَّ قَدْرَه أصغرُ من ذلك وأنه لا يستحقُّه، واستقلالَ أمثال الجبال من عمله الصَّالح بأنَّ سيِّئاته (2) وذنوبَه تحتاجُ من المكفِّرات والماحيات إلى أعظم من هذا. فهو لا يزالُ محسنًا وعند نفسه المسيء المذنب منكسرًا ذليلًا خاضعًا، لا يرفعُ له رأسًا، ولا يقيمُ له صدرًا (3)، وإنما ساقه إلى هذا الذلُّ الذي أورثه إياه مباشرةُ الذَّنب، فأيُّ شيءٍ أنفعُ له من هذا الدَّواء؟! لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقبُه ... وربَّما صَحَّتِ الأجسامُ بالعِلَلِ (4) ونكتةُ هذا الوجه أنَّ العبدَ متى شَهِد صلاحَه واستقامتَه شَمَخ بأنفه وتعاظمت إليه نفسُه، وظَنَّ أنه ... وأنه ... ، فإذا ابتُلي بالذَّنب تصاغرت إليه نفسُه، وذلَّ وخضع، وتيقَّن أنه ... وأنه ... ! (5). _________ (1) (ت): «فحققت». (2) أي: لعلمه بأنَّ سيئاته. (3) (ح، ن): «لا يرتفع له رأس ولا ينقام له صدر». (4) البيت للمتنبي، في ديوانه (331). (5) انظر: «طريق الهجرتين» (363).

(2/822)


فصل ومنها: أنَّ العبد يعرفُ حقيقة نفسه، وأنها الظَّالمة، وأنَّ ما صَدَر منها من شرٍّ فقد صَدَر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهلُ والظُّلمُ (1) منبعُ الشرِّ كلِّه، وأنَّ كلَّ ما فيها من خيرٍ وعلمٍ وهدًى وإنابةٍ وتقوًى فهو من ربها تعالى، هو الذي زكَّاها به، وأعطاها إياه، لا منها، فإذا لم يشأ تزكيةَ العبد تركه مع دواعي جهله وظلمه، فهو تعالى الذي يزكِّي من يشاءُ من النُّفوس، فتزكُو وتأتي بأنواع الخير والبرِّ، ويتركُ تزكية من يشاءُ منها، فتأتي بأنواع الشرِّ والخبث. وكان من دعاء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها» (2). فإذا ابتلى اللهُ العبدَ بالذَّنب عَرَفَ به نفسَه ونقصَها، فرُتِّب له على ذلك التَّعريف حِكَمٌ ومصالحُ عديدة: منها: أنه يأنفُ مِنْ نقصها، ويجتهدُ في كمالها. ومنها: أنه يعلمُ فقرَها دائمًا إلى من يتولَّاها ويحفظُها. ومنها: أنه يستريحُ ويُرِيحُ العباد من الرُّعونات والحماقات التي ادَّعاها أهلُ الجهل في أنفسهم، مِنْ قِدَمٍ، أو اتصالٍ بالقديم واتحادٍ به، أو حُلولٍ أو غير ذلك من المحالات؛ فلولا أنَّ هؤلاء غاب عنهم شُهودُهم لِنَقْص أنفسهم وحقيقتها لم يقعوا فيما وقعوا فيه (3). _________ (1) «والظلم» ليست في (ح، ن). (2) أخرجه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم. (3) (ت، د، ق): «وقعوا به».

(2/823)


فصل ومنها: تعريفُه سبحانه عبدَه سَعة حِلْمه وكرمه في سَتره عليه، وأنه لو شاء لعاجَله على الذَّنب ولهَتَكه بين عباده، فلم يَطِب له معهم عيشٌ أبدًا، ولكن جلَّله بستره، وغشَّاه بحِلْمه، وقيَّض له من يحفظُه وهو في حالته تلك، بل كان شاهدًا وهو يبارزُه (1) بالمعاصي والآثام، وهو مع ذلك يحرُسه بعينه التي لا تنام. وقد جاء في بعض الآثار: «يقولُ الله تعالى: أنا الجوادُ الكريم، من أعظمُ مني جودًا وكرمًا؟! عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم في منازلِهم» (2). فلولا حِلمُه ومغفرتُه (3) لما استقرَّت السَّمواتُ والأرض في أماكنهما. وتأمَّل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، هذه الآيةُ تقتضي الحِلمَ والمغفرة، فلولا حِلمُه ومغفرتُه لزالتا عن أماكنهما. ومن هذا قولُه تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90 - 91]. _________ (1) «وهو» ليست في (د، ت، ق). (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 93) عن الفضيل بن عياضٍ في سياقٍ طويل. وهو في «مسند الفردوس» للديلمي (5/ 247) مرفوعًا من حديث إبراهيم بن هدبة عن أنس، وإسناده تالف، ابن هدبة كذاب. انظر: «الميزان» (1/ 71). (3) (ق): «حلمه وكرمه ومغفرته».

(2/824)


فصل ومنها: تعريفُه عبدَه أنه لا سبيل له إلى النَّجاة إلا بعفوه ومغفرته (1)، وأنه رَهِينٌ بحقِّه، فإن لم يتغمَّده بعفوه ومغفرته وإلا فهو (2) من الهالكين لا محالة، فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو محتاجٌ إلى عفوه ومغفرته، كما هو محتاجٌ إلى فضله ورحمته. فصل ومنها: تعريفُه عبدَه (3) كرمَه سبحانه في قبول توبته، ومغفرته له على ظلمه وإساءته؛ فهو الذي جاد عليه بأن وفَّقه للتَّوبة، وألهمه إياها، ثمَّ قَبِلها منه؛ فتاب عليه أوَّلاً وآخرًا. فتوبةُ العبد محفوفةٌ بتوبةٍ قبلها عليه من الله إذنًا وتوفيقًا، وتوبةٍ ثانيةٍ منه عليه قبولًا ورضًا؛ فله الفضلُ في التَّوبة والكرمُ أوَّلاً وآخرًا، لا إله إلا هو. فصل ومنها: إقامةُ حجَّة عدله على عبده ليعلم العبدُ أنَّ لله عليه الحجَّة البالغة، فإذا أصابه ما أصابه (4) من المكروه فلا يقل: أنى هذا؟ ولا: مِنْ أين أُتِيت؟ ولا: بأيِّ ذنبٍ أُصِبت؟ فما أصاب العبدَ من مصيبةٍ قطُّ دقيقةٍ ولا جليلةٍ إلا _________ (1) (ت): «بعفوه ومعونته ومغفرته». (2) كذا في الأصول. واستعمال (إلا) في مثل هذا يقع في كتب المصنف، وبخطه في «طريق الهجرتين» (44، 227). وهو خلاف الجادة. (3) (د، ن، ق، ح): «عباده». (4) (ت، ق): «فإذا أصابه بما أصابه».

(2/825)


بما كسبت يداه وما يعفو الله عنه أكثر، و «ما نزل بلاءٌ قطُّ إلا بذنبٍ ولا رُفِع إلا بتوبة» (1). ولهذا وضع اللهُ المصائبَ والبلايا والمحن رحمةً بين عباده يكفِّرُ بها مِنْ خطاياهم، فهي من أعظم نِعَمه عليهم وإن كرهتها أنفسُهم، ولا يدري العبدُ أيُّ النعمتين عليه أعظم: نعمتُه عليه فيما يكره، أو نعمتُه عليه فيما يحبُّ؟ و «ما يصيبُ المؤمن من همٍّ ولا وَصَبٍ ولا أذًى، حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه» (2). وإذا كان للذُّنوب عقوباتٌ ولا بدَّ، فكلُّ ما عُوقِب به العبدُ من ذلك قبل الموت خيرٌ له مما بعده وأيسرُ وأسهلُ بكثير. فصل ومنها: أن يعامِل العبدُ بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحبُّ أن يعامله الله به في إساءته وزلَّاته وذنوبه؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفا عفا الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله في إساءته (3)، ومن أغضى وتجاوز تجاوز اللهُ عنه، ومن استقصى استقصى اللهُ عليه. _________ (1) كما قال العباس بن عبد المطلب حين استسقى به عمر رضي الله عنهما، فيما أخرجه الدينوري في «المجالسة» (727)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (26/ 359) بإسناد ضعيفٍ جدًّا. وانظر: «الفتح» (2/ 497). (2) أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. (3) (ت، ق): «في سيئاته».

(2/826)


ولا تنسَ حال الذي قبضت الملائكةُ روحَه، فقيل له: هل عملتَ خيرًا؟ هل عملتَ حسنةً؟ قال: ما أعلمُه. قيل: تذكَّرْ. قال: كنتُ أبايعُ النَّاسَ فكنتُ أُنظِرُ المُوسِرَ وأتجاوزُ عن المُعْسِر. أو قال: كنتُ آمر فتياني أن يتجاوزوا في السِّكَّة (1). فقال الله: نحن أحقُّ بذلك منك. وتجاوَز عنه (2). فالله عزَّ وجلَّ يعامِلُ العبدَ في ذنوبه بمثل ما يعامِلُ به العبدُ النَّاسَ في ذنوبهم. فإذا عرف العبدُ ذلك كان في ابتلائه بالذُّنوب (3) من الحِكَم والفوائد ما هو مِنْ أنفع الأشياء له (4). فصل ومنها: أنه إذا عَرَف فأحسَن إلى من أساء إليه، ولم يقابلهُ بإساءته إساءةً مثلها (5) تعرَّض بذلك لمثلها من ربِّه تعالى، وأنه سبحانه يقابلُ إساءته وذنوبه بإحسانه (6)، كما كان هو يقابلُ بذلك إساءة الخلق إليه، والله أوسعُ فضلًا وأكرمُ وأجزلُ عطاءً. فمن أحبَّ أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة النَّاس إليه _________ (1) وهي الدَّنانير والدراهم المضروبة. «النهاية» (سكك). وفي رواية مسلم: «في السِّكَّة أو في النقد». (2) أخرجه البخاري (2077) ومسلم (1560) من حديث حذيفة. (3) (ح، ن): «كان ابتلاؤه بالذنوب». (4) (ح، ن): «ما هو أنفع الأشياء له». (5) (ن): «ولم يقابله بإساءته مثلها». (6) (ح، ت، ن): «وذنوبه وإحسانه».

(2/827)


بالإحسان، ومن عَلِمَ أنَّ الذُّنوبَ والإساءة لازمةٌ للإنسان لم تعظُم عنده إساءةُ النَّاس إليه. فليتأمَّل هو حاله مع الله، كيف هي، مع فَرْط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربِّه، وهكذا هو له (1)؛ فإذا كان العبدُ هكذا لربِّه فكيف يُنكِرُ أن يكون النَّاسُ له بتلك المنزلة؟! فصل ومنها: أنه يقيمُ (2) معاذيرَ الخلائق، وتتَّسعُ رحمتُه لهم، وينفرِجُ بِطانُه (3)، ويزولُ عنه ذلك الحَصَرُ والضِّيقُ والانحراجُ (4) وأكلُ بعضِه بعضًا، ويستريحُ العصاةُ من دعائه عليهم، وقُنوته عليهم (5)، وسؤال الله أن يخسِف بهم الأرض ويسلِّط عليهم البلاء؛ فإنه حينئذٍ يرى نفسَه واحدًا منهم، فهو يسألُ الله لهم ما يسأله لنفسه، وإذا دعا لنفسه بالتَّوبة والمغفرة والعفو أدخلهم معه؛ فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه، ويخافُ على نفسه أكثر مما يخافُ عليهم. فأين هذا مِنْ حاله الأولى وهو ناظرٌ إليهم بعَين الاحتقار والازدراء، لا يجدُ في قلبه رحمةً لهم ولا دعوةً ولا يرجو لهم نجاةً؟! _________ (1) (ن): «وهكذا هو حاله». (2) في طرة (ن): «لعله: يقبل». (3) (ق، ت): «ويتفرج بطانه». أي: يتسع صدره. تقول العرب: «التقت حلقتا البِطان» للأمر يبلغ الغاية في الشِّدَّة. والبِطانُ: الحزامُ الذي يلي البطن. انظر: «اللسان» (بطن)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 188). (4) في الأصول: «والانحراف». والمثبت أشبه. انظر: «زاد المعاد» (2/ 24). (5) «وقنوته عليهم» ليس في (ت).

(2/828)


فالذَّنبُ في حقِّ مثل هذا من أعظم أسباب رحمته، ومع هذا فيقيمُ أمرَ الله فيهم، طاعةً لله ورحمةً بهم وإحسانًا إليهم، إذ هو عينُ مصلحتهم (1)، لا غلظةً ولا قوَّةً ولا فظاظة. فصل ومنها: أن يخلع صَوْلة الطَّاعة من قلبه، ويَنْزِع عنه رداء الكِبْر والعظمة الذي ليس له، ويلبس رداء الذلِّ والانكسار والفقر والفاقة، فلو دامت تلك الصَّولةُ والعزَّةُ في قلبه لخِيفَ عليه ما هو مِنْ أعظم الآفات، كما في الحديث: «لو لم تذنبوا لخِفتُ عليكم ما هو أشدُّ من ذلك: العُجْب» (2)، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. فكم بين آثار العُجْب والكِبْر وصَوْلة الطَّاعة، وبين آثار الذُّلِّ والانكسار! كما قيل: «يا آدم! لا تجزع من كأس زلَّةٍ (3) كانت سبب كَيْسِك، فقد _________ (1) (ت): «عين حظهم». (2) أخرجه البزار (4/ 244 - كشف الأستار)، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 159)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 306)، والبيهقي في «الشعب» (12/ 525)، وغيرهم من حديث سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس. وسلَّام ضعيف، وقال العقيلي: «لا يتابع عليه عن ثابت. وقد رُوِي بغير هذا الإسناد بإسنادٍ صالح». وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 180): «ما أحسنه من حديثٍ لو صحَّ!». وانظر: «الكامل» (7/ 240)، و «المداوي» (5/ 317)، و «السلسلة الصحيحة» (658). وفي طرة (ق): «هو في جامع أبي مسلم الكسي من حديث أنس». (3) (د، ت، ق): «كأس زلل». وفي «المدهش» (162): «كأس خطإ».

(2/829)


استخرج منك داء العُجْب، وأُلبِستَ رداء العبوديَّة (1). يا آدم! لا تجزع من قولي لك: اخرج منها، فلك خلقتُها، ولكن انزل إلى دار المجاهدة، وابذُر بَذْر العبوديَّة، فإذا كمُل الزَّرعُ واستحصد فتعال فاستَوفِه» (2). لا يُوحِشَنَّكَ ذاكَ العَتْبُ إنَّ له ... لُطفًا يُرِيكَ الرِّضا في حالةِ الغضب فبينما هو لابسٌ ثوب الإدلال الذي لا يليقُ بمثله، تداركه ربُّه برحمته فنزعه عنه، وألبسَه ثوبَ الذُّلِّ الذي لا يليقُ بالعبد غيرُه. فما لبس العبدُ ثوبًا أكمل عليه ولا أحسن ولا أبهى من ثوب العبوديَّة، وهو ثوبُ المذلَّة الذي لا عزَّ له بغيره. فصل ومنها: أنَّ لله عزَّ وجلَّ على القلوب أنواعًا من العبوديَّة؛ من الخشية والخوف والإشفاق وتوابعها؛ ومن المحبة (3) والإنابة وابتغاء الوسيلة إليه وتوابعها. وهذه العبوديَّاتُ لها أسبابٌ تهيِّجُها وتبعثُ عليها، فكلُّ ما قيَّضه الربُّ تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك المهيِّجة له فهو من أسباب رحمته له، ورُبَّ ذنبٍ قد هاجَ لصاحبه من الخوف والإشفاق والوَجَل _________ (1) «المدهش»: «وألبسك رداء النسك». (2) انظر ما تقدم (ص: 26). والمدهش (162، 701). (3) (ق): «من المحبة».

(2/830)


والإنابة والمحبة والإيثار (1) والفرار إلى الله ما لا يَهِيجُه له كثيرٌ من الطَّاعات. وكم من ذنبٍ كان سببًا لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبُعْده عن طرق الغيِّ، وهو بمنزلة من خَلَط فأحسَّ بسوء مِزاجه، وكان عنده أخلاطٌ مُزْمِنةٌ قاتلةٌ وهو لا يشعُر بها، فشرب دواءً أزال تلك الأخلاط العَفِنَة التي لو دامت لترامت به إلى الفساد والعطب. وإنَّ من تبلغُ رحمتُه ولطفُه وبرُّه بعبده هذا المبلغَ وما هو أعجبُ وألطفُ منه، فحقيقٌ به أن يكون الحبُّ كلُّه له، والطَّاعةُ كلُّها له، وأن يُذْكَر فلا يُنسى، ويُطاع فلا يُعصى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر. فصل ومنها: أن يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وفضله في توفيقه له وحفظه إياه؛ فإنه من تربَّى في العافية لا يعلمُ ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرفُ مقدار النِّعمة. فلو عرف أهلُ طاعة الله أنهم هم المُنْعَمُ عليهم في الحقيقة، وأنَّ لله عليهم من الشُّكر أضعافَ ما على غيرهم، وإن توسَّدوا التُّرابَ ومَضَغوا الحصى، فهم أهلُ النعمة المطلقة، وأنَّ من خلَّى اللهُ بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه وهان عليه، وأنَّ ذلك ليس مِنْ كرامته على ربِّه، وإنْ وسَّع اللهُ عليه في الدُّنيا (2) ومَدَّ له من أسبابها، فإنهم أهلُ الابتلاء على الحقيقة. _________ (1) (ت): «والآثار». (2) (ن): «وإن وسع له في الدنيا».

(2/831)


فإذا طالبت العبدَ نفسُه بما تطالبه به من الحظوظ والأقسام وأرَتْه أنه في بليَّةٍ وضائقةٍ تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذُّنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النِّعم إلى ما طلبته نفسُه من الحظوظ؛ فحينئذٍ يكون أكثرُ أمانيه وآماله العَوْدَ إلى حاله وأن يمتِّعه الله بعافيته. فصل ومنها: أنَّ التَّوبة توجبُ للتَّائب آثارًا عجيبةً من المعاملة التي لا تحصُل بدونها، فتوجبُ له من المحبة والرقَّة واللُّطف وشكر الله وحمده والرِّضا عنه عبوديَّاتٍ أُخَر؛ فإنه إذا تابَ إلى الله قَبِل الله توبتَه، فرتَّب له على ذلك القبول أنواعًا من النِّعم لا يهتدي العبدُ لتفاصيلها، بل لا يزالُ يتقلَّبُ في بركتها وآثارها ما لم ينقضها (1) ويفسدها. فصل ومنها: أنَّ الله سبحانه يحبُّه ويفرحُ بتوبته أعظمَ فرح؛ وقد تقرَّر أنَّ الجزاء من جنس العمل، فلا ينسى (2) الفرحة التي يظفرُ (3) بها عند التَّوبة النَّصوح (4). _________ (1) (ت): «ينقصها». بالمهملة. (2) مهملة في (د). (ت): «تنسى». وفي «غذاء الألباب» (2/ 467): «تنس». ولستُ منها على ثقة. (3) (ت) و «غذاء الألباب»: «تظفر». وحرف المضارعة مهمل في (د). (4) انظر: «طريق الهجرتين» (529)، و «الروح» (249).

(2/832)


وتأمَّل كيف تجدُ القلبَ يرقُص فرحًا وأنت لا تدري سببَ ذلك الفرح ما هو، وهذا أمرٌ لا يحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأمَّا ميِّتُ القلب فإنما يجدُ الفرحَ عند ظفره بالذَّنب، ولا يعرفُ فرحًا غيره. فوازِنْ إذن بين هذين الفرحَيْن، وانظر ما يُعْقِبُه فرحُ الظَّفر بالذَّنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب؛ فمن يشتري فرحة ساعةٍ بغمِّ الأبد؟! وانظر ما يُعْقِبُه فرحُ الظَّفر بالطَّاعة والتَّوبة النَّصوح من الانشراح الدَّائم والنَّعيم وطِيب العَيْش، ووازِنْ بين هذا وهذا، ثمَّ اختَر ما يليقُ بك ويناسبك. وكلٌّ يعملُ على شاكلته. * وكلُّ امراءٍ يصبو إلى ما يناسبُه * (1) فصل ومنها: أنه إذا شهد ذنوبَه ومعاصيه وتفريطه في حقِّ ربِّه استَكثر القليلَ من نِعَم ربِّه عليه ــ ولا قليلَ منه ــ لعلمه بأنَّ الواصل إليه منها (2) كثيرٌ على مسيءٍ مثله، واستقلَّ الكثير من عمله لعلمه بأنَّ الذي ينبغي أن يغسل به نجاستَه وأوضارَه وأوساخَه أضعافُ ما يأتي به؛ فهو دائمًا مستقلٌّ لعمله كائنًا ما كان، مستكثرٌ لنعمة الله عليه وإن دقَّت. وقد تقدَّم التنبيهُ على هذا الوجه (3)، وهو من ألطف الوجوه، فعليك _________ (1) عجز بيتٍ ذكره المصنف في «مدارج السالكين» (2/ 386)، و «بدائع الفوائد» (673) دون نسبة. وصدره: * وكل امرئٍ يهفو إلى من يحبُّه * (2) (ت، ن، ق، د): «إليه فيها». (3) (ص: 822).

(2/833)


بمراعاته، فله تأثيرٌ عجيب. ولو لم يكن في فوائد الذَّنب إلا هذا لكفى به. فأين حالُ هذا مِنْ حال من لا يرى لله عليه نعمةً إلا ويرى أنه كان ينبغي أن يُعطى ما هو فوقها وأجلَّ منها، وأنه لا يَقْدِرُ أن يتكلَّم، وكيف يعاندُ القَدَر وهو مظلومٌ مع الرَّبِّ لا يُنصِفُه ولا يعطيه مرتبتَه، بل هو مُغرًى (1) بمعاندته لفضله وكماله، وأنه كان ينبغي له أن ينال الثُّريَّا ويطأ بأخمصه هنالك، ولكنَّه مظلومٌ مَبْخوسُ الحظِّ؟!! وهذا الضَّربُ من أبغض الخلق إلى الله، وأشدِّهم مقتًا عنده، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سَفَال، فهم بين تعتُّبٍ (2) على الخالق، وشكوى له، وذلٍّ لخلقه، وحاجةٍ إليهم، وخدمةٍ لهم، أشغلُ النَّاس قلوبًا بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغُسَالة أيديهم وأوانيهم (3)، وأفرغُ النَّاس قلوبًا عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذُّذ بمناجاته، والطُّمأنينة بذكره، وقُرَّة العين بخشيته، والرِّضا به. فعياذًا بالله من زوال نعمته، وتحوُّل عافيته، وفجأة نقمته، ومن جميع سخطه. فصل ومنها: أنَّ الذَّنبَ يوجبُ لصاحبه التيقُّظ والتحرُّز من مصايد عدوِّه ومكامنه، ومن أين يدخلُ عليه اللصوصُ والقُطَّاعُ ومكامِنُهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أيِّ وقتٍ يخرجون، فهو قد استعدَّ لهم وتأهَّب، وعرف _________ (1) أي القَدَر. وفي (د، ت، ق): «بل هو حري». (2) (ح، ن): «فهم بين معتب». (3) (ح، ن): «وأوساخهم».

(2/834)


بماذا يَسْتَدْفِعُ شرَّهم وكيدَهم؛ فلو أنه مرَّ عليهم على غِرَّةٍ (1) وطمأنينةٍ لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحُوه جملةً. فصل ومنها: أنَّ القلبَ يكونُ ذاهلًا عن عدوِّه معرضًا عنه، مشتغلًا ببعض مهمَّاته، فإذا أصابه سهمٌ من عدوِّه اسْتَجْمَعَت له قوَّتُه وجأشُه (2) وحميَّته، وطلب بثأره إن كان قلبُه حرًّا كريمًا، كالرَّجل الشجاع إذا جُرِحَ فإنه لا يقومُ له شيء، بل تراه بعدها هائجًا طالبًا مِقْدامًا (3)، والقلبُ الجبانُ المَهِينُ إذا جُرِح كالرَّجل الضعيف المَهِين إذا جُرحَ ولى هاربًا (4) والجِراحاتُ في أكتافه، وكذلك الأسدُ إذا جُرِح فإنه لا يُطاق. فلا خير فيمن لا مروءة له بطلب أخذ ثأره من أعدى عدوِّه، فما شيءٌ أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوِّه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان، فإن كان من قلوب الرجال المتسابقين في حَلَبة المجد جدَّ في أخذ الثَّأر، وغاظ عدوَّه كلَّ الغَيظ، وأنضاه (5)، كما جاء عن بعض السَّلف: «إنَّ المؤمن ليُنضِي شيطانَه كما يُنضِي أحدُكم بعيرَه في سفره» (6). _________ (1) (ن): «فلو أنه مر عليهم في عزة». (2) (ح، ن): «وحاسته». وهو تحريف. (3) (ح): «مقدما». (4) (ح، ن): «ذل هاربا». (5) أي: أهزله وأتعبه. وفي (د، ق، ن، ت): «وأضناه»، تحريف. (6) جاء مرفوعًا عند أحمد (2/ 380) من حديث أبي هريرة بإسنادٍ فيه ضعف. وانظر: «المداوي» (2/ 414)، و «السلسلة الصحيحة» (3586).

(2/835)


فصل ومنها: أنَّ مثل هذا يصيرُ كالطَّبيب ينتفعُ به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطَّبيبُ الذي كان المرضُ يباشرُه (1) وعَرَف دواءه وعلاجَه أحذقُ وأخبرُ من الطَّبيب الذي إنما عَرَفه وصفًا، هذا في أمراض الأبدان، وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها. وهذا معنى قول بعض الصُّوفية: «أعرفُ النَّاس بالآفات أكثرُهم آفات» (2). وقال عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عُروةً عُروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرفُ الجاهليَّة» (3). _________ (1) (ت، د، ق): «كان المرض مباشره». (2) أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية» (161)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 267) عن الجنيد. (3) أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/ 193)، وابن سعد في «الطبقات» (6/ 129)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 243)، وصححه الحاكم (4/ 428) ولم يتعقبه الذهبي، عن عمر رضي الله عنه قال: «قد علمتُ وربِّ الكعبة متى تهلكُ العرب، إذا ساس أمرَهم من لم يصحب الرسول ولم يُعالِج أمرَ الجاهلية». وتفسيره في «الجعديات» (2/ 180)، و «شعب الإيمان» (13/ 205). ولم أر من سبق ابن تيمية إلى إيراد هذا اللفظ الذي ذكره المصنف. انظر: «درء التعارض» (5/ 259)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 301)، و «منهاج السنة» (4/ 590). ولعله لفَّقه سهوًا من حديث أبي أمامة وأثر عمر (الذي ذكرتُ روايته)، حيث ساقهما البيهقي في «الشعب» متتابعين، كما نبَّه على ذلك بعضهم.

(2/836)


ولهذا كان الصَّحابةُ أعرفَ الأمَّة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشدَّ النَّاس رغبةً فيه، ومحبةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا من خلافه؛ لكمال علمهم بضدِّه، فجاءهم الإسلامُ كلُّ خصلةٍ منه مضادَّةٌ لكلِّ خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبًّا، وفيه جهادًا؛ بمعرفتهم بضدِّه. وذلك بمنزلة من كان في حَصَرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووَحْشَة، فقيَّض الله له من نقله منه إلى فضاءٍ وسَعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغِنًى وبهجةٍ ومسرَّة، فإنه يزدادُ سرورُه وغِبطتُه ومحبتُه بما نُقِل إليه بحسب معرفته بما كان فيه. وليس حالُ هذا كمن وُلِد في الأمن والعافية والغِنى والسُّرور، فإنه لم يشعُر بغيره، وربما قُيِّضت (1) له أسبابٌ تخرجُه عن ذلك إلى ضدِّه وهو لا يشعُر، وربما ظنَّ أنَّ كثيرًا من أسباب الهلاك والعَطب تفضي به إلى السَّلامة والأمن والعافية، فيكون هلاكُه على يَدَي نفسه وهو لا يشعُر. وما أكثر هذا الضَّربَ من النَّاس! فإذا عَرَف الضدَّين، وعَلِم مباينةَ الطَّرفين (2)، وعَرَف أسبابَ الهلاك على التفصيل، كان أحرى أن تدُوم له النِّعمة، ما لم يُؤْثِر أسبابَ زوالها على عِلم، وفي مثل هذا قال القائل: عرفتُ الشَّرَّ لا للشَّرْ ... رِ لكنْ لِتَوقِّيهِ _________ (1) (ن): «اقتضت». (2) (ت، ق): «الطريقين».

(2/837)


ومن لا يَعْرِف الشَّرَّ ... من النَّاسِ يَقَعْ فيهِ (1) وهذه حالُ المؤمن؛ يكونُ فَطِنًا حاذقًا، أعرَف النَّاس بالشرِّ، وأبعدَهم منه، فإذا تكلَّم في الشرِّ وأسبابه ظننتَه مِنْ شرِّ النَّاس، فإذا خالطتَه وعرفتَ طويَّته رأيتَه من أبرِّ النَّاس. والمقصودُ أنَّ من بُلي بالآفات صار من أعرف النَّاس بطرقها، وأمكنه أن يسدَّها على نفسه وعلى من استنصحه من النَّاس ومن لم يستنصحه (2). فصل ومنها: أنه سبحانه يذيقُ عبدَه ألمَ الحجاب عنه، والبُعد، وزوال ذلك الأُنس والقُرب؛ ليمتحن عبدَه: فإن أقام على الرِّضا بهذه الحال، ولم يجد نفسَه تطالبُه بحالها الأوَّل مع الله، بل اطمأنت وسكنت إلى غيره= عَلِم أنه لا يصلُح، فوضعه في مرتبته التي تليقُ به. وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتقلَّق تقلُّق المكروب (3)، ودعا دعاء المضطرِّ، وعَلِم أنه قد فاته حياتُه (4) حقًّا، فهو يهتفُ بربِّه أن يردَّ عليه حياته، _________ (1) البيتان لأبي فراس، في ديوانه (369)، و «اليتيمة» (1/ 84)، و «الحماسة المغربية» (1253). ودون نسبة في مصادر كثيرة. (2) (ح، ن): «وعلى من استصحبه من الناس ومن لم يستصحبه». (3) كذا في الأصول. والتقلُّق تفعُّلٌ من القَلَق، كالتفزُّع. ولم تذكره المعاجم. قال ابن قلاقس (ت: 567): هو راتبٌ قد كنتُ أرقبُ نجمَه ... فهوى وقد جعل التقلُّقَ راتبي (4) كذا في الأصول، بتذكير الفعل، كقوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.

(2/838)


ويعيد عليه ما لا حياة له بدونه= عَلِم أنه موضعٌ لما أُهِّل له، فردَّ عليه أحوجَ ما هو إليه، فعظُمت به فرحتُه، وكمُلت به لذَّتُه، وتمَّت به نعمتُه (1)، واتصل به سرورُه، وعَلِم حينئذٍ مقدارَه، فعَضَّ عليه بالنَّواجذ، وثنى عليه الخناصر، وكان حالُه كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض المَهْلَكة إذا وجدها بعد معاينة الهلاك؛ فما أعظم موقع ذلك الوِجْدان عنده! ولله أسرارٌ وحِكَمٌ ومنبِّهاتٌ وتعريفاتٌ لا تنالها عقولُ البشر. فقُل لغليظِ القلب ويحكَ ليسَ ذا ... بِعُشِّكَ فادْرُجْ طالبًا عُشَّكَ البالي ولا تكُ ممَّن مَدَّ باعًا إلى جَنًى ... فقَصَّرَ عنه قال ذا ليسَ بالحالي (2) فالعبدُ إذا بُلي بعد الأُنس بشيءٍ من الوَحْشة، وبعد القُرب صَلِي بنار البِعاد (3)، اشتاقت نفسُه إلى لذَّة تلك المعاملة، فحنَّت وأنَّت وتضرَّعت (4) وتعرَّضت لنفحات من ليس لها منه عِوَضٌ أبدًا، ولا سيَّما إذا تذكَّرت برَّه ولطفه وحنانه وقُربه؛ فإنَّ هذه الذكرى تمنعُها القرار وتهيِّجُ منها البلابل (5)، كما قال القائل ــ وقد فاته طوافُ الوداع، فركب الأخطار ورجع إليه ــ: ولما تذكَّرتُ المنازلَ بالحِمى ... ولم يُقْضَ لي تسليمةُ المتزَوِّد تيقَّنتُ أنَّ العَيْشَ ليس بنافعي ... إذا أنا لم أنظُر إليها بموعدِ (6) _________ (1) «وتمت به نعمته» ليست في (ح، ن). (2) أي: ليس بالحلو. والبيتان أشبه بنظم المصنف. (3) (ن، ح): «بعد الأنس بالوحشة وبعد القرب بنار البعاد». (4) (ن، ح): «وتصدعت». (5) وهي الهموم والوساوس في الصدر. «اللسان» (بلل). (6) البيت الأول في «الموازنة» (2/ 47)، و «شرح نهج البلاغة» (8/ 128) للعلوي البصري صاحب الزنج، وفي «ذيل الأمالي» (120) من إنشاد الزبير بن بكار لبعض البصريين القشيريين، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 60) لبعض بني قشير، وأنشده ثعلب من أبياتٍ في «المحب والمحبوب» (2/ 81). قال شيخنا الإصلاحي: وجواب (لما) في الأبيات المرويَّة: زفرتُ إليها زفرةً ... ، وهنا: تيقنتُ ... ؛ فالظاهر أن بعضهم ضمَّن البيت القديم في شعره.

(2/839)


وإن استمرَّ إعراضها ولم تَحِنَّ إلى مَعْهَدها الأوَّل (1)، ولم تحسَّ بفاقتها الشديدة وضرورتها إلى مراجعة قربها من ربها؛ فهي ممَّن إذا غاب لم يُطْلب، وإذا أبَق لم يُسْتَرجع، وإذا جنى لم يُسْتَعتَب. وهذه هي النُّفوسُ التي لم تُؤهَّل لما هنالك. وبحَسْب المُعْرِض هذا الحرمان، فإنه يكفيه، وذلك ذنبٌ عقابُه فيه. فصل ومنها: أنَّ الحكمة الإلهيَّة اقتضت تركيبَ الشَّهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القُوَّتان فيه بمنزلة صفاته الذَّاتية، لا ينفكُّ عنها، وبهما وقعت المحنةُ والابتلاء، وعُرِّض لنيل الدَّرجات العُلى، واللَّحاق بالرفيق الأعلى، والهبوط إلى أسفل سافلين. فهاتان القُوَّتان لا يَدَعان العبدَ حتى يُنيلانه منازل الأبرار، أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، ولن يجعل الله مَن شهوتُه مصروفةٌ إلى ما أُعِدَّ له في دار النَّعيم، وغضبُه حميَّةٌ لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، كمن شهوتُه (2) مصروفةٌ في هواه وأمانيه العاجلة، وغضبُه مقصورٌ على حظِّه، ولو انتُهِكت محارمُ الله وحدودُه، وعُطِّلت شرائعُه وسننُه، بعد أن يكون هو ملحوظًا بعَيْن _________ (1) (ح، ن): «مهدها الأول». (2) (ق، ن): «كمن جعل شهوته».

(2/840)


الاحترام والتَّعظيم والتَّوقير ونفوذ الكلمة. وهذه حالُ أكثر الرُّؤساء أعاذنا الله منها. فلن يجعل الله هذين الصِّنفين في دارٍ واحدة، فهذا رَكَض (1) بشهوته وغضبه إلى أعلى عِلِّيِّين، وهذا هوى بهما إلى أسفل سافلين. والمقصودُ أنَّ تركيبَ الإنسان على هذا الوجه هو غايةُ الحكمة، ولا بدَّ أن يقتضي كلُّ واحدٍ من القوَّتين أثرَه (2)، فلا بدَّ من وقوع الذَّنب والمخالفات والمعاصي، ولا بدَّ من ترتُّب آثار هاتين القُوَّتين عليهما، ولو لم يُخْلقا (3) في الإنسان لم يكن إنسانًا، بل كان مَلَكًا؛ فالترتُّبُ (4) من موجَبات الإنسانيَّة، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون» (5). _________ (1) (ح، ن): «فهذا صعد». (2) كذا في الأصول، حملًا على المعنى. والجادة: كل واحدة من القوتين أثرها. (3) (ح، ن): «ولو لم يختلفا». (4) (ق): «فالترتيب». وفي طرة (د): «لعله: فالذنب». وهو محتمل. (5) أخرجه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (3/ 198)، وغيرهم من حديث علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس. قال الإمام أحمد ــ كما في «المنتخب من العلل للخلال» (92) ــ: «هذا حديثٌ منكر». وقال الترمذي: «هذا حديث غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة». وقال أبو أحمد الحاكم في «الأسامي والكنى» (4/ 81): «هذا حديثٌ منكر لا يتابع عليه علي بن مسعدة». وانظر: «مسند البزار» (7236). وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/ 207)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 111) في ترجمة علي بن مسعدة، وأنكراه عليه. وخالفه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فلم يرفعه، بل جعله من أخبار أهل الكتاب. أخرجه أحمد في «الزهد» (96). وهذا هو المحفوظ. وصحح الحاكم الرواية المرفوعة (4/ 244)، فتعقبه الذهبي.

(2/841)


فأمَّا من اكتنفته العصمة، وضُرِبت عليه سُرادِقاتُ الحفظ، فهم أقلُّ أفراد النَّوع الإنسانيِّ، وهم خلاصتُه ولبُّه. فصل ومنها: أنَّ الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا أنساه رؤيةَ طاعاته، ورَفَعَها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلي بالذَّنب جعله نُصْبَ عينيه، ونسي طاعاته، وجعل همَّه كلَّه بذنبه (1)، فلا يزالُ ذنبُه أمامه إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكونُ هذا عينَ الرحمة في حقِّه. كما قال بعض السَّلف: «إنَّ العبد ليعملُ الذَّنبَ فيدخُل به الجنَّة، ويعملُ الحسنةَ فيدخلُ بها النَّار. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعملُ الخطيئةَ فلا تزالُ نُصْبَ عينيه كلَّما ذَكَرَها بكى، وندم، وتاب، واستغفر، وتضرَّع، وأناب إلى الله، وذلَّ له وانكَسَر، وعَمِل لها أعمالًا؛ فتكونُ سببَ الرحمة في حقِّه. ويعملُ الحسنةَ فلا تزالُ نُصْبَ عينيه يَمُنُّ بها ويراها ويعتدُّها على ربِّه وعلى الخلق، ويتكبَّر بها، ويتعجَّبُ من النَّاس كيف لا يعظِّمونه ويكرمونه ويجلُّونه عليها، فلا تزالُ هذه الأمورُ به حتى تقوى عليه آثارُها؛ فتُدخِله _________ (1) (ن): «ذنبه».

(2/842)


النَّار» (1). فعلامةُ السَّعادة أن تكون حسناتُ العبد خلف ظهره، وسيئاتُه نُصْبَ عينيه. وعلامةُ الشقاوة أن يجعل حسناته نُصْبَ عينيه، وسيئاته خلف ظهره. والله المستعان. فصل ومنها: أنَّ شُهود العبد ذنوبَه وخطاياه توجبُ له أن لا يرى لنفسه على أحدٍ فضلًا، ولا له على أحدٍ حقًّا (2)؛ فإنه يشهدُ عيوبَ نفسه وذنوبَه، فلا يظنُّ أنه خيرٌ من مسلمٍ يؤمنُ بالله ورسولِه، ويحرِّمُ ما حرَّم الله ورسوله. وإذا شَهِد ذلك مِنْ نفسه لم يَرَ لها على النَّاس حقوقًا من الإكرام يتقاضاهم إياها ويذمُّهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخسُّ قدرًا وأقلُّ قيمةً من أن يكون لها على عباد الله حقوقٌ يجبُ عليهم مراعاتُها، أو لها عليهم فضلٌ يستحقُّ أن يُكْرَم ويُعَظَّم ويُقَدَّم لأجله. فيَرى أنَّ من سلَّم عليه أو لَقِيَه بوجهٍ منبسطٍ فقد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقُّه؛ فاستراحَ هذا في نفسه، وأراح النَّاسَ من شِكايته وغضبه على _________ (1) جاء أصلُ هذا المعنى من قول أبي موسى وأبي أيوب رضي الله عنهما، ومن قول الحسن وأبي حازم. انظر: «الزهد» لهناد (910، 911)، ولابن المبارك (163، 164)، ولأحمد (277)، و «الحلية» لأبي نعيم (3/ 242، 7/ 288)، و «شعب الإيمان» للبيهقي (12/ 235). ورُوِي من مرسل الحسن عند ابن المبارك (162)، وأحمد (397). (2) قال ابن تيمية: «العارف لا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يشهدُ له على غيره فضلًا، ولذلك لا يعاتِب ولا يطالِب ولا يضارِب». «مدارج السالكين» (1/ 523).

(2/843)


الوجود وأهله، فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ بالَه! وما أقَرَّ عينَه! وأين هذا ممَّن لا يزالُ عاتبًا على الخلق، شاكيًا ترك قيامهم بحقِّه، ساخطًا عليهم، وهم عليه أسخط؟! فسبحان من بَهَرَت حكمتُه عقول العالمين. فصل ومنها: أنه يوجبُ له الإمساكَ عن عيوب النَّاس والفِكر فيها؛ فإنه في شُغلٍ بعيب نفسه (1)، فطُوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب النَّاس، وويلٌ لمن نَسِيَ عيبَه وتفرَّغ لعيوب النَّاس. هذا من علامة الشَّقاوة، كما أنَّ الأوَّل من أمارات السَّعادة. فصل ومنها: أنه إذا وقع في الذَّنب شَهِد نفسَه مثل إخوانه الخطَّائين، وشَهِد أنَّ المصيبة واحدة، والجميعَ مشتركون في الحاجة ــ بل في الضرورة ــ إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، فكما يحبُّ أن يستغفر له أخوه المسلم، كذلك هو أيضًا ينبغي أن يستغفر لأخيه المسلم، فيصير هِجِّيراه: «ربِّ اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات». وقد كان بعضُ السَّلف يستحبُّ لكلِّ أحدٍ أن يداوم على هذا الدُّعاء كلَّ يومٍ سبعين مرَّة، فيجعل له منه وِرْدًا لا يُخِلُّ به. سمعتُ شيخنا يذكُره، وذكَر _________ (1) (ق، د): «بعيبه ونفسه».

(2/844)


فيه فضلاً عظيمًا لا أحفظُه (1)، وربَّما كان من جملة أوراده التي لا يُخِلُّ بها (2). وسمعتُه يقول: إن جَعَله بين السَّجدتين جاز. فإذا شَهِد العبدُ أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أُصِيبَ به، محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه، لم يمتنع من مباعدتهم إلا لفَرْط بُخْلٍ (3) بمغفرة الله وفضله، وحقيقٌ بهذا أن لا يُساعَد فإنَّ الجزاء من جنس العمل. وقد قال بعض السَّلف: «إنَّ الله لما عَتَبَ على الملائكة بسبب قولهم: _________ (1) لعله ما ذكره في «الروح» (390)، قال: «ولهذا جاء أثرٌ عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة. ولا تستبعد هذا، فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم، والله لا يضيع أجر المحسنين». وانظر منامًا لبعض السلف في «الحلية» (10/ 113). وعند الطبراني في «مسند الشاميين» (2155) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب له بكلِّ مؤمن ومؤمنة حسنة». وإسناده ضعيف، وجوَّده الهيثمي في «المجمع» (10/ 352). ومن حديث أم سلمة في «المعجم الكبير» (23/ 370)، وإسناده ضعيف. وفي الباب حديثٌ ثالث ضعيف. انظر: «السلسلة الضعيفة» (5976). وانظر تقرير ما دلت عليه في «تحفة الذاكرين» للشوكاني (380). وربما كان أصل التزام عدد السبعين ما أخرجه الترمذي (3259) وصححه من حديث أبي هريرة في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} قال: فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 521، 24/ 322). (3) (ن): «لفرط جهل».

(2/845)


{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، وامتَحَن هاروتَ وماروتَ بما امتحنهما به، جَعَلت الملائكةُ بعد ذلك تستغفرُ لبني آدم وتدعو الله لهم» (1). فصل ومنها: أنه إذا شَهِد نفسَه مع ربِّه مسيئًا خاطئًا مفرِّطًا (2)، مع فَرْطِ إحسان الله إليه في كلِّ طرفة عين، وبرِّه به، ودَفْعِه عنه، وشدَّة حاجته إلى ربِّه، وعدم استغنائه عنه نَفَسًا واحدًا، وهذه حالُه معه= فكيف يطمعُ أن يكون النَّاسُ معه كما يحبُّ، وأن يعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربَّه بتلك المعاملة؟! وكيف يطمعُ أن يطيعه مملوكُه وولدُه وزوجتُه في كلِّ ما يريد، ولا يعصونه (3) ولا يخلُّون بحقوقه، وهو مع ربِّه ليس كذلك؟! وهذا يوجبُ له أن يستغفر لمسيئهم، ويعفو عنه، ويسامحه، ويُغْضِي عن الاستقصاء في طلب حقِّه. فهذه الآثارُ ونحوُها متى اجتناها العبدُ من الذَّنب فهي علامةُ كونه رحمةً في حقِّه، ومتى اجتنى منه (4) أضدادَها وأوجبت له خلافَ ما ذكرناه فهي والله علامةُ الشَّقاوة، وأنه مِنْ هوانه على الله وسقوطه من عَيْنه خلَّى بينه وبين معاصيه؛ ليقيم عليه حجَّةَ عدله، فيعاقبه باستحقاقه. _________ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 442)، ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (12/ 85) عن ابن عباس. وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. (2) (ن): «مسيئا مخطئا خاطئا مفرطا مع الله». (ح): «مسيئا خاطئا مع الله». (3) كذا في الأصول. (4) (ح، ن): «ومن اجتنى منه».

(2/846)


وتتداعى السَّيئاتُ في حقِّ مثل هذا وتتولف (1)، فيتولَّدُ من الذَّنب الواحد ما شاء الله من المتالف والمعاطب التي يهوي بها في دركات العذاب، فالمصيبةُ كلُّ المصيبة الذَّنبُ يتولَّدُ من الذَّنب، ثمَّ يتولَّدُ من الاثنين ثالث، ثمَّ تقوى الثَّلاثةُ فتوجبُ رابعًا، وهلُمَّ جرًّا. ومن لم يكن له فقهُ نفسٍ في هذا الباب هلك من حيثُ لا يشعُر. فالحسناتُ والسَّيئاتُ آخذٌ بعضُها برقاب بعض، يتلو بعضُها بعضًا، ويُثْمِرُ بعضُها بعضًا؛ قال بعض السَّلف: «إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإنَّ من عقاب السيئةِ السيئةَ بعدها» (2). وهذا أظهرُ عند النَّاس من أن تُضرب له الأمثالُ وتُطلب له الشَّواهد (3) والله المستعان. فصل وإذا تأمَّلتَ حكمتَه سبحانه فيما ابتلى به عبادَه وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات وأكمل النِّهايات التي لم يكونوا يعبُرون إليها إلا على جسرٍ من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسرُ لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عُبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاءُ والامتحانُ عَيْنَ _________ (1) كذا في الأصول. ولعلها: وتتوالف. أي: يأتلف بعضها إلى بعض. وقال شيخنا الإصلاحي: إذا لم يكن محرفًا، فهو: تتألَّف، كما قالوا: تواليف. (2) أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية» (382)، ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (12/ 505) عن أبي الحسن المزيِّن (ت: 328). (3) انظر: «الداء والدواء» (139)، و «طريق الهجرتين» (594).

(2/847)


المنح (1) في حقِّهم والكرامة، فصورتُه صورةُ ابتلاءٍ وامتحان (2)، وباطنُه فيه الرحمةُ والنِّعمةُ والمنَّة. فكم لله من نعمةٍ جسيمةٍ ومنَّةٍ عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان! فتأمَّل حال أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم -، وما آلت إليه محنتُه من الاصطفاء والاجتباء والتَّوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنةُ التي جرت عليه ــ بإخراجه (3) من الجنَّة، وتوابع ذلك ــ لما وصل إلى ما وصل إليه، فكم بين حالته الأولى وحالته الثَّانية في نهايته! وتأمَّل حال أبينا الثَّاني نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -، وما آلت إليه محنتُه وصبرُه على قومه تلك القرون كلَّها، حتى أقرَّ اللهُ عينَه، وأغرَق أهلَ الأرض بدعوته، وجَعَل العالم بعده من ذريَّته، وجَعَله خامس خمسةٍ هم أولو العزم الذين هم أفضلُ الرسل، وأمر رسوله ونبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشُّكر، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، فوصفه بكمال الصَّبر والشُّكر. ثمَّ تأمَّل حال أبينا الثَّالث إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -؛ إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعَمُود العالم (4)، وخليل ربِّ العالمين من بني آدم، وتأمَّل ما آلت إليه محنتُه وصبرُه وبذلُه نفسَه لله. وتأمَّل كيف آل به بذلُه لله نفسَه ونصرُه دينَه إلى أن اتخذه الله خليلًا لنفسه، وأمر رسوله وخليله محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يتَّبع ملَّته. _________ (1) (ق، ت): «عين المنهج». (2) «وامتحان» ليست في (ح، ن). (3) (ح، ن): «وهي إخراجه». (4) ذكر المصنف في «جلاء الأفهام» (306) أن أهل الكتاب يسمونه كذلك.

(2/848)


وأنبِّهك على خصلةٍ واحدةٍ مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولدَه لأمر الله بأن بارك في نسله وكثَّره، حتى ملأ السَّهل والجبل؛ فإنَّ الله تعالى لا يتكرَّمُ عليه أحد، وهو أكرمُ الأكرمين، فمن ترك لوجهه أمرًا أو فعله لوجهه بَذَل اللهُ له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافًا مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافًا مضاعفة. فلما أُمِرَ إبراهيمُ (1) بذبح ولده فبادر لأمر الله، ووافَق عليه الولدُ أباه، رضًا منهما وتسليمًا (2)، وعَلِم الله منهما الصِّدق والوفاء= فَدَاه بذِبْحٍ عظيم وأعطاهما ما أعطاهما من فضله، وكان من بعض عطاياه أن بارك في ذريَّتهما حتى ملؤوا الأرض؛ فإنَّ المقصود بالولد إنما هو التناسلُ وتكثيرُ الذُّريَّة، ولهذا قال إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]. فغايةُ ما كان يَحْذَرُ ويخشى مِنْ ذبح ولده (3) انقطاع نسله، فلمَّا بذل ولده لله وبذل الولدُ نفسَه، ضاعفَ الله النَّسل، وبارك فيه، وكثَّره، حتى ملؤوا الدُّنيا، وجعل النبوَّة والكتابَ في ذريَّته خاصَّة، وأخرج منهم محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذُكِر أنَّ داود عليه السَّلام أراد أن يَعْلمَ عَدَد بني إسرائيل، فأمَر بإحضارهم، وبَعَث لذلك نُقَباء وعُرَفاء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بَلَغ _________ (1) (ت): «فلما أمر الله إبراهيم». (2) (ت): «ووافق عليه الولد أباه رضي الله عنهما». (3) (د، ق، ن): «ذبح الولد».

(2/849)


عددُهم، فمكثوا مدَّةً لا يقدرون على ذلك، فأوحى الله إلى داود: أن قد عَلِمْتَ أني وعدتُ أباك إبراهيم لما أمرتُه بذبح ولده فبادَر إلى طاعة أمري أن أُبارِك له في ذريَّته حتى يصيروا في عدد النُّجوم، وأجعلهم بحيث لا يحصى عددُهم، وقد أردتَ أنت أن تحصي عددًا قدَّرتُ أنه لا يحصى (1) ... وذكر باقي الحديث (2). فجَعَل مِنْ نسله هاتين الأمَّتين العظيمتين الذين (3) لا يحصي عددَهم إلا الله خالقُهم ورازقُهم، وهم بنو إسرائيل وبنو إسماعيل، هذا سوى ما أكرمه الله به مِنْ رفع الذِّكر والثَّناء الجميل على ألسنة جميع الأمم وفي السَّموات بين الملائكة. فهذا من بعض ثمرة معاملته، فتبًّا لمن عَرَفه ثمَّ عامل غيره، ما أخسرَ صفقتَه وما أعظمَ حسرتَه! فصل ثمَّ تأمَّل حال الكليم موسى عليه السَّلام وما آلت إليه محنتُه وفُتُونُه (4) من أوَّل ولادته إلى منتهى أمره، حتى كلَّمه الله منه إليه تكليمًا، وكتب له التَّوراة بيده، ورفَعه إلى أعلى السَّموات، واحتَمل له ما لا يَحْتمِلُ لغيره، فإنه رمى الألواحَ على الأرض حتى تكسَّرت، وأخذ بلحية نبيِّ الله هارون وجرَّه _________ (1) (ح، ن): «وقد أردت أن تحصي عددهم أقدرت أن تحصي». (2) أخرجه الطبري في «التاريخ» (1/ 485) عن وهب بن منبه. فهو من أخبار بني إسرائيل. (3) (ت): «الذي». (ح): «اللذين». (4) كما قال تعالى عنه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]. وسقطت الكلمة من (ت).

(2/850)


إليه، ولَطَم وجه ملَك الموت ففقأ عينَه، وخاصَم ربَّه ليلة الإسراء في شأن محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربُّه يحبُّه على ذلك كلِّه، ولا سقط شيءٌ منه من عينه، ولا سقطت منزلتُه عنده، بل هو الوجيهُ عند الله، القريب، ولولا ما تقدَّم من السَّوابق، وتحمُّل الشَّدائد والمِحَن العِظام في الله، ومقاساة الأمَّتين الشَّديدتَين (1): فرعونَ وقومه، ثمَّ بني إسرائيل وما آذَوْهُ به وما صَبَر عليهم لله (2). ثمَّ تأمَّل حال المسيح - صلى الله عليه وسلم -؛ وصبرَه على قومه، واحتمالَه في الله (3) ما تحمَّله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهَّره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطَّعهم في الأرض، ومزَّقهم كلَّ ممزَّق، وسَلَبهم مُلْكَهم وفخرَهم إلى آخر الدَّهر. فصل فإذا جئتَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتأمَّلتَ سيرته مع قومه، وصبرَه في الله، واحتمالَه ما لم يحتمله نبيٌّ قبله، وتلوُّنَ الأحوال عليه مِنْ سِلْمٍ وحرب، وغنًى وفقر، وخوفٍ وأمن (4)، وإقامةٍ في وطنه وظعْنٍ عنه وتَركِه لله، وقتلِ أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفَّار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسِّحر والكذب، والافتراء عليه والبهتان؛ وهو مع ذلك كلِّه صابرٌ على أمر الله، يدعو إلى الله. _________ (1) (ن، ح): «ومقاساة الأمر الشديد بين». (2) جواب (لولا) محذوفٌ، وتقديره: لم يكن له ذلك. وانظر ما تقدم (ص: 506). (3) (ت): «واحتماله لله». (4) (ح، ن): «من سلم وخوف وغنى وفقر وأمن». وهو تحريف.

(2/851)


فلم يُؤذ نبيٌّ ما أُوذِي، ولم يَحْتَمِل في الله ما احتَمَله (1)، ولم يُعْط نبيٌّ ما أُعطِيَه، فرفَع الله له ذِكْرَه، وقَرَن اسمه باسمه، وجعله سيِّد النَّاس كلِّهم، وجعله أقربَ الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمَعهم عنده شفاعة. وكانت له تلك المحنُ والابتلاءُ عينَ كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات. وهذا حالُ ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيبٌ من المحنة، يسوقُه الله به إلى كماله بحسب متابعته له، ومن لا نصيب له من ذلك فحظُّه من الدُّنيا (2) حظُّ من خُلِق لها وخُلِقت له وجُعِل خَلاقُه ونصيبُه فيها، فهو يأكلُ منها رغَدًا، ويتمتَّعُ فيها حتى يناله نصيبُه من الكتاب، يُمْتَحَنُ أولياءُ الله وهو في دَعَةٍ وخَفْض عَيْش (3)، ويخافون وهو آمِن، ويحزنون وهو في أهله مسرور، له شأنٌ ولهم شأن، وهو في وادٍ وهم في واد، همُّه ما يُقِيمُ به جاهَه، ويَسْلَمُ به مالُه، وتُسْمَعُ به كلمتُه، لَزِم من ذلك ما لَزِم، ورَضِي من رَضِي وسَخِط من سَخِط، وهمُّهم إقامةُ دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه، وأن تكون الدَّعوةُ له وحده، فيكون هو وحده المعبود لا غيره، ورسولُه المطاعَ لا سواه. فللَّه سبحانه من الحِكَم في ابتلائه أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصرُ عقولُ العالمين عن معرفته، وهل وَصَل من وَصَل إلى الغايات _________ (1) (ح): «فلم يؤذ نبي ما أوذي ولم يحتمله». (2) (ت، د، ق): «فحظه في الدنيا». (3) (ت): «في دعة وحفظ وخفض عيش».

(2/852)


المحمودة (1) والنِّهايات الفاضلة إلا على جِسْر المحنة والابتلاء؟! كذا المعالي إذا ما رُمْتَ تُدْرِكُها ... فاعبُر إليها على جِسْرٍ من التَّعبِ (2) فصل (3) وإذا تأمَّلتَ الحكمة الباهرة في هذا الدِّين القيِّم (4)، والملَّة الحنيفية، والشريعة المحمَّدية، التي لا تنالُ العبارةُ كمالَها، ولا يُدْرِكُ الوصفُ حُسْنَها، ولا تقترحُ عقولُ العقلاء ــ ولو اجتمعت وكانت على عقل أكمل (5) رجلٍ منهم ــ فوقها، وحسبُ العقول الكاملة الفاضلة أن أدركَت حُسْنَها، وشَهِدت بفضلها، وأنه ما طَرَق العالمَ شريعةٌ أكملُ ولا أجلُّ (6) ولا أعظمُ منها. فهي نفسُها الشاهدُ والمشهودُ له، والحجَّةُ والمحتجُّ له، والدَّعوى والبرهان، ولو لم يأت المرسَلُ (7) ببرهانٍ عليها لكفى بها برهانًا وآيةً وشاهدًا على أنها من عند الله، وكلُّها شاهدةٌ له بكمال العلم، وكمال _________ (1) (ح، ن): «المقامات المحمودة». (2) مأخوذٌ من قول أبي تمام في بائيته الذَّائعة، «ديوانه» (1/ 73): بَصُرْتَ بالراحةِ الكبرى فلم تَرَها ... تُنَالُ إلا على جِسْرٍ من التَّعبِ (3) قبل الكلمة في (ح، ن): «والحمد لله وحده، وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا إلى يوم الدين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين». وليست في (د، ت، ق). (4) (ن، ح): «الدين القويم». (5) (ق، ن، د، ت): «وكانت على محل كل». (6) (ح): «ولا أجمل». (7) (ت، ح، ق، د): «الرسل».

(2/853)


الحكمة، وسَعة الرحمة والبرِّ والإحسان، والإحاطة بالغيب والشَّهادة، والعلم بالمباداء والعواقب، وأنها مِنْ أعظم نِعَمه التي أنعَم بها على عباده. فما أنعَم عليهم بنعمةٍ أجلَّ من أن هداهم لها؛ وجعلهم من أهلها، وممَّن ارتضاها لهم وارتضاهم لها، فلهذا امتنَّ على عباده بأن هداهم لها؛ قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقال معرِّفًا لعباده ومذكِّرًا لهم عظيمَ نعمته عليهم بها، مُسْتَدعيًا منهم شُكرَهم (1) على أن جَعَلهم من أهلها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وتأمَّل كيف وَصَف الدِّين الذي اختاره لهم بالكمال، والنِّعمةَ التي أسبَغها عليهم بالتَّمام، إيذانًا في الدِّين بأنه لا نقصَ فيه ولا عيبَ ولا خلل ولا شيءَ خارجًا عن الحكمة بوجهٍ، بل هو الكاملُ في حُسْنه وجلالته، ووَصَف النِّعمة بالتَّمام إيذانًا بدوامها واتصالها، وأنه لا يَسْلُبهم إياها بعد إذ أعطاهموها (2)، بل يُتِمُّها لهم بالدَّوام في هذه الدَّار وفي دار القرار (3). وتأمَّل حُسْنَ اقتران التَّمام بالنِّعمة، وحُسْنَ اقتران الكمال بالدِّين، وإضافةَ الدِّين إليهم إذ هم القائمون به المقيمون له، وإضافةَ النِّعمة إليه إذ هو _________ (1) (ن): «شكرها». (2) (ح): «أعطاهاهم إياه». وفي (ن): «أعطاها». (3) (ق، ت، د): «دار البقاء».

(2/854)


وليُّها ومُسْدِيها والمنعمُ بها عليهم (1)، فهي نعمتُه حقًّا وهم قابِلُوها. وأتى في الإكمال باللام المُؤْذنة بالاختصاص وأنه شيءٌ خُصُّوا به دون الأمم، وفي إتمام النِّعمة بـ (على) المُؤْذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة؛ فجاء {أَتمَمْتُ} في مقابلة {أَكْمَلْتُ}، و {عَلَيْكُمْ} في مقابلة {لَكُمُ}، و {نِعْمَتِي} في مقابلة {دِينَكُمْ}، وأكَّد ذلك وزاده تقريرًا وكمالًا وإتمامًا للنِّعمة بقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. وكان بعض السَّلف يقول: «يا له مِنْ دينٍ، لو أنَّ له رجالًا» (2). وقد ذكرنا فصلًا مختصرًا في دلالة خلقه على وحدانيَّته (3)، وصفات كماله، ونُعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وأردنا أن نختمَ به القسمَ الأوَّل من الكتاب (4)، ثمَّ رأينا أن نتبعه فصلًا في دلالة دينه وشرعه على وحدانيَّته وعلمه وحكمته ورحمته وسائر صفات كماله؛ إذ هذا من أشرف العلوم التي يكتسبُها العبدُ في هذه الدَّار، ويدخُل بها إلى الدَّار الآخرة. وقد كان الأولى بنا الإمساكُ عن ذلك؛ لأنَّ ما يصفُه الواصفون منه وتنتهي إليه علومُهم هو كما يُدْخِلُ الرجلُ إصبعَه في اليمِّ ثمَّ ينزعها، فهو يصفُ البحرَ بما يَعْلَق على أصبعه من البلل، وأين ذلك من البحر؟! فيظنُّ _________ (1) (ن): «عليهم دون الأمم». (2) أخرجه الذهبي في «السير» (7/ 394) عن إبراهيم بن أدهم. (3) يقصدُ ما تقدَّم من (ص: 538) إلى هنا. (4) وهو ما يتعلق بمباحث العلم. والقسم الثاني: ما يتعلق بمباحث الإرادة. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

(2/855)


السَّامعُ أنَّ تلك الصِّفة أحاطت بالبحر، وإنما هي صفةُ ما عَلِق بالأصبع منه (1)، وإلا فالأمرُ أجلُّ وأعظمُ وأوسعُ من أن تحيط عقولُ البشر بأدنى جزءٍ منه. وماذا عسى أن يصفَ به النَّاظرُ إلى قُرص الشمس مِنْ ضوئها وقَدْرها وحُسْنها وعجائب صُنْع الله فيها، ولكن قد رضي الله من عباده بالثَّناء عليه، وذِكْر آلائه، وأسمائه وصفاته، وحكمته وجلاله، مع أنه لا نحصي (2) ثناءً عليه أبدًا، بل هو كما أثنى على نفسه. فلا يبلغ مخلوقٌ ثناءً عليه تبارك وتعالى، ولا وَصْفَ كتابه ودينه بما ينبغي له، بل لا يبلغُ أحدٌ من الأمَّة ثناءً على رسوله كما هو أهلٌ أن يُثْنى عليه، بل هو فوق ما يُثْنون به عليه، ومع هذا فالله تعالى يحبُّ أن يُحْمَد ويُثْنى عليه وعلى كتابه ودينه ورسوله. فهذه مقدِّمةُ اعتذارٍ بين يَدَي القصور من راكب هذا البحر الأعظم، والله عليمٌ بمقاصد العباد ونيَّاتهم، وهو أولى بالعُذر والتَّجاوز. فصل وبصائر النَّاس في هذا النُّور التامِّ (3) تنقسمُ إلى ثلاثة أقسام: أحدها: من عَدِم بصيرة الإيمان جملة، فهو لا يرى من هذا الضوء إلا الظُّلمات والرعد والبرق، فهو يجعلُ إصبعيه في أذنيه من الصَّواعق، ويدَه _________ (1) (ح، ن): «علق على الأصبع منه». (2) (ت): «يحصى». (3) (ح، ن): «النور الباهر».

(2/856)


على عينه من البرق؛ خشية أن يُخْطف بصرُه، ولا يجاوزُ نظرُه ما وراء ذلك من الرحمة وأسباب الحياة الأبديَّة. فهذا القسمُ هو الذي لم يَرْفَع بهذا الدِّين رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي هَدى به عبادَه ولو جاءته كلُّ آية؛ لأنه ممَّن سبقت له الشَّقاوة، وحقَّت عليه الكلمة، ففائدةُ إنذار هذا إقامةُ الحجَّة عليه؛ ليعذَّب بذنبه لا بمجرَّد علم الله فيه. القسم الثَّاني: أصحابُ البصائر (1) الضعيفة الخُفَّاشيَّة الذين نسبةُ أبصارهم إلى هذا النُّور كنسبة أبصار الخفَّاش إلى جِرْم الشمس، فهم تبعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دينُهم دينُ العادة والمنشأ، وهم الذين قال فيهم أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب: «أو منقادٌ للحقِّ لا بصيرة له في أحنائه (2)». فهؤلاء إذا كانوا منقادين لأهل البصائر، لا يتخالجهُم (3) شكٌّ ولا ريب؛ فهم على سبيلِ نجاة. القسم الثَّالث: وهم خلاصةُ الوجود، ولُبابُ بني آدم؛ وهم أصحابُ البصائر النَّافذة، الذين شَهِدت بصائرُهم هذا النُّور المبين فكانوا منه على بصيرةٍ ويقينٍ ومشاهدةٍ لحسنه وكماله، بحيث لو عُرِض على عقولهم ضدُّه لرأوه كالليل البهيم الأسود. _________ (1) (ح، ت، ن): «البصيرة». (2) (ت، ق): «إصابة». (د): «اصابه». (ط): «إحيائه». وهو تحريف. وقد تقدم الكلام عليها عند ورود الأثر (ص: 347، 394). (3) (ح، ن): «يختلجهم».

(2/857)


وهذا هو المِحَكُّ والفرقانُ بينهم وبين الذين قبلهم؛ فإنَّ أولئك بحسب داعِيهم ومن يقترنُ (1) بهم، كما قال فيهم عليُّ بن أبي طالب: «أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ صائح (2)، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق» (3). وهذا علامةُ عدم البصيرة؛ أنك تراه يستحسنُ الشيءَ وضدَّه، ويمدحُ الشيءَ ويذمُّه بعينه إذا جاء في قالبٍ لا يعرفُه، فيعظِّمُ طاعة الرسول ويرى عظيمًا مخالفتَه، ثمَّ هو من أشدِّ النَّاس مخالفةً له، ونفيًا لما أثبته، ومعاداةً للقائمين بسنَّته، وهذا من عدم البصيرة. فهذا القسمُ الثَّالث إنما عملُهم على البصائر، وبها تفاوُت مراتبهم في درجات الفضل، كما قال بعض السَّلف ــ وقد ذَكَر السَّابقين فقال: «إنما كانوا يعملون على البصائر». وما أوتي أحدٌ أفضل من بصيرةٍ في دين الله، ولو قصَّر في العمل؛ قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، قال ابنُ عبَّاس: «أولي القوَّة في طاعة الله، والأبصار في المعرفة في أمر الله» (4). وقال قتادةُ ومجاهد: «أُعطُوا قوَّةً في العبادة وبصرًا في الدِّين» (5). _________ (1) (ت): «يقرب». (ق): «يقرن». ومهملة في (د). (2) (ح، ن): «مع كل ريح». (3) جزءٌ من الأثر السابق. وقد تقدم الكلام عليه. (4) (ت، ح، ن): «المعرفة بالله». والأثر أخرجه بنحوه الطبري (21/ 215). وعلَّقه البخاري. انظر: «تغليق التعليق» (4/ 296). (5) أخرجه الطبري (21/ 216).

(2/858)


وأعلمُ النَّاس أبصرُهم بالحقِّ إذا اختلف النَّاس، وإن كان مقصِّرًا في العمل. وتحت كلِّ واحدٍ من هذه الأقسام أنواعٌ لا يحصي مقاديرَها وتفاوتها إلا الله. إذا عُرِف هذا؛ فالقسمُ الأوَّلُ لا ينتفعُ بهذا الباب (1)، ولا يزدادُ به إلا ضلالة، والقسمُ الثَّاني ينتفعُ به بقدر فهمه واستعداده، والقسمُ الثَّالث وإليهم هذا الحديثُ يُسَاق، وهم أولو الألباب الذين يخصُّهم الله في كتابه بخطاب التنبيه والإرشاد، وهم المرادون على الحقيقة بالتَّذكرة؛ قال الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]. فصل قد شَهِدت الفِطر (2) والعقولُ بأنَّ للعالم ربًّا قادرًا حكيمًا (3) عليمًا رحيمًا، كاملًا في ذاته وصفاته، لا يكونُ إلا مريدًا للخير لعباده، مُجْرِيًا لهم على الشريعة والسُّنَّة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركَّب في عقولهم من استحسان الحَسَن واستقباح القبيح، وما جَبَل طباعَهم عليه من إيثار النَّافع لهم المصلح لشأنهم وترك الضارِّ المفسد لهم. وشَهِدت هذه الشريعةُ له بأنه أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه المحيطُ بكلِّ شيءٍ علمًا. _________ (1) (ح): «الكتاب». (2) (ن): «قد شهدت الفطرة السليمة». (3) (ق): «حليما».

(2/859)


وإذا عُرِف ذلك؛ فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في مُلوك العالم، أنهم يسوُّون بين من هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلَّ ما يعرفُه الملوك، وإعلامهم جميعَ ما يَعْلمونه، وإطلاعهم على كلِّ ما يُجْرُون عليه (1) سياساتهم في أنفسهم وفي منازلهم، حتى لا يقيموا في بلدٍ قيِّمًا (2) إلا أخبروا من تحت أيديهم بالسَّبب في ذلك، والمعنى الذي قصدوه منه (3)، ولا يأمرون رعيَّتهم بأمرٍ، ولا يضربون عليهم بعثًا، ولا يَسُوسونهم سياسةً إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه وغايته ومدَّته، بل لا تتصرَّفُ بهم الأحوالُ في مطاعمهم ومشاربهم (4) وملابسهم ومراكبهم إلا وَقَفُوهم على أغراضهم فيه (5). ولا شكَّ أنَّ هذا منافٍ للحكمة والمصلحة بين المخلوقين، فكيف بشأنِ ربِّ العالمين وأحكم الحاكمين، الذي لا يشاركُه في علمه (6) ولا في حكمته أحدٌ أبدًا؟! فحَسْبُ العقول الكاملة أن تستدلَّ بما عرفَت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلمَ (7) أنَّ له حكمةً في كلِّ ما خلقه وأمر به وشرعه. _________ (1) في الأصول: «عليهم». والتصويب من «محاسن الشريعة». (2) في الأصول: «فيها». تحريف. والمثبت من «محاسن الشريعة». (3) «محاسن الشريعة»: «قصروه فيه». (4) «ومشاربهم» ليست في (ح، ق). (5) «محاسن الشريعة» لأبي بكر القفال الشاشي (ت: 365) (ص: 19). وجلُّ هذا الفصل منه. وسيذكره المصنف (ص: 964)، ويثني عليه. (6) (ت): «في حكمه». (7) في الأصول: «واعلم». والمثبت أشبه.

(2/860)


وهل تقتضي الحكمةُ أن يخبر الله تعالى كلَّ عبد من عباده (1) بكلِّ ما يفعلُه، ويُوقِفهم على وجه تدبيره في كلِّ ما يريدُه، وعلى حكمته في صغير ما ذَرَأ وبَرَأ من خليقته؟! وهل في قُوى المخلوق ذلك؟! بل طوى سبحانه كثيرًا من صنعه وأمره عن جميع خلقه، فلم يُطْلِع على ذلك مَلَكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرسلًا. والمدبِّر الحكيمُ من البشر إذا ثبتت حكمتُه وابتغاؤه الصَّلاحَ لمن تحت تدبيره وسياسته كفى في ذلك تتبُّعُ مقاصده فيمن يولِّي ويَعْزِل، وفي جنس ما يأمرُ به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيَّته (2) وسياسته لهم، دون تفاصيل كلِّ فعلٍ من أفعاله (3)، اللهمَّ إلا أن يبلُغ الأمرُ في ذلك مبلغًا لا يوجدُ لفعله منفذٌ ومَسَاغٌ في المصلحة أصلًا، فحينئذٍ يخرجُ بذلك عن استحقاق اسم الحكيم (4). ولن يجد أحدٌ في خَلْق الله ولا في أمره واحدًا (5) من هذا الضرب، بل غايةُ ما يخرجه تفتيشُ المتعنِّت (6) أمورٌ يعجزُ العقلُ عن معرفة وجوهها وحكمتها، وأمَّا أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله؛ إلا أن يكون ما أخرجه كذبًا على الخلق والأمر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه. _________ (1) (ح، ن): «أن يخبر الله تعالى عباده». (2) (ح، ن): «إلى تدبيره لرعيته». (3) «محاسن الشريعة»: «كفى ذلك عن تتبع مقاصده بمن يولي ويعزل، أو فيما يدبر به نفسه أو أهله أو رعيته». (4) «محاسن الشريعة» (20). (5) (د، ت، ق، ن): «ولا واحدا». (6) (ق، د): «نفس المتعنت». (ت): «تعيس المبعث»!.

(2/861)


وإذا عُرِف هذا فقد عُلِم أنَّ ربَّ العالمين أحكمُ الحاكمين، والعالمُ بكلِّ شيء، والغنيُّ عن كلِّ شيء، والقادرُ على كلِّ شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعالُه وأوامرُه قطُّ عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صُنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفتُه (1) بالوجه العامِّ أن تضمَّنته حكمةٌ بالغة، وإن لم يعرفوا تفصيلَها، وأنَّ ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به، فيكفيهم في ذلك الإسنادُ (2) إلى الحكمة البالغة العامَّة الشاملة التي عَلِموا ما خَفِي منها مما ظهر لهم. هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى بنى أمورَ عباده على أن عرَّفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما، وهذا مطَّردٌ في الأشياء أصولها وفروعها. فأنت إذا رأيتَ الرجلين ــ مثلًا ــ أحدُهما أكثر شَعرًا من الآخر، أو أشدُّ بياضًا، أو أحدُّ ذهنًا، لأمكنك أن تعرف مِنْ جهة السَّبب الذي أجرى الله عليه سُنَّة الخليقة وجه اختصاص كلِّ واحدٍ منهما بما اختصَّ به. وهكذا في اختلاف الصُّور والأشكال. ولكن لو أردتَ أن تعرف المعنى الذي كان شَعرُ هذا مثلًا يزيدُ على شَعر الآخر بعددٍ معيَّن، أو المعنى الذي فضَّله اللهُ به في القَدْر المخصوص والتَّشكيل المخصوص، ومعرفة القَدْر الذي بينهما من التَّفاوت وسببَه؛ لما أمكن ذلك أصلًا (3). _________ (1) (ح): «معرفتهم». (2) (ح، ن): «ليكفيهم في ذلك الاستناد». (3) «محاسن الشريعة» (20، 21).

(2/862)


وقِس على هذا جميعَ المخلوقات، من الرِّمال (1) والجبال والأشجار ومقادير الكواكب وهيآتها. وإذا كان لا سبيل إلى معرفة هذا في الخلق، بل يكفي فيه العلَّةُ العامَّةُ والحكمةُ الشاملة، فهكذا في الأمر يُعْلَمُ أنَّ جميعَ ما أمر به متضمِّنٌ لحكمةٍ بالغة، وأمَّا تفاصيلُ أسرار المأمورات والمنهيَّات فلا سبيل إلى علم البشر به، ولكن يُطْلِعُ الله من شاء من خلقه على ما شاء منه، فاعتصِم بهذا الأصل (2). فصل (3) حاجةُ النَّاس إلى الشريعة ضروريةٌ فوق حاجتهم إلى كلِّ شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطبِّ إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكونُ الطَّبيبُ إلا في بعض المدن الجامعة، وأمَّا أهلُ البَدْو كلُّهم، وأهلُ الكُفُور (4) كلُّهم، وعامَّةُ بني آدم؛ فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحُّ أبدانًا (5) وأقوى طبيعةً ممَّن هو متقيِّدٌ بالطَّبيب (6)، ولعلَّ أعمارهم متقاربة. _________ (1) (ح، ن): «بين الرمال». (2) انتهت هنا النسختان (ح، ن). وفي (ح): «تم، ويتلوه في الجزء الثاني: فصل حاجة الناس إلى الشريعة ... ». وفي (ن): «والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، يتلوه إن شاء الله في الجزء الثاني: فصل حاجة الناس إلى الشريعة ... ». (3) علق أحد القراء في طرة (ق): «هذا ابتداء النصف الثاني من الكتاب». وليس كما قال. وقد بينا ذلك في المقدمة. (4) القُرى الصغيرة. جمع «كَفْر». «المعجم الوسيط» (كفر). (5) (ت): «أصلح أبدانا». (6) (ت): «مقتد بالطبيب».

(2/863)


وقد فطر اللهُ بني آدم على تناول ما ينفعُهم واجتناب ما يضرُّهم، وجعل لكلِّ قومٍ عادةً وعُرفًا في استخراج [أدوية] ما يَهْجُم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيرًا من أصول الطبِّ إنما أُخِذت من عوائد النَّاسِ وعُرفهم وتجاربهم. وأمَّا الشريعةُ فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسَخَطه في حركات العباد الاختياريَّة؛ فمبناها على الوحي المحض، والحاجةُ [إليها أشدُّ من الحاجة] (1) إلى التنفُّس، فضلًا عن الطَّعام والشراب؛ لأنَّ غاية ما يقدَّر في عدم التنفُّس والطَّعام والشراب موتُ البدن وتعطُّل الرُّوح عنه، وأمَّا ما يقدَّر عند عدم الشريعة ففسادُ الرُّوح والقلب جملةً، وهلاكُ الأبد؛ وشتَّان بين هذا وهلاك البدن بالموت. فليس النَّاسُ قطُّ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والقيام به، والدَّعوة إليه، والصَّبر عليه، وجهاد من خرجَ عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالَم صلاحٌ بدون ذلك البتَّة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السَّعادة والفوز الأكبر إلا بالعُبور على هذا الجِسْر. فصل الشرائعُ كلُّها في أصولها ــ وإن تباينت ــ متَّفقة، مركوزٌ حُسْنُها في العقول، ولو وقعَت على غير ما هي عليه لخرجَت عن الحكمة والمصلحة (2) والرحمة، بل من المحال أن تأتي بخلاف ما أتت به؛ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. _________ (1) ما بين المعكوفين من (ط)، وسقط من (د، ت، ق) لانتقال النظر. (2) «محاسن الشريعة» (21).

(2/864)


وكيف يجوِّزُ ذو العقل أن تَرِد شريعةُ أحكم الحاكمين بضدِّ ما وردت به؟! * فالصَّلاة قد وُضِعَت على أكمل الوجوه وأحسنها التي تعبَّد (1) بها الخالقُ تبارك وتعالى عبادَه؛ مِنْ تضمُّنها (2) للتَّعظيم له بأنواع الجوارح، مِنْ نُطْق اللسان، وعمل اليدين والرِّجلين، والرأس وحواسِّه، وسائرُ أجزاء البدن يأخذُ بحظِّه (3) من الحكمة في هذه العبادة العظيمة المقدار، مع أخذ الحواسِّ الباطنة بحظِّها منها، وقيام القلب بواجب عبوديَّته فيها. فهي مشتملةٌ على الثَّناء والحمد، والتَّمجيد والتَّسبيح والتكبير، وشهادة الحقِّ، والقيام بين يدي الربِّ مقام العبد الذَّليل الخاضع (4) المدبَّر المَرْبُوب. ثمَّ التذلُّل له في هذا المقام، والتضرُّع والتقرُّب إليه بكلامه، ثمَّ انحناء الظَّهر ذلًّا له وخشوعًا واستكانة، ثمَّ استوائه قائمًا ليستعدَّ لخضوعٍ أكملَ له من الخضوع الأوَّل، وهو السُّجودُ مِنْ قيامٍ؛ فيضعُ أشرفَ شيءٍ فيه ــ وهو وجهُه ــ على التُّراب خشوعًا لربِّه، واستكانةً وخضوعًا لعظمته، وذلًّا لعزَّته، قد انكسر له قلبُه، وذلَّ له جسمُه، وخشعت له جوارحُه، ثمَّ يستوي قاعدًا يتضرَّعُ له، ويتذلَّلُ بين يديه، ويسأله من فضله، ثمَّ يعودُ إلى حاله من الذُّل والخشوع والاستكانة، فلا يزالُ هذا دأبه حتى يقضي صلاته، فيجلس عند _________ (1) (ت): «يعبد». (2) (ق): «ومن تضمنت». (ت): «ومن تضمنها». والأقرب ما أثبت. (3) (ت): «حظه». (4) (ت): «الخاضع الخاشع».

(2/865)


إرادة الانصراف (1) منها مثنيًا على ربِّه، مسلِّمًا على نبيِّه وعلى عباده، ثمَّ يصلي على رسوله، ثمَّ يسأل ربَّه من خيره وبرِّه وفضله (2). فأيُّ شيءٍ بعد هذه العبادة من الحُسْن؟! وأيُّ كمالٍ وراء هذا الكمال؟! وأيُّ عبوديةٍ أشرفُ من هذه العبودية؟! فمن جوَّز عقلُه أن تَرِد الشريعةُ بضدِّها من كلِّ وجهٍ في القول والعمل, وأنه لا فرق في نفس الأمر (3) بين هذه العبادة وبين ضدِّها من السُّخرية، والسَّبِّ، والبَطَر (4)، وكشف العورة، والبول على السَّاقين، والضحك، والصَّفير، وأنواع المُجون وأمثال ذلك= فليُعَزِّ عقلَه (5)، وليسأل الله أن يهبه عقلًا سواه! * وأمَّا حُسْنُ الزَّكاة وما تضمَّنته من مواساة ذوي الحاجات والمَسْكنة والخَلَّة من عباد الله الذين يعجزون عن إقامة نفوسهم، ويُخافُ عليهم التَّلفُ إذا خلَّاهم الأغنياءُ وأنفسَهم (6)، وما فيها من الرحمة والإحسان والبرِّ والطُّهْرة، وإيثار أهل الإيثار، والاتصاف بصفة الكرم والجُود والفضل، والخروج من سِمَات أهل الشُّحِّ والبخل والدَّناءة= فأمرٌ لا يستريبُ عاقلٌ في _________ (1) (ق): «عند الانصراف». (2) انظر: «محاسن الشريعة» (21، 81 - 85). (3) «في نفس الأمر» ليست في (ت). (4) وهو الطغيان عند النعمة. ويطلق على شدة المرح. وبطرَ الحقَّ: تكبَّر عنه ولم يقبله. «اللسان» (بطر). (5) (ت): «فليعر عقله». (6) «محاسن الشريعة» (21).

(2/866)


حُسْنه ومصلحته، وأنَّ الآمرَ به أحكمُ الحاكمين. وليس يجوزُ في العقل ولا في الفطرة البتَّة أن تَرِد شريعةٌ من الحكيم العليم (1) بضدِّ ذلك أبدًا. * وأمَّا الصَّوم، فناهيك به مِنْ عبادةٍ تَكُفُّ النَّفس عن شهواتها، وتخرجُها عن شَبَه البهائم إلى شَبَه الملائكة المقرَّبين، فإنَّ النَّفس إذا خُلِّيَت ودواعي شهواتها التحقَت بعالم البهائم، فإذا كفَّت شهواتها لله ضيَّقَت مجاري الشيطان، وصارت قريبةً من الله بترك عاداتها (2) وشهواتها؛ محبةً له، وإيثارًا لمرضاته، وتقرُّبًا إليه، فيدعُ الصَّائمُ أحبَّ الأشياء إليه وأعظمها لصوقًا بنفسه من الطَّعام والشراب والجِماع من أجل ربِّه، فهو عبادةٌ لا تُتصَوَّرُ (3) حقيقتُها إلا بترك الشَّهوة لله، فالصَّائمُ يدعُ طعامَه وشرابه وشهواته من أجل ربِّه. وهذا معنى كون الصَّوم له تبارك وتعالى، وبهذا فسَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الإضافة في الحديث، فقال: «يقولُ الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم يضاعف الحسنةُ بعشرة أمثالها، قال الله: إلا الصَّوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدعُ طعامَه وشرابه من أجلي» (4)، حتى إنَّ الصَّائم ليتصوَّرُ بصورة من لا حاجة له في الدُّنيا إلا في تحصيل رضا الله (5). _________ (1) (ت): «الحكيم العظيم». (2) (ق): «تترك عادتها». والحرف الأول مهمل في (د). (3) (ق، د): «ولا تتصور حقيقتها». (4) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة. (5) «محاسن الشريعة» (22).

(2/867)


وأيُّ حُسْنٍ يزيدُ على حُسْن هذه العبادة التي تَكْسِرُ الشهوة، وتَقْمَعُ النَّفس، وتحيي القلبَ وتفرحُه، وتزهِّدُ في الدُّنيا وشهواتها، وترغِّبُ فيما عند الله، وتذكِّرُ الأغنياءَ بشأن المساكين وأحوالهم، وأنهم قد أخذوا بنصيبٍ (1) من عَيْشِهم، فتعطِّف قلوبهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نِعَم الله فيزدادوا له شكرًا؟! وبالجملة، فعونُ الصَّوم على تقوى الله أمرٌ مشهور، فما استعان أحدٌ على تقوى الله وحِفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصَّوم، فهو شاهدٌ لمن شرعه وأمر به بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنه إنما شرعه إحسانًا إلى عباده، ورحمةً بهم (2)، ولطفًا بهم، لا بخلًا عليهم برزقه، ولا مجرَّد تكليفٍ وتعذيبٍ خالٍ من الحكمة والمصلحة، بل هو غايةُ الحكمة والرحمة والمصلحة، وأنَّ شَرْع هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم، ورحمته بهم. * وأمَّا الحجُّ، فشأنٌ آخرُ لا يُدْرِكه إلا الحنفاءُ الذين ضربوا في المحبة بسَهْم، وشأنه أجلُّ من أن تحيط به العبارة، وهو خاصَّةُ هذا الدِّين الحنيف، حتى قيل في قوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31]: «أي: حُجَّاجًا» (3). وجَعَل الله بيتَه الحرام قِيامًا للنَّاس، فهو عمودُ العالَم الذي عليه بناؤه، فلو ترك النَّاسُ كلُّهم الحجَّ سنةً لخرَّت السَّماءُ على الأرض، هكذا قال _________ (1) (ت): «نصيب». (2) (ت): «ورحمة لهم». (3) ورد هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. انظر: «تفسير الطبري» (3/ 106، 24/ 541).

(2/868)


ترجمانُ القرآن ابنُ عبَّاس (1)؛ فالبيتُ الحرامُ قِيامُ العالَم، فلا يزالُ قِيامًا ما دام هذا البيتُ محجوجًا. فالحجُّ خاصَّةُ الحنيفية وتقويته (2) والصَّلاة سرُّ قول العبد: لا إله إلا الله؛ فإنه مؤسَّسٌ على التَّوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارةُ المحبوب لأحبابه، ودعوتُهم إلى بيته ومحلِّ كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارُهم: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، إجابةَ محبٍّ لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتَّلبية موقعٌ عند الله، وكلَّما أكثر العبدُ منها كان أحبَّ إلى ربِّه وأحظى، فهو لا يملكُ نفسَه أن يقول: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك (3)، حتى ينقطع نفَسُه. وأمَّا أسرارُ ما في هذه العبادة من الإحرام، واجتناب العوائد، وكشف الرأس، ونزع الثِّياب المعتادة، والطَّواف، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، وسائر شعائر الحجِّ= فمما شَهِدت بحُسْنه العقولُ السَّليمة والفطرُ المستقيمة، وعَلِمَت بأنَّ الذي شرع هذا لا حكمة فوق حكمته. وسنعودُ إن شاء الله إلى الكلام في ذلك في موضعه (4). _________ (1) ذكره الإمام أحمد في «المناسك»، كما في «منهاج السنة» (4/ 584). وأخرج عبد الرزاق (5/ 13)، والفاكهي في «أخبار مكة» (811) عن ابن عباس قال: «لو ترك الناسُ زيارة هذا البيت عامًا واحدًا ما مُطِروا». هذا لفظ عبد الرزاق. ولفظ الفاكهي: «ما نوظروا». وفي إسناده رجلٌ لم يُسَمَّ. (2) كذا في (د). (ت): «وتقوية». وهي مهملة في (ق). ولم يتبين لي وجه صواب العبارة. وأصلحت في (ط) إلى: «ومعونة الصلاة، وسر قول العبد ... ». (3) (ق): «لبيك لبيك». (4) لم أقف على هذا الموضع. وانظر بعض القول في هذه المعاني في: «تهذيب السنن» (5/ 178)، و «بدائع الفوائد» (694)، و «مدارج السالكين» (2/ 426، 427)، و «محاسن الشريعة» للقفال (127 - 151)، و «إثبات العلل» للحكيم الترمذي (200 - 205).

(2/869)


* وأمَّا الجهاد، فناهيك به مِنْ عبادةٍ هي سَنَامُ العبادات وذِرْوتُها، وهو المِحَكُّ والدَّليلُ المفرِّقُ بين المحِبِّ والمدَّعي؛ فالمحِبُّ قد بذل مهجتَه وماله لربِّه وإلهه، متقرِّبًا إليه ببَذْل أعزِّ ما بحضرته، يودُّ لو أنَّ له بكلِّ شَعرةٍ نَفْسًا يبذُلها في حبِّه ومرضاته، ويودُّ أن لو قُتِل فيه ثمَّ أُحيِي ثمَّ قُتِل ثمَّ أُحيِي ثمَّ قُتِل، فهو يفدي بنفسه حبيبَه وعبدَه ورسوله، ولسانُ حاله يقول: يَفْدِيكَ بالنَّفس صَبٌّ لو يكونُ له ... أعزَّ مِنْ نفسِه شيءٌ فَداكَ به (1) فهو قد سلَّم نفسَه وماله لمشتريها، وعَلِم أنه لا سبيل إلى أخذ السِّلعة إلا ببذلِ ثمنها؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]. وإذا كان من المعلوم المستقرِّ عند الخلق أنَّ علامة المحبة الصَّحيحة بذلُ الرُّوح والمال في مرضاة المحبوب، فالمحبوبُ الحقُّ الذي لا تنبغي المحبةُ إلا له، وكلُّ محبةٍ سوى محبَّته فالمحبة له باطلة= أولى بأن يَشْرَع لعباده الجهادَ الذي هو غايةُ ما يتقرَّبون به إلى إلههم وربهم، وكانت قرابينُ مَنْ قبلهم من الأمم في ذبائحهم، وقرابينُهم تقديمُ أنفسهم للذَّبح في الله مولاهم الحقِّ. _________ (1) البيت للبحتري في ديوانه (1/ 303)، و «عبث الوليد» (63)، وفي بعض نسخ الديوان أنه يروى لابن كيغلغ. وللوأواء في ديوانه (45). ولأبي العتاهية في «محاضرات الأدباء» (3/ 98)، وعنه في تكملة ديوانه (499). ودون نسبة في «الزهرة» (70)، و «المحب والمحبوب» (2/ 80).

(2/870)


فأيُّ حُسْنٍ يزيدُ على حُسْن هذه العبادة؟! ولهذا ادَّخرها اللهُ لأكمل الأنبياء، وأكمل الأمم عقلًا وتوحيدًا ومحبةً لله. * وأمَّا الضحايا والهدايا، فقُربانٌ إلى الخالق سبحانه، يقومُ مقامَ الفِدية عن النَّفس المستحقَّة للتَّلف (1)، فِديةً وعِوَضًا وقُربانًا إلى الله، وتشبُّهًا بإمام الحنفاء، وإحياءً لسنَّته إذ فَدَى اللهُ ولدَه بالقُربان؛ فجَعَل ذلك في ذُرِّيته باقيًا أبدًا. * وأمَّا الأيمانُ والنُّذور، فعقودٌ يَعْقِدُها العبدُ على نفسه، يؤكِّدُ بها ما ألزمه نفسَه من الأمور بالله ولله، فهي تعظيمٌ للخالق ولأسمائه ولحقِّه، وأن تكون العقودُ به وله، وهذا غايةُ التَّعظيم، فلا يُعْقَدُ بغير اسمه، ولا لغير القُرْب (2) إليه، بل إن حَلَف فبِاسْمِه تعظيمًا (3) وتوحيدًا وإجلالًا، وإن نَذَر فله توحيدًا وطاعةً ومحبةً وعبودية، فيكونُ هو المعبودُ وحده والمستعانُ به وحده. * وأمَّا المطاعمُ والمشاربُ والملابسُ والمناكح، فهي داخلةٌ فيما يُقِيمُ الأبدانَ ويحفظُها من الفساد والهلاك، وفيما يعودُ ببقاء النَّوع الإنساني؛ ليتمَّ بذلك قِوامُ الأجساد وحِفظ النَّوع، فيتحمَّل الأمانةَ التي عُرِضت على السَّموات والأرض، ويقْوى على حملها وأدائها، ويتمكَّن من شُكر مَولى الإنعام ومُسْدِيه. _________ (1) «محاسن الشريعة» (22). (2) (ت): «الندب». ومهملة في (ق). ورسمها في (د) يشبه: «الفرب». (3) (ت): «تعظيما وتحميدا».

(2/871)


وفرق في هذه الأنواع بين المباح والمحظور، والحسن والقبيح، والضارِّ والنَّافع، والطَّيِّب والخبيث، فحرَّم منها القبيحَ والخبيثَ والضارَّ وأباح منها الحسنَ والطيِّبَ والنَّافع، كما سيأتي إن شاء الله. وتأمَّل ذلك في المَناكح، فإنَّ من المستقرِّ في العقول والفطر أنَّ قضاء هذا الوَطَر في الأمَّهات والبنات والأخوات والعمَّات والخالات والجدَّات مُستقبَحٌ في كلِّ عقل، مُستهجَنٌ في كلِّ فطرة (1)، ومن المحال أن يكون المباحُ من ذلك مساويًا للمحظور في نفس الأمر، ولا فرق بينهما إلا مجرَّدُ التحكُّم بالمشيئة. سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. وكيف يكونُ في نفس الأمر نكاحُ الأمِّ واستفراشُها مساويًا لنكاح الأجنبية واستفراشها، وإنما فرَّق بينهما محضُ الأمر؟! وكذلك من المحال أن يكون الدَّمُ والبولُ والرجيعُ مساويًا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما الشارعُ فرَّق بينهما فأباح هذا وحرَّم هذا مع استواء الكلِّ في نفس الأمر! وكذلك أخذُ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث لا يكونُ مساويًا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسَّرقة والخيانة (2)، حتى يكون إباحةُ هذا وتحريمُ هذا راجعًا إلى محض الأمر والنهي المفرِّق بين المتماثلين! وكذلك الظُّلمُ والكذبُ والزُّورُ والفواحشُ كالزِّنا واللواط وكشف العورة بين الملأ ونحو ذلك، كيف يسوِّغُ عقلُ عاقلٍ أنه لا فرق قطُّ في نفس _________ (1) انظر: «محاسن الشريعة» (22). (2) (ق): «والجناية».

(2/872)


الأمر بين ذلك وبين العدل والإحسان والعِفَّة والصِّيانة وسَتْر العورة، وإنما الشارعُ يحكم بإيجاب هذا وتحريم هذا؟! هذا مما لو عُرِض على العقول السَّليمة التي لم تَنْغَل (1)، ولم يمسَّها دَغَلُ (2) المقالات (3) الفاسدة، وتعظيم أهلها، وحُسْن الظَّنِّ بهم= لكانت أشدَّ إنكارًا له، وشهادةً ببطلانه من كثيرٍ من الضروريات. وهل ركَّبَ الله في فطرة عاقلٍ قطُّ أنَّ الإحسانَ والإساءة، والصِّدقَ والكذب، والفجورَ والعفَّة، والعدل والظُّلم، وقتلَ النُّفوس وإنجاءها، بل السُّجودَ لله وللصَّنم= سواءٌ في نفس الأمر، لا فرق بينهما وإنما الفرقُ بينهما الأمرُ المجرَّد؟! وأيُّ جحدٍ للضروريات أعظمُ من هذا؟! وهل هذا إلا بمنزلة من يقول: إنه لا فرق بين الرجيع والبول، والدَّم والقيء، وبين الخبز واللَّحم، والماء والفاكهة، والكلُّ سواءٌ في نفس الأمر، وإنما الفرقُ بالعوائد؟! فأيُّ فرقٍ بين مدَّعي هذا الباطل وبين مدَّعي ذاك الباطل؟! وهل هذا إلا بَهْتٌ للعقل والحسِّ والضرورة والشَّرع والحكمة؟! وإذا كان لا معنى عندهم للمعروف إلا ما أُمِرَ به فصار معروفًا بالأمر، ولا للمنكر إلا ما نُهِيَ عنه فصار منكرًا بنهيه، فأيُّ معنًى لقوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]؟! وهل حاصلُ ذلك زائدٌ _________ (1) أي: تفسُد. نغَل الجرحُ: فسد. «اللسان» (نغل). وفي (ت): «تنعل». وهي مهملة في (د، ق). وانظر: «زاد المعاد» (4/ 65)، و «إعلام الموقعين» (3/ 392). (2) الدَّغَل: الفساد. «اللسان» (دغل). (3) في الأصول: «للمثالات». تحريف. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1114).

(2/873)


على أن يقال: يأمرُهم بما يأمرُهم به، وينهاهم عمَّا ينهاهم عنه؟! وهذا كلامٌ يُنَزَّهُ عنه (1) آحادُ العقلاء فضلًا عن كلام ربِّ العالمين. وهل دلَّت الآيةُ إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تَعْرِفُه العقول، وتُقِرُّ بحُسْنه الفطر، فأمَرَهم بما هو معروفٌ في نفسه عند كلِّ عقلٍ (2) سليم، ونهاهم عمَّا هو منكرٌ في الطِّباع والعقول، بحيث إذا عُرِض على العقول السَّليمة أنكرته أشدَّ الإنكار، كما أنَّ ما أمَرَ به إذا عُرِض على العقل السَّليم قَبِله أعظمَ قبولٍ وشَهِد بحُسْنه. كما قال بعض الأعراب، وقد سئل: بم عرفتَ أنه رسولُ الله؟، فقال: ما أمَرَ بشيءٍ فقال العقلُ: ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقلُ: ليته أمَرَ به (3). فهذا الأعرابيُّ أعرفُ بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقرَّ عقلُه (4) وفطرتُه بحُسْن ما أمَرَ به، وقُبْح ما نهى عنه، حتى كان في حقِّه من أعلام نبوَّته وشواهد رسالته، ولو كان جهةُ كونه معروفًا ومنكرًا هو الأمرَ المجرَّد لم يكن فيه دليل، بل كان يُطلَبُ له الدَّليلُ من غيره. _________ (1) (ت): «تنزه عن». (2) (ت): «كل ذي عقل». (3) قال العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه للمنذر بن ساوى ملك البحرين: «هذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الأميُّ الذي والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه». انظر: «الروض الأنف» (4/ 391)، و «الاكتفاء» للكلاعي (2/ 316)، و «الجواب الصحيح» (1/ 330). وأصلُ خبر بعث العلاء إلى البحرين مشهورٌ في دواوين السنَّة. (4) (ت): «دينه وعقله».

(2/874)


ومن سلك ذلك المسلكَ الباطل لم يُمْكِنْه أن يستدلَّ على صحَّة نبوَّته بنفس دعوته ودينه، ومعلومٌ أنَّ نفسَ الدِّين الذي جاء به والملَّة التي دعا إليها مِنْ أعظم براهين صدقه وشواهد نبوَّته، ومن لم يُثْبِت لذلك صفاتٍ وجوديةً أوجَبَت حُسْنَه وقبول العقول له، ولضدِّه صفاتٍ أوجَبَت قُبْحَه ونفور العقول عنه= فقد سَدَّ على نفسه بابَ الاستدلال بنفس الدَّعوة، وجعلها مُسْتَدَلًّا عليه فقط. * ومما يدلُّ على صحَّة ذلك قولُه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، فهذا صريحٌ في أنَّ الحلال كان طيِّبًا قبل حِلِّه، وأنَّ الخبيثَ كان خبيثًا قبل تحريمه، ولم يُسْتَفد طِيبُ هذا وخُبثُ هذا من نفس الحِلِّ والتَّحريم؛ لوجهين اثنين: أحدهما: أنَّ هذا عَلَمٌ من أعلام نبوَّته التي احتجَّ الله بها على أهل الكتاب، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. فلو كان الطِّيبُ والخُبْثُ (1) إنما استُفِيد من التَّحريم والتَّحليل لم يكن في ذلك دليل، فإنه بمنزلة أن يقال: يُحِلُّ لهم ما يُحِلُّ، ويُحَرِّمُ عليهم ما يُحَرِّم. وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لا فائدة فيه، وهو الوجه الثَّاني. فثبت أنه أحلَّ ما هو طيِّبٌ في نفسه قبل الحِلِّ، فكساهُ بإحلاله طِيبًا آخر، فصار منشأُ طِيبه من الوجهين معًا. _________ (1) (ت): «الخبيث والطيب». (د، ق): «الطيب والخبيث».

(2/875)


فتأمَّل هذا الموضعَ حقَّ التأمُّل يُطْلِعْك على أسرار الشريعة، ويُشْرِفْك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها، وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين أن تَرِدَ بخلاف ما وردت به، وأنَّ الله تعالى يتنزَّهُ عن ذلك كما يتنزَّهُ عن سائر ما لا يليقُ به. * ومما يدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وهذا دليلٌ على أنها فواحشُ في نفسها، لا تستحسنُها العقول، فعَلَّق (1) التَّحريمَ بها لفُحْشِها؛ فإنَّ ترتيبَ الحكم على الوصف المناسب المشتقِّ يدلُّ على أنه هو العلَّةُ المقتضيةُ له، وهذا دليلٌ في جميع هذه الآيات التي ذكرناها؛ فدلَّ على أنه حرَّمها لكونها فواحش، وحرَّم الخبيثَ لكونه خبيثًا، وأمَرَ بالمعروف لكونه معروفًا، والعلَّةُ يجبُ أن تُغايِرَ المعلول، فلو كان كونُه فاحشةً هو معنى كونه منهيًّا عنه، وكونُه خبيثًا هو معنى كونه محرَّمًا= كانت العلَّةُ عينَ المعلول، وهذا محال، فتأمَّله، وكذا تحريمُ الإثم والبغي دليلٌ على أنَّ هذا وصفٌ ثابتٌ له قبل التَّحريم. * ومن هذا قولُه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 23]؛ فعلَّل النهيَ في الموضعين بكون المنهيِّ عنه فاحشةً، ولو كان جهةُ كونه فاحشةً هو النهي لكان تعليلًا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال: لا تقربوا الزِّنا فإنه يقول لكم: لا تقربوه، أو: فإنه منهيٌّ عنه! وهذا محالٌ من وجهين: _________ (1) مهملة في (د). وفي (ق): «فتعلق».

(2/876)


أحدهما: أنه يتضمَّنُ إخلاءَ الكلام من الفائدة. والثَّاني: أنه تعليلٌ للنهي بالنهي. * ومن ذلك قولُه تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، فأخبَر تعالى أنَّ ما قدَّمت أيديهم قبل البعثة سببٌ لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقُّون من ذلك لاحتجُّوا عليه بأنه لم يُرسِل إليهم رسولًا، ولم ينزِّل عليهم كتابًا، فقَطَعَ هذه الحجَّة بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب، لئلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّةٌ بعد الرُّسل. وهذا صريحٌ في أنَّ أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحةً بحيث استحقُّوا أن يصابوا (1) بها المصيبةَ، ولكنه سبحانه لا يعذِّبُ إلا بعد إرسال الرُّسل (2). وهذا هو فصلُ الخطاب وتحقيقُ القول في هذا الأصل العظيم: أنَّ القُبْحَ ثابتٌ للفعل في نفسه، وأنه لا يعذِّبُ اللهُ عليه إلا بعد إقامة الحجَّة بالرِّسالة. وهذه النُّكتة هي التي فاتت (3) المعتزلةَ والكُلَّابية كليهما، فاستطالت كلُّ طائفةٍ منهما على الأخرى؛ لعدم جمعها بين هذين الأمرين، فاستطالت الكُلَّابيةُ على المعتزلة بإثباتهم العذابَ قبل إرسال الرُّسل، وترتيبهم العقابَ على مجرَّد القُبْح العقلي، وأحسنوا في ردِّ ذلك عليهم، واستطالت المعتزلةُ _________ (1) في الأصول: «يصيبوا». والمثبت أشبه. وانظر: «شفاء العليل» (462). (2) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 232، 3/ 489). (3) (ق): «قامت بين». (ت): «قامت».

(2/877)


عليهم في إنكارهم الحُسْنَ والقُبْحَ العقليَّين جملةً، وجَعْلِهم انتفاءَ العذاب قبل البعثة دليلًا على انتفاء القُبْح واستواء الأفعال في أنفسها، وأحسنوا في ردِّ هذا عليهم. فكلُّ طائفةٍ استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصَّواب. وأمَّا من سَلَك هذا المسلكَ الذي سلكناه، فلا سبيل لواحدةٍ من الطَّائفتين إلى ردِّ قوله، ولا الظَّفر عليه أصلًا؛ فإنه موافقٌ لكلِّ طائفةٍ على ما معها من الحقِّ، مقرِّرٌ له، مخالفٌ لها في باطلها، منكرٌ له. وليس مع النُّفاة قطُّ دليلٌ واحدٌ صحيحٌ على نفي الحُسْن والقُبح العقليَّين، وأنَّ الأفعال المتضادَّة كلَّها في نفس الأمر سواءٌ لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي، وكلُّ أدلَّتهم على هذا باطلةٌ كما سنذكرها ونذكرُ بطلانها إن شاء الله تعالى. وليس مع المعتزلة دليلٌ واحدٌ صحيحٌ قطُّ يدلُّ على إثبات العذاب على مجرَّد القُبح العقليِّ قبل بعثة الرُّسل، وأدلَّتُهم على ذلك كلُّها باطلةٌ كما سنذكرُها ونذكرُ بطلانها إن شاء الله تعالى. * ومما يدلُّ على ذلك أيضًا: أنه سبحانه يحتجُّ على فساد مذهب من عبد غيرَه بالأدلَّة العقلية التي تقبلُها الفطرُ والعقول، ويجعلُ ما ركَّبه في العقول من حُسْن عبادة الخالق وحده وقُبْح عبادة غيره مِنْ أعظم الأدلَّة على ذلك، وهذا في القرآن أكثر من أن يُذْكَرَ ههنا، ولولا أنه مستقرٌّ في العقول والفطر حُسْنُ عبادته وشكره، وقُبح عبادة غيره وتركُ شكره= لما احتَجَّ عليهم بذلك أصلًا، وإنما كانت الحجَّةُ في مجرَّد الأمر.

(2/878)


وطريقةُ القرآن صريحةٌ في هذا، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]، فذكر سبحانه أمرَهم بعبادته، وذكر اسمَ الربِّ مضافًا إليهم لمقتضى عبوديَّتهم لربهم ومالكهم، ثمَّ ذكر ضروبَ إنعامه عليهم: بإيجادهم وإيجاد من قبلهم، وجَعْل الأرض فراشًا لهم يمكنُهم الاستقرارُ عليها والبناءُ والسُّكنى، وجَعْل السَّماء بناءً وسقفًا؛ فذكر أرض العالم وسقفَه، ثمَّ ذكر إنزال مادَّة أقواتهم ولباسهم وثمارهم، منبِّهًا بهذا على استقرار حُسْن عبادة من هذا شأنُه وتشكره الفطرُ والعقول (1)، وقُبح الإشراك به وعبادة غيره. * ومن هذا قولُه تعالى حاكيًا عن صاحب ياسينَ أنه قال لقومه محتجًّا عليهم بما تُقِرُّ به فطرُهم وعقولهم: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، فتأمَّل هذا الخطابَ كيف تجدُ تحته أشرفَ معنًى وأجلَّه، وهو أنَّ كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأنَّ من كان (2) مفطورًا مخلوقًا فحقيقٌ به أن يعبُد فاطرَه وخالقه، ولا سيَّما إذا كان مردُّه إليه؛ فمبدؤه منه ومصيرُه إليه، وهذا يوجبُ عليه التفرُّغ لعبادته. ثمَّ احتجَّ عليهم بما تُقِرُّ به عقولهم وفطرُهم من قُبح عبادة غيره، وأنها أقبحُ شيءٍ في العقل وأنكَرُه، فقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ _________ (1) أي: ومن تشكره الفطر والعقول. (2) (ت، ق، د): «وان كان». والمثبت من (ط)، وهو أشبه.

(2/879)


بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 23 - 24]، أفلا تراه كيف لم يحتجَّ عليهم بمجرَّد الأمر، بل احتجَّ عليهم بالعقل الصَّحيح ومقتضى الفطرة؟! * ومن هذا قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74]؛ فضربَ لهم سبحانه مثلًا من عقولهم يدلُّهم على قُبح عبادتهم لغيره، وأنَّ هذا أمرٌ مستقرٌّ قبحُه وهُجْنتُه في كلِّ عقلٍ وإن لم يَرِد به الشرع. وهل في العقل أنكرُ وأقبحُ مِن عبادة مَن لو اجتمعوا كلُّهم لم يخلقوا ذبابًا واحدًا وإن يَسْلُبهم الذُّبابُ شيئًا لم يَقْدِروا على الانتصار منه واستنقاذ ما سَلَبَهم إياه، وتَرْك عبادة الخلَّاق العليم، القادر على كلِّ شيء، الذي ليس كمثله شيء؟! أفلا تراه كيف احتجَّ عليهم بما ركَّبه في العقول من حُسْن عبادته وحده وقُبح عبادة غيره؟! * وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]، هذا مثلٌ ضربه الله لمن عَبَده وحده فسَلِمَ له، ولمن عبد من دونه آلهةً فهم شركاءُ فيه متشاكِسُون عَسِرُون، فهل يستوي في العقول هذا وهذا؟! وقد أكثَر تعالى من هذه الأمثال ونوَّعها مستدلًّا بها على حُسْن شكره

(2/880)


وعبادته، وقُبح عبادة غيره، ولم يحتجَّ عليهم بنفس الأمر، بل بما ركَّبه في عقولهم من الإقرار بذلك، وهذا كثيرٌ في القرآن، فمن تتبَّعه وجده. * وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، فذكر توحيدَه، وذكر المناهي التي نهاهم عنها، والأوامرَ التي أمرهم بها، ثمَّ خَتَم الآيات بقوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] أي: مخالفةُ هذه الأوامر وارتكاب هذه المناهي سيِّئةٌ مكروهةٌ لله. فتأمَّل قوله: {كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} أي: أنه سيِّئٌ (1) في نفس الأمر عند الله، حتى لو لم يَرِد به تكليفٌ لكان سيِّئةً في نفسه عند الله مكروهًا له، وكراهتُه سبحانه له لما هو عليه من الصِّفة التي اقتضت أن كَرِهَه، ولو كان قُبحُه إنما هو مجرَّدُ النهي لم يكن مكروهًا لله؛ إذ لا معنى للكراهة عندهم إلا كونُه منهيًّا عنه، فيعودُ قولُه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} إلى معنى: كلُّ ذلك منهيٌّ عنه عند ربك! ومعلومٌ أنَّ هذا غيرُ مرادٍ من الآية. وأيضًا؛ فإذا وقع ذلك منهم فهو عند النُّفاة للحُسْن والقُبح محبوبٌ لله، مرضيٌّ له؛ لأنه إنما وقع بإرادته، والإرادةُ عندهم هي المحبة لا فرق بينهما. والقرآنُ صريحٌ في أنَّ هذا كلَّه قبيحٌ عند الله، مكروهٌ، مبغوضٌ له، وقع أو لم يقع، وجعل سبحانه هذا البغض والقبحَ سببًا للنهي عنه، ولهذا جعله علَّةً وحكمةً للأمر، فتأمَّله، والعلَّةُ غيرُ المعلول. * وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، دلَّ ذلك على أنَّ في نفس _________ (1) (د، ق): «سيئة». وهي قراءة محتملة.

(2/881)


الأمر قِسطًا، وأنَّ الله سبحانه أنزل كتابه وأنزل الميزانَ ــ وهو العدل ــ ليقوم النَّاسُ بالقِسط الذي (1) أُنزِل الكتابُ لأجله والميزان. فعُلِم أنَّ في نفس الأمر ما هو قِسطٌ وعدلٌ حسن، ومخالفتُه قبيحة، وأنَّ الكتابَ والميزان نزلا لأجله، ومن ينفي الحُسنَ والقُبحَ يقول: ليس في نفس الأمر ما هو عدلٌ حَسَن، وإنما صار قِسطًا وعدلًا بالأمر فقط. ونحن لا ننكرُ أنَّ الأمر كساه حُسْنًا وعدلًا إلى حُسْنه وعدله في نفسه، فهو في نفسه قِسطٌ حَسَن، وكساه الأمرُ حُسْنًا آخر يُضاعَفُ به كونُه عدلًا حسنًا؛ فصار ذلك ثابتًا له من الوجهين جميعًا. * ومن هذا قولُه تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]؛ فقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} دليلٌ على أنها في نفسها فحشاء، وأنَّ الله لا يأمرُ بما يكونُ كذلك، وأنه يتعالى ويتقدَّسُ عنه، ولو كان كونُه فاحشةً إنما عُلِم بالنهي خاصَّةً كان بمنزلة أن يقال: إنَّ الله لا يأمرُ بما ينهى عنه. وهذا كلامٌ يُصَانُ عنه آحادُ العقلاء، فكيف بكلام ربِّ العالمين؟! ثمَّ أكَّد سبحانه هذا الإنكار بقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، فأخبَر أنه يتعالى عن الأمر بالفحشاء، بل أوامرُه كلُّها حسنةٌ في العقول، مقبولةٌ في الفِطر؛ فإنه أمَر بالقِسط لا بالجَوْر، وبإقامة الوجوه له عند مساجده لا لغيره، وبدعوته وحده مخلصينَ له الدِّين لا بالشِّرك؛ فهذا هو الذي يأمرُ به تعالى، لا بالفحشاء. _________ (1) «الذي» ليست في (ق)، وضرب عليها ابن بردس في (د).

(2/882)


أفلا تراه كيف يُخْبِرُ بجنس (1) ما يأمرُ به وبحُسْنه (2)، وينزِّه نفسَه عن الأمر بضدِّه، وأنه لا يليقُ به تعالى؟! * [وقال تعالى]: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، فاحتجَّ سبحانه على حُسْن دين الإسلام وأنه لا شيء أحسنُ منه بأنه (3) يتضمَّنُ إسلامَ الوجه لله، وهو إخلاصُ القصد والتوجُّه والعمل له سبحانه، والعبدُ مع ذلك محسنٌ آتٍ بكلِّ حَسَن، لا مرتكبٌ للقُبح الذي يكرهُه الله، بل هو مخلصٌ لربِّه، محسنٌ في عبادته بما يحبُّه ويرضاه، وهو مع ذلك متَّبعٌ لملَّة إبراهيم في محبَّته لله وحده، وإخلاص الدِّين له، وبَذْل النَّفس والمال في مرضاته ومحبته. وهذا احتجاجٌ منه على أنَّ دين الإسلام أحسنُ الأديان بما تضمَّنه مما تستحسنُه العقول، وتشهدُ به الفِطر، وأنه قد بلغ الغاية القصوى في درجات الحُسْن والكمال. وهذا استدلالٌ بغير الأمر المجرَّد، بل هو دليلٌ على أنَّ ما كان كذلك فحقيقٌ بأن يأمر به عبادَه، ولا يرضى منهم سواه. * ومثلُ هذا قولُه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، فهذا احتجاجٌ بما ركَّب في العقول والفِطر، لأنه لا قول للعبد أحسنُ من هذا القول. _________ (1) (ت): «بحسن». تحريف. (2) الضبط من (ق). ومهملة في (د). (ط): «ويحسنه». (3) في الأصول: «فإنه». والمثبت من (ط) أشبه.

(2/883)


* وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، فأيُّ شيءٍ أصرحُ من هذا (1)؟! حيثُ أخبَر سبحانه أنه حرَّمه عليهم مع كونه طيِّبًا في نفسه، فلولا أنَّ طِيبَه أمرٌ ثابتٌ له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطِّيبَ والتَّحريم. وقد أخبَر تعالى أنه حرَّم عليهم طيِّباتٍ كانت حلالًا عقوبةً لهم، فهذا تحريمُ عقوبة، بخلاف التَّحريم على هذه الأمَّة فإنه تحريمُ صيانةٍ وحماية، ولا فرق عند النُّفاة بين الأمرين، بل الكلُّ سواء. فالله سبحانه (2) أمر عبادَه بما أمرهم به رحمةً منه وإحسانًا وإنعامًا عليهم، لأنَّ صلاحهم في معاشهم وأبدانهم وأحوالهم وفي معادهم ومآلهم إنما هو بفعلِ ما أُمِروا به، وهو في ذلك بمنزلة الغذاء الذي لا قِوام للبدن إلا به، بل أعظم، ليس مجرَّد تكليفٍ وابتلاءٍ كما يظنُّه كثيرٌ من النَّاس، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانةً وحِمْيةً (3) لهم، إذ لا بقاء لصحَّتهم ولا حِفظ لها إلا بهذه الحِمْية. فلم يأمرهم حاجةً منه إليهم وهو الغنيُّ الحميد، ولا حرَّم عليهم ما حرَّم بخلًا منه عليهم وهو الجوادُ الكريم، بل أمرُه ونهيه عينُ حظِّهم وسعادتهم العاجلة والآجلة، ومَصْدَرُ أمره ونهيه رحمتُه الواسعة وبرُّه وجودُه وإحسانُه وإنعامُه، فلا يُسألُ عمَّا يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه ووقوع أفعاله على وَفْق المصلحة والرحمة والحكمة. _________ (1) (ت): «أصرح من هذا القول». (2) (ق، د): «فإنه سبحانه». (3) (ت): «وحماية». وضبطها ابن بردس في (د) بتشديد الياء!

(2/884)


* وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 69 - 71]، فأخبَر سبحانه أنَّ الحقَّ لو اتَّبع أهواء العباد فجاء شرعُ الله ودينُه بأهوائهم لفسدت السَّمواتُ والأرض ومن فيهنَّ. ومعلومٌ أنَّ عند النُّفاة يجوزُ أن يَرِد شرعُ الله ودينُه بأهواء العباد، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين ما وَرَد به وبين ما تقتضيه أهواؤهم إلا مجرَّدُ الأمر، وأنه لو وَرَد بأهوائهم جاز وكان تعبُّدًا ودينًا. وهذه مخالفةٌ صريحةٌ للقرآن، وأنه من المحال أن يتَّبع الحقُّ أهواءهم، وأنَّ أهواءهم مشتملةٌ على قُبحٍ عظيمٍ لو وَرَد الشرعُ به لفَسَد العالَمُ أعلاه وأسفلُه وما بين ذلك. ومعلومٌ أنَّ هذا الفساد إنما يكونُ لقُبح خلاف ما شرعه الله وأمر به، ومنافاته لصلاح العالم عُلوِيِّه وسُفلِيِّه، وأنَّ خرابَ العالم وفساده لازمٌ لحصوله ولشرعه، وأنَّ كمال حكمة الله وكمال علمه ورحمته وربوبيَّته يأبى ذلك ويمنعُ منه (1)، ومن يقول: الجميعُ في نفس الأمر سواء، يجوِّزُ ورودَ التعبُّد بكلِّ شيء، سواء كان مقتضى (2) أهوائهم أو خلافها. * ومثلُ هذا قولُه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، أي: لو كان في السَّموات والأرض آلهةٌ تُعْبَدُ غيرُ الله لفسَدتا وبَطَلتا، ولم يقل: أربابٌ، بل قال: آلهة؛ والإلهُ هو المعبودُ _________ (1) (ت، ق): «تأبى ذلك وتمنع منه». (2) (ق، ت): «يقتضي». والحرف الأول مهمل في (د). والمثبت أقوم.

(2/885)


المَألوه، وهذا يدلُّ على أنه من الممتنع المستحيل عقلًا أن يَشْرَع اللهُ عبادةَ غيره أبدًا، وأنه لو كان معه معبودٌ سواه لفسَدت السَّمواتُ والأرض. فقُبْحُ عبادة غيره قد استقرَّ في الفِطر والعقول وإن لم يَرِد بالنهي (1) عنه شرع، بل العقلُ يدلُّ على أنه أقبحُ القبيح على الإطلاق، وأنه من المحال أن يشرعه الله قطُّ؛ فصلاحُ العالم في أن يكون الله وحده هو المعبود، وفسادُه وهلاكُه في أن يُعْبَد معه غيرُه، ومحالٌ أن يشرع لعباده ما فيه فسادُ العالم وهلاكُه، بل هو المنزَّهُ عن ذلك. فصل * وقد أنكر تعالى على من نسب إلى حكمته التسويةَ بين المختلفَيْن، كالتسوية بين الأبرار والفجَّار؛ فقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]؛ فدلَّ على أنَّ هذا حكمٌ سيِّاءٌ قبيح، ينزَّه اللهُ عنه. ولم ينكره (2) سبحانه من جهة أنه أخبر بأنه لا يكون، وإنما أنكره من جهة قُبحِه في نفسه، وأنه حكمٌ سيِّاءٌ يتعالى ويتنزَّهُ عنه لمنافاته لحكمته وغِنَاه وكماله ووقوع أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب والحكمة، فلا يليقُ به أن يجعل البرَّ كالفاجر، ولا المحسنَ كالمسيء، ولا المؤمنَ كالمفسد في _________ (1) (ت): «في النهي». (2) في الأصول: «ولم ينكر». والمثبت من (ط).

(2/886)


الأرض؛ فدلَّ على أنَّ هذا قبيحٌ في نفسه، تعالى الله عن فعله. * ومن هذا أيضًا: إنكارُه سبحانه على من جوَّز أن يَتْرُك عبادَه سُدًى، فلا يأمرُهم ولا ينهاهم، ولا يثيبُهم ولا يعاقبُهم، وأنَّ هذا الحُسبان باطل، والله متعالٍ عنه لمنافاته لحكمته وكماله. كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]. قال الشافعي رضي الله عنه: «أي: مهملًا لا يُؤمر ولا يُنهى» (1). وقال غيره: «لا يثابُ ولا يعاقَب» (2). والقولان واحد؛ لأنَّ الثَّوابَ والعقاب غايةُ الأمر والنهي، فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدُّنيا والثَّواب والعقاب في الأخرى، فأنكر سبحانه على من زعم أنه يُتْرَكُ سدًى إنكارَ من جَعَل في العقل استقباحَ ذلك واستهجانه، وأنه لا يليقُ أن يُنسَب ذلك إلى أحكم الحاكمين. ومثلُه قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، فنزَّه نفسَه سبحانه وباعَدَها عن هذا الحُسْبان، وأنه يتعالى عنه ولا يليقُ به؛ لقُبحِه ولمنافاته لحكمته ومُلْكه وإلهيَّته. أفلا ترى كيف ظهرَ في العقل الشَّهادةُ بدينه وشرعه وثوابه وعقابه؟! وهذا يدلُّ على إثبات المعاد بالعقل، كما يدلُّ على إثباته بالسَّمع، وكذلك دينُه وأمرُه وما بعث به رسلَه هو ثابتٌ في العقول جملةً، ثمَّ عُلِمَ _________ (1) انظر: «الرسالة» (25)، و «إبطال الاستحسان» (9/ 68 - الأم). (2) انظر: «زاد المسير» (8/ 425)، و «تفسير ابن كثير» (8/ 3672).

(2/887)


بالوحي؛ فقد تطابقت شهادةُ العقل والوحي على توحيده وشرعه، والتَّصديق بوعده ووعيده، وأنه سبحانه دعا عبادَه على ألسنة رسله إلى ما وضع في العقول حُسْنَه والتَّصديقَ به جملةً، فجاء الوحيُ مفصِّلًا ومبيِّنًا ومقرِّرًا ومذكِّرًا لما هو مركوزٌ في الفِطر والعقول. ولهذا سأل هِرَقْلُ أبا سفيانَ في جملة ما سأله عنه من أدلَّة النُّبوَّة وشواهدها عمَّا يأمرُ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بم يأمرُكم؟ قال: يأمرُنا بالصَّلاة والصِّدق والعفاف (1)، فجَعَل ما يأمرُ به من أدلَّة نبوَّته؛ فإنَّ أكذبَ الخلق وأفجَرهم من ادَّعى النَّبوَّة وهو كاذبٌ فيها على الله، وهذا محالٌ أن يأمر إلا بما يليقُ بكذبه وفجوره وافترائه، فدعوتُه تليقُ به، وأمَّا الصَّادقُ البارُّ الذي هو أصدقُ الخلق وأبرُّهم، فدعوتُه لا تكونُ إلا أكملَ دعوةٍ وأشرفَها وأجلَّها وأعظمَها؛ فإنَّ العقول والفِطر تشهدُ بحُسْنها وصِدق القائم بها. فلو كانت الأفعالُ كلُّها سواءً في نفس الأمر لم يكن هناك فرقانٌ بين ما يجوزُ أن يدعو إليه الرسول وما لا يجوزُ أن يدعو إليه، إذ العُرْفُ [وضدُّه] (2) إنما يُعْلَمُ بنفس الدَّعوة والأمر والنهي. وكذلك مسألةُ النَّجاشيِّ لجعفر وأصحابه عمَّا يدعو إليه الرسول (3). _________ (1) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773) من حديث أبي سفيان. (2) زيادة من (ط) يقتضيها السياق. والعُرْف: المعروف. وضدُّه: المنكر. (3) أخرج الخبر ابن إسحاق في «السيرة» (282)، ومن طريقه البيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 301) من حديث أم سلمة بإسنادٍ حسن. وروي من حديث جعفر بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري. انظر: «مسند أحمد» (1/ 461)، و «دلائل النبوة» لأبي نعيم (196)، وللبيهقي (2/ 297)، و «البداية والنهاية» (4/ 178).

(2/888)


فدلَّ على أنه من المستقرِّ في العقول والفِطر انقسامُ الأفعال إلى قبيحٍ وحَسَنٍ في نفسه، وأنَّ الرُّسل تدعو إلى حَسَنها وتنهى عن قبيحها، وأنَّ ذلك من آيات صِدقهم وبراهين رسالتهم، وهو أولى وأعظمُ عند أولي الألباب والحِجى من مجرَّد خوارق العادات، وإن كان انتفاعُ ضعفاء العقول بالخوارق في الإيمان أعظمَ من انتفاعهم بنفس الدَّعوة وما جاء به في الإيمان (1). فطرقُ الهداية متنوِّعة؛ رحمةً من الله بعباده ولطفًا بهم؛ لتفاوُت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم: * فمنهم من يهتدي بنفس ما جاء به وما دعا إليه مِنْ غير أن يطلُبَ منه برهانًا خارجًا (2) عن ذلك، كحال الكُمَّل (3) من الصَّحابة، كالصِّدِّيق رضي الله عنه. * ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله - صلى الله عليه وسلم -، وما فُطِر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأنَّ عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصافُ والأفعال؛ لعلمه بالله ومعرفته به وأنه لا يخزي من كان بهذه المثابة. كما قالت أمُّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها له - صلى الله عليه وسلم -: «أبشِر، فوالله لن يخزيكَ الله أبدًا؛ إنك لتَصِلُ الرحِم، وتصدُق الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ، _________ (1) (ط): «من الإيمان». وانظر لهذا المعنى: «أيمان القرآن» (343). (2) (ت): «خارقا». (3) (ت): «كحال الكامل».

(2/889)


وتَقْري الضيف، وتُعِينُ على نوائب الحقِّ» (1). فاستدلَّت بمعرفتها بالله وحكمته ورحمته على أنَّ من كان كذلك فإنَّ الله لا يخزيه ولا يفضحه، بل هو جديرٌ بكرامة الله واصطفائه ومحبته ونبوَّته. وهذه المقاماتُ في الإيمان عَجَز عنها أكثر الخلق. * فاحتاجوا إلى الخوارق والآيات المشهودة بالحِسِّ، فآمن كثيرٌ منهم عليها. * وأضعفُ النَّاس إيمانًا من كان إيمانُه صادرًا من المَظْهَر (2) ورؤية غَلَبته - صلى الله عليه وسلم - للنَّاس، فاستدلُّوا بذلك المَظْهَر والغَلَبة والنُّصرة على صحَّة الرسالة، فأين بصائرُ هؤلاء مِن بصائر من آمن به وأهلُ الأرض قد نَصَبوا له العداوة، وقد نال منه قومُه ضروبَ الأذى، وأصحابُه في غاية قلَّة العَدَد والمخافة من النَّاس، ومع هذا فقلبُه ممتلاءٌ بالإيمان، واثقٌ بأنه سيظهرُ على الأمم (3)، وأنَّ دينَه سيعلو كلَّ دين؟! * وأضعفُ مِنْ هؤلاء إيمانًا مَن إيمانُه إيمانُ العادة والمَرْبا والمنشأ؛ فإنه نشأ بين أبوين مسلمين وأقاربَ وجيرانٍ وأصحابٍ كذلك، فنشأ واحدًا منهم، ليس عنده من الرسول والكتاب إلا اسمُهما، ولا مِن الدِّين إلا ما رأى عليه أقاربَه وأصحابه. فهذا دينُ العوائد، وهو أضعفُ شيء، وصاحبُه بحسب من _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 385). (2) أي: الظهور والانتصار. (3) (ت): «سيظهر على كل دين في سائر الأمم».

(2/890)


يقترنُ به (1)، فلو قُيِّض له من يخرجه عنه لم يكن عليه كُلْفةٌ في الانتقال عنه. والمقصودُ أنَّ خواصَّ الأمَّة ولُبابها لمَّا شَهِدَت عقولهم حُسْنَ هذا الدَّين وجلالتَه وكماله، وشَهِدَت قُبْحَ ما خالفه ونقصَه ورداءته، خالط الإيمانُ به ومحبتُه بشاشةَ قلوبهم، فلو خُيِّر بين أن يُلْقى في النَّار وبين أن يختار دينًا غيره لاختار أن يُقْذَف في النَّار، ويقطَّع أعضاءً، ولا يختار دينًا غيره. وهذا الضربُ من النَّاس هم الذين استقرَّت أقدامُهم في الإيمان، وهم أبعدُ النَّاس عن الارتداد عنه، وأحقُّهم بالثَّبات عليه إلى يوم لقاء الله، ولهذا قال هرقلُ لأبي سفيان: أيرتدُّ أحدٌ منهم عن دينه سَخْطةً له؟ قال: لا. قال: فكذلك الإيمانُ إذا خالط بشاشةَ القلوب لا يَسْخَطُه أحد (2). والمقصودُ أنَّ الدَّاخلين في الإسلام، المستدلِّين على أنه من عند الله لحُسْنه وكماله، وأنه دينُ الله الذي لا يجوز أن يكون من عند غيره، هم خواصُّ الخلق، والنُّفاة سَدُّوا على أنفسهم هذا الطَّريق فلا يمكنُهم سلوكُه. فصل وتحقيقُ هذا المقام بالكلام في مقامين: أحدهما: الأعمال خصوصًا ومراتبها (3) في الحُسْن والقُبح. الثَّاني: في الموجودات عمومًا ومراتبها في الخير والشرِّ. _________ (1) (ت): «يقترب منه». (2) تقدم تخريجه قريبًا. (3) في الأصول: «مراتبها». والمثبت من (ط).

(2/891)


أما المقام الأول، فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحةٍ خالصةٍ، أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدةٍ خالصةٍ، أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتُها ومفسدتها. فهذه أقسامٌ خمسة، منها أربعةٌ تأتي بها الشرائع، فتأتي بما مصلحتُه خالصةٌ أو راجحةٌ آمرةً به مقتضيةً له، وما مفسدتُه خالصةٌ أو راجحةٌ فحكمُها فيه النهيُ عنه وطلبُ إعدامه. فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلهما بحسب الإمكان، وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلهما بحسب الإمكان. فمدارُ الشرائع والدِّيانات على هذه الأقسام الأربعة. وتنازع النَّاسُ هنا في مسألتين: المسألة الأولى: في وجود المصلحة الخالصة والمفسدة الخالصة. * فمنهم من مَنَعَه، وقال: لا وجود له؛ قال: لأنَّ المصلحة هي النَّعيمُ واللذَّةُ وما يفضي إليه، والمفسدةُ هي العذابُ والألم وما يفضي إليه. قالوا: والمأمورُ به لا بدَّ أن يقترن به ما يحتاج معه إلى الصَّبر على نوعٍ من الألم، وإن كان فيه لذَّةٌ وسرورٌ وفرحٌ فلا بدَّ من وقوع أذى، لكن لما كان هذا مغمورًا بالمصلحة لم يُلتفَت إليه ولم تعطَّل المصلحةُ لأجله، فتركُ الخير الكثير الغالب لأجل الشرِّ القليل المغلوب شرٌّ كثير. قالوا: وكذلك الشرُّ المنهيُّ عنه إنما يفعلُه الإنسانُ لأنَّ له فيه غرضًا ووطرًا ما، وهذه مصلحةٌ عاجلةٌ له، فإذا نُهِي عنه وتركَه فاتت عليه مصلحتُه ولذَّتُه العاجلة وإن كانت مفسدتُه أعظمَ من مصلحته، بل مصلحتُه مغمورةٌ جدًّا في جنب مفسدته، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

(2/892)


فالرِّبا (1) والظُّلمُ والفواحشُ والسِّحرُ وشربُ الخمر وإن كانت شرورًا ومفاسدَ ففيها منفعةٌ ولذَّةٌ لفاعلها، ولذلك يؤثِرها ويختارُها، وإلا فلو تجرَّدت مفسدتُها من كلِّ وجهٍ لما آثرها العاقل، ولا فعَلها أصلًا. ولما كانت خاصَّةُ العقل النَّظر إلى العواقب والغايات، كان أعقلُ النَّاس أتركَهم لما ترجَّحت مفسدتُه في العاقبة، وإن كانت فيه لذَّةٌ ما ومنفعةٌ يسيرةٌ بالنسبة إلى مضرَّته. * ونازعهم آخرون، وقالوا: القسمةُ تقتضي إمكانَ هذين القسمين، والوجودُ يدلُّ على وقوعهما، فإنَّ معرفة الله ومحبتَه والإيمان به خيرٌ محضٌ من كلِّ وجهٍ لا مفسدة فيه بوجهٍ ما. قالوا: ومعلومٌ أنَّ الجنَّة خيرٌ محضٌ لا شرَّ فيها أصلًا، وأنَّ النَّار شرٌّ محضٌ لا خير فيها أصلًا، وإذا كان هذان القسمان موجودان في الآخرة فما المُحِيلُ (2) لوجودهما في الدُّنيا؟! قالوا: وأيضًا فالمخلوقاتُ كلُّها منها ما هو خيرٌ محضٌ لا شرَّ فيه أصلًا كالأنبياء والملائكة، ومنها ما هو شرٌّ محضٌ لا خير فيه أصلًا كإبليسَ والشياطين، ومنها ما هو خيرٌ وشرٌّ وأحدُهما غالبٌ على الآخر، فمن النَّاس من يَغْلِبُ خيرُه على شرِّه، ومنهم من يَغْلِبُ شرُّه على خيره؛ فهكذا الأعمالُ منها ما هو خالصُ المصلحة وراجحُها، وخالصُ المفسدة وراجحُها، هذا في الأعمال كما أنَّ ذلك في العُمَّال. _________ (1) (ت): «فالزنا». (2) (ق): «المحل». تحريف.

(2/893)


قالوا: وقد قال الله تعالى في السَّحرة: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، فهذا دليلٌ على أنه مضرَّةٌ خالصةٌ لا منفعة فيه: إمَّا لأنَّ بعض أنواعه مضرَّةٌ خالصةٌ لا منفعة فيها بوجه، فما كلُّ السِّحر يحصِّلُ غرضَ السَّاحر، بل يتعلَّمُ مئة بابٍ منه حتى يحصِّل غرضَه بباب، والباقي مضرَّةٌ خالصة. وقِس على هذا (1). فهذا من القسم الخالص المفسدة. وإمَّا لأنَّ المنفعة الحاصلة للسَّاحر لما كانت مغمورةً مُسْتَهلَكةً في جنب المفسدة العظيمة فيه جُعِلت كَلا منفعة؛ فيكونُ من القسم الراجح المفسدة. وعلى القولين (2) فكلُّ مأمورٍ به فهو راجحُ المصلحة على تركه، وإن كان مكروهًا للنُّفوس؛ قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فبيَّن أنَّ الجهاد الذي أُمِروا به وإن كان مكروهًا للنُّفوس شاقًّا عليها فمصلحتُه راجحة، وهو خيرٌ لهم، وأحمَدُ عاقبة، وأعظمُ فائدةً من التقاعُد عنه وإيثار البقاء والراحة، فالشرُّ الذي فيه مغمورٌ بالنسبة إلى ما تضمَّنه من الخير. وهكذا كلُّ منهيٍّ عنه فهو راجحُ المفسدة وإن كان محبوبًا للنُّفوس موافقًا للهوى، فمضرَّتُه ومفسدتُه أعظمُ مما فيه من المنفعة، وتلك المنفعةُ _________ (1) (ت): «وعلى هذا». (2) في وجود المصلحة والمفسدة الخالصتين، وعدمه.

(2/894)


واللذَّةُ مغمورةٌ مُسْتَهلَكةٌ في جنب مضرَّته، كما قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، وقال: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}. * وفصلُ الخطاب في المسألة: إن أُرِيد بالمصلحة الخالصة أنها في نفسها خالصةٌ من المفسدة لا يشُوبها مفسدة؛ فلا ريب في وجودها، وإن أُرِيد بها المصلحةُ التي لا يشُوبها مشقَّةٌ ولا أذًى في طريقها والوسيلة إليها ولا في ذاتها؛ فليست بموجودةٍ بهذا الاعتبار، إذ المصالحُ والخيراتُ واللذَّاتُ والكمالاتُ كلُّها لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعب. وقد أجمع عقلاءُ كلِّ أمَّةٍ على أنَّ النَّعيمَ لا يُدْرَكُ بالنَّعيم (1)، وأنَّ من آثَر الراحةَ فاتتهُ الراحة، وأنَّ بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاقِّ تكونُ الفرحةُ والملذَّة؛ فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذَّة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبدُ قليلًا استراح طويلًا، وإذا تحمَّل مشقَّة الصَّبر ساعةً قاده لحياة الأبد، وكلُّ ما فيه أهلُ النَّعيم المقيم فهو ثمرةُ صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوَّة إلا بالله. وكلَّما كانت النفوسُ أشرف، والهمَّةُ أعلى، كان تعبُ البدن أوفر، وحظُّه من الراحة أقلَّ، كما قال المتنبِّي (2): وإذا كانت النفوسُ كبارًا ... تعبَت في مرادها الأجسامُ _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 399). (2) في ديوانه (249).

(2/895)


وقال ابنُ الرُّومي (1): قلبٌ يُطِلُّ على أفكاره (2)، ويَدٌ ... تمضي الأمورَ، ونفسٌ لهوُها التَّعبُ وقال مسلمٌ في «صحيحه» (3): «قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنَالُ العلمُ براحة الجسم». ولا ريب عند كلِّ عاقلٍ أنَّ كمال الراحة بحسب التَّعب، وكمال النَّعيم بحسب تحمُّل المشاقِّ في طريقه، وإنما تخلُص الراحةُ واللذَّةُ والنَّعيمُ في دار السَّلام، فأمَّا في هذه الدَّار فكلَّا ولَمَّا. وبهذا التفصيل يزولُ النزاعُ في المسألة، وتعودُ مسألةَ وِفَاق. فصل وأمَّا المسألةُ الثَّانية، وهي ما تساوت مصلحتُه ومفسدتُه؛ فقد اختُلِفَ في وجوده وحكمه؛ فأثبتَ وجودَه قومٌ، ونفاهُ آخرون. والجواب: هذا القسمُ لا وجود له وإن حَصَرَه التقسيم، بل التفصيل: إمَّا أن يكون حصولُه أولى بالفاعل، وهو راجحُ المصلحة. وإمَّا أن يكون عدمُه أولى به، وهو راجحُ المفسدة. وأمَّا فعلٌ يكون حصولُه أولى به لمصلحته، وعدمُه أولى به لمفسدته، _________ (1) كذا في الأصول، وزاد ناسخ (ت): «رحمه الله تعالى»!. وهو وهم. والبيت للبحتري، في ديوانه (1/ 172). وهو من محاسنه. (2) فهي لا تحيطُ به، وإنما هو عالٍ عليها. يصفُ قلة مبالاته بالخطوب التي تُحْدِثُ أفكارًا تستغرق القلوب. انظر: «المثل السائر» (1/ 79). (3) (612).

(2/896)


وكلاهما متساويان؛ فهذا مما لم يقُم دليلٌ على ثبوته، بل الدَّليلُ يقتضي نفيَه، فإنَّ المصلحة والمفسدة، والمنفعة والمضرَّة، واللذَّة والألم، إذا تقابلا فلا بدَّ أن يغلبَ أحدُهما الآخر فيصير الحكمُ للغالب، وأمَّا أن يتدافعا ويتصادما بحيث لا يغلبُ أحدُهما الآخرَ فغيرُ واقعٍ أصلًا. فإنه إمَّا أن يقال: يوجدُ الأثران (1) معًا، وهو محال؛ لتصادمهما (2) في المحلِّ الواحد. وإمَّا أن يقال: يمتنعُ وجودُ كلٍّ من الأثرين (3)، وهو ممتنعٌ أيضًا؛ لوجود مقتضيه. وإمَّا أن يقال بوِجدان أحدهما دون الآخر ــ مع تساويهما ــ، وهو ممتنع؛ لأنه ترجيحٌ لأحد الجائزَين (4) من غير مرجِّح. وهذا المحالُ إنما نشأ من فَرْض تدافُع المؤثِّرَين وتصادمهما، فهو محال، فلا بدَّ أن يقهر أحدُهما صاحبَه فيكون الحكمُ له. فإن قيل: ما المانعُ من أن يمتنع وجودُ الأثرين؟ قولكم: «إنه محالٌ لوجود مقتضيه» إن أردتم به المقتضي السَّالم عن المعارض فغيرُ موجود، وإن أردتم المقتضي المقارِن لوجود المعارض فتخلُّف أثره عنه غيرُ ممتنع والمعارض قائمٌ هاهنا في كلٍّ منهما، فلا يمتنعُ تخلُّفُ الأثرين. فالجواب: أنَّ المعارض إذا كان قد سَلَبَ تأثيرَ المقتضي في مُوجَبه مع قوَّته وشدَّة اقتضائه لأثره، ومع هذا فقد قَوِي على سَلْبه قوَّة التأثير والاقتضاء، فلأنْ يقوى على سَلْبه قوَّة مَنْعِه لتأثيره هو في مقتضاه ومُوجَبه _________ (1) (د، ق): «الأمران». وسيأتي على الصواب. (2) (ق): «وهو مجاز، لتضادهما». خطأ. (3) (ت، ق، د): «الأمرين». وسيأتي على الصواب. (4) (ت): «الجانبين».

(2/897)


بطريق الأولى، ووجهُ الأولويَّة أنَّ اقتضاءه لأثره أشدُّ من منعه تأثيرَ غيره، فإذا قَوِي على سَلْبه للأقوى فسلبُه للأضعف (1) أولى وأحرى. فإن قيل: هذا ينتقضُ بكلِّ مانعٍ يمنعُ تأثير العلَّة في معلولها، وهو باطلٌ قطعًا. قيل: لا ينتقضُ بما ذكرتم، والنقضُ مندفع؛ فإنَّ العلَّة والمانع ههنا لم يتدافعا ويتصادما، ولكنَّ المانع أضعفَ العلَّة، فبطل تأثيرُها، فهو عائقٌ لها عن الاقتضاء. وأمَّا في مسألتنا فالعلَّتان متصادمتان متعارضتان، كلٌّ منهما تقتضي أثرَها، فلو بطل أثرُهما لكانت كلُّ واحدةٍ مؤثِّرةً غير مؤثِّرة، غالبةً مغلوبة، مانعةً ممنوعة، وهذا يمتنع، وهو دليلٌ (2) يشبه دليل التمانع (3). وسرُّ الفرق أنَّ العلَّة الواحدة إذا قارنها مانعٌ منع تأثيرَها لم تَبْقَ مقتضيةً له، بل المانعُ عاقَها عن اقتضائها، وهذا غيرُ ممتنع، وأمَّا العلَّتان المتمانعتان اللتان كلٌّ منهما مانعةٌ للأخرى من تأثيرها فإنَّ تمانعهما وتقابلهما يقتضي إبطال كلِّ واحدةٍ منهما للأخرى، وتأثيرَها فيها، وعدمَ تأثيرها معًا، وهو جمعٌ بين النقيضين؛ لأنها إذا بطلت لم تكن مؤثِّرة، وإذا لم تكن مؤثِّرةً لم تُبطِل غيرَها، فتكونُ كلٌّ منهما مؤثِّرةً غيرَ مؤثِّرة، باطلةً غيرَ باطلة، وهذا محال؛ فثبتَ أنهما لا بدَّ أن تؤثِّر إحداهما في الأخرى بقوَّتها فيكون الحكمُ لها. فإن قيل: فما تقولون فيمن توسَّط أرضًا مغصوبةً، ثمَّ بدا له في التَّوبة، _________ (1) (ت): «سلبه الأقوى فسلبه الأضعف». (2) (ت): «وهذا دليل». (3) تقدمت الإشارة إليه (ص: 588).

(2/898)


فإن أمرتموه باللُّبث فهو محال، وإن أمرتموه بقطعها والخروج من الجانب الآخر فقد أمرتموه بالحركة والتصرُّف في ملك الغير. وكذلك إن أمرتموه بالرجوع فهو حركةٌ منه وتصرُّفٌ في أرض الغَصْب. فهذا قد تعارضت فيه المصلحةُ والمفسدة، فما الحكمُ في هذه الصُّورة؟ وكذلك من توسَّط بين فئةٍ مُثْبَتةٍ بالجِراح منتظرين للموت، وليس له انتقالٌ إلا على أحدهم، فإن أقام على من هو فوقه قَتَله، وإن انتقل إلى غيره قَتَله. فقد تعارضت هنا مصلحةُ النُّقلة ومفسدتُها على السَّواء. وكذلك من طلع عليه الفجرُ وهو مجامِعٌ، فإن أقام أفسد صومَه، وإن نَزع فالنَّزعُ من الجماع، والجماعُ مركَّبٌ من الحركتين. فهاهنا أيضًا قد تضادَّت العلَّتان. وكذلك ــ أيضًا ــ إذا تترَّس الكفَّارُ بأسرى من المسلمين هم بعَدَد المُقاتِلة، ودار الأمرُ بين قتل التُّرس وبين الكفِّ عنه وقتل الكفَّار لمُقاتِلة (1) المسلمين. فهاهنا أيضًا قد تقابلت المصلحةُ والمفسدةُ على السَّواء. وكذلك ــ أيضًا ــ إذا أُلقِي في مركبهم نارٌ وعاينُوا الهلاك بها، فإن أقاموا احترقوا، وإن لجؤوا إلى الماء هلكوا بالغَرق. وكذلك الرجلُ إذا ضاق عليه الوقتُ ليلة عَرفة، ولم يبق منه إلا ما يسعُ قَدْر صلاة العشاء، فإن اشتغل بها فاته الوقوف، وإن اشتغل بالذَّهاب إلى عرفة فاتته الصَّلاة. فهاهنا قد تعارضت المصلحتان والمفسدتان على السَّواء. _________ (1) (ت): «المقاتلة». وهي محتملة.

(2/899)


وكذلك الرجلُ إذا استيقظ قبل طلوع الشمس وهو جُنُبٌ ولم يبق من الوقت إلا ما يسعُ لقَدْر الغُسل أو الصَّلاة بالتيمُّم؛ فإن اغتسل فاتته مصلحةُ الصَّلاة في الوقت، وإن صلى بالتيمُّم فاتته مصلحةُ الطَّهارة. فقد تقابلت المصلحةُ والمفسدة. وكذلك إذا اغتَلَمَ البحرُ (1) بحيث يعلمُ رُكبان السَّفينة (2) أنهم لا يخلُصون إلا بتغريق شطر الرُّكبان لتَخِفَّ بهم السَّفينة؛ فإن ألقَوا شطرَهم كان فيه مفسدة، وإن تركوهم كان فيه مفسدة. فقد تقابلت المفسدتان والمصلحتان على السَّواء. وكذلك لو أُكرِه رجلٌ على إفساد درهمٍ من درهمين متساويين، أو إتلاف حيوانٍ من حيوانين متساويين، أو شُرب قدَحٍ من قَدَحين متساويين، أو وَجَد كافرين قويَّين في حال المبارزة لا يمكنُه إلا قتلُ أحدهما، أو قَصَد المسلمين عدوَّان متكافئان من كلِّ وجهٍ في القُرب والبُعد والعَدَد والعداوة (3). فإنه في هذه الصُّور كلِّها تساوت المصالحُ والمفاسد، ولا يمكنكم ترجيحُ أحدٍ من المصلحتين ولا أحدٍ من المفسدتين، ومعلومٌ أنَّ هذه حوادثُ لا تخلو من حكمٍ لله فيها. وأمَّا ما ذكرتم من امتناع تقابل المصلحة والمفسدة على السَّواء، فكيف _________ (1) أي: هاج واضطربت أمواجُه. «المعجم الوسيط» (غلم). (2) (ت): «ركاب السفينة»، في الموضعين. والمثبت من (د، ق) و «قواعد الأحكام». (3) «قواعد الأحكام» للعز بن عبد السلام (1/ 98، 133 - 135، 138).

(2/900)


يمكنكم (1) إنكارُه وأنتم تقولون بالموازنة (2)، وأنَّ من النَّاس من تستوي حسناتُه وسيئاتُه فيبقى في الأعراف بين الجنَّة والنَّار، لتقابُل مقتضى الثَّواب والعقاب (3) في حقِّه؛ فإنَّ حسناته قَصُرَت به عن دخول النَّار، وسيئاته قَصُرَت به عن دخول الجنَّة، وهذا ثابتٌ عن الصَّحابة حذيفة بن اليمان وابن مسعودٍ وغيرهما (4). فالجوابُ من وجهين: مجملٍ ومفصَّل: أما المجمل: فليس في شيءٍ مما ذكرتم دليلٌ على محلِّ النِّزاع، فإنَّ مَوْرِد النِّزاع أن تتقابل المصلحةُ والمفسدةُ وتتساويا (5)، فيتدافعا ويبطُل أثرُهما، وليس في هذه الصُّور شيءٌ كذلك. وهذا يتبيَّنُ بالجواب التفصيليِّ عنها صورةً صورة: * فأمَّا من توسَّط أرضًا مغصوبة (6)؛ فإنه مأمورٌ من حين دخل فيها بالخروج منها، فحكمُ الشارع في حقِّه المبادرةُ إلى الخروج، وإن استلزم ذلك حركةً في الأرض المغصوبة فإنها حركةٌ تتضمَّنُ ترك الغصب، فهي من _________ (1) في الأصول: «عليكم». وهو تحريف. (2) انظر: «طريق الهجرتين» (829)، و «مدارج السالكين» (1/ 278). (3) في الأصول: «مقتضى العقاب». والمثبت من (ط). (4) انظر: «تفسير الطبري» (8/ 360، 363). (5) في الأصول: «تساوتا». والأشبه ما أثبت من (ط). (6) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 287)، و «مجموع الفتاوى» (16/ 21)، و «الموافقات» (1/ 364)، و «البرهان» (1/ 298)، و «الواضح» لابن عقيل (5/ 426)، و «المسودة» (230)، وغيرها.

(2/901)


باب ما لا خلاص عن الحرام إلا به، وإن قيل: إنها واجبة، فوجوبٌ عقليٌّ لزوميٌّ لا شرعيٌّ مقصود. فمفسدةُ هذه الحركة مغمورةٌ في مصلحة تفريغ الأرض والخروج عن الغصب. وإذا قُدِّر تساوي الجوانب بالنسبة إليه؛ فالواجبُ القدرُ المشتركُ وهو الخروجُ من أحدها. وعلى كلِّ تقدير، فمفسدةُ هذه الحركة مغمورةٌ جدًّا في مصلحة ترك الغصب، فليس مما نحنُ فيه بسبيل. * وأمَّا مسألةُ من توسَّط بين قتلى لا سبيل له إلى المقام أو النُّقلة إلا بقتل أحدهم (1)، فهذا ليس مكلَّفًا في هذه الحال، بل هو في حكم المُلْجَأ، والمُلْجَأ ليس مكلَّفًا اتفاقًا، فإنه لا قصدَ له ولا فِعل، وهذا مُلْجَأٌ من حيث إنه لا سبيل له إلى ترك النُّقلة عن واحدٍ (2) إلا إلى آخر؛ فهو مُلْجَأٌ إلى لُبْثِه فوق واحدٍ ولا بدَّ، ومثلُ هذا لا يوصفُ فعلُه بإباحةٍ ولا تحريمٍ ولا حكمٍ من أحكام التكليف؛ لأنَّ أحكام التكليف منُوطةٌ بالاختيار، فلا تتعلَّقُ بمن لا اختيار له. فلو كان بعضهم مسلمًا وبعضهم كافرًا مع اشتراكهم في العصمة فقد قيل: يلزمه الانتقالُ إلى الكافر، أو المقامُ عليه؛ لأنَّ قتله أخفُّ مفسدةً من قتل المسلم، ولهذا يجوزُ قتلُ من لا نقتله في المعركة إذا تترَّس بهم الكفَّار، فيرميهم ويقصدُ الكفَّار. _________ (1) انظر: «البرهان» (1/ 302)، و «الواضح» (5/ 427، 433)، و «إيضاح المحصول» للمازري (230)، و «المسودة» (231)، وغيرها. (2) (ت، ق): «غير واجد». (د): «غير واحد». والمثبت من (ط).

(2/902)


* وأمَّا من طلع عليه الفجرُ وهو مجامع، فالواجبُ عليه النَّزعُ عينًا، ويحرُم عليه استدامةُ الجماع واللُّبث، وإنما اختُلِف في وجوب القضاء والكفَّارة عليه على ثلاثة أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره (1): أحدها: عليه القضاءُ والكفَّارة، وهذا اختيارُ القاضي أبي يعلى. والثَّاني: لا شيء عليه، وهذا اختيارُ شيخنا (2)، وهو الصَّحيح. والثَّالث: عليه القضاءُ دون الكفَّارة. وعلى الأقوال كلِّها فالحكمُ في حقِّه وجوبُ النَّزع، والمفسدةُ التي في حركة النَّازع مفسدةٌ مغمورةٌ في مصلحة إقلاعه ونزعه؛ فليست المسألةُ من موارد النِّزاع. * وأمَّا إذا تترَّس الكفَّارُ بأسرى من المسلمين بعدد المُقاتِلة (3)، فإنه لا يجوزُ رميُهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين (4)، وتكون مصلحةُ حفظ الجيش أعظمَ من مصلحة حفظ الأُسارى، فحينئذٍ يجوزُ رميُ الأُسارى، ويكونُ من باب دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمرُ وكانت مصلحةُ بقاء الأسرى أعظمَ من رميهم لم يجُز رميُهم. _________ (1) انظر: «الأم» (3/ 245)، و «المغني» (3/ 379)، و «المجموع» (6/ 329، 332)، و «البرهان» (1/ 303)، و «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 469 ــ الطهارة) و (1/ 336 ــ الصيام). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (16/ 22، 25/ 264). (3) أي: المقاتلين من جيش المسلمين. (4) انظر: «المغني» (13/ 141)، و «فتح القدير» (5/ 448)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 52، 28/ 546).

(2/903)


فهذا البابُ مبنيٌّ على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فُرِض الشكُّ وتساوي الأمرين لم يجُز رميُ الأسرى؛ لأنه على يقينٍ مِنْ قتلهم، وعلى ظنٍّ وتخمينٍ مِنْ قتل أصحابه وهلاكهم، ولو قُدِّر أنهم تيقَّنوا ذلك ولم يكن في قتلهم استباحةُ بيضة الإسلام وغلبةُ العدوِّ على الدِّيار لم يجُز أن يَقُوا نفوسَهم بنفوس الأسرى، كما لا يجوزُ للمُكرَه على قتل المعصوم أن يقتله ويَقِيَ نفسَه بنفسه، بل الواجبُ عليه أن يستسلم للقتل ولا يجعل النفوسَ (1) المعصومة وقايةً لنفسه. * وأمَّا إذا أُلقِيَ في مركبهم نار؛ فإنهم يفعلون ما يَرَوْن السَّلامة فيه، وإن شكُّوا: هل السَّلامةُ في مقامهم أو في وقوعهم في الماء؟ أو تيقَّنوا الهلاكَ في الصُّورتين، أو غلبَ على ظنِّهم غلبةً متساويةً لا يترجَّحُ أحدُ طرفيها، ففي الصُّور الثَّلاث قولان لأهل العلم (2)، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد: إحداهما: أنهم يخيَّرون بين الأمرين، لأنهما موتتان قد عَرَضتا لهم، فلهم أن يختاروا أيسرهما عليهم، إذ لا بدَّ من أحدهما، وكلاهما بالنسبة إليهم سواءٌ، فيخيَّرون بينهما. والقولُ الثَّاني: أن يلزمهم المقام، ولا يُعِينون على أنفسهم، لئلَّا يكون موتُهم بسببٍ من جهتهم، وليتمحَّصَ موتُهم شهادةً بأيدي عدوِّهم. * وأمَّا الذي ضاق عليه وقتُ الوقوف بعرفة والصَّلاة؛ فإنَّ الواجبَ في _________ (1) (د): «النفس». (2) انظر: «المغني» (13/ 190)، و «الواضح» (5/ 433).

(2/904)


حقِّه تقوى الله بحسب الإمكان، وقد اختُلِف في تعيين ذلك الواجب على ثلاثة أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره (1): أحدها: أنَّ الواجبَ في حقِّه معيَّنًا إيقاعُ الصَّلاة في وقتها؛ فإنها قد تضيَّقت، والحجُّ لم يتضيَّق وقتُه، فإنه إذا فعله في العام القابل لم يكن قد أخرجه عن وقته، بخلاف الصَّلاة. والقول الثَّاني: أنه يقدِّمُ الحجَّ ويقضي الصَّلاة بعد الوقت؛ لأنَّ مشقَّة فواته وتكليفه (2) إنشاء سفرٍ آخر أو إقامةً في مكَّة إلى قابلٍ ضررٌ عظيمٌ تأباه الحنيفيةُ السَّمحة، فيشتغلُ بإدراكه ويقضي الصَّلاة بعد الوقت. والثَّالث: يقضي الصَّلاة وهو سائرٌ إلى عَرَفة، فيكونُ في طريقه مصلِّيًا كما يصلي الهاربُ من سيلٍ أو سَبُعٍ أو عدوٍّ اتفاقًا، أو الطَّالبُ لعدوٍّ يخشى فواته على أصحِّ القولين. وهذا أقيسُ الأقوال وأقربها إلى قواعد الشرع ومقاصده (3)؛ فإنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفُوتَ منها شيء، فإن أمكن تحصيلُها كلِّها حصِّلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيلُ بعضها إلا بتفويت البعض قُدِّم أكملُها وأهمُّها وأشدُّها طلبًا للشارع. وقد قال عبد الله بن أُنيس: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان _________ (1) انظر: «المجموع» (2/ 12)، و «مغني المحتاج» (1/ 305)، و «الإنصاف» (2/ 245). (2) (ت): «وتكلفه». (3) انظر: «قواعد الأحكام» (1/ 98).

(2/905)


العُرنيِّ، وكان نحو عُرَنة وعرفات، فقال: «اذهب فاقتله»، فرأيتُه، وحضرت صلاةُ العصر، فقلت: إني أخافُ أن يكون بيني وبينه ما إنْ أُؤَخِّر الصَّلاة (1)، فانطلقتُ أمشي وأنا أصلي، أوماءُ إيماءً نحوه، فلمَّا دنوتُ منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجلٌ من العرب، بلغني أنك تجمعُ لهذا الرجل، فجئتك في ذلك. قال: إني لفي ذلك. قال: فمشيتُ معه ساعةً حتى إذا أمكنني عَلَوْتُه بسيفي حتى بَرَد. رواه أبو داود (2). وأمَّا مسألةُ المستيقظ قبل طلوع الشَّمس جُنُبًا وضاق الوقتُ (3) عليه بحيثُ لا يتَّسعُ للغُسل والصَّلاة، فهذا الواجبُ في حقِّه عند جمهور العلماء أن يغتسل وإن طلعت الشمس، ولا تجزئه الصَّلاةُ بالتيمُّم؛ لأنه واجدٌ للماء (4). وإن كان غير مفرِّطٍ في نومه فلا إثم عليه، كما لو نام حتى طلعت _________ (1) لفظ رواية أحمد: «خشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة». (2) (1249)، وأحمد (3/ 496)، وغيرهما. وصححه ابن خزيمة (982)، وابن حبان (7160)، وحسَّن إسناده ابن حجر في «الفتح» (2/ 437). ورُوي من وجهٍ آخر: أخرجه الطبراني في «الكبير» (101 - قطعة من مسانيد من اسمه عبد الله) - ومن طريقه الضياء في «المختارة» (9/ 27) -، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2031)، والفاكهي في «أخبار مكة» (2727)، وغيرهم. ولا بأس به، محمد بن كعب القرظي يحتمل سماعه من عبد الله بن أنيس، إلا أنه ليس فيه ذكر الإيماء، إنما قال: «وصليت العصر ركعتين خفيفتين». (3) (ق): «وضيق الوقت». (4) انظر: «المغني» (1/ 345)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 35).

(2/906)


الشمس، والواجبُ في حقِّه المبادرةُ إلى الغُسل والصَّلاة، وهذا وقتُها في حقِّ أمثاله. وعلى هذا القول الصَّحيح فلم يتعارض هاهنا مصلحةٌ ومفسدةٌ متساويتان، بل مصلحةُ الصَّلاة بالطَّهارة أرجحُ من إيقاعها في الوقت بالتيمُّم. وفي المسألة قولٌ ثانٍ، وهو روايةٌ عن مالك: أنه يتيمَّمُ ويصلي في الوقت (1)، لأنَّ الشارع له التفاتٌ إلى إيقاع الصَّلاة في الوقت بالتيمُّم أعظمُ من التفاته إلى إيقاعها بطهارة الماء خارجَ الوقت، والعَدَمُ المبيحُ للتيمُّم هو العدمُ بالنسبة إلى وقت الصَّلاة لا مطلقًا، فإنه لا بدَّ أن يجد الماء ولو بعد حين، ومع هذا فأوجبَ عليه الشارعُ التيمُّم؛ لأنه عادمٌ للماء بالنسبة إلى وقت الصَّلاة، وهكذا هذا النَّائمُ، وإن كان واجدًا للماء لكنه عادمٌ بالنسبة إلى الوقت. وصاحبُ هذا القول يقول: مصلحةُ إيقاع الصَّلاة في الوقت بالتيمُّم أرجحُ في نظر الشارع من إيقاعها خارجَ الوقت بطهارة الماء؛ فعلى كلا القولين لم تتساوَ المصلحةُ والمفسدة؛ فثبت أنه لا وجود لهذا القسم في الشَّرع. وأمَّا مسألةُ اغتِلام البحر؛ فلا يجوزُ إلقاءُ أحدٍ منهم في البحر بالقُرعة ولا غيرها؛ لاستوائهم في العصمة وقَتْل من لا ذنبَ له وقايةً لنفس القاتل به _________ (1) انظر: «المدونة» (1/ 44)، و «النوادر والزيادات» (1/ 110)، و «الأوسط» لابن المنذر (2/ 30).

(2/907)


وليس أولى بذلك منه (1). نعم؛ لو كان في السَّفينة مالٌ أو حيوانٌ وجبَ إلقاءُ المال ثمَّ الحيوان؛ لأنَّ المفسدة في فوات الأموال والحيوانات أولى من المفسدة في فوات أنفُس النَّاس المعصومة. وأمَّا سائرُ الصُّور التي تساوت مفاسدُها، كإتلاف الدِّرهمين والحيوانين وقتل أحد العدوَّين، فهذا الحكمُ فيه التَّخييرُ بينهما؛ لأنه لا بدَّ من إتلاف أحدهما وقايةً لنفسه، وكلاهما سواء، فيخيَّر بينهما، وكذلك العدوَّان المتكافئان يخيَّر بين قتالهما، كالواجب المخيَّر، وأولى (2). وأمَّا من تساوت حسناتُه وسيئاتُه وتدافَع أثرهما، فهو حجَّةٌ عليكم؛ فإنَّ الحكمَ للحسنات، وهي تَغْلِبُ السَّيئات؛ فإنه لا يدخلُ النَّار ولكنه يبقى على الأعراف مدَّةً ثمَّ يصيرُ إلى الجنَّة؛ فقد تبيَّن غلبةُ الحسنات لجانب السَّيئات، ومنعُها من ترتُّب أثرها عليها، وأنَّ الأثر هو أثرُ الحسنات فقط. فبانَ أنه لا دليل لكم على وجود هذا القسم أصلًا، وأنَّ الدَّليل يدلُّ على امتناعه. فإن قيل (3): فما قولكم فيما إذا عارض المفسدةَ مصلحةٌ أرجحُ منها، وترتَّب الحكمُ على الراجح، هل يترتَّبُ عليه مع بقاء المرجوح من المصلحة والمفسدة، لكنه لما كان مغمورًا لم يُلْتَفت إليه؟ أو تقولون: إنَّ المرجوحَ زال أثرُه بالراجح، فلم يبق له أثر؟ _________ (1) انظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (1623). (2) أي: أولى بالتخيير. وتحرفت في الأصول إلى: «والولي». (3) (ت، د): «قيل لكم».

(2/908)


ومثالُ ذلك: أنَّ الله تعالى حرَّم الميتة والدَّم ولحمَ الخنزير؛ لما في تناولها من المفسدة الراجحة؛ وهو خبثُ التَّغذية، والغاذي شبيهٌ بالمُغْتَذِي (1)، فيصيرُ المُغْتَذي بهذه الخبائث خبيثَ النَّفس؛ فمن محاسن الشريعة تحريمُ هذه الخبائث. فإن اضطرَّ إليها وخاف على نفسه الهلاكَ إن لم يتناولها أُبيحَت له، فهل إباحتُها والحالةُ هذه مع بقاء وصف الخبث فيها، لكن عارضه مصلحةٌ أرجحُ منه وهي حفظُ النَّفس، أو إباحتُها أزالت وصفَ الخبث منها، فما أُبيحَ له إلا طيِّبٌ وإن كان خبيثًا في حال الاختيار؟ قيل: هذا موضعٌ دقيق، وتحقيقُه يستدعي اطلاعًا على أسرار الشريعة والطَّبيعة، فلا تَسْتَهوِنْه وأعطِه حقَّه من النَّظر والتأمُّل. وقد اختلف النَّاسُ فيه على قولين: فكثيرٌ منهم ــ أو أكثرهم ــ سلك مسالكَ التَّرجيح مع بقاء وصف الخبث فيه، وقال: مصلحةُ حفظ النَّفس أرجحُ من مفسدة خبث التَّغذية. وهذا قولُ من لم يحقِّق النَّظر، ويُمْعِن التأمُّل، بل استرسل مع ظاهر الأمر، والصَّوابُ أنَّ وصفَ الخبث منتفٍ حال الاضطرار. وكشفُ الغطاء عن المسألة: أنَّ وصفَ الخبث غيرُ مستقلٍّ بنفسه في المحلِّ المُغْتَذى به، بل هو متولِّدٌ من القابل والفاعل، فهو حاصلٌ من المُغْتَذِي والمُغْتَذى به، ونظيرُه تأثيرُ السُّمِّ في البدن، هو موقوفٌ على الفاعل والمحلِّ القابل. _________ (1) انظر: «القانون» (1/ 150)، و «الحاوي» (2/ 558)، وما مضى (ص: 669).

(2/909)


إذا عُلِمَ ذلك، فتناولُ هذه الخبائث في حال الاختيار يوجبُ حصول الأثر المطلوب عَدَمُه، فإذا كان المتناولُ لها مضطرًّا فإنَّ ضرورته تمنعُ قبول الخبث الذي في المُغْتَذى به، فلم تحصُل تلك المفسدة؛ لأنها مشروطةٌ بالاختيار الذي به يقبلُ المحلُّ خبثَ التَّغذية، فإذا زال الاختيارُ زال شرطُ القبول، فلم تحصُل المفسدةُ أصلًا. وإن اعتاصَ هذا على فهمك فانظُر في الأغذية والأشربة الضارَّة التي لا يتخلَّفُ عنها الضررُ إذا تناولها المختارُ الواجدُ لغيرها، فإذا اشتدَّت ضرورتُه إليها ولم يجد منها بُدًّا فإنها تنفعُه ولا يتولَّدُ له منها ضررٌ أصلًا؛ لأنَّ قبول طبيعته وفاقتها إليها وميلها إليها منعَها من التضرُّر بها، بخلاف (1) حال الاختيار. وأمثلةُ ذلك معلومةٌ مشهودةٌ بالحِسِّ، فإذا كان هذا في الأوصاف الحسِّية المؤثِّرة في محالِّها بالحِسِّ، فما الظَّنُّ بالأوصاف المعنوية التي تأثيرُها إنما يُعْلَمُ بالعقل أو بالشرع؟! فلا تظنَّ (2) أنَّ الضرورة أزالت وصفَ المحلِّ وبدَّلتْه، فإنَّا لم نقُل هذا، ولا يقوله عاقل، وإنما الضرورةُ منعت تأثيرَ الوصف وأبطلته، فهي من باب المانع الذي يمنعُ تأثيرَ المقتضي، لا أنه يُزِيلُ قوَّته، ألا ترى أنَّ السَّيفَ الحادَّ إذا صادفَ حجرًا فإنه يمنعُ قطعَه وتأثيرَه، لا أنه يُزِيلُ حِدَّته وتهيُّؤه لقَطْع القابل؟! _________ (1) (ت): «من الضرر بلا خلاف». (2) (ت): «ولا يظن».

(2/910)


ونظيرُ هذا الملابسُ المحرَّمةُ إذا اضطرَّ إليها؛ فإنَّ ضرورته تمنعُ ترتُّبَ المفسدة التي حرِّمت لأجلها. فإن قال: فهذا ينتقض عليكم بتحريم نكاح الأمَة؛ فإنه حرِّم للمفسدة التي تتضمَّنُه مِنْ إرقاق ولده، ثمَّ أبيحَ عند الضرورة إليه وهي خوفُ العَنَت الذي هو أعظمُ فسادًا من إرقاق الولد، ومع هذا فالمفسدةُ قائمةٌ بعينها، ولكنْ عارضها مصلحةُ حفظ الفرج عن الحرام، وهي أرجحُ عند الشَّارع من رقِّ الولد. قيل: هذا لا ينقُض ما قرَّرناه (1)؛ فإنَّ الله سبحانه لمَّا حرَّم نكاحَ الأمَة لما فيه من مفسدة رقِّ الولد، واشتغال الأمَة بخدمة سيِّدها، فلا يحصُل لزوجها من السَّكن إليها والإيواء ودوام المعاشرة (2) ما تَقَرُّ به عينُه، وتسكُن به نفسُه= أباحه عند الحاجة إليه، بأن لا يقْدِر على نكاح حُرَّة، ويخشى على نفسه مواقعة المحظور؛ فكانت المصلحةُ له في نكاحها في هذه الحال أرجحَ من تلك المفاسد. وليس هذا حال ضرورةٍ يباحُ لها المحظور؛ فإنَّ الله سبحانه لا يضطرُّ عبدَه إلى الجِماع بحيثُ إن لم يجامِع مات، بخلاف الطَّعام والشَّراب، ولهذا لا يباحُ الزِّنا بضرورةٍ كما يباحُ الخنزيرُ والميتةُ والدَّم، وإنما الشَّهوةُ وقضاءُ الوَطَر يَشُقُّ على الرجل تحمُّله وكفُّ النَّفس عنه؛ لضعفه وقلَّة صبره، فرَحِمه أرحمُ الراحمين، وأباح له مِن أطايب النِّساء وأحسنهنَّ أربعًا من _________ (1) (د، ق): «لا ينقض بما قررناه». وفي (ت) و (ط): «لا ينتقض بما قررناه». والأشبه ما أثبت. (2) (د، ت): «المعاش». وصحِّحت في طرة (د).

(2/911)


الحرائر، وما شاء من ملك يمينه من الإماء، فإن عجز عن ذلك أباح له نكاحَ الأمَة رحمةً به، وتخفيفًا عنه؛ لضَعْفِه. ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 25 - 28]؛ فأخبر سبحانه أنه شرع لهم هذه الأحكام تخفيفًا عنهم؛ لضَعْفِهم وقلَّة صبرهم؛ ورحمةً بهم وإحسانًا إليهم. فليس هاهنا ضرورةٌ تبيحُ المحظور، وإنما هي مصلحةٌ أرجحُ من مصلحة، ومفسدةٌ أقلُّ من مفسدة، فاختار لهم أعظمَ المصلحتين وإن فاتت أدناهما، ودَفَع عنهم أعظمَ المفسدتين وإن فاتت أدناهما. وهذا شأنُ الحكيم اللطيف الخبير البَرِّ المُحْسِن. فإذا تأمَّلتَ شرائعَ دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرجُ عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قُدِّم أهمُّها وأجلُّها وإن فاتت أدناها (1)، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عُطِّل أعظمُها فسادًا باحتمال أدناها. وعلى هذا وَضَع أحكمُ الحاكمينَ شرائعَ دينه دالَّةً عليه، شاهدةً له بكمال علمه وحكمته ولُطْفِه بعباده وإحسانه إليهم. _________ (1) (ق، د): «أدناهما». خطأ. وسقط من (ت) من قوله: «وهذا شأن الحكيم» إلى هنا لانتقال النظر.

(2/912)


وهذه الجملةُ لا يستريبُ فيها من له ذوقٌ من الشريعة وارتضاعٌ من ثَديها، وورودٌ من عَفْو حَوضِها (1)، وكلَّما كان تضلُّعه منها أعظمَ كان شهودُه لمحاسنها ومصالحها أكمل. ولا يمكنُ أحدًا من الفقهاء أن يتكلَّم في مآخذ الأحكام وعِلَلِها والأوصاف المؤثِّرة فيها جمعًا وفَرْقًا (2) إلا على هذه الطَّريقة، وأمَّا طريقةُ إنكار الحِكَم والتَّعليل، ونفي الأوصاف المقتضية لحُسْن ما أُمِرَ به وقُبْح ما نُهِيَ عنه، وتأثيرها واقتضائها للحبِّ والبغض الذي هو مصدرُ الأمر والنهي، بطريقةٍ جدليَّةٍ كلاميَّة= لا يُتصوَّرُ بناءُ الأحكام عليها، ولا يمكنُ فقيهًا أن يستعملها في بابٍ واحدٍ من أبواب الفقه. كيف والقرآنُ وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوآن من تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتَّنبيه على وجوه الحِكَم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان. ولو كان هذا في القرآن والسُّنَّة في نحو مئة موضعٍ أو مئتين لسُقناها، ولكنه يزيدُ على ألف موضعٍ بطرقٍ متنوِّعة (3): * فتارةً يذكرُ لام التَّعليل الصريحة. * وتارةً يذكرُ المفعول لأجله الذي هو المقصودُ بالفعل. _________ (1) عَفْوُ كلِّ شيء: خِيارُه وأجودُه وما لا تعب فيه. «اللسان» (عفا). وفي (ط): «صفو حوضها». (2) في الأصول: «حقا وفرقا». وأصلحت في (ط) إلى «حقا وصدقا». والصواب ما أثبت. وانظر: «إعلام الموقعين» (4/ 104، 1/ 190)، و «بدائع الفوائد» (1533). (3) انظر: «شفاء العليل» (537 - 571)، و «الداء والدواء» (31 - 34).

(2/913)


* وتارةً يذكرُ «مِنْ أجل» الصريحة في التَّعليل. * وتارةً يذكرُ أداة «كي». * وتارةً يذكرُ الفاء و «إنَّ» (1). * وتارةً يذكرُ أداة «لعلَّ» المتضمِّنة للتَّعليل، المجرَّدة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق. * وتارةً ينبِّه على السَّبب بذكره صريحًا. * وتارةً يذكرُ الأوصافَ المشتقَّة المناسبة لتلك الأحكام، ثمَّ يرتِّبها عليها ترتيبَ المسبَّبات على أسبابها. * وتارةً ينكرُ على من زعم أنه خلق خلقَه وشرع دينه عبثًا وسُدى. * وتارةً ينكرُ على من ظنَّ أنه يسوِّي بين المختلفَين اللذَين يقتضيان أثرين مختلفَين. * وتارةً يخبرُ بكمال حكمته وعلمه المقتضي أنه لا يفرِّقُ بين متماثلَين ولا يسوِّي بين مختلفَين، وأنه ينزِّل الأشياء منازلها ويرتِّبها مراتبها. * وتارةً يستدعِي من عباده التفكُّرَ والتأمُّل والتدبُّر والتعقُّل لحُسْن (2) ما بعث به رسوله وشرعه لعباده، كما يستدعِي منهم التفكُّر والنَّظر في مخلوقاته وحِكَمها وما فيها من المنافع والمصالح. * وتارةً يذكرُ منافع مخلوقاته منبِّهًا بها على كمال حكمته وعلمه، كما _________ (1) انظر: «زاد المعاد» (5/ 762). (2) (ت): «بحسن».

(2/914)


يذكرُ مصالح أمره منبِّهًا بها على ذلك وأنه الله الذي لا إله إلا هو. * وتارةً يختمُ آياتِ خلقه وأمره بأسماءٍ وصفاتٍ تناسبُها وتقتضيها. والقرآنُ مملوءٌ من أوَّله إلى آخره بذكر حِكَم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما، وما تضمَّناه من الآيات الشَّاهدة له الدَّالَّة عليه، ولا يمكن من له أدنى اطِّلاعٍ على معاني القرآن إنكارُ ذلك. وهل جعل الله سبحانه في فِطَر العباد استواءَ العدل والظُّلم، والصِّدق والكذب، والفُجور والعِفَّة، والإحسان والإساءة، والصَّبر والعفو، والاحتمال والطَّيش، والانتقام والحدَّة، والكرم والسَّماحة، والبَذْل والبُخل، والشُّحِّ والإمساك؟! بل الفطرةُ على الفُرقان بين ذلك كالفطرة على قبول الأغذية النَّافعة، وتركِ ما لا ينفعُ ولا يغذِّي، ولا فرق في الفطرة بينهما أصلًا. وإذا تأمَّلتَ الشريعةَ التي بعث الله بها رسوله حقَّ التأمُّل وجدتها من أوَّلها إلى آخرها شاهدةً بذلك، ناطقةً به، ووجدتَ الحكمةَ والمصلحة والعدل والرحمة باديًا على صفحاتها، مناديًا عليها، يدعو العقول والألبابَ إليها، وأنه لا يجوزُ على أحكم الحاكمين ولا يليقُ به أن يشرع لعباده ما يضادُّها؛ وذلك لأنَّ الذي شرعها عَلِم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظُّلم والسَّفَه الذي يتعالى عن إرادته وشرعه، وأنه لا يصلُح العبادُ إلا عليها، ولا سعادة لهم بدونها البتَّة. فتأمَّل محاسنَ الوضوء بين يَدَي الصَّلاة، وما تضمَّنه من النَّظافة والنَّزاهة ومجانبة الأوساخ والمستقذرات. وتأمَّل كيف وُضِع على الأعضاء الأربعة التي هي آلةُ البطش والمشي،

(2/915)


ومَجْمَعُ الحواسِّ التي أكثرُ تعلُّق الذُّنوب والخطايا بها، ولهذا (1) خصَّها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالذِّكر في قوله: «إنَّ اللهَ كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا أدركَ ذلك لا محالة؛ فالعينُ تزني وزناها النَّظر، والأذنُ تزني وزناها الاستماع، واليدُ تزني وزناها البطش، والرِّجلُ تزني وزناها المشي، والقلبُ يتمنَّى ويشتهي، والفرجُ يصدِّقُ ذلك أو يكذِّبه» (2). فلمَّا كانت هذه الأعضاءُ هي أكثر الأعضاء مباشرةً للمعاصي، كان وَسَخُ الذُّنوب ألصَق بها، وأعلَق من غيرها؛ فشرع أحكمُ الحاكمين الوضوء عليها ليتضمَّن نظافتَها وطهارتها من الأوساخ الحِسِّية وأوساخ الذُّنوب والمعاصي (3). وقد أشار النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بقوله: «إذا توضَّأ العبدُ المسلم خرجت خطاياه مع الماء ــ أو: مع آخر قَطْر الماء ــ، حتى تخرجَ من تحت أظفاره» (4). وقال أبو أمامة: يا رسول الله، كيف الوضوء؟ فقال: «أمَا فإنَّك إذا توضَّأتَ فغسلتَ كفَّيك فأنقيتَهما خرجَت خطاياكَ من بين أظفارك وأناملك، فإذا مَضْمَضْتَ واسْتَنْشَقْتَ بمَنْخِريك، وغسلتَ وجهَك ويديكَ إلى المرفقَين، ومسحتَ برأسك، وغسلتَ رجليكَ إلى الكعبين= اغتسلتَ من _________ (1) (ق، ت): «قال ولهذا». (2) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة. (3) انظر: «محاسن الشريعة» (50)، و «إثبات العلل» للحكيم الترمذي (90). (4) أخرج مسلم (244) شطره الأول من حديث أبي هريرة، وشطره الثاني (245) من حديث عثمان.

(2/916)


عامَّة خطاياك؛ فإن أنت وضعتَ وجهَك لله خرجتَ من خطاياكَ كيوم ولدتكَ أمُّك» رواه النَّسائي (1). والأحاديثُ في هذا الباب كثيرة. فاقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين ورحمتُه أن شرع الوضوءَ على هذه الأعضاء التي هي أكثرُ الأعضاء مباشرةً للمعاصي، وهي الأعضاءُ الظَّاهرةُ البارزةُ للغُبار والوَسَخ أيضًا، وهي أسهلُ الأعضاء غسلًا، فلا يشقُّ تكرارُ غَسلها في اليوم والليلة؛ فكانت الحكمةُ الباهرةُ في شرع الوضوء عليها دون سائر الأعضاء. وهذا يدلُّ على أنَّ المضمضة من آكد أعضاء الوضوء، ولهذا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يداومُ عليها، ولم يُنْقَل عنه بإسنادٍ قطُّ أنه أخلَّ بها يومًا واحدًا، وهذا يدلُّ على أنها فرضٌ لا يصحُّ الوضوءُ بدونها، كما هو الصَّحيحُ من مذهب أحمدَ وغيره من السَّلف (2). فمن سوَّى بين هذه الأعضاء وغيرها، وجعل تعيينَها بمجرَّد الأمر الخالي عن الحكمة والمصلحة، فقد ذهب مذهبًا فاسدًا (3)، فكيف إذا زعم مع ذلك أنه لا فرق في نفس الأمر بين التَّعبُّد بذلك وبين أن يُتَعَبَّد بالنَّجاسة _________ (1) (146). وأصله في «صحيح مسلم» (832) في سياقٍ طويل. وهو في جميع المصادر من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. (2) انظر: «مسائل إسحاق بن منصور الكوسج» (11)، و «الروايتين والوجهين» (1/ 70)، و «اختلاف العلماء» لمحمد بن نصر (97)، و «الأوسط» (1/ 377)، و «الطهور» لأبي عبيد (377)، و «الاستذكار» (2/ 11). (3) انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 94 - 97).

(2/917)


وأنواع الأقذار والأوساخ والأنتان والرائحة الكريهة، ويجعل ذلك مكانَ الطَّهارة والوضوء، وأنَّ الأمرين سواء، وإنما يحكمُ بمجرَّد المشيئة بهذا الأمر دون ضدِّه، ولا فرق بينهما في نفسِ الأمر؟! وهذا قولٌ تصوُّره كافٍ في الجزم ببطلانه. وجميعُ مسائل الشريعة كذلك آياتٌ بيِّنات، ودلالاتٌ واضحات، وشواهدُ ناطقاتٌ بأنَّ الذي شرعها له الحكمةُ البالغة، والعلمُ المحيط، والرحمة والعنايةُ بعباده، وإرادةُ الصَّلاح لهم، وسَوْقِهم بها إلى كمالهم وعواقبهم الحميدة. وقد نبَّه سبحانه عباده على هذا، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، إلى قوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]؛ فأخبَر سبحانه أنه لم يأمرهم بذلك حَرَجًا عليهم، وتضييقًا ومشقَّة، ولكنْ إرادةَ تطهيرهم (1) وإتمام نعمته عليهم، ليشكروه على ذلك، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله. فإن قيل: فما جوابكم عن الأدلَّة التي ذكرها نفاةُ التَّحسين والتَّقبيح على كثرتها؟ قيل: قد كَفَوْنا بحمد الله مُؤنةَ إبطالها بقَدْحِهم فيها، وقد أبطلها كلَّها _________ (1) (د، ق): «تطهرهم».

(2/918)


واعترض عليها فضلاءُ أتباعها وأصحابها: أبو عبد الله ابن الخطيب (1)، وأبو الحسن الآمِدي (2)، واعتمد كلٌّ منهم على مسلكٍ من أفسد المسالك، واعتمد القاضي (3) على مسلكٍ من جنسهما في المفاسد، فاعتمد هؤلاء الفضلاءُ على ثلاث مسالك فاسدة، وتعرَّضوا لإبطال ما سواها والقَدْح فيه. ونحن نذكرُ مسالكَهم التي اعتمدوا عليها، ونبيِّن فسادَها وبطلانها: * فأمَّا ابنُ الخطيب، فاعتمد على المسلك المشهور، وهو أنَّ فعلَ العبد غيرُ اختياريٍّ، وما ليس بفعلٍ اختياريٍّ لا يكونُ حسنًا ولا قبيحًا عقلًا، بالاتفاق؛ لأنَّ القائلين بالحُسْن والقُبْح العقليَّين يعترفون (4) بأنه إنما يكونُ كذلك إذا كان اختياريًّا، وقد ثبت أنه اضطراريٌّ، فلا يوصفُ بحُسنٍ ولا قُبحٍ على المذهبين. أمَّا بيانُ كونه غير اختياريٍّ، فلأنه إن لم يتمكَّن العبدُ من فعله وتركه فواضح؛ وإن كان متمكِّنًا من فعله وتركه كان جائزًا، فإمَّا أن يفتقر ترجيحُ الفاعليَّة على التَّاركيَّة إلى مرجِّحٍ أو لا؟ فإن لم يفتقر كان اتفاقيًّا، والاتفاقُ لا يوصفُ بالحُسن والقُبح، وإن افتَقر إلى مرجِّحٍ فهو مع مرجِّحه إمَّا [أن يكون] لازمًا وإمَّا جائزًا، فإن كان لازمًا فهو اضطراريٌّ، وإن كان جائزًا عاد _________ (1) محمد بن عمر، فخر الدين الرازي (ت: 606). انظر: «السير» (21/ 500)، و «لسان الميزان» (4/ 426). (2) علي بن أبي علي، سيف الدين، الأصولي المتكلِّم (ت: 631). انظر: «السير» (22/ 364)، و «لسان الميزان» (3/ 134). (3) أبو بكر الباقلاني. تقدمت ترجمته. (4) في الأصول: «يعرفون». والمثبت من (ط)، وهو أجود.

(2/919)


التَّقسيم، فإمَّا أن ينتهي إلى ما يكونُ لازمًا فيكون ضروريًّا، أو لا ينتهي إليه فيتسلسلُ، وهو محالٌ، أو يكون اتفاقيًّا فلا يوصفُ بحُسنٍ ولا قُبح (1). فهذا الدَّليلُ هو الذي يصولُ به ويجول، ويُثْبِتُ به الجَبْر، ويردُّ به على القَدَريَّة، وينفي به التحسينَ والتقبيح. وهو فاسدٌ من وجوهٍ متعدِّدة: أحدها: أنه يتضمَّنُ التَّسوية بين الحركة الضرورية والاختيارية، وعدم التفريق بينهما. وهو باطلٌ بالضرورة والحِسِّ والشَّرع، فالاستدلالُ على أنَّ فعلَ العبد غيرُ اختياريٍّ استدلالٌ على ما هو معلومُ البطلان ضرورةً وحِسًّا وشرعًا، فهو بمنزلة الاستدلال على الجمع بين النقيضين، وعلى وجود المحال، وبابِه (2). الوجه الثَّاني: لو صحَّ الدَّليلُ المذكورُ لَزِم منه أن يكون الربُّ تعالى غيرَ مختارٍ في فعله؛ لأنَّ التقسيم المذكورَ والتَّرديدَ جارٍ فيه بعَيْنه بأن يقال: فعلُه تعالى إمَّا أن يكون لازمًا أو جائزًا؛ فإن كان لازمًا كان ضروريًّا، وإن كان جائزًا فإن احتاج إلى مرجِّحٍ عاد التقسيم، وإلا فهو اتفاقيٌّ. ويكفي في بطلان الدَّليل المذكور أن يستلزم كونَ الربِّ غيرَ مختار. _________ (1) انظر مسلك الرازي هذا في كتبه: «المحصل» (202)، و «الأربعين» (346)، و «المطالب العالية» (3/ 332)، و «المحصول» (1/ 124)، و «التفسير» (1/ 185). (2) (ت): «الايه». وكذلك في (د، ق) إلا أنها مهملة. والصواب ما أثبت. أي: باب الجمع بين النقيضين ووجود المحال وسائر ما هو معلوم البطلان ضرورةً وحسًّا وشرعًا. وانظر ما سيأتي (ص: 1123).

(2/920)


الوجه الثَّالث: أنَّ الدَّليل المذكور لو صحَّ لزم بطلانُ الحُسْن والقُبْح الشرعيَّين؛ لأنَّ فعلَ العبد ضروريٌّ أو اتفاقيٌّ، وما كان كذلك فإنَّ الشرع لا يحسِّنُه ولا يقبِّحُه؛ لأنه لا يَرِدُ بالتكليف به فضلًا عن أن يجعله متعلَّق الحُسْن والقُبْح. الوجه الرابع: أنَّ قولك: «إمَّا أن يكون الفعلُ لازمًا أو جائزًا». قلنا: هو لازمٌ عند مرجِّحه التَّامِّ. وكان ماذا قولك: «يكونُ ضروريًّا» أتعني به أنه لا بدَّ منه؟ أو تعني به أنه لا يكونُ اختياريًّا؟ فإن عنيتَ الأوَّل منَعْنا انتفاءَ اللَّازم، فإنه لا يلزمُ منه أن يكون غيرَ مختار، ويكون حاصلُ الدَّليل: إن كان لا بدَّ منه فلا بدَّ منه، ولا يلزمُ من ذلك أن يكون غيرَ اختياريٍّ. وإن عنيتَ الثَّاني ــ وهو أنه لا يكونُ اختياريًّا ــ منَعْنا الملازمة؛ إذ لا يلزمُ من كونه لا بدَّ منه أن يكون غيرَ اختياريٍّ، وأنت لم تذكُر على ذلك دليلًا، بل هي دعوى معلومةُ البطلان بالضرورة. الوجه الخامس: أن يقال: هو جائز (1). قولك: «إمَّا أن يتوقَّف تَرجُّحُ الفاعلية على التَّاركية على مرجِّحٍ أو لا». قلنا: يتوقَّفُ على مرجِّح. قولك عند المرجِّح: «إمَّا أن يجب أو يبقى جائزًا». قلنا: هو واجبٌ بالمرجِّح، جائزٌ بالنَّظر إلى ذاته، والمرجِّحُ هو الاختيار، وما وجب بالاختيار لا ينافي أن يكون اختياريًّا، فلزومُ الفعل _________ (1) جوابًا على قوله: «إما أن يكون الفعل لازمًا أو جائزًا».

(2/921)


بالاختيار لا ينافي كونه اختياريًّا. الوجه السَّادس: أنَّ هذا الدَّليل الذي ذكرتَه بعينه حجَّةٌ على أنه اختياريٌّ؛ لأنه وجب بالاختيار، وما وجب بالاختيار لا يكونُ إلا اختياريًّا، وإلا كان اختياريًّا غيرَ اختياريٍّ، وهو جمعٌ بين النقيضين، والدَّليلُ المذكورُ حجَّةٌ على فساد قولك، وأنَّ الفعل والواجب بالاختيار اختياريٌّ. الوجه السَّابع: أنَّ صدور الفعل عن المختار بشرط (1) تعلُّق اختياره به لا ينافي كونه مقدورًا له، وإلا كانت إرادتُه وقدرتُه غير مشروطةٍ في الفعل، وهو محال، وإذا لم يناف ذلك كونَه مقدورًا فهو اختياريٌّ قطعًا. الوجه الثَّامن: قولك: «إن لم يتوقَّف على مرجِّحٍ فهو اتفاقيٌّ». إن عنيتَ بالمرجِّح ما يُخْرِجُ الفعلَ عن أن يكون اختياريًّا ويجعله اضطراريًّا، فلا يلزمُ من نفي هذا المرجِّح كونه اتفاقيًّا؛ إذ هذا مرجِّحٌ خاصٌّ، ولا يلزم من نفي المرجِّح المعيَّن نفيُ مطلق المرجِّح (2)، فما المانعُ من أن يتوقَّف على مرجِّحٍ ولا يجعله اضطراريًّا غيرَ اختياريٍّ؟ وإن عنيتَ بالمرجِّح ما هو أعمُّ من ذلك لم يلزم مِنْ توقُّفه على المرجِّح الأعمِّ أن يكون غير اختياريٍّ؛ لأنَّ المرجِّح هو الاختيار، وما ترجَّح بالاختيار لم يمتنع كونُه اختياريًّا. _________ (1) (ت، ق): «شرط». (2) (ت): «ولا يلزم من نفي المرجح المعين على المطلق المرجح». وفي (ق): «ولا يلزم من نفي المرجح المعين نفي المطلق المترجح». والمثبت من (ط)، وهو الذي يقتضيه السياق.

(2/922)


الوجه التَّاسع: قولك: «وإن لم يتوقَّف على مرجِّحٍ فهو اتفاقيٌّ». ما تعني بالاتفاقيِّ؟ أتعني به ما لا فاعل له؟ أو ما فاعلُه مرجِّحٌ باختياره؟ أو معنًى ثالثًا؟ فإن عنيتَ الأوَّل لم يلزم مِنْ عدم المرجِّح المُوجِب كونَه اضطراريًّا أن يكون الفعلُ صادرًا من غير فاعل، وإن عنيتَ الثَّاني لم يلزم منه كونُه اضطراريًّا، وإن عنيتَ معنًى ثالثًا فأبدِه. الوجه العاشر: أنَّ غاية هذا الدَّليل أن يكون الفعلُ لازمًا عند وجود سببه، وأنت لم تُقِم دليلًا على أنَّ ما كان كذلك يمتنع تحسينُه وتقبيحُه سوى الدَّعوى المجرَّدة، فأين الدَّليلُ على أنَّ ما كان لازمًا بهذا الاعتبار يمتنع تحسينُه وتقبيحُه؟ ودليلُك إنما يدلُّ على أنَّ ما كان غير اختياريٍّ من الأفعال امتنع تحسينُه وتقبيحُه، فمحلُّ النِّزاع لم يتناوله الدَّليلُ المذكور، وما تناوله وصحَّت مقدماتُه فهو غيرُ متنازعٍ فيه؛ فدليلُك لم يُفِد شيئًا. الوجه الحادي عشر: أنَّ قولك: «يلزمُ أن لا يوصفَ بحُسْنٍ ولا قُبْحٍ على المذهبين» باطلٌ؛ فإنَّ منازعيك إنما يمنعون مِنْ وصفِ الفعل بالحُسْن والقُبْح إذا لم يكن متعلَّق القدرة والاختيار، أمَّا ما وجب بالقدرة والاختيار فإنهم لا يساعدونك على امتناع وصفه بالحُسْن والقُبْح أبدًا. الوجه الثَّاني عشر: أنَّ هذا الدَّليل لو صحَّ لَزِم بطلانُ الشرائع والتكليف جملةً؛ لأنَّ التكليف إنما يكونُ بالأفعال الاختيارية، إذ يستحيلُ أن يكلَّف المرتعِشُ بحركة يده، وأن يكلَّف المَحْمُومُ بتسخين جِلْده، والمَقْرورُ بقرِّه (1)، _________ (1) المحموم: من أصابته الحمَّى. والمقرور: من أصابه القرُّ (بفتح القاف وضمها)، وهو البرد.

(2/923)


وإذا كانت الأفعالُ اضطراريةً غير اختياريةٍ لم يُتَصَوَّر تعلُّق التكليف والأمر والنهي بها؛ فلو صحَّ الدَّليلُ المذكورُ لبطلت الشرائعُ جملةً. فهذا هو الدَّليلُ الذي اعتمده ابنُ الخطيب وأبطلَ أدلَّة غيره (1). * وأمَّا الدَّليلُ الذي اعتمد عليه الآمديُّ (2)، فهو أنَّ حُسْنَ الفعل لو كان أمرًا زائدًا على ذاته لَزِم قيامُ المعنى بالمعنى، وهو محال؛ لأنَّ العَرَض لا يقومُ بالعَرَض (3). وهذا في البطلان من جنس ما قبله؛ فإنه منقوضٌ بما لا يحصى من المعاني التي توصفُ بالمعاني (4)، كما يقال: علمٌ ضروريٌّ، وعلمٌ كَسْبيٌّ، وإرادةٌ جازمة، وحركةٌ سريعة، وحركةٌ بطيئة، وحركةٌ مستديرة، وحركةٌ مستقيمة، ومِزاجٌ معتدل، ومِزاجٌ منحرف، وسوادٌ برَّاق، وحمرةٌ قانية، وخضرةٌ ناصعة، ولونٌ مشرِق، وصوتٌ شَجٍ، وحِسٌّ (5) رَخِيمٌ ورفيعٌ ودقيقٌ وغليظ، وأضعافُ أضعاف ذلك مما لا يحصى مما توصفُ المعاني _________ (1) انظر: «التسعينية» (909)، و «الإحكام» للآمدي (1/ 84)، و «بيان المختصر» للأصفهاني (1/ 300)، و «رفع الحاجب» (1/ 460)، و «درء القول القبيح» للطوفي (87). (2) (ت، ق): «ابن الآمدي». (3) انظر: «أبكار الأفكار»، و «الإحكام» (1/ 84 - 87)، و «غاية المرام» (234)، و «رفع الحاجب» (1/ 458). (4) وهذا الوجه الأول في ردِّ دليل الآمدي. وانظر له: «الرد على المنطقيين» (421، 422). (5) مضبوطة في (د). والحِسُّ: الصوت الخفي. ويشبه أن تكون محرفة عن: «وحَسَن» صفة للصوت، وستأتي بعد قليل. أو عن: «وأجشُّ».

(2/924)


والأعراض فيه بمعانٍ وأعراضٍ وجودية، ومن ادعى أنها عَدَمِيةٌ فهو مكابر. وهل شكَّ أحدٌ في وصف المعاني بالشِّدَّة والضعف؟! فيقال: همٌّ شديد، وحُبٌّ شديد، وحزنٌ شديد، وألمٌ شديد، ومُقابِلُها. فوصفُ المعاني بصفاتها أمرٌ معلومٌ عند كلِّ العقلاء. الوجه الثَّاني: أنَّ قوله: «يلزمُ منه قيامُ المعنى بالمعنى» غيرُ صحيح، بل المعنى يوصفُ بالمعنى ويقومُ به، تبعًا لقيامه بالجوهر الذي هو المحلُّ، فيكونُ المعنيان جميعًا قائمَيْن بالمحلِّ، وأحدُهما تابعٌ للآخر، وكلاهما تبعٌ للمحلِّ، فما قام العَرَض بالعَرَض، وإنما قام العَرضان جميعًا بالجوهر، فالحركةُ والسُّرعةُ قائمتان بالمتحرِّك، والصَّوتُ وشَجَاهُ وغِلَظه ودقَّته وحسنُه وقبحُه قائمةٌ بالحامل له، والمحالُ إنما هو قيامُ المعنى بالمعنى من غير أن يكون لهما حامل، فأمَّا إذا كان لهما حاملٌ وأحدُهما صفةٌ للآخر وكلاهما قام بالمحلِّ الحامل فليس بمحال، وهذا في غاية الوضوح (1). الوجه الثَّالث: أنَّ حُسْنَ الفعل وقبحَه شرعًا أمرٌ زائدٌ عليه؛ لأنَّ المفهوم منه زائدٌ على المفهوم من نفس الفعل، وهما وجوديَّان لا عَدَمِيَّان؛ لأنَّ نقيضهما يحملُ على العَدَم، فهو عَدَمِيٌّ، فهما إذن وجوديَّان؛ لأنَّ كون أحد النقيضين عَدَمِيًّا يستلزمُ كونَ نقيضه وجوديًّا. فلو صحَّ دليلكم المذكورُ لزم أن لا يوصف بالحُسْن والقُبح شرعًا، ولا خلاص عن هذا إلا بإلزام كون الحُسْن والقُبح الشرعيَّين عدميَّين، ولا سبيل إليه؛ لأنَّ الثَّواب والعقاب والمدح والذَّمَّ مرتَّبٌ عليهما ترتُّبَ الأثر على _________ (1) انظر: «التسعينية» (909).

(2/925)


مؤثِّره، والمقتضى على مقتضيه، وما كان كذلك لم يكن عَدَمًا محضًا؛ إذ العدمُ المحض لا يترتَّبُ عليه ثوابٌ ولا عقاب، ولا مدحٌ ولا ذمٌّ. وأيضًا؛ فإنه لا معنى لكون الفعل حسنًا وقبيحًا شرعًا إلا أنه يشتملُ على صفةٍ لأجلها كان حسنًا محبوبًا للربِّ مرضيًّا له متعلَّقًا للمدح والثواب، وكون القبيح مشتملًا على صفةٍ لأجلها كان قبيحًا مبغوضًا للربِّ متعلَّقًا للذَّمِّ والعقاب. وهذه أمورٌ وجودية ثابتةٌ له في نفسه، ومحبةُ الربِّ له وأمره به كساه أمرًا وجوديًّا زاده حُسْنًا إلى حُسْنه، وبغضُه له ونهيُه عنه كساه أمرًا وجوديًّا زاده قُبحًا إلى قُبحه، فجعلُ ذلك كلِّه عدمًا محضًا ونفيًا صِرْفًا لا يرجعُ إلى أمرٍ ثبوتيٍّ في غاية البطلان والإحالة. وظهر أنَّ هذا الدَّليل في غاية البطلان، ولم نتعرَّض للوجوه التي قدحوا بها فيه، فإنها ــ مع طُولها ــ غيرُ شافيةٍ ولا مُقنِعة، فمن اكتفى بها فهي موجودةٌ في كتبهم (1). * وأمَّا المسلكُ الذي اعتمده كثيرٌ منهم، كالقاضي وأبي المعالي وأبي عمرو ابن الحاجب (2) من المتأخِّرين، فهو: أنَّ الحُسْن والقُبْحَ لو كانا ذاتيَّين لما اختلفا باختلاف الأحوال والمتعلِّقات والأزمان، ولاستحال ورودُ _________ (1) انظر: «بيان المختصر» للأصفهاني (1/ 294 - 298)، و «رفع الحاجب» (1/ 458). (2) أبو المعالي: الجوينى. والقاضي: أبو بكر الباقلاني. وابن الحاجب: جمال الدين عثمان بن عمر، فقيهٌ أصوليٌّ نحويٌّ متكلِّم (ت: 646). انظر: «السير» (23/ 264)، و «الديباج المذهب» (2/ 86).

(2/926)


النَّسخ على الفعل، لأنَّ ما ثبت للذَّات فهو باقٍ ببقائها لا يزولُ وهي باقية. ومعلومٌ أنَّ الكذبَ يكونُ حسنًا إذا تضمَّن عصمةَ نبيٍّ (1) أو مسلمٍ، ولو كان قبحُه ذاتيًّا له لكان قبيحًا أين وُجِد. وكذلك ما نُسِخ من الشريعة لو كان حُسْنُه لذاته لم يَسْتَحِلْ قبيحًا، ولو كان قبحُه لذاته لم يَسْتَحِلْ حسنًا بالنَّسخ. قالوا: وأيضًا، لو كان ذاتيًّا لاجتمع النقيضان في صِدْق من قال: «لأكذِبنَّ غدًا» وكَذِبِه؛ فإنه لا يخلو إمَّا أن يكذِبَ في الغد، أو يصدُق: فإن كَذَبَ لزم قبحُه لكونه كذبًا، وحُسْنُه لاستلزامه صِدْقَ الخبر (2) الأوَّل، والمستلزمُ للحُسْن حَسَن؛ فيجتمعُ في الخبر الثَّاني الحُسْن والقُبح، وهما نقيضان. وإن صَدَق لزم حُسْنُ الخبر الثَّاني من حيث إنه صدقٌ في نفسه، وقبحُه من حيث إنه مستلزمٌ لكذب الخبر الأوَّل؛ فلَزِم النقيضان. قالوا: وأيضًا فلو كان القتلُ والجلدُ وقطعُ الأطراف قبيحًا لذاته أو لصفةٍ لازمةٍ للذات لم يكن حسنًا في الحدود والقصاص؛ لأنَّ مقتضى الذات لا يتخلَّفُ عنها، فإذا تخلَّف فيما ذكرنا من الصُّور وغيرها دلَّ على أنه ليس ذاتيًّا (3). _________ (1) أي: سلامته ونجاته. وكذا وردت العبارة في «مختصر ابن الحاجب» وشروحه، وفيما سيأتي (ص: 948). وفي (ط) وبعض المصادر: «عصمة دم نبي». (2) (ق، د): «الجزء». في سائر المواضع الآتية. والمثبت من (ت) و «شرح المختصر». (3) انظر: «التمهيد» للباقلاني (128، 383 - 386)، و «التقريب والإرشاد» (1/ 284)، و «البرهان» (1/ 90)، و «التلخيص» (1/ 160)، و «الإرشاد» (233)، و «نهاية الأقدام» (39)، و «بيان المختصر» (1/ 291)، و «رفع الحاجب» (1/ 457).

(2/927)


فهذا تقريرُ هذا المسلك، وهو مِنْ أفسد المسالك؛ لوجوه: أحدها: أنَّ كون الفعل حسنًا أو قبيحًا لذاته أو لصفةٍ لم نَعْنِ به أنَّ ذلك يقومُ بحقيقةٍ لا ينفكُّ عنها بحال، مثل كونه عَرَضًا، وكونه مفتقِرًا إلى محلٍّ يقوم به، وكون الحركة حركةً والسَّواد لونًا. ومِنْ هاهنا غَلِط علينا المنازعون لنا في المسألة وألزمونا ما لا يلزمنا، وإنما نعني بكونه حسنًا أو قبيحًا لذاته أو لصفته: أنه في نفسه مَنْشَأٌ للمصلحة والمفسدة، وترتُّبهما عليه كترتُّب المسبَّبات على أسبابها المقتضية لها، وهذا كترتُّب الرِّيِّ على الشُّرب، والشِّبَع على الأكل، وترتُّب منافع الأغذية والأدوية ومضارِّها عليها. فحسنُ الفعل أو قبحُه هو من جنس كون الدَّواء الفلانيِّ حسنًا نافعًا أو قبيحًا ضارًّا، وكذلك الغذاءُ واللباسُ والمسكنُ والجماعُ والاستفراغُ والنَّومُ والرياضةُ وغيرها، فإنَّ ترتُّبَ آثارها عليها ترتُّبَ المعلولات والمسبَّبات على عِلَلِها وأسبابها، ومع ذلك فإنها تختلفُ باختلاف الأزمان، والأحوال، والأماكن، والمحلِّ القابل، ووجود المعارِض. فتخلُّف الشِّبَع والرِّيِّ عن الخبز واللحم والماء في حقِّ المريض ومن به علَّةٌ تمنعُه من قبول الغذاء لا تخرجُه عن كونه مقتضيًا لذلك لذاته حتى يقال: «لو كان كذلك لذاته لم يتخلَّف، لأنَّ ما بالذات لا يتخلَّف». وكذلك تخلُّف الانتفاع بالدَّواء في شدَّة الحرِّ والبرد وفي وقت تزايد

(2/928)


العلَّة لا يخرجه عن كونه نافعًا في ذاته، وكذلك تخلُّف الانتفاع باللباس في زمن الحرِّ ــ مثلًا ــ لا يدلُّ على أنه ليس في ذاته نافعًا ولا حسنًا. فهذه قُوى الأغذية والأدوية واللباس ومنافعُ الجماع والنَّوم تتخلَّفُ عنها آثارُها زمانًا ومكانًا وحالًا، وبحسَب القبول والاستعداد، فتكونُ نافعةً حسنةً في زمانٍ دون زمان، ومكانٍ دون مكان، وحالٍ دون حال، وفي حقِّ طائفةٍ أو شخصٍ دون غيرهم، ولم يخرجها ذلك عن كونها مقتضيةً لآثارها بقُواها وصفاتها. فهكذا أوامرُ الربِّ تبارك وتعالى وشرائعُه سواء؛ يكونُ الأمرُ مَنْشأ المصلحة ونافعًا للمأمور في وقتٍ دون وقت، فيأمرُ به تبارك وتعالى في الوقت الذي عَلِمَ أنه مصلحةٌ فيه، ثمَّ ينهى عنه في الوقت الذي يكون فعلُه فيه مفسدة، على نحو ما يأمرُ الطَّبيبُ بالدَّواء والحِمْية في وقتٍ هو مصلحةٌ للمريض، وينهاه عنه في الوقت الذي يكون تناولُه مفسدةً له. بل أحكمُ الحاكمين الذي بهرت حكمتُه العقولَ أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص، وهل وُضِعَت الشرائعُ إلا على هذا؟! فكان نكاحُ الأخت حسنًا في وقته حيث (1) لم يكن بدٌّ منه في التَّناسل وحفظ النَّوع الإنسانيِّ، ثمَّ صار قبيحًا لما استُغْنِي عنه فحرَّمه على عباده، فأباحه في وقتٍ كان فيه حسنًا، وحرَّمه في وقتٍ صار فيه قبيحًا. _________ (1) في الأصول: «حتى». والأشبه للسياق ولأسلوب المصنف ما أثبت. وقال شيخنا الإصلاحي: كثيرًا ما يقع تحريفٌ بين «حتى» و «حين»، أي بين الياء والنون. فالأقرب: «حين».

(2/929)


وكذلك كلُّ ما نسخَه تعالى من الشَّرع، بل الشريعةُ الواحدةُ كلُّها لا تخرجُ عن هذا، وإن خفي وجهُ المصلحة والمفسدة فيه على أكثر الناس. وكذلك إباحةُ الغنائم، كان قبيحًا في حقِّ من قبلنا؛ لئلَّا تحملهم إباحتُها على القتال لأجلها والعمل لغير الله، فتفوتَ عليهم مصلحةُ الإخلاص التي هي أعظمُ المصالح، فحمى أحكمُ الحاكمين جانبَ هذه المصلحة العظيمة بتحريمها عليهم؛ ليتمحَّض (1) قتالهم لله لا للدُّنيا؛ فكانت المصلحةُ في حقِّهم تحريمَها عليهم، ثمَّ لما أوجَد هذه الأمَّة (2) التي هي أكملُ الأمم عقولًا، وأرسخُهم إيمانًا، وأعظمُهم توحيدًا (3) وإخلاصًا، وأرغبُهم في الآخرة، وأزهدُهم في الدُّنيا= أباح لهم الغنائم، وكانت إباحتُها حسنةً بالنسبة إليهم وإن كانت قبيحةً بالنسبة إلى من قبلهم؛ فكانت كإباحة الطَّبيب اللَّحمَ للصَّحيح الذي لا يخشى عليه من مضرَّته، وحِمْيَته منه للمريض المَحْموم. وهذا الحكمُ فيما شُرِع في الشريعة الواحدة في وقتٍ ثمَّ نُسِخ في وقتٍ آخر، كالتَّخيير في الصَّوم في أوَّل الإسلام بين الإطعام وبينه، لمَّا كان غير مألوفٍ لهم ولا معتاد، والطِّباعُ تأباه، إذ هو هجرُ مألوفها ومحبوبها، ولم تَذُق بعدُ حلاوتَه وعواقبه المحمودة وما في طيِّه من المصالح والمنافع، وخيِّرت بينه وبين الإطعام، ونُدِبَت إليه، فلمَّا عَرَفَت علَّته (4) وألِفَتْهُ، وعرفت _________ (1) (ق): «ليتمحص». بالمهملة. (2) (ت): «الأمة العظيمة». (3) (ت): «وأعظمهم تعظيمًا». (4) في طرة (ق) تعليقًا: «يعني حكمته». وأُقحِمَ في متن (ط).

(2/930)


ما ضمنه من المصالح والفوائد= حُتِّمَ عليها عينًا، ولم يُقْبَل منها سواه؛ فكان التَّخييرُ في وقته مصلحةً، وتعيينُ الصَّوم في وقته مصلحةً، فاقتضت الحكمةُ البالغةُ شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛ لأنَّ المصلحة فيه في ذلك الوقت. وكذلك فرض الصَّلاة أوَّلًا ركعتين ركعتين، لما كانوا حَدِيثي عهدٍ بالإسلام، ولم يكونوا معتادين لها ولا ألِفَتْها طباعُهم وعقولهم، فُرِضت عليهم بوصف التخفيف، فلمَّا ذُلِّلت بها جوارحُهم، وطوَّعت (1) بها أنفسُهم، واطمأنت إليها قلوبهم، وباشرَت نعيمَها ولذَّتها وطِيبَها، وذاقت حلاوة عبودية الله فيها ولذَّة مناجاته= زِيدَت ضِعْفَها، وأُقِرَّت في السَّفر على الفرض الأوَّل؛ لحاجة المسافر إلى التخفيف، ولمشقَّة السَّفر عليه. فتأمَّل كيف جاء كلُّ حكمٍ في وقته مطابقًا للمصلحة والحكمة، شاهدًا لله بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، الذي بهرت حكمتُه العقولَ والألباب، وبدا على صفحاتها بأنَّ ما خالفها هو الباطل، وأنها هي عينُ المصلحة والصَّواب. ومِنْ هذا أمرُه سبحانه لهم بالإعراض عن الكافرين، وتركِ أذاهم، والصَّبر عليهم، والعفو عنهم، لمَّا كان ذلك عينَ المصلحة؛ لقلَّة عَدَد المسلمين، وضعف شوكتهم، وغلبة عدوِّهم، فكان هذا في حقِّهم إذ ذاك عينَ المصلحة، فلمَّا تحيَّزوا إلى دارٍ، وكثُر عددهم، وقَوِيَت شوكتُهم، وتجرَّأت أنفسُهم لمناجَزة عدوِّهم= أَذِنَ لهم في ذلك إذنًا من غير إيجابٍ عليهم؛ ليذيقهم حلاوة النَّصر والظَّفر، وعِزَّ الغلبة، وكان الجهادُ أشقَّ شيءٍ على النُّفوس، فجعله أوَّلًا إلى اختيارهم إذنًا لا حتمًا، فلمَّا ذاقوا عِزَّ النَّصر _________ (1) (ت): «تطوعت».

(2/931)


والظَّفر، وعرفوا عواقبه الحميدة، أوجبه عليهم حتمًا، فانقادوا له طوعًا ورغبةً ومحبة؛ فلو أتاهم الأمرُ به مفاجأةً على ضعفٍ وقلَّةٍ لنَفَروا عنه أشدَّ النِّفار. وتأمَّل الحكمة الباهرة في شرع الصَّلاة أوَّلًا إلى بيت المقدس، إذ كانت قبلةَ الأنبياء، فبُعِثَ بما بُعِثَ به الرسلُ وبما يعرفُه أهلُ الكتاب، وكان استقبالُ بيت المقدس مقرِّرًا لنبوَّته، وأنه بُعِثَ بما بُعِثَ به الأنبياءُ قبله، وأنَّ دعوتَه هي دعوةُ الرسل بعينها، وليس بِدْعًا من الرسل، ولا مخالفًا لهم، بل مصدِّقًا لهم، مؤمنًا بهم. فلمَّا استقرَّت أعلامُ نبوَّته في القلوب، وقامت شواهدُ صدقه من كلِّ جهة، وشَهِدَت القلوبُ له بأنه رسولُ الله حقًّا وإن أنكروا رسالته عنادًا وحسدًا وبغيًا، وعَلِمَ سبحانه أنَّ المصلحة له ولأمَّته أن يستقبلوا الكعبة البيتَ الحرام أفضل بقاع الأرض، وأحبَّها إلى الله، وأعظمَ البيوت وأشرفَها وأقدمَها= قرَّر قبله أمورًا كالمقدِّمات بين يديه (1)؛ لعِظَم شأنه: فذكر النَّسخَ أوَّلًا، وأنه إذا نَسَخَ آيةً أو حكمًا أتى بخيرٍ منه أو مثله، وأنه على كلِّ شيءٍ قدير، وأنَّ له ملك السَّموات والأرض. ثمَّ حذَّرهم التعنُّتَ على رسوله والإعراض، كما فعل (2) أهلُ الكتاب قبلهم. _________ (1) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 163)، و «زاد المعاد» (3/ 67). (2) (ت): «عما فعل». والمثبت أشبه. فهو يريد الآية: 108 من سورة البقرة، وفيها ذكر تعنت بني إسرائيل في سؤال موسى، واستبدال الكفر بالإيمان.

(2/932)


ثمَّ حذَّرهم من أهل الكتاب وعداوتهم وأنهم يودُّون لو ردُّوهم كفَّارًا، فلا يسمعوا منهم ولا يقبلوا قولهم. ثمَّ ذكر تعظيمَ دين الإسلام وتفضيلَه على اليهودية والنصرانية، وأنَّ أهله هم السُّعداءُ الفائزون لا أهل الأماني الباطلة. ثمَّ ذكر اختلاف اليهود والنصارى، وشهادة بعضهم على بعضٍ بأنهم ليسوا على شيء، فحقيقٌ بأهل الإسلام أن لا يقتدوا بهم، وأن يخالفوهم في هديهم الباطل. ثمَّ ذكر جُرْم من منع عبادَه من ذِكر اسمه في بيوته ومساجده، وأن يُعْبَد فيها، وظُلْمَه، وأنه بذلك ساعٍ في خرابها، لأنَّ عمارتها إنما هي بذكر اسمه وعبادته فيها. ثمَّ بيَّن أنَّ له المشرق والمغرب، وأنه سبحانه لعظمته وإحاطته حيث استقبل المصلي فثَمَّ وجهُه تعالى، فلا يظنَّ الظَّانُّ أنه إذا استقبل البيتَ الحرام خرج عن كونه مستقبلًا ربَّه وقبلته، فإنَّ الله واسعٌ عليم. ثمَّ ذكر عبودية أهل السَّموات والأرض له، وأنهم كلٌّ له قانتون. ثمَّ نبَّه على عدم المصلحة في موافقة أهل الكتاب، وأنَّ ذلك لا يعودُ باستصلاحهم، ولا يرجى معه إيمانهم، وأنهم لن يرضوا عنه حتى يتَّبِع ملَّتهم، وضِمنَ هذا تنبيهٌ لطيفٌ على أنَّ موافقتهم في القبلة لا مصلحة فيها، فسواءٌ وافقتهم فيها أو خالفتهم فإنهم لن يرضوا عنك حتى تتَّبِع ملَّتهم. ثمَّ أخبر أنَّ هداهُ هو الهدى الحقُّ، وحذَّره من اتباع أهوائهم.

(2/933)


ثمَّ انتقل إلى تعظيم إبراهيم (1) صاحب البيت وبانيه، والثَّناء عليه، وذِكْر إمامته للنَّاس، وأنه أحقُّ من اتُّبِع. ثمَّ ذكر جلالةَ البيت وفضلَه وشرفَه، وأنه أمنٌ للنَّاس ومَثابةٌ لهم يثوبون إليه ولا يقضون منه وَطَرًا. وفي هذا تنبيهٌ على أنه أحقُّ بالاستقبال من غيره. ثمَّ أمرهم أن يتَّخذوا من مقام إبراهيم مُصَلى. ثمَّ ذكر بناء إبراهيم وإسماعيل البيتَ، وتطهيرَه (2) بعَهْدِه وإذنه، ورفعَهما قواعدَه، وسؤالهما ربهما القبول منهما، وأن يجعلهما مسلمَيْن له، ويريهما مناسكهما، ويبعث في ذرِّيتهما رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة. ثمَّ أخبر عن جهل من رَغِبَ عن ملَّة إبراهيم وسَفَهه ونقصان عقله. ثمَّ أكَّد عليهم أن يكونوا على ملَّة إبراهيم، وأنهم إن خرجوا عنها إلى يهوديةٍ أو نصرانيةٍ أو غيرها كانوا ضُلَّالًا غير مهتدين. وهذه كلُّها مقدِّماتٌ بين يدي الأمر باستقبال الكعبة لمن تأمَّلها وتدبَّرها وعلم ارتباطها بشأن القبلة؛ فإنه يعلمُ بذلك عظمةَ القرآن وجلالتَه (3)، وتنبيهَه (4) على كمال دينه وحُسْنه وجلالته، وأنه هو عينُ المصلحة لعباده، لا _________ (1) (ق): «إلى إبراهيم». (2) (ق): «وتطهره». (3) (ت): «وجلالته» ليست في (ت). (4) سبحانه وتعالى.

(2/934)


مصلحة لهم سواه، وشَوَّق (1) بذلك النُّفوسَ إلى الشهادة له بالحُسْن والكمال والحكمة التَّامَّة. فلما قرَّر ذلك كلَّه أعلمهم بما سيقول السُّفهاءُ من النَّاس إذا تركوا قبلَتهم لئلَّا يَفْجَأهم مِنْ غير علمٍ به فيعظُم موقعُه عندهم، فلمَّا وقع لم يَهُلْهُم، ولم يصعُب عليهم، بل أخبر أنَّ له المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. ثمَّ أخبر أنه كما جعلهم أمَّةً وسطًا خيارًا اختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرَها، كما اختار لهم خيرَ الأنبياء، وشرع لهم خيرَ الأديان، وأنزل عليهم خيرَ الكتب، وجعلهم شهداء على النَّاس كلِّهم لكمال فضلهم وعلمهم وعدالتهم. وظهرت حكمتُه في أن اختار لهم أفضلَ قبلةٍ وأشرفَها؛ لتتكامل جهاتُ الفضل في حقِّهم بالقِبلة (2) والرسول والكتاب والشريعة. ثمَّ نبَّه سبحانه على حكمته البالغة في أن جعل القِبلة أوَّلًا هي بيتَ المقدس؛ ليعلمَ سبحانه واقعًا في الخارج ما كان معلومًا له قبل وقوعه ممَّن يتَّبعُ الرسول في جميع أحوالِه، وينقادُ له ولأوامر الربِّ تعالى ويَدِينُ بها كيف كانت وحيث كانت؛ فهذا هو المؤمنُ حقًّا الذي أعطى العبوديةَ حقَّها، ومن ينقلبُ (3) على عَقِبَيه ممَّن لم يَرْسَخ في الإيمان قلبُه، ولم يستقرَّ عليه _________ (1) (د): «وشوف». وفي طرتها: «لعله: وشوق». وهو تعبيرٌ معهودٌ من المصنف. انظر: «الفوائد» (282)، و «أيمان القرآن» (491)، و «طريق الهجرتين» (476). (2) (ت): «جهات الفضل في القبلة». (3) معطوفٌ على قوله: «ممن يتبع الرسول ... ».

(2/935)


قدمُه، فعارَض وأعرض ورجع على حافِرَته (1)، وشَكَّ في النُّبوَّة، وخالَط قلبَه شبهةُ الكفَّار الذين قالوا: إن كانت القبلةُ الأولى حقًّا فقد خرجتم عن الحقِّ، وإن كانت باطلًا فقد كنتم على باطل، وضاق عقلُه المنكوسُ عن القسم الثَّالث الحقِّ وهو أنها كانت حقًّا ومصلحةً في الوقت الأوَّل، ثمَّ صارت مفسدةً باطلةَ الاستقبالِ في الوقت الثَّاني. ولهذا أخبر سبحانه عن عِظَم شأن هذا التَّحويل والنَّسخ في القبلة، فقال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]. ثمَّ أخبر أنه سبحانه لم يكن يُضِيعُ ما تقدَّم لهم من الصَّلوات إلى القبلة الأولى، وأنَّ رأفتَه ورحمته بهم تأبى إضاعةَ ذلك عليهم وقد كان طاعةً لهم. فلما قرَّر سبحانه ذلك كلَّه وبيَّن حُسْنَ هذه الجهة بعظمة البيت وعُلوِّ شأنه وجلالته، قال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وأكَّد ذلك عليهم مرَّةً بعد مرَّة، اعتناءً بهذا الشأن، وتفخيمًا له، وأنه شأنٌ ينبغي الاعتناءُ به، والاحتفالُ بأمره. فتدبَّر هذا الاعتناءَ وهذا التقريرَ وبيانَ المصالح النَّاشئة من هذا الفرع من فروع الشريعة، وبيانَ المفاسد النَّاشئة من خلافه، وأنَّ كلَّ جهةٍ فهي في وقتها كان استقبالها هو المصلحة، وأنَّ للربِّ تعالى الحكمة البالغة في شَرْع القبلة الأولى وتحويل عبادِه عنها إلى المسجد الحرام. _________ (1) أي الطريق الذي جاء منه. «اللسان» (حفر). وهو من أمثال العرب، يضربُ للراجع إلى عادته السوء. انظر: «مجمع الأمثال» (1/ 308).

(2/936)


فهذا معنى كون الحُسْن والقُبح ذاتيًّا للفعل ناشئًا من ذاته، ولا ريبَ عند ذوي العقول أنَّ مثل هذا يختلفُ باختلاف الأزمان والأمكنة والأحوال والأشخاص. وتأمَّل حكمة الربِّ تعالى في أمره إبراهيمَ خليلَه - صلى الله عليه وسلم - بذبح ولده؛ لأنَّ الله ا تخذه خليلًا، والخُلَّة منزلةٌ تقتضي إفراد الخليل بالمحبة، وأن لا يكون له فيها منازعٌ أصلًا، بل تخلَّلت محبتُه جميعَ أجزاء القلب والرُّوح فلم يَبْقَ فيها موضعٌ خالٍ من حبِّه، فضلًا عن أن يكون محلًّا لمحبة (1) غيره. فلمَّا سأل إبراهيمُ الولدَ وأُعْطِيَه أخذ شعبةً من قلبه كما يأخذُ الولدُ شعبةً من قلب والده، فغار المحبوبُ على خليله أن يكون في قلبه موضعٌ لغيره، فأمره بذبح الولد ليُخْرِجَ حبَّه من قلبه ويكون الله أحبَّ إليه وآثر عنده، ولا يبقى في القلب سوى محبته، فوطَّن نفسَه على ذلك وعزم عليه، فخَلَصت (2) المحبة لوليِّها ومستحقِّها، فحصلت مصلحةُ المأمور به من العزم عليه وتوطين النَّفس على الامتثال، فبقي الذَّبحُ مفسدةً؛ لحصول المصلحة بدونه، فنسَخَه في حقِّه لمَّا صار مفسدة، وأمَره به لمَّا كان عزمُه عليه وتوطينُ نفسه مصلحةً لهما. فأيُّ حكمةٍ فوق هذا؟! وأيُّ لطفٍ وبرٍّ وإحسانٍ يزيدُ على هذا؟! وأيُّ مصلحةٍ فوق هذه المصلحة بالنسبة إلى هذا الأمر (3) ونَسْخِه؟! _________ (1) (ت): «محل المحبة». (2) (ت): «فحصلت». (3) «الأمر» ليست في (ق).

(2/937)


وإذا تأمَّلتَ أمرَ الشرائع النَّاسخة والمنسوخة وجدتها كلَّها بهذه المنزلة؛ فمنها ما يكون وجهُ المصلحة فيه ظاهرًا مكشوفًا، ومنها ما يكون ذلك فيه خفيًّا لا يُدْرَكُ إلا بفضل فطنةٍ وجودة إدراك. فصل وهاهنا سرٌّ بديعٌ من أسرار الخلق والأمر، به يتبيَّنُ لك حقيقةُ الأمر؛ وهو أن الله لم يخلق شيئًا ولم يأمر بشيءٍ ثمَّ أبطله وأعدمه بالكلِّية، بل لا بدَّ أن يثبته بوجهٍ ما؛ لأنه إنما خلقه لحكمةٍ له في خلقِه، وكذلك أمرُه به وشرعُه إياه هو لِمَا فيه من المصلحة. ومعلومٌ أنَّ تلك المصلحة والحكمة تقتضي إبقاءه، فإذا عارض تلك المصلحة مصلحةٌ أخرى أعظمُ منها كان ما اشتملت عليه أولى بالخلق والأمر، ويُبْقِي في الأولى (1) ما شاء من الوجه الذي يتضمَّنُ المصلحة، ويكونُ هذا من باب تزاحم المصالح، والقاعدةُ فيها شرعًا وخلقًا تحصيلُها واجتماعُها بحسب الإمكان، فإن تعذَّر قدِّمت المصلحةُ العظمى وإن فاتت الصُّغرى. وإذا تأمَّلتَ الشريعةَ والخلق رأيتَ ذلك ظاهرًا، وهذا سرٌّ قلَّ من تفطَّن له من النَّاس (2). فتأمَّل الأحكام المنسوخة حكمًا حكمًا، كيف تجدُ المنسوخَ لم يبطُل بالكلِّية، بل له بقاءٌ بوجه: _________ (1) (ت، ق): «ويبقى الأولى». والمثبت من (ط). (2) (ت): «قل من تفطن إليه».

(2/938)


* فمن ذلك: نسخُ القبلة وبقاءُ بيت المقدس معظَّمًا محترمًا، تُشَدُّ إليه الرِّحال، ويُقْصَدُ بالسَّفر إليه وحطِّ الأوزار عنده، واستقباله مع غيره من الجهات في السَّفر، فلم يبطُل تعظيمُه واحترامُه بالكلِّية، وإن بطل خصوصُ استقباله بالصَّلوات، فالقصدُ إليه ليصلَّى فيه باقٍ، وهو نوعٌ من تعظيمه وتشريفه بالصَّلاة فيه، والتوجُّهُ إليه قصدًا لفضيلته وشرفه (1) له نسبةٌ من التوجُّه إليه بالاستقبال في الصَّلوات. فقُدِّم البيتُ الحرام عليه في الاستقبال؛ لأنَّ مصلحتَه أعظمُ وأكمل، وبقي قصدُه وشدُّ الرحال إليه والصَّلاةُ فيه مَنْشَأً للمصلحة؛ فتمَّت للأمَّة المحمَّدية المصلحتان المتعلِّقتان بهذين البيتين (2)، وهذا نهايةُ ما يكونُ من اللُّطف وتحصيل المصالح وتكميلها لهم؛ فتأمَّل هذا الموضع. * ومن ذلك: نسخُ التَّخيير في الصَّوم بتعيينه؛ فإنَّ له بقاءً وبيانًا ظاهرًا، وهو أنَّ الرجل كان إذا أراد أفطر وتصدَّق، فحصلت له مصلحةُ الصَّدقة دون مصلحة الصَّوم، وإن شاء صام ولم يَفْدِ، فحصلت له مصلحةُ الصَّوم دون الصَّدقة، فحُتِّمَ الصَّومُ على المكلَّف لأنَّ مصلحته أتمُّ وأكملُ من مصلحة الفدية، ونُدِبَ إلى الصَّدقة في شهر رمضان؛ فإذا صام وتصدَّق حصلت له المصلحتان معًا، وهذا أكملُ ما يكونُ من الصَّوم، وهو الذي كان يفعلُه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان أجودَ ما يكونُ في رمضان (3)، فلم تبطُل المصلحةُ الأولى جملةً، بل قُدِّم عليها ما هو أكملُ منها وجوبًا، وشُرِع الجمعُ بينها وبين الأخرى ندبًا واستحبابًا. _________ (1) في الأصول: «وشرعه». ولعل المثبت أشبه. (2) (ت): «البيتين المعمورين». (3) أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308) من حديث ابن عباس.

(2/939)


* ومن ذلك: نسخُ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من العدوِّ بثباته للاثنين، ولم تبطُل الحكمةُ الأولى من كلِّ وجه، بل بقي استحبابُه وإن زال وجوبُه، بل إذا غلبَ على ظنِّ المسلمين ظفرُهم بعدوِّهم وهم عشرةُ أمثالهم وجبَ عليهم الثَّباتُ وحرُم عليهم الفرار (1)، فلم تبطُل الحكمةُ الأولى من كلِّ وجه. * ومن ذلك: نسخُ وجوب الصَّدقة بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لم يبطُل حكمُه بالكلِّية، بل نُسِخ وجوبُه، وبقي استحبابُه والنَّدبُ إليه وما عُلِم من تنبيهه وإشارته وهو أنه إذا استُحِبَّت الصَّدقةُ بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاةِ الله عند الصَّلوات والدُّعاء أولى، فكان بعضُ السَّلف الصَّالح يتصدَّقُ بين يدي الصَّلاة والدَّعاء إذا أمكنه، ويتأوَّلُ هذه الأولوية (2)، ورأيتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية يفعلُه ويتحرَّاه ما أمكنه (3)، وفاوضتُه فيه، فذكر لي هذا التَّنبيه والإشارة. * ومن ذلك: نسخُ الصَّلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس، فإنها لم تبطُل بالكلية، بل أُثبِتَت خمسين في الثَّواب والأجر، وجُعِلت خمسًا في العمل والوجوب، وقد أشار تعالى إلى هذا بعينه حيثُ يقول على لسان نبيِّه: «لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ، هي خمسٌ وهي خمسون في الأجر» (4). _________ (1) انظر: «المغني» (13/ 189)، و «بدائع الصنائع» (7/ 99). (2) انظر: «البداية والنهاية» (12/ 475). (3) انظر: «زاد المعاد» (1/ 407). (4) أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) في حديث الإسراء الطويل.

(2/940)


فتأمَّل هذه الحكمة البالغة والنعمة السَّابغة؛ فإنه لما اقتضت المصلحةُ أن تكون خمسين، تكميلًا للثَّواب وسَوْقًا لهم بها إلى أعلى المنازل، واقتضت أيضًا أن تكون خمسًا؛ لعجز الأمَّة وضعفهم وعدم احتمالهم الخمسين= جعلها خمسًا من وجهٍ وخمسين من وجه؛ جمعًا بين المصالح وتكميلًا لها. ولو لم تطَّلع (1) من حكمته في شرعه وأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لهم على أتمِّ الوجوه إلا على هذه الثَّلاثة وحدها لكفى بها دليلًا على ما وراءها. فسُبحان من له في كلِّ ما خلق وأمر حكمةٌ بالغةٌ شاهدةٌ (2) له بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنه الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين. * ومن ذلك: الوصيةُ للوالدين والأقربين؛ فإنها كانت واجبةً على من حضره الموتُ، ثمَّ نسخ الله ذلك بآية المواريث، وبقيت مشروعةً في حقِّ الأقارب الذين لا يَرِثون. وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه قولان للسَّلف والخلف، وهما في مذهب أحمد (3). فعلى القول الأوَّل بالاستحباب، إذا أوصى للأجانب دونهم صحَّت الوصية، ولا شيء للأقارب. وعلى القول بالوجوب فهل لهم أن يُبطِلوا وصية الأجانب ويختصُّوا (4) _________ (1) (ط): «نطلع». (2) (ت): «حكمة شاهدة». (3) انظر: «المغني» (8/ 390)، و «الإنصاف» (7/ 143). (4) (ق): «ويختصون». في الموضعين.

(2/941)


هم بالوصية، كما للورثة أن يُبطِلوا وصية الوارث، أو يُبطِلوا ما زاد على ثلث الثُّلث ويختصُّوا هم بثلثيه، كما للورثة أن يُبطِلوا ما زاد على ثلث المال من الوصية، ويكون الثُّلثُ في حقِّهم بمنزلة المال كلِّه في حقِّ الورثة؟ على وجهين (1). وهذا الثَّاني (2) أقْيسُ وأفقَه، وسرُّه أنَّ الثُّلثَ لما صار مستحقًّا لهم كان بمنزلة جميع المال في حقِّ الورثة، وهم لا يكونون أقوى من الورثة، فكما لا سبيل للورثة إلى إبطال الوصية بالثُّلث للأجانب، فلا سبيل لهؤلاء إلى إبطال الوصية بثلث الثُّلث للأجانب. وتحقيقُ هذه المسائل والكلام على مآخذها له موضعٌ آخر. والمقصودُ هنا أنَّ إيجابَ الوصية للأقارب وإن نُسِخ لم يبطُل بالكلِّية، بل بقي منه ما هو مَنْشَأ المصلحة ــ كما ذكرناه ــ، ونُسِخ منه ما لا مصلحة فيه، بل المصلحةُ في خلافه. * ومن ذلك: نسخُ الاعتداد في الوفاة بحولٍ بالاعتداد بأربعة أشهرٍ وعشر، على المشهور من القولين في ذلك، فلم تبطُل العِدَّة الأولى جملةً. * ومن ذلك: حبسُ الزَّانية في البيت حتى تموت؛ فإنه على أحد القولين لا نسخَ فيه؛ لأنه مُغَيًّا بالموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلًا (3)، وقد جعل الله لهنَّ سبيلًا بالحدِّ، وعلى القول الآخر هو منسوخٌ بالحدِّ، وهو عقوبةٌ من _________ (1) انظر: «التمهيد» (14/ 300)، و «المغني» (8/ 395). (2) أي القول بإبطال ما زاد على ثلث الثلث، واختصاص الأقارب بالثلثين. (3) انظر: «معالم السنن» (3/ 316)، و «أحكام القرآن» (354)، و «الناسخ والمنسوخ» (2/ 151) لابن العربي.

(2/942)


جنس عقوبة الحبس. فلم تبطُل العقوبةُ عنها بالكلِّية، بل نُقِلت من عقوبةٍ إلى عقوبة، وكانت العقوبةُ الأولى أصلحَ في وقتها؛ لأنهم كانوا حَدِيثي عهدٍ بجاهلية وزنًا، فأُمِروا بحبس الزَّانية أوَّلًا، ثمَّ لما استوطنت أنفسُهم على عقوبتها، وخرجوا عن عوائدهم الجاهلية، ورَكنوا إلى التَّحريم والعقوبة= نُقِلوا إلى أغلظُ من العقوبة الأولى، وهو الرجمُ والجلد؛ فكانت كلُّ عقوبةٍ في وقتها هي المصلحة التي لا يُصْلِحُهم سواها. وهذا الذي ذكرناه إنما هو في نسخ الحكم الذي ثبتَ شرعُه وأمرُه (1)، وأمَّا ما كان مُسْتَصْحَبًا بالبراءة الأصلية فهذا لا يلزمُ مِنْ رفعه بقاءُ شيءٍ منه؛ لأنه لم يكن مصلحةً لهم، وإنما أُخِّر عنهم تحريمُه إلى وقتٍ لضربٍ من المصلحة في تأخير التَّحريم، ولم يلزم من ذلك أن يكون مصلحةً حين فِعْلِهم إياه. وهذا كتحريم الرِّبا (2) والمُسْكِر وغير ذلك من المحرَّمات التي كانوا يفعلونها استصحابًا لعدم التَّحريم؛ فإنها لم تكن مصلحةً في وقت، ولهذا لم يشرعها الله تعالى، ولهذا كان رفعُها بالخطاب لا يسمَّى نسخًا، إذ لو كان ذلك نسخًا لكانت الشريعةُ كلُّها نسخًا (3)، وإنما النَّسخُ رفعُ الحكم الثَّابت بالخطاب، لا رفعُ مُوجَب الاستصحاب، وهذا متَّفقٌ عليه (4). _________ (1) (ق): «بشرعه وأمره». (2) (ت): «الزنا». (3) انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 311، 320). (4) انظر: «قواطع الأدلة» (3/ 69)، و «روضة الناظر» (1/ 284).

(2/943)


فصل وأمَّا ما خلقه سبحانه؛ فإنه أوجده لحكمةٍ في إيجاده، فإذا اقتضت حكمتُه إعدامَه جملةً أعدَمه، وأحدث بدله، وإذا اقتضت حكمتُه تبديلَه وتغييره وتحويله من صورةٍ إلى صورةٍ بدَّله وغيَّره وحوَّله، ولم يُعْدِمه جملة. ومن فَهِم هذا فَهِم مسألة المعاد وما جاءت به الرسلُ فيه؛ فإنَّ القرآن والسنَّة إنما دلَّا على تغيير العالم وتحويله وتبديله، لا جَعْلِه عدمًا محضًا وإعدامه بالكلِّية؛ فدلَّ على تبديل الأرض غيرَ الأرض والسَّموات، وعلى تشقُّق السَّماء وانفطارها، وتكوير الشمس، وانتثار الكواكب، وسَجْر البحار، وإنزال المطر على أجزاء بني آدم المختلطة بالتُّراب، فينبتون كما ينبتُ النَّبات، وتُردُّ تلك الأرواحُ بعينها إلى تلك الأجساد التي أُحِيلت (1) ثمَّ أُنشِئت نشأةً أخرى، وكذلك القبورُ تُبعثَر، وكذلك الجبالُ تُسَيَّر ثمَّ تُنسَفُ وتصيرُ كالعِهْن المنفوش، وتَقِيءُ الأرضُ (2) يوم القيامة أفلاذَ أكبادها أمثال الأُسطوان من الذَّهب والفضة (3)، وتُمَدُّ الأرض، وتدنو الشمسُ من رؤوس النَّاس. فهذا هو الذي أخبر به القرآنُ والسنَّة، ولا سبيل لأحدٍ من الملاحدة _________ (1) (ت): «أحييت». (2) (ت): «وتلقي الأرض». (3) كما ورد في «صحيح مسلم» (1013). والأسطوان: جمع أسطُوانة، وهي السارية والعمود. والمعنى: أن الأرض تلقي ما فيها من الكنوز. وقيل: ما رسخ فيها من العُروق المعدنية. انظر: «إكمال المعلم» (3/ 533)، و «شرح النووي» (7/ 98).

(2/944)


الفلاسفة وغيرهم إلى الاعتراض على هذا المعاد الذي جاءت به الرسلُ بحرفٍ واحد، وإنما اعتراضاتهم على المعاد الذي عليه طائفةٌ من المتكلِّمين أنَّ الرسلَ جاؤوا به، وهو أنَّ الله يُعْدِمُ أجزاءَ العالم العُلويِّ والسُّفليِّ كلَّها، فيجعلُها عدمًا محضًا، ثمَّ يعيدُ ذلك العدم وجودًا (1). ويا ليت شِعْري أين في القرآن والسنَّة أنَّ الله يُعْدِمُ ذرَّات العالم وأجزاءه جملةً، ثمَّ يقلِبُ ذلك العدم وجودًا؟! وهذا هو المعادُ الذي أنكرته الفلاسفةُ ورمتهُ بأنواع الاعتراضات وضروب الإلزامات، واحتاج المتكلِّمون إلى تعسُّف الجواب وتقريره (2) بأنواعٍ من المكابرات. وأمَّا المعادُ الذي أخبرت به الرسلُ فبريءٌ من ذلك كلِّه، مصُونٌ عنه، لا مطمع للعقل في الاعتراض عليه، ولا يقدحُ فيه شبهةً واحدة. وقد أخبر سبحانه أنه يحيي العظامَ بعد ما صارت رميمًا، وأنه قد عَلِمَ ما تنقُص الأرض من لحوم بني آدم وعظامهم، فيردُّ ذلك إليهم عند النَّشأة الثَّانية، وأنه ينشِاء تلك الأجساد بعينها بعد ما بَلِيَت نشأةً أخرى، ويَردُّ إليها تلك الأرواح؛ فلم يدلَّ القرآنُ على أنه يُعْدِم تلك الأرواح ويُفْنِيها حتى تصير عدمًا محضًا ثمَّ يخلقها خلقًا جديدًا (3)، ولا دلَّ على أنه يُفْنِي الأرضَ _________ (1) انظر: «الفوائد» (5)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 425، 16/ 277، 17/ 246 - 261)، و «الصفدية» (2/ 328)، و «النبوات» (1/ 316). (2) من قوله: «بأنواع الاعتراضات ... » إلى هنا ساقطٌ من (ت). (3) (ق): « ... ويرد إليها تلك الأرواح ويفنيها حتى تصير عدما محضا، فلم يدل القرآن على أنه يعدم تلك الأرواح ثم يخلقها خلقا جديدا». وفي (ط): « ... ويرد إليها تلك الأرواح، فلم يدل على أنه يعدم تلك الأرواح ويفنيها حتى تصير عدما محضا، فلم يدل القرآن على أنه يعدم تلك الأرواح ثم يخلقها خلقا جديدا». والمثبت من (ت، د).

(2/945)


والسَّموات ويُعْدِمها عدمًا صِرْفًا ثمَّ يجدِّد وجودَهما، وإنما دلَّت النُّصوصُ على تبديلهما وتغييرهما من حالٍ إلى حال. فلو أُعطِيَت النُّصوص حقَّها لارتفع أكثر النِّزاع من العالم، ولكن خَفِيَت النُّصوص، وفُهِمَ منها خلافُ مرادها، وانضافَ إلى ذلك تسليطُ الآراء عليها، واتِّباعُ ما تقضي به؛ فتضاعفَ البلاء، وعظُم الجهل، واشتدَّت المحنة، وتفاقَم الخَطب. وسببُ ذلك كلِّه الجهلُ بما جاء به الرسول، وبالمراد منه؛ فليس للعبد أنفعُ من سَمْع ما جاء به الرسولُ وعَقْل معناه، وأمَّا من لم يسمعه ولم يَعقِله فهو من الذين قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. فلنرجِع إلى الكلام على الدَّليل المذكور (1)؛ وهو: «أنَّ الحُسْن أو القُبح لو كان ذاتيًّا لما اختلف ... » إلى آخره. فنقول: قد بيَّنَّا أنَّ اختلافه بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والشُّروط لا يخرجه عن كونه ذاتيًّا (2). الثَّاني: أنه ليس المعنى مِنْ كونه ذاتيًّا إلا أنه ناشاءٌ من الفعل، فالفعلُ _________ (1) (ت): «فلنرجع إلى الدليل المذكور». (2) وهذا حاصل الوجه الأول، وهو ما مضى من (ص: 928) إلى هنا.

(2/946)


مَنْشؤه، وهذا لا يوجبُ اختلافه (1)، بدليل ما ذكرنا من الصُّور. الثَّالث: أنه يجوزُ اقتضاءُ الذَّات الواحدة لأمرين متنافيَيْن بحسب شرطين متنافيَيْن (2)، فتقتضي التَّبريدَ مثلًا في محلٍّ معيَّن بشرطٍ معيَّن، والتَّسخينَ في محلٍّ آخر بشرطٍ آخر، والجسمُ في حيِّزه يقتضي السُّكون، فإذا خرج عن حيِّزه اقتضى الحركة، واللحمُ يقتضي الصحَّة بشرط سلامة البدن من الحمَّى والمرض الممتنع منه الاغتذاء (3)، ويقتضي المرض بشرط كون الجسم محمومًا ونحوه. ونظائر ذلك أكثرُ من أن تحصى. فإن قيل: محلُّ النِّزاع أنَّ الفعلَ لذاته أو لوصفٍ لازمٍ له يقتضي الحُسْن والقُبح، والشرطان متنافيان يمتنعُ أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما وصفًا لازمًا؛ لأنَّ اللازمَ يمتنعُ انفكاكُ الشيء عنه. قيل: معنى كونه يقتضي الحُسْن والقُبْحَ لذاته أو لوصفه اللازم: أنَّ الحُسْن ينشأ من ذاته أو من وصفه (4) بشرطٍ معيَّن، والقُبحَ ينشأ من ذاته أو من وصفه بشرطٍ آخر، فإذا عُدِم شرطُ الاقتضاء، أو وُجِد مانعٌ يمنعُ اقتضاءه، زال الأمرُ المترتِّبُ بحسب الذَّات أو الوصف لزوال شرطه أو لوجود مانعه، وهذا واضحٌ جدًّا. _________ (1) كذا في الأصول. وصواب الكلام: لا يوجب عدم اختلافه باختلاف الأزمان والأماكن والأحوال. كما مر في الوجه الأول. (2) (ت): «بحسب اقتضاء شرطين متنافيين». (3) غير واضحة في (ق). وفي (ط): «الغذاء». أي: الذي يمنع الاغتذاء. (4) (ت، ق): «صفة». والمثبت من (ط).

(2/947)


الثَّالث (1): أنَّ قولكم: «يحسُن الكذبُ إذا تضمَّن عِصْمةَ نبيٍّ أو مسلم» (2)، فهذا فيه طريقان: أحدهما: لا نسلِّمُ أنه يحسُن الكذب، فضلًا عن أن يجب، بل لا يكون الكذبُ إلا قبيحًا، وأمَّا الذي يحسُن فالتَّعريض والتَّورية، كما وردت به السنَّة النَّبوية، كما عرَّض إبراهيمُ للملك الظالم بقوله: «هذه أختي» لزوجته، وكما قال: «إني سقيم» فعرَّض بأنه سقيمٌ قلبُه من شِرْكهم، أو سيسقَمُ يومًا ما، وكما فعل في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، فإنَّ الخبرَ والطَّلبَ كلاهما معلَّق بالشَّرط، والشرطُ متصلٌ بهما، ومع هذا فسمَّاها - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ كذبات (3)، وامتنع بها من مقام الشَّفاعة، فكيف تصحُّ دعواكم أنَّ الكذبَ يجبُ إذا تضمَّن عصمة مسلمٍ (4) مع ذلك؟! فإن قيل: كيف سمَّاها إبراهيمُ كذباتٍ وهي توريةٌ وتعريضٌ صحيح؟! قيل: لا يلزمنا جوابُ هذا السُّؤال، إذ الغرض إبطالُ استدلالكم، وقد حَصَل، فالجوابُ عنه تبرُّعٌ منَّا وتكميلٌ للفائدة، ولم أجد في هذا المقام للنَّاس جوابًا شافيًا يسكن القلبُ إليه، وهذا السُّؤال لا يختصُّ به طائفةٌ معيَّنة، بل هو واردٌ عليكم بعينه. _________ (1) كذا في الأصول. تكرر عدُّ الثالث، سهوًا. (2) انظر ما تقدم (ص: 927). (3) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371). (4) (ت): «نبي مسلم».

(2/948)


وقد فتحَ الله (1) الكريمُ بالجواب عنه، فنقول: [الكلام] له نسبتان؛ نسبةٌ إلى المتكلِّم وقصدِه وإرادته، ونسبةٌ إلى السَّامع وإفهام المتكلِّم (2) إياه مضمونه. فإذا أخبَر المتكلِّمُ بخبرٍ مطابقٍ للواقع، وقَصَد إفهامَ المخاطَب إياه= صَدَق بالنِّسبتين؛ فإنَّ المتكلِّم إن قَصَد الواقع وقَصَد إفهامَ المخاطَب فهو صدقٌ من الجهتين. وإن قَصَد خلافَ الواقع، وقَصَد مع ذلك إفهامَ المخاطَب خلافَ ما قَصَد (3)، بل معنًى ثالثًا لا هو الواقعُ ولا هو المراد= فهو كذبٌ من الجهتين بالنِّسبتين معًا. وإن قَصَد معنًى مطابِقًا صحيحًا، وقَصَد مع ذلك التَّعمية على المخاطَب وإفهامَه خلافَ ما قَصَده= فهو صدقٌ بالنِّسبة إلى قصدِه، كذبٌ بالنِّسبة إلى إفهامه. ومن هذا الباب التَّوريةُ والمعاريض، وبهذا (4) أطلق عليها إبراهيمُ الخليل - صلى الله عليه وسلم - اسمَ الكذب، مع أنه الصَّادقُ في خبره، ولم يخبِر إلا صدقًا (5). فتأمَّل هذا الموضعَ الذي أشكل على النَّاس. وقد ظهر بهذا أنَّ الكذبَ لا يكونُ قطُّ إلا قبيحًا، وأنَّ الذي يحسُن ويجبُ إنما هو التَّورية، وهي صدق، وقد يطلَق عليها الكذبُ بالنِّسبة إلى _________ (1) (ت، ق): «خلف الله». والمثبت من (ط). (2) (ت): «وإيهام المتكلم». (3) (ت): «ما وقع». (4) (ت): «ولهذا». (5) انظر بحث المعلمي في «التنكيل» (2/ 248 - 253)، و «أحكام الكذب».

(2/949)


الإفهام لا إلى الغاية (1). الطريق الثَّاني: أنَّ تخلُّف القُبح عن الكذب لفوات شرطٍ أو قيام مانعٍ يقتضي مصلحةً راجحةً على الصِّدق لا تخرجُه عن كونه قبيحًا لذاته، وتقريرُه (2) ما تقدَّم. وقد تقدَّم أنَّ الله سبحانه حرَّم الميتةَ والدَّمَ ولحمَ الخنزير للمفسدة التي في تناولها، وهي ناشئةٌ من ذوات هذه المحرَّمات، وتخلُّفُ التَّحريم عنها عند الضرورة لا يوجبُ أن تكون ذاتُها [غيرَ] (3) مقتضيةٍ للمفسدة التي حرِّمت لأجلها؛ فهكذا الكذبُ المتضمِّنُ نجاةَ نبيٍّ أو مسلم. الوجه الرابع: قوله: «لو كان ذاتيًّا لاجتمع النقيضان في صِدْق من قال: «لأكذبنَّ غدًا» وكذبِه ... » إلى آخره. جوابه: أنه متى يجتمعُ النقيضان: إذا كان الحُسْن والقُبح باعتبارٍ واحدٍ من جهةٍ واحدة، أو إذا كانا باعتبارين من جهتين، أو أعمَّ من ذلك؟ فإن عنيتُم الأوَّل فمسلَّم، ولكن لا نسلِّمُ الملازمة؛ فإنه لا يلزمُ من اجتماع الحُسْن والقُبح في الصُّورة المذكورة أن يكون لجهةٍ واحدةٍ واعتبارٍ واحد؛ فإنَّ اجتماع الحُسْن والقُبح فيهما باعتبارين مختلفين من جهتين متباينتَيْن، وهذا ليس بممتنع؛ فإنه إذا كان كذبًا كان قبيحًا بالنَّظر إلى ذاته، وحسنًا بالنَّظر إلى تضمُّنه صِدْق الخبر الأوَّل. ونظيره أن يقول: والله لأشربنَّ _________ (1) أي: القصد. وفي الأصول: «العناية». وهو تحريف. (2) (ق): «وتقديره». (ت): «وتقدير». (3) زيادة لازمة من (ط).

(2/950)


الخمر غدًا، أو: والله لأسرقنَّ هذا الثَّوبَ غدًا، ونحوه. وإن عنيتُم الثَّاني فهو حقٌّ، ولكن لا نسلِّم انتفاءَ اللازم. وإن عنيتُم الثَّالثَ منعنا الملازمةَ أيضًا على التقدير الأوَّل، وانتفاءَ اللازم على التقدير الثَّاني. وهذا واضحٌ جدًّا. الوجه الخامس: قوله: «القتلُ والضربُ حسنٌ إذا كان حدًّا أو قِصاصًا، وقبيحٌ في غيره، فلو كان ذاتيًّا لاجتمع النقيضان» = كلامٌ في غاية الفساد؛ فإنَّ القتل والضربَ واحدٌ بالنَّوع، فالقبيحُ منه ما كان ظلمًا وعدوانًا، والحسنُ منه ما كان جزاءً على إساءةٍ إمَّا حدًّا وإمَّا قِصاصًا، فلم يرجع الحُسْن والقُبح إلى واحدٍ بالعَيْن. ونظيرُ هذا: السُّجود؛ فإنه في غاية الحُسْن لذاته إذا كان عبوديةً وخضوعًا للواحد المعبود، وفي غاية القُبح إذا كان لغيره. ولو سلَّمنا أنَّ القتل والضربَ الواحدَ بالعَيْن إذا كان حدًّا أو قِصاصًا فإنه يكونُ حسنًا قبيحًا، لم يكن ذلك محالًا؛ لأنه باعتبارين؛ فهو حسنٌ لِمَا تضمَّنه من الزَّجر والنَّكال وعقوبة المستحقِّ، وقبيحٌ بالنَّظر إلى المقتول المضروب، فهو قبيحٌ له حسنٌ في نفسه، وهذا كما أنه مكروهٌ مبغوضٌ له، وهو محبوبٌ مرضيٌّ لفاعله والآمر به، فأيُّ محالٍ في هذا؟! فظهر أنَّ هذا الدَّليل فاسد، والله أعلم.

(2/951)


فصل فهذه أقوى أدلَّة النُّفاة، باعترافهم بضعف ما سواها، فلا حاجة بنا إلى ذكرها وبيان فسادها. فقد تبيَّن الصُّبحُ لذي عينَيْن، وجُلِيَت عليك المسألةُ رافلةً في حُلَل أدلَّتها الصَّحيحة، وبراهينها المستقيمة، ولا تَغْضُض طرفَ بصيرتك عن هذه المسألة، فإنَّ شأنها عظيمٌ وخَطْبها جسيم. * وقد احتجَّ بعضهم بدليلٍ أفسدَ من هذا كلِّه، فقالوا: لو حَسُنَ الفعلُ أو قَبُحَ لذاته أو لصفته لم يكن الباري تعالى مختارًا في الحكم؛ لأنَّ الحكمَ بالمرجوح على خلاف المعقول، فيلزمُ الآخر؛ فلا اختيار (1). وتقريرُ هذا الاستدلال ببيان الملازمة المذكورة أوَّلًا، وبيان انتفاء اللازم ثانيًا: أمَّا المقام الأوَّل، وهو بيانُ الملازمة: أنَّ الفعل لو حَسُنَ لذاته أو لصفته لكان راجحًا على القُبح في كونه متعلَّقًا للوجوب أو النَّدب، ولو قَبُحَ لذاته أو لصفته لكان راجحًا على الحُسْن في كونه (2) متعلَّقًا للتَّحريم أو الكراهة. فحينئذٍ؛ إمَّا أن يتعلَّق الحكمُ بالراجح المقتضي له، أو المرجوح المقتضي لضدِّه (3)، والثَّاني باطلٌ قطعًا؛ لاستلزامه ترجيحَ المرجوح، وهو _________ (1) انظر: «بيان المختصر» (1/ 303)، و «رفع الحاجب» (1/ 464). (2) (ت): «لكونه». (3) (ت): «إما أن يتعلق الحكم بالراجح المقتضي له أو بالمرجوح المقتضي له أو بالراجح المقتضي لضده».

(2/952)


باطلٌ بصريح العقل، فتعيَّن الأوَّلُ ضرورةً؛ فإذا كان تعلُّق الحكم بالراجحِ لازمًا ضرورةً لم يكن الباري مختارًا في حكمه (1). فتأمَّل هذه الشبهة ما أفسدَها وأبينَ بطلانها!، والعجبُ ممَّن يرضى لنفسه أن يحتجَّ بمثلها! وحَسْبك فسادًا لحجَّةٍ مضمونها أنَّ الله تعالى لم يَشْرَع السُّجود له وتعظيمَه وشكره، ويحرِّم السُّجودَ للصَّنم وتعظيمَه، لحُسْن هذا وقُبْح هذا، [بل] مع استوائهما، تفريقًا بين المتماثلين! فأيُّ برهانٍ أوضحُ من هذا على فساد هذه الشُّبهة الباطلة؟! الثَّاني (2): أن يقال: هذا يوجبُ أن تكون أفعالُه (3) كلُّها مستلزمةً للتَّرجيح بغير مرجِّح، إذ لو ترجَّح الفعلُ منها بمرجِّحٍ لَزِم عدمُ الاختيار بغير ما ذكرتم (4)، إذ الحكمُ بالمرجِّح لازم. فإن قيل: لا يلزمُ الاضطرار وتركُ الاختيار؛ لأنَّ المرجِّح هو الإرادة والاختيار. قيلَ: فهلَّا قَنِعتم بهذا الجواب منَّا وقلتم: إذا كان اختيارُه تعالى متعلِّقًا بالفعل لِمَا فيه من المصلحة الدَّاعية إلى فعله وشرعه، وتحريمُه له لِمَا فيه من المفسدة الدَّاعية إلى تحريمه والمنع منه؛ فكان الحكمُ بالراجح في _________ (1) انظر: «بيان المختصر» للأصفهاني (1/ 303). (2) أي الوجه الثاني في ردِّ هذه الشبهة. والأول هو تصوُّر مضمونها الفاسد. (3) (ت): «أن أفعاله». (4) (ط): «بعين ما ذكرتم».

(2/953)


الموضعين متعلِّقًا باختياره تعالى وإرادته، فإنه الحكيمُ في خلقه وأمره؛ فإذا عَلِم في الفعل مصلحةً راجحةً شرعه وأحبَّه وفرضه، وإذا عَلِم فيه مفسدةً راجحةً كَرِهه وأبغضه وحرَّمه. هذا في شرعه. وكذلك في خلقه؛ لم يفعل شيئًا إلا ومصلحتُه راجحةٌ وحكمتُه ظاهرة، واشتمالُه على المصلحة والحكمة التي فَعَله لأجلها لا ينافي اختيارَه، بل لا يتعلَّق بالفعل إلا لما فيه من المصلحة والحكمة، وكذلك تركُه لما فيه من خلاف حكمته. فلا يلزمُ من تعلُّق الحكم بالراجح أن لا يكون الحكمُ اختياريًّا؛ فإنَّ المختار الذي هو أحكمُ الحاكمين لا يختار إلا ما يكونُ على وَفْقِ الحكمة والمصلحة. الثَّالث: أنَّ قوله: «إذا لَزِم تعلُّق الحكم بالراجح لم يكن مختارًا» (1) تلبيسٌ؛ فإنه إنما تعلَّق بالراجح باختياره وإرادته، واختيارُه وإرادتُه اقتضت تعلُّقه بالراجح على وجه اللزوم، فكيف لا يكونُ مختارًا واختيارُه استلزم تعلُّق الحكم بالراجح؟! الرابع: أنَّ تعلُّق حكمه تعالى بالفعل المأمور به أو المنهيِّ عنه: إمَّا أن يكون جائزَ الوجود والعدم، أو راجحَ الوجود، أو راجحَ العدم. فإن كان جائزَ الطَّرفين لم يترجَّح أحدُهما إلا بمرجِّح، وإن كان راجحًا فالتَّعلُّق لازم؛ لأنَّ الحكمَ يمتنعُ ثبوتُه مع المساواة ومع المرجوحية. _________ (1) حكى المصنف القول بالمعنى، وقد تقدَّم بلفظٍ آخر.

(2/954)


أمَّا الأوَّل؛ فلاستلزامه التَّرجيحَ بلا مرجِّح. وأمَّا الثَّاني؛ فلاستلزامه ترجيحَ المرجوح؛ وهو باطلٌ بصريح العقل، فلا يثبتُ إلا مع المرجِّح التَّامِّ، وحينئذٍ فيلزم عدمُ الاختيار. وما تجيبون به عن الإلزام المذكور هو جوابكم بعينه عن شبهتكم التي استدللتُم بها (1). الخامس: أنَّ هذه الشبهة الفاسدة مستلزمةٌ لأحد الأمرين ولا بدَّ: إمَّا التَّرجيح بلا مرجِّح، وإمَّا أن لا يكونَ الباري تعالى مختارًا كما قررتم. وكلاهما باطل. السَّادس: أنها تقتضي أن لا يكونَ في الوجود قادرٌ مختارٌ إلا من يرجِّحُ أحدَ المتساويين على الآخر بلا مرجِّح، وأمَّا من رجَّح أحدَ الجائزين بمرجِّحٍ فلا يكونُ مختارًا. وهذا مِنْ أبطل الباطل، بل القادرُ المختارُ لا يرجِّحُ أحدَ مقدُورَيْه على الآخر إلا بمرجِّح (2)، وهو معلومٌ بالضرورة. * واحتجَّ النُّفاة أيضًا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ ووجهُ الاحتجاج بالآية أنه سبحانه نفى التَّعذيبَ قبل بعثة الرُّسل، فلو كان حُسْنُ الفعل وقبحُه ثابتًا له قبل الشَّرع لكان مرتكبُ القبيح وتاركُ الحسن فاعلًا للحرام وتاركًا للواجب؛ لأنَّ قبحَه عقلًا يقتضي تحريمَه عقلًا عندكم، وحُسْنَه عقلًا يقتضي وجوبَه عقلًا، فإذا فَعَل المحرَّم وتَرك الواجبَ استحقَّ العذابَ عندكم، والقرآنُ نصٌّ صريحٌ أنَّ الله لا يعذِّبُ بدون بعثة الرُّسل. _________ (1) (ت): «استلزمتم بها». (2) (ق، د، ت): «على الآخر لا المرجح». والمثبت من (ط).

(2/955)


فهذا تقريرُ الاستدلال احتجاجًا والتزامًا (1). ولا ريب أنَّ الآية حجَّةٌ على تناقض المثبتين إذا أثبتوا التَّعذيبَ قبل البعثة، فيلزم تناقضهم وإبطالُ جَمْعِهم بين هذين الحكمين: إثبات الحُسْن والقُبْح عقلًا، وإثبات التَّعذيب على ذلك بدون البعثة. وليس إبطالُ القول بمجموع الأمرين موجبًا لإبطال كلِّ واحدٍ منهما، فلعلَّ الباطل هو قولهم بجواز التَّعذيب قبل البعثة. وهذا هو المتعيِّن؛ لأنه خلافُ نصِّ القرآن، وخلافُ صريح العقل أيضًا، فإنَّ الله سبحانه إنما أقام الحجَّة على العباد برسله؛ قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فهذا صريحٌ بأنَّ الحجَّة إنما قامت بالرُّسل، وأنه بعد مجيئهم لا يكونُ للنَّاس على الله حجَّة، وهذا يدلُّ على أنه لا يعذِّبهم قبل مجيء الرُّسل إليهم؛ لأنَّ الحجَّة حينئذٍ لم تقُم عليهم. فالصَّوابُ في هذه المسألة إثباتُ الحُسْن والقُبح عقلًا، ونفيُ التَّعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرُّسل، فالحُسْن والقُبح العقليُّ لا يستلزمُ التَّعذيب، وإنما يستلزمه مخالفةُ المرسَلين. وأمَّا المعتزلةُ فقد أجابوا عن ذلك بأن قالوا: الحُسْن والقُبح العقليُّ يقتضي استحقاقَ العقاب على فعل القبيح وتركِ الحسن، ولا يلزم من استحقاق العقاب وقوعُه؛ لجواز العفو عنه. _________ (1) انظر: «بيان المختصر» (1/ 304)، و «رفع الحاجب» (1/ 465).

(2/956)


قالوا: ولا يَرِدُ هذا علينا حيث نَمْنَعُ (1) العفوَ بعد البعثة إذا أوعَد الربُّ على الفعل؛ لأنَّ العذابَ قد صار واجبًا بخبره، ومستَحقًّا بارتكاب القبيح، وهو سبحانه لم يحصُل منه إيعادٌ قبل البعثة، فلا يقبُح العفو؛ لأنه لا يستلزم خُلْفًا في الخبر، وإنما غايتُه تركُ حقٍّ له قد وجب قبل البعثة، وهذا حسن. والتحقيقُ في هذا أنَّ سببَ العقاب قائمٌ قبل البعثة، ولكن لا يلزمُ من وجود سبب العذاب حصولُه؛ لأنَّ هذا السَّببَ قد نَصَبَ اللهُ له شرطًا وهو بعثةُ الرُّسل، وانتفاءُ التَّعذيب قبل البعثة هو لانتفاء شرطه، لا لعدم سببه ومقتضِيه. وهذا فصلُ الخطاب في هذا المقام، وبه يزولُ كلُّ إشكالٍ في المسألة وينقشعُ غَيْمُها ويُسْفِرُ صُبْحُها، والله الموفق للصَّواب. * واحتجَّ بعضهم أيضًا بأن قال: لو كان الفعلُ حسنًا لذاته لامتنع من الشارع نسخُه قبل إيقاع المكلَّف له وقبل تمكُّنه منه؛ لأنه إذا كان حسنًا لذاته فهو مَنْشَأٌ للمصلحة الراجحة، فكيف يُنْسَخُ ولم تحصُل منه تلك المصلحة؟! وأجاب المعتزلةُ عن هذا بالتزامه، ومَنَعوا النَّسخَ قبل وقت الفعل (2)، ونازعهم جمهورُ هذه الأمَّة في هذا الأصل، وجوَّزوا وقوع النَّسخ قبل _________ (1) (ت، ق): «يمنع». (2) انظر: «المعتمد» لأبي الحسين البصري (1/ 407)، و «منهاج الوصول إلى معيار العقول» لابن المرتضى (440)، و «مجموع الفتاوى» (14/ 146، 17/ 198)، و «الأصفهانية» (705).

(2/957)


حضور وقت الفعل (1)، ثمَّ انقسموا قسمين: فنُفاة التَّحسين والتقبيح بنَوه على أصلهم. ومُثْبِتُو التَّحسين والتقبيح أجابوا عن ذلك بأنَّ المصلحة كما تنشأ من الفعل فإنها أيضًا قد تنشأ من العزم عليه وتوطين النَّفس على الامتثال، وتكونُ المصلحةُ المطلوبةُ هي العزمَ وتوطينَ النَّفس، لا إيقاعَ الفعل في الخارج، فإذا أُمِرَ المكلَّفُ بأمرٍ، فعَزم عليه وتهيَّأ له ووطَّن نفسَه على امتثاله، فحصلت المصلحةُ المرادةُ منه= لم يمتنع نسخُ الفعل وإن لم يوقِعْه؛ لأنه لا مصلحة له فيه. وهذا كأمر إبراهيمَ الخليل بذبح ولده؛ فإنَّ المصلحة لم تكن في ذبحه، وإنما كانت في استسلام الوالد والولد لأمر الله، وعَزْمِهما عليه، وتوطينهما أنفسَهما على امتثاله، فلما حصلت هذه المصلحةُ بقي الذَّبحُ مفسدةً في حقِّهما، فنسخَه الله ورفعه. وهذا هو الجوابُ الحقُّ الشافي في المسألة، وبه تتبيَّنُ الحكمةُ الباهرةُ في إثبات ما أثبته الله من الأحكام، ونَسْخ ما نسَخه منها بعد وقوعه ونَسْخ ما نسَخ منها قبل إيقاعه، وأنَّ له في ذلك كلِّه من الحِكَم البالغة ما تشهدُ له بأنه أحكمُ الحاكمين، وأنه اللطيفُ الخبير، الذي بهرت حكمتُه العقول، فتبارك الله ربُّ العالمين. * ومما احتجَّ به النُّفاة أيضًا: أنه لو حَسُنَ الفعلُ أو قَبُحَ لغير الطَّلب لم يكن تعلُّق الطَّلب لنفسه؛ لتوقُّفه على أمرٍ زائد. _________ (1) انظر: «البرهان» (2/ 1303)، و «المستصفى» (1/ 215)، و «قواطع الأدلة» (3/ 110)، و «الفنون» (1/ 199)، وغيرها.

(2/958)


وتقريرُ هذه الحجَّة: أنَّ حُسْنَ الفعل وقبحَه لا يجوزُ أن يكون لغير نفس الطَّلب، بل لا معنى لحُسْنه إلا كونُه مطلوبًا للشارع إيجادُه، ولا لقُبحه إلا كونُه مطلوبًا له إعدامُه، لأنه لو حَسُنَ وقَبُحَ لمعنًى غير الطَّلب الشرعيِّ لم يكن الطَّلبُ متعلِّقًا بالمطلوب لنفسه، بل كان التعلُّق لأجل ذلك المعنى، فيتوقَّفُ الطَّلبُ على حصول الاعتبار الزَّائد على الفعل. وهذا باطل؛ لأنَّ التعلُّق نسبةٌ بين الطَّلب والفعل، والنسبةُ بين الأمرين لا تتوقَّفُ إلا على حصولهما، فإذا حَصَل الفعلُ تعلَّق الطَّلبُ به، سواءٌ حصل فيه اعتبارٌ زائدٌ على ذاته أو لا. فإن قلتم: الطَّلبُ وإن لم يتوقَّف إلا على الفعل المطلوب والفاعل المطلوب منه (1)، لكنَّ تعلُّقه بالفعل متوقِّفٌ على جهة الحُسْن والقُبح المقتضي لتعلُّق الطَّلب به. قلنا: الطَّلبُ قديم، والجهةُ الموجِبةُ للحُسن والقُبح حادثة، ولا يصحُّ توقُّف القديم على الحادث. وسرُّ الدَّليل: أنَّ تعلُّق الطَّلب بالفعل ذاتيٌّ، فلا يجوز أن يكون معلَّلًا بأمرٍ زائدٍ على الفعل، إذ لو كان تعلُّقه به معلَّلًا لم يكن ذاتيًّا. وهذا وجهُ تقرير هذه الشُّبهة وإن كان كثيرٌ من شُرَّاح «المختصر» (2) لم _________ (1) (ت): «إلا على الفعل والفاعل المطلوب منه». (2) «مختصر ابن الحاجب». انظر: «بيان المختصر» (1/ 303)، و «رفع الحاجب» (1/ 464)، و «شرح العضد» (1/ 209)، و «الردود والنقود» للبابرتي (ت: 786) (1/ 330) وهو أقربهم تقريرًا لما ذكره ابن القيم.

(2/959)


يفهموا تقريرها على هذا الوجه فقرَّروها على وجهٍ آخر لا يفيدُ شيئًا (1). وبعدُ؛ فهي شبهةٌ فاسدةٌ من وجوه: أحدهما: أن يقال: ما تعنُون بأنَّ تعلُّق الطَّلب بالفعل ذاتيٌّ له؟ أتعنُون به أنَّ التَّعلُّق مُقَوِّمٌ لماهية الطَّلب، وأنَّ تقوُّم الماهية به كتقوُّمها بجِنْسها وفَصْلِها؟ أم تعنُون به أنه لا تُعْقَلُ ماهيةُ الطَّلب إلا بالتَّعلُّق المذكور؟ أم أمرًا آخر؟ فإن عنيتم الأوَّل، والتَّعلُّق نسبةٌ إضافية، وهي عَدَمِية عندكم لا وجود لها في الأعيان؛ فكيف تكونُ النِّسبةُ العدمية مُقَوِّمةً للماهية الوجودية، وأنتم تقولون: إنه ليس لمتعلَّق الطَّلب من الطَّلب صفةٌ ثبوتية؛ لأنَّ هذا هو الكلامُ النفسيُّ، وليس لمتعلَّق القول فيه صفةٌ ثبوتية؟! وإن عنيتم الثَّاني؛ فلا يلزمُ من ذلك توقُّف الطَّلب على اعتبارٍ زائدٍ على الفعل يكون ذلك الاعتبارُ شرطًا في الطَّلب. وإن عنيتم أمرًا ثالثًا فلا بدَّ من بيانه، وعلى تقدير بيانه فإنه لا ينافي توقُّفَ التَّعلُّق على الشرط المذكور. الثَّاني: أنَّ غاية ما قرَّرتموه أنَّ التَّعلُّق ذاتيٌّ للطَّلب، والذَّاتيُّ لا يعلَّل، كما ادَّعيتموه في المنطق دعوى مجرَّدة، ولم تقرِّروه، ولم تبيِّنوا ما معنى كونه غيرَ معلَّل، حتى ظنَّ بعض المقلِّدين المنطقيِّين (2) أنَّ معناه ثبوتية الذَّات لنفسه بغير واسطة. وهذا في غاية الفساد، لا يقولُه من يدري ما يقول، _________ (1) (ت): «على وجه آخر طوله لا يفيد شيئًا». (2) (ط): «من المنطقيين».

(2/960)


وإنما معناه: أنه لا تحتاجُ الذَّاتُ في اتصافها به (1) إلى علَّةٍ مغايرةٍ لعلَّة وجودها، بل علَّة وجودها هو علةُ الذَّاتيِّ (2)؛ فهذا معنى كونه غير معلَّلٍ بعلَّةٍ خارجيةٍ عن علَّة الذَّات، بل علَّةُ الذَّات علَّتُه. وليس هذا موضع استقصاء الكلام على ذلك (3). والمقصودُ أنَّ كون التَّعلُّق ذاتيًّا للطَّلب فلا يعلَّل بغير علَّة الطَّلب لا ينافي توقُّفه على شرط، فهَب أنَّ صفة الفعل لا تكونُ علَّةً للتَّعلُّق، فما المانعُ أن تكون شرطًا له، ويكون تعلُّق الطَّلب بالفعل مشروطًا بكونه على الجهة المذكورة، فإذا انتفت تلك الجهةُ انتفى التَّعلُّق لانتفاء شرطه؟ وهذا مما لم يتعرَّضوا لبطلانه أصلًا، ولا سبيل لكم إلى إبطاله. الثَّالث: أنَّ قولكم: «الطَّلبُ قديم، والجهةُ المذكورة حادثةٌ للفعل، ولا يصحُّ توقُّف القديم على الحادث» كلامٌ في غاية البطلان؛ فإنَّ الفعل المطلوبَ حادث، والطَّلبُ متوقِّفٌ عليه، إذ لا تتصوَّرُ ماهية الطَّلب بدون المطلوب، فما كان جوابكم عن توقُّف الطَّلب على الفعل الحادث فهو جوابنا عن توقُّفه على جهة الفعل الحادثة؛ فإنَّ جهته لا تزيدُ عليه، بل هي صفةٌ من صفاته. فإن قلتم: التوقُّف هاهنا إنما هو لتعلُّق الطَّلب بالمطلوب، لا لنفس _________ (1) (ت): «في إثباتها به». (2) (ط): «بل علة وجودها هي علة اتصاف الذات». (3) انظر: «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا بشرح الطوسي (1/ 152). وهذا أحد فروقٍ ثلاثة يذكرها المناطقة للتفريق بين الذاتيِّ والعرضي، وهو تفريقٌ عسرٌ باعتراف محققيهم.

(2/961)


الطَّلب، ولا محذور (1) في توقُّف التَّعلُّق؛ لأنه حادث. قلنا: فهلَّا قَنِعتُم بهذا الجواب في صفة الفعل، وقلتم: التَّوقُّف على الجهة المذكورة هو محذور توقُّف التَّعلُّق (2)، لا توقُّف نفس الطَّلب (3)، فنسبةُ التَّعلُّق إلى جهة الفعل كنسبته إلى ذاته، ونسبةُ الطَّلب إلى الجهة كنسبته إلى نفس الفعل سواءً بسواء، فنسبةُ القديم إلى أحد الحادثَيْن كنسبته إلى الآخر، ونسبةُ تعلُّقه بأحد الحادثَيْن كنسبة تعلُّقه بالآخر، فتبيَّن فسادُ الدَّليل المذكور. وحَسْبك بمذهبٍ فسادًا استلزامُه جوازَ ظهور المعجزة على يد الكاذب، وأنه ليس بقبيح، واستلزامُه جوازَ نسبة الكذب إلى أصدق الصَّادقين، وأنه لا يَقْبُح منه، واستلزامُه التَّسويةَ بين التَّثليث والتَّوحيد في العقل، وأنه قبل ورود النُّبوَّة لا يَقْبُح التَّثليث، ولا عبادةُ الأصنام، ولا مَسَبَّة المعبود، ولا شيءٌ من أنواع الكفر، ولا السَّعيُ في الأرض بالفساد، ولا تقبيحُ شيءٍ من القبائح أصلًا. وقد التزم النُّفاة ذلك، وقالوا: إنَّ هذه الأشياء لم تَقْبُح عقلًا، وإنما جهة قُبحِها السَّمعُ فقط، وأنه لا فرق قبل السَّمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضدِّ ذلك، ولا بين شُكره بما يَقْدِرُ عليه العبدُ وبين ضدِّه، ولا بين الصِّدق والكذب، والعفَّة والفُجور، والإحسان إلى العالَم والإساءة إليهم بوجهٍ ما، وإنما التَّفريقُ بالشرع بين متماثلَيْن من كلِّ وجه. _________ (1) (ق، ت): «تجدون». وهو تحريف. وصوِّبت في طرة (د). (2) (د، ت): «هو توقف التعلق». (3) في (ط) زيادة: «معه». وهي مشتبهة في (ق)، وليست في (د، ت).

(2/962)


وقد كان تصوُّر هذا المذهب على حقيقته كافيًا في العلم ببطلانه وأن لا يُتكلَّف ردُّه، ولهذا رَغِبَ عنه فحولُ الفقهاء والنُّظَّار من الطَّوائف كلِّهم: * فأطبق أصحابُ أبي حنيفة على خلافه، وحَكَوه عن أبي حنيفة نصًّا (1). * واختاره من أصحاب أحمد: أبو الخطَّاب (2)، وابن عقيل (3)، وأبو يعلى الصَّغير (4)، ولم يقل أحدٌ من متقدِّميهم بخلافه، ولا يمكنُ أن يُنقَل عنه (5) حرفٌ واحدٌ موافقٌ للنُّفاة. _________ (1) انظر: «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (245)، و «تيسير التحرير» (1/ 383، 2/ 150)، و «البحر المحيط» (1/ 141، 146)، و «درء التعارض» (7/ 457، 9/ 49، 62)، و «النبوات» (675)، و «الجواب الصحيح» (2/ 309)، و «الأصفهانية» (704). (2) محفوظ بن أحمد الكلوذاني (ت: 510). وهو يوافق المعتزلة في الإيجاب العقلي في العِلميَّات، واستحقاق عذاب الآخرة بمجرد مخالفته. انظر كتابه: «التمهيد» (4/ 287، 295)، و «العدة» لأبي يعلى (1257)، و «الجواب الصحيح» (2/ 296، 311)، و «درء التعارض» (9/ 59)، وما سيأتي (ص: 1121). (3) أبو الوفاء (ت: 513). وظاهر كلامه في «الواضح» (5/ 259، 269) نفيُ التحسين والتقبيح. وهو المنقول عنه. انظر: «المسودة» (867)، و «درء التعارض» (7/ 457)، و «نقض التأسيس» (1/ 214)، و «النبوات» (675). (4) محمد بن القاضي أبي خازم بن شيخ المذهب القاضي أبي يعلى بن الفراء (ت: 560). انظر: «السير» (20/ 353)، و «المقصد الأرشد» (2/ 500). وله كتابٌ في أصول الدين. انظر: «نقض التأسيس» (1/ 201). (5) أي: عن الإمام أحمد. وانظر: «المعتمد» للقاضي أبي يعلى (21)، و «العدة» (1259)، و «التمهيد» لأبي الخطاب (4/ 295)، و «درء التعارض» (9/ 51)، و «الأصفهانية» (704). وفي (ط): «ينقل عنهم» أي متقدمي أصحاب أحمد.

(2/963)


* واختاره من أئمَّة الشافعية: الإمام أبو بكرٍ محمَّد بن علي بن إسماعيل القفَّال الكبير (1)، وبالغ في إثباته (2)، وبنى كتابه «محاسن الشريعة» عليه، وأحسنَ فيه ما شاء، وكذلك الإمام سعدُ بن علي الزَّنجاني (3) بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعريِّ القولَ بنفي التَّحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد (4)، وكذلك أبو القاسم الراغب (5)، وكذلك أبو عبد الله الحَلِيميُّ (6)، وخلائقُ لا يحصون. _________ (1) (ت: 365). انظر: «السير» (16/ 283). واتُّهم بأن له ميلًا إلى الاعتزال؛ لقوله في هذه المسألة. وانظر في الاعتذار عنه: «البحر المحيط» (1/ 140)، و «الإبهاج» للسبكي (1/ 138)، و «طبقات الشافعية الكبرى» (3/ 202). (2) حتى صار قوله قريبًا من قول المعتزلة. انظر: «البحر المحيط» (1/ 139). (3) الإمام العلامة، شيخ الحرم (ت: 471). انظر: «السير» (18/ 385)، و «الأنساب» (6/ 307). (4) ذكر ذلك في شرح قصيدته في السنَّة. انظر: «منهاج السنة» (1/ 450)، و «درء التعارض» (9/ 50)، و «الأصفهانية» (704)، و «التسعينية» (909)، و «الرد على المنطقيين» (421). وانظر قول الأشعري في رسالته لأهل الثغر (74)، و «اللمع» (117). وممن بالغ في الإنكار على الأشعري: السجزي (ت: 444) في رسالته لأهل زبيد (95، 139). (5) تقدمت ترجمته (ص: 54). وانظر: كتابيه: «تفصيل النشأتين» (142)، و «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (272). (6) الحسين بن الحسن بن محمد، من أئمة الشافعية (ت: 403). انظر: «السير» (17/ 231)، و «طبقات الشافعية الكبرى» (4/ 333). ونقل عنه هذا القول السمعانيُّ في «القواطع» (3/ 400).

(2/964)


وكلُّ من تكلَّم في عِلَل الشرع ومحاسنه وما تضمَّنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنُه ذلك إلا بتقرير الحُسْن والقُبح العقليَّين؛ إذ لو كان حُسْنُه وقُبْحُه بمجرَّد الأمر والنهي لم يتعرَّض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط، وعلى تصحيح الكلام في القياس (1) وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطَّردية التي لا مناسبة فيها، فيجعل الأوَّلَ ضابطًا للحكم دون الثَّاني= إلا على إثبات هذا الأصل (2)؛ فلو تساوت الأوصافُ في أنفسها لانسدَّ بابُ القياس والمناسبات والتَّعليل بالحِكَم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثِّرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها. فصل وإذ قد انتهينا في هذه المسألة إلى هذا الموضع ــ وهو بَحْرُها ومُعْظَمُها ــ فلنذكر سِرَّها وغايتَها وأصولها التي أُثبِتَت عليها، فبذلك تتمُّ الفائدة؛ فإنَّ كثيرًا من الأصوليِّين ذكروها مجرَّدةً ولم يتعرَّضوا لسِرِّها وأصلها الذي أُثبِتَت عليه، وللمسألة ثلاثةُ أصولٍ هي أساسُها: الأصل الأوَّل: هل أفعالُ الربِّ تعالى وأوامرُه معلَّلةٌ بالحِكَم والغايات؟ وهذه مِنْ أجلِّ مسائل التَّوحيد (3) المتعلِّقة بالخلق والأمر، بالشَّرع والقدر. الأصل الثَّاني: أنَّ تلك الحِكَم المقصودة فعلٌ يقومُ به سبحانه قيامَ _________ (1) معطوفٌ على قوله: «وكل من تكلم في علل الشرع ... ». (2) أي: لا يمكن المتكلم على تصحيح القياس ذلك إلا بإثبات الحسن والقبح. (3) (ت): «وهذه من أصل التوحيد».

(2/965)


الصِّفة به، فيرجع إليه حكمُها، ويُشتقُّ له اسمُها، أم يرجع إلى المخلوق فقط مِنْ غير أن يعود إلى الربِّ منها حكمٌ أو يُشتقَّ له منها اسم؟ الأصل الثَّالث: هل تعلُّق إرادة الربِّ تعالى بجميع الأفعال تعلُّقٌ واحد، فما وُجِد منها فهو مرادٌ له محبوبٌ مَرْضِيٌّ، طاعةً كان أو معصية، وما لم يوجَد منها فهو مكروهٌ له مبغوضٌ غيرُ مراد؛ طاعةً كان أو معصية، أم هو يحبُّ الأفعال الحسنة التي هي مَنْشَأ المصالح وإن لم يشأ تكوينَها وإيجادها (1)؛ لأنَّ في مشيئته لإيجادها فَوَاتَ حكمةٍ أخرى هي أحبُّ إليه منها، ويبغض الأفعال القبيحة التي هي مَنْشَأ المفاسد ويمنعُها ويمقتُ أهلَها وإن شاء تكوينَها وإيجادها؛ لما تستلزمه من حكمةٍ ومصلحةٍ هي أحبُّ إليه منها ولا بدَّ من توسُّط هذه الأفعال في وجودها؟ فهذه الأصولُ الثَّلاثةُ عليها مدار هذه المسألة ومسائلِ القدر والشرع (2). وقد اختلف النَّاسُ فيها قديمًا وحديثًا إلى اليوم: * فالجبرية تنفي الأصول الثَّلاثة، وعندهم أنَّ الله لا يفعلُ لحكمة، ولا يأمرُ لها، ولا يدخُل في أمره وخلقه لامُ التَّعليل بوجهٍ، وإنما هي لامُ العاقبة، _________ (1) النصُّ مضطربٌ في الأصول، رُسِمَت بعض كلماته رسمًا. (د): «طاعة كان أو معصية مما شاء وجوده التي هي منشأ المصالح منها فهو وان لم يشأ تكوينها وإيجادها». (ق): «طاعة كان أو معصية مما شاء وجوده التي هي منشأ المصالح منها فهذه وان لم يشأ تكوينها وإيجادها». (ت): «طاعة كان أو معصية مما شاء ووجه التي هي منشأ المصالح منها وان لم يشأ تكوينها وإيجادها». والمثبت من (ط) مع تعديل. (2) (ت): «بل ومسائل الشرع والقدر».

(2/966)


كما لا يدخُل في أفعاله باءُ السَّببية، وإنما هي باء المصاحَبة. ومنهم من يثبتُ الأصل الثَّالث وينفي الأصلين الأوَّلين، كما هو أحدُ القولين للأشعريِّ، وقولُ كثيرٍ من أئمَّة أصحابه، وأحدُ القولين لأبي المعالي (1). * والمشهورُ من مذهب المعتزلة إثباتُ الأصل الأوَّل، وهو التَّعليلُ بالحِكَم والمصالح، ونفيُ الثَّاني؛ بناءً على قواعدهم الفاسدة في نفي الصِّفات. فأمَّا الأصلُ الثَّالث فهم فيه ضدُّ الجبرية من كلِّ وجه؛ فهما طرفا نقيض؛ فإنهم لا يثبتون لأفعال العباد سوى المحبة لحَسَنها والبِغْضة لقبيحها، وأمَّا المشيئةُ لها فعندهم أنَّ مشيئة الله لا تتعلَّق بها، بناءً منهم على نفي خلق أفعال العباد، فليست عندهم إرادةُ الله لها إلا بمعنى محبَّته لحَسَنها فقط، وأمَّا قبيحُها فليس مرادًا لله بوجه. وأمَّا الجبرية فعندهم أنه لم يتعلَّق بها سوى المشيئة والإرادة، وأمَّا المحبة عندهم فهي نفسُ الإرادة والمشيئة، فما شاءه فقد أحبَّه ورَضِيَه. * وأمَّا أصحابُ القول الوسط ــ وهم أهلُ التَّحقيق من الأصوليِّين والفقهاء والمتكلِّمين ــ فيثبتون الأصول الثَّلاثة؛ فيثبتون الحكمة المقصودة بالفعل في أفعاله تعالى وأوامره، ويجعلونها عائدةً إليه حكمًا، ومشتقًّا له اسمُها، فالمعاصي كلُّها ممقوتةٌ مكروهةٌ وإن وقعت بمشيئته وخلقه، والطَّاعاتُ كلُّها محبوبةٌ له مرضيةٌ وإن لم يشأها ممَّن لم يُطِعه ومن وُجِدَت _________ (1) (ت): «عن أبي المعالي».

(2/967)


منه (1)، فقد تعلَّق بها المشيئةُ والحبُّ؛ فما لم يوجد من أنواع المعاصي فلم تتعلَّق به مشيئتُه ولا محبتُه، وما وُجِد منها تعلَّقت به مشيئتُه دون محبَّته، وما لم يوجد من الطاعات المقدورة تعلَّق بها محبتُه دون مشيئته، وما وُجِد منها تعلَّق به محبتُه ومشيئتُه. ومن لم يُحْكِم هذه الأصول الثَّلاثة لم يستقرَّ له في مسائل الحِكَم والتعليل والتحسين والتقبيح قَدَم. بل لا بدَّ من تناقضه، ويتسلَّطُ عليه خصومه من جهة نفيه لواحدٍ منها. ولهذا لما رأى القَدَرِيةُ الجَبْرية (2) أنهم لو سلَّموا للمعتزلة شيئًا من هذا تسلَّطوا عليهم به، سَدُّوا على أنفسهم البابَ بالكلِّية، وأنكروها جملةً، فلا حكمة عندهم ولا تعليل، ولا محبة تزيدُ على المشيئة. ولما أنكر المعتزلةُ رجوعَ الحكمة إليه تعالى سلَّطوا عليهم خصومَهم فأبدَوا تناقضهم وكشفوا عوراتهم. ولما سلك أهلُ السُّنَّة القول الوسط، وتوسَّطوا بين الفريقين، لم يطمع أحدٌ في مناقضتهم ولا في إفساد قولهم. وأنت إذا تأمَّلتَ حججَ الطَّائفتين وما ألزمتْه كلٌّ منهما للأخرى علمتَ أنَّ من سلك القول الوسط لم يلزمه شيءٌ من إلزاماتهم ولا تناقضهم، والحمد لله ربِّ العالمين، هادي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. _________ (1) (ت): «وإن وجدت منه». (2) يعني: الأشاعرة. وفي (ق): «القدرية والجبرية». وهو خطأ. والمعتزلة هم القدرية النفاة. وسيذكرهما المصنف فيما يأتي (ص: 1096).

(2/968)


فصل وقد سلَّم كثيرٌ من النُّفاة أنَّ كونَ الفعل حسنًا أو قبيحًا بمعنى الملاءمة والمنافرة والكمال والنقصان= عقليٌّ. وقال: نحن لا ننازعكم في الحُسْن والقُبح بهذين الاعتبارين، وإنما النزاعُ في إثباته عقلًا، بمعنى كونه متعلَّق المدح والذَّمِّ عاجلًا، والثَّواب والعقاب آجلًا، فعندنا لا مَدْخَل للعقل في ذلك، وإنما يُعْلَمُ بالسَّمع المجرَّد. قال هؤلاء: فيطلَق الحُسْن والقُبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وهو عقليٌّ، وبمعنى الكمال والنقصان وهو عقليٌّ (1)، وبمعنى استلزامه للثَّواب والعقاب وهو محلُّ النزاع (2). وهذا التفصيلُ لو أُعطِي حقَّه والتُزِمَت لوازمُه رُفِع النزاع، وأعاد المسألة اتفاقية؛ فإنَّ كونَ الفعل (3) صفة كمالٍ أو نقصانٍ يستلزمُ إثباتَ تعلُّق الملاءمة والمنافَرة؛ لأنَّ الكمال محبوبٌ للعالم به، والنقصَ مبغوضٌ له، ولا معنى للملاءمة والمنافرة إلا الحبُّ والبغض؛ فإنَّ الله سبحانه يحبُّ الكاملَ من الأفعال والأقوال والأعمال، ومحبتُه لذلك بحسب كماله، ويبغضُ النَّاقصَ منها ويمقُته، ومَقْتُه له بحسب نقصانه، ولهذا أسلفنا أنَّ من أصول المسألة _________ (1) انتقد ابن تيمية إيراد الرازي لهذا المعنى؛ لأنه لا يخالف الذي قبله. «مجموع الفتاوى» (8/ 310). (2) هذا تلخيص الرازي المشهور لمحلِّ النزاع. انظر: «المحصول» (1/ 123)، و «المحصل» (479)، و «الأربعين» (246)، و «التحصيل» للأرموي (1/ 180)، و «نفائس الأصول» للقرافي (1/ 351)، و «درء القول القبيح» للطوفي (82). (3) في الأصول: «وأن كون الفعل». ولعل الصواب ما أثبت.

(2/969)


إثباتَ صفة الحبِّ والبغض لله، فتأمَّل كيف قادت (1) المسألةُ إليه، وتوقَّفت عليه! والله سبحانه يحبُّ كلَّ ما أمَر به، ويبغضُ كلَّ ما نهى عنه، ولا يسمَّى ذلك ملاءمةً ومنافَرة، بل يُطلق عليه الأسماءُ التي أطلقها على نفسه، وأطلقها عليه رسولُه، مِنْ محبَّته للفعل الحسن المأمور به، وبُغْضِه للفعل القبيح ومَقْتِه له، وما ذاك إلا لكمال الأوَّل ونقصان الثَّاني. فإذا كان الفعلُ مستلزمًا للكمال والنقصان، واستلزامُه له عقليٌّ، والكمالُ والنقصانُ يستلزم الحبَّ والبغض الذي سمَّيتموه ملاءمةً ومنافَرة، واستلزامُه عقليٌّ= فبيان (2) كون الفعل حسنًا كاملًا محبوبًا مَرْضِيًّا، وكونُه قبيحًا ناقصًا مسخوطًا مبغوضًا، أمرٌ عقليٌّ. بَقِيَ حديثُ المدح والذَّمِّ والثَّواب والعقاب. ومن أحاط علمًا بما أسلفناه في ذلك انكشفت له المسألة، وأسفرت عن وجهها، وزال عنها كلُّ شبهةٍ وإشكال: * فأمَّا المدحُ والذَّمُّ فترتُّبه على النقصان والكمال عقليٌّ، كترتُّب المسبَّبات على أسبابها، فمدحُ العقلاء لمُؤْثِر الكمال والمتَّصف به، وذمُّهم لمُؤْثِر النقص والمتَّصف به، أمرٌ عقليٌّ فطريٌّ، وإنكارُه يُزاحِمُ المكابرة! * وأمَّا العقابُ فقد قرَّرنا أنَّ ترتُّبه على فعل القبيح مشروطٌ بالسَّمع، وأنه إنما انتفى عند انتفاء السَّمع انتفاءَ المشروط لانتفاء شرطه، لا انتفاءَه لانتفاء سببه، فإنَّ _________ (1) (ط): «عادت». (2) كذا في الأصول. ولعلها: فإن.

(2/970)


سببَه قائم، ومُقْتَضِيه موجود، إلا أنه لم يتمَّ لتوقُّفه على شرطه. وعلى هذا فكونُه متعلَّقًا للثَّواب والعقاب والمدح والذَّمِّ عقليٌّ، وإن كان وقوعُ العقاب موقوفًا على شرطٍ وهو ورودُ السَّمع. وهل يقال: إنَّ الاستحقاقَ ليس بثابت، لأنَّ ورودَ السَّمع شرطٌ فيه؟ هذا فيه طريقان للنَّاس، ولعلَّ النزاع لفظيٌّ: فإن أُرِيدَ بالاستحقاق الاستحقاقُ التَّامُّ، فالحقُّ نفيُه. وإن أُرِيدَ به قيامُ السَّبب، والتَّخلُّفُ لفوات شرطٍ أو وجود مانع، فالحقُّ إثباتُه. فعادت الأقسامُ الثَّلاثة ــ أعني: الكمال والنقصان، والملاءمة والمنافَرة، والمدح والذَّمَّ ــ إلى حرفٍ واحدٍ (1)، وهو كونُ الفعل محبوبًا أو مبغوضًا، ويلزم من كونه محبوبًا أن يكون كمالًا، وأن يستحقَّ عليه المدحَ والثَّواب، ومِنْ كونه مبغوضًا أن يكون نقصًا يستحقُّ به الذَّمَّ والعقاب. فظهَر أنَّ التزام لوازم هذا التفصيل وإعطاءه حقَّه يرفعُ النزاع، ويعيدُ المسألةَ اتفاقية، ولكنَّ أصول الطَّائفتين تأبى التزام ذلك، فلا بدَّ لهما من التَّناقض إذا طَرَدوا أصولهم، وأمَّا من كان أصلُه إثباتَ الحكمة واتِّصاف الربِّ تعالى بها، وإثباتَ الحبِّ والبغض له، وأنهما أمرٌ وراء المشيئة العامَّة؛ فأصولُه مستلزمةٌ لفروعه، وفروعُه دالَّةٌ على أصوله، فأصولُه وفروعُه لا تتناقض، وأدلَّتُه لا تُمانَع ولا تُعارَض. * ... * ... * _________ (1) (ق): «عرف واحد».

(2/971)


قال النُّفاة (1): لو قدَّر نفسَه وقد خُلِقَ تامَّ الخِلقة (2)، كاملَ العقل، دفعةً واحدة، مِنْ غير أن يتخلَّق بأخلاق قومٍ، ولا تأدَّب بتأديب الأبوين، ولا تربَّى في الشَّرع (3)، ولا تعلَّم من معلِّم، ثمَّ عُرِض عليه أمران: أحدُهما: أنَّ الاثنين أكثرُ من الواحد، والثَّاني: أنَّ الكذبَ قبيح؛ بمعنى أنه يستحقُّ من الله تعالى لومًا عليه= لم نشكَّ أنه لا يتوقَّفُ في الأوَّل، ويتوقَّفُ في الثَّاني. ومن حَكَم بأنَّ الأمرين سِيَّان بالنسبة إلى عقله خَرَجَ عن قضايا العقول وعانَد كعِناد الفُضول (4). كيف ولو تقرَّر عنده أنَّ الله تعالى لا يتضرَّرُ بكذبٍ ولا ينتفعُ بصدق، فإنَّ القولين في حُكم التكليف (5) على وتيرةٍ واحدة= لم يُمْكِنه أن يرُدَّ أحدَهما عن الثَّاني (6) بمجرَّد عقله. والذي يوضِّحُه: أنَّ الصِّدق والكذبَ على حقيقةٍ ذاتية لا تتحقَّقُ ذاتُهما إلا بأركان تلك الحقيقة (7)، مثلًا، كما يقال: إنَّ الصِّدق إخبارٌ عن أمرٍ على ما هو عليه، والكذبَ إخبارٌ عن أمرٍ على خلاف ما هو به. ونحن نعلمُ أنَّ من أدرك هذه الحقيقةَ عَرَف المحقَّق، ولم يخطُر بباله كونُه حسنًا أو قبيحًا، فلم _________ (1) نقلها المصنف من «نهاية الأقدام» للشهرستاني. (2) «نهاية الأقدام»: «تام الفطرة». (3) «نهاية الأقدام»: «ولا تزيَّا بزيِّ الشرع». (4) «نهاية الأقدام»: «وعاند عناد الفضول». (5) في الأصول: «التكاليف». والمثبت من «نهاية الأقدام»، وما يأتي (ص: 1020). (6) (ط): «دون الثاني». وفي «نهاية الأقدام»: «لم يمكنه أن يرجح أحدهما على الثاني». (7) «نهاية الأقدام»: «إلا بأن كان تلك الحقيقة».

(2/972)


يدخُل الحُسْن والقُبح إذنْ في صفاتهما الذَّاتية التي تحقَّقت حقيقتُهما بها، ولا يَلْزمهما (1) في الوَهم بالبديهة، كما بيَّنَّا، ولا يَلْزمهما (2) في الوجود ضرورةً؛ فإنَّ من الأخبار التي هي صادقةٌ ما يُلام عليه؛ مثلُ الدَّلالة على من هَرَبَ مِنْ ظالم (3)، ومن الأخبار التي هي كاذبةٌ ما يُثابُ عليها، مثلُ إنكار الدَّلالة عليه. فلم يدخُل كونُ الكذب قبيحًا في حدِّ الكذب، ولا لَزِمَه في الوهم، ولا لَزِمَه في الوجود، فلا يجوزُ أن يُعَدَّ من الصِّفات الذَّاتية التي تَلْزَمُ النَّفسَ وجودًا وعدمًا عندهم؛ ولا يجوزُ أن يُعَدَّ من الصِّفات التَّابعة للحدوث، فلا يُعْقَلُ بالبديهة ولا بالنَّظر؛ فإنَّ النَّظريَّ (4) لا بدَّ أن يُرَدَّ إلى الضروريِّ البديهيِّ، وإذ لا بديهيَّ فلا مردَّ له أصلًا. فلم يَبْق لهم إلا الاسترواحُ إلى عادات النَّاس مِنْ تسمية ما يضرُّهم: قبيحًا وما ينفعهم: حسنًا، ونحن لا ننكرُ أمثال تلك الأسامي، على أنها تختلفُ بعادة قومٍ [دون قوم]، وزمانٍ [دون زمان]، ومكانٍ دون مكان، وإضافةٍ دون إضافة، وما يختلفُ بتلك النِّسَب والإضافات لا حقيقة له في الذَّات، فربَّما يستحسنُ قومٌ ذبحَ الحيوان، وربَّما يستقبحُه قوم، وربَّما يكون _________ (1) «نهاية الأقدام»: «ولا لزمتهما»، وفي إحدى نسخه: «ولا لزمها». (د): «ولو لزمها». (ق): «ولو ألزمها». (ت): «ولو لازمها». والمثبت مما سيأتي (ص: 1021). (2) (د) و «نهاية الأقدام»: «ولا لزمها». (ق): «ولا لزامها». (ت): «والا لزمها». والمثبت مما سيأتي (ص: 1021). (3) في الأصول: «على هرب من ظالم». وفي «نهاية الأقدام»: «على نبي هرب من ظالم». والمثبت مما سيأتي (ص: 1021). (4) في الأصول: «النظر». والمثبت من «نهاية الأقدام».

(2/973)


بالنسبة إلى قومٍ وزمانٍ حسنًا، وربَّما يكونُ قبيحًا، لكنَّا وضعنا الكلامَ في حُكم التكليف بحيث يجبُ الحسنُ به وجوبًا (1)، يثابُ عليه قطعًا، ولا يتطرَّقُ إليه لومٌ أصلًا، ومثل هذا يمتنعُ إدراكُه (2) عقلًا (3). قالوا: فهذه طريقةُ أهل الحقِّ على أحسن ما تقرَّر وأحسن ما تحرَّر (4). قالوا (5): وأيضًا؛ فنحن لا ننكرُ اشتهارَ حُسْن الفضائل التي ذُكِر ضَرْبُهم بها الأمثال، وقُبحَها بين الخلق، وكونها محمودةً مشكورةً مُثنًى على فاعلها، أو مذمومةً مذمومًا فاعلُها، ولكنَّ مستندها (6) إمَّا [التَّديُّن] بالشرائع وإمَّا الأغراض، ونحنُ إنما ننكرها في حقِّ الله عزَّ وجلَّ لانتفاء الأغراض عنه، فأمَّا إطلاقُ النَّاس هذه الألفاظ فيما يدورُ بينهم فيُسْتَمَدُّ من الأغراض، ولكن قد تَدِقُّ الأغراض (7) وتخفى فلا ينتبهُ لها إلا المحقِّقون (8). قالوا: ونحن ننبِّه على مثارات الغلط فيه، وهي ثلاثة مثاراتٍ يغلطُ الوهمُ فيها: _________ (1) «نهاية الأقدام»: «فيه وجوبا». (2) «نهاية الأقدام»: «ومثل هذا لا يمتنع إدراكه». (3) «نهاية الأقدام» (371 - 373). (4) «نهاية الأقدام» (373). (5) من «المستصفى» للغزالي. (6) (د، ق): «نستنكرها». (ت): «نشكرها». وهو تحريف. وفيما يأتي (ص: 1024): «سبب ذكرها». والمثبت من «المستصفى»، وإن كان الأشبه بسياقه: مستمدَّها. (7) (ق، د): «قد بدت الأغراض». (ت): «قسدت الأغراض». وهو تحريف. والمثبت من «المستصفى». (8) «المستصفى» (1/ 116).

(2/974)


الأولى: أنَّ الإنسان يُطْلِقُ اسمَ القُبح على ما يخالفُ غرضَه، وإن كان يوافقُ غرضَ غيره، من حيث إنه لا يلتفتُ إلى الغير، فإنَّ كلَّ طبعٍ مشغوفٌ بنفسه ومستحقِرٌ لغيره، فيقضي بالقُبح مطلقًا، وربَّما يضيفُ القُبحَ إلى ذات الشيء ويقول: هو في نفسه قبيح. فقد قضى بثلاثة أمورٍ هو مصيبٌ في واحدٍ منها وهو أصلُ الاستقباح، ومخطاءٌ في أمرين: أحدهما: إضافةُ القُبح إلى ذاته، وغَفَل عن كونه قبيحًا لمخالفة غرضه. والثَّاني: حكمُه بالقُبح مطلقًا، ومنشؤه عدمُ الالتفات إلى غيره، بل عدمُ الالتفات (1) إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسِنُ في بعض الأحوال عينَ ما يستقبحُه إذا اختلف الغرض. الغلطة الثَّانية: سببُها أنَّ ما هو مخالفٌ للغَرض (2) في جميع الأحوال إلا في حالةٍ نادرةٍ قد لا يلتفتُ الوهمُ إلى تلك الحالة النَّادرة، [بل لا يخطُر بالبال، فيراه مخالفًا في كل الأحوال، فيقضي بالقبح مطلقًا؛ لاستيلاء أحوال قُبحه على قلبه، وذهاب الحالة النادرة] (3) عن ذِكْره، كحُكمِه على الكذب بأنه قبيحٌ مطلقًا، وغفلته عن الكذب الذي يستفادُ منه عصمةُ نبيٍّ أو وليٍّ. وإذا قضى بالقُبح مطلقًا، واستمرَّ عليه مدَّةً، وتكرَّر ذلك على سمعه ولسانه، انغَرس في قلبه استقباحٌ منفِّر (4)، فلو وقعت تلك الحالةُ النَّادرةُ _________ (1) في الأصول: «عن الالتفات». والمثبت من «المستصفى». (2) في الأصول: «غالب للغرض». والمثبت من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1032). (3) مستدرك من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1033). وسقط هنا لانتقال النظر. (4) (ط): «استقباحه والنفرة منه».

(2/975)


وجد في نفسه نفرةً عنها؛ لطول نشوئه على الاستقباح؛ فإنه أُلقِيَ إليه منذ الصِّبا على سبيل التَّأديب (1) والإرشاد أنَّ الكذبَ قبيحٌ لا ينبغي أن يُقْدِم عليه أحد، ولا ينبَّه على حُسْنِه في بعض الأحوال، خيفةً من أن لا تَسْتَحْكِمَ نُفْرَتُه عن الكذب، فيُقْدِم عليه، وهو قبيحٌ في أكثر الأحوال، والسَّماعُ في الصِّغَر كالنقش في الحجر، فينغرسُ في النَّفس، ويجدُ التَّصديقَ به مطلقًا (2)، وهو صدقٌ لكن لا على الإطلاق، بل في أكثر الأحوال، اعتقَده مطلقًا (3). الغلطة الثَّالثة: سببها سبقُ الوهم إلى العكس؛ فإنَّ من رأى شيئًا (4) مقرونًا بشيءٍ يَظُنُّ أنَّ الشيء لا محالةَ مقرونٌ به مطلقًا، ولا يدري أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرونٌ بالأعمِّ، والأعمَّ لا يَلْزَمُ أن يكون مقرونًا بالأخصِّ. ومثاله: نُفْرةُ نفس الذي نهشَته الحيةُ عن الحَبل المرقَّش اللون، لأنه وَجَدَ الأذى مقرونًا بهذه الصُّورة، فتوهَّمَ أنَّ هذه الصُّورةَ مقرونةٌ بالأذى. وكذلك يَنْفِرُ عن العَسَل إذا شبَّهه بالعَذِرَة؛ لأنه وَجَد الاستقذارَ مقرونًا بالرَّطب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطبَ الأصفر يقترنُ به الاستقذار، وقد يَغْلِبُ عليه الوهمُ حتى يتعذَّر الأكل، وإن كان حُكم العقل يكذِّبُ الوهمَ، ولكن خُلِقَت قُوى النَّفس مطيعةً للأوهام وإن كانت كاذبةً، حتى إنَّ الطَّبعَ ينفِرُ عن _________ (1) في الأصول: «التأدب». والمثبت من «المستصفى». (2) «المستصفى»: «ويحنُّ إلى التصديق به مطلقا». (3) «المستصفى»: «بل في أكثر الأحوال. وإذا لم يكن على ذكره إلا أكثر الأحوال، فهو بالإضافة إليه كل الأحوال، فلذلك يعتقده مطلقا». (4) في الأصول: «من ترك شيئا». والمثبت من «المستصفى».

(2/976)


حسناء سمِّيت باسم اليهود (1)؛ إذْ وَجَدَ الاسمَ مقرونًا بالقُبح، فظنَّ أنَّ القُبحَ أيضًا يلازمُ الاسم. ولهذا يُورَدُ على بعض العوامِّ مسألةٌ عقليةٌ جليَّةٌ فيقبلُها، فإذا قلتَ: هذا مذهبُ الأشعريِّ أو المعتزليِّ أو الظَّاهريِّ (2) أو غيره، نَفَر عنه إن كان سيِّاء الاعتقاد فيمن نسبتَها إليه، وليس هذا طبعَ العاميِّ، بل طبعُ أكثر العقلاء المتوسِّمينَ (3) بالعلم، إلا العلماء الراسخينَ الذين أراهم الله الحقَّ حقًّا، وقوَّاهم على اتِّباعه. وأكثرُ الخلق قُوى نفوسِهم (4) مطيعةٌ للأوهام الكاذبة، مع علمهم بكذبها، وأكثرُ إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذا الأوهام؛ فإنَّ الوهمَ عظيمُ الاستيلاء على النَّفس، ولذلك يَنفِرُ طبعُ الإنسان عن المبيت في بيتٍ فيه ميِّتٌ مع قطعه بأنه لا يتحرَّك، ولكنه يتوهَّمُ في كلِّ ساعةٍ حَرَكَته ونُطْقَه (5). قالوا: فإذا انتبهتَ لهذه المثارات عرفتَ بها سِرَّ القضايا التي تستحسنُها العقول، وسِرَّ استحسانها إياها، والقضايا التي تستقبحُها العقول، وسِرَّ استقباحها لها. ولنضربْ لذلك مثلين، وهما مما يحتجُّ بهما علينا أهلُ الإثبات (6): _________ (1) مهملة في (د). وفي بعض نسخ «المستصفى»: «الهنود». (2) «المستصفى»: «مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي». (3) «المستصفى»: «المتسمين». وفي بعض نسخه: «المترسمين». (4) في الأصول: «ترى نفوسهم». والمثبت من «المستصفى». وتقدم آنفًا. (5) «المستصفى» (1/ 116 - 117). (6) إثبات الحسن والقبح العقليَّين.

(2/977)


المثل الأوَّل: الملِكُ العظيمُ المستولي على الأقاليم، إذا رأى ضعيفًا مُشْرِفًا على الهلاك فإنه يميلُ إلى إنقاذه ويستحسنُه، وإن كان لا يعتقدُ أصلَ الدِّين لينتظر ثوابًا أو مجازاة (1) ــ ولا سيَّما إذا لم يعرفه المسكينُ ولم يَرَه، بأن كان أعمى أصمَّ لا يسمعُ الصَّوت ــ، ولا يوافقُ ذلك غرضه بل ربَّما يتعبُ به. بل يحكمُ العقلاءُ بحُسْن الصَّبر على السَّيف إذا أُكرِه على كلمة الكفر، أو على إفشاء السِّرِّ ونقض العَهد، وهو على خلاف غرض المكرَه (2). وعلى الجملة، فاستحسانُ مكارم الأخلاق وإفاضة النِّعَم لا ينكره إلا من عانَد (3). المثل الثَّاني: العاقلُ إذا سَنَحَت له حاجةٌ وأمكنَ قضاؤها بالصِّدق كما أمكنَ بالكذب، بحيث تساويا في حصول الغَرض منهما كلَّ التَّساوي، فإنه يُؤثِرُ الصِّدقَ ويختاره، ويميلُ إليه طبعُه، وما ذاك إلا لحُسْنه، فلولا أنَّ الكذبَ على صفةٍ يجبُ عنده الاحترازُ عنه وإلا لما ترجَّح الصدقُ عنده (4). قالوا: وهذا الفرضُ واضحٌ في حقِّ من أنكر الشَّرائع، وفي حقِّ من لم تبلُغه الدَّعوة، حتى لا يُلزِمونا (5) كونَ التَّرجيح بالتكليف (6). _________ (1) ثوابًا من الله، أو مجازاةً من المسكين. وفي «المستصفى»: «لينتظر ثوابا، ولا ينتظرها منه أيضا مجازاة وشكرا». (2) (د، ق): «الكفرة». (ت): «الكفر». وكلاهما تحريف. والمثبت من «المستصفى». (3) «المستصفى» (1/ 115). (4) «نهاية الأقدام»: «رجَّح الصدق عليه». (5) «نهاية الأقدام»: «حتى لا يلزم». (6) «نهاية الأقدام» (373).

(2/978)


فهذا مِنْ حُجَجهم، [ونحن نجيبُ عن ذلك، فنبيِّن أنه لا] يثبتُ (1) حكمٌ على هذين المثالين، فنقول: أمَّا قضيةُ إنقاذ الملك وحُسْنِه حتى في حقِّ من لم تبلُغه الدَّعوة وأنكر الشَّرائع، فسببه دفعُ الأذى الذي يلحقُ الإنسانَ مِنْ رقَّة الجِنْسيَّة (2)، وهو طبعٌ يستحيلُ الانفكاكُ عنه. وذلك لأنَّ الإنسانَ يقدِّر نفسَه في تلك البَلِيَّة، ويقدِّر غيرَه معرضًا عن الإنقاذ، فيستقبحُه منه لمخالفة غرضه، فيعودُ ويقدِّر ذلك الاستقباحَ من المُشْرِف على الهلاك في حقِّ نفسه، فيَدْفَعُ عن نفسه ذلك القُبحَ المتوهَّم. فإن فُرِض في بهيمةٍ أو شخصٍ لا رِقَّة فيه، فهو بعيدٌ تصوُّره. ولو تُصُوِّرَ فيبقى أمرٌ آخرُ وهو طلبُ الثَّناء على إحسانه. فإن فُرِض بحيث لا يُعْلَمُ أنه المنقِذ، فيتوقَّعُ أن يُعْلَم؛ فيكونُ ذلك التَّوقُّع باعثًا. فإن فُرِض في موضعٍ يستحيلُ أنْ يُعْلَم، فيبقى مَيلٌ وترجيحٌ يضاهي نُفْرةَ طبع السَّليم عن الحَبْل (3)، وذلك أنه رأى هذه الصُّورة مقرونةً بالثَّناء، فيظُنُّ أنَّ الثَّناء مقرونٌ بها بكلِّ حال، كما أنه لما رأى الأذى مقرونًا بصورة الحَبْل، وطبعُه يَنفِرُ عن الأذى، فيَنفِرُ عن المقرون به؛ فالمقرونُ باللذيذ لذيذ، _________ (1) في الأصول: «فيثبت». والمثبت من (ط)، وما بين المعكوفين منها. (2) (ق، ت): «الحية». وأهملت في (د). والمثبت من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1041). (3) أي: الحبل المرقَّش. والسليم هو الملدوغ.

(2/979)


والمقرونُ بالمكروه مكروه، بل الإنسانُ إذا جالس من عَشِقَه في مكانٍ فإذا انتهى إليه أحسَّ في نفسه تفرِقةً بين ذلك المكان وغيره (1). قال الشاعر (2): أمرُّ على الدِّيارِ ديارِ ليلى ... أقبِّلُ ذا الجِدارَ وذا الجِدارا وما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفْنَ قلبي ... ولكنْ حُبُّ من سَكَنَ الدِّيارا وقال ابنُ الرُّومي (3) منبِّهًا على سبب حبِّ الأوطان: وحَبَّبَ أوطانَ الرِّجالِ إليهمُ ... مآربُ قَضَّاها الشبابُ هنالكا إذا ذَكَرُوا أوطانهمْ ذَكَّرَتهمُ ... عُهودًا جَرَت فيها فحَنُّوا لذلكا قالوا: وشواهدُ ذلك مما يكثُر، وكلُّ ذلك مِنْ حُكم الوهم (4). قالوا: وأمَّا الصَّبرُ على السَّيف في تركه كلمةَ الكفر مع طمأنينة النَّفس فلا يستحسنُه جميعُ العقلاء لولا الشَّرع، بل ربَّما استقبحوه، فإنما يستحسنُه من ينتظر الثَّوابَ على الصَّبر أو من ينتظر الثَّناءَ عليه بالشَّجاعة والصَّلابة في الدِّين، فكم من شجاعٍ رَكِب متنَ الخطر وهَجَم على عددٍ (5) وهو يعلمُ أنه لا يطيقهم، ويستحقِرُ ما يناله من الألم؛ لِمَا يعتاضُه مِن توهُّم الثَّناء والحمد ولو بعد موته. _________ (1) في الأصول: «في نفسه من ذلك المكان وغيره». والمثبت من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1042). (2) مجنون بني عامر. انظر: ديوانه (131)، و «خزانة الأدب» (4/ 228). (3) في ديوانه (5/ 1826). (4) «المستصفى» (1/ 118). (5) (ت): «على العدد الكثير». وفي «المستصفى»: «على عددٍ هم أكثر منه».

(2/980)


وكذلك إخفاءُ السرِّ وحفظُ العَهد، إنما يتواصى النَّاسُ بهما لما فيهما من المصالح، ولذلك أكثروا الثَّناء عليهما؛ فمن يحتملُ الضرر فيه (1) فإنما يحتملُه لأجل الثَّناء. [فإن فُرِض حيث لا ثناء، فقد وُجِد مقرونًا بالثناء، فيبقى مَيلُ الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليًا عنه] (2). فإن فُرِض من لا يستولي عليه هذا الوهمُ ولا ينتظر الثَّناء والثَّواب، فهو يَسْتَقْبِحُ السَّعيَ في هلاك نفسه بغير فائدة، ويَسْتَحْمِقُ من يفعل ذلك قطعًا؛ فمن يسلِّم أنَّ مثل ذلك يُؤثِرُ الهلاك على الحياة؟! (3). قالوا: وهذا هو الجوابُ عمَّن عَرَضت له حاجةٌ وأمكنَ قضاؤها بالصِّدق والكذب، واستويا عنده، وإيثاره الصِّدق. على أنَّا نقول: تقديرُ استواء الصِّدق والكذب في المقصود مع قطع النَّظر عن الغير تقديرٌ مستحيل؛ لأنَّ الصِّدق والكذبَ متنافيان، ومن المحال تساوي المتنافيَيْن في جميع الصِّفات، فلأجل ذلك التقدير المستحيل يَسْتَبعِدُ العقلُ إيثارَ الكذب ومنعَ إيثار الصِّدق. قالوا: ولا يلزمُ من استبعاد مَنْع إيثار الصِّدق على التقدير المستحيل استبعادُه في نفس الأمر، وإنما يلزم لو كان التقديرُ المستلزم واقعًا، وهو ممنوع. _________ (1) في الأصول: «يحتمل الضرر لله». والمثبت من «المستصفى». (2) مستدرك من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1044). (3) «المستصفى» (1/ 119).

(2/981)


قالوا: ولئن سلَّمنا أنَّ ذلك التقديرَ ممكن، فغايتُه أن يدلَّ على حُسْن الصِّدق شاهدًا، ولكن لا يلزمُ حُسْنُه غائبًا إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد، وهو فاسد؛ لوضوح الفرق المانع من القياس. والذي يقطعُ دابرَ القياس أنَّ السَّيِّد لو رأى عبيدَه وإماءه يَمُوجُ بعضهم في بعض، ويركبون الظُّلمَ والفواحش، وهو مطَّلعٌ عليهم، قادرٌ على منعهم، لقَبُحَ ذلك منه، والله عزَّ وجلَّ قد فعل ذلك بعباده، بل أعانهم وأمدَّهم، ولم يقبُح منه سبحانه. ولا يصحُّ قولهم: إنه سبحانه تركهم لينزجروا بأنفسهم ليستحقُّوا الثَّواب؛ لأنه سبحانه قد عَلِمَ أنهم لا ينزجرون، فلْيَمْنَعهم قهرًا (1)، فكم من ممنوعٍ من الفواحش لعلَّةٍ وعجز (2)، وذلك أحسنُ من تمكينه مع العلم بأنه لا ينزجر (3). وبالجملة، فقياسُ أفعال الله على أفعال العباد باطلٌ قطعًا، وهو محضُ التَّشبيه في الأفعال، ولهذا جمعَت المعتزلةُ القدرية بين التَّعطيل في الصِّفات والتَّشبيه في الأفعال، فهم معطِّلةٌ مشبِّهة، لباسُهم مُعَلَّمٌ من الطَّرفين! كيف وإنَّ إنقاذ الغَرقى الذي استدللتم به حجَّةٌ عليكم، فإنَّ نفسَ الإغراق والإهلاك يحسُن منه سبحانه ولا يقبُح، وهو أقبحُ شيءٍ منَّا، فالإنقاذُ إن كان حسنًا فالإغراقُ يجبُ أن يكون قبيحًا. _________ (1) (ت، د): «ولم يمنعهم قهرا». (ق): «ولا يمنعهم قهرا». وهو خطأ. والمثبت من «المستصفى». وانظر: «المنخول» (70)، و «إحكام الأحكام» للآمدي (1/ 86). (2) «المستصفى»: «بعنَّةٍ وعجز». (3) «المستصفى» (1/ 119).

(2/982)


فإن قلتم: لعلَّ في ضمن الإغراق والإهلاك سرًّا لم نطَّلع عليه، وغرضًا لم نَصِل إليه، فقدِّروا مثلَه في ترك إنقاذنا نحن للغَرقى، بل في إهلاكنا لمن نُهْلِكه، والفعلان من حيث الصِّفات النَّفسية واحدٌ (1) عقلًا وشرعًا. فإنه سبحانه لا يتضرَّرُ بمعصية العبد، ولا ينتفعُ بطاعته، ولا تتوقَّفُ قدرتُه في الإحسان إلى العبد على فعلٍ يصدُر من العبد، بل كما أنعَم عليه ابتداءً بأجزل المواهب وأفضل العطايا، مِنْ حُسْن الصُّورة، وكمال الخِلقة، وقوام البِنْية، وإعداد الآلة، وإتمام الأداة، وتعديل القامة (2)، وما متَّعه من أرواح الحياة، وفضَّله به من حياة الأرواح، وما أكرمه به من قبول العلم، وهداه إلى معرفته التي هي أسنى جوائزه؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] = فهو سبحانه أقدَر على الإنعام عليه دوامًا. فكيف يوجبُ على العبد عبادةً شاقَّةً في الحال لارتقاب ثوابٍ في ثاني الحال؟! أليس لو ألقى إليه زمام الاختيار حتى يفعل ما يشاء، جريًا على رسُوم طبعه (3) المائل إلى لذيذ الشهوات، ثمَّ أجزل له في العطاء من غير حساب؛ كان ذلك أروَحَ للعبد، ولم يكن قبيحًا عند العقل؟! فقد تعارض الأمران: أحدهما: أن يكلِّفهم، فيأمر ويَنهى حتى يُطاع ويُعصى، ثمَّ يثيبهم _________ (1) في الأصول: «من حيث الصفات التكليف والإيحاب». وهو تحريف. والمثبت من «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1064). (2) «نهاية الأقدام»: «وتعديل القناة». (3) في الأصول: «سوم طبعه». وفي «نهاية الأقدام»: «نسق طبيعته». والمثبت مما سيأتي (ص: 1071).

(2/983)


ويعاقبهم على فعلهم. الثَّاني: أن لا يكلِّفهم بأمرٍ ولا نهي؛ إذ لا يتزيَّن سبحانه منهم بطاعة، ولا يتضرَّر منهم بمعصية (1)، فلا تكونُ نِعَمه ثوابًا (2)، بل ابتداءً. وإذا تعارض في العقول هذان الأمران، فكيف يهتدي العقلُ إلى اختيار أحدهما حقًّا وقطعًا؟! فكيف يعرِّفنا العقلُ وجوبًا على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطَّاعة، وعلى الباري سبحانه بالثَّواب والعقاب؟! (3). قالوا: ولا سيَّما على أصول المعتزلة القدرية؛ فإنَّ التكليفَ بالأمر والنهي والإيجاب من الله لا حقيقة له على أصلهم، فإنه لا يرجعُ إلى ذات الربِّ تعالى صفةٌ يكونُ بها آمرًا ناهيًا مُوجِبًا مكلِّفًا بالأمر والنهي للخَلق (4)، ومعلومٌ أنه لا يرجعُ إلى ذاته من الخلق صفة. والعقلُ عندهم إنما يعرفه على هذه الصِّفة، ويستحيلُ عندهم أن يعرفه بأنه يقتضي ويطلبُ منه شيئًا، أو يأمره وينهاه بشيء، كما يُعْقَلُ الأمرُ والنهيُ بالطَّلب القائم بالآمر والنَّاهي؛ فإذا لم يقُم به طلبٌ استحال أن يكون آمرًا ناهيًا. فغايةُ العقل عندهم أن يعرفه على صفةٍ يستحيلُ عليه الاتصافُ بالأمر _________ (1) «نهاية الأقدام»: «ولا يتشيَّن منهم بمعصية». وفيما سيأتي (ص: 1075): «ولا تشينه معصيتهم». (2) في الأصول: «بل لا تكون نعمه ثوابا». والمثبت مما سيأتي (ص: 1090). (3) «نهاية الأقدام» (380، 382 - 385). (4) في الأصول: «مكلفا عن فعله للأمر والنهي لفعله للخلق». وفي «نهاية الأقدام»: «مكلفا بل هو عالم قادر فاعل للأمر كما هو فاعل للخلق». والمثبت من (ط).

(2/984)


والنهي، فكيف يعرفه على صفةٍ يريدُ منه طاعةً فيستحقُّ عليها ثوابًا، أو يكره منه معصيةً يستحقُّ عليها عقابًا. وإذ لا أمرَ ولا نهيَ يُعْقَلُ فلا طاعة ولا معصية؛ إذ هما فرعُ الأمر والنهي، فلا ثوابَ ولا عقاب إذَن؛ إذ هما فرعُ الطَّاعة والمعصية. وغايةُ ما يقولون: إنه يخلُق في الهواء أو في شجرةٍ (1): «افعَل» أو: «لا تفعل»، بشرط أن لا يدلَّ الأمرُ والنهيُ المخلوقُ على صفةٍ في ذاته غيرَ كونه عالمًا قادرًا. ومعلومٌ أنَّ هذا لا يدلُّ إلا على كونِ الفاعلِ قادرًا عالمًا حيًّا، مريدًا لفعلِه، وأمَّا دلالتُه على حقيقة الأمر والنهي المستلزمة للطَّاعة والمعصية المستلزمَيْن للثَّواب والعقاب فلا. فلْيُعْرَف (2) من ذلك أنَّ من نفى قيام الكلام والأمر والنهي (3) بذات الله لم يمكنه إثباتُ التكليف على العبد أبدًا، ولا إثباتُ حُكمٍ للفعل بحُسْنٍ ولا قُبح، وفي ذلك إبطالُ الشَّرائع جملةً، مع استنادها إلى قول من قامت البراهينُ على صدقه، ودلَّت المعجزةُ على نبوَّته، فضلًا عن الأحكام العقلية المتعارضة المستندة إلى عادات النَّاس المختلفة؛ بالإضافة والنِّسَب والأزمنة والأمكنة والأقوال. _________ (1) مهملة في (د). وفي (ق، ت): «بحره». وهو تحريف. والمثبت من «نهاية الأقدام». وانظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 84، 12/ 503)، و «بغية المرتاد» (1/ 383)، و «الأصفهانية» (247)، وغيرها. (2) في الأصول: «فلنعرف». والمثبت من «نهاية الأقدام». (3) (ت): «قيام الأمر والنهي». وفي «نهاية الأقدام»: «من نفى الأمر الأزلي».

(2/985)


وقد عُرِفَ بهذا أنَّ من نفى قول الله وكلامه فقد نفى التكليفَ جملةً، وصار مِنْ أخبث القدريَّة وشرِّهم مقالةً؛ حيث أثبتَ تكليفًا وإيجابًا وتحريمًا بلا أمرٍ ولا نهيٍ ولا اقتضاءٍ ولا طلب، وهذه قَدَرِيةٌ (1) في حقِّ الربِّ تعالى، وأثبتَ فعلًا وطاعةً ومعصيةً بلا فاعلٍ ولا مُحْدِث، وهذه قَدَرِيةٌ في حقِّ العبد؛ فليتنبَّه لهذه الدَّقيقة (2). قالوا: وأيضًا، فما مِنْ معنًى يُستنبطُ من قولٍ أو فعلٍ ليُربَط به حكمٌ مناسبٌ له إلا ومن حيث (3) العقل يعارضُه آخرُ يساويه في الدَّرجة، أو يَفْضُل عليه في المرتبة، فيتحيَّر العقلُ في الاختيار، إلى أن يَرِدَ شرعٌ يختارُ أحدَهما، أو يرجِّحه من تلقائه، فيجبُ على العاقل اعتبارُه واختيارُه لترجيح الشَّرع له، لا لرُجْحانه في نفسه. ونضربُ لذلك مثالًا، فنقول: إذا قتل إنسانٌ إنسانًا مثله، عَرَض للعقل الصَّريح هاهنا آراءُ متعارضةٌ مختلفة، منها: أنه يجبُ أن يُقتَل قصاصًا؛ ردعًا _________ (1) (ق) في الموضعين: «مقدرته». (د، ت) في الموضع الأول: «مقدرته»، وفي الثاني: «قدرته». ولعل الصواب ما أثبت. وانظر ما سيأتي (ص: 1096). (2) مهملة في (د). (ق، ت): «الثلاثة». والنصُّ في «نهاية الأقدام» (386): «وكثيرًا ما نقول: من نفى قول الله فقد نفى فعل العبد، فصار من أوحش الجبرية. أعني: أثبتَ جبرًا على الله تعالى وجبرًا على العبد. ومن نفى أكساب العباد فقد نفى قول الله، فصار من أوحش القدرية. أعني: قدرًا على الله وقدرًا على العبد. والقدرية جبريةٌ من حيث نفي الفعل والكسب المأمور به. فليتنبه لهذه الدقيقة». وقد لخَّصه المصنفُ كما ترى، وسيذكر آخره في موضعٍ لاحق. (3) مهملة في (د). وفي (ق، ت): «جنسه». والمثبت من «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1097).

(2/986)


للجُناة، وزجرًا للطُّغاة، وحفظًا للحياة، وشفاءً للغَيظ، وتبريدًا لحَرِّ المصيبة اللاحقة لأولياء القتيل. ويعارضه معنًى آخر: أنه إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان، ولا يحيا الأوَّلُ بقتل الثَّاني؛ ففيه تكثيرُ المفسدة بإعدام النَّفسَيْن، وأمَّا مصلحةُ الرَّدع والزَّجر واستبقاء النَّوع فأمرٌ متوهَّم، وفي القصاصِ استهلاكٌ محقَّق. فقد تعارض الأمران، وربَّما يعارضه أيضًا معنًى ثالثٌ وراءهما، فيفكِّر العقلُ: أيراعي شرائطَ أُخَر وراء مجرَّد الإنسانية، من العقل والبلوغ، والعلم والجهل، والكمال والنقص، والقرابة والأجنبية؟ فيتحيَّر العقلُ كلَّ التَّحيُّر، فلا بدَّ إذَن من شارعٍ يفصِّلُ هذه الخطَّة، ويعيِّنُ قانونًا (1) يطَّردُ عليه أمرُ الأمَّة، وتستقيمُ عليه مصالحهم. وظهَر بهذا أنَّ المعاني المستنبطة راجعةٌ إلى مجرَّد استنباط العقل، [ووضع الذِّهن، من غير أن يكون الفعلُ مشتملًا عليها؛ فإنها لو كانت صفاتٍ نفسيةً للفعل] (2) لَزِمَ من ذلك أن تكون الحركةُ الواحدةُ مشتملةً على صفاتٍ متناقضةٍ وأحوالٍ متنافرة. وليس معنى قولنا: «إنَّ العقل استنبط منها» أنها كانت موجودةً في الشيء فاستخرجَها العقلُ، بل العقلُ تردَّد بين إضافات الأحوال بعضها إلى بعض، ونِسَبِ الأشخاص والحركات نوعًا إلى نوع، وشخصًا إلى شخص، _________ (1) مهملة في الأصول. والمثبت مما سيأتي (ص: 1107). (2) مستدركٌ من «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1114، 1116).

(2/987)


فيطرأ عليه من تلك المعاني ما حكيناه وأحصيناه، وربَّما يبلغُ مبلغًا يَشِذُّ عن الإحصاء. فعُرِف بذلك أنَّ المعاني لم ترجع إلى الذَّات، بل إلى مجرَّد الخواطر الطَّارئة على العقل (1)، وهي متعارضة (2). قالوا: وأيضًا، لو ثبتَ الحُسْن والقُبح العقليَّين (3) لتعلَّق بهما الإيجابُ والتَّحريمُ شاهدًا وغائبًا على العبد والربِّ، واللازمُ محال، فالملزومُ كذلك. أمَّا الملازمة؛ فقد كفانا أهلُ الإثبات (4) تقريرَها بالتزامهم أنه يجبُ على العبد عقلًا بعضُ الأفعال الحسنة، ويحرُم عليه القبيح، ويستحقُّ الثَّوابَ والعقابَ على ذلك، وأنه يجبُ على الربِّ تعالى فعلُ الحسن ورعايةُ الصَّلاح والأصلح، ويحرُم عليه فعلُ القبيح والشرِّ وما لا فائدة فيه كالعبَث، ووضعوا بعقولهم شريعةً أوجبوا بها على الربِّ تعالى، وحرَّموا عليه، وهذا عندهم ثمرةُ المسألة وفائدتها. وأمَّا انتفاءُ اللازم؛ فإنَّ الوجوبَ والتَّحريمَ بدون الشرع ممتنع؛ إذ لو ثبت بدونه لقامت الحجَّةُ بدون الرُّسل، والله سبحانه إنما أثبتَ الحجَّة بالرُّسل خاصَّة، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. _________ (1) في الأصول: «الأصل». وهو خطأ. والمثبت من «نهاية الأقدام». (2) «نهاية الأقدام» (387 - 388). (3) كذا في الأصول هنا وفيما سيأتي (ص: 1121). (4) إثبات الحسن والقبح العقليين. والمراد المعتزلة منهم، كما سيأتي.

(2/988)


وأيضًا؛ فلو ثبت بدون الشَّرع لاستُحِقَّ الثَّوابُ والعقابُ عليه، وقد نفى الله سبحانه العقابَ قبل البعثة، فقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]؛ فإنما احتجَّ عليهم بالنَّذير. وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78]؛ والحقُّ هاهنا هو ما بُعِثَ به المرسَلون (1)، باتفاق المفسِّرين. وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]؛ فلا يسألهم تبارك وتعالى عن مُوجِبات عقولهم، بل عمَّا أجابوا به رسلَه، فعليه يقعُ الثَّوابُ والعقاب. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61]؛ فاحتجَّ عليهم تبارك وتعالى بما عَهِدَ إليهم على ألسنة رسله خاصَّة؛ فإنَّ عهدَه هو أمرُه ونهيُه الذي بلَّغته رسلُه. _________ (1) (ت): «هو بعثة المرسلين».

(2/989)


وقال تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]؛ فهذا في حكم الوجوب والتَّحريم على العباد قبل البعثة. وأمَّا انتفاءُ الوجوب والتحريم على من له الخلقُ والأمرُ ولا يُسألُ عمَّا يفعَل؛ فمن وجوهٍ متعدِّدة: أحدها: أنَّ الوجوبَ والتَّحريمَ في حقِّه سبحانه غيرُ معقولٍ على الإطلاق، وكيف يُعْلَمُ أنه سبحانه يجبُ عليه أن يَمْدَحَ ويَذُمَّ ويثيبَ ويعاقِب على الفعل بمجرَّد العقل؟ وهل ذلك إلا مغيَّبٌ (1) عنَّا؟ فبم نَعْرِفُ (2) أنه رَضِيَ عن فاعلٍ وسَخِط على فاعل، وأنه يثيبُ هذا ويعاقِبُ هذا، ولم يخبر عنه بذلك مخبرٌ صادق، ولا دلَّ على مواقع رضاه وسخطه عقل، ولا أخبَر عن محكومه ومَعْلُومه مخبر؟! فلم يَبْق إلا قياسُ أفعاله على أفعال عبادِه، وهو مِنْ أفسد القياس وأعظمه بطلانًا؛ فإنه تعالى كما أنه ليس كمثله شيءٌ في ذاته ولا في صفاته، فكذلك ليس كمثله شيءٌ في أفعاله، وكيف يقاسُ على خلقه في أفعاله فيحسُن منه ما يحسُن منهم، ويقبُح منه ما يقبُح منهم، ونحن نرى كثيرًا من الأفعال تقبُح منَّا وهي حسنةٌ منه تعالى، كإيلام الأطفال والحيوان، وإهلاك من لو أهلكناه نحن لقبُح منَّا من الأموال والأنفس، وهو منه تعالى مستحسنٌ غيرُ مستقبَح، وقد سئل بعض العلماء عن ذلك (3)، فأنشَد السَّائلَ: _________ (1) «نهاية الأقدام» (379) وما سيأتي (ص: 1144): «غيب». (2) «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1144): «فبم يعرف». (3) انظر: «منهاج السنة» (3/ 190)، و «مجموع الفتاوى» (11/ 354).

(2/990)


ويقبُح مِنْ سِواكَ الفعلُ عندي ... فتفعلُه فيحسُن منك ذاكا (1) ونحن نرى تركَ إنقاذ الغرقى والهلكى قبيحًا منَّا، وهو سبحانه إذا أغرقهم وأهلكهم لم يكن قبيحًا منه، ونرى تركَ أحدنا عبيدَه وإماءه يقتلُ بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا، ويفسدُ بعضهم بعضًا، وهو متمكِّنٌ من منعهم= قبيحًا، وهو سبحانه قد ترك عبادَه كذلك، وهو قادرٌ على منعهم، وهو منه حسنٌ غيرُ قبيح. وإذا كان هذا شأنه سبحانه وشأننا، فكيف يصحُّ قياسُ أفعاله على أفعالنا؟! فلا يُدْرَكُ إذَن الوجوبُ والتَّحريمُ عليه بوجه، كيف والإيجابُ والتَّحريمُ يقتضي مُوجِبًا محرِّمًا، آمرًا ناهيًا، وبينه فرقٌ وبين الذي يجبُ عليه ويحرُم. وهذا محالٌ في حقِّ الواحد القهَّار، فالإيجابُ والتَّحريمُ طلبٌ للفعل والتَّرك على سبيل الاستعلاء، فكيف يُتصَوَّرُ غائبًا؟! قالوا: وأيضًا، فلهذا الإيجاب والتَّحريم اللذَيْن زعمتم على الله لوازمُ فاسدة (2)، يدلُّ فسادُها على فساد الملزوم: اللازم الأوَّل: إذا أوجبتم على الله تعالى رعايةَ الصَّلاح والأصلح في أفعاله، فيجبُ أن توجبوا على العبد رعايةَ الصَّلاح والأصلح أيضًا في أفعاله، حتى يصحَّ اعتبارُ الغائب بالشَّاهد، وإذا لم يجب علينا رعايتُهما بالاتفاق ــ بحسب المقدور ــ بَطَل ذلك في الغائب. ولا يصحُّ تفريقُكم بين الغائب والشَّاهد بالتَّعب والنَّصَب الذي يلحقُ _________ (1) البيت لأبي نواس، في ديوانه (383). ونُسِبَ لغيره. (2) انظر: «نهاية الأقدام» (406 - 410).

(2/991)


الشَّاهدَ دون الغائب؛ لأنَّ ذلك لو كان فارقًا في محلِّ الإلزام لكان فارقًا في أصل الصَّلاح، فإن ثبتَ الفرقُ في صفته ومقداره ثبتَ في أصله، وإن بَطَل الفرقُ ثبتَ الإلزام المذكور. اللازم الثَّاني: أنَّ القُربات من النَّوافل صلاح، فلو كان الصَّلاحُ واجبًا وجبَ وجوبَ الفرائض. اللازم الثَّالث: أنَّ خلودَ أهل النَّار في النَّار يجبُ أن يكون صلاحًا لهم دون أن يُرَدُّوا فيُعْتِبوا ربَّهم (1) ويتوبوا إليه. ولا ينفعكم اعتذاركم عن هذا الإلزام بأنهم لو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه؛ فإنَّ هذا حقٌّ، ولكن لو أماتهم وأعدَمهم فقطع عِتابهم كان أصلحَ لهم، ولو غَفَر لهم ورحمهم وأخرجهم من النَّار كان أصلحَ لهم من إماتتهم وإعدامهم ولم يتضرَّر سبحانه بذلك. اللازم الرابع: أنَّ ما فَعَله الربُّ تعالى من الصَّلاح والأصلح، وتَرَكه من الفساد والعبَث، لو كان واجبًا عليه لما استَوجب بفعله له حمدًا وثناءً، فإنه في فعله ذلك قد قضى ما وَجَبَ عليه، وما استَوجبه العبدُ بطاعته من ثوابه؛ فإنه عندكم حقُّه الواجبُ له على ربِّه، ومن قضى دينَه لم يستوجب بقضائه شيئًا آخر. اللازم الخامس: أنَّ خلقَ إبليسَ وجنوده أصلحُ للخلق وأنفعُ لهم من أن لم يُخْلَق، مع أنَّ إقطاعَه من العباد من كلِّ ألفٍ تسعُ مئةٍ وتسعةٌ وتسعون. اللازم السَّادس: أنه مع كون خَلْقه أصلحَ لهم وأنفعَ أن يكونَ إنظارُه إلى _________ (1) انظر ما مضى (ص: 340).

(2/992)


يوم القيامة أصلحَ لهم وأنفعَ من إهلاكه وإماتته. اللازم السَّابع: أن يكونَ تمكينُه من إغوائهم وجَرَيانه منهم مجرى الدَّم في أبشارهم أنفعَ لهم وأصلحَ لهم من أنْ يحال بينهم وبينه. اللازم الثَّامن: أن يكون إماتةُ الرُّسل (1) أصلحَ للعباد من بقائهم بين أظهرهم، مع هدايتهم لهم، وأصلحَ من أن يحال بينهم وبينها (2). اللازم العاشر (3): ما ألزَمه أبو الحسن الأشعريُّ للجُبَّائيِّ وقد سأله عن ثلاثة إخوةٍ أمات الله أحدَهم صغيرًا وأحيا الآخرَين، فاختار أحدُهما الإيمان والآخرُ الكفر، فرفَع درجةَ المؤمن البالغ على أخيه الصَّغير في الجنَّة لعمله، فقال أخوه: يا ربِّ لم لا تبلِّغُني منزلة أخي؟ فقال: إنه عاش وعمل أعمالًا استحقَّ بها هذه المنزلة، فقال: يا ربِّ فهلَّا أحييتني حتى أعمل مثلَ عمله! فقال: كان الأصلحُ لك أن توفَّيتُك صغيرًا؛ لأني علمتُ أنك إن بلغتَ اخترتَ الكفر، فكان الأصلحُ في حقِّك أن أمتُّك صغيرًا، فنادى أخوهما الثَّالثُ من أطباق النَّار: يا ربِّ فهلَّا عملتَ معي هذا الأصلح، واختَرمْتَني صغيرًا كما عملتَه مع أخي واخترمتَه صغيرًا؟ فأُسكِتَ الجُبَّائيُّ ولم يُجِبه بشيء (4). _________ (1) (ق): «إماتته الرسل». (2) بين الرسل والإماتة. وفي (ت): «وبين أن يحال بينهم وبينها». (3) كذا في (ق، د)، وفي الطرة إشارة إلى سقوط اللازم التاسع. وفي (ت): «التاسع»، وسقط منها الحادي عشر. (4) انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 267)، و «السير» (15/ 89)، و «منهاج السنة» (3/ 117).

(2/993)


فإذا عَلِمَ الله سبحانه أنه لو اختَرم العبدَ قبل البلوغ وكمال العقل لكان ناجيًا، ولو أمهَله وسهَّل له النَّظر لعَنَد وكَفَر وجَحَد، فكيف يقال: إنَّ الأصلحَ في حقِّه إبقاؤه حتى يبلُغ، والمقصودُ عندكم بالتكليف الاستصلاحُ والتَّعريض لأسنى الدَّرجات (1) التي لا تُنالُ إلا بالأعمال؟! أوليس الواحدُ منَّا إذا عَلِمَ من حال ولده أنه إذا أُعطِيَ مالًا يتَّجرُ به فهلكَ وخَسِر بسبب ذلك فإنه لا يعرِّضه لذلك، ويقبُح منه تعريضه له، وهو مِنْ ربِّ العالمين حسنٌ غيرُ قبيح؟! وكذلك من عَلِمَ من حال ولده أنه لو أعطاه سيفًا أو سلاحًا يقاتِلُ به العدوَّ، فقتل به نفسَه وأعطى السِّلاحَ لعدوِّه، فإنه يقبُح منه إعطاؤه ذلك السِّلاح، والرَّبُّ تعالى قد عَلِمَ من أكثر عباده ذلك، ولم يقبُح منه سبحانه تمكينُهم وإعطاؤهم الآلات، بل هو حسنٌ منه. كيف وقد ساعدوا على نفوسِهم بأنَّ الله سبحانه لو عَلِمَ أنه لو أرسل رسولًا إلى خلقه وكلَّفه الأداءَ عنه، مع علمه بأنه لا يؤدِّي، فإنَّ علمَه سبحانه بذلك يَصْرِفُه عن إرادة الخير والصَّلاح (2)، وهذا بمثابة من أدلى حبلًا إلى غريقٍ ليخلِّصَ نفسَه من الغرق، مع علمه بأنه يخنُق نفسَه به. وقد ساعدوا أيضًا على نفوسِهم بأنَّ الله سبحانه إذا عَلِمَ أنَّ في تكليفه عبدًا من عباده فسادَ الجماعة فإنه يقبُح تكليفُه، لأنه استفسادٌ لمن يَعْلَمُ أنه _________ (1) في الأصول: «والتعويض بأسنى الدرجات». وهو تحريف. وفي «النهاية»: «والتعريض لا معنى الدرجات». ولعل الصواب ما أثبت. (2) «نهاية الأقدام» (408): «فإن علمه به يصرفه عن إرادته الأداء عنه، فكذلك لو علم أنه يكفر ويهلك وجب أن يصرفه عن إرادته الخير والصلاح له».

(2/994)


يكفُر عند تكليفه. الإلزام الحادي عشر (1): أنهم قالوا ــ وصدَقوا ــ: إنَّ الرَّبَّ تعالى قادرٌ على التفضُّل بمثل الثَّواب ابتداءً بلا واسطة عمل، فأيُّ غَرَضٍ له في تعريض العباد للبلوى والمشاقِّ؟! ثمَّ قالوا - وكذَبوا ــ: الغرض في التكليف أنَّ استيفاء المستحِقِّ حقَّه أهنأ له وألذُّ من قبول التفضُّل واحتمال المِنَّة. وهذا كلامُ أجهل الخلق بالرَّبِّ تعالى وبحقِّه وبعظمته، ومُساوٍ بينه وبين آحاد النَّاس، وهو من أقبح التشبيه (2) وأخبثه، تعالى الله عن ضلالهم علوًّا كبيرًا. فكيف يستنكفُ العبدُ المخلوقُ المربوبُ من قبول فضل الله تعالى ومِنَّته؟! وهل المِنَّةُ في الحقيقة إلا لله المانِّ بفضله؟! قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، ولما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «ألم أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟» أجابوه بقولِهم: الله ورسولُه أمَنُّ (3). _________ (1) (ت): «الإلزام العاشر». (2) في الأصول: «أقبح النسبة». والمثبت من (ط)، وهو أشبه. (3) أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.

(2/995)


ويا للعقول التي قد خُسِف بها! أيُّ حقٍّ للعبد على الرَّبِّ حتى يمتنع من قبول مِنَّته عليه؟! فبأيِّ حقٍّ استحقَّ الإنعامَ عليه بالإيجاد، وكمال الخِلقة، وحُسْن الصُّورة، وقوام البِنية، وإعطائه القُوى والمنافع والآلات والأعضاء، وتسخير ما في السَّموات وما في الأرض له؟! ومِنْ أقلِّ ما له عليه من النِّعم التنفُّسُ في الهواء الذي لا يكادُ يخطُر بباله أنه من النِّعم، وهو في اليوم والليلة أربعةٌ وعشرون ألف نفَس، فإذا كانت أقلَّ نِعَمه عليهم ــ ولا أقلَّ منها ــ أربعةٌ وعشرون ألف نعمةٍ كلَّ يومٍ وليلة، فما الظَّنُّ بما هو أجلُّ منها من النِّعم؟! فيا للعقول السَّخيفة المخسوف بها! أيُّ علمٍ لكم (1) وأيُّ سعيٍ يقابلُ القليلَ من نِعَمه الدُّنيويَّة حتى لا يبقى لله عليكم منَّةٌ إذا أثابكم، لأنكم استوفيتم ديونكم قِبَله ولا نعمة له عليكم فيها؟! فأيُّ أمَّةٍ من الأمم بلغ جهلُها بالله هذا المبلغ، واستنكفَت عن قبول مِنَّته، وزعمَت أنَّ لها الحقَّ على ربها، وأنَّ تفضُّلَه عليها ومِنَّتَه مكدِّرٌ لالتذاذها بعطائه؟! ولو أنَّ العبدَ استعمل هذا الأدبَ مع ملكٍ من ملوك الدُّنيا لمَقَته وأبعَده وسَقط من عينِه، مع أنه لا نعمة له عليه في الحقيقة، إنما المنعِمُ في الحقيقة هو الله وليُّ النِّعم ومُولِيها. ولقد كشَف القومُ عن أقبح عورةٍ من عورات الجهل بهذا الرَّأي السَّخيف والمذهب القبيح، والحمدُ لله الذي عافانا مما ابتلى به أربابَ هذا المذهب، المستنكِفين من قبول مِنَّة الله، الزَّاعمين أنَّ ما أنعم الله به عليهم _________ (1) كذا في الأصول. ولعل الصواب: أيُّ عمل لكم.

(2/996)


حقُّهم عليه وحقُّهم قِبَله، وأنه لا يستحقُّ الحمدَ والثَّناء على أداء ما عليه من الدَّين والخروج مما عليه من الحقِّ؛ لأنَّ أداء الواجب يقتضي غيره (1). تعالى الله عن إفكهم وكذبهم علوًّا كبيرًا. الإلزام الثَّاني عشر: أنه يلزمهم أن يوجبوا على الله عزَّ وجلَّ أن يميتَ كلَّ من عَلِمَ من الأطفال أنه لو بلَغ لكفَر وعاند، فإنَّ اخترامَه هو الأصلحُ له بلا ريب. أو أن يجحَدوا علمَه سبحانه بما سيكونُ قبل كونه، كما التزمه سلفُهم الخبيث الذين اتفق سلفُ الأمَّة الطيِّبُ على تكفيرهم، ولا خلاصَ لهم عن أحد هذين الإلزامَيْن إلا بالتزام مذهب أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ أفعال الله تعالى (2) لا تقاسُ بأفعال عباده، ولا تدخُل (3) تحت شرائع عقولهم القاصرة، بل أفعالُه لا تُشْبِهُ أفعالَ خلقه، ولا صفاتُه صفاتِهم؛ ولا ذاتُه ذواتِهم؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. الإلزام الثَّالث عشر: أنه سبحانه لا يُؤْلِم أحدًا من خلقه أبدًا؛ لعدم المنفعة في ذلك بالنسبة إليه وإلى العبد. ولا ينفعكم اعتذارُكم بأنَّ الإيلام سببُ مضاعفة الثَّواب ونيل الدَّرجات العُلى؛ فإنَّ هذا (4) ينتقض بالحيوان البهيم، وينتقض بالأطفال الذين لا يستحقُّون ثوابًا ولا عقابًا (5). _________ (1) كذا في الأصول. وانظر ما مضى في اللازم الرابع. (2) (ت): «وأن الله تعالى». (3) (ت): «ولا يدخل». (4) (د، ت): «وأن هذا». ولعل الصواب ما أثبت. (5) من قوله: «ولا ينفعكم» إلى هنا ساقط من (ق).

(2/997)


ولا ينفعكم اعتذارُكم بأنَّ الطِّفل ينتفعُ به بالآخرة في زيادة ثوابه؛ لانتقاضه عليكم بالطِّفل الذي عَلِمَ الله أنه يبلُغ ويختارُ الكفرَ والجحود، فأيُّ مصلحةٍ له في إيلامه؟! وأيُّ معنًى ذكرتُموه على أصولكم الفاسدة فهو منتقضٌ عليكم بما لا جوابَ لكم عنه. الإلزام الرَّابع عشر: أنَّ من عَلِمَ الله سبحانه [أنه] إذا بَلَغ [من] الأطفال يختارُ الإيمانَ والعمل الصَّالح (1)، فإنَّ الأصلحَ في حقِّه أن يُحْيِيَه حتى يبلُغ ويؤمِن، فينال بذلك الدَّرجة العالية، وأن لا يخترمه صغيرًا. وهذا مما لا جوابَ لكم عنه. الإلزام الخامس عشر: وهو مِنْ أعظم الإلزامات وأصحِّها إلزامًا؛ وقد التزمه القدريَّة، وهو أنه ليس في مقدور الله تعالى لطفٌ لو فَعَله الله تعالى بالكفَّار لآمنوا، وقد التزم المعتزلةُ القدريَّةُ هذا اللَّازم، وبنَوه على أصلهم الفاسد: أنه يجبُ على الله تعالى أن يفعل في حقِّ كلِّ عبد ما هو الأصلحُ له، فلو كان في مقدوره فعلٌ يؤمِنُ العبدُ عنده لوَجَب عليه أن يفعله به. والقرآنُ من أوَّله إلى آخره يردُّ هذا القول ويكذِّبه، ويخبرُ تعالى أنه لو شاء لهدى النَّاسَ جميعًا، ولو شاء لآمنَ من في الأرض كلُّهم جميعًا، ولو شاء لآتى كلَّ نفسٍ هُداها. الإلزام السَّادس عشر: وهو مما التزمه القومُ أيضًا؛ أنَّ لطفَه ونعمته وتوفيقَه بالمؤمن كلُطفه بالكافر، وأنَّ نعمتَه عليهما سواءٌ لم يخُصَّ المؤمنَ بفضلٍ عن الكافر! _________ (1) ما بين المعكوفات ليس في الأصول.

(2/998)


وكفى بالوحي وصريح المعقول وفطرة الله والاعتبار الصَّحيح وإجماع الأمَّة ردًّا لهذا القول وتكذيبًا له. الإلزام السَّابع عشر: أنَّ ما مِنْ أصلحَ إلا وفوقه ما هو أصلحُ منه، والاقتصار على رتبةٍ واحدةٍ (1) كالاقتصار على الصَّلاح، فلا معنى لقولكم: يجبُ مراعاة الأصلح، إذ لا نهاية له، فلا يمكنُ في العقل (2) رعايتُه. الإلزام الثَّامن عشر: أنَّ الإيجابَ والتَّحريمَ يقتضي سؤال الموجِب المحرِّم لمن أوجَب عليه وحرَّم: هل فَعَل مقتضى ذلك أم لا؟ وهذا محالٌ في حقِّ من لا يُسْألُ عمَّا يفعل، وإنَّما يُعْقَلُ في حقِّ المخلوقين وأنهم يُسْألون. وبالجملة؛ فتحتُم بهذه المسألة طريقًا للاستغناء عن النُّبوَّات (3)، وسلَّطتم بها الفلاسفةَ والصَّابئةَ والبَراهِمة وكُلَّ منكِرٍ للنُّبوَّات، فهذه المسألةُ بابٌ بيننا وبينهم (4)؛ فإنكم إذا زعمتم أنَّ في العقل حاكمًا يحسِّن ويقبِّح، ويوجبُ ويحرِّم، ويتقاضى الثَّوابَ والعقاب، لم تكن الحاجةُ إلى البعثة ضروريَّة، لإمكان الاستغناء عنها بهذا الحاكم. ولهذا قالت الفلاسفةُ ــ وزادت عليكم حجَّةً وتقريرًا ــ: قد اشتمل الوجودُ على خيرٍ مطلق، وشرٍّ مطلق، وخيرٍ وشرٍّ ممتزجَيْن (5)، والخيرُ _________ (1) (ت) و «نهاية الأقدام» (410): «مرتبة واحدة». (2) في الأصول: «الفعل». والمثبت من «نهاية الأقدام». (3) في الأصول: «عن الصواب». وهو تحريف. والمثبت مما سيأتي (ص: 1149). (4) في الأصول: «فهذه المسألة بيننا وبينهم». والمثبت مما سيأتي (ص: 1149). (5) (ت): «ممزوجين».

(2/999)


المطلقُ مطلوبٌ في العقل لذاته، والشرُّ المطلقُ مرفوضٌ في العقل لذاته (1)، والممتزجُ مطلوبٌ من وجهٍ ومرفوضٌ من وجه، وهو بحسب الغالب من جهته. ولا يشكُّ العاقلُ أنَّ العلمَ بجنسه ونوعه خيرٌ ومحمودٌ ومطلوب، والجهلَ بجنسه ونوعه شرٌّ في العقل (2)، فهو مستقبَحٌ عند الجمهور، والفِطرُ السَّليمةُ داعيةٌ إلى تحصيل المستحسَن ورفض المستقبَح، سواءٌ حَمَله عليه شارعٌ أو لم يحمله. ثمَّ الأخلاقُ الحميدةُ والخِصالُ الرَّشيدةُ من العِفَّة والجود والسَّخاء (3) والنَّجدة مستحسَناتٌ فعليَّة، وأضدادُها مستقبَحاتٌ فعليَّة (4)، وكمالُ حال الإنسان أن تستكمِل النَّفسُ قُوى العلم الحقِّ والعمل الخير. والشرائعُ إنما تَرِدُ بتمهيد ما تقرَّر في العقل لا بتغييره، لكنَّ العقول الجزئيَّة (5) لما كانت قاصرةً عن اكتساب المعقولات بأسْرِها، عاجزةً (6) _________ (1) «نهاية الأقدام» (375): «مطلوب العقل لذاته ... مرفوض العقل لذاته». (2) «نهاية الأقدام»: «شر مذموم غير مطلوب». (3) «نهاية الأقدام»: «والجود والشجاعة». (4) «نهاية الأقدام»: «علمية». وفي نسخة: «عملية». (5) (ق): «الحرورية». والمثبت من «نهاية الأقدام» (375، 393، 339)، وهو الصواب. وفي نسخة من «النهاية»: «الجزوية» بتسهيل الهمز، وهي كذلك في (د) لكن مهملة، وما في (ق) محرَّفٌ عنها. وانظر للعقل الجزئي والكلي عند الفلاسفة: «الملل والنحل» (2/ 117)، و «الصفدية» (2/ 199)، و «بغية المرتاد» (187). (6) من قوله: «ولكن العقول» إلى هنا ساقط من (ت).

(2/1000)


عن الاهتداء إلى المصلحة الكليَّة الشاملة لنوع الإنسان= وَجَبَ مِنْ حيث الحكمة أن يكونَ بين النَّاس شرعٌ يفرضُه شارعٌ يحمِلُهم على الإيمان بالغيب جملة (1)، ويهديهم إلى مصالح معاشهم ومعادهم تفصيلًا؛ فيكونُ قد جمَع لهم بين حظَّي العلم والعمل (2) على مقتضى العقل، وحمَلهم على التَّوجُّه إلى الخير المحض، والإعراض عن الشرِّ المحض؛ استبقاءً لنوعِهم، واستدامةً لنظام العالم. ثمَّ ذاك الشارع (3) يجبُ أن يكون مميَّزًا من بينِهم بآياتٍ تدلُّ على أنها من عند ربِّه سبحانه، راجحًا عليهم بعقله الرَّزين، ورأيه المتين، وحَدْسِه النَّافذ (4)، وخلقه الحسن، وسَمْته وهَدْيه، يَلِينُ لهم في القول، ويشاورُهم في الأمر، ويكلِّمهم على قَدر عقولهم، ويكلِّفهم بحسب وُسْعِهم وطاقتهم. قالوا (5): وقد أخطأت المعتزلةُ حين ردُّوا الحُسْنَ والقُبحَ إلى الصِّفات الذَّاتية للأفعال، وكان من حقِّهم تقريرُ ذلك في العلم والجهل، إذ الأفعالُ تختلفُ بالأشخاص والأزمان وسائر الإضافات، وليست هي على صفاتٍ نفسيَّةٍ لازمةٍ لها بحيث لا تفارقها البتَّة. _________ (1) (ق): «جملة جملة». وهو خطأ. (2) في الأصول: «العلم والعدل». تحريف. والمثبت من «نهاية الأقدام». (3) أي: النبي. (4) (د، ق): «وحديثه الناقد». (ت): «وحديثه النافذ». وفي «نهاية الأقدام»: «وحدسه النافذ، وبصره الناقد». (5) أي: الفلاسفة.

(2/1001)


ثمَّ زادت الصَّابئةُ (1) في ذلك على الفلاسفة، وقالوا: لما كانت الموجوداتُ في العالم السُّفليِّ مركَّبةً (2) على تأثير الكواكب والرُّوحانيَّات (3) التي هي مدبِّراتُ الكواكب، وكان في اتصالاتها نظرُ سعدٍ (4) ونَحْس، وَجَبَ أن يكونَ في آثارها حُسْنٌ وقُبحٌ في الأخلاق والخَلق والأفعال. والعقولُ الإنسانيةُ متساويةٌ في النَّوع، فوَجَبَ أن يدركها كلُّ عقلٍ سليمٍ وطبعٍ قَوِيم، ولا تتوقَّفُ معرفةُ المعقولات على من هو مثلُ ذلك العاقل في النَّوع، فنحن لا نحتاجُ إلى من يُعَرِّفُنا حُسْنَ الأشياء وقُبحَها، وخيرَها وشرَّها، ونفعَها وضرَّها، وكما أنَّا نستخرجُ بالعقول من طبائع الأشياء منافعَها ومضارَّها، كذلك نستنبطُ من أفعال نوع الإنسان (5) حَسَنَها وقبيحَها، فنُلابِسُ ما هو حَسَنٌ منها (6) بحسب الاستطاعة، ونجتنبُ ما هو قبيحٌ منها بحسب الطَّاقة، فأيُّ حاجةٍ بنا إلى شارعٍ يتحكَّمُ على عقولنا؟! _________ (1) المشركون منهم، الذين يعظِّمون الروحانيات، كهياكل الكواكب السبعة، يجعلونها وسائط بينهم وبين الله. ومنهم طائفةٌ أخرى موحِّدون. انظر: «الملل والنحل» (2/ 7)، و «درء التعارض» (7/ 334)، و «الرد على المنطقيين» (288، 480)، و «الرد على الشاذلي» (136)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 295)، و «أحكام أهل الذمة» (231)، وما سيأتي (ص: 1172). (2) «نهاية الأقدام»: «مرتبة». (3) بضمِّ الراء وفتحها، من الرُّوح أو الرَّوح. انظر: «الملل والنحل» (2/ 6). (4) في الأصول: «سعيد». والمثبت من «نهاية الأقدام». (5) (ت): «أنواع فعل الإنسان». (6) في الأصول: «أحسن منها». والمثبت من «نهاية الأقدام».

(2/1002)


وزادت التَّناسُخيَّةُ (1) على الصَّابئة بأن قالوا: نوعُ الإنسان لمَّا كان موصوفًا بنوع اختيارٍ في أفعاله، مخصوصًا بنُطقٍ وعقلٍ في علومه وأحواله؛ ارتفَع عن الدَّرجة الحيوانية ارتفاعَ اسْتِسْخارٍ لها (2)، فإن كانت أعمالُه على مناهج الدَّرجة الإنسانية ارتفعَت إلى الملائكة (3)، وإن كانت على مناهج الدَّرجة الحيوانية انخفضت إليها أو إلى أسفل، وهو أبدًا في أحد أمرين: إمَّا فعلٍ يقتضي جزاءً (4)، أو مجازاةٍ على فِعل، فما باله يحتاجُ في أفعاله وأحواله إلى شخصٍ مثله يحسِّنُ أو يقبِّح؟! فلا العقلُ يحسِّنُ ويقبِّحُ، ولا الشَّرع، ولكنْ حُسْنُ أفعاله جزاءٌ على حُسْن أفعال غيره، وقُبح أفعاله كذلك، وربَّما يَظْهَرُ (5) حُسْنُها وقبحُها صُورًا حيوانيةً روحانية (6)، وربَّما يصيرُ (7) الحُسْن والقُبح في الحيوانات أفعالًا إنسانية، وليس بعد هذا العالم عالمٌ آخر (8) يُحْكَمُ فيه ويحاسَبُ ويثابُ ويعاقَب. _________ (1) الذين قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد، وانتقالها من شخصٍ إلى شخص، وما يلقى الإنسانُ من الراحة والتعب فمرتَّبٌ على ما أسلفه من قبل وهو في بدن آخر، جزاءً على ذلك. انظر: «الملل والنحل» (1/ 253)، و «الروح» (304)، و «طريق الهجرتين» (249 - 250). (2) الاستسخار من التسخير، بمعنى: الاستخدام. وذلك شأن الإنسان مع الحيوان. (3) «نهاية الأقدام»: «إلى الملكية». (4) «نهاية الأقدام»: «إما فعل الجزاء». (5) «نهاية الأقدام»: «وربما يصير». (6) (ت): «وريحانية». وليست في «نهاية الأقدام». (7) في الأصول: «وانما يصير». والمثبت من «نهاية الأقدام». (8) «نهاية الأقدام»: «عالم جزاء».

(2/1003)


وزادت البَراهِمَةُ (1) على التَّناسُخية بأن قالوا: نحن لا نحتاجُ إلى شريعةٍ وشارعٍ أصلًا؛ فإنَّ ما يأمرُ به النَّبيُّ لا يخلو إمَّا أن يكون معقولًا أو غيرَ معقول، فإن كان معقولًا فقد استُغْنِي بالعقل عن النَّبيِّ، وإن لم يكن معقولًا لم يكن مقبولًا (2). فهذه الطَّوائفُ كلُّها لما جعلت في العقل حاكمًا بالحُسْن والقُبح أدَّاها إلى هذه الآراء الباطلة والنِّحَل الكافرة، وأنتم يا معاشِرَ المُثْبِتة (3) يصعُب عليكم الرَّدُّ عليهم وقد وافقتموهم على هذا الأصل، وأمَّا نحنُ فأخَذنا عليهم رأسَ الطَّريق، وسَدَدنا عليهم الأبواب، فمَن طرَّق لهم الطَّريق، وفتح لهم الأبواب، ثمَّ رام مُناجَزة القوم، فقد رام مرتقًى صعبًا. فهذه مَجامعُ جيوش النُّفاة قد وافَتك بعَدَدها وعُدَدها، وأقبلَت إليك بحَدِّها وحَدِيدها، فإن كنتَ من أبناء الطَّعن والضَّرب فقد التقى الزَّحفان، وتقابَل الصَّفَّان، وإن كنتَ من أصحاب التُّلول (4) فالزَم مقامَك، ولا تَدْنُ من الوطيس فإنه قد حَمِي، وإن كنتَ من أهل الأسراب (5) الذين يسألونَ عن الأنباء ولا يثبُتون عند اللقاء: _________ (1) نسبةً إلى رجلٍ منهم اسمه «براهم»، يقرُّون بالله، ويجحدون الرسل. وهم طوائفُ ثلاث. انظر: «الملل والنحل» (2/ 250 - 255). (2) «نهاية الأقدام» (375 - 378). (3) مثبتة الحُسن والقُبح العقليين. (4) أي: من حظُّه من المعركة الجلوسُ على التلول للنظر إليها فحسب، فهم نظَّارةُ الحرب، كما قال المصنف فيما مضى (ص: 86). والتلُّ: ما ارتفع من الأرض عما حوله، وهو دون الجبل. (5) جمع: سَرَب، وهو الجُحر والنَّفق. «اللسان» (سرب).

(2/1004)


فَدَع الحُروبَ لأقوامٍ لها خُلِقوا ... وما لها مِنْ سوى أجسامِهم جُنَنُ ولا تَلُمْهُم على ما فيكَ مِنْ جُبُنٍ ... فبِئسَتِ الخَلَّتانِ اللُّؤمُ والجُبُنُ (1) قال المتوسِّطون من أهل الإثبات: ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حقٌّ وباطل، ونحن نُساعِدُ كلَّ فريقٍ على حقِّه ونصيرُ له، ونُبْطِلُ ما معه من الباطل ونردُّه عليه؛ فنجعلُ حقَّ الطَّائفتين مذهبًا ثالثًا يخرُج من بين فَرْثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، من غير أن ننتسبَ (2) إلى ذي مقالةٍ وطائفةٍ معيَّنةٍ انتسابًا يحمِلُنا على قبول جميع أقوالها (3)، والانتصار لها بكلِّ غثٍّ وسمين، وردِّ جميع أقوال خصومها ومكابرتها (4) على ما معها من الحقِّ، حتى لو كانت تلك الأقوالُ منسوبةً إلى رئيسِها وطائفتِها لبالغَت في نصرتها وتقريرها، وهذه آفةٌ ما نجا منها إلا من أنعَم الله عليه وأهَّله لمتابعة الحقِّ أين كان ومع من كان، وأمَّا من يرى أنَّ الحقَّ وقفٌ مؤبَّدٌ على طائفته وأهل مذهبه، وحِجْرٌ محجورٌ على من سواهم ممَّن لعلَّه أقربُ إلى الحقِّ والصَّواب منه، فقد حُرِم خيرًا كثيرًا، وفاته هدًى عظيم. قالوا: وها نحن (5) نجلسُ مجلسَ الحكومة بين هاتين المقالتين، فمن أدلى بحجَّته في موضعٍ كان المحكومَ له في ذلك الموضع، وإن كان المحكومَ عليه حيث يُدْلي خصمُه بحجَّته. _________ (1) الجُبُن، بالتحريك، لغةٌ في الجُبْن، وليست ضرورة. (2) في الأصول: «ننسب». والمثبت من (ط)، ويؤيده ذكر المصدر عقبه. (3) في الأصول: «أحوالها». والمثبت أولى، بدلالة ما بعده. (4) (ت): «ومكابريها». (ق): «ومكابروها». وأهملت في (د). والمثبت أشبه بالصواب. (5) (ق، د): «وهنا نحن». (ت): «وهنا». والمثبت أشبه بنمط كلام المصنف.

(2/1005)


والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ (1) والعدل بين الطَّوائف المختلفة، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 13 - 15]. فأخبَر تعالى أنه شَرع لنا دينَه الذي وصَّى به نوحًا والنَّبيِّين من بعده، وهو دينٌ واحد، ونهانا عن التفرُّق فيه (2)، ثمَّ أخبَرنا أنه ما تفرَّق مَنْ قبلنا في الدِّين إلا بعد العلم الموجِب للاتفاق (3) وعدم التفرُّق، وأنَّ الحامل على ذلك التفرُّق البغيُ من بعضهم على بعض، وإرادةُ كلِّ طائفةٍ أن يكون العلوُّ والظُّهورُ لها ولقولها دون غيرها. وإذا تأمَّلتَ تفرُّق أهل البدع والضَّلال رأيتَه صادرًا عن هذا بعَيْنه. ثمَّ أمر سبحانه نبيَّه أن يدعو إلى دينه الذي شرعَه لأنبيائه، وأن يستقيمَ كما أمره ربُّه، وحذَّره من اتِّباع أهواء المتفرِّقين، وأمره أن يؤمنَ بكلِّ ما أنزله _________ (1) (ت): «ودين الحق ليظهره على الدين كله». (2) (ق): «التفريق فيه». (3) في الأصول: «للاثبات». والمثبت أشبه.

(2/1006)


الله من الكتب. وهذه حالُ المُحِقِّ؛ أن يؤمنَ بكلِّ ما جاءه من الحقِّ على لسان أيِّ طائفةٍ كانت. ثمَّ أمره أن يخبرهم بأنه أُمِرَ بالعدل بينهم، وهذا يَعُمُّ العدلَ في الأقوال والأفعال والآراء والمحاكمات، فنَصَبَه ربُّه ومُرْسِلُه للعدل بين الأمم. فهكذا وارثُه ينتصبُ للعدل بين المقالات والآراء والمذاهب، ونسبته (1) منها إلى القَدْر المشتَرك بينها من الحقِّ فهو أولى به وبتقريره والحُكم لمن خاصمَ به. ثمَّ أمره أن يخبرهم بأنَّ الرَّبَّ المعبود واحد، فما الحاملُ للتفرُّق والاختلاف، وهو ربُّنا وربُّكم، والدِّينُ واحد، ولكلِّ عاملٍ عملُه لا يَعْدُوه إلى غيره؟! ثمَّ قال: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} والحجَّةُ هاهنا هي الخصومة، أي: لا خصومة، ولا وجه لخصومةٍ بيننا وبينكم بعد ما ظهرَ الحقُّ وأسفَر صبحُه، وبانت أعلامُه، وانكشفت الغمَّةُ عنه. وليس المرادُ نفيَ الاحتجاج من الطَّرفين، كما يظنُّه بعض من لا يدري ما يقول، وأنَّ الدِّين لا احتجاجَ فيه. كيف، والقرآنُ من أوَّله إلى آخره حُجَجٌ وبراهينُ على أهل الباطل قطعيَّةٌ يقينيَّة، وأجوبةٌ لمعارضاتهم وإفسادٌ لأقوالهم بأنواع الحُجَج والبراهين، وإخبارٌ (2) عن أنبيائه ورسله بإقامة _________ (1) كذا في (ت، ق). وهي مهملة في (د). ولستُ منها على ثلج. (2) في الأصول: «وإخبارا»، بالنصب، وما قبله من المعطوفات. ولعل المثبت هو الصواب.

(2/1007)


الحُجَج والبراهين، وأمرٌ لرسوله بمجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، وهل تكونُ المجادلةُ إلا بالاحتجاج وإفساد حُجَج الخصم؟! وكذلك أمَر المسلمينَ بمجادلة أهل الكتابِ بالتي هي أحسن، وقد ناظر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ طوائف الكفر أتمَّ مُناظرة، وأقام عليهم ما أفحَم به (1) من الحُجَج، حتى عَدَل بعضهم إلى محاربته بعد أن عجَز عن ردِّ قوله وكَسْر حجَّته، واختار بعضُهم مسالمَته ومتاركَته، وبعضُهم بذَل الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغر، كلُّ ذلك بعد إقامة الحُجَج عليهم، وأخْذِها بكَظَمِهم (2)، وأسْرِها لنفوسهم، وما استجاب له من استجاب إلا بعد أن وضحَت له الحجَّة، ولم يجد إلى ردِّها سبيلًا، وما خالفه أعداؤه إلا عنادًا منهم وميلًا إلى المكابرة، بعد اعترافهم بصحَّة حُجَجه، وأنها لا تُدْفَع؛ فما قام الدِّينُ إلا على ساق الحجَّة (3). فقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا خصومة؛ فإنَّ الرَّبَّ واحد، فلا وجه للخصومة فيه، ودينُه واحد، وقد قامت الحجَّةُ وتحقَّق البرهان، فلم يَبْق للاحتجاج والمخاصَمة فائدة، فإنَّ فائدة الاحتجاج ظهورُ الحقِّ ليتَّبع، فإذا ظهر وعانده المخالفُ وترَكه جحودًا وعنادًا لم يَبْق للاحتجاج فائدة، فلا حجَّة بيننا وبينكم أيها الكفَّار، فقد وضحَ الحقُّ واستبان، ولم يَبْق إلا الإقرارُ به أو العناد، والله يجمعُ بيننا يوم القيامة فيقضي للمُحِقِّ على المُبْطِل، وإليه المصير. _________ (1) كذا في الأصول. وفي (ط): «ما أفحمهم به». (2) الكَظَم: الحَلق، أو مخرج النَّفَس منه. «اللسان» (كظم). (3) (ت): «إلا ببيان الحجة».

(2/1008)


قالوا: وها نحنُ نتحرَّى القِسْط بين الفريقين، عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المُقْسِطون عند الله يوم القيامة على منابرَ مِنْ نور، عن يمين الرَّحمن، الذين يَعْدِلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا» (1). ويكفي في هذا قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. قالوا: قد أصاب أهلُ الإثبات من المعتزلة في قولهم: إنَّ الحُسْن والقُبحَ صفاتٌ ثبوتيةٌ للأفعال، معلومةٌ بالعقل والشَّرع، وأنَّ الشَّرع جاء بتقرير ما هو مستقرٌّ في الفِطر والعقول، مِنْ تحسين الحسَن والأمر به، وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجِاء بما يخالفُ العقلَ والفطرة، وإن جاء بما تَعْجَزُ العقولُ عن إدراكه (2) والاستقلال به؛ فالشرائعُ جاءت بمَحَارات العقول لا مُحَالاتها (3)، وفرقٌ بين ما لا تُدْرِكُ العقولُ حُسْنَه وبينَ ما تَشْهَدُ بقُبْحِه، فالأوَّلُ مما يأتي به الرُّسلُ دون الثَّاني. وأخطؤوا في ترتيب العقاب على هذا القبيح عقلًا، كما تقدَّم. وأصابوا في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعلُ فعلًا خاليًا _________ (1) أخرجه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو. (2) (ق، ت): «عن أحواله». وهو تحريف. (3) هذه العبارة البليغة من بديع كَلِم شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: «درء التعارض» (1/ 147، 2/ 314، 5/ 297، 7/ 327)، وغيره. وتحرفت «محارات» في (ط) وبعض المصادر إلى: «مجازات». انظر: «درء التعارض» (2/ 314).

(2/1009)


عن الحكمة، بل كلُّ أفعاله مقصودةٌ لعواقبها الحميدة، وغاياتها المحبوبة له. وأخطؤوا في موضعين: أحدهما: أنهم أعادوا تلك الحكمة إلى المخلوق، ولم يعيدوها إلى الخالق سبحانه، على فاسد أصولهم في نفي قيام الصِّفات به، فنفَوا الحكمةَ من حيث أثبتوها، وجَحَدوها من حيث أقرُّوا بها. الموضع الثَّاني: أنهم وضعوا لتلك الحكمة شريعةً بعقولهم، وأوجبوا على الرَّبِّ تعالى بها وحرَّموا، وشبَّهوه بخلقه في أفعاله، بحيث ما حَسُنَ منهم حَسُنَ منه، وما قَبُحَ منهم قَبُحَ منه، فلَزِمَتْهم بذلك (1) اللوازمُ الشَّنيعة، وضاق عليهم المجال، وعَجَزوا عن التَّخلُّص عن تلك الإلزامات (2)، ولو أنهم أثبتوا له حكمةً تليقُ به لا يُشْبِهُ خلقَه فيها، بل نسبتُها إليه كنسبة صفاته إلى ذاته، فكما أنه لا يُشْبِهُ خلقَه في صفاته فكذلك في أفعاله (3)، ولا يصحُّ الاستدلالُ بقُبح القبيحِ وحُسْن الحسَن منهم على ثبوت ذلك في حقِّه تعالى. ومِنْ هاهنا استطال عليهم النُّفاة، وصاحوا عليهم مِنْ كلِّ قُطر، وأقاموا عليهم ثائرةَ الشناعة (4). _________ (1) (ق): «فلزمته بذلك». وهو خطأ. (2) في الأصول: «الالتزامات». والمثبت أولى. (3) جواب (لو) محذوف، وتقديره ظاهر. (4) (ق): «نايرة الشناعة». وفي «جمهرة اللغة» (808): «نارت نائرةٌ، أي ثارت ثائرة».

(2/1010)


وأصابوا ــ أيضًا ــ في قولهم بأنَّ الربَّ تعالى لا يمتنعُ في نفسه الوجوبُ والتَّحريم. وأخطؤوا في جَعْل ذلك تابعًا لمقتضى عقولهم وآرائهم، بل يجبُ عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرُم عليه ما حرَّمه هو على نفسه، فهو الذي كتبَ على نفسه الرَّحمة، وأحقَّ على نفسه نصرَ المؤمنين، وأحقَّ على نفسه ثوابَ المطيعين، وحرَّم على نفسه الظُّلم، كما جعله محرَّمًا بين عباده. وأصابوا في قولهم: إنه سبحانه لا يحبُّ الشرَّ والكفرَ وأنواع الفساد، بل يكرهها، وأنه يحبُّ الإيمانَ والخير والبرَّ والطَّاعة. ولكن أخطؤوا في تفسير هذه المحبة والكراهة بمجرَّدِ معانٍ مفهومةٍ من ألفاظٍ خَلَقها في الهواء أو في الشَّجرة، ولم يجعلوها صفاتٍ قائمةً (1) به تعالى، على فاسد أصولهم في التَّعطيل ونفي الصِّفات، فنفَوا المحبةَ والكراهةَ من حيث أثبتوها، وأعادوها إلى مجرَّد الشَّرع، ولم يثبتوا لها حقيقةً قائمةً بذاته؛ فإنَّ شرع الله هو أمرُه ونهيُه، ولم يقُم به عندهم أمرٌ ولا نهي؛ فحقيقةُ قولهم أنه لا شَرْع ولا محبة ولا كراهة، وإن زخرفوا القول (2) وتحيَّلوا لإثبات ما سَدُّوا على نفوسهم طريقَ إثباته. وأصابوا ــ أيضًا ــ في قولهم: إنَّ مصلحة المأمور تنشأ من الفعل تارةً، ومن الأمر أخرى، فرُبَّ فعلٍ لم يكن مَنْشَأً لمصلحة المكلَّف، فلما أُمِرَ به صار مَنْشَأً لمصلحته بالأمر. _________ (1) (ت): «معاني مايهتدي». وهي مهملة في (د، ق). والمثبت أقرب ما يحتمله الرسمُ من الصواب. (2) (ت): «قولهم».

(2/1011)


ولو توسَّطوا هذا التَّوسُّط، وسلكوا هذا المسلك، وقالوا: إنَّ المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به تارةً، ومن الأمر تارةً، ومنهما تارةً، ومن العزم المجرَّد تارةً؛ لانتصَفوا مِنْ خصومهم. فمثال الأوَّل: الصِّدق، والعِفَّة، والإحسان، والعدل؛ فإنَّ مصالحها ناشئةٌ منها. ومثال الثَّاني: التَّجرُّد في الإحرام، والتَّطهُّر بالتُّراب، والسَّعيُ بين الصَّفا والمروة، ورميُ الجمار، ونحو ذلك؛ فإنَّ هذه الأفعال لو تجرَّدت عن الأمر لم تكن مَنْشَأً لمصلحة، فلما أُمِرَ بها نشأت مصلحتُها من نفس الأمر. ومثال الثَّالث: الصَّوم، والصَّلاة، والحجُّ، وإقامةُ الحدود، وأكثر الأحكام الشرعيَّة؛ فإنَّ مصلحتَها ناشئةٌ من الفعل والأمر معًا، فالفعلُ يتضمَّنُ مصلحةً والأمرُ به يتضمَّنُ مصلحةً أخرى، فالمصلحةُ فيها مِنْ وجهين. ومثال الرَّابع: أمرُ الله تعالى خليلَه إبراهيمَ بذبح ولده؛ فإنَّ المصلحة إنما نَشَأت مِنْ عزمِه على المأمور به، لا من نفس الفعل، وكذلك أمرُه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء بخمسين صلاة (1). فلما حَصَرتم المصلحة في الفعل وحده تسلَّط عليكم خصومُكم بأنواع المناقَضات والإلزامات. قالوا: وقد أصابَ النُّفاةُ حيث قالوا: إنَّ الحجَّة إنما تقوم على العباد بالرِّسالة، وأنَّ الله لا يعذِّبهم قبل البعثة، ولكنهم نَقَضوا الأصل ولم يَطْرُدوه، _________ (1) انظر: «تنبيه الرجل العاقل» (111، 525)، و «مجموع الفتاوى» (17/ 201، 203)، و «الأصفهانية» (204).

(2/1012)


حيث جوَّزوا تعذيبَ من لم تقُم عليه الحجَّةُ أصلًا من الأطفال والمجانين ومن لم تبلُغه الدَّعوة. وأخطؤوا في تسويتهم بين الأفعال التي خالفَ الله بينها فجَعَل بعضها حسنًا وبعضها قبيحًا، وركَّب في العقول والفِطر التَّفرِقة بينهما كما ركَّب في الحواسِّ التَّفرِقة بين الحُلو والحامض، والمُرِّ والعَذْب، والسُّخن والبارد، والضَّارِّ والنَّافع. فزَعَمَ النُّفاةُ أنه لا فرق في نفس الأمر أصلًا بين فعلٍ وفعلٍ في الحُسْن والقُبح، وإنما يعودُ الفرقُ (1) إلى عادةٍ مجرَّدةٍ أو وَهمٍ أو خيالٍ أو مجرَّد الأمر والنهي، وسَلَبوا الأفعالَ خواصَّها التي جعلها الله عليها من الحُسْن والقُبْح. فخالفوا الفِطر والعقول، وسلَّطوا عليهم خصومَهم بأنواع الإلزامات والمناقَضات الشنيعة جدًّا، ولم يجدُوا إلى ردِّها سبيلًا إلا بالعناد وجَحْدِ الضرورة. وأصابوا في نفيهم الإيجابَ والتَّحريمَ على الله الذي أثبتته القَدَرِيَّةُ من المعتزلة، ووضعوا على الله شريعةً بعقولهم قادتْهم إلى ما لا قِبَل لهم به من اللوازم الباطلة. وأخطؤوا في نفيهم عنه إيجابَ ما أوجبه على نفسه، وتحريمَ ما حرَّمه على نفسه بمقتضى حكمته وعدله وعزَّته وعلمه. وأخطؤوا ــ أيضًا ــ في نفيهم حكمتَه تعالى في خلقه وأمره، وأنه لا _________ (1) (ت): «يعود الأمر».

(2/1013)


يفعلُ شيئًا لشيء (1)، ولا يأمرُ بشيءٍ لشيء، وفي إنكارهم الأسبابَ والقُوى التي أودعها اللهُ في الأعيان والأعمال، وجَعْلِهم كلَّ لامٍ دَخَلت في القرآن لتعليل أفعاله وأوامره لامَ عاقبة، وكلَّ باءٍ دَخَلت لرَبْطِ المسبَّب بسببه باءَ مصاحَبة. فنفَوا الحِكَم والغايات المطلوبة في أوامره وأفعاله، وردُّوها إلى العلم والقدرة، فجَعَلوا مطابقةَ المعلوم للعلم ووقوعَ المقدور على وَفْقِ القدرة هو الحكمة، ومعلومٌ أنَّ وقوعَ المقدور بالقدرة ومطابقةَ المعلوم للعلم غيرُ الحكمة (2) والغايات المطلوبة من الفعل، وتعلُّقُ القدرة بمقدورها والعلم بمعلومه أعمُّ من كون المعلوم والمقدور مشتملًا على حكمةٍ ومصلحةٍ أو مجرَّدًا عن ذلك، والأعمُّ لا يُشْعِرُ بالأخصِّ ولا يستلزمه، وهل هذا في الحقيقة إلا نفيٌ للحكمة وإثباتٌ لأمرٍ آخر؟! وأخطؤوا ــ أيضًا ــ في تسويتهم بين المحبة والمشيئة، وأنَّ كلَّ ما شاءه الله من الأفعال والأعيان فقد أحبَّه ورَضِيَه، وما لم يَشَأه فقد كَرِهَه وأبغضه، فمحبتُه مشيئتُه وإرادتُه العامة، وكراهتُه وبغضه عدمُ مشيئته وإرادته. فلَزِمَهم من ذلك أن يكون إبليسُ محبوبًا له، وفرعونُ وهامانُ وجميعُ الشياطين والكفَّار، بل أن يكون الكفرُ والفسوقُ والظُّلمُ والعدوانُ الواقعةُ في العالم محبوبةً له مَرْضِيَّة، وأن يكون الإيمانُ والهدى ووفاءُ العهد (3) والبِرُّ ــ التي لم توجد من النَّاس ــ مكروهةً مسخوطةً له، ممقوتةً عنده! _________ (1) (ت): «لأجل شيء». (2) (ت): «عين الحكمة». وهو تحريف. (3) (ت): «والهدى والعدل».

(2/1014)


فسوَّوا بين الأفعال التي فاوَتَ الله بينها، وسوَّوا بين [المشيئة] المتعلِّقة بتكوينها وإيجادها والمحبة المتعلِّقة بالرِّضا بها واختيارها، وهذا مما استطال به عليهم خصومُهم، كما استطالوا هم عليهم حيث أخرجوها عن مشيئة الله وإرادته العامَّة، ونفَوا تعلُّق قدرته وخَلْقِه بها. فاستطال كلٌّ من الفريقين على الآخر بسبب ما معهم من الباطل، وهدى الله أهلَ السُّنَّة الذين هم وَسَطٌ في المقالات والنِّحَل لما اختلف الفريقان فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. فالقَدَرِيَّةُ حَجَرُوا على الله وألزموه شريعةً حرَّموا عليه الخروجَ عنها، وخصومُهم من الجبريَّة جوَّزوا عليه كلَّ فعلٍ ممكنٍ يتنزَّه عنه سبحانه، إذ لا يَلِيقُ بغِناهُ وحمدِه (1) وكماله ما نزَّه نفسَه عنه وحَمِدَ نفسَه بأنه لا يفعلُه. فالطَّائفتان متقابلتان غايةَ التقابل. والقَدَريَّةُ أثبتوا له حكمةً وغايةً مطلوبةً من أفعاله على حسب ما أثبتوه لخلقه، والجبريَّةُ نفَوا حكمتَه اللائقةَ به التي لا يشابهه فيها أحد. والقَدَرِيَّةُ قالت: إنه لا يريدُ من عباده طاعتَهم وإيمانهم، وإنه لا يشاء (2) ذلك منهم، والجبريَّةُ قالت: إنه يحبُّ الكفرَ والفسوق والعصيان ويرضاه مِنْ فاعله. والقَدَرِيَّةُ قالت: إنه يجبُ عليه سبحانه أن يفعل بكلِّ شخصٍ ما هو الأصلحُ له، والجبريَّةُ قالت: إنه يجوزُ أن يعذِّب أولياءه وأهلَ طاعته ومن لم _________ (1) (ت): «وحكمته». (2) في الأصول: «لا يسال». وهو تحريف.

(2/1015)


يَعْصِه قطُّ، وينعِّمَ أعداءه ومن كفَر به وأشرَك، ولا فرق عنده بين هذا وهذا (1)! فلْيَعْجَب العاقلُ من هذا التَّقابل والتَّباعُد الذي يزعُم كلُّ فريقٍ أنَّ قولهم هو محض العقل (2)، وما خالفه باطلٌ بصريح العقل! وكذلك القَدَرِيَّةُ قالت: إنه ألقى إلى عباده زمام الاختيار، وفوَّض إليهم المشيئة والإرادة، وإنه لم يخُصَّ أحدًا منهم دون أحدٍ بتوفيقٍ ولا لُطفٍ ولا هداية، بل ساوى بينهم في مقدوره، ولو قَدَرَ أن يهدي أحدًا ولم يهده كان بُخْلًا، وإنه لا يهدي أحدًا ولا يضلُّه إلا بمعنى البيان والإرشاد، وأمَّا خَلْقُ الهدى والضَّلال فهو إليهم ليس إليه. وقالت الجبريَّة: إنه سبحانه أجبَر عبادَه على أفعالهم. بل قالوا: إنَّ أفعالهم هي نفسُ أفعاله، ولا فِعْلَ لهم في الحقيقة ولا قدرة ولا اختيار ولا مشيئة، وإنما يعذِّبهم على ما فَعَلَه هو لا على ما فعلوه، ونسبةُ أفعالهم إليه كنسبة حركات الأشجار (3) والمياه والجمادات. فالقَدَريَّةُ سَلَبوه قدرتَه على أفعال العباد ومشيئته لها، والجبريَّةُ جعلوا أفعالَ العباد نفسَ أفعاله، وأنهم ليسوا فاعلينَ لها في الحقيقة، ولا قادرين عليها. فالقَدَرِيَّةُ سَلَبَته كمالَ مُلكِه، والجبريَّةُ سَلَبَته كمالَ حكمته، والطَّائفتان سَلَبَته كمالَ حمدِه. _________ (1) (ت): «ولا فرق بينه وبين هذا وهذا». (2) (ت): «محض القول». (3) (ق): «كحركات الأشجار».

(2/1016)


وأهلُ السُّنَّة الوسطُ أثبتوا كمالَ الملك والحمد والحكمة؛ فوصفوه بالقدرة التَّامَّة على كلِّ شيءٍ من الأعيان وأفعال العباد وغيرهم، وأثبتوا له الحكمةَ التَّامَّة في جميع خلقه وأمره، وأثبتوا له الحمدَ كلَّه في جميع ما خلقه وأمر به، ونزَّهوه عن دخوله تحت شريعةٍ يضعُها العبادُ بآرائهم، كما نزَّهوه عمَّا نزَّه نفسَه عنه مما لا يليقُ به؛ فاستولوا على محاسن المذاهب، وتجنَّبوا أردأها، ففازوا بالقِدْح المُعَلَّى، وغيرُهم طافَ على أبواب المذاهب ففاز بأخسِّ المطالب، والهدى هدى الله (1) يختصُّ به من يشاء من عباده. فصل إذا عرفتَ هذه المقدِّمة، فالكلام على كلمات النُّفاة من وجوه: أحدها: قولكم: «لو قدَّر الإنسانُ نفسَه وقد خُلِقَ تامَّ الخِلقة، تامَّ العقل، دفعةً [واحدةً]، مِنْ غير تأدُّبٍ بتأديب الأبوين ولا تعلُّمٍ من معلِّم، ثمَّ عُرِض عليه أمران: أحدهما: أنَّ الواحدَ أكثرُ من الاثنين، والآخر: أنَّ الكذبَ قبيح، لم يتوقَّف في الأوَّل، ويتوقَّفُ في الثَّاني» (2) = تقديرٌ مستحيل (3)، ركَّبتم عليه غيرَ معلوم الصحَّة؛ فإنَّ تقديرَ الإنسان كذلك محال. الوجه الثَّاني: سلَّمنا إمكانَ التَّقدير، لكن لِمَ قلتم بأنه لا يتوقَّفُ في كون الواحد نصفَ الاثنين، ويتوقَّفُ في كون الكذب قبيحًا بعد تصوُّر حقيقته؟ فلا نسلِّم أنه إذا تصوَّر ماهيَّةَ الكذب توقَّف في الجزم بقُبْحِه، وهل هذا إلا دعوى مجرَّدة؟! _________ (1) (ت): «ولهذا هدى الله». (2) انظر ما مضى: (ص: 972). (3) (ق): «فهذا تقدير مستحيل».

(2/1017)


الوجه الثَّالث: سلَّمنا أنه قد يتوقَّفُ في الحكم بقُبْحِه، ولكن لا يلزمُ من ذلك أن لا يكونَ قبيحًا لذاته، وقُبْحُه معلومٌ للعقل، وتوقُّفُ الذِّهن في الحكم العقليِّ لا يخرجُه عن كونه عقليًّا، ولا يجبُ التَّساوي في العقليَّات؛ إذ بعضها أجلى من بعض. فإن قلتم: فهذا التَّوقُّفُ ينفي أن يكونَ الحكمُ بقُبْحِه ضروريًّا، وهو يُبْطِلُ قولَكم. قلنا: هذا إنما لَزِم من التقدير المستحيل في الواقع، والمحالُ قد يَلْزَمه محالٌ آخر. سلَّمنا أنه ينفي كونَ الحكم بقُبْحِه ضروريًّا ابتداءً، فلِمَ قلتم: إنه لا يكونُ ضروريًّا بعدَ التأمُّل والنَّظر؟ والضروريُّ أعمُّ من كونه ضروريًّا ابتداءً بلا واسطةٍ أو ضروريًّا بواسطة، ونفيُ الأخصِّ لا يستلزمُ نفيَ الأعمِّ، ومن ادَّعى سَلْبَ الوسائط عن الضروريَّات فقد كابَر، أو اصطَلحَ مع نفسه على تسمية الضروريَّات بما لا يتوقَّفُ على واسطة! الوجه الرَّابع: أن تصوُّر ماهيَّة الكذب يقتضي جَزْمَ العقل بقُبْحِه، ونسبةُ الكذب إلى العقل (1) كنسبة المتنافرات الحِسِّيَّة إلى الحِسِّ، فكما أنَّ إدراك الحواسِّ المتنافرات يقتضي نُفْرَتها عنها، فكذلك إدراكُ العقل لحقيقة الكذب، ولا فرق بينهما إلا فرقُ ما بين إدراك الحِسِّ وإدراك العقل، فإن جاز القدحُ في مُدْرَكات العقول وحُكمها فيها بالحُسْن والقُبْح جاز القدحُ في مُدْرَكات الحواسِّ. _________ (1) (ق) و (ت): «الفعل». والمثبت من (ط).

(2/1018)


الوجه الخامس: أنكم فتحتم بابَ السَّفْسَطة (1)؛ فإنَّ القدحَ في معلومات العقول ومُوجَباتها كالقدح في مُدْرَكات الحواسِّ ومُوجَباتها، فمن لجأ إلى المكابرة في المعقولات فقد فَتَحَ بابَ المكابرة في المحسوسات. ولهذا كانت السَّفْسَطةُ حالًا تَعْرِض في هذا وهذا، وليست مذهبًا لأمَّةٍ من النَّاس يعيشون عليه كما يظنُّه بعض أهل المقالات (2)، ولا يمكنُ أن تعيش أمَّةٌ ولا أحدٌ على ذلك، ولا تتمُّ له مصلحة، وإنما هي حالٌ عارضةٌ لكثيرٍ من النَّاس، وهي تكثُر وتقلُّ، وما مِنْ صاحب مذهبٍ باطلٍ إلا وهو مرتكبٌ للسَّفْسَطة شاء أم أبى، وسنذكرُ إن شاء الله فصلًا فيما بعدُ نبيِّن فيه أنَّ جميعَ أرباب المذاهب الباطلة سُوفسطائيَّة؛ صريحًا ولزومًا، قريبًا وبعيدًا (3). الوجه السَّادس: قولكم: «من حكمَ بأنَّ هذين الأمرين سِيَّان بالنسبة إلى عقله خَرَجَ عن قضايا العقول» (4). جوابه: أنكم إن أردتم بالتَّسوية كونَهما معقولان (5) في الجملة، فمِنْ _________ (1) كلمة يونانيةٌ معرَّبة، معناها: الحكمة المموَّهة، وتقوم على الخداع والمغالطة، وصارت في عرف المتكلمين عبارة عن جحد الحقائق. وتنقسم إلى أقسام. انظر: «التعريفات» (158)، و «المعجم الفلسفي» (1/ 658)، و «التسعينية» (254)، و «الصفدية» (1/ 98)، و «منهاج السنة» (2/ 525). (2) انظر: «الرد على المنطقيين» (329)، و «الرد على البكري» (1/ 178)، و «درء التعارض» (5/ 130، 7/ 404)، و «مجموع الفتاوى» (13/ 151)، و «التسعينية» (252)، و «نقض التأسيس» (1/ 322، 2/ 54). (3) لم أجد الفصل المشار إليه في باقي الكتاب وسائر كتب المصنف. (4) انظر: (ص: 972). (5) كذا في الأصول. والصواب: معقولين. خبر كان.

(2/1019)


أين يخرُج عن قضايا العقول من حَكَمَ بذلك؟ وهل الخارجُ في الحقيقة عنها إلا من مَنَعَ هذا الحكم؟ وإن أردتم بالتَّسوية الاستواءَ في الإدراك، وأنَّ كليهما على رتبةٍ واحدةٍ من الضرورة، فلا يلزمُ مِنْ عَدَم هذا الاستواء أن لا يكون العلمُ بقُبْح الكذب عقليًّا. الوجه السَّابع: قولكم: «لو تقرَّر عند المُثْبِت أنَّ الله تعالى لا يتضرَّر بكذبٍ ولا ينتفعُ بصدقٍ كان الأمران في حُكم التكليف على وتيرةٍ واحدة» (1) كلامٌ لا يرتضيه عاقل؛ فإنَّ من المتقرِّر أنَّ الله تعالى لا يتضرَّرُ بكذبٍ ولا ينتفعُ بصدق، وإنما يعودُ نفعُ الصِّدق وضررُ الكذب على المكلَّف، ولكن ليتَ شعري مِنْ أين يلزمُ أن يكون هذان الضِّدَّان بالنسبة إلى التكليف على وتيرةٍ واحدة؟ وهل هذا إلا مجرَّدُ تحكُّمٍ ودعوى باطلة؟! الوجه الثَّامن: أنه لا يَلْزَمُ من كَون الحكيم لا يتضرَّرُ بالقُبْح ولا ينتفعُ بالحُسْن أن لا يحبَّ هذا ولا (2) يبغض هذا، بل تكون نسبتُهما إليه نسبةً واحدة. بل الأمرُ بالعكس، وهو أنَّ حكمتَه تقتضي بُغْضَه للقبيح وإن لم يتضرَّر به، ومحبَّته للحَسَن وإن لم ينتفع به. وحينئذٍ فيُقْلَبُ هذا الكلامُ عليكم، ونكونُ أسعَد به منكم، فنقول: لو تقرَّر عند النَّافي أنَّ الله تعالى حكيمٌ عليمٌ يضعُ الأشياء مواضعَها، ويُنْزِلها منازلها، لعَلِمَ أنَّ الأمرين ــ أعني: الصِّدق والكذب ــ بالنسبة إلى شرعه _________ (1) انظر: (ص: 972). (2) (ق، د): «وأن». (ت): «أو أن». والمثبت من (ط).

(2/1020)


وتكليفه متباينان غايةَ التَّباين، متضادَّان، وأنه يستحيلُ في حكمته التَّسويةُ بينهما، وأن يكونا على وتيرةٍ واحدة، ومعلومٌ أنَّ هذا هو المعقول، وما ذكرتموه خارجٌ عن المعقول. الوجه التَّاسع: قولكم: «إنَّ الصِّدق والكذبَ على حقيقةٍ ذاتيَّة، وإنَّ الحُسْن والقُبحَ غيرُ داخلَيْن في صفاتهما الذَّاتيَّة، ولا يلزمهما في الوهم بالبديهة ولا في الوجود ضرورةً» (1). جوابه: أنكم إن أردتم أنَّ الحُسْن والقُبحَ لا يدخُل في مسمَّى الصِّدق والكذب، فمُسَلَّم، ولكن لا يفيدكُم شيئًا؛ فإنَّ غايتَه إنما يدلُّ على تغايُر المفهومَيْن، فكان ماذا؟! وإن أردتم أنَّ ذاتَ الصِّدق والكذب لا تقتضي الحُسْن والقُبْح ولا تستلزمهما، فهل هذا إلا مجرَّدُ المذهب ونفسُ الدَّعوى؟! وهو مُصَادَرةٌ على المطلوب. وخصومكم يقولون: إنَّ معنى كونهما ذاتيَّين للصِّدق والكذب: أنَّ ذاتَ الصِّدق والكذب تقتضي الحُسْن والقُبْح، وليس مرادهم أنَّ الحُسْن والقُبْح صفةٌ داخلةٌ في مسمَّى الصِّدق والكذب، وأنتم لم تُبْطِلوا عليهم هذا. الوجه العاشر: قولكم: «ولا يَلْزمهما في الوهم بالبديهة ولا في الوجود» دعوى مجرَّدة، كيف وقد عُلِمَ بطلانها بالبرهان والضرورة؟! الوجه الحادي عشر: قولكم: «إنَّ من الأخبار التي هي صادقةٌ ما يلامُ عليه؛ مثل الدَّلالة على من هَرَبَ من ظالم، ومن الأخبار التي هي كاذبةٌ ما _________ (1) انظر: (ص: 972).

(2/1021)


يثابُ عليها؛ مثل إنكار الدلالة عليه، فلم يدخل كونُ الكذب قبيحًا في حدِّ الكذب، ولا لَزِمه في الوهم ولا في الوجود، ولا يجوز أن يُعَدَّ من الصِّفات الذَّاتية التي تَلْزَمُ النَّفسَ وجودًا وعَدمًا» (1). جوابه مِنْ وجوه: أحدها: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ الصِّدق يقبُح في حال، ولا أنَّ الكذبَ يحسُن في حالٍ أبدًا، ولا تنقلبُ ذاتُه، وإنما يحسُن اللَّومُ على الخبر الصَّادق من حيثُ (2) لم يُعَرِّض المُخْبِرُ ولم يُوَرِّ بما يقتضي سلامةَ النَّبيِّ أو الوليِّ. الوجه الثَّاني: أنه أخبَر بما لا يجوز له الإخبارُ به؛ لاستلزامه مفسدةً راجحة، ولا يقتضي هذا كونَ الصِّدق قبيحًا، بل الإخبار بالصِّدق هو القبيح، وفرقٌ بين النسبة المطابِقة التي هي صدقٌ وبين الإعلام بها، فالقُبح إنما نشَأ من الإعلام لا من النسبة الصَّادقة، والإعلامُ غيرُ ذاتيٍّ للخبر، ولا داخلٍ في حدِّه، إذ الخبرُ غيرُ الإخبار، ولا يَلْزَمُ من كون الإخبار قبيحًا أن يكون الخبرُ قبيحًا، وهذه الدَّقيقةُ غَفَل عنها الطَّائفتان كلاهما. الوجه الثالث: أنَّ قُبحَ الصِّدق وحُسْنَ الكذب المذكورَيْن في بعض المواضع لمعارضة مصلحةٍ أو مفسدةٍ راجحة= لا يقتضي عدمَ اتصافِ ذات كلٍّ منهما بحُكمه (3) عقلًا؛ فإنَّ العِلَل العقلية والأوصافَ الذَّاتية المقتضية لأحكامها قد تتخلَّف عنها لِفَوَات شرطٍ أو قيام مانع، ولا يوجبُ ذلك سلبَ _________ (1) انظر: (ص: 973). (2) في الأصول: «هو حيث». والمثبت من (ط). (3) (ق): «بحكمة».

(2/1022)


اقتضائها لأحكامها عند عدم المانع وقيام الشَّرط، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك. الوجه الثَّاني عشر: قولكم: «إنه لم يَبْق للمُثْبِتين إلا الاسترواحُ إلى عادات النَّاس، مِنْ تسمية ما يضرُّهم قبيحًا، وما ينفعُهم حسنًا» (1) كلامٌ باطل؛ فإنَّ استرواحَهم إلى ما ركَّبه الله تعالى في عقولهم وفِطرهم، وبعَث رسلَه بتقريره وتكميلِه، مِنْ استحسان الحسَن واستقباح القبيح. الوجه الثَّالث عشر: قولكم: «إنها تختلفُ بعادة قومٍ دون قوم، وزمانٍ دون زمان، ومكانٍ دون مكان، وإضافةٍ دون إضافة» (2). فقد تقدَّم أنَّ هذا الاختلافَ لا يخرِجُ هذه القبائحَ والمستحسَنات عن كون الحُسْن والقُبْح ناشئًا من ذواتها (3)، وأنَّ الزَّمانَ المعيَّن، والمكانَ المخصوص، والشَّخصَ القابِلَ (4)، والإضافةَ= شروطٌ لهذا الاقتضاء، على حدِّ اقتضاء الأغذية والأدوية والمساكن والملابس آثارَها؛ فإنَّ اختلافها بالأزمنة والأمكنة والأشخاص والإضافات لا يخرجها عن الاقتضاء الذَّاتيِّ، ونحن لا نعني بكون الحُسْن والقُبْح ذاتيَّين إلا هذا. والمشاحَّةُ (5) في الاصطلاحات لا تنفعُ طالبَ الحقِّ، ولا تُجْدِي عليه إلا المُناكَدة والتعنُّت، فكم تُعِيدوا وتُبْدوا في الذَّاتيِّ وغير الذَّاتيِّ! سَمُّوا هذا _________ (1) انظر: (ص: 973). (2) انظر: (ص: 973). (3) في الأصول: «ذواتهما». وهو تحريف. (4) في الأصول: «والقابل». وهو تحريف. (5) في الأصول: «والمشاحنة». والمثبت أشبه. وانظر: «مدارج السالكين» (3/ 306)، و «الصواعق المرسلة» (970)، وما سيأتي (ص: 1587).

(2/1023)


المعنى بما شئتم، ثمَّ إن أمكنكم إبطالُه فأبطِلوه! الوجه الرَّابع عشر: قولكم: «نحن لا ننكرُ اشتهارَ القضايا الحسنة والقبيحة بين الخلق، وكونها محمودةً مشكورة (1)، مُثنًى على فاعلها أو مذمومًا، ولكنَّ سببَ ذكرها إمَّا التَّديُّن بالشرائع وإمَّا الأغراض، ونحن إنما ننكرها في حقِّ الله عزَّ وجلَّ لانتفاء الأغراض عنه» (2). فهذا مُعْتَركُ القول بين الفِرَق في هذه المسألة وغيرها؛ فنقول لكم: ما تَعنُون ــ معاشرَ النُّفاة ــ بالأغراض التي نفيتموها عن الله عزَّ وجلَّ، ونفيتم لأجلها حُسْنَ أوامره الذَّاتية وقُبحَ نواهيه الذَّاتية، وزعمتم لأجلها أنه لا فرق عنده بين مذمومها ومحمودها، وأنها بالنسبة إليه سواء؟ فأخبرونا عن مرادكم بهذه اللفظة البدعيَّة المحتَملة: أتعنُون بها الحِكَم والمصالحَ والعواقبَ الحميدة والغاياتِ المحبوبة التي يفعل ويأمرُ لأجلها؟ أم تعنُون بها أمرًا وراء ذلك يجبُ تنزيهُ الرَّبِّ عنه ــ كما يُشْعِرُ به لفظُ «الأغراض» ــ من الإرادات الفاسدة والأمور التي يكون الفاعلُ محتاجًا إليها، مستفيدًا لها من غيره؟ أم ماذا تعنُون بالأغراض؟ فإن أردتم المعنى الأوَّل، فنفيُكم إياه عن أحكم الحاكمين مذهبٌ لكم خالفتم به صريحَ المنقول وصريحَ المعقول، وأتيتم ما لا تُقِرُّ به العقولُ مِن فِعْل فاعلٍ حكيمٍ مختارٍ لا لحكمةٍ ولا لمصلحةٍ ولا لغايةٍ محمودةٍ ولا عاقبةٍ _________ (1) (ت): «منكورة». وهي أقربُ للسياق بإضافة حرف عطف. وتقدمت (ص: 974) كما هنا لكن في سياقٍ أطول. وفي «المستصفى» (1/ 116): «مشهورة». (2) انظر: (ص: 974).

(2/1024)


مطلوبة، بل الفعلُ وعَدمُه بالنسبة إليه سِيَّان، وقلتم ما تنكره الفِطرُ والعقول، ويردُّه التَّنزيلُ (1) والاعتبار. وقد قرَّرنا مِنْ ذِكر الحِكَم الباهرة في الخلق والأمر ما تقَرُّ به عينُ كلِّ طالبٍ للحقِّ، وهاهنا من أدلَّة إثبات الحِكَم المقصودة بالخلق والأمر أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، بل لا نسبة لما ذكرناه إلى ما تركناه. وكيف يمكنُ إنكارُ ذلك والحكمةُ في خَلْق العالم وأجزائه ظاهرةٌ لمن تأمَّلها، باديةٌ لمن أبصَرها، وقد رُقِمَت سطورُها على صفحات المخلوقات، يقرؤها كلُّ عاقلٍ كاتبٍ وغير كاتب؟! نُصِبَت شاهدةً لله بالوحدانيَّة والرُّبوبيَّة، والعلم والحكمة، واللُّطف والخِبْرة. تأمَّل سُطورَ الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليكَ رسائلُ وقد خُطَّ فيها لو تأمَّلتَ خطَّها ... ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ (2) وأمَّا النُّصوصُ على ذلك؛ فمن طلبها بَهَرَته كثرتُها وتطابقها، ولعلَّها أن تزيدَ على المِئين. وما يخيِّلُه (3) النُّفاة لحكمة الله تعالى: أنَّ إثباتها يستلزمُ افتقارًا منه، واستكمالًا بغيره؛ فهَوَسٌ ووساوس؛ فإنَّ هذا بعَيْنه واردٌ عليهم في أصل الفعل. _________ (1) (ت): «التنزيه». (2) البيتان لركن الدين ابن القوبع المالكي (ت: 738) في ترجمته من «أعيان العصر» (5/ 163)، و «الدرر الكامنة» (4/ 183). (3) مهملة في (د). وفي (ت، ق): «يحيله». ولعل المثبت أشبه.

(2/1025)


وأيضًا؛ فهذا إنما هو إكمالٌ للصُّنع (1)، لا استكمالٌ بالصُّنع. وأيضًا؛ فإنه سبحانه فِعالُه عن كماله، فإنه كَمُلَ ففَعَل، لا أنَّ كماله عن فِعاله، فلا يقال: فَعَلَ فكَمُل، كما يقال للمخلوق (2). وأيضًا؛ فإنَّ مَصْدرَ الحكمة ومتعلَّقها وأسبابها عنه سبحانه؛ فهو الخالق، وهو الحكيم، وهو الغنيُّ من كلِّ وجهٍ أكملَ الغِنى وأتمَّه، وكمالُ الغِنى والحمد في كمال القدرة والحكمة، والمحالُ أن يكون سبحانه وتعالى فقيرًا إلى غيره، فأمَّا إذا كان كلُّ شيءٍ فهو فقيرٌ إليه من كلِّ وجه، وهو الغنيُّ المطلقُ عن كلِّ شيء= فأيُّ محذورٍ في إثبات حكمته مع احتياج مجموع العالم وكلِّ ما يقدَّرُ معه إليه [دون] غيره؟! وهل الغِنى إلا ذلك؟! ولله سبحانه في كلِّ صُنعٍ من صنائعه وأمرٍ من شرائعه حكمةٌ باهرة، وآيةٌ ظاهرة، تدلُّ على وحدانيَّته وحكمته وعلمه، وغِناهُ وقيُّوميَّته ومُلكِه، لا تنكرُها إلا العقولُ السَّخيفة، ولا تنبُو عنها إلا الفِطرُ المنكوسة. وللهِ في كلِّ تسكينةٍ ... وتحريكةٍ أبدًا شاهدُ وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنه واحدُ (3) وبالجملة؛ فنحن لا ننكرُ حكمةَ الله ولا نُساعِدُكم على جحدها لتسميتكم إياها: «أغراضًا» وإخراجِكم لها في هذا القالب، فالحقُّ لا يُنْكَرُ لسوء التَّعبير عنه، وهذا اللفظُ بدعيٌّ لم يَرِد به كتابٌ ولا سُنَّة، ولا أطلقَه أحدٌ _________ (1) (ت): «كمال للصنيع». (2) انظر: «بدائع الفوائد» (287)، و «الصواعق المرسلة» (1564). (3) تقدم تخريج البيتين (ص: 642).

(2/1026)


من أئمَّة الإسلام وأتباعهم على الله، وقد قال الإمام أحمد: «لا نُزِيلُ عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعةٍ شُنِّعَت» (1)، فهل ننكرُ (2) صفات كماله سبحانه لأجل تسمية المعطِّلة والجهميَّة لها: «أعراضًا» (3)؟! ولأرباب المقالات أغراضٌ في سوء التَّعبير عن مقالات خصومهم وتخيُّرهم لها أقبحَ الألفاظ، وحُسْن التَّعبير عن مقالات أصحابهم وتخيُّرهم لها أحسنَ الألفاظ، وأتباعُهم محبوسون في قيود تلك العبارات (4)، ليس معهم في الحقيقة سواها، بل ليس مع المتبوعين غيرها. وصاحبُ البصيرة لا تَهُولُه تلك العباراتُ الهائلة، بل يجرِّدُ المعنى عنها، ولا يكسُوه عبارةً منها، ثمَّ يَحْمِلُه على محلِّ الدَّليل السَّالم عن المعارِض، فحينئذٍ يتبيَّنُ له الحقُّ من الباطل، والحالي من العاطِل. الوجه الخامس عشر: قولكم: «مستندُ الاستحسان والاستقباح التَّديُّنُ بالشرائع». فيقال: لا ريب أنَّ التَّديُّن بالشرائع يقتضي الاستحسانَ والاستقباح، ولكنَّ الشرائعَ إنما جاءت بتكميل الفِطر وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها، فما كان في الفطرة مستحسَنًا جاءت الشريعةُ باستحسانه، فكَسَتْهُ حُسْنًا إلى حُسْنه، فصار حسَنًا من الجهتين، وما كان في الفطرة مستقبَحًا جاءت _________ (1) (د، ق): «شناعة المشنعين». والمثبت من (ت) والمصادر المتقدمة في التعليق (ص: 396). (2) (ت): «فهل ننكر». (3) انظر: «الصواعق المرسلة» (439، 935، 1213)، و «مدارج السالكين» (3/ 359). (4) (ت): «تلك المقالات».

(2/1027)


الشريعةُ باستقباحه، فكَسَتْهُ قُبحًا إلى قُبحه، فصار قبيحًا من الجهتين. وأيضًا؛ فهذه القضايا مستحسَنةٌ ومستقبَحةٌ عند من لم تبلُغه الدَّعوة، ولم يقرَّ بنبوَّة. وأيضًا؛ فمجيء الرَّسول بالأمر بحسَنها، والنهي عن قبيحها دليلٌ على نبوَّته، وعَلَمٌ على رسالته، كما قال بعض الصَّحابة وقد سئل عمَّا أوجبَ إسلامَه؛ فقال: «ما أمَر بشيءٍ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمَر به» (1). فلو كان الحُسْنُ والقُبْح لم يكن مركوزًا في الفِطر والعقول لم يكن ما أمَر به الرسولُ ونهى عنه عَلَمًا من أعلام صِدقه، ومعلومٌ أنَّ شرعَه ودينَه عند الخاصَّة من أكبر أعلام صِدقه وشواهد نبوَّته، كما تقدَّم. الوجه السَّادس عشر: قولكم في مَثارات الغَلط التي يَغْلَطُ الوهمُ فيها: إنها ثلاثُ مثارات: الأولى: أنَّ الإنسان يُطْلِقُ اسمَ القبيح على ما يخالفُ غرضَه، وإن كان يوافقُ غرضَ غيره، من حيث إنه لا يلتفتُ إلى الغير، فإنَّ كلَّ طبعٍ مشغوفٌ بنفسه، فيقضي بالقُبح مطلقًا؛ [فأصاب في أصل الاستقباح] (2)، وأخطأ في إضافة القُبح إلى ذات الشيء، وغَفَل عن كونه قبيحًا لمخالفة غَرَضِه، وأخطأ في حكمه بالقُبح مطلقًا، ومنشؤه عدمُ الالتفات إلى غيره (3). _________ (1) تقدم (ص: 874). (2) ليست في الأصول. ويدلُّ عليها نصُّ كلام الغزالي المتقدم (ص: 975). (3) انظر: (ص: 975).

(2/1028)


فحاصلُه أمران: أحدهما: أنه إنما قضى بالحُسْن والقُبح لموافقته غَرَضَه ومخالفته. الثَّاني: أنَّ هذه الموافقة والمخالفة ليست عامَّةً في حقِّ كلِّ شخصٍ وزمانٍ ومكان، بل ولا في جميع أحوال الشَّخص. هذا حاصلُ ما طوَّلتم به. فيقال: لا ريب أنَّ الحُسْن يوافقُ الغَرَض، والقُبحَ يخالفه، لكنَّ موافقة هذا ومخالفة هذا هي لِمَا قام بكلِّ واحدٍ من الصِّفات التي أوجبَت الموافقةَ والمخالفة؛ إذ لو كانا سواءً في نفس الأمر وذواتُهما (1) لا تقتضي حُسْنًا ولا قُبحًا لم يختَصَّ أحدُهما بالموافقة والآخرُ بالمخالفة، ولم يكن أحدُهما بما اختَصَّ به أولى من العكس. فما لجأتم إليه من موافقة الغَرض ومخالفته من أكبر الأدلَّة على أنَّ ذاتَ الفعل متَّصفةٌ بما لأجله وافق الغَرض وخالفه، وهذا كموافقة الغَرض ومخالفته في الطُّعوم والأغذية والرَّوائح؛ فإنَّ ما لاءم منها الإنسانَ ووافقه مخالفٌ بالذَّات والوصف لما نافَره منها وخالفَه، ولم تكن تلك الملاءمةُ والمنافرةُ لمجرَّد العادة، بل لِمَا قام بالمُلائم والمُنافِر من الصِّفات؛ ففي الخبز والماء واللَّحم والفاكهة من الصِّفات التي اقتضت ملاءمتها الإنسانَ ما ليس في التُّراب والحجر والقَصَب والعَصْف وغيرها، ومن ساوى بين الأمرين فقد كابر حِسَّه وعقله. فهكذا ما لاءم العقولَ والفِطر من الأعمال والأحوال وما خالفها هو لِمَا _________ (1) (ق): «وذاتهما».

(2/1029)


قام بكلٍّ منها من الصِّفات التي اختصَّت به، فأوجبَ الملاءمةَ والمنافرة؛ فملاءمةُ العدل والإحسان والبِرِّ للعقول والفِطر والحيوان [هي] لِمَا اختصَّت به ذواتُ هذه الأفعال من أمورٍ ليست في الظُّلم والإساءة (1)، وليست هذه الملاءمةُ والمنافَرةُ لمجرَّد العادة والتَّديُّن بالشرائع، بل هي أمورٌ ذاتيةٌ لهذه الأفعال، وهذا مما لا ينكرُه العقلُ بعد تصوُّره. الوجه السَّابع عشر (2): أنَّا لا ننكِرُ أنَّ للعادة واختلاف الزَّمان والمكان والإضافة والحال تأثيرًا في الملاءمة والمنافَرة، ولا ننكرُ أنَّ الإنسان يلائمُه ما اعتاده من الأغذية والمساكن والملابس، وينافِرُه ما لم يَعْتَدْه منها وإن كان أشرفَ منها وأفضل، ومن هذا إلفُ الأوطان، وحبُّ المساكن والحنينُ إليها. ولكن هل يلزمُ من هذا أن تكون الملاءمةُ والمنافَرةُ كلُّها ترجعُ إلى الإلف والعادة المجرَّدة؟ ومعلومٌ أنَّ هذا مما لا سبيل إليه؛ إذ الحكمُ على فردٍ جزئيٍّ من أفراد النَّوع لا يقتضي الحكمَ على جميع النَّوع، واستلزامُ الفرد المعيَّن من النَّوع للازمٍ معيَّنٍ لا يقتضي استلزامَ النَّوع له، وثبوتُ خاصَّةٍ معيَّنةٍ للفرد الجزئيِّ لا يقتضي ثبوتها للنَّوع الكليِّ. الوجه الثَّامن عشر: أنَّ غاية ما ذكرتم من خطأ الوهم في اعتقاده إضافةَ القُبح إلى ذات الفعل، وحُكمه بالاستقباح مطلقًا، مما قد يَعْرِض في بعض الأفعال، فهل يلزمُ من ذلك أنه (3) حيث قضى بهاتين القضيَّتين يكونُ غالطًا بالنسبة إلى كلِّ فعل؟ ونحن إنما عَلِمنا غلطَه فيما غَلِط فيه لقيام الدَّليل _________ (1) (ت): «ليست من الظلم والإساءة». (2) وقع في أرقام الأوجه اضطراب في الأصول، والمثبت من (ط). (3) في الأصول: «أثر». وفي طرة (د، ق): «لعله: أنه»، وهو ما أثبتُّ.

(2/1030)


العقليِّ على غلطه، فأمَّا إذا كان الدَّليلُ العقليُّ مطابقًا لحكمه فمِن أين لكم الحكمُ بغَلَطِه؟! فإن قلتم: إذا ثبتَ أنه يغلطُ في حكمٍ ما لم يكن حكمُه مقبولًا؛ إذ لا ثقةَ بحكمه. قلنا: إذا جوَّزتم أن يكون في الفطرة حاكمان: حاكمُ الوهم، وحاكمُ العقل، ونسبتم حُكمَ العقل إلى حُكم الوهم (1)، وقلتم في بعض القضايا التي يجزم العقلُ بها: هي مِنْ حُكم الوهم= لم يَبْق لكم وثوقٌ بالقضايا التي يجزم بها العقلُ ويحكمُ بها؛ لاحتمال أن يكونَ مستندُها حُكمَ الوهم لا حُكمَ العقل، فلا بدَّ لكم من التفريق بينهما، ولا بدَّ للتفريق أن تكونَ قضاياه ضروريَّةً ابتداءً وانتهاءً، وإذا جوَّزتم أن يكونَ بعض القضايا الضروريَّة وهميَّةً لم يَبْق لكم طريقٌ إلى التفريق! الوجه التَّاسع عشر: أنَّ هذا الذي فرضتموه فيمن يستقبِحُ شيئًا لمخالفة غَرضِه ويستحسِنُه لموافقة غَرضِه، أو بالعكس؛ إنما مَوْرِدُه الحِسِّيَّاتُ غالبًا، كالمآكل والملابس والمساكن والمناكِح؛ فإنها بحسب الدَّواعي والميول والعوائد والمناسبات، فهو إنما يكونُ في الجزئيَّات (2) وأمَّا الكلِّيَّاتُ العقليةُ فلا يكاد يَعْرِضُ فيها ذلك (3)، فلا يكون العدلُ والصِّدقُ والإحسانُ حَسَنًا عند بعض العقول قبيحًا عند بعضها، كما يكون اللونُ الأسودُ مُشْتهًى حَسَنًا موافقًا لبعض النَّاس مبغوضًا لبعضهم، ومن اعتَبر هذا بهذا فقد خَرَجَ واعتَبر _________ (1) (ت): «ونسبتم حكم الوهم إلى حكم العقل». (2) في الأصول: «الحركات». وهو تحريف. (3) (ق): «فلا تكاد تعرض ذلك».

(2/1031)


الشيءَ بما لا يصحُّ اعتبارُه به. ويؤيِّد هذا الوجه العشرون: أنَّ العقل إذا حكم بقُبح الكذب والظُّلم والفواحش، فإنه لا يختلفُ حكمُه بذلك في حقِّ نفسه ولا غيره، بل يعلمُ أنَّ كلَّ عقلٍ يستقبحُها وإن كان يرتكبُها لحاجته أو جهلِه، فكما أصابَ في استقباحها أصابَ في نسبة القُبح إلى ذاتها، وأصابَ في حُكمه بقُبحها مطلقًا، ومن غلَّطه في بعض هذه الأحكام فهو الغالطُ عليه. وهذا بخلاف ما إذا حَكَمَ باستحسان مطعمٍ أو ملبسٍ أو مسكنٍ أو لونٍ فإنه يعلمُ أنَّ غيرَه يحكمُ باستحسان غيره، وأن هذا مما يختلفُ باختلاف العوائد والأمم والأشخاص، فلا يحكمُ به حكمًا كلِّيًّا إلا حيث يعلمُ أنه لا يختلف، كما يحكمُ حكمًا كلِّيًّا بأنَّ كلَّ ظمآنٍ يستحسنُ شربَ الماء ما لم يَمْنَع منه مانع، وكلَّ مَقْرورٍ يستحسنُ لباسَ ما فيه دِفؤه ما لم يَمْنَع منه مانع، وكذلك كلُّ جائعٍ يستحسنُ ما يَدْفعُ به سَوْرَة الجوع. فهذا حكمٌ كلِّيٌّ (1) في هذه الأمور المحسوسة لا غَلَط فيه، مع كون المحسوسات عُرضةً لاختلاف النَّاس في استحسانها واستقباحها بحسب الأغراض والعوائد والإلف، فما الظَّنُّ بالأمور الكلِّيَّة العقليَّة التي لا تختلف، إنما هي نفيٌ وإثبات؟! الوجه الحادي والعشرون: قولكم: «مِنْ مَثارات الغَلَط: أنَّ ما هو مخالفٌ للغَرض في جميع الأحوال إلا في حالةٍ نادرة، قد لا يَلْتَفِتُ (2) _________ (1) «كلي» ليست في (ت). (2) في الأصول: «بل لا يلتفت». وهو تحريف.

(2/1032)


الوهمُ إلى تلك الحالة النَّادرة، بل لا يخطُر بالبال، فيقضي بالقُبح مطلقًا؛ لاستيلاء قُبحِه على قلبه، وذهاب الحالة النَّادرة عن ذِكره، كحُكمِه (1) على الكذب بأنه قبيحٌ مطلقًا، وغفلته عن الكذب [الذي] يستفادُ به عصمةُ دم نبيٍّ أو وليٍّ. وإذا قضى بالقُبح مطلقًا واستمرَّ عليه مدَّةً، وتكرَّر ذلك على سمعه ولسانه، انغَرس في قلبه استقباحٌ منفِّرٌ (2) ... » إلى آخره (3). فمضمونه ــ بعد الإطالة ــ أنه لو كان الكذبُ قبيحًا لذاته لما تخلَّف عنه القُبح، ولكنه يتخلَّف إذا تضمَّن عصمةَ دم نبيٍّ أو وليٍّ، ففي هذه الحالة ونحوها لا يكونُ قبيحًا، وهي حالةٌ نادرةٌ لا تكاد تخطُر بالبال، فيقضي العقلُ بقُبح الكذب مطلقًا، ويغفلُ عن هذه الحالة، وهي تنافي حكمَه بقُبحه مطلقًا، ثمَّ يترك (4) ويَنْشَأ على ذلك الاعتقاد، فيَظنُّ أنَّ قُبحَه لذاته مطلقًا. وليس كذلك. وهذا ــ بعد تسليمه ــ لا يمنعُ كونَه قبيحًا لذاته وإن تخلَّف القبحُ عنه لمعارضٍ راجح، كما أنَّ الاغتذاء بالميتة والدَّم ولحم الخنزير يوجبُ نباتًا خبيثًا وإن تخلَّف عنه ذلك عند المَخْمَصة. كيف، وقد بيَّنَّا أنَّ القُبحَ لا يتخلَّف عن الكذب أصلًا، وأمَّا إذا تضمَّن عصمةَ وليٍّ فالحسَنُ إنما هو التَّعريض، والصِّدقُ لا يقبُح أبدًا، وإنما القبيحُ _________ (1) في الأصول: «فحكمه». وهو تحريف. (2) (ت): «مفتقر». (ق، د): «مستقر». (ط): «مستند». وكله تحريف. (3) انظر: (ص: 975). (4) كذا في (ت). ولم تحرَّر في (د، ق). ولستُ منها على ثلج.

(2/1033)


الإعلامُ به، وفرقٌ بين الخبر والإخبار، فالقُبح إنما وقعَ في الإخبار لا في الخبر. ولو سلَّمنا ذلك كلَّه؛ فتخلُّف الحُكم العقليِّ لقيام مانعٍ أو لفوات شرطٍ غيرُ مستنكَر. فهذه الشُّبهة مِنْ أضعف الشُّبه (1)، وحَسْبك ضعفًا بحكمٍ إنما يستندُ إليها وإلى أمثالها! الوجه الثَّاني والعشرون: أنَّ الوهمَ قد سبق إلى العكس (2)، كمن يرى شيئًا مقرونًا بشيءٍ فيَظنُّ الشيءَ لا محالة مقرونًا به مطلقًا، ولا يدري أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرونٌ بالأعمِّ، مِنْ غير عكس. وتمثيلكم ذلك بنُفرة السَّليم من الحَبل المرقَّش، ونفور الطَّبع عن العسل إذا شُبِّه بالعَذِرَة، إلى آخر ما ذكرتم من الأمثال (3)، كنُفرة الطَّبع عن الحسناء ذات الاسم القبيح، ونُفرة الرَّجُل عن البيت الذي فيه الميِّت، ونُفرة كثيرٍ من النَّاس عن الأقوال الصَّحيحة التي تضافُ إلى من يسيئون الظَّنَّ بهم. فنحن لا ننكرُ أنَّ للوهم تأثيرًا في النُّفوس وفي الحبِّ والبُغض، بل هو غالبٌ على أكثر النُّفوس في كثيرٍ من الأحوال، ولكن إذا سُلِّط عليه العقلُ الصَّريحُ تبيَّن غلطُه، وأنَّ ما حَكَم به إنما هو موهومٌ لا معقول. كما إذا سُلِّط العقلُ الصَّريحُ (4) والحِسُّ على الحَبل المرقَّش تبيَّن أنَّ نُفرة الطَّبع عنه مستندُها الوهمُ الباطل. _________ (1) (ت): «أعظم الشبه». (2) أي: قولكم بأن من مثارات الغلط: سبقُ الوهم إلى العكس. (3) انظر: (ص: 976). (4) «الصريح» ليست في (ت).

(2/1034)


وكذلك إذا سُلِّط الذَّوقُ والعقلُ على العسل تبيَّن أنَّ نُفرة الطَّبع عنه مستندُها الوهمُ الكاذب. وإذا تأمَّل الطَّرفُ محاسنَ الجميلة البديعة الجمال تبيَّن أنَّ نُفرتَه عنها لقُبح اسمها وهمٌ فاسد. وإذا سُلِّط العقلُ الصَّريحُ على الميِّت تبيَّن أنَّ نُفرة الرَّجل عنه لتَوهُّم حركته وثَوَرانه خيالٌ باطلٌ ووهمٌ فاسد. وهكذا نظائر ذلك. أفترى يَلْزَمُ من هذا أنَّا إذا سلَّطنا العقلَ الصَّريحَ على الكذب، والظُّلم، والفواحش، والإساءة إلى النَّاس، وكُفران النِّعم، وضَرْب الوالدين، والمبالغة في إهانتهما وسبِّهما، وأمثال ذلك= تبيَّن أنَّ حُكمَه بقُبحِها وهمٌ منه، ليكون نظيرَ ما ذكرتم من الأمثلة؟! وهل في الاعتبار أفسدُ من اعتباركم هذا؟! فإنَّ الحُكمَ فيما ذكرتم قد تبيَّن بالعقل الصَّريح والحِسِّ أنه حكمٌ وهميٌّ، ونحن لا ننازعُ فيه ولا عاقل؛ لأنَّا لمَّا سلَّطنا عليه العقلَ والحِسَّ ظهر أنَّ مستندَه الوهم، وأمَّا في القضايا التي رُكِّبَ في العقول والفِطر حُسْنُها وقُبحها فإنَّا إذا سلَّطنا العقلَ الصَّريحَ عليها لم يحكُم لها بخلاف ما هي عليه أبدًا، إلا أن يَلْجَؤوا إلى دبُّوس الشِّلاق (1)؛ وهو الصِّدقُ المتضمِّنُ هلاكَ _________ (1) الدبُّوس: هراوةٌ مُدَمْلَكةُ الرأس، شديدة البأس. والشِّلاق: لعبةٌ داميةٌ في العهد المملوكي، يتقاتلُ فيها الفريقان أشدَّ القتال، وكان يترتبُ عليها شرٌّ كبيرٌ ومفاسد بدمشق، كما يقول الذهبي، ووصفها القزوينيُّ في «آثار البلاد» (123). انظر: «تاريخ الإسلام» (14/ 361، 15/ 614، 897)، و «السلوك» للمقريزي (2/ 695، 3/ 170)، و «الخطط» (2/ 96)، و «النجوم الزاهرة» (10/ 122)، و «المدخل» لابن الحاج (2/ 53). والفعل منها: يُشَالِق، ويَشْتَلِق. وأصل المادة من الشَّلْق، وهو الضَّرب. وليست بعربيةٍ محضة. انظر: «العين» (5/ 41)، و «الجمهرة» (875). ولشدَّة بأس هذا الدبُّوس في الشِّلاق فهو كنايةٌ عن أمضى ما يعتمدُ عليه المرء، وأبلغه نكاية. وكان البلقيني يحفظ مختصر المنذري لسنن أبي داود ويستشهدُ به، ويقول: «هو دبُّوسٌ شافٍ»!. انظر: «لحظ الألحاظ» لابن فهد (139). وقد وردت هذه الكناية الغريبة في مواضع من كتب المصنف. انظر: «الكافية الشافية» (2/ 533)، وما مضى من الكتاب (ص: 36). وتحرفت «الشلاق» في بعض الأصول، (ق): «السلاق»، (ت): «التلاق»، وفي بعض أصول «الكافية»: «الشقاق».

(2/1035)


وليٍّ والكذبُ المتضمِّنُ عِصْمَته، وليس معكم ما تصُولون به سواه، وقد بيَّنَّا حقيقةَ الأمر فيه بما فيه كفاية (1)، وحتى لو كان الأمرُ فيهما كما ذكرتم قطعًا لم يجُز أن يُبْطَل بهما ما ركَّبه الله في العقول والفِطر وألزَمها إياه التزامًا لا انفكاك لها عنه، مِنْ استحسان الحسَن، واستقباح القبيح والحكم بقُبحه، والتَّفرِقة العقلية ــ التَّابعة لذواتهما وأوصافهما ــ بينهما. وقد أنكر الله سبحانه على العقول التي جوَّزت أن يجعل اللهُ فاعلَ القبيح وفاعلَ الحسَن سواءً، ونزَّه نفسَه عن هذا الظَّنِّ وعن نسبة هذا الحكم الباطل إليه، ولولا أنَّ ذلك قبيحٌ عقلًا لما أنكره على العقول التي جوَّزته؛ فإنَّ الإنكار إنما كان يتوجَّه عليهم بمجرَّد الشَّرع والخبر لا بإفساد ما ظنُّوه عقلًا. ولا يقال: «فلو كان هذا الحكمُ باطلًا قطعًا لما جوَّزه أولئك العقلاء»؛ _________ (1) انظر: (ص: 948).

(2/1036)


لأنَّ هذا احتجاجٌ بعقول أهل الشرك الفاسدة التي عابها اللهُ وشَهِدَ عليهم بأنهم لا يعقلون، وشَهِدُوا على أنفسهم بأنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في أصحاب السَّعير. وهل يقال: إنَّ استحسانَ عبادة الأصنام بعقولهم، واستحسانَ التَّثليث والسُّجود للقمر وعبادة النَّار وتعظيم الصَّليب، يدلُّ على حُسْنها؛ لاستحسان بعض العقلاء لها؟! فإن قيل: فهذا حجَّةٌ عليكم؛ فإنَّ عقول هؤلاء قد قضت بحُسنها، وهي أقبحُ القبائح. قيل: ما مثَلنا ومثَلكم في ذلك إلا كمثَل من قال: إذا كان الأحولُ يرى القمرَ اثنين لم يَبْق لنا وثوقٌ برؤية الصحيح العينَين له واحدًا، وإن كان المَحرورُ (1) يجدُ طعمَ الماء العَذب والعسل مُرًّا لم يَبْق لنا وثوقٌ (2) بكون صحيح الفم يذوقُه عذبًا وحُلوًا، وإذا كان صاحبُ الفهم السَّقيم يعيبُ القولَ الصَّحيح ويشهدُ ببطلانه لم يَبْق لنا وثوقٌ بشهادة صاحب الفهم المستقيم بصحَّته، إلى أمثال ذلك. فإذا كانت فطرةُ أمَّةٍ من الأمم وشِرذمةٍ من النَّاس وعقولُهم قد فَسَدَت، فهل يلزمُ من هذا إبطالُ شهادة العقول السَّليمة والفِطر المستقيمة؟! ولو صحَّ لكم هذا الاعتراض لبَطَل استدلالكم على كلِّ منازعٍ لكم في كلِّ مسألة؛ فإنه عاقلٌ وقد شَهِد عقلُه بها بخلاف قولكم! _________ (1) وهو من غلبت عليه الحرارة، ضد المبرود. وخصُّوه في كتب اللغة بمن تداخَلته حرارةُ الغيظ. انظر: «اللسان» (حرر). (2) من قوله: «برؤية الصحيح ... » إلى هنا ساقطٌ من (ق).

(2/1037)


وكفى بهذا فسادًا وبطلانًا، وكفى بردِّ العقول وسائر العقلاء له، والحمدُ لله ربِّ العالمين. الوجه الثَّالث والعشرون: قولكم: «إنَّ المَلِك العظيمَ إذا رأى مسكينًا مُشْرِفًا على الهلاك اسْتَحْسَنَ إنقاذَه، والسَّببُ في ذلك دفعُ الأذى الذي يَلْحَقُ الإنسانَ مِنْ رِقِّة الجنسية، وهو طبعٌ يستحيلُ الانفكاكُ عنه ... » (1) إلى آخره= كلامٌ في غاية الفساد. فإنَّ مضمونه أنَّ هذا الإحسانَ العظيمَ والتَّنزُّل مِنْ مثل هذا الملك القادر إلى الإحسان إلى مجهُودٍ مَضرورٍ قد مسَّه الضُّرُّ، وتقطَّعت به الأسباب، وانقطعت به الحِيَل= ليس فعلًا حسنًا في نفسه، ولا فرق عند العقل بين ذلك وبين أن يُلقِي عليه حجرًا يُغْرِقُه، وإنما مال إليه طبعُه لرقَّة الجنسيَّة، ولتصويره نفسَه في تلك الحال واحتياجه إلى من يُنْقِذُه، وإلا فلو جرَّدنا النَّظرَ إلى ذات الفعل، وضَرَبنا صفحًا عن لوازمه وما يقترنُ به ويبعثُ عليه، لم يَقْضِ العقلُ بحُسنه، ولم يفرِّق بينه وبين إلقاء حجرٍ عليه حتى يُغْرِقَه!! فهذا قولٌ يكفي في فساده مجرَّدُ تصوُّره، وليس في المقدِّمات البديهيَّة ما هو أجلى وأوضحُ من كون مثل هذا الفعل حسنًا لذاته حتى يُحْتَجَّ بها عليه؛ فإنَّ الاحتجاج إنما يكونُ بالأوضح على الأخفى، فإذا كان المطلوبُ المستَدلُّ عليه أوضحَ من الدَّليل كان الاستدلالُ عناءً وكُلْفَة، ولكنْ تُصَوَّرُ الدَّعوى ومُقابِلتُها تصويرًا مجرَّدًا، ويُعْرَضان على العقول التي لم يَسْبِق إليها تقليدُ الآراء، ولم يتواطأ عليها ويتلقَّاها صاغرٌ عن كابر، وولدٌ عن والد، حتى نَشَأت معها بنشوئها، فهي تسعى في نُصرتها بما دَبَّ ودَرَجَ من الأدلَّة؛ _________ (1) انظر: (ص: 978).

(2/1038)


لاعتقادها ــ أوَّلًا ــ أنها حقٌّ في نفسها؛ لإحسانها الظَّنَّ بأربابها، فلو تجرَّدَت من حبِّ من والَتْهُ وبُغض من خالفَته، وجرَّدَت النَّظر، وصابرَت العلمَ، وتابعَت المسيرَ في المسألة إلى آخرها= لأوشَك أن تعلَم الحقَّ من الباطل، ولكن حبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ (1)، والنَّاظرُ بعَيْن البُغض يَرى المحاسنَ مساواء، هذا في إدراك البصر مع ظهوره ووضوحه، فكيف في إدراك البصيرة، لا سيَّما إذا صادفَ مُشْكِلًا، فهذه بليَّةُ أكثر العالَم. فإن تَنْجُ منها تَنْجُ مِنْ ذي عَظِيمةٍ ... وإلا فإني لا إخالُكَ ناجِيا (2) الوجه الرَّابع والعشرون: أنَّ اقتران هذه الأمور التي ذكرتموها، مِنْ رِقَّة الجنسيَّة، وتَصَوُّر نفسِه بصورة (3) من يريدُ إنقاذَه، ونحوها، هي أمورٌ تقترنُ بهذا الإحسان، فيقوى الباعثُ على فعله، ولا يوجبُ تجرُّدَه عن وصفٍ يقتضي حُسْنَه، وأن لا تكون ذاتُه مقتضيةً لحُسْنه، وإن اقتَرن بفاعله (4) هذه الأمور. _________ (1) مثلٌ مشهور. انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 356). وروي مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف. وروي موقوفًا، وهو أشبه. انظر: «المقاصد الحسنة» (216)، و «السلسلة الضعيفة» (1868). (2) البيت للأسود بن سريع في «البيان والتبين» (1/ 367)، و «المعارف» لابن قتيبة (557) وقال: «فسرقه الفرزدق». ونُسِب للفرزدق في مصادر كثيرة، وليس في ديوانه. انظر: «طبقات فحول الشعراء» (182، 363)، و «التمثيل والمحاضرة» (69). وورد في مصادر أخرى منسوبًا لذي الرمَّة، ولعسعس بن سلامة. (3) (ق، د): «تصوره». (ت): «تصور». والمثبت من (ط). (4) (ت): «بفاعليه».

(2/1039)


وما مثَلكم في ذلك إلا كمثَل من قال: إنَّ تناول الأطعمة والأغذية والأدوية ليس حَسَنًا لذاته، فإنه يقترنُ بتناولها مِنْ لَذْعَة المِرَّة لفم المعدة (1) ما يوجبُ نزوعَها إلى طلب الغذاء لقيام البِنية، وكذلك الأدويةُ وغيرها. ومعلومٌ أنَّ هذه البواعثَ والدَّواعي وأسبابَ الميول لا تنافي الاقتضاءَ الذَّاتيَّ وقيامَ الصِّفات التي تقتضي الانتفاعَ بها، فكذلك تلك البواعثُ والدَّواعي وأسبابُ الميول التي تحصُل لفاعل الإحسان، ومُنْقِذ الغريق والحريق، ومُنْجِي الهالك، لا تنافي ما عليه هذه الأفعالُ في ذواتها من الصِّفات التي تقتضي حُسْنَها وقُبْحَ أضدادها. الوجه الخامس والعشرون: قولكم: «إنه يقدِّرُ نفسَه في تلك الحال، ويقدِّرُ غيرَه مُعْرِضًا عن الإنقاذ، فيستقبحُه منه، لمخالفته غرضَه، فيَدْفَعُ عن نفسه ذلك القُبْحَ المتوهَّم» (2). فيقال: هذا القُبح المتوهَّمُ إنما نَشَأ عن القُبح المتحقِّق في ترك الإحسان إليه مع قدرته عليه وعدم تضرُّره به، فالقُبح محقَّقٌ في ترك إنقاذه، ومتوهَّمٌ في تصويره نفسَه بتلك الحال وعدم إنقاذ غيره له، فلولا تلك الحقيقةُ لم يحكُم العقلُ بهذا القُبح الموهوم، وكونُ الإنقاذ موافقًا للغَرض وتركُه مخالفًا له لا ينفي أن يكون في ذاته حَسَنًا وقبيحًا، وإنما (3) وافقَ الغَرض _________ (1) تحرفت في الأصول «لذعة» إلى: لذة. ومن شأن المِرَّة أن تلذع فمَ المعدة، فتحرِّك شهوة الجوع بحموضتها وتثيرها. انظر: «الإحياء» (4/ 114)، و «القانون» (1/ 16، 62، 73)، و «الحاوي» (2/ 211) و «أيمان القرآن» (590). (2) انظر: (ص: 979). (3) في الأصول: «ملائما». وهو تحريف.

(2/1040)


وخالفه لما اتصفت به ذاتُه من الصِّفات المقتضية لهذه الموافقة والمخالفة. الوجه السَّادس والعشرون: قولكم: «فلو فُرِض هذا في بهيمةٍ أو شخصٍ لا رِقَّة فيه، فيبقى أمرٌ آخر، وهو طلبُ الثَّناء على إحسانه» (1). فيقال: طلبُ الثَّناء يقتضي أنَّ هذا الفعلَ مما يتعلَّقُ الثَّناء به، وما ذاك إلا لأنه في نفسه على صفةٍ تقتضي الثَّناءَ على فاعله، ولو كان هذا الفعلُ مساويًا لضدِّه في نفس الأمر لم يتعلَّق الثَّناءُ به والذَّمُّ بضدِّه، وفِعْلُه لتوقُّع الثَّناء لا ينفي أن يكون على صفةٍ لأجلها استحقَّ فاعلُه الثَّناء، بل هو باقتضاء ذلك أولى مِنْ نفيه. الوجه السَّابع والعشرون: قولكم: «فإن فُرِض في موضعٍ يستحيلُ أن يُعْلَم، فيبقى ميلٌ وترجيحٌ يضاهي نُفرة طبع السَّليم عن الحَبل، وذلك أنه رأى هذه الصُّورة مقرونةً بالثَّناء، فيظُنُّ أنَّ الثَّناء مقرونٌ بها بكلِّ حال، كما أنه لما رأى الأذى مقرونًا بصورة الحَبل، وطبعُه ينفرُ عن الأذى، فينفِرُ عن المقرون به؛ فالمقرونُ باللذيذ لذيذ، والمقرونُ بالمكروه مكروه» (2). فيقال: يا عجبًا، كيف يُرَدُّ أعظمُ الإحسان الذي فَطر اللهُ عقولَ عباده وفِطَرهم على استحسانه (3)، حتى لو تُصُوِّر نُطْقُ الحيوان البهيم لشَهِد باستحسانه= إلى مجرَّد وهمٍ وخيالٍ فاسدٍ يُشْبه نُفرةَ طبع الرَّجل السَّليم (4) عن حَبلٍ مرقَّش؟! _________ (1) انظر: (ص: 979). (2) انظر: (ص: 979). (3) (ق): «احسانه». وهو تحريف. (4) السليم: الملدوغ. كما تقدم.

(2/1041)


فتأمَّل كيف تحمِلُ نُصْرَةُ (1) الآراء المتقلَّدة وبُغض مخالفيها (2) على أمثال هذه الشُّنَع (3). وهل سوَّى اللهُ سبحانه في العقول والفِطر بين إنقاذ الغريق والحريق، وتخليص الأسير من عدوِّه، وإحياء النُّفوس، وبين نُفْرَة طبع السَّليم عن حبلٍ مرقَّشٍ لتوهُّمه أنه حَيَّة؟! وقد كان مجرَّدُ تصوُّر هذه الشُّبهة (4) كافيًا في العلم ببطلانها، ولكنَّنا زِدنا الأمرَ إيضاحًا وبيانًا. الوجه الثَّامن والعشرون: قولكم: «الإنسانُ إذا جالَس من عَشِقَه في مكان، فإذا انتهى إليه أحسَّ في نفسه تَفرِقَةً بين ذلك المكان وغيره»، واستشهادكم على ذلك بقول الشاعر: * أمُرُّ على الدِّيار ديارِ ليلى * وقوله: * وحَبَّبَ أوطانَ الرِّجال إليهمُ * (5) فيقال: لا ريب أنَّ الأمرَ هكذا، ولكن هل يلزمُ من هذا استواءُ الصِّدق والكذب في نفس الأمر، واستواءُ العدل والظُّلم والبرِّ والفُجور والإحسان _________ (1) مهملة في (د). وفي (ت، ق): «بصره». (ط): «نفرة». وكلاهما تحريف. (2) في الأصول: «مخالفتها». والمثبت أشبه. (3) أي: القبائح. (4) (ت): «الشبه». (5) انظر: (ص: 980). وسلف تخريج البيتين هناك.

(2/1042)


والإساءة؟! بل هذا المثال نفسُه حجَّةٌ عليكم، فإنه لم يَمِل طبعُه إلى ذلك المكان مع مساواته لجميع الأمكنة عنده، وكذلك حنينُه إلى وطنه ومحبتُه له، وكذلك حنينُه إلى إلْفِه من النَّاس وغيرهم؛ فإنَّ هذا لا يقعُ منه مع تساوي تلك الأماكن والأشخاص عنده، بل لظنِّه اختصاصَها بأمورٍ لا توجدُ في سواها، فتَرتَّبَ ذلك الحبُّ والميلُ على هذا الظَّنِّ. ثمَّ له حالان: أحدهما: أن لا يكون كما ظنَّه (1)، بل ذلك المكانُ أو الشخصُ مُساوٍ لغيره، وربَّما يكون غيرُه أكملَ منه في الأوصاف التي تقتضي حبَّه والميلَ إليه، فهذا إذا سُلِّط العقلُ والحسُّ (2) على سبب مَيْله وحبِّه عُلِمَ أنه مجرَّدُ إلفٍ أو عادةٍ أو تذكُّرٍ أو تخيُّل. وهذا الوهمُ مستنِدٌ إلى ما تقرَّر في العقل من أنَّ اختصاصَ الحبِّ والميل بالشيء دونَ غيره لِمَا اختصَّ به من الصِّفات التي اقتضت ذلك، وكذلك تعلُّق النُّفرة والبغض به، ثمَّ يَغْلِبُ الوهمُ حتى يتخيَّل تلك الصِّفات ثابتةً (3) في المحلِّ، وليست فيه، بل يكونُ المحلُّ مقارِنًا تلك الصِّفات (4)، _________ (1) في الأصول: «أن يكون كما ظنه». وأرجو أن الصواب ما أثبت، والحالة الثانية التي طواها المصنف هي: أن يكون كما ظنه. (2) (ت): «والحسن». تحريف. (3) مهملةٌ في (ق، د). وفي (ط): «بائنة عن المحل». وهو غلط. (4) من قوله: «تلك الصفات ثابتة ... » إلى هنا ساقط من (ت).

(2/1043)


فيُحِبُّ ويُبْغِضُ لأجل تلك المقارنة (1)، فمقارِنُ المحبوب محبوبٌ، ومقارنُ المكروه مكروه، كقوله: وما حُبُّ الدِّيار شَغَفْنَ قلبي ... ولكنْ حُبُّ من سَكَنَ الدِّيارا وقولِ الآخر: إذا ذَكَروا أوطانَهم ذَكَّرَتهمُ ... عُهودًا جَرَت فيها فَحَنُّوا لذلِكا الوجه التَّاسع والعشرون: قولكم: «إنَّ الصَّبرَ على السَّيف في ترك كلمة الكفر لا يستحسنُه العقلاءُ لولا الشرع، بل ربَّما استقبَحوه، إنَّما يُستَحسَنُ للثَّواب أو الثَّناء بالشجاعة، وكذلك بالصَّبر (2) على حِفظ السرِّ والوفاء بالعهد، لِمَا في ذلك من المصالح، فإن فُرِض حيث لا ثناء فيه فقد وُجِدَ مقرونًا بالثَّناء، فيبقى ميلُ الوهم للمقرون» (3). فيقال لكم: استحسانُ الشرع له مطابقٌ لاستحسان العقل لا مخالف، وكذلك انتظارُ الثَّواب به هو لحُسْنه في نفسه. وكذلك المصالحُ المترتِّبةُ على حِفظ السرِّ والوفاء بالعهد هي لِمَا قام بذوات هذه الأفعال من الصِّفات التي أوجبت المصالح؛ إذ لو ساوت غيرَها لم تكن باقتضاء المصلحة أولى منها. وقولكم: «إنه إذا فُرِض حيث لا ثناء، يبقى (4) ميلُ الوهم للمقارنة»، فقد _________ (1) (د، ق): «المفارقة». وهو تحريف. (2) كذا في الأصول. ولعل الصواب حذف باء الجر. (3) انظر: (ص: 980). (4) غير محررة في (د). وفي (ق، ت): «ينفي». وهو تحريف.

(2/1044)


تقدَّم أنَّ هذا الميلَ تبعٌ للحقيقة، وأنه يستحيلُ وجودُه في فعلٍ لا تقتضي ذاتُه المصلحةَ والاستحسان، وأنَّ حصولَ الوهم المقارن تبعٌ للحقيقة الثَّابتة؛ لاستحالة حصول هذا الوهم في فعلٍ لا تكونُ ذاتُه مَنْشَأً للأمر الموهوم (1)، فيتوهَّمُ الذِّهنُ حيث تنتفي الحقيقة. الوجه الثَّلاثون: قولكم: «إنَّ من عَرَضت له حاجة، وأمكنَ قضاؤها بالصِّدق والكذب، فإنه يُؤثِرُ الصِّدقَ لأنه وَجَده مقرونًا بالثَّناء، فهو يُؤثِره لما يقترنُ به من الثَّناء» (2). فجوابه أيضًا ما تقدَّم، وأنَّ اقترانَه بالثَّناء لِمَا اختُصَّ به من الصِّفاتِ التي اقتضت الثَّناءَ على فاعله. كيف، والكذبُ متضمِّنٌ لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيامُ العالم عليه، لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمِّنٌ لفساد المعاش والمعاد؟! ومفاسدُ الكذب اللازمةُ له معلومةٌ عند خاصَّة النَّاس وعامَّتهم. كيف، وهو منشأ كلِّ شرٍّ وفساد، وشرُّ الأعضاء لسانٌ كذوب (3)؟! وكم قد أُزِيلت بالكذب مِنْ دُولٍ وممالِك، وخرِّبت به مِنْ بلاد، واستُلِبت به مِنْ نِعَم، وتعطَّلت به مِنْ معايش، وفَسَدَت به مِنْ مصالح، وغُرِسَت به مِنْ عداوات، وقُلِعَت به مِنْ مودَّات، وافتَقر به غنيٌّ، وذَلَّ به عزيزٌ، وهُتِكَت به مَصُونةٌ، ورُمِيَت به محصَنةٌ، وخَلَت به دُورٌ وقصور، _________ (1) (ت): «وأن حصول الوهم المقارن مع الحقيقة الثانية». (2) انظر: (ص: 981). (3) انظر: «روضة العقلاء» (52)، و «حلية الأولياء» (1/ 288).

(2/1045)


وعمِّرت به قبور، وأُزيل به أُنس، واستُجلِبت به وَحْشَة، وأُفسِد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه (1)، وأحال الصَّديقَ عدوًّا مبينًا، ورَدَّ الغنيَّ العزيزَ ذليلًا مسكينًا! وكم فرَّق بين الحبيب وحبيبه، فأفسَد عليه عِيشتَه ونغَّص عليه حياتَه! وكم جَلا عن الأوطان! وكم سوَّد مِنْ وجوه، وطمَس مِنْ نور، وأعمى مِنْ بصيرة، وأفسَد مِنْ عقل، وغيَّر مِنْ فِطرة، وجلَب مِن مَعَرَّة، وقطِّعت به [مِن] السُّبل، وعَفَت به [مِنْ] معالم الهداية، ودَرَسَت به مِنْ آثار النُّبوَّة، وخَفِيَت به مِنْ طرق الرَّشاد، وتعطَّلت به مِنْ مصالح العباد في المعاش والمعاد! وهذا وأضعافُه ذرَّةٌ من مفاسده وجناحُ بعوضةٍ من مضارِّه ومَقابِحه (2)، وإلا فما يجلِبُه من غضب الرَّحمن، وحِرمان الجِنان، وحلول دار الهوان، أعظمُ من ذلك. وهل مُلِئت الجحيمُ إلا بأهل الكذب، الكاذبين على الله وعلى رسوله وعلى دينه وعلى أوليائه، المكذِّبين بالحقِّ حَمِيَّةً وعصبيَّةً جاهليَّة؟! وهل عُمِّرت الجِنانُ إلا بأهل الصِّدق، الصَّادقين المصدِّقين بالحقِّ؟! قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 32 - 34]. _________ (1) نقَص ما بينهما من المودة. (2) (ق، د): «ومصالحه». وهو تحريف. وسقطت من (ت).

(2/1046)


وإذا كانت هذه حال الكذب والصِّدق، أفليس مِنْ أبطل الباطل دعوى تساويهما، وأنَّ العقلَ إنما يُؤثِرُ الصِّدقَ لتوهُّم اقترانه بالثَّناء، وإنما يتجنَّبُ الكذبَ لتوهُّم اقترانه بالقُبح، كتوهُّم اقتران اللَّسْع في الحبل المرقَّش، وردُّ استقباح (1) هذه المفاسد والمَقابِح التي لا أقبَح منها إلى مجرَّد وهمٍ باطلٍ يُشْبِه نفرة الطَّبع عن الحبل المرقَّش؟! ونفسُ العلم بهذه المقالة كافٍ في الجزم ببطلانها. ولو ذهبنا نعدِّدُ قبائحَ الكذب النَّاشئة من ذاته وصفاته لزادت على الألف، وما مِنْ عاقلٍ إلا وعنده العلمُ ببعض ذلك علمًا ضروريًّا مركوزًا في فطرته، فما سوَّى اللهُ بينه وبين الصِّدق أبدًا، ودعوى استوائهما كدعوى استواء النُّور والظُّلمة، والكفر والإيمان، وخَراب العالم وإهلاك الحرث والنَّسل وعمارته، بل كدعوى استواء الجوع والشِّبَع، والرِّيِّ والظَّمأ، والفرح والغمِّ، ولا فرق عند العقل بين علمه بهذا وهذا. الوجه الحادي والثَّلاثون: قولكم: «الصِّدقُ والكذبُ متنافيان، ومن المحال تساوي المتنافيَين في جميع الصِّفات ... » (2) إلى آخره= إقرارٌ منكم بالحقِّ، ونقضٌ لما أصَّلتموه. فإنهما إذا كانا متنافيَيْن ذاتًا وصفاتٍ لم يرجع الفرقُ بينهما استحسانًا واستقباحًا إلى مجرَّد العادة والمنشأ والمَرْبى أو مجرَّد التَّديُّن بالشرائع، بل يكون مرجعُ الفرق إلى ذاتيهما، وأنَّ ذاتَ هذا _________ (1) معطوفٌ على: «دعوى تساويهما ... ». (2) انظر: (ص: 981).

(2/1047)


مقتضيةٌ (1) لحُسْنه وذاتَ هذا مقتضيةٌ لقُبحه، وهذا هو عينُ الصَّواب لولا أنكم لا تُثْبِتون علَّتَه (2)، وتصرِّحون بأنَّ الفرق بينهما سببُه العادةُ والتَّربيةُ والمنشأُ والتَّديُّنُ بشرائع الأنبياء، حتى لو فُرِض انتفاءُ ذلك لم يُؤثِر الرَّجلُ الصِّدقَ على الكذب. وهل في التَّناقض أقبحُ من هذا؟! الوجه الثَّاني والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ غاية هذا أن يَدُلَّ على قُبح الكذب وحُسن الصِّدق شاهدًا، ولا يلزم منه حسنُه وقبحُه غائبًا إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد، وهو باطلٌ؛ لوضوح الفَرق»، واستنادكم في الفَرق إلى ما ذكرتم مِنْ تخلية الله بين عباده يموجُ بعضهم في بعضٍ ظلمًا وإفسادًا، وقُبح ذلك شاهدًا (3). فيا لله العَجَب! كيف يجوِّزُ العقلُ التزامَ مذهبٍ يُلْتَزمُ معه (4) جوازُ الكذب على ربِّ العالمين وأصدق الصَّادقين، وأنه لا فرق أصلًا بالنسبة إليه بين الصِّدق والكذب، بل جوازُ الكذب عليه ــ سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا ــ كجواز الصِّدق، وحُسْنُه كحُسْنِه؟! وهل هذا إلا مِنْ أعظم الإفك والباطل؟! ونِسبتُه إلى الله تعالى جوازًا كنسبة ما لا يليقُ بجلاله إليه من الولد والزَّوجة والشريك، بل كنسبة أنواع الظُّلم والشرِّ إليه جوازًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فمن أصدقُ من الله حديثًا؟! ومن أصدقُ من الله قِيلًا؟! _________ (1) (ت): «مفضية». في الموضعين. (2) كذا في الأصول. ويمكن أن تقرأ: «تَثْبُتون عليه». (3) انظر: (ص: 982). (4) في الأصول: «ملتزم معه». والمثبت أشبه.

(2/1048)


وهل هذا الإفكُ المفترى إلا رافعٌ للوثوق بأخباره ووعده ووعيده، وتجويزٌ عليه وعلى كلامه ما هو من أقبح القبائح التي يتنزَّه عنها بعضُ عبيده، ولا تليقُ به، فضلًا عنه سبحانه؟! فلو التزمتم كلَّ إلزامٍ يَلْزَم مثبتي (1) الحُسْن والقُبح العقليَّين لكان أسهَل من التزام هذا الإدِّ التي تكادُ السَّمواتُ يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتَخِرُّ الجبالُ هدًّا. ولا نسبة في القُبح بين الولد والشَّريك والزَّوجة وبين الكذب، ولهذا فَطَر اللهُ عقولَ عباده على الإزارء والذَّمِّ والمَقْت للكاذب دون من له زوجةٌ وولدٌ وشريك؛ فتنزُّهُ أصدق الصَّادقين عن هذا القبيح كتنزُّهه عن الولد والزَّوجة والشريك، بل لا يُعْرَفُ أحدٌ من طوائف العالم جوَّز الكذبَ على الله؛ لِمَا فَطَر اللهُ عقولَ البشر وغيرهم على قُبحه ومَقْتِ فاعله وخِسَّته ودناءته، ونَسَبَت إليه طوائفُ المشركين الشريكَ والولدَ لَمَّا لم يكن قبحُه عندهم كقُبح الكذب. وكفى بمذهبٍ بطلانًا وفسادًا هذا القولُ العظيمُ والإفكُ المبينُ لازِمُه، ومع هذا فأهلُه لا يتحاشَون من التزامه!! فلو التَزم القائلُ أيَّ مذهبٍ أُلْزِم (2) كان خيرًا له من هذا. ونحن نستغفرُ الله من التقصير في ردِّ هذا المذهب القبيح، ولكنَّ ظهورَ قُبحه للعقول والفِطر أقوى شاهدٍ على ردِّه وإبطاله، ولقد كان كافينا مِنْ ردِّه نفسُ تصويره وعَرْضِه على عقول النَّاسِ وفِطرهم. _________ (1) (د، ق): «كل الذم بلزوم مسمى». (ت): «كل اللزوم بلزوم مسمى». وهو تحريفٌ عن المثبت. (2) في الأصول: «أن يذهب الذم». ولعل الصواب ما أثبت.

(2/1049)


فليتأمَّل اللبيبُ الفاضلُ ماذا يعودُ إليه نصرُ المقالات، والتَّعصُّبُ لها، والتزامُ لوازمها، وإحسانُ الظَّنِّ بأربابها بحيث يَرى مساوئهم محاسنَ، وإساءةُ الظَّنِّ بخصومهم بحيث يَرى محاسنَهم مساواء، كم أفسَد هذا السُّلوكُ من فطرةٍ وصاحبُها من الذين يحسبون أنهم على شيءٍ، ألا إنهم هم الكاذبون! ولا تتعجَّب من هذا؛ فإنَّ مرآة القلب لا يزالُ يُتَنفَّسُ فيها (1) حتى يَسْتَحْكِمَ صدؤها، فليس ببِدْعٍ لها أن ترى الأشياء على خلاف ما هي عليها، فمبدأ الهدى والفلاح صِقالُ تلك المرآة، ومنعُ الهوى من التنفُّس فيها، وفتحُ عَيْن البصيرة في أقوال من تسيءُ الظَّنَّ بهم كما تفتحُها في أقوال من تحسنُ الظَّنَّ بهم، وقيامُك لله، وشهادتُك بالقِسط، وأن لا يحملك بغضُ منازعيك وخصومك على جَحْد زَيْنِهم (2)، وتقبيح محاسنهم، وترك العدل فيهم، فإنَّ الله لا يعتدُّ بتعب مَنْ هذا شأنُه، ولا يُجْدِي علمُه نفعًا أحوجَ ما يكونُ إليه، والله يحبُّ المقسطين، ولا يحبُّ الظَّالمين. الوجه الثَّالث والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ مستندَ الحكم بقُبح الكذب غائبًا قياسُ الغائب على الشاهد، وهو فاسد». فيقال: الرَّبُّ تعالى لا يدخُل مع خلقه في قياس تمثيلٍ ولا قياس شمولٍ يستوي أفرادُه، فهذان النوعان من القياس يستحيلُ ثبوتُهما في حقِّه، وأمَّا قياسُ الأولى فهو غيرُ مستحيلٍ في حقِّه، بل هو واجبٌ له، وهو مستعملٌ في حقِّه عقلًا ونقلًا: _________ (1) انظر: «مدارج السالكين» (2/ 473)، و «روضة المحبين» (140)، و «بدائع الفوائد» (42). (2) في الأصول: «دينهم». والمثبت أشبه بالصواب.

(2/1050)


* أمَّا العقل، فكاستدلالنا على أنَّ معطي الكمال أحقُّ بالكمال، فمن جعل غيرَه سميعًا بصيرًا عالمًا متكلِّمًا حيًّا حكيمًا قادرًا مريدًا رحيمًا محسنًا فهو أولى بذلك وأحقُّ منه، ويثبتُ له مِنْ هذه الصِّفات أكملُها وأتمُّها. وهذا مقتضى قولهم (1): «كمالُ المعلول مستفادٌ من كمال علَّته»، ولكن نحن ننزِّه الله عزَّ وجلَّ عن إطلاق هذه العبارة في حقِّه، بل نقول: كلُّ كمالٍ ثبتَ للمخلوق غير مستلزمٍ للنَّقص فخالقُه ومُعْطِيه إياه أحقُّ بالاتصاف به، وكلُّ نقصٍ في المخلوق فالخالقُ أحقُّ بالتنزُّه عنه، كالكذب والظُّلم والسَّفَه والعبث (2)، بل يجبُ تنزيهُ الربِّ تعالى عن النَّقائص والعيوب مطلقًا وإن لم يتنزَّه عنها (3) بعض المخلوقين. وكذلك إذا استدللنا على حكمته تعالى بهذه الطَّريق، نحو أن يقال: إذا كان الفاعلُ الحكيمُ الذي لا يَفْعَلُ فعلًا إلا لحكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ له مِنْ فعله أكملَ ممَّن يفعلُ لا لغايةٍ ولا لحكمةٍ ولا لأجل عاقبةٍ محمودةٍ وهي مطلوبةٌ مِنْ فعله في الشاهد= ففي حقِّه تعالى أولى وأحرى، فإذا كان الفعلُ للحكمة كمالًا فينا فالربُّ تعالى أولى به وأحقُّ، وكذلك إذا كان التنزُّه عن الظُّلم والكذب كمالًا في حقِّنا فالربُّ تعالى أولى وأحقُّ بالتنزُّه عنه. * وبهذا ونحوه ضرب اللهُ الأمثالَ في القرآن، وذكَّر العقولَ ونبَّهها وأرشدَها إلى ذلك: _________ (1) أي: الفلاسفة. انظر: «النبوات» (893)، و «الصفدية» (1/ 91، 2/ 26)، و «الجواب الصحيح» (3/ 208)، و «مجموع الفتاوى» (12/ 193، 16/ 358). (2) مهملة في (د). وفي (ق): «والعيب». وهو تحريف. (3) (ت): «ينزه عنها».

(2/1051)


كقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]، فهذا مثلٌ ضرَبه يتضمَّنُ قياسَ الأولى في حقِّه (1)، يعني: إذا كان المملوكُ فيكم له مُلَّاكٌ مشتركون فيه، وهم متنازعون، ومملوكٌ آخرُ له مالكٌ واحد، فهل يكونُ هذا وهذا سواءً؟! فإذا كان هذا ليس عندكم كمن له ربٌّ واحدٌ ومالكٌ واحد، فكيف ترضون أن تجعلوا لأنفسكم آلهةً متعدِّدةً تجعلونها شركاءَ لله، تحبُّونها كما تحبُّونه، وتخافونها كما تخافونه، وترجونها كما ترجونه؟! وكقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، يعني: أنَّ أحدكم (2) لا يرضى أن يكون له بنتٌ، فكيف تجعلون لله ما لا ترضونه لأنفسكم؟! وكقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76]، يعني: إذا كان لا يستوي عندكم عبد مملوكٌ لا يَقْدِرُ على شيءٍ وغنيٌّ مُوسَّعٌ عليه يُنْفِقُ مما رزقه الله، فكيف تجعلون الصَّنمَ الذي هو أسوأ حالًا من هذا العبد شريكًا لله؟! _________ (1) «حقه» ساقطة من (ق). (2) (ت): «أحدهم».

(2/1052)


وكذلك إذا كان لا يستوي عندكم رجلان أحدُهما أبكمُ لا يَعْقِلُ ولا يَنْطِق، وهو مع ذلك عاجزٌ لا يَقْدِرُ على شيء، وآخرُ على طريقٍ مستقيمٍ في أقواله وأفعاله، وهو آمرٌ بالعدل عاملٌ به لأنه على صراطٍ مستقيم، فكيف تُسَوُّون بين الله وبين الصَّنم في العبادة؟! ونظائرُ ذلك كثيرةٌ في القرآن وفي الحديث، كقوله في حديث الحارث الأشعريِّ: «وإنَّ الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وإنَّ مثَل من أشرك كمثَل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله، وقال له: اعمَل وأدِّ إليَّ، فكان يعملُ ويؤدِّي إلى غيره، فأيكم يحبُّ أن يكون عبدُه كذلك؟!» (1). فالله سبحانه لا تُضرَبُ له الأمثالُ التي يشتركُ هو وخلقُه فيها شمولًا ولا تمثيلًا، وإنَّما يُستعمَلُ في حقِّه قياسُ الأولى كما تقدَّم. الوجه الرابع والثَّلاثون: أنَّ النُّفاة إنما ردُّوا على خصومهم من الجهمية والمعتزلة في إنكارهم الصِّفات (2) بقياس الغائب على الشاهد (3). فقالوا: العالِمُ شاهدًا من له العلم، والمتكلِّمُ من قام به الكلام، والحيُّ والمريدُ والقادرُ من قام به الحياةُ والإرادةُ والقدرة، ولا يُعْقَلُ إلا هذا. _________ (1) أخرجه أحمد (4/ 202)، والترمذي (2863)، وغيرهما. وصححه الترمذي، وابن خزيمة (930)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1/ 118) ولم يتعقبه الذهبي. (2) (ق): «إنكار الصفات». (3) انظر: «التمهيد» للباقلاني (32)، و «الإرشاد» للجويني (82)، و «نهاية الأقدام» (171، 182، 186).

(2/1053)


قالوا: ولأنَّ شرطَ إطلاق الاسم شاهدًا وجودُ هذه الصِّفات، ولا يستحقُّ الاسمَ في الشاهد إلا من قامت [به]، فكذلك في الغائب. قالوا: ولأنَّ شرطَ العلم والقدرة والإرادة في الشاهد الحياةُ، فكذلك في الغائب. قالوا: ولأنَّ علَّة (1) كون العالِم عالمًا شاهدًا وجودُ العلم وقيامُه به، فكذلك في الغائب. فقالوا بقياس الغائب على الشاهد في العلَّة والشرط والاسم والحدِّ؛ فقالوا: حدُّ العالِم شاهدًا من قام به العلم، فكذلك غائبًا، وشرطُ صحَّة إطلاق الاسم عليه شاهدًا قيامُ العلم به، فكذلك غائبًا، وعلَّةُ (2) كونه عالمًا شاهدًا قيامُ العلم به، فكذلكَ غائبًا. فكيف تُنكِرون هنا قياسَ الغائب على الشاهد، وتحتجُّون به في مواضع أخرى؟! وأيُّ تناقضٍ أكثر من هذا؟! فإن كان قياسُ الغائب على الشاهد باطلًا بَطَل احتجاجُكم علينا به في هذه المواضع، وإن كان صحيحًا بَطَل ردُّكم في هذا الموضع، فأمَّا أن يكون صحيحًا إذا استدللتم به، باطلًا إذا استدلَّ به خصومكم، فهذا أقبحُ التَّطفيف، وقبحُه ثابتٌ بالعقل والشرع (3). _________ (1) (ق): «علم». وهو تحريف. (2) في الأصول: «وعليه». وهو تحريف. (3) الاستدلال بقياس الشاهد على الغائب مسلك متقدمي الأشاعرة، وضعَّفه بعض متأخريهم، كالجويني في «البرهان» (1/ 127، 129)، والآمدي في «غاية المرام» (45). وانظر: «شرح المقاصد» (2/ 73)، و «المواقف» (3/ 67، 69).

(2/1054)


الوجه الخامس والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ الله خلَّى بين العباد وظُلم بعضهم بعضًا، وأنَّ ذلك ليس بقبيحٍ منه، فإنه قبيحٌ منَّا» (1). فذلك فاسدٌ على أصل التكليف؛ فإنَّ التكليفَ إنما يتمُّ بإعطاء القدرة والاختيار، والله تعالى قد أقدَرَ عبادَه على الطَّاعات والمعاصي، والصَّلاح والفساد، وهذا الإقدارُ هو مناطُ الشرع والأمر والنهي، فلولاه لم يكن شرعٌ ولا رسالة، ولا ثوابٌ ولا عقاب، وكان النَّاسُ بمنزلة الجمادات والأشجار والنَّبات. فلو حالَ سبحانه بين العباد وبين القدرة على المعاصي لارتفع الشرعُ والرِّسالةُ والتكليف، وانتفت فوائدُ البعثة، ولَزِم من ذلك لوازمُ لا يحبُّها الله، وتعطَّلت به غاياتٌ محمودةٌ محبوبةٌ لله وهي ملزومةٌ لإقدار العباد وتمكينهم من الطَّاعة والمعصية، ووجودُ الملزوم بدون اللازم محال، وقد نبَّهنا على شيءٍ يسيرٍ من الحِكَم المطلوبة والغايات المحمودة فيما سَلَف من هذا الفصل وفي أوَّل الكتاب (2). فلو أنَّ الربَّ تعالى خلق خلقَه ممنوعين من المعاصي غيرَ قادرين عليها بوجهٍ (3) لم يكن لإرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي والثَّواب والعقاب سببٌ يقتضيه، ولا حكمةٌ تستدعيه، وفي ذلك تعطيلُ الأمر جملة، بل تعطيلُ المُلك والحمد، والربُّ تعالى له الخلقُ والأمر، وله الملكُ والحمد. _________ (1) انظر: (ص: 982). (2) انظر: (ص: 12، 810، 812 - 847). (3) «بوجه» ليست في (ت).

(2/1055)


والغاياتُ المطلوبةُ والعواقبُ المحمودةُ التي لأجلها أنزَل كتبَه، وأرسل رسلَه، وشرع شرائعَه، وخلَق الجنةَ والنَّار، ووضعَ الثَّوابَ والعقاب، لا تحصُل (1) إلا بإقدار العبادِ على الخير والشرِّ، وتمكينهم من ذلك، وإعطائهم (2) الأسبابَ والآلات التي يتمكَّنون بها مِنْ فعل هذا وهذا. فلهذا حَسُنَ منه تبارك وتعالى التَّخلِيةُ بين عباده وبين ما هم فاعِلُوه، وقَبُحَ من أحدنا أن يخلِّيَ بين عبيده وبين الإفساد وهو قادرٌ على منعهم، هذا مع أنه سبحانه لم يخلِّ بينهم، بل مَنَعَهم منه، وحرَّمه عليهم، ونَصَبَ لهم العقوبات الدُّنيوية والأخروية على القبائح، وأحلَّ بهم مِنْ بأسه وعذابه وانتقامه (3) ما لا يفعلُه السيِّدُ من المخلوقين بعبيده ليمنعَهم ويزجُرهم. فقولكم: «إنه خلَّى بين عباده وبين إفساد بعضهم بعضًا وظُلم بعضهم بعضًا» كذبٌ عليه، فإنه لم يخلِّ بينهم شرعًا ولا قَدَرًا، بل حالَ بينهم وبين ذلك شرعًا أتمَّ حَيْلُولة، ومَنَعَهم قَدَرًا بحسب ما تقتضيه حكمتُه الباهرةُ وعلمُه المحيط، وخلَّى بينهم وبين ذلك بحسب ما تقتضيه حكمتُه وشرعُه ودينُه. فمنعُه سبحانه لهم وحيلولتُه بينهم وبين الشرِّ أعظمُ من تخلِيَته، والقَدْرُ الذي خلَّاه بينهم في ذلك هو ملزومُ أمره وشرعه ودينه؛ فالذي فعَله في الطَّرفين غايةُ الحكمة والمصلحة، ولا نهاية فوقه لاقتراح عقل. _________ (1) مهملة في (د)، وفي طرتها: «لعله: وذلك». (ق): «وذلك لا يحصل». وهو خطأ، سببه توهُّم أن قوله: «والغايات المطلوبة» معطوفٌ على «الملك والحمد». (2) (ق): «فأعطاهم». (3) (ت): «وعقابه».

(2/1056)


ولو خلَّى بينهم ــ كما زعمتم ــ لكانوا بمنزلة الأنعام السَّائمة، بل لو تركهم ودواعي طباعهم لأهلَك بعضُهم بعضًا، ولخَرِبَ العالمُ ومن عليه، بل ألجمهم لجامَ العجز والمنع من كلِّ ما يريدون، فلو أنه خلَّى بينهم وبين ما يريدون لفسَدت الخليقة، كما ألجمهم بلجام الشرع والأمر، ولو منَعهم جملةً ولم يمكِّنهم ولم يُقْدِرهم لتعطَّل الأمرُ والشرعُ جملة، وانتفت (1) حكمةُ البعثة والإرسال والثَّواب والعقاب. فأيُّ حكمةٍ فوق هذه الحكمة؟! وأيُّ أمرٍ أحسنُ مما فعله بهم؟! ولو أعطى النَّاسُ هذا المقام بعض حقِّه لعلموا أنه مقتضى الحكمة البالغة، والقدرة التَّامَّة، والعلم المحيط، وأنه غايةُ الحكمة. ومن فُتِحَ له بفهمٍ في القرآن رآه من أوَّله إلى آخره، ينبِّه العقولَ على هذا، ويرشدُها إليه، ويدلُّها عليه، وأنه يتعالى ويتنزَّه أن يكون هذا منه عبثًا، أو سُدًى، أو باطلًا، أو بغير الحقِّ، أو لا لمعنًى ولا لداعٍ وباعث، وأنَّ مصدَر ذاك جميعه عن عزَّته وحكمته. ولهذا كثيرًا ما يَقْرِنُ تعالى بين هذين الاسمين (العزيز الحكيم) في آيات التَّشريع والتكوين والجزاء؛ ليَدُلَّ عبادَه على أنَّ مصدَر ذلك كلِّه عن حكمةٍ بالغة، وعزَّةٍ قاهرة (2). _________ (1) (ت): «فانتفت». (2) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 36)، و «طريق الهجرتين» (230). كما يقرن سبحانه بين الاسمين (العليم الحكيم) عند ذكر مصدر خلقه وشرعه. انظر: «شفاء العليل» (561)، و «التبوكية» (79).

(2/1057)


ففَهِمَ الموفَّقون عن الله عزَّ وجلَّ مرادَه وحكمتَه، وانتهَوا إلى ما وَقَفوا عليه ووصلت إليه أفهامُهم وعلومُهم، وردُّوا علمَ ما غاب عنهم من ذلك إلى أحكم الحاكمين ومن هو بكلِّ شيءٍ عليم، وتحقَّقوا بما عَلِمُوه من حكمته التي بَهَرت عقولهم أنَّ لله في كلِّ ما خلق وأمرَ وأثابَ وعاقبَ من الحِكَم البوالغ ما تقصُر عقولهم عن إدراكه، وأنه تعالى هو الغنيُّ الحميد، العليمُ الحكيم، فمصدَر خلقه وأمره وثوابه وعقابه غناهُ وحمدُه وعلمُه وحكمتُه، ليس مصدرُه مشيئةً مجرَّدةً وقدرةً خاليةً من الحكمة والرَّحمة والمصلحة والغايات المحمودة المطلوبة له خلقًا وأمرًا، وأنه سبحانه لا يُسْألُ عمَّا يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه ووقوع أفعاله كلِّها على أحسن الوجوه وأتمِّها على الصَّواب والسَّداد ومطابقة الحِكَم، والعباد يُسْألون؛ إذ ليست أفعالهم كذلك. ولهذا قال خطيبُ الأنبياء شعيبٌ - صلى الله عليه وسلم - (1): {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فأخبر عن عموم قدرته تعالى، وأنَّ الخلقَ كلَّهم تحت تسخيره وقدرته، وأنه آخذٌ بنواصيهم، فلا محيصَ لهم من نفوذ مشيئته وقدرته فيهم. ثمَّ عقَّبَ ذلك بالإخبار عن تصرُّفه فيهم، وأنه بالعدل لا بالظُّلم، وبالإحسان لا بالإساءة، وبالصَّلاح لا بالفساد، فهو يأمرُهم وينهاهم، إحسانًا إليهم وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم ولا بخلًا عليهم، بل جودًا وكرمًا ولطفًا وبرًّا، ويثيبُهم إحسانًا وتفضُّلًا ورحمة، لا لمعاوَضةٍ واستحقاقٍ منهم _________ (1) كذا قال المصنف رحمه الله. وهو وهم؛ فقائل هذا هودٌ عليه السلام. ووقع كذلك في «إعلام الموقعين» (1/ 162)، و «روضة المحبين» (96). وعلى الصواب في «زاد المعاد» (4/ 207)، و «المدارج» (3/ 456)، وغيرها.

(2/1058)


ودَيْنٍ واجبٍ لهم يستحقُّونه عليه، ويعاقبُهم عدلًا وحكمة، لا تشفِّيًا ولا مخافةً ولا ظلمًا كما يعاقبُ الملوكُ وغيرُهم، بل هو على الصِّراط المستقيم، وهو صراطُ العدل والإحسان في أمره ونهيه وثوابه وعقابه. فتأمَّل ألفاظ هذه الآية، وما جمعَته من عموم القدرة وكمال المُلك، ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان، وما تضمَّنته من الرَّدِّ على الطَّائفتين، فإنها من كنوز القرآن، ولقد كَفَت وشَفَت لمن فُتِحَ عليه بفهمها (1). فكونُه تعالى على صراطٍ مستقيمٍ ينفي ظلمَه للعباد وتكليفَه إياهم ما لا يطيقون، وينفي العبثَ (2) من أفعاله وشرعه، ويُثْبِتُ لها غايةَ الحكمة والسَّداد؛ ردًّا على منكري ذلك. وكونُ كلِّ دابَّةٍ تحت قبضته وقدرته، وهو آخذٌ بناصيتها، ينفي أن يقعَ في مُلكه من أحدٍ من المخلوقات شيءٌ بغير مشيئته وقدرته، وأنَّ من ناصيتُه بيد الله وفي قبضته لا يمكِنُه أن يتحرَّك إلا بتحريكِه، ولا يفعل إلا بإقدارِه، ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى؛ ردًّا على مُنكري ذلكَ من القدريَّة. فالطَّائفتان ما وفَّوا الآيةَ معناها، ولا قَدَرُوها حقَّ قَدْرها، فهو سبحانه على صراطٍ مستقيمٍ في عطائه ومنعه، وهدايته وإضلاله، وفي نفعه وضرِّه، وعافيته وبلائه، وإغنائه وإفقاره، وإعزازه وإذلاله، وإنعامه وانتقامه، وثوابه وعقابه، وإحيائه وإماتته، وأمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، وفي كلِّ ما يخلُق وكلِّ ما يأمرُ به. _________ (1) (ت): «تفهمها». (2) مهملة في (د). (ت، ق): «العيب». وهو تحريف. فالعبث تقابله الحكمة، والعيب يقابله الكمال. ويأتي كثيرًا في كتب المصنف.

(2/1059)


وهذه المعرفةُ بالله لا تكونُ إلا للأنبياء ولورثتهم. ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، فالمثلُ الأوَّلُ للصَّنم وعابديه، والمثلُ الثَّاني ضربه الله تعالى لنفسه، وأنه يأمرُ بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم، فكيف يُسَوَّى بينه وبين الصَّنم الذي له مثلُ السَّوء؟! فما فَعَله الرَّبُّ تبارك وتعالى مع عباده هو غايةُ الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعِهم وأمرهم ونهيهم. فدعوى المدَّعي أنَّ هذا نظيرُ تخلِيَة السيِّد بين عبيده وإمائه يفجُر بعضُهم ببعض، ويسبي بعضهم بعضًا، أكذبُ دعوى وأبطلُها، والفرقُ بينهما أظهرُ وأعظمُ من أن يُحتاج إلى ذكره والتَّنبيه عليه. والحمدُ لله الغنيِّ الحميد؛ فغناهُ التَّامُّ فارقٌ، وحَمْدُه ومُلْكُه (1)، وعزَّتُه وحكمتُه، وعلمُه وإحسانُه، وعدلُه ودينُه، وشرعُه وحكمُه، وكرمُه ومحبتُه للمغفرة والعفو عن الجناة، والصَّفح عن المسيئين، وتوبةِ التَّائبين، وصبر الصَّابرين، وشُكر الشاكرين، الذين يؤثِرُونه على غيره، ويتطلَّبون مَراضيه، ويعبدونه وحده، ويسيرون في عبيده بسِيرة العدل والإحسان والنَّصائح، ويجاهدون أعداءه، فيبذُلون دماءهم وأموالهم في محبَّته ومرضاته، فيتميَّز الخبيثُ من الطَّيب، ووليُّه من عدوِّه، ويخرجُ طيِّبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج، فيترتَّبُ عليها آثارُها المحبوبةُ للربِّ تعالى من الثَّواب والعقاب، والحمد لأوليائه، والذمِّ لأعدائه. _________ (1) أي: وكذا حمدُه وملكُه فارقٌ بين فعل الله تعالى وفعل السيِّد في المثل المتقدم.

(2/1060)


وقد نبَّه تعالى على هذه الحكمة في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. وهذه الآيةُ من كنوز القرآن؛ نبَّه فيها على حكمته تعالى المقتضية (1) تمييزَ الخبيث من الطيِّب، وأنَّ ذلك التمييزَ لا يقعُ إلا برسله، فاجتبى منهم من شاء وأرسله إلى عباده، فتميَّز برسالتهم الخبيثُ من الطيِّب، والوليُّ من العدوِّ، ومن يصلُح لمجاورته وقُربه وكرامته ممَّن لا يصلُح إلا للوقود. وفي هذا تنبيهٌ على الحكمة في إرسال الرُّسل، وأنه لا بدَّ منه، وأنَّ الله تعالى لا يليقُ به الإخلالُ به، وأنَّ من جَحَدَ رسالةَ رسله فما قَدَرَه حقَّ قَدْره، ولا عَرفه حقَّ معرفته، ونَسَبَه إلى ما لا يليقُ به؛ كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. فتأمَّل هذا الموضع حقَّ التأمُّل، وأعطِه حظَّه من الفِكر، فلو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان من أجلِّ ما يستفاد، والله الهادي إلى سبيل الرَّشاد. الوجه السادس والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ الإغراق والإهلاك يحسُن منه تعالى، وهو أقبحُ شيءٍ منَّا، فكيف يدَّعون حُسْنَ إنقاذ الغرقى عقلًا ... » (2) إلى آخره= كلامٌ فاسدٌ جدًّا؛ فإنَّ الإغراق والإهلاك من الربِّ تعالى لا يخرُج قطُّ عن المصلحة والعدل والحكمة. _________ (1) (ت): «المفضية». (2) انظر: (ص: 982).

(2/1061)


فإنه إذا أغرَق أعداءه وأهلكهم وانتقم منهم كان هذا غايةَ الحكمة والعدل والمصلحة، وإن أغرَق أولياءه وأهلَ طاعته فهو سببٌ من الأسباب التي نَصَبَها لموتهم وتخليصهم من الدُّنيا والوصول إلى دار كرامته ومحلِّ قُربه، ولا بدَّ من موتٍ على كلِّ حال، فاختار لهم أكمل الموتتَين وأنفعَها لهم في معادهم، ليُوصِلهم بها إلى درجاتٍ عاليةٍ لا تُنالُ إلا بتلك الأسباب التي نَصَبَها الله مُوصِلةً إليها كإيصال سائر الأسباب إلى مسبَّباتها. ولهذا سلَّط على أنبيائه وأوليائه ما سلَّط عليهم، من القتل وأذى النَّاس وظُلمِهم لهم وعُدوانهم عليهم، وما ذاك لهوانهم عليه ولا لكرامة أعدائهم عليه، بل ذاك عَيْنُ كرامتهم وهوان أعدائهم عليه وسقوطِهم من عَيْنه؛ لينالوا بذلك ما خُلِقُوا له من مساكنهم في دار الهوان، وينال أولياؤه وحِزبُه ما هُيِّاء لهم من الدَّرجات العُلى والنَّعيم المقيم؛ فكان تسليطُ أعدائه وأعدائهم عليهم عَيْنَ كرامتهم وعَيْنَ إهانة أعدائهم. فهذا مِنْ بعض حِكَمه تعالى في ذلك، ووراء ذلك من الحِكَم ما لا تبلُغه العقولُ والأفهام. وكان إغراقُه وإهلاكُه وابتلاؤه محضَ الحكمة والعدل في حقِّ أعدائه ومحضَ الإحسان والفضل والرَّحمة في حقِّ أوليائه؛ فلهذا حَسُنَ منه. ولعلَّ الإغراق وتسليط القتل عليهم أسهلُ الموتتَيْن (1) عليهم، مع ما في ضِمنه من الثَّواب العظيم، فيكونُ قد بَلَغَ حُسْنُ اختياره لهم إلى أن خفَّف عليهم المَوتة، وأعاضهم (2) عليها أفضلَ الثَّواب؛ فإنه لا يجدُ الشهيدُ من _________ (1) (ت): «أهون الموتتين». (2) (ت): «وأعطاهم».

(2/1062)


ألم القتل إلا كمسِّ القَرْصَة. ومن لم يَمُتْ بالسَّيف ماتَ بغيره ... تنوَّعت الأسبابُ والداءُ واحدُ (1) فليس إماتةُ أوليائه شهداءَ بيد أعدائه إهانةً لهم ولا غضبًا عليهم، بل كرامةً ورحمةً وإحسانًا ولطفًا، وكذلك الغَرَقُ والحَرَقُ والهَدْمُ والتَّردِّي (2) والبَطْنُ وغيرُ ذلك، والمخلوقُ ليس بهذه المثابة، فلهذا قَبُحَ منه الإغراقُ والإهلاكُ وحَسُنَ من اللطيف الخبير. الوجه السابع والثَّلاثون: قولكم: «إذا كان لله في إغراقه وإهلاكه سبحانه حكمةٌ وسِرٌّ لا نطَّلعُ عليه نحن، فقدِّروا مثلَه في ترك إنقاذنا الغرقى» (3) كلامٌ تغني رِكَّتُه وفسادُه عن تكلُّف ردِّه. وهل يجوزُ أن يقال: إذا كان لله الحكمةُ البالغةُ والأسرارُ العظيمةُ في إهلاك من يهلكه وابتلاء من يبتليه، ولهذا حَسُنَ منه ذلك= فيَلْزَمُ من هذا أن يقال: يجوزُ أن يكون في تركنا إنجاءَ الغرقى ونصرَ المظلوم وسَدَّ الخَلَّة وسترَ العورة حِكَمًا وأسرارًا لا يعلمها العقلاء؟! والمُناكَدةُ في البُحوث إذا وصلت إلى هذا الحدِّ سَمُجَت وثَقُلَت على النُّفوس ومجَّتها القلوبُ والأسماع. _________ (1) البيت لابن نُباتة السعدي (ت: 405)، في ديوانه (217)، وترجمته من «وفيات الأعيان» (3/ 193)، و «السير» (17/ 234)، وغيرها. (2) ورد في حديثٍ شديد الضعف عند الطبراني (18/ 87)، وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (5573) أن المتردِّي شهيد. ووردت الأخبار بشهادة الباقين من وجوهٍ صحاح. والبطن: داء البطن. (3) انظر: (ص: 983).

(2/1063)


الوجه الثامن والثَّلاثون: قولكم: «الفعلان من حيث الصِّفات النفسيَّة واحدٌ، فكيف يقبُح أحدُهما من فاعلٍ ويحسُن الآخر من فاعل» (1). فيقال: هذا في البطلان والفساد مِنْ جنس ما قبله وأبطَلُ، وهو بمنزلة أن يقال: القتلُ من المعتدي ومن المُقْتَصِّ من حيث الصفات النفسيَّة واحدٌ، فكيف يقبُح أحدُهما ويحسُن الآخر؟! (2)، وبمنزلة أن يقال: السُّجودُ لله والسُّجودُ للصَّنم واحدٌ من حيث الصِّفات النفسيَّة، فكيف يقبُح أحدُهما ويحسُن الآخر؟! وهل في الباطل أبطَلُ من هذا الوهم؟! فما جعَل الله ذلك واحدًا أصلًا، وليس إماتةُ الله لعبده مثلَ قتل المخلوق له، ولا إجاعتُه وإعراؤه وابتلاؤه مساويًا في الصِّفات النفسيَّة لفعل المخلوق بالمخلوق ذلك، ودعوى التَّساوي كذبٌ وباطل، فلا أعظمَ من التَّفاوت بينهما، وهل يستوي عند العقل والفطرة فعلُ الله وفعلُ المخلوق؟! فيا لله العَجب! إن تناولهما اسمُ الفعل المشترك صارا سواءً في الصِّفات النفسيَّة، أترى (3) حصل لهما هذا التَّساوي من جهة الفعلَيْن، والذي أوجبَ هذا الخيال الفاسد اتحادُ المحلِّ وتعلُّق الفعلَيْن به، وهل يدلُّ هذا على استواء الفعلَيْن في الصِّفات النفسيَّة؟! ولقد وَهَتْ أركانُ مسألةٍ بُنِيَت على هذا الشَّفا، فإنه شَفَا جُرُفٍ هار، والله المستعان. _________ (1) انظر: (ص: 983). (2) من قوله: «فيقال ... » إلى هنا ساقط من (ق). (3) غير محررة في (د)، رسمها ابن بردس رسمًا على عادته في المشكلات.

(2/1064)


الوجه التاسع والثلاثون: قولكم: «مَواجِبُ العقول في أصل التكليف متعارضةُ الأصول» (1). فيقال: معاذَ الله من تعارضها (2)، بل هي متفقةُ الأصول، مستقرٌّ حُسْنُها في العقول والفِطر، مركوزٌ ذلك فيها، فما شَرَع اللهُ شيئًا فقال العقلُ السَّليم: ليته شرع خلافَه. بل هي متعارضةٌ بين العقل والهوى، فالعقلُ يقتضي حُسْنَها ويدعو إليها، ويأمرُ بمتابعتها جملةً في بعضها وجملةً وتفصيلًا في بعض، والهوى والشهوةُ قد يدعوان غالبًا إلى خلافها. فالتعارضُ واقعٌ بين مَواجِب العقول ومَواجِب الهوى، وما جعل الله في العقل ولا في الفطرة استقباحَ ما أمَر به، ولا استحسانَ ما نهى عنه، وإن مال الهوى إلى خلاف أمره ونهيه فالعقلُ حينئذٍ يكونُ مأسورًا (3) مع الهوى، مقهورًا في قبضته، وتحت سلطانه. الوجه الأربعون: قولكم: «نطالبكم بإظهار وجه الحُسن في أصل التكليف والإيجاب عقلًا وشرعًا» (4). فيقال: يا لله العجب! أيحتاجُ أمرُ الله تعالى لعباده بما فيه غايةُ صلاحهم وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، ونهيُه لهم عمَّا فيه هلاكهم وشقاؤهم في _________ (1) «نهاية الأقدام» (384). وتحرَّف النص في الأصول إلى: «فواجب العقول في أصل التكليف معارضة الأصول». (2) (ت): «معارضتها». (ق، د): «تعارضهما». وهو تحريف. (3) (ق، د): «مأمورا». (ت): «مكنوزا». والمثبت أشبه بالصواب. انظر: «طريق الهجرتين» (441). (4) «نهاية الأقدام» (384).

(2/1065)


معاشهم ومعادهم، إلى المطالبة بحُسْنه؟! ثمَّ لا يُقتَصرُ على المطالبة بحُسْنه عقلًا حتى يُطالَب بحُسْنه عقلًا وشرعًا! فأيُّ حُسْنٍ لم يأمر الله به ويستحبَّه (1) لعباده ويندُبهم إليه؟! وأيُّ حُسْنٍ فوق حُسْن ما أمَر به وشرعَه؟! وأيُّ قبيحٍ لم يَنْهَ عنه ولم يزجُر عبادَه عن ارتكابه؟! وأيُّ قُبحٍ فوق قُبح ما نهى عنه؟! وهل في العقل دليلٌ أوضحُ من علمه بحُسْن ما أمر الله به من الإيمان والإسلام والإحسان، وتفاصيلها: من العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُربى، وأنواع البرِّ والتقوى، وكلِّ معروفٍ تشهَدُ الفِطرُ والعقولُ به: من عبادته وحده لا شريك له على أكمل الوجوه وأتمِّها، والإحسان إلى خلقِه بحسب الإمكان؟! فليس في العقل مقدِّماتٌ هي أوضحُ من هذا المستدَلِّ عليه فيُجْعَل دليلًا له. وكذلك ليس في العقل دليلٌ أوضحُ مِنْ قُبح ما نهى عنه من الفواحش ما ظهَر منها وما بطَن، والإثم والبغي بغير الحقِّ، والشِّرك بالله ــ بأن يُجْعَل له عَدِيلٌ من خلقِه فيُعْبَد كما يُعْبَد، ويُحَبَّ كما يُحَبُّ، ويُعَظَّمَ كما يُعَظَّم ــ، ومن الكذب على الله وعلى أنبيائه وعباده المؤمنين، الذي فيه خرابُ العالَم وفسادُ الوجود. فأيُّ عقلٍ لم يُدْرِك حُسْنَ ذاك وقُبحَ هذا فأحرى أن لا يُدْرِك الدَّليل على ذلك! _________ (1) (ت): «ويستحسنه».

(2/1066)


وليس يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ ... إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ (1) فما أبقى اللهُ عزَّ وجلَّ حَسَنًا إلا أمَر به وشرَعه، ولا قبيحًا إلا نهى عنه وحذَّر منه. ثمَّ إنه سبحانه أودَع في الفِطر والعقول الإقرارَ بذلك، فأقام عليها الحجَّةَ من الوجهين، ولكن اقتضت رحمتُه وحكمتُه أن لا يعذِّبها إلا بعد إقامتها عليها برسله، وإن كانت قائمةً عليها بما أودَع فيها واستشهَدها عليه من الإقرار به وبوحدانيَّته واستحقاقه الشُّكرَ من عباده - بحسب طاقتهم ــ على نِعَمه، وبما نَصَبَ عليها من الأدلَّة المتنوِّعة المستلزمة إقرارَها بحُسْن الحسن وقُبح القبيح. الوجه الحادي والأربعون: أنَّا نذكر لكم وجهًا من الوجوه الدَّالَّة على وجه الحُسْن في أصل التكليف والإيجاب، فنقول: لا ريب أنَّ إلزامَ النَّاس شريعةً يأتمرون بأوامرها التي فيها صلاحُهم، وينتهون عن مناهيها التي فيها فسادُهم أحسنُ عند كلِّ عاقلٍ من تركهم همَلًا كالأنعام، لا يَعْرِفُون معروفًا ولا يُنكِرون منكرًا، وينزُو بعضهم على بعضٍ نَزْوَ الكلاب والحُمُر، ويَعْدُو بعضهم على بعضٍ عَدْوَ السِّباع والكلاب والذِّئاب، ويأكلُ قويُّهم ضعيفَهم، ولا يعرفون الله، ولا يعبدونه، ولا يذكرونه، ولا يشكرونه، ولا يمجِّدونه (2)، ولا يَدِينُون بدين، بل هم من جنس الأنعام السَّائمة. ومن كابرَ عقلَه في هذا سَقَط الكلامُ معه، ونادى على نفسه بغاية _________ (1) البيت للمتنبي في ديوانه (334)، وروايته: «الأفهام»، وفي نسخة: «الأوهام». (2) (ت): «يحمدونه».

(2/1067)


الوَقاحة ومفارقة الإنسانيَّة. وما نظيرُ مطالبتكم هذه إلا مطالبةُ من يقول: نحن نطالبكم بإظهار وجه المنفعة في خَلق الماء والهواء والرِّياح والتُّراب، وخَلق الأقوات والفواكه والأنعام، بل في خَلق الأسماع والأبصار والألسن والقُوى والأعضاء التي في العبد؛ فإنَّ هذه أسبابٌ ووسائلُ ووسائط، وأمَّا أمرُه وشرعُه ودينُه فكمالُه غايةٌ وسعادةٌ في المعاش والمعاد، ولا ريب عند العقلاء أنَّ وجهَ الحُسْن فيه أعظمُ من وجه الحُسْن في الأمور الحِسِّيَّة، وإن كان الحِسُّ (1) هو الغالب على النَّاس، وإنما غايةُ أكثرهم إدراكُ الحُسْن والمنفعة في الحِسِّيَّات، وتقديمُها وإيثارُها على مدارك العقول والبصائر؛ قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7]. ولو ذهبنا نذكر وجوهَ المحاسن المُودَعة في الشريعة لزادت على الألوف، ولعلَّ الله أن يُساعدَ بمُصَنَّفٍ في ذلك (2)، مع أنَّ هذه المسألة بابُه وقاعدتُه التي عليها بناؤه. الوجه الثاني والأربعون: قولكم: «إنه سبحانه لا يتضرَّرُ بمعصية العبد، ولا ينتفعُ بطاعته، ولا تتوقَّفُ قدرتُه في الإحسان على فعلٍ يصدُر من العبد، بل كما أنعَم عليه ابتداءً فهو قادرٌ على أن ينعمَ عليه بلا توسُّطِ عمل» (3). _________ (1) (ت): «الحسن». وهو تحريف. (2) لعله لم يتيسر له، إذ لم أر له ذكرًا عند مترجميه. وانظر: «بدائع الفوائد» (670)، و «ابن القيم» للشيخ بكر (295). (3) انظر: (ص: 983).

(2/1068)


فيقال: هذا حقٌّ، ولكن لا يلزمُ منه (1) أن لا تكون الشريعةُ والأمرُ والنهيُ معلومةَ الحُسْن عقلًا وشرعًا، ولا يلزمُ منه أيضًا عدمُ حُسْن التكليف عقلًا وشرعًا، فذِكرُكم هذا عديمُ الفائدة؛ فإنه لم يَقُل منازعوكم ولا غيرُهم: إنَّ الله سبحانه يتضرَّرُ بمعاصي العباد وينتفعُ بطاعاتهم، ولا إنه غيرُ قادرٍ على إيصال الإحسان إليهم بلا واسطة. ولكنَّ تركَ التكليف وتركَ العباد همَلًا كالأنعام لا يُؤمَرون ولا يُنهَون منافٍ لحكمته وحمده وكمال مُلكه وإلهيَّته، فيجبُ تنزيهه عنه، ومن نسَبه إليه فما قَدَرَه حقَّ قَدْره، وحكمتُه البالغةُ اقتضت الإنعامَ عليهم ابتداءً وبواسطة الإيمان، والواسطةُ من إنعامه عليهم أيضًا؛ فهو المُنْعِمُ بالوسيلة والغاية، وله الحمدُ والنِّعمةُ في هذا وهذا. يوضِّحُه: الوجه الثالث والأربعون: وهو أنَّ إنعامَه عليه ابتداءً بالإيجاد وإعطاء الحياة والعقل والسَّمع والبصر والنِّعم التي سخَّرها له إنما فعَلها به لأجل عبادته إياه وشُكره له؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، وأصحُّ الأقوال في الآية أنَّ معناها: ما يصنعُ بكم وما يكترثُ بكم لولا عبادتُكم إياه (2)، فهو سبحانه لم يخلقكم إلا لعبادته. فكيف يقالُ بعد هذا: إنَّ تكليفَه إياهم عبادتَه غيرُ حسنٍ في العقل، لأنه قادرٌ على الإنعام عليهم بالجزاء من غير توسُّط العبادة؟! _________ (1) في الأصول: «فيه». وهو تحريف. (2) (ق): «ما يصنع بكم ربي لولا عبادتكم إياه».

(2/1069)


الوجه الرابع والأربعون: أنَّ قدرتَه على الشيء لا تنفي حكمتَه المانعة من وجوده؛ فإنه تعالى يَقْدِرُ على مقدوراتٍ تُمْنَعُ بحكمته، كقدرته على قيام السَّاعة الآن، وقدرته على إرسال الرُّسل بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقدرته على إبقائهم بين ظهور الأمَّة إلى يوم القيامة، وقدرته على إماتة إبليسَ وجنوده وإراحة العالَم منهم. وقد ذكر سبحانه في القرآن قدرتَه على ما لا يفعلُه لحكمته في غير موضع؛ كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 - 4]، أي: نجعلُها كخُفِّ البعير صفحةً واحدة، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. فهذه وغيرُها مقدوراتٌ له سبحانه، وإنما امتَنعت لكمال حكمته، فهي التي اقتضت عدمَ وقوعها، فلا يلزمُ من كون الشيء مقدورًا أن يكون حسنًا موافقًا للحكمة. وعلى هذا، فقدرتُه تبارك وتعالى على ما ذكرتم لا تقتضي حُسْنَه وموافقتَه لحكمته، ونحن إنما نتكلَّمُ معكم في الثَّاني لا في الأوَّل، فالكلامُ في الحكمة ومقتضى (1) الحكمة والعناية غيرُ (2) الكلام في المقدور، _________ (1) (ت، ق): «يقتضى». وأهملت في (د). ولعل الأقرب ما أثبت. (2) رسمها ابن بردس في (د) رسمًا بلا إعجام، فرابني صنيعُه.

(2/1070)


فمتَعلَّقُ الحكمة شيءٌ ومتَعلَّقُ القدرة (1) شيء، ولكن أنتم إنما أُتِيتم من إنكار الحكمة، فلا يُمْكِنكم التفريقُ بين المُتَعلَّقَين، بل قد اعترفَ سلفُكم وأئمَّتكم بأنَّ الحكمةَ لا تخرُج عن صحَّة تعلُّق القدرة بالمقدور ومطابقته لها أو تعلُّق العلم بالمعلوم ومطابقته له، ولمَّا بنيتُم على هذا الأصل لم يُمْكِنكم الفرقُ بين مُوجَب الحكمة ومُوجَب القدرة، فتوعَّرت عليكم الطَّريق، وألجأتم أنفسَكم إلى أصعب مضيق. الوجه الخامس والأربعون: قولكم: «إنه تعالى لو ألقى إلى العبد زِمامَ الاختيار، وتركه يفعلُ ما يشاء، جريًا على رُسوم طبعِه (2) المائل إلى لذيذ الشهوات، ثمَّ أجزل له في العطاء من غير حساب؛ كان أروَحَ للعبد، ولم يكن قبيحًا عند العقل» (3). فيقال لكم: ما تعنُون بإلقاء زِمام الاختيار إليه؟ أتعنُون به أنه لا يكلِّفه ولا يأمرُه ولا ينهاه، بل يجعلُه كالبهيمة السَّائمة المهمَلة؟ أم تعنُون به أنه يلقي إليه زمامَ الاختيار مع تكليفه وأمره ونهيه؟ فإن عنيتُم الأوَّل، فهو مِنْ أقبح شيءٍ في العقل وأعظمه نقصًا في الآدميِّ، ولو تُرِك ورسومَ طبعه لكانت البهائمُ أكملَ منه، ولم يكن مكرَّمًا مفضَّلًا على كثيرٍ ممَّن خلق الله تفضيلًا، بل كان كثيرٌ من المخلوقات ــ أو أكثرها ــ مفضَّلًا عليه، فإنه يكونُ مصدودًا عن كماله الذي هو مستعدٌّ له قابلٌ له، وذلك أسوأ حالًا وأعظمُ نقصًا ممَّا مُنِعَ كمالًا ليس قابلًا له. _________ (1) (ت): «المقدور». (2) (ت): «شؤم طبعه». وكذا في الموضعين الآتيين. (3) انظر: (ص: 983).

(2/1071)


وتأمَّل حال الآدميِّ المُخَلَّى ورُسومَ طبعه، المتروكَ ودواعي هواه، كيف تجدُه من شرار الخليقة وأفسدها للعالم، ولولا من يأخذُ على يديه لأهلك الحرثَ والنَّسل، وكان شرًّا من الخنازير والذِّئاب والحيَّات؛ فكيف يستوي في العقل أمرُه ونهيُه بما فيه صلاحُه وصلاحُ غيره به، وتركُه وما فيه أعظمُ فساده وفساد النَّوع وغيره به؟! وكيف لا يكونُ هذا القولُ قبيحًا؟! وأيُّ قُبحٍ أعظمُ من هذا؟! ولهذا أنكر الله سبحانه على من جوَّز عقلُه مثلَ هذا، ونزَّه نفسَه عنه، فقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، قال الشافعي: «معطَّلًا، لا يُؤمَر ولا يُنهى». وقيل: «لا يثابُ ولا يعاقَب» (1). وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، ثمَّ نزَّه نفسَه عن هذا الظَّنِّ الكاذب، وأنه لا يليقُ به، ولا يجوزُ في العقول نسبةُ مثله إليه؛ لمنافاته لحكمته وربوبيَّته وإلهيَّته وحمدِه، فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، وفُسِّر الحقُّ بالثَّواب والعقاب، وفُسِّر بالأمر والنهي، وهذا تفسيرٌ له ببعض معناه؛ والصَّوابُ أنَّ الحقَّ هو إلهيَّته وحكمتُه المتضمِّنةُ للخلق والأمر والثَّواب والعقاب، فمَصْدَرُ ذلك كلِّه الحقُّ، وبالحقِّ وُجِد، وبالحقِّ قام، وغايتُه الحقُّ (2)، وبه قيامُه، فمحالٌ _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 17، 76، 887). (2) (ت): «وبالحق قام، وللحق وجد، والحق سببه وغايته».

(2/1072)


أن يكون على غير هذا الوجه، فإنه يكونُ باطلًا وعبثًا، فتعالى الله عنه لمنافاته إلهيَّتَه وحكمتَه وكمال ملكه وحمده (1). وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191]. وتأمَّل كيف أخبَر سبحانه عنهم (2) بنفي الباطليَّة عن خلقه (3)، دون إثبات الحكمة؛ لأنَّ نفيَ الباطل (4) على سبيل العموم والاستغراق أوغَلُ في المعنى المقصود وأبلغُ من إثبات الحِكَم؛ لأنَّ بيان جميعها لا تَفِي به أفهامُ الخليقة، وبيانَ البعض يُؤذِن بتناهي الحكمة، ونفيُ البطلان والخلُوِّ عن الحكمة والفائدة يفيدُ أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء العالم عُلويِّه وسُفليِّه متضمِّنٌ لحِكَمٍ جمَّةٍ وآياتٍ باهرة. ثمَّ أخبَر سبحانه عنهم بتنزيهه عن الخلقِ باطلًا خِلْوًا عن الحكمة، ولا معنى لهذا التَّنزيه عند النُّفاة؛ فإنَّ الباطل عندهم هو المحالُ لذاته، فعلى قولهم نزَّهوه عن المحال لذاته الذي ليس بشيء، كالجمع بين النَّقيضين، وكَوْن الجسم الواحد لا يكونُ في مكانين. ومعلومٌ قطعًا أنَّ هذا ليس مرادَ _________ (1) انظر: «مدارج السالكين» (1/ 98)، و «طريق الهجرتين» (522)، و «شفاء العليل» (555)، و «روضة المحبين» (95). (2) في الأصول: «عنه». وستأتي على الصواب بعد قليل. (3) (ت): «فتأمل كيف أخذ سبحانه ينفي الباطلية عن خلقه». (4) (ق): «لأن بيان نفي الباطل».

(2/1073)


الرَّبِّ تعالى مما نزَّه نفسَه عنه، وأنه لا يُمْدَحُ أحدٌ بتنزيهه عن هذا، ولا يكونُ المنزِّه به مُثنِيًا ولا حامدًا، ولم يخطُر هذا بقلب بشرٍ حتى ينكره الله على من زعمه ونسَبه إليه. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، فنفى اللَّعبَ عن خلقِه، وأثبتَ أنه إنما خلقهما بالحقِّ، فجمَع تعالى بين نفي اللَّعب الصَّادر عن غير حكمةٍ وغايةٍ محمودة، وإثباتِ الحقِّ المتضمِّن للحِكَم والغايات المحمودة والعواقب المحبوبة. والقرآنُ مملوءٌ من هذا، بنفي العبث والباطل واللعب تارة، وتنزيه الرَّبِّ نفسَه عنه تارة، وإثبات الحِكَم الباهرة في خلقه تارة. فكيف يجوزُ أن يقال: إنه لو عطَّل خلقَه وتركهم سُدًى لم يكن ذلك قبيحًا في العقل؟! فإن عَنَيتم أنه يلقِي إليه زمامَ الاختيار مع أمره ونهيه، فهذا حقٌّ؛ فإنه جعله مختارًا مأمورًا منهيًّا، وإن كان اختيارُه مخلوقًا له تعالى، إذ هو من جملة الحوادث الصَّادرة عن خلقه، ولكنَّ هذا الاختيار لا ينافي التكليف، ولا يكونُ بوجه (1)، بل لا يصحُّ التكليفُ إلا به. الوجه السَّادس والأربعون: قولكم: «فقد تعارض الأمران: _________ (1) أي: لا يكون منافيًا بوجه. وفي (ق): «إلا بوجه». وهو خطأ. وفي طرة (د): «لعله: ولا يكون الأمر بوجه».

(2/1074)


أحدهما: أن يكلِّفهم؛ فيأمرَ وينهى حتى يطاع ويُعصى، ثمَّ يثيبهم ويعاقبهم. الثَّاني: أن لا يكلِّفهم؛ إذ لا يتزيَّنُ منهم بطاعة، ولا تَشِينُه معصيتُهم. وإذا تعارض في المعقول (1) هذان الأمران، فكيف يهتدي العقلُ إلى اختيار أحدهما حقًّا؟! فكيف يعرِّفنا الوجوبَ على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطَّاعة، وعلى الرَّبِّ تعالى بالثَّواب؟!» (2). فيقال لكم: لم يتعارض بحمد الله الأمران؛ لأنَّ أحدَهما قد عُلِمَ قبحُه في المعقول، والآخرَ قد عُلِمَ حسنُه في المعقول، فكيف يتعارض في العقل جواز الأمرين، وأن تكون نسبتُهما إلى الرَّبِّ تعالى نسبةً واحدة؟! وإنما تتعارض الجائزاتُ على حدٍّ (3) سواء، بحيث لا يترجَّحُ بعضها على بعض، فأمَّا الحُسْن والقُبح فلم يتعارض في العقل قطُّ استواؤهما. وقد قرَّرنا بما لا مَدْفَع له قُبحَ التَّرك سُدًى بمنزلة الأنعام السَّائمة، وحُسْنَ الأمر والنهي واستصلاحهم في معاشهم ومعادهم، فكيف يقال: إنَّ هذين الأمرين سواءٌ في العقل بحيث يتعارضا فيه ويقضي باستوائهما بالنسبة إلى أحكم الحاكمين؟! فإن قيل: إنما تعارضا في المقدُوريَّة؛ إذ نسبةُ القدرة إليهما واحدة. قلنا: قد تقدَّم أنه لا يلزمُ من كون الشيء مقدورًا أن لا يكون ممتنعًا _________ (1) في الموضع الماضي (ص: 984)، والآتي (ص: 1092): «العقول». (2) انظر: (ص: 984). (3) في الأصول: «كل». وهو تحريف.

(2/1075)


لمنافاته الحكمة؛ وقد بيَّنَّا ذلك قريبًا (1)، فيكون تركُهم همَلًا وسُدًى مقدورًا للرَّبِّ تعالى لا يقتضي معارضته لمقدوره الآخَر مِنْ تكليفهم وأمرهم ونهيهم. الوجه السابع والأربعون: قولكم: «إذ لا يتزيَّنُ منهم بطاعةٍ ولا تَشِينُه معصيتُهم». قلنا: ومن الذي نازع في هذا؟! ولكنَّ حُسْنَ التكليف لا ينفي ذلك عن الرَّبِّ تعالى، وأنه إنما يكلِّفهم تكليفَ من لا يبلغوا ضرَّه فيضرُّوه ولا يبلغوا (2) نفعَه فينفعوه، وأنهم لو كانوا كلُّهم على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما نقَص ذلك من ملكه شيئًا. وهاهنا اختلفت الطُّرقُ بالنَّاس في علَّة التكليف وحكمته، مع كونه سبحانه لا ينتفِعُ بطاعتهم، ولا تضرُّه معصيتُهم: * فسلكت الجبريَّة مسلكها المعروف، وأنَّ ذلك صادرٌ عن محض المشيئة وصِرْف الإرادة، وأنه لا علَّة له ولا ما يحثُّ عليه سوى محض الإرادة. * وسلكت القَدَرِيَّة مسلكها المعروف، وهو أنَّ ذلك استئجارٌ منه لعبيده، لينالوا أجرَهم بالعمل، فيكون ألذَّ من اقتضائهم الثَّوابَ بلا عمل، لما فيه من تكدير المِنَّة. _________ (1) (ص: 1070). (2) كذا في الأصول، بحذف النون.

(2/1076)


والمسلكان كما ترى! وحسبك ما يدلُّ عليه العقلُ الصريحُ والنقلُ الصحيحُ من بطلانهما وفسادهما. * وليس عند النَّاس غيرُ هذين المسلكين إلا مسلك من هو خارجٌ عن الدِّيانات وأتباع الرُّسل، ممن يرى أنَّ الشرائع وُضِعَت نواميسَ تقومُ عليها مصلحةُ النَّاس ومعيشتُهم، وأنَّ فائدتها تكميلُ قوَّة النَّفس العملية وارتياضها، لتَخْرُجَ عن شَبه الأنعام، فتصيرَ مستعدةً لأن تكون محلًّا لقبول الفلسفة العليا والحكمة. وهذا مسلكٌ خارجٌ عن مناهج الأنبياء وأممهم (1). * وأمَّا أتباعُ الرُّسل الذين هم أهلُ البصائر، فحكمةُ الله عزَّ وجلَّ في تكليفهم ما كلَّفهم به أعظمُ وأجلُّ عندهم مما يخطُر بالبال، أو يجري به المقال، ويشهدون له سبحانه في ذلك من الحِكَم الباهرة والأسرار العظيمة أكثر مما يشهدونه في مخلوقاته وما تضمَّنته من الأسرار والحِكَم. ويعلمون ــ مع ذلك ــ أنه لا نسبة لما أطلَعهم سبحانه عليه من ذلك إلى ما طوى علمَه عنهم واستأثر به دونهم، وأنَّ حكمتَه في أمره ونهيه وتكليفهم أجلُّ وأعظمُ مما تطيقُه عقولُ البشر، فهم يعبدونه سبحانه بأمره ونهيه لأنه تعالى أهلٌ أن يُعْبَد، وأهلٌ أن يكون الحبُّ كلُّه له، والعبادةُ كلُّها له، حتى لو لم يخلُق جنَّةً ولا نارًا، ولا وَضَع ثوابًا ولا عقابًا؛ لكان أهلًا أن يُعْبَد أقصى ما تناله قدرةُ خلقِه من العبادة. وفي بعض الآثار الإلهيَّة: «لو لم أخلُق جنَّةً ولا نارًا ألم أكُن أهلًا أن _________ (1) وهو مسلك الفلاسفة.

(2/1077)


أُعْبَد؟!» (1). حتى إنه لو قُدِّر أنه لم يرسل رسلَه ولم ينزل كتبَه لكان في الفطرة والعقل ما يقتضي شكرَه وإفرادَه بالعبادة، كما [أنَّ] فيهما ما يقتضي تناولَ المنافع واجتنابَ المضارِّ، ولا فرق بينهما في الفطرة والعقل؛ فإنَّ الله فطر خليقتَه على محبته والإقبال عليه، وابتغاء الوسيلة إليه، وأنه لا شيء على الإطلاق أحبُّ إليها منه، وإن فسدت فِطرُ أكثر الخلق بما طرأ عليها مما اقتَطعها واجتالها عمَّا خُلِق فيها، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. فبيَّن سبحانه أنَّ إقامةَ الوجه ــ وهو إخلاصُ القصد، وبذلُ الوُسع لدينه، المتضمِّنُ محبتَه وعبادته، حنيفًا، مقبلًا عليه، معرضًا عما سواه ــ هو فطرتُه التي فَطَر عليها عبادَه، فلو خُلُّوا ودواعي فِطَرهم لما رَغِبُوا عن ذلك، ولا اختاروا سواه، ولكن غيِّرت الفِطرُ وأُفسِدت، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولودٍ إلا يولدُ على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمْعاء، هل تحسُّون فيها مِنْ جَدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تَجْدَعُونها» (2)، ثمَّ يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 30 - 31]. _________ (1) نقله وهب بن منبه عن الزَّبور. انظر: «قوت القلوب» (2/ 111)، و «الإحياء» (4/ 302). (2) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

(2/1078)


و {مُنِيبِينَ} نُصِبَ على الحال من المفعول، أي: فَطَرهم منيبين إليه. والإنابةُ إليه تتضمَّنُ الإقبالَ عليه بمحبته وحده والإعراض عمَّا سواه. وفي «صحيح مسلم» (1) عن عِيَاض بن حِمَار، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني في مقامي هذا ــ أنه قال ــ: كلُّ مالٍ نَحَلتُه عبدًا فهو له حلال، وإني خلقتُ عبادي حنفاء فأتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطانًا، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم»؛ فأخبر سبحانه أنه إنما خلق عبادَه على الحنيفيَّة المتضمِّنة لكمال حبِّه، والخضوع له، والذُّلِّ له، وكمال طاعته وحده دونَ غيره. وهذا من الحقِّ الذي خُلِقَت له، وبه قامت السَّمواتُ والأرض وما بينهما، وعليه قام العالم، ولأجله خُلِقت الجنةُ والنَّار، ولأجله أرسَل رسلَه وأنزل كتبَه، ولأجله أهلَك القرونَ التي خرجت عنه وآثرت غيرَه. فكونُه سبحانه أهلًا أن يُعْبَد (2) ويُحَبَّ ويُحْمَد ويُثنى عليه أمرٌ ثابتٌ له لذاته، فلا يكونُ إلا كذلك، كما أنه الغنيُّ القادرُ الحيُّ القيُّومُ السَّميعُ البصير، فهو سبحانه الإلهُ الحقُّ المبين، والإلهُ هو الذي يستحقُّ أن يُؤْلَه محبةً وتعظيمًا، وخشيةً وخضوعًا، وتذلُّلًا وعبادة، فهو الإلهُ الحقُّ ولو لم يخلُق خلقَه، وهو الإلهُ الحقُّ ولم لم يعبدوه. فهو المعبودُ حقًّا، الإلهُ حقًّا، المحمودُ حقًّا، ولو قُدِّر أنَّ خلقَه لم يعبدوه _________ (1) (2865). وفي سياق المصنف تصرُّفٌ يسيرٌ واختصار. (2) (ت): «فإنه سبحانه أهل أن يعبد».

(2/1079)


ولم يحمدوه ولم يَأْلَهوه، فهو الله الذي لا إله إلا هو قبل أن يخلقهم وبعد أن خلقهم وبعد أن يفنيهم، لم يَسْتَحْدِث بخلقه لهم ولا بأمره إياهم استحقاقَ الإلهية والحمد، بل إلهيتُه وحمدُه ومجدُه وغِناه أوصافٌ ذاتيةٌ له يستحيلُ مفارقتُها له، كحياته (1) ووجوده وقدرته وعلمه وسائر صفات كماله. فأولياؤه وخاصَّتُه وحِزبُه لمَّا شَهِدت عقولهم وفِطرُهم أنه أهلٌ أن يُعْبَد وإن لم يرسِل إليهم رسولًا ولم ينزِّل عليهم كتابًا، ولو لم يخلُق جنةً ولا نارًا= علموا أنه لا شيء في العقول والفِطر أحسن من عبادته، ولا أقبح من الإعراض عنه. وجاءت الرُّسلُ وأنزلت الكتبُ بتقرير ما استَودع سبحانه في الفِطر والعقول من ذلك، وتكميله، وتفصيله (2)، وزيادته حُسْنًا إلى حُسْنِه. فاتفقت شريعتُه وفطرتُه، وتطابقَا وتوافقَا، وظهر أنهما من مشكاةٍ واحدة. فعبدُوه وأحبُّوه ومجَّدوه وحمدُوه بداعي الفطرة وداعي الشرع وداعي العقل، فاجتمعَت لهم الدَّواعي ونادتهم من كلِّ جهة، ودَعَتهم إلى وليِّهم وإلههم وفاطرهم، فأقبلوا إليه بقلوبٍ سليمةٍ لم يعارِض خبَره عندها شبهةٌ توجبُ ريبًا وشكًّا، ولا أمرَه شهوةٌ توجبُ رغبتَها عنه وإيثارَها سواه. فأجابوا دواعي المحبة والطَّاعة إذ نادت بهم: حيَّ على الفلاح، وبذلوا أنفسَهم في مرضاة مولاهم الحقِّ بَذْلَ أخي السَّماح، وحَمِدُوا عند الوصول _________ (1) (ق، ت): «لحياته». تحريف. (2) (د، ق): «وتفضيله»، بالمعجمة. وهو تحريف.

(2/1080)


إليه مَسْراهم، وإنما يَحْمَدُ القومُ السُّرى عند الصَّباح، فدينُهم دينُ الحبِّ، وهو الدِّينُ الذي لا إكراه فيه، وسَيرُهم سَيرُ المحبِّين، وهو السَّيرُ الذي لا وقفةَ تعتريه. إني أدِينُ بدين الحُبِّ ويحَكمُ ... فذاك ديني ولا إكراه في الدِّينِ ومن يكن دينُه كُرهًا فليس له ... إلا العنَاءُ وإلا السَّيرُ في الطِّينِ وما استوى سَيرُ عبد في محبته ... وسَيرُ خالٍ من الأشواقِ في دينِ فقُل لغير أخي الأشواق ويحكَ قد ... غُبِنتَ حظَّكَ (1) لا تَغتَرَّ بالدُّونِ نجائبُ الحُبِّ تعلُو بالمحبِّ إلى ... أعلى المراتبِ مِن فوقِ السَّلاطينِ وأطيبُ العيشِ في الدَّارينِ قد رَغِبَت ... عنه التِّجَارُ فباعت بَيْعَ مغبونِ فإن تُرِد علمَه فاقرأهُ ويحكَ في ... آياتِ طهَ وفي آياتِ ياسينِ (2) ولا ريب أنَّ كمال العبوديَّة تابعٌ لكمال المحبة، وكمال المحبة تابعٌ لكمال المحبوب في نفسه، والله سبحانه له الكمالُ المطلقُ التَّامُّ من كلِّ وجه، الذي لا يعتريه توهُّمُ نقصٍ أصلًا (3)، ومَن هذا شأنُه فإنَّ القلوبَ لا يكونُ شيءٌ أحبَّ إليها منه ما دامت فِطرُها وعقولها سليمة، وإذا كان (4) أحبَّ الأشياء إليها فلا محالة أنَّ محبتَه توجبُ عبوديتَه وطاعتَه، وتتبُّعَ مرضاته، واستفراغ الجهد في التعبُّد له والإنابة إليه. _________ (1) (ت): «حقك». (2) البيت الأول لابن رَشِيق، في «الحماسة المغربية» (1040). وتتمة الأبيات أظنُّها من نسج المصنف. (3) (ت): «لا يعتريه توهم ولا نقص أصلا». (4) في الأصول: «كانت». وهو تحريف.

(2/1081)


وهذا الباعثُ أكملُ بواعث العبوديَّة وأقواها، حتى لو فُرِض تجرُّده عن الأمر والنهي والثَّواب والعقاب استَفرَغ الوُسعَ واستَخلَص القلبَ للمعبود الحقِّ (1). ومن هذا قولُ بعض السَّلف: «إنه ليَسْتَخْرِجُ حبُّه من قلبي ما لا يسْتَخْرِجُه خوفُه» (2)، ومنه قول عمر في صُهيب: «لو لم يَخَف اللهَ لم يَعْصِه» (3). وقد كان هذا هو الواجبَ على كلِّ عاقل، كما قال بعضهم: هَبِ البَعْثَ لم تَأتِنا رُسْلُه ... وجَاحِمَةُ النَّارِ لم تُضْرَمِ أليسَ من الواجب المُسْتَحَقْـ ... ـقِ طاعةُ ربِّ الورى الأكرمِ (4) _________ (1) في (ت) زيادة: «ومن هذا شأنه فهو المعبود الحق». (2) (ق، ت): «ما لا يستخرجه قوله». وهو تحريف. وقد سلف الأثر وتخريجه (ص: 821). (3) يعني: أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته. انظر: «طريق الهجرتين» (590)، و «بدائع الفوائد» (92)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 64)، و «جامع المسائل» (3/ 315). وقد اشتهر هذا الأثر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية، وبعضهم يذكره مرفوعًا، وقال العراقي وغيره: لا أصل له. انظر: «المقاصد الحسنة» (526)، و «تدريب الراوي» (2/ 162). وورد مرفوعًا بمعناه في سالم مولى أبي حذيفة. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 177) من حديث عمر، ولا يصح. انظر: «السلسلة الضعيفة» (3179). (4) الأول للوزير المهلَّبي في «يتيمة الدهر» (2/ 285)، والثاني عنده: أليس بكافٍ لذي فكرةٍ ... حياءُ المسيء من المنعم وأنشدهما ابن الجوزي في «المدهش» (699) دون نسبة.

(2/1082)


وقد قام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطَّرت قدماه، فقيل له: تفعلُ هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! قال: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟» (1)، واقتَصر - صلى الله عليه وسلم - من جوابهم على ما تُدْرِكه عقولهم، وتنالُه أفهامهم، وإلا فمن المعلوم أنَّ باعثَه على ذلك الشُّكر أمرٌ يجِلُّ عن الوصف، ولا تنالُه العبارةُ ولا الأذهان. فأين هذا الشُّهودُ مِنْ شُهود طائفة القَدَريَّة والجبريَّة؟! فليعرِض العاقلُ اللبيبُ ذَينِك المشهدَين على هذا المشهد، ولينظُر ما بين الأمرين من التفاوت. فالله سبحانه يُعْبَدُ ويُحْمَدُ ويُحَبُّ لأنه أهلٌ لذلك ومُستَحِقُّه، بل ما يستحقُّه سبحانه من عباده أمرٌ لا تنالُه قدرتهم ولا إرادتُهم، ولا تتصوَّره عقولهم، ولا يُمْكِنُ أحدٌ (2) من خلقِه قطُّ أن يعبُده حقَّ عبادته، ولا يوفِّيه حقَّه من المحبة والحمد. ولهذا قال أفضلُ خلقه وأكملُهم وأعرفُهم به وأحبُّهم إليه وأطوعُهم له: «لا أحصي ثناءً عليك» (3)، وأخبَر أنَّ عملَه - صلى الله عليه وسلم - لا يستقلُّ بالنَّجاة، فقال: «لن يُنْجِي أحدًا منكم عملُه»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضل» (4). فصلواتُ الله وسلامه عليه عَدَد ما خَلَق في السَّماء، وعَدَد ما خَلَق في الأرض، وعَدَد ما بينَهما، وعَدَد ما هو خالق. _________ (1) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة. (2) كذا ضبطها ابن بردس في (د) بالرفع. كأنه على تضمين: يقدر، أو يستطيع. (3) أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة. (4) أخرجه البخاري (6467)، ومسلم (2816) من حديث عائشة.

(2/1083)


وفي الحديث المرفوع المشهور أنَّ من الملائكة من هو ساجدٌ لله لا يرفعُ رأسَه منذ خُلِق، ومنهم راكعٌ لا يرفعُ رأسَه من الرُّكوع منذ خُلِق إلى يوم القيامة، وأنهم يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك (1). ولمَّا كانت عبادتُه تعالى تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبةُ نوعان (2): محبةً تنشأ عن الإنعام والإحسان، فتُوجِبُ شكرًا وعبوديَّةً بحسب كمالها ونقصانها، ومحبةً تنشأ عن جمال المحبوب وكماله (3)، فتُوجِبُ عبوديَّةً وطاعةً أكمَل من الأولى= كان الباعثُ على الطاعة والعبوديَّة لا يخرُج عن هذين النَّوعين. وأمَّا أن تقعَ الطَّاعةُ صادرةً عن خوفٍ محضٍ غير مقرونٍ بمحبة، فهذا قد ظنَّه كثيرٌ من المتكلِّمين، وهي عندهم غايةُ العارِف (4)، بناءً على أصلهم الباطل: أنَّ الله لا تتعلَّق المحبةُ بذاته، وإنما تتعلَّق بمخلوقاته مما هو في الجنَّة من النَّعيم؛ فهم لا يحبُّونه لذاته وكماله ولا لإحسانه، ويُنْكِرون محبتَه لذلك، وإنما المحبوبُ عندهم في الحقيقة غيرُه. _________ (1) أخرجه محمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (260)، وأبو الشيخ الأصبهاني في «العظمة» (515)، وغيرهما من حديث رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن كثير في «التفسير» (8/ 3662): «وهذا إسناد لا بأس به». وروي نحوه من حديث جابر وعبد الله بن عمرو. (2) كذا في الأصول. بالألف. (3) (ت): «ومحبة تنشأ عن كمال المحبوب». (4) (ق): «المعارف». وكلاهما محتمل. وانظر: «الصواعق المرسلة» (158)، و «مدارج السالكين» (3/ 124، 505).

(2/1084)


وهذا من أبطَل الباطل، وسنذكُر في القسم الثَّاني إن شاء الله من هذا الكتاب بطلانَ هذا المذهب من أكثر من مئة وجه (1). ولو عرَف القومُ صفاتِ الأرواح وأحكامَها لعلموا أنَّ طاعةَ من لا يُحَبُّ (2) وعبادتَه محال، وأنَّ من أتى بصورة الطَّاعة خوفًا مجرَّدًا عن الحبِّ فليس بمطيعٍ ولا عابد، وإنما هو كالمُكْرَه، أو كأجير السَّوء الذي إن أُعطِيَ عَمِل وإن لم يُعْطَ كَفَر وأبَق. وسَيَرِدُ عليك بسطُ الكلام في هذا عن قريبٍ إن شاء الله (3). والمقصودُ أنَّ الطَّاعةَ والعبادة النَّاشئة عن محبة الكمال والجمال أعظمُ من الطَّاعة النَّاشئة عن رؤية الإنعام والإحسان، وفرقٌ عظيمٌ بين ما تعلَّق بالحيِّ الذي لا يموت، وبين ما تعلَّق بالمخلوق، وإن شَمِل النَّوعين اسمُ المحبة، ولكنْ كم بين من يحبُّك لذاتك وأوصافك وجمالك، وبين من يحبُّك لخَيْرِك ودراهمك؟! فصل والأسماء الحسنى والصِّفاتُ العُلى مقتضيةٌ لآثارها من العبوديَّة والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكلِّ صفةٍ عبوديَّةٌ خاصَّةٌ هي من مُوجَباتها ومقتضياتها، أعني: مِنْ مُوجَبات العلم بها والتَّحقُّق (4) بمعرفتها. _________ (1) لم يقع ذلك. وراجع ما كتبناه في المقدمة عن تقسيم الكتاب. (2) (ق): «تجب». تحريف. (3) انظر التعليق المتقدم قبل قليل. (4) في الأصول: «والتحقيق». والمثبتُ من (ط) أشبه.

(2/1085)


وهذا مطَّردٌ في جميع أنواع العبوديَّة التي على القلب والجوارح: * فعِلمُ العبد بتفرُّد الرَّبِّ تعالى بالضُّرِّ والنَّفع، والعطاء والمنع، والخلق والرَّزق، والإحياء والإماتة= يُثمِرُ له عبوديَّة التَّوكُّل عليه باطنًا، ولوازمَ التَّوكُّل وثمراته ظاهرًا. * وعِلمُه بسمعه تعالى وبصره وعِلمه (1)، وأنه لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّةٍ في السَّموات ولا في الأرض، وأنه يعلمُ السِّرَّ وأخفى، ويعلمُ خائنةَ الأعيُن وما تخفي الصُّدور= يُثمِرُ له حِفظ لسانه وجوارحه وخَطراتِ قلبه عن كلِّ ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلُّق هذه الأعضاء بما يحبُّه الله ويرضاه؛ فيُثمِرُ له ذلك الحياءَ باطنًا، ويُثمِرُ له الحياءُ اجتنابَ المحرَّمات والقبائح. * ومعرفتُه بغِناه وجوده، وكرمه وبِرِّه، وإحسانه ورحمته= توجبُ له سَعَة الرَّجاء، ويُثمِرُ له ذلك من أنواع العبوديَّة الظَّاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. * وكذلك معرفتُه بجلال الله وعظمته وعِزِّه تُثمِرُ له الخضوعَ (2) والاستكانة والمحبة، وتُثمِرُ له تلك الأحوالُ الباطنةُ أنواعًا من العبوديَّة الظَّاهرةِ هي مُوجَباتها. * وكذلكَ عِلْمُه بكمالِه وجمالِه وصفاتِه العُلى يُوجِبُ له محبةً خاصَّةً تُثمِرُ له (3) أنواعَ العبوديَّة. _________ (1) «وعلمه» ليست في (ت). (2) (ت): «الخضوع له». (3) في الأصول: «بمنزلة». وهو تحريف.

(2/1086)


فرجَعَت العبوديَّةُ كلُّها إلى مقتضى الأسماء والصِّفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها؛ فخلقُه سبحانه وأمرُه هو مُوجَبُ أسمائه وصفاته في العالَم وآثارُها ومقتضاها، لا أنه يتزيَّنُ مِنْ عباده بطاعتهم، ولا تَشِينُه معصيتُهم. وتأمَّل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصَّحيح الذي يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: «يا عبادي، إنكم لن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفعوني» (1)، ذَكَر هذا عقبَ قوله: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذُّنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفِر لكم». فتضمَّن ذلك أنَّ ما يفعلُه تعالى بهم، مِنْ غفران زلَّاتهم، وإجابة دعَواتهم، وتفريج كُرباتهم؛ ليس لجلْب منفعةٍ منهم، ولا لدفع مضرَّةٍ يتوقَّعها منهم، كما هو عادةُ المخلوق الذي ينفعُ غيرَه ليكافئه بنفعٍ مثله، أو ليدفع عنه ضررًا. فالرَّبُّ تعالى لم يحسِن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضررًا؛ فقال: «لن تبلُغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني»؛ إني (2) لستُ إذا هديتُ مُسْتَهْدِيكم، وأطعمتُ مُسْتَطْعِمَكم، وكسوتُ مُسْتَكْسِيكم، وأرويتُ مُسْتَسْقِيكم، وكفَيتُ مُسْتَكْفِيكم، وغفرتُ لمستَغْفِركم= بالذي أطلبُ منكم أن تنفعوني، أو تدفعوا عني ضررًا، فإنكم لن تبلُغوا ذلك، وأنا الغنيُّ الحميد. _________ (1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (2) (ت): «وإني». وانظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 193).

(2/1087)


كيف والخلقُ عاجزون عمَّا يَقْدِرُون عليه من الأفعال إلا بإقداره وتيسيره وخلقه، فكيف بما لا يَقْدِرون عليه؟! فكيف يبلُغوا (1) نفعَ الغنيِّ الصَّمد الذي يمتنعُ في حقِّه أن يَسْتَجْلِبَ من غيره نفعًا أو يَسْتَدْفِعَ منه ضررًا، بل ذلك مستحيلٌ في حقِّه؟! ثمَّ ذَكَر بعد هذا قوله: «يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجَر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقصَ ذلك من ملكي شيئًا»؛ فبيَّن سبحانه أنَّ ما أمرهم به من الطَّاعات، وما نهاهم عنه من السيِّئات، لا يتضمَّنُ استجلابَ نفعهم، ولا استدفاعَ ضررهم؛ كأمر السيِّد عبدَه، والوالد ولدَه، والإمام رعيَّتَه، بما ينفعُ الآمرَ والمأمور، ونهيِهم عمَّا يضرُّ النَّاهي والمنهيَّ؛ فبيَّن تعالى أنه المنزَّه عن لحوق نفعهم وضرِّهم به، في إحسانه إليهم بما يفعلُه بهم، وبما يأمرُهم به. ولهذا لمَّا ذَكَر الأصلَيْن بعد هذا، وأنَّ تقواهم وفجورَهم الذي هو طاعتُهم ومعصيتُهم لا يزيدُ في مُلكه شيئًا ولا ينقُصه، وأنَّ نسبة ما يسألونه كلُّهم إياه فيعطيهم إلى ما عنده كَلا نسبة؛ فتضمَّن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدَّعوات، وغفران الزلَّات، وتفريج الكُربات، لاستجلاب منفعةٍ، ولا لاستدفاع مَضرَّة، وأنهم لو أطاعوه كلُّهم لم يزيدوا في مُلكه شيئًا، ولو عصَوه كلُّهم لم ينقُصوا من مُلكه شيئًا، وأنه الغنيُّ الحميد. _________ (1) كذا في الأصول. بحذف النون.

(2/1088)


ومن كان هكذا فإنه لا يتزيَّنُ بطاعة عباده، ولا تَشِينُه معاصيهم، ولكن من له الحِكَمُ البوالغُ (1) في تكليف عباده وأمرِهم ونهيهم ما يقتضيه ملكُه التَّامُّ وحمدُه وحكمتُه، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجِبُ من عباده شكرَ نِعَمه التي لا تحصى، بحسب قُواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظمُ وأجلُّ من أن يَقْدِر خلقُه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمحُ به طبائعُهم وقُواهم. فلا شيء أحسنُ في العقول والفِطر مِنْ شُكر المُنْعِم (2)، ولا أنفعُ للعبد منه. فهذان مسلكان آخران في حُسْن التكليف والأمر والنهي: أحدهما: يتعلَّق بذاته وصفاته، وأنه أهلٌ لذلك، وأنَّ جماله تعالى وكماله وأسماءه وصفاته تقتضي من عباده غايةَ الحبِّ والذُّلِّ والطَّاعة له. الثَّاني: متعلِّقٌ بإحسانه وإنعامه، ولا سيَّما مع غِناه عن عباده، وأنه إنما يحسِنُ إليهم رحمةً منه وجودًا وكرمًا، لا لمعاوَضةٍ ولا لاستجلاب منفعةٍ ولا لدفع مضرَّة. وأيُّ المسلكين سَلَكه العبدُ أوقعَه على محبته وبذلِ الجهد في مرضاته. فأين هذان المسلكان من ذَيْنِك المسلكين (3)؟! وإنما أُتي القومُ من إنكارهم المحبة، وذلك الذي حَرَمهم من العلم _________ (1) (ط): «ولكن له من الحكم البوالغ». (2) (ت): «النعم». (3) مسلكي القدرية والجبرية في علة التكليف وحكمته. وقد تقدَّما قريبًا.

(2/1089)


والإيمان ما حَرَمهم، وأوجبَ لهم سلوكَ تلك الطُّرق المسدودة، والله الفتَّاحُ العليم. الوجه الثَّامن والأربعون: قولكم: «فلا تكونُ نِعَمُه تعالى ثوابًا، بل ابتداءً» (1) = كلامٌ يحتملُ حقًّا وباطلًا. فإن أردتم به أنه لا يثيبُهم على أعمالهم بالجنَّة ونعيمها، ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون= فهو باطل، والقرآنُ أعظمُ شاهدٍ ببطلانه: قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]، وقال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 ــ 14]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ _________ (1) انظر: (ص: 984).

(2/1090)


خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58]. وهذا في القرآن كثير، يبيِّن أنَّ الجنَّة ثوابُهم وجزاؤهم، فكيف يقال: لا تكونُ نِعَمُه ثوابًا على الإطلاق؟! بل لا تكونُ نِعَمُه تعالى في مقابلة الأعمال والأعمالُ ثَمَنًا لها؛ فإنه لن يُدْخِل أحدًا الجنَّةَ عملُه، ولا يدخُلها أحدٌ إلا بمجرَّد فضل الله ورحمته. وهذا لا ينافي ما تقدَّم من النُّصوص؛ فإنها إنما تدلُّ على أنَّ الأعمال أسبابٌ لا أعواضٌ وأثمان، والذي نفاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الدُّخول بالعمل هو نفيُ استحقاق العِوَض ببذل عِوَضِه؛ فالمثبَتُ باءُ السَّببيَّة، والمنفيُّ باءُ المعاوَضة والمقابَلة. وهذا فصلُ الخطاب في هذه المسألة (1). والقَدَرِيَّةُ الجبريَّةُ تنفي باءَ السَّببيَّة جملة، وتنكرُ أن تكون الأعمالُ سببًا في النَّجاة ودخول الجنَّة، وتلك النُّصوصُ وأضعافُها تُبْطِلُ قولَهم. والقَدَريَّةُ النُّفاةُ تثبتُ باءَ المعاوَضة والمقابَلة، وتزعمُ أنَّ الجنَّة عِوَضُ الأعمال، وأنها ثمنٌ لها، وأنَّ دخولها إنما هو بمحض الأعمال، والنُّصوصُ النَّافيةُ لذلك تُبْطِلُ قولَهم. والعقلُ والفِطرُ تُبْطِلُ قول الطَّائفتين، ولا يصحُّ في النُّصوص والعقول إلا ما ذكرناه من التَّفصيل، وبه يتبيَّن أنَّ الحقَّ مع الوَسَط بين الفِرَق في جميع المسائل، لا يستثنى من ذلك شيء، فما اختلفت الفِرَقُ إلا كان الحقُّ مع الوَسَط (2). _________ (1) انظر ما مضى (ص: 21) والتعليق عليه. (2) والقول الصواب في مسائل النزاع هو الوسط بين طرفين متباعدَيْن، كما قال المصنف في «روضة المحبين» (262). وانظر: «مدارج السالكين» (2/ 392)، و «الصلاة وحكم تاركها» (226). وهذا الأصل كما هو في المسائل الخبرية العلمية، فكذلك هو في مسائل الفروع العملية. انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 141).

(2/1091)


وكلٌّ من الطَّائفتين معه حقٌّ وباطل: فأصاب الجبريَّةُ في نفي المعاوَضة، وأخطؤوا في نفي السَّببيَّة. وأصاب القَدَرِيَّةُ في إثبات السَّببيَّة، وأخطؤوا في إثبات المعاوَضة. فإذا ضممتَ أحد نفيَي الجبريَّة إلى أحد إثباتَي القَدَرِيَّة، ونفيتَ باطلَهما؛ كنتَ أسعدَ بالحقِّ منهما. فإن أردتم بأنَّ نِعَمه لا تكونُ ثوابًا هذا القَدْر، وأنها لا تكونُ عِوَضًا، بل هو المنعِمُ بالأعمال والثَّواب، وله المنَّةُ في هذا وهذا، ونعمتُه (1) بالثَّواب مِنْ غير استحقاقٍ ولا ثمنٍ يُعاوَضُ عليه، بل فضلٌ منه وإحسان= فهذا هو الحقُّ، فهو المانُّ بهدايته للإيمان، وتيسيره للأعمال، وإحسانه بالجزاء، كلُّ ذلك مجرَّدُ منَّته وفضله؛ قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]. الوجه التاسع والأربعون: قولكم: «وإذا تعارض في العقول هذان الأمران، فكيف يهتدي العقلُ إلى اختيار أحدهما؟!» (2). قلنا: قد تبيَّن ــ بحمد الله ــ أنه لا تعارض في العقول بين الأمرين أصلًا، _________ (1) (ق): «ونعمه». (2) انظر: (ص: 984).

(2/1092)


وإنما يُقَدَّرُ التعارضُ بين العقل والهوى، وأمَّا أن يتعارض في العقول إرشادُ العباد إلى سعادتهم في المعاش والمعاد، وتركُهم همَلًا كالأنعام السَّائمة لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا؛ فلم يتعارض هذان في عقلٍ صحيحٍ أبدًا. الوجه الخمسون: قولكم: «فكيف يُعَرِّفنا العقلُ وجوبًا على نفسِه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطَّاعة وعلى الرَّبِّ بالثَّواب والعقاب؟!» (1). فيقال: وأيُّ استبعادٍ في ذلك؟! وما الذي يُحِيلُه؟! فقد عرَّفنا العقلُ من الواجبات عليه ما يقبُح من العبد تركُها، كما عرَّفنا وعرَّف أهلَ العقول وذوي الفِطَر التي لم تتواطأ على الأقوال الفاسدة وجوبَ الإقرار بالله وربوبيَّته وشكر نعمته ومحبته، وعرَّفنا قُبحَ الإشراك به والإعراض عنه ونسبته إلى ما لا يليقُ به، وعرَّفنا قُبحَ الفواحش والظُّلم والإساءة والفجور والكذب والبَهْت والإثم والبغي والعدوان. فكيف يُسْتَبْعَدُ منه أن يعرِّفنا وجوبًا على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالشُّكر المقدور المسْتَحْسَن في العقول، التي جاءت الشرائعُ بتفصيل ما أدركه العقلُ منه جملةً، وبتقرير ما أدركه منه تفصيلًا؟! وأمَّا الوجوبُ على الله بالثَّواب والعقاب؛ فهذا مما تتباينُ فيه (2) الطَّائفتان أعظمَ تبايُن: * فأثبتت القَدَرِيَّةُ من المعتزلة عليه تعالى وجوبًا عقليًّا وضعوه شريعةً _________ (1) انظر: (ص: 984). (2) في الأصول: «تتباين منه». والمثبت من (ط).

(2/1093)


له بعقولهم، وحرَّموا عليه الخروجَ عنه، وشبَّهوه في ذلك كلِّه (1). وبدَّعهم في ذلك سائرُ الطَّوائف، وسفَّهوا رأيهم فيه، وبيَّنوا مُناقَضتَهم، وألزموهم بما لا محيدَ لهم عنه. * ونفَت الجبريَّةُ أن يجبَ عليه ما أوجبه على نفسه ويحرُم عليه ما حرَّمه على نفسه، وجوَّزوا عليه ما يتعالى ويتنزَّه عنه وما لا يليقُ بجلاله مما حرَّمه على نفسه، وجوَّزوا عليه تركَ ما أوجبه على نفسه مما يتعالى ويتنزَّه عن تركه وفعلِ ضدِّه. فتباينَ الطَّائفتان أعظمَ تبايُن. * وهدى الله الذين آمنوا ــ أهلَ السُّنَّة الوَسط ــ للطَّريقة المثلى التي جاء بها رسولُه، ونزل بها كتابُه، وهي أنَّ العقول البشريَّة ــ بل وسائر المخلوقات ــ لا توجبُ على ربِّها شيئًا ولا تحرِّمه، وأنه يتعالى ويتنزَّه عن ذلك، وأمَّا ما كَتَبه على نفسه وحرَّمه على نفسه فإنه لا يُخِلُّ به، ولا يقعُ منه خلافُه، فهو إيجابٌ منه على نفسه بنفسه، وتحريمٌ منه على نفسه بنفسه، فليس فوقه تعالى مُوجِبٌ ولا محرِّم. وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطُ ذلك وتقريرُه (2). الوجه الحادي والخمسون: قولكم: «إنه على أصول المعتزلة يستحيلُ الأمرُ والنهيُ والتكليف» (3)، وتقريرُكم ذلك= فكلامٌ لا مَطْعَن فيه، والأمرُ فيه كما ذكرتم، وأنَّ حقيقةَ قول القوم أنه لا أمرَ ولا نهيَ ولا شرعَ أصلًا؛ إذ _________ (1) أي: بخلقه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. (2) انظر: (ص: 1136). (3) انظر: (ص: 984).

(2/1094)


ذلك إنما يصحُّ إذا ثبت قيامُ الكلام بالمُرْسِل الآمر النَّاهي وقيامُ الاقتضاء والطَّلب والحبِّ لما أمَر به والبغض لما نهى عنه. فأمَّا إذا لم يثبُت له كلامٌ ولا إرادةٌ ولا اقتضاءٌ ولا طلبٌ ولا حبٌّ ولا بغضٌ قائمٌ به، فإنه لا يُعْقَلُ أصلًا كونُه آمرًا ولا ناهيًا، ولا باعثًا للرُّسل، ولا محبًّا للطَّاعة باغضًا للمعصية. فأصولُ هذه الطَّائفة تعطلُ الصَّانع (1) عن صفات كماله، فإنها تستلزمُ إبطالَ الرِّسالة والنبوَّة جملةً، ولكن رُبَّ لازمٍ لا يلتزمُه صاحبُ المقالة، ويتناقضُ في القول بملزومه دونَ القول به، ولا ريبَ أنَّ فسادَ اللازم مستلزمٌ لفساد الملزوم. ولكن يقالُ لكم معاشرَ الجبريَّة: لا تكونوا ممَّن يرى القذاةَ في عين أخيه ولا يرى الجِذْعَ المُعْتَرِض في عينه، فقد ألزمَتكم القَدَرِيَّةُ ما لا محيدَ لكم عنه، وقالوا: من نفى فعلَ العبد جملةً فقد عطَّل الشرائعَ والأمرَ والنهي؛ فإنَّ الأمرَ والنهيَ لا يتعلَّقُ إلا بالفعل المأمور به، فهو الذي يُؤمَرُ به ويُنهى عنه، ويثابُ عليه ويعاقَب، فإذا نفيتم فعلَ العبد فقد رفعتم متعلَّقَ الأمر والنهي، وفي ذلك إبطالُ الأمر والنهي، فلا فرقَ بين رفع المأمور به المنهيِّ عنه ورفع المأمور المنهيِّ نفسِه؛ فإنَّ الأمرَ يستلزمُ آمرًا ومأمورًا به، ولا تصحُّ له حقيقةٌ إلا بهذه الثَّلاث. _________ (1) في الأصول: «الصفات». ولعل الصواب ما أثبت. انظر: «الصواعق المرسلة» (819، 1111، 1121)، و «شفاء العليل» (447)، و «مدارج السالكين» (1/ 26).

(2/1095)


ومعلومٌ أنَّ أمرَ الآمِر [غيرَه] (1) بفعلِ نفسِه ونهيَه عن [فعلِ] (2) نفسِه يُبْطِلُ التكليفَ جملةً؛ فإنَّ التكليف لا يُعْقَلُ معناه إلا إذا كان المكلَّفُ قد كُلِّفَ بفعله [الذي] هو المقدورُ له، التَّابعُ لإرادته ومشيئته. وأمَّا إذا رفعتم ذلك من البَيْن (3)، وقلتم: بل هو مكلَّفٌ بفعل الله حقيقةً، لا يدخُل تحت قدرة العبد، ولا هو متمكِّنٌ من الإتيان به، ولا هو واقعٌ بإرادته ومشيئته؛ فقد نفيتم التكليف جملةً من حيث أثبتموه، وفي ذلك إبطالٌ للشرائع والرِّسالة جملة. قالوا: فليتأمَّل المنصفُ الفَطِنُ ــ لا البليدُ المتعصِّب ــ صحَّةَ هذا الإلزام، فلن يجد عنه محيدًا. قالوا: فأنتم معاشرَ الجبريَّة قَدَرِيَّةٌ من حيث نفيُكم (4) الفعلَ المأمورَ به، فإن كان خصومكم قَدَرِيَّةً من حيث نفَوا تعلُّقَ القدرة القديمة، فأنتم أولى أن تكونوا قَدَرِيَّةً من حيث نفيتم فعلَ العبد له، وتأثيرَه فيه، وتعلُّقه بمشيئته، فأنتم أثبتُّم قَدَرًا على الله وقَدَرًا على العبد: * أمَّا القَدَرُ على الله، فحيث زعمتم أنه تعالى يأمرُ بفعلِ نفسِه، وينهى عن فعلِ نفسِه. ومعلومٌ أنَّ ذلك لا يصلُح أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه، فأثبتُّم أمرًا ولا مأمورَ به، ونهيًا ولا منهيَّ عنه. وهذه قَدَرِيَّةٌ محضةٌ في حقِّ الرَّبِّ. _________ (1) زيادة توضيحية. وانظر: «شفاء العليل» (226، 412، 413). (2) ساقطة من الأصول. وهي لازمة. وستأتي العبارة على الصواب. (3) أي: الوسط. (4) (ت): «نفيتم».

(2/1096)


* وأمَّا في حقِّ العبد، فإنكم جعلتموه مأمورًا منهيًّا من غير أن يكون له فعلٌ يُؤمَرُ به ويُنهى عنه. فأيُّ قَدَرِيَّةٍ أبلغُ من هذه؟! فمن الذي تضمَّن قولُه إبطالَ الشَّرائع وتعطيلَ الأوامر؟! فليتنبَّه اللبيبُ لمَواقع (1) هذه المساجَلة، وسهام هذه المناضَلة، ثمَّ ليَخْتَر منهما إحدى خُطَّتين، ولا والله «ما فيهما حظٌّ لمختار» (2). ولا ينجو من هذه الوَرَطاتِ إلا من أثبت كلامَ الله القائمَ به، المتضمِّنَ لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وأثبت له ما أثبت لنفسه من صفات كماله، ومن الأمور الثُّبوتيَّة القائمة به، ثمَّ أثبت مع ذلك فعلَ العبد واختيارَه ومشيئتَه وإرادتَه التي هي مناطُ الشرائع ومتعلَّقُ الأمر والنهي، فلا جَبْريٌّ ولا جهميٌّ ولا قَدَريٌّ. وكيف يختارُ العاقلُ آراءً ومذاهبَ هذه بعض لوازمها؟! ولو صابَرها إلى آخرها لاستبانَ له من فسادها وبطلانها ما يتعجَّبُ معه من قائلها ومُنْتَحِلها، والله الموفِّق للصَّواب. الوجه الثَّاني والخمسون: قولكم: «إنه ما مِن معنًى يُستَنبطُ من قولٍ أو فعلٍ ليُربَط به معنًى مناسبٌ له إلا ومن حيث العقلُ يعارضُه معنًى آخرُ يساويه في الدَّرجة أو يفضُل عليه في المرتبة، فيتحيَّر العقلُ في الاختيار، إلى أن يَرِدَ شرعٌ يختارُ أحدَهما أو يرجِّحُه من تلقائه، فيجبُ على العاقل اعتبارُه _________ (1) في الأصول: «لمواقعة». وهو تحريف. (2) اقتباسٌ من قول الأعشى: فقال: ثكلٌ وغدرٌ أنت بينهما ... فاختر، وما فيهما حظٌّ لمختار

(2/1097)


واختيارُه لترجيح الشَّرع له، لا لرجحانه في نفسه» (1). فيقال: إن أردتم بهذه المعارضة أنها ثابتةٌ في جميع الأفعال والأقوال المشتملة على الأوصاف المناسبة التي رُبِطت بها الأحكام ــ كما يدلُّ عليه كلامكم ــ؛ فدعوى باطلةٌ بالضرورة، وهي كذبٌ محضٌ. وكذلك إن أردتم أنها ثابتةٌ في أكثرها. فأيُّ معارضةٍ في العقل للوصف القبيح في الكذب والفجور، والظُّلم وإهلاك الحرث والنَّسل، والإساءة إلى المحسنين، وضرب الوالدَيْن واحتقارهما والمبالغة في إهانتهما بلا جُرْم؟! وأيُّ معارضةٍ في العقل للأوصاف القبيحة في الشِّرك بالله ومشيئته وكفران نِعَمه؟! وأيُّ معارضةٍ في العقل للوصف القبيح (2) في أنواع الفواحش التي فُطِرَت العقولُ والفِطرُ على استقباحها؟! وأيُّ معارضةٍ في العقل للوصف القبيح في نكاح الأمَّهات واستفراشهنَّ كاستفراش الإماء والزَّوجات؟! إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما تَشْهَدُ العقول بقُبحه من غير مُعارِضٍ فيها. بل نحن لا ننكرُ أن يكونَ داعي الشهوة والهوى وداعي العقل يتعارضان؛ فإن أردتم هذا التعارض فمُسَلَّمٌ، ولكن لا يُجْدِي عليكم إلا عكسَ مطلوبكم. وكذلك أيُّ معارضةٍ في العقول للأوصاف المقتضية حُسْنَ عبادة الله وشكره، وتعظيمه وتمجيده، والثَّناء عليه بآلائه وإنعامه وصفات جلاله ونُعوت كماله، وإفراده بالمحبة والعبادة والتَّعظيم؟! _________ (1) انظر: (ص: 986). (2) (ت): «وأي معارضة للقبيح». والعبارة برمتها ليست في (ق).

(2/1098)


وأيُّ معارضةٍ في العقول للأوصاف المقتضية حُسْنَ الصِّدق والبِرِّ، والإحسان والعدل، والإيثار، وكشف الكُربات وقضاء الحاجات وإغاثة الَّلهَفات، والأخذ على أيدي الظَّالمين، وقَمْع المفسدين، ومنع البُغاة والمعتدين، وحِفظ عقول العالمين وأموالهم ودمائهم وأعراضهم بحسب الإمكان، والأمر بما يُصْلِحُها ويكمِّلها، والنهي عمَّا يُفْسِدُها وينقُصها؟! وهذه حالُ جملة الشَّرائع وجمهورها، إذا تأمَّلها العقلُ جَزَم أنه يستحيلُ على أحكم الحاكمين أن يشرَع خلافَها لعباده. وأمَّا إن أردتم أنَّ في بعض ما يَدِقُّ منها مسائلَ تتعارض فيها الأوصافُ المستنبَطةُ في العقول، فيتحيَّر العقلُ بين المناسب منها وغير المناسب؛ فهذا وإن كان واقعًا فإنه لا ينفي (1) حُسْنَها الذَّاتيَّ وقُبحَ منهيِّها الذَّاتي، وكونُ الوصف خفيَّ المناسبة والتَّأثير في بعض المواضع مما لا يَدْفَعُه. وهذه حالُ كثيرٍ من الأمور العقليَّة المحضة، بل الحِسِّيَّة. وهذا الطِّبُّ مع أنه حِسِّيٌّ تجريبيٌّ تُدْرَكُ منافعُ الأغذية والأدوية وقُواها وحرارتُها وبرودتُها ورطوبتُها ويبوستُها فيه بالحِسِّ، ومع هذا فأنتم ترونَ اختلافَ أهله في كثيرٍ من مسائلهم في الشيء الواحد، هل هو نافعٌ كذا، ملائمٌ له أو منافرٌ مؤذٍ (2)؟ وهل هو حارٌّ أو بارد؟ وهل هو رطبٌ أو يابس؟ وهل فيه قوَّةٌ تصلُح لأمرٍ من الأمور أو لا قوَّة فيه؟ ومع هذا فالاختلافُ المذكورُ لا ينفي عند العقلاء ما جُعِلَ في الأغذية والأدوية من القُوى والمنافع والمضارِّ والكيفيَّات؛ لأنَّ سببَ الاختلاف _________ (1) (ق): «فإنها لا تنفي». وهو تحريف. (2) (ت، ق): «مود».

(2/1099)


خفاءُ تلك الأوصاف على بعض العقلاء، ودِقَّتُها، وعجزُ الحِسِّ والعقل عن تمييزها ومعرفة مقاديرها والنِّسَب الواقعة بين كيفيَّاتها وطبائعها. ولم يكن هذا الاختلافُ بمُوجِبٍ عند أحدٍ من العقلاء إنكارَ جملة العلم وجمهور قواعده ومسائله، ودعوى أنه ما مِنْ وصفٍ يُستنبَطُ من دواءٍ مفرَدٍ أو مركَّبٍ أو من غذاءٍ إلا وفي العقل ما يعارضه فيتحيَّر العقل! ولو ادَّعى هذا مُدَّعٍ لضَحِك منه العقلاء، بما عَلِمُوه بالضرورة والحسِّ من ملاءمة الأوصاف ومنافرتها، واقتضاءِ تلك الذَّوات للمنافع والمضارِّ في الغالب، ولا يكون اختلافُ بعض العقلاء يُوجِبُ إنكارَ ما عُلِمَ بالضرورة والحسِّ. فهكذا الشرائع. الوجه الثالث والخمسون: إنَّ قولكم: «إذا قتَل إنسانٌ إنسانًا مثله عرَض للعقل هاهنا آراءٌ متعارضةٌ مختلفة ... » (1) إلى آخره. فيقال: إن أردتم أنَّ العقل يسوِّي بين ما شرَعه الله من القصاص وبين تركِه لمصلحة الجاني، فبَهْتٌ للعقل وكذبٌ عليه؛ فإنه لا يستوي عند عاقلٍ قطُّ حُسْنُ الاقتصاص من الجاني بمثل ما فَعَلَ وحُسْنُ تركِه والإعراض عنه، ولا يُعْلَمُ عقلٌ صحيحٌ يسوِّي بين الأمرين. وكيف يستوي أمران: أحدُهما يستلزمُ فسادَ النَّوع، وخرابَ العالم، وتركَ الانتصار للمظلوم، وتمكينَ الجُناة من البغي والعدوان. والثَّاني يستلزمُ صلاحَ النَّوع، وعمارةَ العالم، والانتصارَ للمظلوم، ورَدْعَ الجُناة والبُغاة والمعتدين؟! _________ (1) انظر: (ص: 986).

(2/1100)


فكان في القِصاص حياةُ العالَم وصلاحُ الوجود. وقد نبَّه تعالى على ذلك بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وفي ضِمْن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤالٍ مقدَّر: أنَّ إعدام (1) هذه البِنْية الشريفة (2)، وإيلامَ هذه النَّفس وإعدامَها، في مقابلة إعدام المقتول تكثيرٌ لمفسدة القتل، فلأيَّة حكمةٍ صَدَرَ هذا ممَّن وَسِعَت رحمتُه كلَّ شيء، وبَهَرت حكمتُه العقول؟! فتضمَّن الخطابُ جوابَ ذلك بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وذلك لأنَّ القاتلَ إذا توهَّم أنه يُقْتَلُ قِصاصًا بمن قَتَله كَفَّ عن القتل وارتَدَع، وآثَر حُبَّ حياته ونفسِه؛ فكان فيه حياةٌ له ولمن أراد قتلَه. ومن وجهٍ آخر؛ وهو أنهم كانوا إذا قُتِل الرَّجلُ من عشيرتهم وقبيلتهم قَتَلوا به كلَّ من وجدوه من عشيرة القاتل وحَيِّه وقبيلته، وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يَعُمُّ ضررُه، وتشتدُّ مُؤنتُه؛ فشرَع الله تعالى القِصاص، وأن لا يُقْتَل بالمقتول غيرُ قاتله، ففي ذلك حياةُ عشيرته وحَيِّه وأقاربه. ولم تكن الحياةُ في القِصاص مِنْ حيث إنه قتلٌ، بل مِنْ حيث كونُه قِصاصًا يُؤخَذُ القاتلُ وحده بالمقتول، لا غيرُه. فتضمَّن القِصاصُ الحياةَ في الوجهين جميعًا. وتأمَّل ما تحت هذه الألفاظ الشَّريفة من الجلالة والإيجاز، والبلاغة والفصاحة، والمعنى العظيم: _________ (1) في الأصول: «عدم». والمثبت من (ط). (2) وهي جسم الإنسان. انظر: «نهاية الرتبة» للشيزري (97).

(2/1101)


* فصَدَّر الآيةَ بقوله: {وَلَكُمْ} المُؤْذِن بأنَّ منفعة القِصاص مختصَّةٌ بكم عائدةٌ إليكم، فشرعُه إنما كان رحمةً بكم وإحسانًا إليكم، فمنفعتُه ومصلحتُه لكم، لا لمن لا يبلغُ العبادُ ضرَّه ونفعَه. * ثمَّ عقَّبه بقوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إيذانًا بأنَّ الحياة الحاصلة إنما هي في العدل، وهو أن يُفْعَل به كما فَعَل. والقصاصُ في اللغة: المماثلَة، وحقيقتُه راجعةٌ إلى الاتِّباع (1). ومنه قوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي: اتَّبعي أثرَه. ومنه قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي: يقُصَّان الأثرَ ويتَّبعانه. ومنه: قَصُّ الحديث واقتصاصُه؛ لأنه يَتْبَعُ بعضُه بعضًا في الذِّكر. فسمِّي جزاءُ الجاني قِصاصًا لأنه يُتَّبعُ أثرُه فيُفْعَلُ به كما فَعَل. وهذا أحدُ ما يُسْتَدلُّ به على أن يُفْعَل بالجاني كما فَعَل، فيُقْتَل بمثل ما قَتَل به؛ لتحقيق معنى القِصاص. وقد ذكرنا أدلَّة المسألة من الطَّرفين، وترجيحَ القول الرَّاجح بالنَّصِّ والأثر والمعقول في كتاب «تهذيب السُّنن» (2). * ونكَّر سبحانه الحياةَ تعظيمًا لها وتفخيمًا لشأنها، وليس المرادُ حياةً ما، بل المعنى أنَّ في القِصاص حصولَ هذه الحقيقة المحبوبة للنُّفوس، المُؤْثَرة عندها، المُسْتَحْسَنة في كلِّ عقل. _________ (1) انظر: «مقاييس اللغة» (5/ 11). (2) (12/ 273). وانظر: «زاد المعاد» (4/ 84)، و «إعلام الموقعين» (1/ 318)، و «أحكام الجناية على النفس» للشيخ بكر أبو زيد (189 - 202، 204 - 228).

(2/1102)


والتَّنكيرُ كثيرًا ما يجيء للتَّعظيم والتَّفخيم، كقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133]، وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]. * ثمَّ خَصَّ أولي الألباب، وهم أولو العقول التي عَقَلَت عن الله أمرَه ونهيَه وحكمتَه؛ إذ هم المنتفعون بالخطاب. ووازِن بين هذه الكلمات وبين قولهم: «القتلُ أنفى للقتل»، تتبيَّنْ مقدارَ التَّفاوت وعظمةَ القرآن وجلالتَه (1). الوجه الرابع والخمسون: قولكم: «إنَّ القِصاصَ إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان، ولا يحيا الأوَّلُ بقتل الثَّاني، ففيه تكثيرُ المفسدة بإعدام النَّفْسَيْن، وأمَّا مصلحةُ الرَّدع والزَّجر واستبقاء النَّوع فأمرٌ متوهَّم، وفي القِصاص استهلاكٌ محقَّق» (2). فيقال: هذا الكلامُ من أفسد الكلام وأبينه بطلانًا؛ فإنه يتضمَّنُ التَّسويةَ بين القبيح الذي اتفقت العقولُ والدياناتُ على قُبحه وفساده، وبين الحسَن (3) الذي اتفقت العقولُ والدياناتُ على حُسْنه وصلاح الوجود به. _________ (1) انظر: «النكت في إعجاز القرآن» للرماني (77)، و «دلائل الإعجاز» (289)، و «تحرير التحبير» (468)، و «مقدمة تفسير ابن النقيب» (142)، و «سر الفصاحة» (312)، و «الصناعتين» (175)، و «الاعتقاد» للبيهقي (349)، و «الإتقان» للسيوطي (1395)، و «وحي القلم» للرافعي (3/ 397). (2) انظر: (ص: 987). (3) من قوله: «الذي اتفقت» إلى هنا ساقط من (ت، ق)؛ لانتقال النظر. وتصرف ناشر (ط) فأثبت موضعه: «والحسن ونفي حسن القصاص».

(2/1103)


وهل يستوي في عقلٍ أو دينٍ أو فطرةٍ القتلُ ظلمًا وعدوانًا بغير حقٍّ والقتلُ قِصاصًا وجزاءً بالحقِّ؟! ونظيرُ هذه التَّسوية (1): تسويةُ المشركين بين الرِّبا والبيع؛ لاستوائهما في صورة العقد. ومعلومٌ أنَّ استواء الفعلَين في الصُّورة لا يُوجِبُ استواءهما في الحقيقة، ومدَّعي ذلك في غاية المكابرة. وهل يدلُّ استواءُ السُّجود لله والسُّجود للصَّنم في الصُّورة الظَّاهرة ــ وهو وضعُ الجبهة على الأرض ــ على أنهما سواءٌ في الحقيقة، حتى يتحيَّر العقلُ بينهما، ويتعارضان فيه؟! ويكفي في فساد هذا إطباقُ العقلاء قاطبةً على قُبح القتل الذي هو ظلمٌ وبغيٌ وعُدوان، وحُسْن القتل الذي هو جزاءٌ وقِصاصٌ ورَدْعٌ وزَجْر، والفرقُ بين هذين مثلُ الفرق بين الزِّنا والنكاح، بل أعظمُ وأظهَر، بل الفرقُ بينهما من جنس الفرق بين الإصلاح في الأرض والإفساد فيها، فما تَعارض في عقلٍ صحيحٍ قطُّ هذان الأمران حتى يتحيَّر بينهما أيهما يُؤثِرُه ويختارُه. وقولكم: «إنه إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان»، فكذلك هو، لكن إتلافٌ حسَن، هو مصلحةٌ وحكمةٌ وصلاحٌ للعالم، في مقابلة إتلافٍ هو فسادٌ وسَفَهٌ وخرابٌ للعالم، فأنَّى يستويان؟! أم كيف يعتدلان، حتى يتحيَّر العقلُ بين الإتلاف الحسَن وتَرْكِه؟! وقولكم: «لا يحيا الأوَّلُ بقتل الثَّاني». _________ (1) (ت): «المسألة».

(2/1104)


قلنا: يحيا به عددٌ كثيرٌ من النَّاس؛ إذ لو تُرِك ولم يُؤْخَذ على يديه لأهلكَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، فإن لم يكن في قتل الثَّاني حياةٌ للأوَّل، ففيه حياةٌ للعالَم، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}، ولكنَّ هذا المعنى لا يُدْرِكه حقَّ الإدراك إلا أولو الألباب. فأين هذه الشريعةُ وهذه الحكمةُ وهذه المصلحةُ من هذا الهذيان الفاسد، وأن يقال: قتلُ الجاني إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان، فيكونُ قبيحًا لولا الشَّرع؟! فوازِن بين هذا وبين ما شرَعه الله وجَعَل مصالحَ عباده منُوطةً به. وقولكم: «فيه تكثيرُ المفسدة بإعدام النَّفْسَيْن». فيقال: لو أعطيتم رُتَبَ المصالح والمفاسد حقَّها لم ترتضوا بهذا الكلام الفاسد؛ فإنَّ الشرائعَ والفِطرَ والعقولَ متَّفقةٌ على تقديم المصلحة الراجحة، وعلى ذلك قام العالَم، وما نحن فيه كذلك؛ فإنه احتمالٌ لمفسدة إتلاف الجاني إلى هذه المفسدة العامَّة. فمن تحيَّر عقلُه بين هاتين المفسدتين فلِفَسادٍ فيه! والعقلاء قاطبةً متَّفقون على أنه يحسُن إتلافُ جزءٍ لسلامة كلٍّ؛ كقطع الإصبع أو اليد المتأكِّلة لسلامة سائر البدن، وكذلك يحسُن الإيلامُ لدفع إيلامٍ أعظمَ منه؛ كقطع العُروق وبَطِّ الخُرَاج (1) ونحوه، فلو طَرَد العقلاءُ قياسَكم هذا الفاسد، وقالوا: هذا إيلامٌ متحقِّقٌ لدفع إيلامٍ متوهَّم، لفَسَدَ البدنُ جملةً. ولا فرق عند العقول بين هذا وبين قياسكم في الفساد. _________ (1) بَطَّ الجرحَ: شَقَّه. والخُراج (كالغُراب): ورمٌ يخرج في البدن. «اللسان».

(2/1105)


الوجه الخامس والخمسون: قولكم: «إنَّ مصلحةَ الرَّدع والزَّجر وإحياء النَّوع أمرٌ متوهَّم» = كلامٌ بيِّنٌ فسادُه، بل هو أمرٌ متحقِّقٌ وقوعُه عادةً، ويدلُّ عليه ما نشاهدُه من الفساد العامِّ عند ترك الجُناة والمفسدين وإهمالهم وعدم الأخذ على أيديهم، والمتوهِّم من زَعَمَ أنَّ ذلك موهوم. وهو بمثابة من دَهَمه العدوُّ، فقال: لا نعرِّض أنفسَنا لمشقَّة قتالهم، فإنه مفسدةٌ متحقِّقة، وأمَّا استيلاؤهم على بلادنا وسَبْيُهم ذرارينا وقتلُ مقاتِلَتنا فموهومٌ! فياليت شِعْري .. من الموهومُ (1) المخطاء في وهمِه؟! ونظيرُه أيضًا: أنَّ الرَّجلَ إذا تبيَّغ به الدَّم (2)، واضطُرَّ إلى إخراجه، أن لا يَعْرِض لشَقِّ جِلْده وقَطْع عُروقه؛ لأنه ألمٌ محقَّقٌ لأمرٍ موهوم! ولو طُرِدَ هذا القياسُ الفاسدُ لخَرِبَ العالم، وتعطَّلت الشرائع. والاعتمادُ في طلب مصالح الدَّارين ودفع مفاسدهما مبنيٌّ على هذا الذي سمَّيتموه أنتم موهومًا؛ فالعُمَّالُ في الدُّنيا إنما يتصرَّفون بناءً على الغالب المعتاد الذي اطَّردت به العادة، وإن لم يجزموا به؛ فإنَّ الغالبَ صِدقُ العادة واطِّرادُها عند قيام أسبابها: فالتَّاجرُ يحتمِلُ مشقَّةَ السَّفر في البرِّ والبحر بناءً على أنه يَسْلَمُ ويَغْنَم، فلو طَرَدَ هذا القياسَ الفاسد، وقال: «السَّفرُ مشقَّةٌ متحقِّقة، والكسبُ أمرٌ موهوم»، لتعطَّلت أسفارُ النَّاس بالكليَّة. _________ (1) (ط): «الواهم». (2) أي: هاجَ به، وذلك حين تظهرُ حمرتُه في البدن. «اللسان».

(2/1106)


وكذلك عُمَّالُ الآخرة، لو قالوا: «تعبُ العملِ ومشقَّتُه أمرٌ متحقِّق، وحُسْنُ الخاتمة أمرٌ موهوم»، لعطَّلوا الأعمالَ جملة. وكذلك الأُجَراءُ والصُّنَّاعُ والملوكُ والجندُ وكلُّ طالب أمرٍ من الأمور الدُّنيويَّة أو الأخرويَّة، لولا بناؤه على الغالب وما جرت به العادةُ لما احتَمل المشقَّة المتيقَّنة لأمرٍ منتَظر. ومِنْ هاهنا قيل: إنَّ إنكار هذه المسألة يستلزمُ تعطيلَ الدُّنيا والآخرة من وجوهٍ متعدِّدة. الوجه السادس والخمسون: قولكم: «ويعارضُه معنًى ثالثٌ وراءهما فيفكِّر العقلُ: أيراعِي شروطًا أخرى وراء مجرَّد الإنسانية، من العقل والبلوغ، والعلم والجهل، والكمال والنَّقص، والقَرابة والأجنبية، فيتحيَّر العقلُ كلَّ التحيُّر، فلا بدَّ إذَن من شارعٍ يفصِّلُ هذه الخُطَّة، ويعيِّنُ قانونًا يطَّردُ عليه أمرُ الأمَّة، وتستقيمُ عليه مصالحهم» (1). فيقال: لا ريبَ أنَّ الشرائعَ تأتي بما لا تستقلُّ العقولُ بإدراكه، فإذا جاءت به الشريعةُ اهتدى العقلُ (2) حينئذٍ إلى وجه حُسْن مأموره وقُبح منهيِّه، فنبَّهَته (3) الشريعةُ على وجه الحكمة والمصلحة الباعثَين لشرعه. فهذا مما لا يُنْكَر. وهذا الذي قلنا فيه: إنَّ الشرائعَ تأتي بمَحَارات العقول لا بمُحَالات _________ (1) انظر: (ص: 987). (2) (ت): «جاءت به الشرائع اهتدى به العقل». (3) في الأصول: «فسرته». وفي طرة (د): «لعله: فنبهته». وهو ما أثبت.

(2/1107)


العقول، ونحن لم ندَّع ــ ولا عاقلٌ قطُّ ــ أنَّ العقلَ يستقلُّ بجميع تفاصيل ما جاءت به الشَّريعة بحيث لو تُرِك وحده لاهتدى إلى كلِّ ما جاءت به. إذا عُرِفَ هذا، فغايةُ ما ذكرتم أنَّ الشريعةَ الكاملة اشترطت في وجوب القِصاص شروطًا لا يهتدي العقلُ إليها. وأيُّ شيءٍ يَلْزَمُ مِنْ هذا؟! وماذا يُنْتِجُ لكم (1) ومُنازِعوكم يسلِّمونه لكم؟! وقولكم: «إنَّ هذا مُعارِضٌ للوصف المقتضي لثبوت القِصاص مِنْ قيام مصلحة العالم»، إمَّا غفلةٌ عن شروط المعارَضة، وإمَّا اصطلاحٌ طارٍ سمَّيتم فيه ما لا يهتدي العقلُ إليه من شروط اقتضاء الوصف لمُوجَبه مُعارَضةً! فيالله العَجب! أيُّ مُعارَضةٍ هاهنا إذا كان العقلُ والفطرةُ قد شَهِدا بحُسْنِ القتل قِصاصًا وانتظامِه للعالَم، وتوقَّفا في اقتضاء هذا الوصف: هل يُضَمُّ إليه شرطٌ آخرُ غيرُه أم يكفي بمجرَّده، وفي تعيينِ (2) تلك الشروط؟! فأدرَك العقلُ ما استقلَّ بإدراكه، وتوقَّف عمَّا لا يستقلُّ بإدراكه حتى اهتدى إليه بنور الشريعة. يوضِّحُ هذا: الوجه السَّابعُ والخمسون: أنَّ ما وَرَدَت به الشريعةُ في أصل القِصاص وشروطه منقسمٌ إلى قسمين: أحدهما: ما حُسْنُه معلومٌ بصريح العقل الذي لا يستريبُ فيه عاقل، وهو أصلُ القِصاص، وانتظامُ مصالح العالم به. _________ (1) غير محررة في (د). وفي (ق، ت): «يقبح لكم». والمثبت أشبه بالصواب. (2) (ت): «في تعيين».

(2/1108)


والثَّاني: ما حُسْنُه معلومٌ بنظر العقل وفكره وتأمُّله، فلا يهتدي إليه إلا الخواصُّ، وهو ما اشترط اقتضاء هذا الوصف، أو جُعِل تابعًا له. فاشترط له المكافأة في الدِّين؛ وهذا في غاية المراعاة للحكمة والمصلحة؛ فإنَّ الدِّين هو الذي فرَّق بين النَّاس في العِصمة، وليس في حكمة الله وحُسْن شرعِه أن يجعل دمَ وليِّه، وعبده، وأحبِّ خلقه إليه، وخير بريَّته، ومن خَلَقَه لنفسِه، واختصَّه بكرامته، وأهَّله لجواره في جنَّته، والنَّظر إلى وجهه، وسماع كلامه في دار كرامته= كَدَم عدوِّه، وأمقَتِ خلقِه إليه، وشرِّ بريَّته، والعادِل به (1)، العادِل (2) عن عبادته إلى عبادة الشيطان، الذي خَلَقه للنَّار، وللطَّرد عن بابه، والإبعاد عن رحمته. وبالجملة؛ فحاشا حكمتَه أن تسوِّي بين دماء خير البريَّة ودماء شرِّ البريَّة في أخذِ هذه بهذه، سيَّما وقد أباح لأوليائه دماءَ أعدائه وجَعَلهم قرابينَ لهم، وإنما اقتضت حكمتُه أن يكفُّوا عنهم إذا صاروا تحت قَهْرهم وإذلالهم كالعبيد لهم، يؤدُّون إليهم الجِزيةَ التي هي خَراجُ رؤوسِهم (3)، مع بقاء السَّبب المُوجِب لإباحة دمائهم. وهذا التَّركُ والكفُّ لا يقتضي استواءَ الدَّمَيْن عقلًا، ولا شرعًا، ولا مصلحة. ولا ريبَ أنَّ الدَّمَيْن قبل القهر والإذلال لم يكونا بمستويَيْن؛ لأجل الكفر، فأيُّ _________ (1) أي: المسوِّي به غيرَه. قال سبحانه: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وانظر: «زاد المعاد» (3/ 229)، و «المدارج» (1/ 341)، و «إعلام الموقعين» (2/ 27). (2) ليست في (ت، ق). (3) ويسمى: مال الجماجم. انظر: «مفاتيح العلوم» (40).

(2/1109)


مُوجِبٍ لاستوائهما بعد الاستذلال، والكفرُ قائمٌ بعينِه؟! فهل في الحكمة وقواعد الشريعة ومُوجَبات العقول أن يكون الإذلالُ والقهرُ للكافر مُوجِبًا لمساواة دمه لدم المسلم؟! هذا مما تأباهُ الحكمةُ والمصلحةُ والعقول. وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى، وكَشَف الغطاء، وأوضحَ المُشْكِل، بقوله: «المسلمون تتكافأُ دماؤهم» (1)، أو قال: «المؤمنون ... » (2)؛ فعلَّق المكافأة بوصفٍ لا يجوزُ إلغاؤه وإهدارُه وتعليقُها بغيره؛ إذ يكونُ إبطالًا لما اعتبره الشارعُ واعتبارًا لما أبطَله، فإذا علَّق المكافأةَ بوصف الإيمان كان كتعليقه سائرَ الأحكام بالأوصاف؛ كتعليق القَطْع بوصف السَّرقة، والرَّجم بوصف الزِّنا، والجَلْدِ بوصف القَذف والشُّرب، ولا فرقَ بينهما أصلًا. فكلُّ من علَّق الأحكامَ بغير الأوصاف التي علَّقها به الشارعُ كان تعليقُه منقطعًا مُنْصَرِمًا، وهذا مما اتفق أئمَّةُ الفقهاء على صحَّته. فقد أدَّى نظرُ العقل إلى أنَّ دَمَ عدوِّ الله الكافر لا يساوي دَمَ وَلِيِّه، ولا يكافئه أبدًا، وجاء الشرعُ بمُوجَبه، فأيُّ معارضةٍ هاهنا؟! وأيُّ حَيْرة؟! إن هو إلا بصيرةٌ على بصيرة، ونورٌ على نور. _________ (1) أخرجه أبو داود (2751)، وابن ماجه (2685)، وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسنادٍ حسن. وخرَّجه ابن الجارود في «المنتقى» (771، 1073). وأخرجه الطياليسي (2372) بلفظ: «المؤمنون تتكافأ ... ». (2) أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4746)، وأحمد (1/ 119)، وغيرهم من طرقٍ عن علي. وصححه الحاكم (2/ 141) ولم يتعقبه الذهبي. وصححه ابن حبان (5996) من حديث ابن عمر.

(2/1110)


وليس هذا مكانَ استيعاب الكلام على هذه المسألة (1)، وإنما الغرض التَّنبيهُ على أنَّ في صريح العقل الشهادةَ لما جاء به الشرعُ فيها. فصل وعكسُ هذا أنه لم يَشْترط المكافأةَ في علمٍ وجهل، ولا في كمالٍ وقُبح، ولا في شَرَفٍ وضَعَة، ولا في عقلٍ وجنون، ولا في أجنبيَّةٍ وقَرابة، خلا الوالدَ والولد. وهذا من كمال الحكمة وتمام النِّعمة، وهو في غاية المصلحة؛ إذ لو رُوعِيَت هذه الأمورُ لتعطَّلت مصلحةُ القِصاص إلا في النَّادر البعيد؛ إذ قلَّ أن يستوي شخصان من كلِّ وجه، بل لا بدَّ من التَّفاوت بينهما في هذه الأوصافِ أو في بعضها؛ فلو أنَّ الشريعة جاءت بأن لا يُقْتَصَّ إلا مِنْ مُكافاءٍ مِنْ كلِّ وجه، لفسدَ العالَم، وعَظُمَ الهَرْج، وانتشر الفساد. ولا يجوزُ على عاقلٍ وضعُ هذه السِّياسة الجائرة، وواضِعُها إلى السَّفه أقربُ منه إلى الحكمة، فلا جَرَمَ أهدَرَت الشَّرائعُ اعتبارَ ذلك (2). وأمَّا الولدُ والوالدُ فمَنَعَ من جَرَيان القِصاص بينهما حقيقةُ البعضيَّة والجُزئيَّة (3) التي بينهما؛ فإنَّ الولد جزءٌ من الوالد، ولا يُقْتَصُّ لبعض أجزاء الإنسان من بعض، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ _________ (1) انظر: «التقريب لعلوم ابن القيم» (351)، و «أحكام الجناية على النفس» للشيخ بكر أبو زيد (167 - 173). (2) في الأصول: «(د: أهدررتك، ق: أهدتك، ت: أهدرتك) شرائع الاعتبار ذلك». والأشبه ما أثبت. (3) (د): «والجزوية». بتسهيل الهمز. وانظر ما مضى (ص: 1000).

(2/1111)


جُزْءًا} [الزخرف: 15]، وهو قولهم: «الملائكةُ بناتُ الله»؛ فدلَّ على أنَّ الولدَ جزءٌ من والده. وعلى هذا الأصل امتَنَعَت شهادتُه له، وقطعُه بالسَّرقة من ماله، وحَدُّه إياهُ (1) على قَذْفِه. وعن هذا الأصل ذهبَ كثيرٌ من السَّلف ــ ومنهم الإمامُ أحمدُ وغيره ــ إلى أنَّ له أن يتملَّك ما شاء من مال ولده، وهو كالمباح في حقِّه. وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاةً بأدلَّتها، وبيَّنَّا دلالةَ القرآن عليها من وجوهٍ متعدِّدةٍ في غير هذا الموضع (2). وهذا المأخذُ أحسنُ من قولهم: إنَّ الأبَ لمَّا كان هو السَّببَ في إيجاد الولد، فلا يكونُ الولدُ سببًا في إعدامه. وفي المسألة مسلكٌ آخر، وهو مسلكٌ قويٌّ جدًّا، وهو أنَّ الله سبحانه جَعَل في قلب الوالد من الشَّفقة على ولده والحرص على حياتِه ما يُوازِي شفقتَه على نفسِه وحرصَه على حياة نفسِه، وربَّما يزيدُ على ذلك، فقد يُؤثِرُ الرَّجلُ حياةَ ولده على حياته، وكثيرًا ما يَحْرِمُ الرَّجلُ نفسَه حُظوظَها ويُؤثِرُ بها ولدَه، وهذا القَدْرُ مانعٌ من كونه يريدُ إعدامَه وإهلاكَه، بل لا يَقْصِدُ في الغالب إلا تأديبَه وعقوبتَه على إساءته؛ فلا يقعُ قتلُه في الأغلب عن قصدٍ وتعمُّد، بل عن خطأٍ وسَبْقِ يَدٍ. وإذا وقعَ ذلك غلطًا أُلْحِقَ بالقتل الذي لم يُقْصَد به إزهاقُ النَّفس، _________ (1) (ق، د): «أباه». وهو تحريف. (2) انظر: «التقريب لعلوم ابن القيم» (286).

(2/1112)


فأسبابُ التُّهمة والعداوة الحاملة على القتل لا تكادُ توجدُ في الآباء، وإن وُجِدَت نادرًا فالعبرةُ بما اطَّردَت عليه عادةُ الخليقة. وهنا للنَّاس طريقان: أحدهما: أنَّا إذا تحقَّقنا التُّهمةَ وقصدَ القتلِ والإزهاق، بأن يُضْجِعَه ويذبحه ــ مثلًا ــ، أجرَينا القِصاصَ (1) بينهما؛ لتحقُّق قصدِ الجناية، وانتفاءِ المانع من القصاص. وهذا قولُ أهل المدينة (2). والثَّاني: أنه لا يجري القِصاصُ بينهما بحال، وإن تحقَّق قصدُ القتل؛ لمكان الجُزئيَّة والبعضيَّة المانعة من الاقتصاص من بعض أجزاء الإنسان لبعضه. وهو قولُ الأكثرين (3). ولا يَرِدُ عليهم قتلُ الولد بوالده، وإن كان بعضَه؛ لأنَّ الأبَ لم يُخْلَق من نطفة الابن، فليس الأبُ بجزءٍ له حقيقةً ولا حكمًا، بخلاف الولد فإنه جزءٌ حقيقةً. وليس هذا موضعَ استقصاء الكلام على هذه المسائل؛ إذ المقصودُ بيانُ اشتمالها على الحِكَم والمصالح التي يُدْرِكُها العقلُ وإن لم يَسْتَقِلَّ بها، فجاءت الشريعةُ بها مقرِّرةً لما استقرَّ في العقل إدراكُه ولو من بعض الوجوه. _________ (1) «القصاص» ساقطة من (ق). (2) انظر: «النوادر والزيادات» (14/ 33)، و «التفريع» (2/ 217)، و «عقد الجواهر الثمينة» (1096). (3) انظر: «مختصر اختلاف العلماء للطحاوي» للجصاص (5/ 106)، و «المغني» (11/ 483).

(2/1113)


وبعد النُّزول عن هذا المقام، فأقصى ما فيه أن يقال: إنَّ الشريعة جاءت بما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه، لا بما يُحِيلُه العقل، ونحن لا ننكرُ ذلك، ولكن لا يَلْزَمُ منه نفيُ الحِكَم والمصالح التي اشتملت عليها الأفعالُ في ذواتها، والله أعلم. الوجه الثَّامن والخمسون: قولكم: «وظَهَرَ بهذا أنَّ المعاني المستنبطةَ راجعةٌ إلى مجرَّد استنباط العقل، ووضعِ الذِّهن، من غير أن يكون الفعلُ مشتملًا عليها» (1) = كلامٌ في غاية الفساد والبطلان، لا يرتضيه أهلُ العلم والإنصاف، وتصوُّره حقَّ التصوُّر كافٍ في الجزم ببطلانه من وجوهٍ عديدة: أحدها: أنَّ العقلَ والفطرةَ يشهدان ببطلانه، والوجود يكذِّبه؛ فإنَّ أكثر المعاني المستنبطة من الأحكام ليست من أوضاع الأذهان المجرَّدة عن اشتمال الأفعال عليها، ومُدَّعِي ذلك في غاية المكابرة التي لا تُجْدِي عليه إلا تَوْهِينَ المقالة. وهذه المعاني المستنبطةُ من الأحكام موجودةٌ مشهودة، يعلمُ العقلاءُ أنها ليست من أوضاع الذِّهن، بل الذِّهنُ أدركها وعَلِمَها، وكان نسبةُ الذِّهن إلى إدراكها كنسبة البصر إلى إدراك الألوان وغيرها، وكنسبة السَّمع إلى إدراك الأصوات، وكنسبة الذَّوق إلى إدراك الطُّعوم، والشَّمِّ إلى إدارك الرَّوائح، فهل يسوغُ لعاقلٍ أن يدَّعيَ أنَّ هذه المُدْرَكاتِ من أوضاع الحواسِّ؟! وكذلك العقلُ إذا أدرَك ما اشتملَ عليه الكذبُ والفجورُ وخرابُ العالم _________ (1) انظر: (ص: 987).

(2/1114)


والظُّلمُ وإهلاكُ الحرث والنَّسل والزِّنا بالأمَّهات وغيرُ ذلك من القبائح، وأدرَك ما اشتملَ عليه الصِّدقُ والبِرُّ والإحسانُ والعدلُ وشُكرانُ المُنعِم والعِفَّةُ وفعلُ كلِّ جميلٍ من الحُسْن= لم تكن تلك المعاني التي اشتملت عليها هذه الأفعالُ مجرَّدَ وضع الذِّهن واستنباط العقل، ومُدَّعِي ذلك مَؤُوفٌ (1) في عقله؛ فإنَّ المعاني التي اشتملت عليها المنهيَّاتُ المُوجِبةُ لتحريمها أمورٌ ناشئةٌ من الأفعال ليست أوضاعًا ذهنيَّة، والمعاني التي اشتملت عليها المأموراتُ المُوجِبةُ لحُسْنها ليست مجرَّدَ أوضاعٍ ذهنيَّة، بل أمورٌ حقيقيَّةٌ ناشئةٌ من ذوات الأفعال تَرتُّبُ آثارِها عليها كترتُّب آثار الأدوية والأغذية عليها. وما نظيرُ هذه المقالة إلا مقالةُ من يزعمُ أنَّ القُوى والآثار المستنبطة من الأغذية والأدوية لا حقيقة لها، إنما هي أوضاعٌ ذهنيَّة! ومعلومٌ أنَّ هذا بابٌ من السَّفْسَطة (2). فاعْرِض معاني الشريعة الكليَّة على عقلك، وانظر ارتباطَها بأفعالها وتعلُّقَها بها، ثمَّ تأمَّل هل تجدُها أمورًا حقيقيةً تنشأ من الأفعال، فإذا فُعِل الفعلُ نَشَأ منه أثرُه، أو تجدُها أوضاعًا ذهنيَّةً لا حقيقة لها؟ وإذا أردتَ معرفةَ بطلان المقالة فكرِّر النَّظر في أدلَّتها، فأدلَّتُها من أكبر الشواهد على بطلانها، بل العاقلُ يستغني بأدلة الباطل عن إقامة الدَّليل على بطلانه، بل نفسُ دليله هو دليلُ بطلانه. _________ (1) أصابته آفة. وفي (د): «مقرز». (ق، ت): «مقرر». وهو تحريف. وانظر: «الصواعق المرسلة» (729، 916). (2) وهي عبارةٌ عن جحد الحقائق. كما تقدم (ص: 1019).

(2/1115)


الوجه الثَّاني: أنَّ استنباطَ العقول ووضعَ الأذهان لما لا حقيقة له من باب الخيالات والتَّقديرات التي لا يترتَّبُ عليها علمٌ ولا معلوم، ولا صلاحٌ ولا فساد؛ إذ هي خيالاتٌ مجرَّدة، وأوهامٌ مقدَّرة؛ كوضعِ الذِّهن سائرَ ما يضعُه من المقدِّرات الذِّهنيَّة. ومعلومٌ أنَّ المعاني المستنبطة من الأحكام هي من أجلِّ العلوم، ومعلومُها من أشرف المعلومات وأنفعها للعباد، وهي منشأُ مصالحهم في معاشهم ومعادهم، وترتُّبُ آثارها عليها مشهودٌ في الخارج، معقولٌ في الفِطر، قائمٌ في المعقول، فكيف يُدَّعى أنه مجرَّدُ وضعٍ ذهنيٍّ لا حقيقة له به؟! الوجه الثَّالث: أنَّ استنباطَ الذِّهن لما يستنبطُه من المعاني، واعتقادَه أنَّ الأفعال مشتملةٌ عليها، مع كون الأمر ليس كذلك= جهلٌ مركَّب، واعتقادٌ باطل؛ فإنه إذا اعتقد أنَّ الأفعال مشتملةٌ على تلك المعاني، وأنها مَنْشَؤها، وليس كذلك؛ كان اعتقادًا للشيء بخلاف ما هو به. وهذا غايةُ الجهل. فكيف يُدَّعى هذا في أشرف العلوم وأزكاها وأنفعها وأعظمها تضمُّنًا لمصالح العباد في المعاش والمعاد؟! وهل هو إلا لُبُّ الشريعة ومضمونُها؟! فكيف يَسُوغُ أن يُدَّعى فيها هذا الباطلُ ويُرمى بهذا البهتان؟! وبالجملة؛ فبطلانُ هذا القول أظهرُ من أن يُتَكلَّفَ ردُّه، ولم يقل هذا القولَ من شَمَّ للفقه رائحةً أصلًا. الوجه التَّاسع والخمسون: قولكم: «لو كانت صفاتٍ نفسيَّةً للفعل لَزِمَ من ذلك أن تكون الحركةُ الواحدةُ مشتملةً على صفاتٍ متناقضةٍ وأحوالٍ متنافرة» (1). _________ (1) انظر: (ص: 987).

(2/1116)


فيقال: وما الذي يُحِيلُ أن يكون الفعلُ مشتملًا على صفتَين مختلفتَين تقتضي كلُّ منهما أثرًا غيرَ الأثر الآخر، وتكونُ إحدى الصِّفتَين والأثرَين أولى به، تكونُ مصلحتُه أرجح، فإذا رُتِّبَ على صفته الأخرى أثرُها فاتت المصلحةُ الراجحةُ المطلوبةُ شرعًا وعقلًا؟! بل هذا هو الواقع، ونحن نجدُ هذا حِسًّا في قُوى الأغذية والأدوية ونحوها من صفات الأجسام الحِسِّية المُدْرَكة بالحِسِّ، فكيف بصفات الأفعال المُدْرَكة بالعقل؟ وأمثلةُ ذلك في الشريعة تزيدُ على الألْف. فهذه الصَّلاةُ في وقت النهي: فيها مصلحةُ تكثير العبادة، وتحصيل الأرباح، ومزيد الثَّواب، والتقرُّب إلى ربِّ الأرباب، وفيها مفسدةُ المشابهة الصُّوريَّة (1) بالكفَّار وعُبَّاد الشمس (2)، وفي تركها مصلحةُ سَدِّ ذريعة الشِّرك، وفَطْم النُّفوس عن المشابهة بالكفَّار (3) حتى في وقت العبادة. وكانت هذه المفسدةُ أولى بالصَّلاة في أوقات النهي من مصلحتها، فلو شُرِعَت لما فيها من المصلحة لفاتت مصلحةُ التَّرك، وحَصَلت مفسدةُ المشابهة التي هي أقوى من مصلحة الصَّلاة حينئذ. ولمَّا (4) كانت مصلحةُ أداء الفرائض في هذه الأوقات أرجحَ من _________ (1) ليست في (ت، ق). (2) (ق): «بالكفار في عبادة الشمس». وانظر: «زاد المعاد» (4/ 78)، و «الداء والدواء» (309). (3) سقط من (ت) من الموضع الأول إلى هنا؛ لانتقال نظر الناسخ. (4) في الأصول: «ولهذا». وهو تحريف.

(2/1117)


مفسدة المشابهة، بحيث انغمَرَت هذه المفسدةُ بالنسبة إلى الفريضة= لم يُمْنَع منها، بخلاف النَّافلة؛ فإنَّ في فعلها في غير هذه الأوقات غُنْيةً عن فعلها فيها، فلا تفُوتُ مصلحتُها، فيقعُ فعلُها في وقت النهي مفسدةً راجحة. ومِنْ هاهنا جوَّز كثيرٌ من الفقهاء ذواتِ الأسباب في وقت النهي؛ لتَرجُّح مصلحتها؛ فإنها لا تُقْضى، ولا يمكنُ تداركُها، وكانت مفسدةُ تفويتها أرجحَ من مفسدة المشابهة المذكورة. وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة (1). فما الذي يُحِيلُ اشتمالَ الحركة الواحدة على صفاتٍ مختلفةٍ بهذه المثابة، ويكونُ بعضها أرجحَ من بعض، فيُقْضى للرَّاجح عقلًا وشرعًا؟! وعلى هذا المثال مسائلُ عامَّة الشريعة، ولولا الإطالةُ لكتبنا منها ما يبلغُ ألفَ مثال، والعالمُ ينتبهُ للجزئيَّات بالقاعدة الكليَّة. الوجه الستُّون: قولكم: «وليس معنى قولنا: إنَّ العقلَ استنبطَ منها أنها كانت موجودةً في الشيء فاستخرجَها العقل، بل العقلُ تردَّد بين إضافات الأحوال بعضِها إلى بعض، ونِسَبِ الحركات والأشخاص نوعًا إلى نوع، وشخصًا إلى شخص، فطَرأ عليه من تلك المعاني ما حكيناه، وربَّما يبلُغ مبلغًا يَشِذُّ عن الإحصاء، فعُرِفَ أنَّ المعاني لم تَرجِع إلى الذَّات، بل إلى مجرَّد الخواطر، وهي متعارضة» (2). _________ (1) انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 161، 342)، و «روضة المحبين» (134)، و «مجموع الفتاوى» (1/ 164، 23/ 186 - 217). (2) انظر: (ص: 987).

(2/1118)


فيقال: يا عجبًا لعقلٍ يَرُوجُ عليه مثلُ هذا الكلام، ويبني عليه مثلَ هذه القاعدة العظيمة! وذلك بناءٌ على شَفَا جُرُفٍ هار. وقد تقدَّم ما يكفي في بطلان هذا الكلام، ونزيدُ هاهنا أنه كلامٌ فاسدٌ لفظًا ومعنًى؛ فإنَّ الاستنباط هو استخراجُ الشيء الثَّابت الخفيِّ الذي لا يَعْثُر عليه كلُّ أحد، ومنه: استنباطُ الماء؛ وهو استخراجُه من موضعه، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: يستخرجون حقيقتَه وتدبيرَه بفطنتهم وذكائهم وإيمانهم ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف. ولا يصحُّ معنًى إلا في شيءٍ ثابتٍ له حقيقةٌ خفيَّةٌ يستنبطُها الذِّهنُ ويستخرجُها، فأمَّا ما لا حقيقة له فإنه مجرَّدٌ ذِهنيٌّ (1)، فلا استنباط فيه بوجه، وأيُّ شيءٍ يُسْتَنْبَطُ منه؟! وإنما هو تقديرٌ وفَرْض، وهذا لا يسمَّى استنباطًا في عقلٍ ولا لغة. وحينئذٍ، فيُقْلَبُ الكلامُ عليكم، ويكون من يَقْلِبُه أسعدَ بالحقِّ منكم، فنقول: وليس معنى قولنا: «إنَّ العقلَ استنبط من تلك الأفعال» أنَّ ذلك مجرَّدُ خواطرَ طارئة، وإنما معناه أنها كانت موجودةً في الأفعال، فاستخرجَها العقلُ باستنباطِه، كما يُسْتَخْرَجُ الماءُ الموجودُ في الأرض باستنباطِه. ومعلومٌ أنَّ هذا هو المعقولُ المُطابِقُ للعقل واللُّغة، وما ذكرتموه فخارجٌ عن العقل واللغة جميعًا. فعُرِفَ أنه لا يصحُّ معنى الاستنباط إلا لشيءٍ موجودٍ يستخرجُه العقل، _________ (1) في الأصول: «مجرد ذهنه». تحريف. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1324).

(2/1119)


ثمَّ ينسبُ إليه أنواع تلك الأفعال وأشخاصها، فأيُّها (1) كان أولى به حكم له بالاقتضاء والتَّأثير. وهذا هو المعقول، وهو الذي يعرفُه الفقهاءُ والمتكلِّمون على مناسباتِ الشريعة وأوصافها وعِلَلِها التي تُرْبَطُ بها الأحكام، فلو ذَهَبَ هذا من أيديهم لانسَدَّ عليهم بابُ الكلام في القياس والمناسبات والحِكَم، واستخراجِ ما تضمَّنته الشريعةُ من ذلك، وتعليقِ الأحكام بأوصافها المقتضية لها، إذا كان مَرَدُّ الأمر (2) بزعمكم إلى مجرَّد خواطرَ طارئةٍ على العقل ومجرَّد وضعِ الذِّهن، وهذا من أبطل الباطل وأبيَن المُحال. ولقد أنصفكم خصومُكم في ادِّعائهم عليكم لازمَ هذا المذهب، وقالوا: لو رُفِعَ الحُسْن والقُبح من الأفعال الإنسانيَّة، ورُدَّ إلى مجرَّد تعلُّق الخطاب بها، بَطَلَت المعاني العقليَّةُ التي تُستَنبطُ من الأصول الشرعيَّة، فلا يمكنُ أن يقاسَ فعلٌ على فعل، ولا قولٌ على قول، ولا يمكنُ أن يقال: لِمَ كذا؟ إذ لا تعليل للذَّوات، ولا صفات للأفعال هي عليها في نفس الأمر حتى ترتبط بها الأحكام. وذلك رفعٌ للشَّرائع بالكليَّة مِنْ حيث إثباتُها، لا سيَّما والتعلُّق أمرٌ عَدَمِيٌّ، ولا معنى لحُسْن الفعل أو قُبحه إلا التعلُّقُ العدميُّ بينه وبين الخطاب، فلا حُسْنَ في الحقيقة ولا قُبحَ لا شرعًا ولا عقلًا، لا سيَّما إذا انضمَّ إلى ذلك نفيُ فعل العبد واختياره بالكليَّة، وأنه مجبُورٌ محض، فهذا فعلُه وذلك صفةُ فعلِه، فلا فِعلَ له ولا وصفَ لفعلِه (3) البتَّة. _________ (1) (ق، د): «فانها». (ت): «فانه». وكله تحريف. (2) (ت): «يرد الأمر». (3) ساقطة من (ت). وفي (د، ق): «لقوله». وهو تحريف.

(2/1120)


فأيُّ تعطيلٍ ورفعٍ للشرائع أكثرُ من هذا؟! فهذا إلزامُهم لكم، كما أنكم ألزمتموهم نظيرَ ذلك في نفي صفة الكلام، وأنصفتموهم في الإلزام. الوجه الحادي والستُّون: قولكم: «لو ثبت الحُسن والقُبح العقليَّين (1) لتعلَّق بهما الإيجابُ والتَّحريمُ شاهدًا وغائبًا، واللازمُ محال، فالملزومُ كذلك ... » إلى آخره (2). فنقول: الكلام هاهنا في مقامين: أحدهما: في التَّلازُم المذكور بين الحُسْن والقُبح العقليَّين، وبين الإيجاب والتَّحريم غائبًا. والثَّاني: في انتفاء اللازم وثبوته. * فأمَّا المقام الأوَّل، فلمُثْبتي الحُسْن والقُبح طريقان: أحدهما: ثبوتُ التَّلازُم والقولُ باللازم، وهذا القولُ هو المعروفُ عن المعتزلة، وعليه يُناظِرون، وهو القولُ الذي نَصَبَ خصومُهم الخلافَ معهم فيه. والقول الثَّاني: إثباتُ الحُسْن والقُبح (3)، فإنهم يقولون بإثباته، ويصرِّحون بنفي الإيجاب قبل الشَّرع على العبد، وبنفي إيجاب العقل على الله شيئًا البتَّة؛ كما صرَّح به كثيرٌ من الحنفيَّة، والحنابلة كأبي الخطَّاب _________ (1) كذا في الأصول. والصواب: العقليان. (2) انظر: (ص: 988). (3) أي: دون لازم التحريم والإيجاب غائبًا.

(2/1121)


وغيره، والشافعيَّة كسعد بن عليٍّ الزَّنجاني الإمام المشهور وغيره (1). ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقليِّ في المعرفة بالله وثبوته خلاف. فالأقوالُ إذَن أربعةٌ لا مزيد عليها (2): أحدُها: نفيُ الحُسْن والقُبح (3)، ونفيُ الإيجاب العقليِّ في العمليَّات دون العِلْميَّات كالمعرفة، وهذا اختيارُ أبي الخطَّاب وغيره (4). فعُرِفَ أنه لا تلازُمَ بين الحُسْن والقُبح وبين الإيجاب والتَّحريم العقليَّين. فهذا أحدُ المقامين. * وأمَّا المقام الثَّاني، وهو انتفاءُ اللازم وثبوتُه، فللنَّاس فيه هاهنا ثلاثةُ طرق: أحدها: التزامُ ذلك، والقولُ بالوجوب والتَّحريم العقليَّين شاهدًا وغائبًا. وهذا قولُ المعتزلة. وهؤلاء يقولون بترتُّب الوجوب شاهدًا، وبترتُّب المدح والذَّمِّ عليه. وأمَّا العقابُ، فلهم فيه اختلافٌ وتفصيل، ومن أثبتَه منهم لم يُثْبِته على الوجوب الثَّابت بعد البعثة، ولكنهم يقولون: إنَّ العذابَ الثَّابتَ بعد _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 963، 964) والتعليق عليه. (2) الثلاثة المتقدمة (نفي الحسن والقبح، وإثباتهما مع التزام الإيجاب العقلي، وإثباتهما مع نفي الإيجاب العقلي مطلقًا)، والرابع هو الآتي. (3) كذا في الأصول. وهو سبقُ قلم أو تحريف. والصواب: إثبات الحسن والقبح. (4) انظر ما تقدم (ص: 963) والتعليق عليه.

(2/1122)


الإيجاب الشرعيِّ نوعٌ آخرُ غيرُ العذاب الثَّابت على الإيجاب العقليِّ. وبذلك يجيبون عن النُّصوص النَّافية للعذاب قبل البعثة. وأمَّا الإيجابُ والتَّحريمُ العقليَّان غائبًا، فهم مصرِّحون بهما، ويفسِّرون ذلك باللُّزوم الذي أوجبَته حكمتُه وحرَّمَته، وأنه يستحيلُ عليه خلافُه، كما يستحيلُ عليه الحاجةُ والنَّومُ والتَّعبُ واللُّغوب. فهذا معنى الوجوب والامتناع في حقِّ الله عندهم، فهو وجوبٌ اقتضته ذاتُه وحكمتُه وغِناه، وامتناعٌ يستحيلُ عليه الاتصافُ به؛ لمنافاته كمالَه وغِناه. قالوا: وهذا في الأفعال نظيرُ ما تقولونه (1) في الصِّفات أنه يجبُ له كذا، ويمتنعُ عليه كذا، فقولنا نحنُ في الأفعال نظيرُ قولكم في الصِّفات، ما يجبُ له منها وما يمتنعُ عليه، فكما أنَّ ذلك وجوبٌ وامتناعٌ ذاتيٌّ يستحيلُ عليه خلافُه، فهكذا ما تقتضيه حكمتُه وتأباه وجوبٌ وامتناعٌ يستحيلُ عليه الإخلالُ به، وإن كان مقدورًا له، لكنه لا يُخِلُّ به؛ لكمال حكمته وعلمه وغِناه. والفرقةُ الثَّانية منَعت ذلك جملةً، وأحَالت القولَ به (2)، وجوَّزت على الرَّبِّ تعالى كلَّ شيءٍ ممكن، ورَدَّت الإحالةَ والامتناعَ في أفعاله إلى غير الممكن من المُحالات؛ كالجمع بين النَّقيضين، وبابِه (3). فقابلوا المعتزلةَ أشدَّ مقابلة، واقتسما طَرَفي الإفراط والتفريط. _________ (1) في الأصول: «يقولونه». وهو خطأ. (2) (ت): «وأحالت العقول به». (3) أي: باب الجمع بين النقيضين.

(2/1123)


ورَدَّ هؤلاء الوجوبَ والتَّحريمَ الذي جاءت به النُّصوصُ إلى مجرَّد صِدقِ المُخْبِر، فما أخبَر بأنه يكونُ فهو واجب؛ لتصديق خبرِه، وما أخبَر أنه لا يكونُ فهو ممتنع؛ لتصديق خبرِه. فالوجوبُ والتحريمُ عندهم راجعٌ إلى مطابقة (1) العلم لمعلومه، والمُخْبَر لخبره. وقد يفسِّرون التَّحريمَ بالامتناع عقلًا، كتحريم الظُّلم على نفسه؛ فإنهم يفسِّرون الظُّلمَ بالمستحيل لذاته، كالجمع بين النَّقيضين، وليس عندهم في المقدور شيءٌ هو ظلمٌ يتنزَّهُ الله عنه مع قدرته عليه، لغِناهُ وحكمته وعدله. فهذا قولُ هؤلاء. والفرقةُ الثَّالثة هم الوَسَطُ بين هاتين الفرقتين: فإنَّ الفرقة الأولى أوجَبَت على الله شريعةً بعقولها، وحرَّمت عليه وأوجَبَت ما لم يحرِّمه على نفسه ولم يُوجِبه على نفسه. والفرقة الثَّانية جوَّزت عليه ما يتعالى ويتنزَّه عنه؛ لمنافاته حكمتَه وحمدَه وكمالَه. والفرقة الوَسَط أثبتَت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتَّحريم الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته، الذي لا يليقُ به نسبتُه إلى ضدِّه؛ لأنه مُوجَبُ كماله وحكمته وعدله، ولم تُدْخِله تحت شريعةٍ وضعَتها بعقولها كما فعلت الفرقةُ الأولى، ولم تجوِّز عليه ما نزَّه نفسَه عنه كما فعلته الفرقةُ الثَّانية. قالت الفرقةُ الوَسَط: قد أخبَر تعالى أنه حرَّم الظُّلمَ على نفسه، كما قال _________ (1) من قوله: «خبره وما أخبر ... » إلى هنا ساقطٌ من (ق).

(2/1124)


على لسان رسوله: «يا عبادي، إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي» (1)، وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصِّلت: 46]، وقال: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]؛ فأخبَر عن تحريمه على نفسه، ونفى عن نفسه فِعلَه وإرادتَه. وللنَّاس في تفسير هذا الظُّلم ثلاثةُ أقوال (2)، بحسب أصولهم وقواعدهم: أحدها: أنَّ الظُّلمَ الذي حرَّمه وتنزَّه عن فعله وإرادته هو نظيرُ الظُّلم من الآدميِّين بعضِهم لبعض (3)، وشبَّهوه في الأفعال ــ ما يحسُن منها وما لا يحسُن ــ بعباده، فضربوا له مِنْ قِبَل أنفسِهم الأمثال، وصاروا بذلك مشبِّهةً ممثِّلةً في الأفعال. فامتنعوا من إثبات المثَل الأعلى الذي أثبته لنفسه، ثمَّ ضربوا له الأمثال ومثَّلوه في أفعاله بخلقه، كما أنَّ الجهميَّة المعَطِّلة امتنعت من إثبات المثَل الأعلى الذي أثبته لنفسه، ثمَّ ضربوا له الأمثالَ ومثَّلوه في صفاته بالجمادات النَّاقصة، بل بالمعدومات. وأهلُ السنَّة نزَّهوه عن هذا وهذا، وأثبتوا له ما أثبته لنفسه من صفات _________ (1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر. (2) انظر: «شرح حديث أبي ذر» ضمن «مجموع الفتاوى» (18/ 137)، و «جامع الرسائل» (1/ 121)، و «منهاج السنة» (1/ 134، 2/ 304، 3/ 20، 5/ 96). (3) وهذا قول المعتزلة. انظر: «المغني» للقاضي عبد الجبار (6/ 127)، و «شرح الأصول الخمسة» (345).

(2/1125)


الكمال، ونزَّهوه فيها عن الشَّبَه والمِثَال، فأثبتوا له المثَل الأعلى، ولم يَضْرِبوا له الأمثال، فكانوا أسعدَ الطَّوائف بمعرفته، وأحقَّهم بالإيمان به وبولايته ومحبته، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء. ثمَّ التزم أصحابُ هذا التَّفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قِبَل لهم به: قالوا عن هذا التفسير الباطل (1): إنه تعالى إذا أمَر العبدَ ولم يُعِنْهُ بجميع مَقْدُوره تعالى من وجوه الإعانة كان ظالمًا له. والتزموا لذلك: أنه لا يَقْدِرُ أن يهديَ ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يَقْدِرُ أن يُضِلَّ مهتديًا. وقالوا عنه أيضًا: إنه إذا أمَر اثنين بأمرٍ واحد، وخَصَّ أحدهما بإعانته على فعل المأمور، كان ظالمًا. وقالوا عنه أيضًا: إنه إذا اشترك اثنان في ذنبٍ يُوجِبُ العقاب، فعاقبَ به أحدَهما، وعفا عن الآخَر، كانَ ظالمًا. إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة التي جَعَلوا لأجلها تركَ تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلمًا. فعارضهم أصحابُ التفسير الثَّاني، وقالوا: الظُّلمُ المنزَّه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوزُ أن يكون مقدورًا، ولا أنه تعالى ترَكه بمشيئته واختياره، وإنما هو من باب الجمع بين الضِّدَّين، وجَعْل الجسم الواحد في مكانَين، وقَلْب القديم مُحْدَثًا والمُحْدَث قديمًا، ونحو ذلك، وإلا فكلُّ ما يقدِّرُه الذِّهنُ، وكان وجودُه ممكنًا، والربُّ قادرٌ عليه؛ فليس بظُلمٍ، سواءٌ _________ (1) الفعل «قالوا» مُضَمَّنٌ معنى «التزَموا».

(2/1126)


فعَله أو لم يفعله (1). وتلقَّى هذا القولَ عنهم طوائفُ من أهل العلم (2)، وفسَّروا الحديثَ به وأسنَدوا ذلك وقوَّوهُ بآياتٍ وآثارٍ زعموا أنها تدلُّ عليه: كقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، يعني لم تتصرَّف في غير مُلكِك، بل إن عذَّبتَ عذَّبتَ من تملِك. وعلى هذا، فجوَّزوا تعذيبَ كلِّ عبد له ولو كان محسِنًا، ولم يرَوا ذلكَ ظلمًا. وبقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وبقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لو عذَّبَ أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم» (3). وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الهمِّ والحزن: «اللهمَّ إني عبدُك وابنُ عبدك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عَدلٌ فيَّ قضاؤك» (4). وبما رُوِي عن إياس بن معاوية قال: ما ناظرتُ بعقلي كلِّه أحدًا إلا القَدَريَّة، قلتُ لهم: ما الظُّلم؟ قالوا: أن تأخذَ ما ليس لك، أو أن تتصرَّف فيما _________ (1) وهذا قول الجهمية والأشاعرة ومن وافقهم. انظر «غاية المرام» للآمدي (245) وحاشيته، و «جامع الرسائل» (1/ 122). (2) من أهل الإثبات، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ومن شرَّاح الحديث. انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 139)، و «منهاج السنة» (2/ 304). (3) تقدم تخريجه (ص: 21). (4) تقدم تخريجه (ص: 817).

(2/1127)


ليس لك. قلت: فللَّه كلُّ شيء (1). والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازمَ باطلة: كقولهم: إنَّ الله تعالى يجوزُ عليه أن يعذِّبَ أنبياءه ورسلَه وملائكتَه وأولياءه وأهلَ طاعته، ويخلِّدهم في العذاب الأليم، ويُكْرِم أعداءه من الكفَّار والمشركين (2) والشياطين، ويخصَّهم بجنَّته وكرامته، وكلاهما عدلٌ وجائزٌ عليه، وأنه يُعْلَمُ أنه لا يفعلُ ذلك بمجرَّد خبره (3)؛ فصار ممتنعًا لإخباره أنه لا يفعلُه لا لمنافاته حكمتَه (4)، ولا فرق بين الأمرين بالنسبة إليه، ولكن أراد هذا وأخبَر به، وأراد الآخرَ وأخبَر به، فوجبَ هذا لإرادته وخبره، وامتنعَ ضدُّه لعدم إرادته واختياره بأنه لا يكون. والتزموا له أيضًا: أنه يجوزُ أن يعذِّبَ الأطفالَ الذين لا ذنبَ لهم أصلًا، ويخلِّدهم في الجحيم. وربَّما قالوا بوقوع ذلك (5). فأنكَر على الطَّائفتين معًا أصحابُ التفسير الثَّالث، وقالوا: الصَّوابُ الذي دلَّت عليه النُّصوص: أنَّ الظُّلمَ الذي حرَّمه اللهُ على نفسه وتنزَّه عنه فعلًا وإرادةً هو ما فسَّره به سلفُ الأمَّة وأئمَّتُها؛ أنه لا يُحْمَلُ عليه (6) سيِّئاتُ _________ (1) أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (946)، واللالكائي (1280)، والبيهقي في «الاعتقاد» (172)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 124). (2) (ت): «الكفار والمنافقين». (3) انظر: «منهاج السنة» (3/ 87)، و «النبوات» (468). (4) (ق) و (ت): «إلا لمنافاته حكمته». وهو تحريف. (5) انظر: «النبوات» (468، 469). (6) أي: على العبد. وسقطت الكلمة من (ق).

(2/1128)


غيره، ولا يعذَّبُ بما لم تكسِب يداه ولم يكن سعى فيه، ولا يُنْقَصُ من حسناته، فلا يجازى بها (1) أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالَها أو اقتصاصَ المظلومين منها (2). وهذا الظُّلمُ الذي نفى اللهُ تعالى خوفَه عن العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، قال السَّلفُ والمفسِّرون: لا يخافُ أن يُحْمَل عليه من سيِّئات غيره، ولا يُنْقَصَ من حسناته ما يتحمَّل (3). فهذا هو المعقولُ من الظُّلم ومِنْ عَدَم خوفِه، وأمَّا الجمعُ بين النَّقيضين وقَلبُ القديم مُحْدَثًا والمُحدَث قديمًا؛ فممَّا يتنزَّه كلامُ آحاد العقلاء عن تسميته ظُلمًا، وعن نفي خوفِه عن العبد، فكيف بكلام ربِّ العالمين؟! وكذلك قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، فنفى أن يكون تعذيبُه لهم ظلمًا، ثمَّ أخبَر أنهم هم الظَّالمون بكفرِهم، ولو كان الظُّلمُ المنفيُّ هو المحالَ لم يحسُن مقابلةُ قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بقوله: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}، بل يقتضي الكلامُ أن يقال: «وما ظلمناهم ولكن تصرَّفنا في مُلكِنا وعبيدنا». فلمَّا نفى الظُّلمَ عن نفسه وأثبته لهم دلَّ على أنَّ الظُّلمَ المنفيَّ هو أن يعذِّبهم بغير جُرْم، وأنه إنما عذَّبهم بجُرْمِهم وظُلمِهم ولا تحتملُ الآيةُ غيرَ هذا، ولا يجوزُ تحريفُ كلام الله لنصرة المقالات. _________ (1) (ت): «ولا يجازى بها». (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 146). (3) انظر: «تفسير الطبري» (18/ 379).

(2/1129)


وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، ولا ريب أنَّ هذا مذكورٌ في سياق التَّحريض على الأعمال الصَّالحة والاستكثار منها؛ فإنَّ صاحبَها يجزى بها، ولا يُنْقَصُ منها بذرَّة، ولهذا يسمِّيه (1) تعالى: تَوْفِيَةً، كقوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]، وقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70]. فتركُ الظُّلم هو العدل، لا فِعلُ كلِّ ممكِن، وعلى هذا قام الحساب، ووُضِعَ الموازينُ القِسْط، ووُزِنت الحسناتُ والسيِّئات، وتفاوتت الدَّرجاتُ العُلى بأهلها، والدَّركاتُ السُّفلى بأهلها. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، أي: لا يضيعُ جزاءَ من أحسَن ولو بمثقال ذرَّة؛ فدلَّ على أنَّ إضاعتَها وتركَ المجازاة بها (2) مع عدم ما يُبْطِلُها ظلمٌ يتعالى الله عنه. ومعلومٌ أنَّ تركَ المجازاة عليها مقدورٌ يتنزَّه الله عنه؛ لكمال عدله وحكمته. ولا تحتملُ الآيةُ قطُّ غيرَ معناها المفهوم منها. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، أي: لا يعاقِبُ العبدَ بغير إساءته، ولا يَحْرِمُه ثوابَ إحسانه (3). ومعلومٌ أنَّ ذلك مقدورٌ له تعالى. _________ (1) (ق): «يسمى». (ت، د): «سمى». والمثبت أشبه. (2) (ت): «وترك الجزاء بها». (3) (ت): «حسناته».

(2/1130)


وهذا نظيرُ قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36 - 39]؛ فأخبَر أنه ليس على أحدٍ مِن وِزْرِ غيرِه شيء، وأنه لا يستحقُّ إلا ما سَعاه، وأنَّ هذا هو العدلُ الذي نزَّه نفسَه عن خلافه. [وقال]: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 30 - 31]؛ بيَّن أنَّ هذا العقابَ لم يكن ظلمًا من الله للعباد، بل لذنوبهم واستحقاقهم. ومعلومٌ أنَّ المحال الذي لا يُمْكِنُ ولا يكونُ مقدورًا أصلًا لا يصلُح أن يُمْدَحَ الممدوحُ بعدم إرادته ولا فعلِه، ولا يُحْمَد على ذلك، وإنما يكونُ المدحُ بترك الأفعال لمن هو قادرٌ عليها وأن يتنزَّه عنها لكماله وغِناه وحمده. وعلى هذا يَتِمُّ (1) قولُه: «إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي»، وما شاكَله من النُّصوص. فأما أن يكون المعنى: إني حرَّمتُ على نفسي ما لا حقيقة له وما ليس بممكِن، مثل خَلْقِ مثلي، ومثل جَعْل القديم مُحْدَثًا والمُحدَث قديمًا، ونحو ذلك من المحالات، ويكون المعنى: إني أخبَرتُ عن نفسي بأنَّ ما لا يكونُ مقدورًا لا يكونُ مني= فهذا مما يتيقَّنُ المُنْصِفُ أنه ليس مرادًا من اللفظ قطعًا، وأنه يجبُ تنزيهُ كلام الله ورسوله عن حمله على مثل ذلك. قالوا: وأمَّا استدلالكم بتلك النُّصوص الدَّالَّة على أنه سبحانه إن عذَّبهم فإنهم عبادُه، وأنه غيرُ ظالمٍ لهم، وأنه لا يُسْألُ عمَّا يفعل، وأنَّ قضاءه فيهم _________ (1) (ت): «هدايتهم». ولعل «يتم» محرفة عن «يُفْهَم»، وكلاهما محتمل.

(2/1131)


عدلٌ، وبمناظرة إياسٍ للقَدَرِيَّة= فهذه النُّصوصُ وأمثالها كلُّها حقٌّ يجبُ القولُ بمُوجَبها، ولا تُحَرَّفُ معانيها، والكلُّ من عند الله، ولكن أيُّ دليلٍ فيها يدلُّ على أنه تعالى يجوزُ عليه أن يعذِّبَ أهلَ طاعته، ويُنَعِّمَ أهلَ معصيته، وأنه يعذِّبُ بغير جُرْم، ويَحْرِمُ المحسِنَ جزاءَ عمله، ونحو ذلك؟! بل كلُّها متفقةٌ متطابقةٌ دالَّةٌ على كمال القدرة، وكمال العدل والحكمة. فالنُّصوصُ التي ذكرناها تقتضي كمالَ عدله وحكمته وغِناه، ووضعَه العقوبةَ والثَّوابَ مواضعَهما وأنه لم يَعْدِلُ بهما عن سَنَنهما. والنُّصوصُ التي ذكرتموها تقتضي كمالَ قدرته وانفرادَه بالرُّبوبيَّة والحُكم، وأنه ليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ يتعقَّبُ أفعالَه بسؤال، وأنه لو عذَّبَ أهلَ سماواته وأرضه لكان ذلك تعذيبًا لحقِّه عليهم، وكانوا إذ ذاك مستحِقِّين للعذاب؛ لأنَّ أعمالهم لا تَفِي بنجاتهم، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لن يُنْجِي أحدًا منكم عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضل» (1). فرحمتُه لهم ليست في مقابلة أعمالهم، ولا هي ثمنًا لها، فإنها خيرٌ منها، كما قال في الحديث نفسه: «ولو رَحِمَهم لكانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم»؛ أي: فجَمَع بين الأمرين في الحديث: أنه لو عذَّبهم لعذَّبهم باستحقاقهم، فلم يكن ظالمًا لهم، وأنه لو رَحِمَهم لكان ذلك مجرَّدَ فضله وكرمه، لا بأعمالهم، إذ رحمتُه خيرٌ من أعمالهم. فصلواتُ الله وسلامُه على من خَرَجَ هذا الكلامُ أوَّلًا من شفتَيه، فإنه _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 20).

(2/1132)


أعرفُ الخلق بالله وبحقِّه، وأعلمُهم به وبعدله وفضله وحكمته، وما يستحقُّه على عباده. وطاعاتُ العباد كلُّها لا تكونُ مقابلةً لنِعَم الله عليهم، ولا مساويةً لها، بل ولا للقليل منها، فكيف يستحِقُّون بها على الله النَّجاة؟! وطاعةُ المطيع لا نسبة لها إلى نعمةٍ من نِعَم الله عليه؛ فتبقى سائرُ النِّعم تتقاضاه شكرًا، والعبدُ لا يقومُ بمقدوره الذي يجبُ لله عليه. فجميعُ عباده تحت عفوه ورحمته وفضله، فما نجا منهم أحدٌ إلا بعفوه ومغفرته، ولا فاز بالجنَّة إلا بفضله ورحمته. وإذا كانت هذه حالَ العباد فلو عذَّبهم لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، لا لكونه قادرًا عليهم وهم مُلْكُه، بل لاستحقاقهم، ولو رَحِمَهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم. وأمَّا قوله: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}؛ فليس المرادُ به أنك قادرٌ عليهم مالِكٌ لهم. وأيُّ مدحٍ في هذا؟! ولو قلتَ لشخص: إن عذَّبتَ فلانًا فإنك قادرٌ على ذلك. أيُّ مدحٍ يكونُ في ذلك؟! بل في ضِمن ذلك الإخبارُ بغاية العدل، وأنه تعالى إن عذَّبهم فإنهم عبادُه الذين أنعمَ عليهم بإيجادهم وخلقِهم ورَزقهم وإحسانه إليهم، لا بوسيلةٍ منهم، ولا في مقابلة بذلٍ بَذَلُوه، بل ابتدأهم بنِعَمه وفضله، فإذا عذَّبهم بعد ذلك وهم عبيدُه لم يعذِّبهم إلا بجُرْمهم واستحقاقهم وظلمِهم، فإنَّ من أنعَم عليهم ابتداءً بجلائل النِّعَم كيف يعذِّبهم بغير استحقاقِ أعظم النِّقَم؟!

(2/1133)


وفيه أيضًا أمرٌ آخرُ ألطفُ مِنْ هذا؛ وهو أنَّ كونهم عبادَه يقتضي عبادتَه وحده وتعظيمَه وإجلاله، كما يُجِلُّ العبدُ سيِّدَه ومالكه الذي لا يصلُ إليه نفعٌ إلا على يده، ولا يدفعُ عنه ضرًّا إلا هو، فإذا كفَروا به أقبحَ الكفر، وأشركوا به أعظمَ الشِّرك، ونسبُوه إلى كلِّ نقيصةٍ مما تكادُ السَّمواتُ يتفطَّرنَ منه وتنشَقُّ الأرضُ وتخرُّ الجبالُ هدًّا= كانوا أحقَّ عباده وأولاهم بالعذاب. والمعنى: هم عبادُك الذين أشركوا بك، وعَدَلوا بك، وجَحَدوا حقَّك؛ فهم عبادٌ مستحِقُّون للعذاب. وفيه أمرٌ آخرُ ــ أيضًا ــ لعلَّه ألطفُ مما قبله، وهو: إن تعذِّبهم فإنهم عبادُك، وشأنُ السيِّد المحسِن المنعِم أن يتعطَّف على عبده ويرحمه ويَحْنُو عليه (1)، فإن عذَّبتَ هؤلاء وهم عبيدُك لا تعذِّبهم إلا باستحقاقهم وإجرامهم، وإلَّا فكيف يشقى العبدُ بسيِّده وهو مطيعٌ له متَّبعٌ لمرضاته؟! فتأمَّل هذه المعاني، ووازِن بينها وبين قول من يقول: «إن تعذِّبهم فأنت الملكُ القادر، وهم المملوكون المربوبون، وإنما تصرَّفتَ في مُلكِك، مِن غير أن يكون قد قام بهم سببُ العذاب»؛ فإنَّ القوم نفاةُ الأسباب، وعندهم أنَّ كفرَ الكافرين وشِرْكَهم ليس سببًا للعذاب، بل العذابُ بمجرَّد المشيئة، ومحض الإرادة. وكذلك الكلامُ في مناظرة إياسٍ للقَدَرِيَّة، إنما أراد بأنَّ التصرُّفات الواقعةَ منه تعالى في مُلْكه لا تكونُ ظلمًا قطُّ، وهذا حقٌّ؛ فإنَّ كلَّ ما فَعَله الرَّبُّ ويفعلُه لا يخرُج عن العدل والحكمة والمصلحة والرَّحمة، فليس في أفعاله ظلمٌ ولا جَورٌ ولا سَفَه؛ وهذا حقٌّ لا ريب فيه، فإياسٌ بيَّن أنه سبحانه _________ (1) (ت): «ويحسن إليه».

(2/1134)


في تصرُّفه في مُلكِه غيرُ ظالم (1). فهذه مجامعُ طُرقِ العالَم في هذا المقام، قد أُلقِيَت إليك مختصرةً بذِكْر قواعدها (2) وأدلَّتها، وترجيح الصَّواب منها وإبطال الباطل، ولعلَّك لا تجدُ هذا التفصيلَ والكلام على هذه المذاهب وأصولها في كتابٍ من كتب القوم، والله تعالى المسؤولُ إتمامَ نعمته، ومزيدَ العلم والهدى، إنه المانُّ بفضله. _________ (1) بموجب حدِّ القدرية للظُّلم. فرأى إياسٌ أن هذا الجواب المطابِقَ لحدِّهم خاصِمٌ لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول. انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 139، 140). (2) (ت): «مختصرة بجوامع قواعدها».

(2/1135)


فصل وكذلك الكلامُ في الإيجاب في حقِّ الله سواء؛ والأقوالُ فيه كالأقوال في التحريم. وقد أخبَر سبحانه عن نفسه أنه كتبَ على نفسه وأحقَّ على نفسه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]. وفي الحديث الصَّحيح أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «أتدري ما حقُّ الله على عباده؟» قلت: الله ورسولُه أعلم. قال: «حقُّه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسولُه أعلم. قال: «حقُّهم عليه أن لا يعذِّبهم» (1). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في غيرِ حديثٍ: من فعلَ كذا كان على الله (2) أن يفعلَ به كذا وكذا. في الوعد والوعيد (3). _________ (1) أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30). (2) (ق): «كان على الله». (3) انظر - مثلًا - في الوعد: «صحيح البخاري» (2790)، وفي الوعيد: «سنن أبي داود» (3680).

(2/1136)


ونظيرُ هذا ما أخبَر به سبحانه مِن قَسَمِه ليفعلنَّ ما أقسَم عليه، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93]، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]، وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]، وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقوله فيما يرويه عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وعزَّتي وجلالي لأقتصَّنَّ للمظلوم من الظَّالم ولو لطمةً، ولو ضربةً بيدٍ» (1). إلى أمثال ذلك من صِيَغ القَسَم المتضمِّن معنى إيجاب المُقْسِم على نفسه أو مَنْعِه نفسَه؛ وهو القَسَمُ الطَّلبيُّ المتضمِّن للحضِّ (2) والمنع، بخلاف القَسَم الخبريِّ المتضمِّن للتصديق أو التكذيب، ولهذا قسَّم الفقهاءُ وغيرهم اليمينَ إلى: مُوجِبةٍ للحضِّ والمنع، أو التصديق والتكذيب (3). _________ (1) أخرجه أحمد (3/ 495)، والبخاري في «الأدب المفرد» (970)، وابن قدامة في «صفة العلو» (42) واللفظ له، وغيرهم من طرقٍ عن جابر، يثبتُ بمجموعها، وصحَّح أحدها الحاكم (2/ 437) ولم يتعقبه الذهبي، وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 404)، وابن حجر في «الفتح» (1/ 174)، وابن ناصر الدين الدمشقي في الجزء الذي أفرده لهذا الحديث (38). (2) (ق، د) في الموضعين: «الحظ». وفي (ت) في الموضع الأول: «الحصر»، وفي الثاني: «الحظر». وكله تحريف. (3) انظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 197، 232)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 87، 94)، و «بدائع الفوائد» (645)، و «الإنصاف» (9/ 106).

(2/1137)


قالوا: وإذا كان معقولًا من العبد أن يكونَ طالبًا من نفسه، وتكون نفسُه طالبةً منه (1)، كقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، مع كون العبد له آمرٌ وناهٍ فوقه= فالربُّ تعالى الذي ليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ كيف يمتنعُ منه أن يكونَ طالبًا من نفسه، فيكتبَ على نفسه، ويُحِقَّ على نفسه، ويحرِّم على نفسه؟! بل ذلك أولى وأحرى في حقِّه من تصوُّره في حقِّ العبد، وقد أخبَر به عن نفسه وأخبَر به عنه رسولُه. قالوا: وكتابُه ما كتبه على نفسه وإحقاقُه ما أحقَّه عليها متضمِّنٌ لإرادته ذلك، ومحبته له، ورضاه به، وأنه لا بدَّ أن يفعله. وتحريمُه ما حرَّمه على نفسه متضمِّنٌ لبغضه لذلك، وكراهته له، وأنه لا يفعلُه. ولا ريب أنَّ محبته لما يريدُ أن يفعلَه ورضاه به يُوجِبُ وقوعَه بمشيئته واختياره، وكراهتَه للفعل وبغضه له يمنعُ وقوعَه (2) منه مع قدرته عليه لو شاءه، وهذا غيرُ ما يحبُّه من فعل عبده ويكرهُه منه، فذاك نوعٌ وهذا نوع، ولمَّا لم يميِّز كثيرٌ من الناس بين النوعين، وأدخلُوهما تحت حكمٍ واحد، اضطربت عليهم مسائلُ القضاء والقَدَر والحِكَم والتعليل. _________ (1) (د، ق): «فيكون نفسه طالبة منها». وفي (ت) «فيكون بنفسه طالبًا منها». ولعل المثبت هو الصواب، وتدلُّ عليه الآياتُ المذكورة بعده. والعبارة في «شرح حديث أبي ذر» ضمن «مجموع الفتاوى» (18/ 150): «وإذا كان معقولًا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا ... »، وهو مصدر المصنف. (2) (ق): «يمتنع وقوعه».

(2/1138)


وبهذا التفصيل يُسْفِرُ لك وجهُ المسألة، ويتبلَّجُ صُبْحُها. ففرقٌ بين فعله هو سبحانه الذي هو فعلُه، وبين فعل عباده الذي هو مفعولُه؛ فمحبتُه تعالى وكراهتُه للأول تُوجِبُ وقوعَه وامتناعَه، وأمَّا محبتُه وكراهتُه للثاني فلا تُوجِبُ وقوعَه ولا امتناعَه. فإنه يحبُّ الطَّاعةَ والإيمانَ من عباده كلِّهم وإن لم تكن محبتُه مُوجِبةً لطاعتهم وإيمانهم جميعًا؛ إذ لم يحبَّ فعلَه الذي هو إعانتُهم وتوفيقُهم وخَلْقُ ذلك لهم، ولو أحبَّ ذلك لاستلزم طاعتَهم وإيمانهم. ويُبْغِضُ معاصيهم وكفرَهم وفسوقَهم، ولم تكن هذه الكراهةُ والبغضُ مانعةً من وقوع ذلك منهم؛ إذ لم يكره سبحانه خذلانهم وإضلالَهم؛ لما له في ذلك من الغايات المحبوبة التي فواتُها يستلزمُ فواتَ ما هو أحبُّ إليه من إيمانهم وطاعتهم، وتَعَقُّلُ ذلك ممَّا يقصُر عنه عقولُ أكثر الناس، وقد أشَرنا إليه فيما تقدَّم من الكتاب (1). فالربُّ تعالى يحبُّ من عباده الطاعةَ والإيمان، ويحبُّ مع ذلك مِن تضرُّعهم وتذلُّلهم وتوبتهم واستغفارهم ومِن توبته ومغفرته وعفوه وصَفْحِه وتجاوزه ما هو ملزومٌ لمعاصيهم وذنوبهم، ووجودُ الملزوم بدون لازمه ممتنع. وإذا عُقِلَ هذا في حقِّ المذنبين فيُعْقَلُ مثلُه في حقِّ الكفار، وأنَّ خَلْقَهم وإضلالَهم لازمٌ لأمورٍ محبوبةٍ للربِّ تعالى لم تكن تحصُل إلا بوجود لازمها؛ إذ وجودُ الملزوم بدون لازمه ممتنع، فكانت تلك الأمورُ المحبوبةُ _________ (1) (ص: 12، 810، 812 - 847).

(2/1139)


والغاياتُ المحمودةُ متوقِّفةً على خلقهم وإضلالهم توقُّفَ الملزوم على لازمه. وهذا فصلٌ معترِضٌ لم يكن مِن غرَضنا، وإن كان أهمَّ ممَّا سُقْنا الكلامَ لأجله. ونكتةُ المسألة: الفرقُ بين ما هو فعلٌ له تستلزمُ محبتُه وقوعَه منه، وبين ما هو مفعولٌ له لا تستلزمُ محبتُه له وقوعَه من عبده. وإذا عُرِفَ هذا، فالظلمُ والكفرُ والفسوقُ والعصيانُ وأنواعُ الشُّرور واقعةٌ في مفعولاته المنفصلة التي لا يتَّصفُ بها، دون أفعاله القائمة به. ومن انكشفَ له هذا المقامُ فَهِمَ معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «والشرُّ ليس إليك» (1). فهذا الفرقُ العظيمُ يزيلُ أكثر الشُّبه التي حارت لها عقولُ كثيرٍ من النَّاس في هذا الباب، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. فما في مخلوقاته ومفعولاته تعالى من الظُّلم والشرِّ فهو بالنسبة إلى فاعله المكلَّف الذي قامَ به الفعل، كما أنه بالنسبة إليه يكون زنًا وسرقةً وعدوانًا وأكلًا وشربًا ونكاحًا، فهو الزاني السارقُ الآكلُ الناكِح، والله خالقُ كلِّ فاعلٍ وفعلِه. وليست نسبةُ هذه الأفعال إلى خالقها كنسبتها إلى فاعلها الذي قامت به، كما أن نسبةَ صفات المخلوقين إليه ــ كطُوله (2) وقِصَره، وحُسْنه وقُبحه، _________ (1) أخرجه مسلم (771) من حديث عليٍّ في دعائه - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل. (2) أي: المخلوق.

(2/1140)


وشكله ولونه ــ ليست كنسبتها إلى خالقها فيه. فتأمَّل هذا الموضع، وأعْطِ الفرقَ حقَّه، وفَرِّق بين النِّسبتَين؛ فكما أن صفات المخلوق ليست صفاتٍ لله بوجهٍ وإن كان هو خالقَها، فكذلك أفعالُه ليست أفعالًا لله تعالى ولا إليه وإن كان هو خالقها. فلنرجِع الآن إلى ما نحنُ بصدده، فنقول: الأمرُ الذي كتَبه على نفسه مستحِقٌّ عليه الحمدَ والثناء، ويتعالى ويتقدَّسُ عن تركه؛ إذ تركُه منافٍ للثَّناء والحمد الذي يستحقُّه عليه، متضمِّنًا لما يستحقُّه من ذلك لذاته (1)، بقَطْع النظر عن كلِّ فعل. وكذلك ما حرَّمه على نفسه هو مستحِقٌّ للحمد والثَّناء على تركه، فهو يتعالى ويتقدَّس عن فعله؛ لأن فعلَه منافٍ لما يستحقُّه من الحمد والثَّناء على تركه، متضمِّنًا (2) لما يستحقُّه لذاته (3). وهذا بحمد الله بيِّنٌ عند من أوتي العلمَ والإيمان، وهو مستقرٌّ في فِطرهم، لا ينسخُه منها شبهاتُ المُبْطِلين. وهذا الموضعُ مما خَفِيَ على طائفتي القَدَرِيَّة والجَبْريَّة، فخَبَطُوا في عشواء، وحَطَبُوا في ليلةٍ ظلماء، والله الموفِّق الهادي للصواب (4). _________ (1) (ق): «لما يستحقه لذاته». (2) (ت): «متضمن». والوجه النصب، كالموضع السابق، حالٌ من الحمد. (3) من قوله: «بقطع النظر ... » إلى هنا ساقط من (ق). (4) انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 149).

(2/1141)


فصل وقد ظهَر بهذا بطلانُ قول الطائفتين معًا: * الذين وَضعوا لله شريعةً بعقولهم، أوجبوا عليه وحرَّموا منها ما لم يُوجِبه على نفسه ولم يحرِّمه على نفسه، وسَوَّوا بينه وبين عباده فيما يحسُن منهم ويقبُح. وبذلك استطال عليهم خصومُهم، وأبدَوا مناقضتَهم، وكشَفوا عوراتهم، وبيَّنوا فضائحَهم. * وكذلك بطلانُ قول الطائفة التي جوَّزت عليه كلَّ شيء، وأنكَرت حكمتَه، وجحدَت في الحقيقة ما يستحقُّه من الحمد والثَّناء على ما يفعلُه مما يُمْدَحُ بفعله، وعلى ترك ما يتركُه مع قدرته عليه مما يُمْدَحُ بتركه، وجعلت النَّوعين واحدًا، ولا فرق عندهم بالنسبة إليه تعالى بين فِعْلِ ما يُمْدَحُ بفعله وبين تركِه، ولا بين تركِ ما يُمْدَحُ بتركه وبين فعلِه. وبهذا تسلَّط عليهم خصومُهم، وأبدَوا مناقضتَهم، وبيَّنوا فضائحَهم. قال المتوسِّطون: وأمَّا نحن فلا يَلْزَمُنا شيءٌ من هذه الفضائح والأباطيل، فإنَّا لم نُوافِق طائفةً من الطائفتين على كلِّ ما قالته، بل وافقنا كلَّ طائفةٍ فيما أصابت فيه الحقَّ، وخالفناها فيما خالفت فيه الحقَّ، فكنَّا أسعدَ به من الطائفتين، ولله المنَّةُ والفضل. وهذا قولُنا قد أوضحناه في هذه المسألة غايةَ الإيضاح، وأفصَحنا عنه بما أمكننا من الإفصاح، فمن وَجَد سبيلًا إلى المعارَضة، أو رامَ طريقًا إلى المناقَضة، فليُبْدِها، فإنَّا من وراء الردِّ عليه، وإهداء عُيوب مقالته إليه، ونحن نعلمُ

(2/1142)


أنه لا يَرُدُّ علينا مقالتنا إلا بإحدى المقالتين اللتَين كشفنا عن عوارهما، وبيَّنا فسادَهما، فلْيستُر عورةَ مقالته، ويُصْلِحْ فسادَها، ويَرُمَّ شَعَثَها، ثمَّ ليَلْقَ خصومَه بها، فالمحاكمةُ إلى النقل الصَّريح والعقل الصَّحيح، والله المستعان. الوجه الثاني والستون: قولكم: «الوجوبُ والتحريمُ بدون الشَّرع ممتنع؛ لأنه لو ثبتَ لقامت الحجَّةُ بدون الرسل، والله سبحانه إنما أقامَ حجَّتَه برسله ... » إلى آخره (1). فيقال: لا ريب أنَّ الوجوبَ والتحريمَ اللذَين هما متعلَّقُ الثواب والعقاب بدون الشَّرع ممتنع، كما قرَّرتموه، والحجَّةُ إنما قامت على العباد بالرُّسل، ولكنَّ هذا الوجوبَ والتحريمَ أخصُّ من مطلق الوجوب والتحريم (2)، ونفيُ الأخصِّ لا يستلزم نفيَ الأعمِّ، فمِنْ أين ينتفي مطلقُ الوجوب والتحريم (3) بمعنى حصول المقتضِي للثواب والعقاب، وإن تخلَّف عنه مقتضاه لقيام مانعٍ أو فواتِ شرط، كما تقدَّم تقريره؟! وقد قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]؛ فأخبَر تعالى أنَّ ما قدَّمت أيديهم سببٌ لإصابة المصيبة إيَّاهم، وأنه سبحانه أرسلَ رسولَه وأنزل كتابَه لئلَّا يقولوا: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}. _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 988). (2) «أخص من مطلق الوجوب والتحريم» ليس من (ت). (3) من قوله: «أخص من مطلق ... » إلى هنا ساقط من (ق)؛ لانتقال النظر.

(2/1143)


فدلَّت الآية على بطلان قول الطائفتين جميعًا: * الذين يقولون: إنَّ أعمالهم قبل البعثة ليست قبيحةً لذاتها، بل إنما قَبُحَت بالنَّهي فقط. * والذين يقولون: إنها قبيحة، ويستحقُّون عليها العقوبةَ عقلًا بدون البعثة. فتضمَّنت الآية بطلانَ قول الطائفتين، ودلَّت على القول الوسط الذي اخترناه ونصَرناه: أنها قبيحةٌ في نفسها، ولا يستحقُّون العقاب إلا بعد إقامة الحجَّة بالرسالة، فلا تلازم (1) بين ثبوت الحُسن والقُبح العقليَّين وبين استحقاق الثَّواب والعقاب (2)، فالأدلَّةُ إنما اقتضت ارتباطَ الثواب والعقاب بالرسالة وتوقُّفهما عليها، ولم تَقْتَض توقُّفَ الحُسن والقُبح بكلِّ اعتبارٍ عليها، وفرقٌ بين الأمرين. الوجه الثالث والستون: قولكم: «كيف يُعْلَمُ أنه سبحانه يجبُ عليه أن يمدَح ويَذُمَّ ويثيبَ ويعاقِبَ على الفعل بمجرد العقل؟ وهل ذلك إلا غيبٌ عنَّا؟ فبم يُعْرَفُ أنه رضي عن فاعلٍ وسخطَ على فاعل، وأنه يثيبُ هذا ويعاقبُ هذا، ولم يُخْبِر عنه بذلك مخبِرٌ صادق، ولا دلَّ على مواقع رضاه وسخطه عقل، ولا أخبَر عن معلومه ومحكومه مخبِر؟ فلم يبقَ إلا قياسُ أفعاله على أفعال عباده، وهو مِنْ أفسد القياس؛ فإنه ليس كمثله شيء» (3). _________ (1) غير محررة في (د)، رسمها ابنُ بردس رسمًا. (2) في الأصول: «الحسن والقبح العقليين بلازم». والمثبت من (ط). (3) انظر ما تقدم (ص: 990) وبينهما اختلافٌ يسيرٌ في بعض الحروف.

(2/1144)


فيقال: هذا لازمٌ للمعتزلة ومن وافقهم، حيث يُوجِبون على الله تعالى ويحرِّمون بالقياس على عباده، ولا ريب أنَّ هذا مِن أفسد القياس وأبطلِه، ولكن مِن أين ينفي ذلك إثباتَ صفاتٍ لأفعالٍ (1) اقتضت حُسْنَها وقُبحَها عقلًا ولم يُعْلَمْ ترتُّبُ الثَّواب والعقاب عليها إلا بالرسالة، كما نصَرناه؟! فأنتم معاشرَ النفاة سلبتُم الأفعالَ خواصَّها وصفاتها التي لا تنفكُّ عنها ولا تُعْقَلُ مجرَّدةً عنها أبدًا، وظننتم أنَّ قولَ المعتزلة الباطل في إيجابها وتحريمها على الله لا يتمُّ إلا بهذا النفي، فأخطأتم في الأمرين معًا، فإنَّ بطلان قولهم لا يتوقَّفُ على نفي الحُسْن والقُبح، ونفيُهما باطل. وخصومُكم من المعتزلة أثبتُوا لله شريعةً عقليَّة أوجبوا عليه فيها وحرَّموا بمقتضى عقولهم، وظنُّوا أنهم لا يمكنُهم إثباتُ الحُسْن والقُبح إلا بذلك، فأخطؤوا في الأمرين معًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يقاسُ بعباده في أفعاله كما لا يقاسُ بهم في ذاته وصفاته، فليس كمثله شيءٌ في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإثباتُ الحُسْن والقُبح لا يستلزمُ هذا الإيجابَ والتحريمَ العقليَّين. فليتأمَّل اللبيبُ هذه الدقائقَ التي هي مجامعُ مآخذ الفِرَق فيها، يتبيَّن أنَّ النَّاسَ إنما تكلَّموا في حواشي المسألة ولم يخوضوا لُجَّتَها ويقتحموا غَمْرَتها، والله المستعان. وأمَّا إلزامُكم لخصومكم من المعتزلة تلك اللوازم (2)، فلا ريب أنها مستلزمةٌ لبطلان قولهم، مع أضعافها من اللوازم التي تبيِّنُ فسادَ مذهبهم، _________ (1) في الأصول: «صفات الأفعال». وفي (ط): «صفات أفعال». (2) انظر ما تقدم (ص: 991 - 999).

(2/1145)


ونحن مُساعِدُوكم عليها، كما لا محيدَ لكم عن إلزاماتهم (1): فمنها: أنكم سَدَدتم على أنفسكم طريقَ الاستدلال بالمعجزة على النبوَّة؛ حيث جوَّزتم على الله أن يؤيِّد بها الكذَّاب كما يؤيِّدَ الصادق، وعندكم أنَّ كلا الأمرين بالنسبة إليه تعالى سواء (2). ولم تعتذروا عن هذا الإلزام المُقاوِم لسائر إلزاماتكم بعذرٍ صحيح، وهذه أعذارُكم مسطورةٌ في الصحائف (3). ومنها: إلزامُ الإفحام (4) بنفي (5) المكلَّف النظرَ في المعجزة؛ لعدم الوجوب عقلًا. واعتذارُكم عن هذا الإلزام بأنَّ الوجوبَ ثابتٌ نَظَر أولم ينظُر اعتذارٌ يُبْطِلُ أصلَكم؛ فإنَّ ثبوتَ الوجوب بدون نظر المكلَّف لو كان شرعيًّا لتوقَّفَ على الشَّرع المتوقِّف في حقِّ المكلَّف على النظر في المعجزة، فلمَّا ثبتَ الوجوبُ وإن لم ينظر في المعجزة عُلِمَ أنَّ الوجوبَ عقليٌّ لا يتوقَّفُ على ثبوت الشَّرع. فإن قيل: هو ثابتٌ في نفس الأمر على تقدير ثبوت الرسالة. _________ (1) في الأصول: «كما لا محيد لهم عن إلزاماتكم». والصواب ما أثبت. أي: لا محيد للنفاة عن إلزامات المعتزلة. (2) انظر: «شرح الأصول الخمسة» (564)، و «النبوات» (234، 480، 550). (3) انظر: «بيان المختصر» (1/ 312)، وشرح العضد (1/ 216)، و «شرح المقاصد» (4/ 159)، و «العلم الشامخ» للمقبلي (121). (4) يعني: إفحام الأنبياء وانقطاعهم وعجزهم عن إثبات نبوتهم. (5) في الأصول: «ونفي». والمثبت أشبه.

(2/1146)


قيل: فحينئذٍ يعودُ الإلزام، وهو أنه لا ينظُر حتى يَجِب، ولا يجبُ حتى تثبُتَ الرسالة، ولا تثبتُ حتى ينظُر. ولهذا عَدَلَ من عَدَلَ إلى مقابلة هذا الإلزام بمثله، وقالوا: «هذا لازمٌ للمعتزلة؛ لأن الوجوبَ عندهم نظري» (1). وهذا لا يغني شيئًا، ولا يدفعُ الإلزامَ المذكور، بل غايتُه مقابلةُ الفاسد بمثله، وهو لا يُجْدِي في دفع الإلزام شيئًا. وهذا يدلُّ على بطلان المقالتين. وأمَّا نحنُ فلنا في دفع هذا الإلزام عشرةُ مسالك، وليس هذا موضعَ هذه المسألة، وإنما المقصودُ أن المعتزلةَ ألزَمت نظيرَ ما ألزموهم به (2). ومنها: إلزامُ التعطيل للشرائع جملة. وقد تقدَّم بيانه قريبًا (3)، حيث بيَّنَّا أنَّ متعلَّقَ الأمر والنهي إنما هو فعلُ العبد الاختياريُّ، فإذا بطلَ أن يكون له فعلٌ اختياريٌّ بطلَ متعلَّقُ الأمر والنهي، فيلزم بطلانُ الأمر والنهي؛ لأنَّ وجودَه بدون متعلَّقه محال. إلى سائر تلك اللوازم التي أسلفناها قبلُ، فلا نطيلُ بإعادتها. قالوا (4): أمَّا نحن، فلا يلزمنا شيءٌ من هذه اللوازم من الطَّرفين، فإنَّا لم _________ (1) انظر: «المواقف» (1/ 164)، و «بيان المختصر» (1/ 309)، و «رفع الحاجب» (1/ 466). (2) انظر: «الصواعق المرسلة» (1437). (3) انظر: (ص: 1120). (4) أي المتوسطون.

(2/1147)


نسلك واحدًا من الطريقين، فلا سبيل لإحدى الطائفتين إلى إلزامنا بلازمٍ واحدٍ باطل، ولله الحمد، فمن رام ذلك فَلْيُبْدِه. فإن قيل: فمِنْ أصلِكم إثباتُ التعليل والحكمة في الخلق والأمر، فما تصنعون بهذه اللوازم التي ألزمناها المعتزلة؟ وماذا جوابكم عنها إذا وجَّهناها إليكم؟ قيل: لا ريب أنَّا نثبتُ لله ما أثبته لنفسه، وشَهِدَت به الفِطرُ والعقولُ من الحكمة في خلقه وأمره، ونقول: إنَّ كلَّ ما خلَقه وأمرَ به فله فيه حكمةٌ بالغة، وآياتٌ باهرة (1)، لأجلها خلقه وأمرَ به، ولكن لا نقول: إنَّ لله تعالى في خلقه وأمره كلِّه حكمةً مماثِلةً لما للمخلوق من ذلك، ولا مشابِهةً له، بل الفرقُ بين الحكمتين كالفرق بين الفعلين، وكالفرق بين الوصفين والذَّاتين، فليس كمثله شيءٌ في وصفه، ولا في فعله، ولا في حكمةٍ مطلوبةٍ له من فعله، بل الفرقُ بين الخالق والمخلوق في ذلك كلِّه أعظمُ فرقٍ وأبينُه (2) وأوضحُه عند العقول والفِطر. وعلى هذا، فجميعُ ما ألزمتموه لأصحاب الصَّلاح والأصلح (3) ــ بل وأضعافُه وأضعافُ أضعافه ــ لله فيه حكمةٌ يختصُّ بها لا يشاركه فيها غيرُه، ولأجلها حسُن منه ذلك، وقبُح من المخلوق؛ لانتفاء تلك الحكمة في حقِّه. وهذا كما يحسُن منه تعالى مدحُ نفسه والثناءُ على نفسه (4)، وإن قبُح _________ (1) (ت): «وآية قاهرة». (2) (ت): «وأثبته». (3) المعتزلة. (4) (ت): «والثناء عليه».

(2/1148)


من أكثر خلقه ذلك، ويليقُ بجلاله الكبرياءُ والعظمة، ويقبُح من خلقه تعاطيهما، كما روى عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الكبرياءُ إزاري، والعظمةُ ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته» (1)، وكما يحسُن منه إماتةُ خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المِحَن، ويقبُح ذلك من خلقه. وهذا أعظمُ من أن تُذْكَر أمثلتُه، فليس بين الله وبين خلقه جامعٌ يوجبُ أن يحسُن منه ما حسُن منهم، ويقبُح منه ما قبُح منهم، وإنما تتوجَّه تلك الإلزاماتُ إلى من قاسَ أفعالَ الله بأفعال عباده، وأمَّا من أثبتَ له حكمةً تختصُّ به (2) لا تُشْبِه ما للمخلوقين من الحكمة فهو عن تلك الإلزامات بمَعْزِل، ومنزلُه منها أبعدُ منزِل. ونكتةُ الفَرق: أنَّ بطلانَ الصَّلاح والأصلح لا يستلزمُ بطلانَ الحكمة والتعليل، والله الموفِّق. الوجه الرابعُ والستون: قولكم: «أنتم فتحتُم بهذه المسألة طريقًا للاستغناء عن النبوَّات، وسلَّطتم عليكم بها الفلاسفةَ والبراهمةَ والصابئةَ وكلَّ منكرٍ للنبوَّات، فإنَّ هذه المسألة بابٌ بيننا وبينهم، فإنكم إذا زعمتم أنَّ في العقل حاكمًا يحسِّنُ ويقبِّح، ويوجبُ ويحرِّم، ويتقاضى الثوابَ والعقاب، لم تكن الحاجةُ إلى البعثة ضروريَّة؛ لإمكان الاستغناء عنها بهذا الحاكم (3) .... » إلى آخره (4). _________ (1) أخرجه مسلم (2620) بنحوه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. (2) (ق): «يختص بها». (3) في الأصول: «فهذا الحاكم». (4) انظر ما تقدم (ص: 999).

(2/1149)


قال المثبتون: هذا كلامٌ هائل، وهو عند التحقيق باطل، لو أنصفَ مُورِدُه لعَلِمَ أنَّا وهو كما قال الأول: «رمتني بدائها وانسلَّت» (1). وقد بيَّنا أنَّ النفاة سدُّوا على أنفسهم طريقَ إثبات النبوَّة بإنكارهم هذه المسألة، وقالوا: إنه يحسُن من الله كلُّ شيء، حتَّى إظهارُ المعجزة على يد الكاذب، ولا فرق بالنسبة إليه (2) بين إظهارها على يد الصادق ويد الكاذب، وليس في العقل ما يدلُّ على استحالة هذا وجواز هذا، وتوقُّفُ معرفته على السمع، لا سيَّما إذا انضمَّ إلى ذلك إنكارُ كون العبد فاعلًا مختارًا (3) البتَّة، فإنَّ ذلك يسُدُّ الباب جملة؛ لأنَّ متعلَّق الأمر والنهي إنما هو أفعالُ العباد الاختياريَّة، فمَن لا فعلَ له ولا اختيارَ أصلًا فكيف يُعْقَلُ أن يكون مأمورًا منهيًّا؟! وقد تقدَّم حديثُ الإفحام وعَجْزُكم عن الجواب عنه. قالوا: وأمَّا نحن؛ فإنَّا سهَّلنا بذلك الطريقَ إلى إثبات النبوَّات، بل لا يمكنُ إثباتُها إلا بالاعتراف بهذه المسألة؛ فإنه إذا ثبتَ أنَّ من الأفعال حسنًا ومنها قبيحًا، وأنَّ إظهارَ المعجزة على يد الكاذب قبيح، وأنَّ الله يتعالى ويتقدَّس عن فعل القبائح= علمنا بذلك صحةَ نبوَّة من أظهرَ الله على يديه الآيات والمعجزات. وأمَّا أنتم فإنكم لا يمكنُكم العلمُ بذلك. قالوا: وكذلك نحن قلنا: إنَّ العبدَ فاعلٌ مختارٌ لفعله، وأوامرُ الشَّرع ونواهيه متوجِّهةٌ إلى مجرَّد فعله الاختياريِّ القائم به، وهو متعلَّقُ الثواب _________ (1) انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 475)، و «مجمع الأمثال» (1/ 286). (2) (ق): «إليها». (ت): «إلى». وهو تحريف. (3) (د، ق): «فاعلًا ولا مختارًا». (ت): « ... ذلك المكان كون العبد لا فاعلًا ولا مختارًا البتة». والمثبت من (ط)، وهو مستقيم.

(2/1150)


والعقاب. وأمَّا أنتم فلا يمكنُكم ذلك؛ لأن تلك الأفعال عندكم هي فعلُ الله في العبد، لا صُنْعَ للعبد فيها أصلًا، فكيف يتوجَّه أمرُ الشَّرع ونهيُه إلى غير فاعل، بل يُؤمَرُ ويُنهى بما لا قدرة له عليه البتَّة، بل بفِعْل غيره؟! قالوا: فليتدبَّر المنصفُ هذا المقام، فإنه يتبيَّنُ له أنه سَدَّ على نفسه طريقَ النبوَّات، وفتحَ بابَ الاستغناء عنها. قالوا: وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه فَطر عبادَه على الفرق بين الحسَن والقبيح، وركَّبَ في عقولهم إدراكَ ذلك والتَّمييزَ بين النوعين، كما فَطرهم على الفرق بين النافع والضَّارِّ، والملائم لهم والمُنافِر، وركَّب في حواسِّهم إدراكَ ذلك والتَّمييزَ بين أنواعه. والفطرةُ الأولى (1) هي خاصَّةُ الإنسان التي تميَّز بها عن غيره من الحيوانات، وأمَّا الفطرةُ الثانية فمشتركةٌ بين أصناف الحيوان (2)، وحجَّةُ الله عليه إنما تقومُ بواسطة الفطرة الأولى، ولهذا اختُصَّ من بين سائر الحيوانات بإرسال الرسل إليه، وبالأمر والنهي، والثَّواب والعقاب، فجَعل سبحانه في عقله ما يفرِّقُ بين الحُسْن والقُبح، وما ينبغي إيثارُه وما ينبغي اجتنابُه، ثمَّ أقام عليه حجَّتَه برسالةٍ بواسطة هذا الحاكم الذي يتمكَّن به من العلم بالرسالة، وحُسْن الإرسال، وحُسْن ما تضمَّنته من الأوامر، وقُبح ما نهت عنه؛ فإنه لولا ما رُكِّبَ في عقله من إدراك ذلك لما أمكنه معرفةُ حسن الرسالة، وحُسْن المأمور، وقُبح المحظور. _________ (1) وهي الفرق بين الحسن والقبيح. والثانية: الفرق بين النافع والضار. (2) (ت): «سائر الحيوانات».

(2/1151)


ولهذا قلنا (1): إنَّ من أنكر الحُسْنَ والقُبحَ العقليَّين لزمه إنكارُ الحُسْن والقُبح الشَّرعيين (2)، وإن زعمَ أنه مُقِرٌّ به؛ فإنَّ إخبارَ الشَّرع عن الفعل بأنه حسنٌ أو قبيحٌ مطابقٌ لكونه في نفسه كذلك، فإذا كان في نفسه ليس بحسنٍ ولا قبيحٍ فإنَّ هذا الخبرَ لا مخبَر له إلا مجرَّدُ تعلُّق: «افعل» أو: «لا تفعل» به، وهذا التعلُّق (3) عندكم جائزٌ أن يكون بخلاف ما هو به، وأن يتعلَّق الطلبُ بالمنهيِّ عنه، والنهيُ بالمأمور به، والتعلُّقُ لم يجعله حسنًا ولا قبيحًا، بل غايته أن جَعل الفعلَ مأمورًا منهيًّا، فعاد الحُسْنُ والقبحُ إلى مجرَّد كونه مأمورًا منهيًّا. ولا فرق عندكم بالنظر إلى ذات الفعل بين النَّوعين، بل ما كان مأمورًا يجوزُ أن يقعَ منهيًّا، وبالعكس، فلم يكتسب الأمرُ والنهيُ صفةَ حُسْنٍ ولا قُبحٍ أصلًا، فلا حُسْنَ ولا قُبحَ إذًا عقلًا ولا شرعًا، وإنما هو تعلُّق الطَّلب بالفعل والتَّرك. وهذا مما لا خلاصَ منه إلا بالقول بأنَّ للأفعال خواصَّ وصفاتٍ عليها في أنفسها اقتضت أن يُؤمَر بحَسَنِها، ويُنهى عن سيِّئها، ويُخْبَر عن حَسَنها بما هو عليه، ويُخْبَر عن قبيحها بما تكونُ عليه (4)، فيكونُ للخبر مخبَرٌ ثابتٌ في نفسه، وللأمر (5) والنهي متعلَّقٌ ثابتٌ في نفسه. _________ (1) (ق، د): «ما قلنا». (2) (ق): «الشرعية». (3) (ت): «التعليق». (4) في الأصول: «ويخبر غيره بقبحها». والمثبت أشبه. (5) في الأصول: «والأمر». وهو تحريف.

(2/1152)


قالوا: فعِلمُه من العقل بحُسن الحسَن وقُبح القبيح، ثمَّ عِلمُه بأنَّ ما أمرت به الرسلُ هو الحَسن، وما نهت عنه هو القبيح= طريقٌ إلى تصديق الرسل، وأنهم جاؤوا بالحقِّ من عند الله. ولهذا قال بعض الأعراب، وقد سئل: بماذا عرفتَ أن محمدًا رسولُ الله؟ فقال: ما أمَر بشيءٍ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمرَ به (1). أفلا ترى هذا الأعرابيَّ كيف جعلَ مطابقةَ الحُسْن والقُبح ــ الذي ركَّب الله في العقول إدراكَه ــ لِمَا جاء به الرسولُ شاهدًا على صحة رسالته وعَلَمًا عليها، ولم يقل: إنَّ ذلك يفتحُ (2) طريقَ الاستغناء عن النبوَّة بحاكم العقل؟! قالوا: وأيضًا؛ فهذا إنما يلزمُ أن لو قيل بأنَّ ما جاءت به الرسلُ ثابتٌ في العقل إدراكُه مفصَّلًا قبل البعثة، فحينئذٍ يقال: هذا يفتح بابَ الاستغناء عن الرسالة. ومعلومٌ أن إثباتَ الحُسْن والقُبح العقليَّين لا يستلزم هذا، ولا يدلُّ عليه، بل غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله. وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد (3). _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 874). (2) (ق): «يقبح». وهو تحريف. (3) يعني: اعتقاد.

(2/1153)


وكذلك يَعْجَزُ عن إدراك حُسْن كلِّ فعلٍ وقُبحه إلى أن تأتي (1) الشرائعُ بتفصيل ذلك وتبيينه (2)، وما أدركه العقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشرائعُ بتقريره، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتد العقلُ لوقت حُسْنِه مِنْ وقتِ قُبحِه أتت الشرائعُ بالأمر به في وقتِ حُسْنِه، وبالنهي عنه في وقتِ قُبحِه. وكذلك الفعلُ يكون مشتملًا على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تَعْلَمُ العقولُ مفسدتَه أرجحَ أم مصلحتَه؟ فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمُر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعلُ يكون مصلحةً لشخصٍ مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يُدْرِكُ ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمُر به من هو مَصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مفسدةٌ في حقِّه. وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظَّاهر، وفي ضِمْنه مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشَّرع، كالجهاد والقَتل في الله. ويكونُ في الظاهر مصلحةً، وفي ضمنه مفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائعُ ببيان ما في ضِمْنه من المصلحة والمفسدة الرَّاجحة. هذا مع أنَّ ما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه مِن حُسْن الأفعال وقُبحها ليس بدون ما تُدْرِكُه (3) من ذلك. _________ (1) في الأصول: «وقبحه وان تاتي». فإن لم يكن سقطٌ فبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (2) (ت): «وتثبيته». (3) أي: العقول. ولعل الصواب: يدركه.

(2/1154)


فالحاجةُ إلى الرُّسل ضروريَّة، بل هي فوق كلِّ حاجة، فليس العالَمُ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى المرسَلين صلواتُ الله وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا يذكِّرُ سبحانه عبادَه نِعَمَه عليهم برسوله، ويَعُدُّ ذلك عليهم من أعظم المِنَن؛ لشدَّة حاجتهم إليه، ولتوقُّف مصالحهم الجزئيَّة والكليَّة عليه، وأنه لا سعادةَ لهم ولا فلاحَ ولا قيامَ إلا بالرُّسل. فإذا كان العقلُ قد أدرك حُسْنَ بعض الأفعال وقُبحَها، فمِن أين له معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وآلائه التي تَعَرَّفَ بها الله إلى عباده على ألسنة رسله؟ ومِن أين له معرفةُ تفاصيل شرعِه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومِن أين له تفاصيلُ مواقع محبته ورضاه، وسَخَطه وكراهته؟ ومِن أين له معرفةُ تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدَّ لأوليائه وما أعدَّ لأعدائه، ومقادير الثَّواب والعقاب، وكيفيَّتهما، ودرجاتهما؟ ومِن أين له معرفةُ الغيب الذي لم يُظْهِر الله عليه أحدًا مِن خلقه إلا من ارتضاه من رسله؟ إلى غير ذلك مما جاءت به الرُّسلُ وبلَّغته عن الله، وليس في العقل طريقٌ إلى معرفته. فكيف يكون معرفةُ حُسْن بعض الأفعال وقُبحِها بالعقل مُغْنِيًا عمَّا جاءت به الرُّسل؟! فظهَر أنَّ ما ذكرتموه مجرَّدُ تهويلٍ مشحونٍ بالأباطيل، والحمد لله. وقد ظهَر بهذا قصورُ الفلاسفة في معرفة النبوَّات، وأنهم لا عِلمَ عندهم بها إلا كعلم عَوَامِّ النَّاس بما عندهم من العقليَّات، بل عِلمُهم بالنُّبوَّات وحقيقتها وعِظَم قَدرها وما جاءت به أقلُّ بكثيرٍ من علم العامَّة بعقليَّاتهم، فهم عوامُّ بالنِّسبة إليها، كما أنَّ من لم يعرف علومَهم عوامُّ بالنِّسبة إليهم! فلولا النُّبوَّاتُ لم يكن في العالَم علمٌ نافعٌ البتَّة، ولا عملٌ صالح، ولا

(2/1155)


صلاحٌ في معيشة، ولا قِوامٌ لمملكة، ولكان النَّاسُ بمنزلة البهائم والسِّباع العادِية والكلاب الضَّارِية التي يَعْدو بعضُها على بعض. وكلُّ زَيْنٍ (1) في العالم فمن آثار النُّبوَّة، وكلُّ شَيْنٍ (2) وقع في العالم أو سيقعُ فبسبب خفاء آثار النُّبوَّةِ ودُروسِها؛ فالعالَمُ حينئذٍ جسدٌ (3) رُوحُه النُّبوَّة، ولا قيام للجسد بدون رُوحه. ولهذا إذا تمَّ انكسافُ شمس النُّبوَّة من العالم، ولم يَبْقَ في الأرض شيءٌ من آثارها البتَّة، انشقَّت سماؤه، وانتثَرت كواكبُه، وكُوِّرت شمسُه، وخُسِفَ قمرُه، ونُسِفت جبالُه، وزُلزِلت أرضُه، وأُهلِك من عليها؛ فلا قيامَ للعالَم إلا بآثار النُّبوَّة. ولهذا كان كلُّ موضعٍ ظهَرت فيه آثارُ النُّبوَّة أهلُه أحسنُ حالًا وأصلحُ بالًا من الموضع الذي يخفى فيه آثارُها. وبالجملة؛ فحاجةُ العالم إلى النُّبوَّة أعظمُ من حاجتهم إلى نور الشمس، وأعظمُ من حاجتهم إلى الماء والهواء الذي لا حياة لهم بدونه. فصل وأمَّا ما ذكره الفلاسفةُ من مقصود الشَّرائع، وأن ذلك لاستكمال النَّفس قُوى العلم والعمل، والشَّرائعُ تَرِدُ بتمهيد ما تقرَّر في العقل لا بتغييره (4) ... _________ (1) (د، ق): «دين». تحريف. (2) في الأصول: «شر». والمثبت أشبه. (3) «جسد» ساقطة من (د، ق). واستُدْرِكت في طرة (ت). (4) (ق): «في العقل بتعبيره». وهو تحريف.

(2/1156)


إلى آخره (1) = فهذا مقامٌ يجبُ الاعتناءُ بشأنه، وأن لا نَضْرِبَ عنه صَفْحًا، فنقولُ: للنَّاس في المقصود بالشَّرائع والأوامر والنَّواهي أربعةُ طرق (2): أحدها: طريقُ من يقولُ من الفلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إلى المِلَل: إنَّ المقصودَ بها تهذيبُ أخلاق النُّفوس وتعديلُها، لتستعدَّ بذلك لقبول الحكمة العِلميَّة والعمليَّة. ومنهم من يقول: لتستعدَّ بذلك لأن تكون محلًّا لانتقاش صُوَر المعقولات (3) فيها. ففائدةُ ذلك عندهم كالفائدة الحاصلة مِن صَقْل المِرآة لتستعدَّ لظهور الصُّوَر فيها، وهؤلاء يجعلون الشرائع من جنس الأخلاق الفاضلة والسِّياسات العادلة. ولهذا رامَ فلاسفةُ الإسلام الجمعَ بين الشَّريعة والفلسفة، كما فعل ابنُ سينا والفارابي وأضرابهما، وآل بهم إلى أن تكلَّموا في خوارق العادات والمعجزات على طريق الفلاسفة المشَّائين (4)، وجعلوا لها أسبابًا ثلاثة: أحدها: القُوى الفلَكيَّة. والثَّاني: القُوى النَّفسيَّة. _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 1000). (2) انظر: «الجواب الصحيح» (6/ 23 - 41). (3) (ق): «الصور المعقولات». (4) أتباع أفلاطون وأرسطو، من فلاسفة اليونان، سمُّوا بذلك لأنهم كانوا يعلِّمون تلاميذهم وهم يمشون. انظر: «أخبار الحكماء» للقفطي (27، 35، 37)، و «درء التعارض» (1/ 157).

(2/1157)


والثالث: القُوى الطَّبيعيَّة (1). وجعلوا جنسَ الخوارق جنسًا واحدًا، وأدخلوا ما للسَّحرة وأرباب الرِّياضة والكهَنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرُّسل في ذلك، وجعَلوا سببَ ذلك كلِّه واحدًا وإن اختلفت بالغايات، والنَّبيُّ قصدُه الخيرُ والسَّاحرُ قصدُه الشرُّ! وهذا المذهبُ مِنْ أفسد مذاهب العالم وأخبثها، وهو مبنيٌّ على إنكار الفاعل المختار، وأنه تعالى لا يعلمُ الجزئيَّات، ولا يَقْدِرُ على تغيير العالَم، ولا يخلُق شيئًا بمشيئته وقدرته، وعلى إنكار الجنِّ والملائكة ومَعَادِ الأجسام. وبالجملة؛ فهو مبنيٌّ على الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس هذا موضعَ الرَّدِّ على هؤلاء، وكَشْف باطلهم وفضائحهم، إذ المقصودُ ذِكرُ طُرق النَّاس في المقصود بالشَّرائع والعبادات. وهذه الفِرقةُ غاية ما عندها في العبادات والأخلاق والحكمة العلميَّة أنهم رأوا النَّفس لها شهوةٌ وغضبٌ بقوَّتها العمليَّة، ولها تصوُّرٌ وعِلمٌ بقوَّتها العلميَّة، فقالوا: كمالُ الشَّهوة في العفَّة، وكمالُ الغضب في الحِلم (2) والشَّجاعة، وكمالُ القوَّة النَّظريَّة بالعلم، والتَّوسُّطُ في جميع ذلك بين طرفي الإفراط والتَّفريط هو العدل. هذا غاية ما عند القوم من المقصود بالعبادات والشَّرائع، وهو عندهم _________ (1) انظر: «الإشارات» لابن سينا (4/ 900)، و «الصفدية» (1/ 165). (2) (ق): «الحكم». وهو تحريف.

(2/1158)


غاية كمال النَّفس، وهو استكمالُ قوَّتيها العِلميَّة والعمليَّة، فاستكمالُ قوَّتها العِلميَّة عندهم بانطباع صُوَر المعلومات في النَّفس، واستكمالُ قوَّتها العمليَّة بالعدل. وهذا غايةُ (1) ما عندهم من العلم والعمل، وليس فيه بيانُ خاصِّيَّة النَّفس التي لا كمال لها بدونه البتَّة، وهو الذي خُلِقت له، وأُريد منها، بل ما عرفه القوم؛ لأنه لم يكن عندهم مِن معرفة متعلَّقه إلا نزرٌ يسيرٌ غيرُ مُجْدٍ ولا محصِّلٍ للمقصود، وذلك معرفةُ الله بأسمائه وصفاته، ومعرفةُ ما ينبغي لجلاله، وما يتعالى ويتقدَّسُ عنه، ومعرفةُ أمره ودينه، والتَّمييزُ بين مواقع رضاه وسخطه، واستفراغُ الوُسْع في التقرُّب إليه، وامتلاءُ القلب بمحبته، بحيث يكون سلطانُ حبِّه قاهرًا لكلِّ محبة. ولا سعادة للعبد في دنياه ولا في أخراه إلا بذلك، ولا كمال للرُّوح بدون ذلك البتَّة، وهذا هو الذي خُلِق له وأُريد منه، بل ولأجله خُلِقت السَّمواتُ والأرض، واتُّخِذَت الجنَّةُ والنَّار، كما سيأتي تقريرُه من أكثر من مئة وجهٍ إن شاء الله (2)، ومعلومٌ أنه ليس عند القوم من هذا خبَر، بل هم في وادٍ وأهلُ الشأن في وادٍ. وهذا هو الدِّينُ الذي أجمعت الأنبياءُ (3) عليه من أوَّلهم إلى خاتمتهم، كلُّهم جاء به وأخبَر عن الله أنه دينُه الذي رَضِيَه لعباده وشَرَعَه لهم وأمرهم به، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ _________ (1) (د، ق): «وهذا مع أنه غاية». (2) لم يقع ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة. (3) (ت): «اجتمعت الأنبياء».

(2/1159)


وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فالغاية الحميدةُ التي يحصُل بها كمالُ بني آدم وسعادتُهم ونجاتُهم هي معرفةُ الله ومحبتُه وعبادتُه وحده لا شريك له، وهي حقيقةُ قول العبد: لا إله إلا الله، وبها بُعِثَت الرُّسل، ونزَلت جميعُ الكتب، ولا تصلُح النَّفس ولا تَزْكو ولا تكمُل إلا بذلك. قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]؛ أي: لا يُؤتونَ ما تَزْكى (1) به أنفسُهم من التَّوحيد والإيمان. ولهذا فسَّرها _________ (1) زَكِيَ يَزْكى، وزكا يزكو، صَلُح وطَهُر. وفي «الجواب الصحيح» (6/ 29): «تزكو».

(2/1160)


غيرُ واحدٍ من السَّلف (1) بأن قالوا: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لا يقولون: لا إله إلا الله. فعبادةُ الله وحده لا شريك له، وأن يكونَ اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، هو أعظمُ وصيَّة جاءت بها الرُّسلُ ودعَوا إليها الأمم. وسنبيِّن ــ إن شاء الله ــ عن قريبٍ بالبراهين الشَّافية أنَّ النَّفس ليس لها نجاةٌ ولا سعادةٌ ولا كمالٌ إلا بأن يكون اللهُ وحده محبوبها ومعبودَها الذي لا أحبَّ إليها منه، ولا آثَر عندها مِن مرضاته والتقرُّب إليه، وأنَّ النَّفس محتاجةٌ بل مضطرَّةٌ إليه [من] حيث هو معبودُها ومحبوبها وغاية مرادها أعظمَ من اضطرارها إليه من حيث هو ربُّها وخالقُها وفاطرُها (2). ولهذا كان مَن آمنَ بالله خالقِه ورازقِه وربِّه ومليكِه، ولم يؤمن بأنه لا إله يُعْبَدُ ويُحَبُّ ويُخْشى ويُخافُ غيرُه، بل أشرَك معه في عبادته غيرَه= فهو كافرٌ به، مشركٌ شركًا لا يغفره الله؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، فأخبَر أنَّ من أحبَّ شيئًا سوى الله مثلَ ما يحبُّ اللهَ فقد اتخذ من دون الله ندًّا. ولهذا يقولُ أهلُ النَّار لمَعْبُودِيهم وهم معهم فيها: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]، وهذه التَّسوية إنما _________ (1) كابن عباس وعكرمة. انظر: «تفسير الطبري» (21/ 430)، و «الدعاء» للطبراني (3/ 1505)، و «الدر المنثور» (7/ 313). (2) لم يقع بيان ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

(2/1161)


كانت في الحبِّ والتَّألُّه، لا في الخلق والقدرة والرُّبوبيَّة، وهي العدلُ الذي أخبَر به عن الكفَّار بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وأصحُّ القولين: أنَّ المعنى: ثمَّ الذين كفروا يعدلون بربِّهم، فيجعلون له عِدلًا (1) يحبُّونه ويعبدونه كما يحبُّون الله ويعبدونه. فما ذكره الفلاسفةُ من الحكمة العِلميَّة والعمليَّة ليس فيها من العلوم والأعمال ما تَسْعَدُ به النُّفوسُ وتنجو به من العذاب؛ فليس في حِكمتهم العِلميَّة إيمانٌ بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رُسله، ولا لقائه، وليس في حِكمتهم العمليَّة عبادتُه وحده لا شريك له، واتِّباعُ مرضاته، واجتنابُ مساخطه، ومعلومٌ أن النُّفوس لا سعادة لها ولا فلاحَ إلا بذلك؛ فليس في حِكمتهم العِلميَّة والعمليَّة ما تَسْعَدُ به النُّفوسُ وتفوز. ولهذا لم يكونوا داخلين في الأمم السُّعداء في الآخرة؛ وهم الأممُ الأربعةُ المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. وهذه الكمالاتُ الأربعةُ التي ذكرها الفلاسفةُ للنَّفس لا بدَّ منها في كمالها وصلاحها، ولكن قصَّروا غاية التَّقصير في أنهم لم يبيِّنوا متعلَّقها، ولم يحدُّوا لها حدًّا فاصلًا بين ما تحصُل به السَّعادة وما لا تحصُل به. _________ (1) (ت): «عديلا». والعِدل والعديل: المِثل والنظير.

(2/1162)


فإنهم لم يَذْكُروا متعلَّق العِفَّة، ولا عمَّاذا تكون؟ ولا مقدارَها الذي إذا تجاوزه العبدُ وقعَ في الفجور، وكذلك الحِلمُ لم يذكُروا مَواقِعَه، ومقداره، وأين يحسُن؟ وأين يقبُح؟، وكذلك الشَّجاعة، وكذلك العلمُ لم يميِّزوا العلمَ الذي تَزكُو به النُّفوسُ وتَسْعَدُ مِن غيره، بل لم يعرفوه أصلًا. وأمَّا الرُّسلُ ــ صلواتُ الله وسلامه عليهم ــ فبيَّنوا ذلك غاية البيان، وفصَّلوه أحسنَ تفصيل، وقد جمع الله ذلك في كتابه في آية واحدة، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فهذه الأنواعُ الأربعةُ التي حرَّمها (1) تحريمًا مطلقًا لم يُبِح منها شيئًا لأحدٍ من الخلق، ولا في حالٍ من الأحوال، بخلاف الميتة والدَّم ولحم الخنزير فإنها تحرُم في حالٍ وتباحُ في حال، وأمَّا هذه الأربعةُ فهي محرَّمةٌ مطلقًا (2). فالفواحشُ متعلِّقةٌ بالشَّهوة، وتعديلُ قوَّة الشَّهوة باجتنابها (3)، والبغيُ بغير الحقِّ متعلِّقٌ بالغضب، وتعديلُ القوَّة الغضبيَّة باجتنابه، والشركُ بالله ظلمٌ عظيم، بل هو الظُّلمُ على الإطلاق، وهو منافٍ للعَدل والعلم (4). _________ (1) «الجواب الصحيح» (6/ 33): «هي التي حرمها». (2) «مطلقًا» ليست في (ق). (3) من هنا سقط على ناسخ (ت) مقدار ورقة. (4) في «الجواب الصحيح» (6/ 33): « ... والشرك بالله فسادُ أصل العدل، فإن الشرك ظلمٌ عظيم، والقول على الله بلا علمٍ فسادٌ في العلم، فقد حرَّم سبحانه هذه الأربعة، وهي فسادُ الشهوة والغضب، وفساد العدل والعلم».

(2/1163)


وقولُه: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] متضمِّنٌ تحريمَ أصل الظُّلم في حقِّ الله، وذلك يستلزمُ إيجابَ العدل في حقِّه، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ فإنَّ النَّفس لها القوَّتان: العِلميَّة والعمليَّة، وعملُ الإنسان عملٌ اختياريٌّ تابعٌ لإرادة العبد، وكلُّ إرادةٍ فلها مُراد (1)، وهو إمَّا مرادٌ لنفسه، وإمَّا مرادٌ لغيره ينتهي إلى المراد لنفسه ولا بدَّ، فالقوَّةُ العمليَّة تستلزمُ أن يكون للنَّفس مرادٌ تُسْتَكمَلُ بإرادته، فإن كان ذلك المرادُ مضمحِلًّا فانيًا زالت الإرادةُ بزواله ولم يكن للنَّفس مرادٌ غيرُه، ففاتها أعظمُ سعادتها وفلاحها؛ فيجب إذًا أن يكون مرادُها الذي تستكملُ بإرادته وحبِّه وإيثاره باقيًا لا يفنى ولا يزول، وليس ذلك إلا الله وحده. وسنذكرُ إن شاء الله عن قريبٍ معنى تعلُّق الإرادة به تعالى، وكونه مرادًا والعبدُ مريدٌ له (2)، فإنَّ هذا مما أشكَل على بعض المتكلِّمين حيث قالوا: إنَّ الإرادة لا تتعلَّقُ إلا بحادث، وأمَّا القديمُ فكيف يكون مرادًا؟، وخَفِيَ عليهم الفرقُ بين الإرادة الغائيَّة والإرادة الفاعليَّة، وجعلوا الإرادتين واحدةً (3). والمقصود: أنَّ هؤلاء الفلاسفةَ لم يذكُروا هذا في كمال النَّفس، وإنما جعلوا كمالها في تعديل الشَّهوة والغضب، والشَّهوةُ هي جلبُ ما ينفعُ البدنَ ويبقي النَّوع، والغضبُ دفعُ ما يضرُّ البدن، وما تعرَّضوا لمراد الرُّوح المحبوب لذاته، وجعلوا كمالَها العلميَّ في مجرَّد العلم، وغلطوا في ذلك _________ (1) (ط): «مراد وكمال». (2) لم يقع ذكر ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة. (3) انظر: «مدارج السالكين» (2/ 364).

(2/1164)


من وجوهٍ كثيرة (1): منها: أنَّ ما ذكروه لا يعطي كمالَ النَّفس الذي خُلِقَت له، كما بينَّاه. ومنها: أنَّ ما ذكروه في كمال القوَّة العمليَّة إنما غايتُه إصلاحُ البدن الذي هو آلةُ النَّفس، ولم يذكروا كمالَ النَّفس الإراديَّ والعمليَّ (2) بالمحبة والخوف والرَّجاء. ومنها: أنَّ كمالَ النَّفس في العلم والإرادة، لا في مجرَّد العلم؛ فإنَّ مجرَّد العلم ليس بكمالٍ للنَّفس ما لم تكن مريدةً محبةً لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته، فالعلمُ المجرَّدُ لا يعطي النَّفس كمالًا ما لم تقترن به الإرادةُ والمحبة. ومنها: أنَّ العلمَ لو كان كمالًا بمجرَّده لم يكن ما عندهم من العلم كمالًا للنَّفس، فإنَّ غاية ما عندهم: * [إمَّا] علومٌ رياضيَّة صحيحة، مصالحُها من جنس مصالح الصِّناعات، وربَّما كانت الصِّناعاتُ أصلحَ وأنفعَ من كثيرٍ منها. * وإمَّا علمٌ طبيعيٌّ صحيح، غايتُه (3) معرفةُ العناصر وبعض خواصِّها وطبائعها، ومعرفةُ بعض ما يتركَّبُ منها، وما يستحيلُ من المركَّبات (4) إليها، _________ (1) انظر: «الصفدية» (2/ 233، 249 وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 94)، و «درء التعارض» (3/ 274)، و «الرد على المنطقيين» (144). (2) (ط): «والعمل». (3) (ق، د): «علم طبيعي غاية صحيحة». والمثبت من (ط)، وهو أشبه. (4) في الأصول: «الموجبات». وهو تحريف. انظر: «التعريفات» (24).

(2/1165)


وبعض ما يقعُ في العالم من الآثار بامتزاجها واختلاطها. وأيُّ كمالٍ للنَّفس في هذا؟! وأيُّ سعادةٍ لها فيه؟! * وإمَّا علمٌ إلهيٌّ كلُّه باطلٌ لم يوفَّقوا لإصابة الحقِّ فيه في مسألةٍ واحدة. ومنها: أنَّ كمالَ النَّفس وسعادتها المستفادَ من الرُّسل ــ صلواتُ الله وسلامُه عليهم ــ ليس عندهم اليوم منه حِسٌّ ولا خبر، ولا عينٌ ولا أثر؛ فهم أبعدُ النَّاس من كمالات النُّفوس وسعاداتها. وإذا عُرِفَ ذلك، وأنه لابدَّ للنَّفس من مرادٍ محبوبٍ لذاته لا تصلُح إلا به، ولا تكمُل إلا بحبِّه وإيثاره وقَطْع العلائق عن غيره، وأنَّ ذلك هو النِّهاية وغاية مطلوبها ومرادها الذي إليه ينتهي الطَّلب، فليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 21 - 22]. وليس صلاحُ الإنسان وجَدُّه وسعادتُه إلا بذلك، بل وكذلك الملائكةُ والجنُّ وكلُّ حيٍّ شاعرٍ (1) لا صلاحَ له إلا بأن يكون الله وحدَه إلهه ومعبودَه وغاية مراده، وسيمرُّ بك إن شاء الله بسطُ القول في ذلك وإقامةُ (2) البراهين على هذا المطلوب الأعظم الذي هو غاية سعادة النُّفوس وأشرفُ مطالبها (3). _________ (1) من الشُّعور. انظر: «درء التعارض» (10/ 94)، و «شفاء العليل» (830). (2) انتهى هنا السقط من (ت). (3) لم يقع ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

(2/1166)


فلنرجِع إلى ما كنَّا فيه من بيان طُرق النَّاس في مقاصد العبادات. الطَّريق الثَّاني: طريقُ من يقولُ من المعتزلة ومن تابعهم: إنَّ الله سبحانه عرَّضهم بها للثَّواب، واستأجَرهم بتلك الأعمال للجزاء، فعاوَضهم عليها معاوَضةً. قالوا: والإنعامُ منه في الآخرة بدون الأعمال غيرُ حسَن؛ لما فيه من تكدير منَّة العطاء ابتداءً، ولما فيه من الإخلال بالمدح والثَّناء والتَّعظيم الذي لا يُسْتَحقُّ إلا بالتكليف. ومنهم من يقول: إنَّ الواجبات الشَّرعيَّة لُطْفٌ في الواجبات العقليَّة. ومنهم من يقول: إنَّ الغاية المقصودة التي يحصُل بها الثَّوابُ هي العمل، والعلمُ وسيلةٌ إليه. حتَّى ربَّما قالوا ذلك في معرفة الله تعالى، وأنها إنما وجبت لأنها لُطْفٌ في أداء الواجبات العمليَّة. وهذه الأقوالُ تَصَوُّرُ العاقلِ اللبيب لها حقَّ التَّصوُّر كافٍ في جزمه ببطلانها، رافعٌ عنه مؤنةَ الرَّدِّ عليها، والوجوه الدَّالَّةُ على بطلانها أكثرُ من أن تُذْكَرَ هاهنا. الطَّريق الثَّالث: طريقُ الجَبْريَّة ومن وافقهم؛ أنَّ الله تعالى سبحانه امتحنَ عبادَه بذلك، وكلَّفهم، لا لحكمةٍ ولا لغاية مطلوبةٍ له ولا بسببٍ (1) من الأسباب، فلا لامُ تعليلٍ ولا باءُ سببٍ، إن هو إلا محضُ المشيئة، وصِرْفُ الإرادة. كما قالوا في الخَلْق سواء. _________ (1) (ت): «لسبب».

(2/1167)


وهؤلاء قابلوا مَن قبلهم من القَدَرِيَّة والمعتزلة أعظمَ مقابلة؛ فهما طرفا نقيضٍ لا يلتقيان. والطَّريق الرَّابع: طريقُ أهل العلم والإيمان الذين عقلُوا عن الله أمرَه ودينَه، وعرفوا مرادَه بما أمرهم ونهاهم عنه، وهي أنَّ نفسَ معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرُّب إليه (1) وابتغاء الوسيلة إليه أمرٌ مقصودٌ لذاته، وأنَّ الله سبحانه يستحقُّه لذاته، وهو سبحانه المحبوبُ لذاته، الذي لا تصلُح العبادةُ والمحبةُ والذُّلُّ والخضوعُ والتَّألُّه إلا له؛ فهو يستحقُّ ذلك لأنه أهلٌ أن يُعْبَد ولو لم يخلُق جنَّةً ولا نارًا، ولو لم يَضَع ثوابًا ولا عقابًا، كما جاء في بعض الآثار: «لو لم أخلُق جنَّةً ولا نارًا، أما كنتُ أهلًا أن أُعْبَد؟» (2). فهو سبحانه يستحقُّ غاية الحبِّ والطَّاعة والثَّناء والمجد والتَّعظيم؛ لذاته، ولما له من أوصاف الكمال ونُعوت الجلال. وحبُّه والرِّضا به وعنه والذُّلُّ له والخضوعُ والتَّعبُّدُ هو غاية سعادة النَّفس وكمالها، والنَّفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقدَ روحَه وحياتَه، والعين التي فقدت ضوءها ونورَها، بل أسوأ حالًا من ذلك مِنْ وجهين: أحدهما: أنَّ غاية الجسد إذا فقدَ روحَه أن يصيرَ معطَّلًا ميتًا، وكذلك العينُ تصيرُ معطَّلة، وأمَّا النَّفس إذا فقدت كمالَها المذكورَ فإنها تبقى معذَّبةً متألِّمة، وكلَّما اشتدَّ حجابُها اشتدَّ عذابُها وألمُها، وشاهدُ هذا ما يجدُه المُحِبُّ الصادقُ المحبةِ من العذاب والألم عند احتجاب محبوبه عنه، ولا _________ (1) (ت، ص): «والندب إليه». (2) تقدم تخريجه (ص: 1078).

(2/1168)


سيَّما إذا يئسَ من قُرْبِه، وحَظِيَ غيرُه بحبِّه ووَصْلِه، هذا مع إمكان التَّعوُّض (1) عنه بمحبوبٍ آخرَ نظيرِه أو خيرٍ منه، فكيف بروحٍ فقدت محبوبَها الحقَّ الذي لم تُخْلَق إلا لمحبته، ولا كمال لها ولا صلاحَ أصلًا إلا بأن يكون أحبَّ إليها من كلِّ ما سواه؟! وهو محبوبُها الذي لا يعوِّض عنه سواه بوجهٍ ما (2)، كما قال القائل: مِنْ كلِّ شيءٍ إذا ضيَّعتَه عِوَضٌ ... وما مِن الله إن ضيَّعتَه عِوَضُ (3) ولو لم يكن احتجابُه سبحانه عن عبده أشدَّ أنواع العذاب عليه لم يتوعَّد (4) به أعداءه؛ كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16]؛ فأخبَر أنَّ لهم عذابين: أحدهما: عذابُ الحجاب عنه. والثَّاني: صِلِيُّ الجحيم. وأحدُ العذابين أشدُّ من الآخر. _________ (1) (ص): «التعويض». (2) (ق): «تعوض منه سواه بوجه ما». (ت): «تعويض منه سواه بوجه». (د): «يعوض منه سواه بوجه ما». (ص): «تعوض عنه بوجه». والمثبت أشبه. (3) أصله في «الأنساب» (11/ 397)، و «دمية القصر» (1338)، و «المحمدون» للقفطي (149)، رآه أبو جعفر المعدني مكتوبًا على جدار، فأجازه. وهو في «طبقات الشافعية» (8/ 228)، و «زاد المعاد» (4/ 173)، و «الداء والدواء» (173، 462) دون نسبة. (4) كذا في الأصول، بلا ألف. وانظر ما تقدم (ص: 270، 494).

(2/1169)


وهذا كما أنه سبحانه يُنْعِمُ على أوليائه بنعيمَين (1): * نعيم كَشْفِ الحجاب، فينظرون إليه. * ونعيم الجنَّة وما فيها. وأحدُ النَّعيمَين أحبُّ إليهم من الآخر، وآثَر عندهم، وأقرُّ لعيونهم، كما في «الصَّحيح» عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ نادى مُنادٍ: يا أهل الجنَّة، إنَّ لكم عند الله موعدًا يريدُ أن يُنْجِزَكُموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيِّض وجوهَنا، ويُثَقِّل موازينَنا، ويُدْخِلنا الجنَّة، ويُجِرْنا من النَّار؟ قال: فيكشفُ الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظر إليه» (2). وفي حديثٍ غير هذا: أنهم إذا نظروا إلى ربِّهم تبارك وتعالى أنساهم لذَّةُ النَّظر إليه ما هم فيه من النَّعيم (3). والوجه الثَّاني: أنَّ البدنَ والأعضاء آلاتٌ للنَّفس، ورعيَّة للقلب، وخَدَمٌ له، فإذا فقَد بعضُهم كمالَه الذي خُلِقَ له كان بمنزلة هلاك بعض جُند الملك ورعيَّته، وتعطُّل بعض آلاته، وقد لا يلحقُ الملكَ من ذلك ضررٌ أصلًا، وأمَّا إذا فقَد القلبُ كمالَه الذي خُلِقَ له وحياتَه ونعيمَه كان بمنزلة هلاك المَلك وأسْرِه، وذهاب مُلكه من يديه، وصَيْرورته أسيرًا في أيدي أعاديه. _________ (1) (د): «بنعمتين»، وفي الطرة: «لعله: بنعيمين». (2) أخرجه مسلم (181)، وابن حبان (7441) واللفظ له. (3) أخرجه عبد بن حميد (849 - المنتخب)، والدارمي في «الرد على الجهمية» (189)، و «النقض على بشر المريسي» (229)، وغيرهما من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسنادٍ فيه انقطاع. وانظر: «الشريعة» للآجري (572).

(2/1170)


فهكذا الروحُ إذا عدمت كمالها وصلاحَها من معرفة فاطرها وبارئها، وكَوْنه أحبَّ شيءٍ إليها، ورضاه وابتغاء الوسيلة إليه آثرُ شيءٍ عندها، حتَّى يكونُ اهتمامُها بمحبته ومرضاته اهتمامَ المُحِبِّ التَّامِّ المحبة بمرضاة محبوبه الذي لا يجدُ منه عوضًا= كانت بمنزلة المَلك الذي ذهب منه مُلكه، وأصبحَ أسيرًا في أيدي أعاديه يسومونه سوءَ العذاب. وهذا الألمُ كامنٌ في النَّفس، لكن يسترُه سُكْرُ الشَّهوات، ويواريه حجابُ الغفلة، حتَّى إذا كُشِفَ الغطاء، وحِيلَ بين العبد وبين ما يشتهي، وجَد حقيقةَ ذلك الألم، وذاق طعمَه، وتجرَّد ألمُه عمَّا يحجبُه ويواريه. وهذا أمرٌ يُدْرَكُ بالعِيان والتَّجربة في هذه الدَّار؛ تكون الأسبابُ المؤلمةُ للرُّوح والبدن موجودةً مقتضية لآثارها، ولكن يقومُ للقلب مِن فرحه بحظٍّ ناله من مالٍ أو جاهٍ أو وِصَالِ حبيبٍ ما يواري عنه شُهودَ الألم، وربَّما لا يشعُر به أصلًا، فإذا زال المُعارِضُ (1) ذاق طعمَ الألم، ووجَد مسَّه، ومن اعتبر أحوالَ نفسه وغيره عَلِمَ ذلك. فإذا كان هذا في هذه الدَّار، فما الظَّنُّ عند المفارقة والفِطام عن الدُّنيا، والانتقال إلى الله والمصير إليه؟! فليتأمَّل العاقلُ الفَطِنُ النَّاصحُ لنفسه هذا الموضعَ حقَّ التَّأمُّل، ولْيَشْغَل به محلَّ أفكاره (2)، فإن فَهِمَه وعَقَله واستمرَّ إعراضُه: _________ (1) (ت): «العارض». (2) (ط): «كل أفكاره». وفي (ق): «وليشعل» بالمهملة.

(2/1171)


فما تَبْلُغُ الأعداءُ من جاهلٍ ... ما يَبْلُغُ الجاهلُ من نفسِه (1) وإن لم يفْهَمه لغِلَظِ حجابه، وكثافة طبعِه، فيكفيه الإيمانُ بما أعدَّ الله تعالى في الجنَّة لأهلها من نعيم الأكل والشُّرب والنكاح والمَناظر المُبْهِجة، وما أعَدَّ في النَّار لأهلها من السَّلاسل والأغلال والحَمِيم ومُقَطَّعات الثِّياب من النَّار ونحو ذلك. والمقصود بيانُ أن الحاجةَ إلى الرسل ــ صلواتُ الله عليهم وسلامه ــ ضروريَّة، بل هي في أعلى مراتب الضرورة، وليست نظيرًا (2) لحاجتهم إلى الحياة (3) وأسبابها، بل هي أعظمُ من ذلك. وأمَّا ما ذُكِر عن الصَّابئة من الاستغناء عن النبوَّة، فهذا ليس مذهبًا لجميعهم، بل فيهم سعيدٌ وشقيٌّ، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فأدخَل المؤمنين من الصَّابئين في أهل السَّعادة، ولم ينالوا ذلك إلا بالإيمان بالرسل، ولكنَّ منهم من أنكر النبوَّات وعبَد الكواكب، وهم فِرقٌ كثيرةٌ ليس هذا موضع ذكرهم (4). _________ (1) من أبياتٍ مشهورة لصالح بن عبد القدوس، في «الحماسة البصرية» (2/ 40)، و «العقد» (2/ 436)، و «المنتخل» (599)، وغيرها. (2) في الأصول: «نظرًا». والمثبت أشبه. (3) غير محررة في (د)، وفي (ق، ت): «الحاجة». والمثبت أدنى إلى الصواب. انظر: «زاد المعاد» (1/ 69)، و «الفوائد» (227). (4) انظر ما تقدم (ص: 1002) والتعليق عليه.

(2/1172)


فأمَّا قولهم: «إنَّ الموجودات في العالم السُّفليِّ مركَّبةٌ على تأثير الكواكب والرُّوحانيات، وفي اتصالها سُعودٌ ونُحوسٌ يوجبُ أن يكون في آثارها حُسْنٌ وقُبحٌ في الأخلاق والأعمال يدركه كلُّ ذي عقلٍ سليم، فلا حاجة لنا إلى من يعرِّفنا حُسْنَها وقُبحَها ... » إلى آخر كلامهم (1)؛ فكلامُ من هو أجهلُ النَّاس وأضلُّهم وأبعدُهم عن الإنسانيَّة (2). وقائلُ هذه المقالة منادٍ على نفسه أنه لم يعرف فاطرَه فاطرَ السموات والأرض، ولا صفاته ولا أفعالَه، بل ولا عرَف نفسَه التي بين جنبَيْه، ولا ما يُسْعِدُها ويُشْقِيها، ولا غايتَها، ولا لماذا خُلِقَت؟ ولا بماذا تكمُل وتصلُح؟ وبماذا تفسُد وتهلَك؟ بل هو أجهلُ الناس بنفسه وبفاطرها وبارئها. وهل يتمكَّنُ العقلُ بعد معرفة النَّفس ومعرفة فاطرها ومبدعِها أن يجحَد النبوَّة، أو يجوِّز على الله وعلى حكمته أن يترك النَّوعَ البشريَّ ــ الذي هو خلاصةُ المخلوقات ــ سُدى ويدعَهم هملًا معطَّلًا، ويخلقهم عبثًا باطلًا؟! ومن جوَّز ذلك على الله سبحانه فما قدَرَه حقَّ قَدْرِه، بل ولا عرَفه، ولا آمن به؛ قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأخبَر تعالى أنَّ من جحَد رسالاته فما قَدَرَه حقَّ قَدْرِه ولا عرَفه، ولا عظَّمه، ولا نزَّهه عمَّا لا يليقُ به، تعالى الله عما يقولُ الظَّالمون علوًّا كبيرًا. _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 1002). (2) يعني: حقيقة الإنسان. انظر: «زاد المعاد» (4/ 12).

(3/1173)


ثمَّ يقالُ لهذه الطَّائفة: بماذا عرفتم أنَّ الموجودات في العالم السُّفليِّ كلها مركَّبةٌ على تأثير الكواكب والرُّوحانيات؟! وهل هذا إلا كذبٌ بَحْتٌ (1) وبَهْت؟! فهَبْ أنَّ بعض الآثار المشاهَدة مُسَبَّبٌ عن تأثير بعض الكواكب والعُلْويَّات، كما يُشاهَدُ مِن تأثير الشَّمس والقمر في الحيوان والنبات وغيرهما، فمِن أين لكم أنَّ جميعَ أجزاء العالم السُّفليِّ صادرٌ عن تأثير الكواكب والروحانيات؟! وهل هذا إلا كذبٌ وجهل؟! فهذا العالَم فيه من التغيُّر والاستحالة والكَوْن والفساد ما لا يمكنُ إضافتُه إلى كوكب، ولا يُتَصَوَّرُ وقوعُه إلا بمشيئةِ فاعلٍ مختارٍ قادرٍ قاهرٍ مؤثِّرٍ في الكواكبِ والرُّوحانيات، مسخِّرٍ لها بقدرته، مدبِّرٍ لها (2) بمشيئته، كما تشهدُ عليها أحوالُها وهيآتها وتسخيرُها وانقيادُها أنها مدبَّرةٌ مربوبةٌ مسخَّرةٌ بأمرِ قاهرٍ قادر، يصرِّفها كيف يشاء، ويدبِّرها كما يريد، ليس لها من الأمر شيء، ولا يمكنُ أن تتصرَّف بأنفسها بذَرَّة، فضلًا أن تعطي العالَمَ وجودَه، فلو أرادت حركةً غيرَ حركتها أو مكانًا غيرَ مكانها أو هيئةً أو حالًا غيرَ ما هي عليه لم تجد إلى ذلك سبيلًا. فكيف تكونُ ربًّا لكلِّ ما تحتها مع كونها عاجزةً مُصَرَّفةً مقهورةً مسخَّرة، آثارُ الفقر مسطورةٌ في صفحاتها (3)، وآياتُ العبوديَّة والتَّسخير باديةٌ عليها، فبأيِّ اعتبارٍ نظَر إليها العاقلُ رأى آثارَ الفقر وشواهدَ الحدوث وأدلَّة التَّسخير _________ (1) (ت): «كذب وحنث». (2) (ت، ق): «بها». وهو تحريف. (3) (ت): «آثار القهر مسطرة في صفحاتها».

(3/1174)


والتصريف فيها، فهي خلقُ مَن ليس كمثله شيء، وآياتُ مَن آياتُه عبيدٌ مسخَّراتٌ بأمره، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. وأمَّا قولهم: «إنَّ في اتصالات الكواكب نَظَرَ سُعودٍ ونُحوس»، فممَّا أضحكوا به العقلاء عليهم من جميع الأمم، ونادَوا به على جهلهم وضلالهم، وصاروا به مركزًا لكلِّ كذاب، وكلِّ أفَّاك، وكلِّ زنديق، وكلِّ مُفْرِطٍ في الجهل بالنبوَّات وما جاءت به الرُّسل، بل بالحقائق (1) العقليَّة والبراهين اليقينيَّة. وسنُريك طرفًا من جهالاتهم وكذبهم وتناقضهم وبطلان مقالتهم؛ ليعرفَ اللبيبُ نعمةَ الله عليه في عقله ودينه. فيقال لهم (2): المؤثِّرُ في هذه السُّعود والنُّحوس، هل هو الكوكبُ وحده، أو البرجُ وحده، أو الكوكبُ بشرط حصوله في البرج؟ والكلُّ محال: * أمَّا الأوَّل والثاني، فإنهما يوجبان دوامَ الأثر؛ لكون المؤثِّر دائمَ الثبوت. * والثالثُ أيضًا محال؛ لأنه لما اختلف أثرُ الكوكب بسبب اختلاف البُرجَيْن لَزِم أن تكون طبيعةُ كلِّ برجٍ مخالفةً (3) بالماهيَّة لطبيعة البرج _________ (1) سقطت «بل» من (ق، ت)، فاختلَّ المعنى. (2) وهذا هو الوجه الأول من وجوه الرد عليهم وإبطال علم أحكام النجوم. وانظر له: «شرح نهج البلاغة» (6/ 203). (3) في الأصول: «مخالف». والمثبت من (ط).

(3/1175)


الثاني، إذ لو لم يكن كذلك كانت طبائعُ جميع البروج متساويةً في تمام الماهيَّة، فوجبَ أن يكون أثرُ الكوكب في جميع البروج أثرًا واحدًا؛ لأنَّ الأشياء المتساوية في تمام الماهيَّة يمتنعُ أن تَلْزَمها لوازمُ مختلفة. ولمَّا كانت آثارُ كلِّ كوكبٍ واجبةَ الاختلاف بسبب اختلاف البروج لَزِمَ القطعُ بكون البروج مختلفةً في الطبيعة والماهيَّة، وهذا يقتضي كونَ الفلَك مركَّبًا لا بسيطًا، وقد قلتم أنتم وجميع الفلاسفة: إنَّ الفلَك بسيطٌ لا تركيبَ فيه (1). ومن العجَب جوابُ بعض الأحكاميِّين (2) عن هذا بأنَّ الكواكبَ حيواناتٌ ناطقةٌ فاعلةٌ بالقصد والاختيار، فلذلك تَصْدُر عنها الأفعالُ المختلفة! وهذا مكابرةٌ من هؤلاء ظاهرة؛ فإنَّ دلائل التَّسخير والاضطرار عليها مِنْ لزومها حركةً لا سبيلَ لها إلى الخروج عنها، ولزومها موضعًا من الفلَك لا تتمكنُ من الانتقال عنه، واطِّراد سَيْرِها على وجهٍ مخصوصٍ لا تفارقُه البتَّة= أبينُ دليلٍ على أنها مسخَّرة مقهورةٌ على حركاتها، محرَّكةٌ بتحريكِ قاهرٍ لها، لا متحركةٌ بإرادتها واختيارها، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. ثم يقال: لا ينفعكم هذا الجوابُ شيئًا؛ فإنَّ طبائعَ البروج إن كانت متساويةً في تمام الماهيَّة كان اختصاصُ كلِّ برجٍ بأثره الخاصِّ ترجيحًا _________ (1) انظر: «نكت الهميان» (65). (2) نسبة إلى علم أحكام النُّجوم الذي استطرد المصنفُ ببيان بطلانه وتهافته.

(3/1176)


لأحد طرفي الممكِن على الآخر بلا مرجِّح، وإن لم تكن متساويةً لَزِم تركيبُ الفلَك. ومما أضحكتم به العقلاءَ منكم أنكم جعلتموها أحياءً (1) ناطقةً فاعلةً بالاختيار، ونفيتم أن يكون فاطرُها ومبدعُها حيًّا قيومًا فاعلًا بالاختيار، وهذه الحوادثُ مستندةٌ إلى مشيئته (2) واختياره، جاريةٌ على وَفْقِ حكمته وعلمه، مع كون هذه الكواكب عبيدَه وخلقًا مسخَّرًا بأمره، ولا تملكُ لأنفسها ولا لما تحتها ضرًّا ولا نفعًا، ولا سَعْدًا ولا نَحْسًا، كما قاله العقلاءُ من بني آدم، واتفقت عليه الرسلُ وأتباعهم. فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ الفلَك بسيط، بل هو مركَّبٌ من هذه البروج، وطبيعةُ كلِّ برجٍ مخالفةٌ لطبيعة البرج الآخر، بل طبيعةُ كلِّ دقيقةٍ وثانية مخالفةٌ لطبيعة الدَّقيقة الأخرى والثانية الأخرى، ولا يتمُّ علمُ الأحكام إلا بهذا. قيل: قولكم بأنه قديمٌ أبديٌّ (3) غيرُ قابلٍ للكَوْن والفساد، ولا يقبلُ الانحلالَ ولا الخَرْق ولا الالتئام، مع كون كلِّ جزءٍ منه صغُر أو كبُر (4) طبيعتُه مخالفةٌ لطبيعة الجزء الآخر، كما صرَّح به أبو معشر (5) = جمعٌ بين النقيضين؛ فإنه إذا كان مركبًا من أجزاءٍ مختلفة الماهيَّة لم يمتنع انحلالُه _________ (1) (ق): «أجساما». (ت، د): «احيانا»، وصحِّحت في طرة (د) إلى «أجساما». وهو تحريفٌ عن المثبت، كأن المصنف رسمها: «أحيائا». وقد سلف قبل قليل قوله: «حيوانات ناطقة». وانظر: «الروح» (542)، و «الصفدية» (1/ 193). (2) (ت): «مشيئته وفعله». (3) (ت): «أزلي». (4) (ت): «صغيرا أو لا كبيرا». (5) من رؤوس هذه الصناعة، وسيأتي التعريف به (ص: 1224).

(3/1177)


وانقطاعه (1) وانشقاقُه، فكيف جمعتم بين تكذيب الرسل في الإخبار عن انقطاعه وانشقاقه وانحلاله، وبين دعواكم تركُّبه من ماهيَّاتٍ مختلفةٍ في أنفسها غير ممتنعٍ على المركَّب منها الانحلالُ والانفطار؟! فلا للرسل صدَّقتم، ولا مع وجوب العقل وقفتم، بل أنتم من أهل هذه الآية: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنَّ كلَّ برجٍ من البروج الاثني عشر قد ارتسَمَت فيه كواكبُ صغيرةٌ بلغت في الصِّغر إلى حيث لا يمكننا أن نُحِسَّ بهم، ثم إنَّ الكوكبَ إذا وقعَ في مُسَامَتة برجٍ خاصٍّ امتزج نورُ ذلك الكوكب بأنوار تلك الكواكب الصِّغار المُرْتَسِمَة في تلك القطعة من الفلَك، فيحصُل بهذا السبب آثارٌ مخصوصة؟ وإذا كان هذا محتملًا ــ ولم يبطُل بالدليل ثبوتُه ــ تعيَّن المصيرُ إليه. قيل: طبائعُ تلك الكواكب إن كانت مختلفةً بالماهيَّة عاد المحذورُ المذكور، وإن كانت واحدةً لم يكن ذلك الامتزاجُ إلا متشابهًا (2)، فلا يُتَصَوَّرُ صدورُ الآثار المتضادَّة المختلفة عنه. الوجه الثاني من الكلام على بطلان علم الأحكام: أنَّ معرفة جميع المؤثِّرات (3) الفلَكيَّة ممتنعة، وإذا كان كذلك امتنعَ الاستدلالُ بالأحوال الفلَكيَّة على حدوث الحوادث السُّفليَّة. _________ (1) (ق، د): «وانفطاره». (2) سقطت «إلا» من (ق)، فأفسدت المعنى. (3) (ت): «المدبرات».

(3/1178)


وإنما قلنا: إنَّ معرفة جميع المؤثِّرات الفلَكيَّة ممتنعة، لوجوه (1): أحدها: أنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القُوى (2) الباصِرة، والمرئيُّ إذا كان صغيرًا أو في غاية البُعْدِ من الرَّائي فإنه يتعذَّرُ رؤيتُه لذلك؛ فإن أصغر الكواكب التي في فلَك الثَّوابت ــ وهو الذي تُمْتَحَنُ به قوَّةُ البصر ــ مثلُ كرة الأرض بضعةَ عشر مرَّة (3)، وكرةُ الأرض أعظمُ من كرة عُطارِد كذا مرَّة (4). فلو قدَّرنا أنه حَصَل في الفلَك الأعظم كواكبُ كثيرةٌ يكونُ حجمُ كلِّ واحدٍ منها مساويًا لحجم عُطارِد، فإنه لا شك أنَّ البصرَ لا يقوى على إدراكه؛ فثبت أنه لا يلزمُ مِنْ عدم إبصارنا شيئًا من الكواكب في الفلَك الأعظم عدمُ تلك الكواكب. وإذا كان كذلك، فاحتمالُ أنَّ في الفلَك الأعظم وفي فلك الثَّوابت وفي سائر الأفلاك كواكبَ صغيرةً ــ وإن كنَّا لا نحسُّ بها ولا نراها ــ يُوجِبُ امتناع معرفة جميع المؤثِّرات الفلَكيَّة (5). _________ (1) من «السر المكتوم» للرازي (9 - 10)، ومطبوعته الحجرية عامرة بالتحريف. (2) «السر المكتوم»: «القوة». (3) لعل المقصود: السُّها. وبه جرى المثل في قولهم: «أريه السُّها ويريني القمر». وهو كويكبٌ صغيرٌ جدًّا يكاد يلزق بالكوكب الأوسط من بنات نعش. قال المرزوقي في «الأزمنة والأمكنة» (2/ 373): «والنَّاس يمتحنون به أبصارهم، فمن ضعُف بصره لم يره». (4) (ت): «هذا ألف مرَّة». «السر المكتوم»: «كذا ألف مرة». وليسا بشيء. والأرض أكبر من عطارد سبع عشرة مرة تقريبًا عند القدماء. انظر: «الزيج الصابي» للبتاني (182). (5) انظر: «القانون المسعودي» للبيروني (3/ 1010)، و «صور الكواكب الثمانية والأربعين» للصوفي (19، 20).

(3/1179)


فإن قلتم: إنها لمَّا كانت صغيرةً وآثارُها ضعيفةً لم تَصِل آثارُها وقُواها إلى هذا العالم. قيل لكم: صِغَرُ الجُثَّة لا يوجبُ ضعفَ الأثر؛ فإنَّ عُطارِد أصغرُ الأجرام الفلَكيَّة جِرمًا عندكم، مع أنَّ آثاره قويَّة. وأيضًا؛ فالرَّأسُ والذَّنَبُ نقطتان وهميَّتان (1)، وأنتم فقد أثبتُّم لهما آثارًا. وأيضًا؛ السِّهام ــ مثل: سهم السَّعادة، وسهم الغيب (2) ــ نُقَطٌ وهميَّة، ولها عندكم آثارٌ قويَّة (3). الوجه الثاني مما يدلُّ على أنَّ معرفة جميع المؤثِّرات الفلَكيَّة غيرُ معلوم: أنَّ الكواكبَ المرئيَّة (4) غيرُ مرصودةٍ بأسْرِها، فإنكم أنتم وغيركم قد قلتم: إنَّ المَجَرَّة عبارةٌ عن أجرامٍ كوكبيَّة صغيرةٍ جدًّا مرتكزةٍ في فلَك الثَّوابت على هذا السَّمْت المخصوص. ولا ريب أنَّ الوقوفَ على طبائعها متعذِّر. وثالثها: أن جميعَ الكواكب الثابتة المحسوسة لم يحصل الوقوفُ التامُّ _________ (1) تكونان عند تقاطع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرِّها في البروج. انظر: «رسائل إخوان الصفا» (1/ 120). (2) وهما من سهام الكواكب السبعة، ويسمَّى الأول: سهم القمر، والثاني: سهم الشمس. انظر: «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» للبيروني (283). (3) انظر: «المطالب العالية» للرازي (8/ 153، 154). (4) (د): «المريية» بياءين، بتسهيل الهمز. (ت): «المرتبة». (ق): «المريبة». وكلاهما خطأ. وعلى الصواب في «السر المكتوم».

(3/1180)


على طبائعها؛ لأن كلام الأحكاميِّين قليلُ الحاصل، لا سيَّما في طبائع الثَّوابت. نعم؛ غاية ما عندهم أنهم ادَّعوا أنهم كشَفوا (1) بعض الثَّوابت التي في القَدْر (2) الأول والثاني، فأما البقيَّة فقلَّما تكلَّموا في معرفة طبائعها (3). ورابعها: أنَّ بتقدير أنهم عرفوا طبائعَ هذه الكواكب حالَ بساطتها، لكنْ لا شبهةَ أنه لا يمكِنُ الوقوفُ على طبائعها حالَ امتزاج بعضها بالبعض؛ لأنَّ الامتزاجات الحاصلةَ من طبائع ألف كوكبٍ أو أكثر بحسب الأجزاء الفلَكيَّة يبلغُ في الكثرة إلى حيث لا يَقْدِرُ العقلُ على ضبطها. وخامسها: آلاتُ الرَّصَد لا تفي بضبط الثَّواني والثَّوالث (4)، ولاشكَّ أنَّ الثانية الواحدة (5) مثلُ الأرض كذا كذا ألف مرَّةٍ أو أقلُّ أو أكثر (6)، ومع هذا التفاوت العظيم كيف يمكنُ الوصولُ إلى الغرض، حتى قيل: إنَّ الإنسانَ الشَّديدَ الجَرْي بين رَفْعِه رجلَه ووَضعِه الأخرى يتحركُ جِرمُ الفلَك الأقصى _________ (1) «السر المكتوم»: «جربوا». (2) غيَّرها ناشر (ط) إلى: «الفلك». فأخطأ. وقد قسم القدماء الكواكب الثابتة على ستِّ مراتب في العِظَم، سمَّوها: أقدارًا، فجعلوا أعظمها في القَدْر الأول، والتي دونها في القَدْر الثاني، وهكذا. انظر: «الزيج الصابي» (185)، و «صور الكواكب الثمانية والأربعين» (3، 4، 19)، وما سيأتي (ص: 1184). (3) «السر المكتوم»: «فقد اتفقوا على أنهم ما عرفوا طبائعها». (4) جمع ثانية وثالثة. فالفلك عندهم اثنا عشر برجًا، والبرج ثلاثون درجة، والدرجة ستون دقيقة، والدقيقة ستون ثانية، والثانية ستون ثالثة. انظر: «رسائل الإخوان الصفا» (1/ 115). (5) «السر المكتوم»: «الثانية الواحدة من الفلك». (6) «السر المكتوم»: «مثل الأرض ألف ألف مرة أو أكثر».

(3/1181)


ثلاثة آلاف ميل (1)، وإذا كان الأمرُ كذلك فكيف يمكنُ (2) ضبطُ هذه المؤثِّرات؟! وسادسها: هَبْ أنَّا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت (3) فلا ريب أنه لا يُمْكِننا معرفةُ الامتزاجات التي كانت حاصلةً قبلَه، مع أنَّا نعلمُ قطعًا أنَّ الأشكال السَّالفة ربما كانت عائقةً ومانعةً عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال. ولا ريب أنَّا نشاهدُ أشخاصًا كثيرةً من النبات والحيوان والإنسان تحدُث مقارِنةً لطالعٍ واحد، مع أنَّ كلَّ واحدٍ منها مخالفٌ للآخر في أكثر الأمور، وذلك أنَّ الأحوال السَّالفة في حقِّ كلِّ واحدٍ تكونُ مخالفةً للأحوال السَّالفة في حقِّ الآخر. وذلك يدلُّ أنه لا اعتمادَ على مقتضى الوقت، بل لا بدَّ من الإحاطة بالطوالع السَّالفة، وذلك مما لا وقوفَ عليه أصلًا؛ فإنه ربَّما كانت الطوالعُ السَّالفة دافعةً مقتضياتِ هذا الطالع الحاضر. وعلى هذا الوجه عوَّل ابنُ سينا في كتابيه اللذين سمَّاهما: «الشفا»، و «النجاة» (4) في إبطال هذا العلم. _________ (1) انظر: «المطالب العالية» (8/ 155). (2) ليست في (ق). (3) «السر المكتوم»: «قبل هذا الوقت». (4) «الشفاء» (485 - الإلهيات)، و «النجاة» (707). وله رسالةٌ مفردة مطبوعة في الردِّ على المنجمين.

(3/1182)


فثبت بهذا أن الوقوف التامَّ على المؤثِّرات جميعها ممتنعٌ مستحيل، وإذا كان الأمرُ كذلك كان الاستدلالُ بالأشخاص الفلَكيَّة على الأحوال السُّفليَّة باطلًا قطعًا. الوجه الثالث (1): أنَّ تأثيرَ الكوكب فيما ذكرتم من السَّعْد والنَّحْس إمَّا بالنظر إلى مفرده، وإمَّا بالنظر إلى انضمامه إلى غيره، فمتى لم يُحِط المنجِّمُ بهاتين الحالتين لم يصحَّ منه أن يحكُم له بتأثير (2)، ولم يحصُل إلا على تعارض التقدير. ومن المعلوم أنَّ في فلَك البروج كواكبَ شذَّت عن الرَّصَد معرفةُ أقدارها وأعدادها، ولم يعرف الأحكاميُّون ما يوجبُه خواصُّ مجموعاتها وأفرادها؛ فخرج الفريقان: أصحابُ الرَّصَد، والأحكام، عن الإحاطة بما في طِباعها، وما عسى أن تؤثِّره مع السيَّارة (3) عند انفرادها واجتماعها. فما الذي يؤمِّنكم عند ذلكم (4) وقوعَ نجمٍ من تلك النجوم المجهولة _________ (1) من وجوه بطلان علم أحكام النجوم. (2) (د): «يحكم بتأثير»، وكتب ابن بردس فوق الكلمة الثانية بخطٍّ دقيق: ينظر. (3) الكواكب قسمان: ثابتة، وسيَّارة. والسيَّارة إذا خرج منها النيِّران (الشمس والقمر) تسمى: متحيَّرة، وهي عطارد وزحل والزهرة والمشتري والمريخ، وسميت بذلك لأنها توجد في بعض الأحايين مرتدةً عن وجهتها، راجعةً في سيرها إلى خلاف التوالي، وفي بعضها مقيمةً في أمكنتها واقفةً غير سائرة، ووقفُ السائر ورجوعُه من لوازم التحيُّر والدهش. انظر: «القانون المسعودي» (3/ 987)، وما سيأتي (ص: 1360). (4) في الأصول: «كلكم». وهو خطأ. وربما كانت: حكمكم. والأشبه ما أثبت. وفي (ط): «كلكم عند ... الطالع أن يكون». وهو من تصرف الناشر.

(3/1183)


على درجة الطالع، يكونُ مُوجِبًا من الحكم ما لا يُوجِبُه النظرُ بدونه؟! الوجه الرابع: أنَّ تأثيرَ الكواكب الثَّوابت (1) يختلفُ باختلاف أقدارها، فما كان من القَدْر الأوَّل أثَّر بوقوعه على الدَّرجة، وإن لم تُضْبَط الدَّقيقة، وما كان من القَدْر الأخير لم يؤثِّر إلا بضبط الدَّقيقة. ولا ريب أنَّ الجهالةَ بتلك الكواكب ومقاديرها يوجبُ كذبَ الأحكام النجوميَّة وبطلانَها. الوجه الخامس: أنها لو كان لها تأثيرٌ كما يزعمون لم يَخْلُ: إمَّا أن تكون فيه مختارةً مريدة، أو غير مختارةٍ ولا مريدة. وكلاهما محال. أمَّا الأول، فلأنه يوجبُ جَرْيَ الأحكام على وَفْقِ اختيارها وإرادتها، ولم يتوقَّف على اتصالاتها، وانفصالاتها، ومفارقتها، ومقارنتها، وهبوطها بها في حضيضها، وارتفاعها في أوْجِها، كما هو المعروفُ من الفاعل بالاختيار، ولا سيَّما الأجرامُ العُلويَّة المؤثِّرة في سائر السُّفليات. ولاختلفَت آثارُها أيضًا عند هذه الأمور بحسب الدَّواعي والإرادات. ولأمكنَها أن تُسْعِدَ من أراد (2) أن يَنْحَسَه، وتَنْحَس من أراد أن يُسْعِدَه، كما هو شأنُ الفاعل المختار (3). _________ (1) ليست في (ق). (2) أي: الطالع. (3) وأمرٌ رابع، وهو أنها لو كانت مختارةً مريدة لما بقيت حركتُها أبدًا على رتبةٍ واحدةٍ لا تتبدَّل عنها، إذ هذه صفة الجماد المدبَّر الذي لا اختيار له. انظر: «التمهيد» للباقلاني (71)، و «الفِصَل» (5/ 147)، و «شرح الأصول الخمسة» (121)، و «فرج المهموم في علم النجوم» لابن طاووس (23، 30، 32)، وما سبق (ص: 1176).

(3/1184)


وإن لم تكن مختارةً مريدةً، فتأثيرُها بحسب الذَّات والطبع، وما كان هكذا لم يختلف أثرُه إلا باختلاف القَوابِل والمُعِدَّات (1)، وعندكم أنَّ في اختلاف (2) تلك القَوابِل والمُعِدَّات مستندٌ إلى تأثيرها. فأيُّ محالٍ أبلغُ من هذا؟! وهل هذا إلا دَورٌ ممتنعٌ في بدائه العقول؟! الوجه السادس: أنَّ هذا العلمَ مشتملٌ على أصولٍ يشهدُ صريحُ العقل بفسادها، وهي وإن كانت في الكثرة إلى حيث لا يمكنُ ذِكْرُها، فنحن نَعُدُّ بعضها: فالأوَّل: أنَّ من المعلوم بالضرورة أنه ليس في السماء حَمَلٌ ولا ثورٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا دُبٌّ ولا كلبٌ ولا ثعلب، إلا أنَّ المتقدمين لما قسَّموا الفلَك إلى اثني عشر قِسمًا وأرادوا أن يميِّزوا كلَّ قسمٍ منها بعلاماتٍ مخصوصةٍ شبَّهوا الكواكبَ المركوزة في تلك القطعة المعيَّنة بصورة حيوانٍ مخصوص، تشبيهًا بعيدًا جدًّا. ثمَّ إنَّ هؤلاء الأحكاميِّين فرَّعوا على هذه الأسماء تفريعاتٍ طويلة؛ فزعموا أن الصُّور السُّفليَّة مطيعةٌ للصُّور العُلويَّة، فالعقارب مطيعةٌ لصورة العقرب، والأفاعي مطيعةٌ لصورة التنِّين، وكذا القولُ في الأسد والسُّنبلة. ومن عرفَ كيف وُضِعَت هذه الأسماء، ثم سمع قول هؤلاء الأحكاميِّين، ضحكَ منهم، وتبيَّن له فرطُ جهلهم وكذبهم (3). _________ (1) وهي عبارةٌ عما يتوقَّف عليه الشيء ولا يجامعه في الوجود، كالخطوات الموصلة إلى المقاصد. «التعريفات» (282). (2) كذا في الأصول. ولعلَّ الصواب: أن اختلاف. (3) انظر: «صور الكواكب» (21)، و «التفهيم» (263)، و «التذكرة في علم الهيئة» للطوسي (132، 142)، و «فرج المهموم» (25)، و «الأنواء» لابن قتيبة (121).

(3/1185)


الثاني: أنَّ هؤلاء لما عجَزوا عن معرفة طالع القِران (1) أقاموا طالعَ سَنَة القِران مقامَ القِران! ومعلومٌ أنَّ هذا في غاية الفساد. الثَّالث: أنهم اختلفوا اختلافًا شديدًا في المسألة الواحدة من مسائل هذا العلم؛ فإنَّ أقوالهم في حدود الكواكب كثيرةٌ مختلفة (2)، وليس مع أحدٍ منهم شبهةٌ ولا خيال، فضلًا عن حجَّةٍ واستدلال. ثم إنَّ كثيرًا منهم من غير حجَّةٍ ولا دليل ربَّما أخذوا واحدًا من تلك الأقوال من غير بصيرة، بل بمجرَّد التشهِّي، مثل أخذِهم في ذلك بحدود المصريِّين (3)، وذلك من أدلِّ الدَّلائل على فساد هذا العلم. _________ (1) وهو مسامتةُ أحد الكوكبين الآخر، لأنَّ أحدهما أعلى من صاحبه، وفلكُه خلاف ذلك الآخر، فيسامِتُ أحدهما صاحبه، فيحاذيان موضعًا واحدًا من ذلك البرج، ويتحركان على سمتٍ واحد، فيراهما الناظر مقترنَيْن لبُعْدِهما من الأرض، وبين أحدهما وصاحبه في العلوِّ بعدٌ كثير. انظر: «الأزمنة والأمكنة» (2/ 322)، و «القانون المسعودي» (3/ 1350)، و «رسائل إخوان الصفا» (1/ 136). (2) الحدود: أقسامٌ في البروج مختلفة، ينسَب كلُّ قسمٍ من كلِّ برجٍ إلى كوكبٍ من الكواكب المتحيِّرة، فتختلف الأحكام في البرج بحسب اختلاف الأقسام. انظر: «المطالب العالية» (8/ 175)، و «التفهيم» (256). (3) في الأصول: «الضربين». وهو تحريفٌ عن المثبت. انظر المصدرين السابقين، وما سيأتي (ص: 1291). وقال كوشيار في «المجمل» (ق: 7/ب): «الحدود من الأشياء المختلف فيها، فلكل أمة حدود، ... وكل واحدٍ من أهل هذه الصناعة تمسك بحدود أمةٍ على شهوةٍ منه، وهي حدود بطليموس وحدود المصريين وحدود الهند وحدود الكلدانيين، ... وأما حدود المصريين فاجتمعت عليها أهل الصناعة على غير ثقةٍ بها، وليس لها قياسٌ ولا نظام»!

(3/1186)


الرابع: أنَّ أقوالهم متناقضة؛ فإنَّ منهم من يقول: كونُ زحَل في بيت المال دليلُ الفقر، ومنهم من يقول: يدلُّ على وِجْدان الكنز (1). الخامس: أنَّ هذا العلمَ مع أنه تقليدٌ محض، فليس أيضًا تقليدًا منتظمًا؛ لأنَّ لكلِّ قوم فيه مذهبًا، ولكلِّ طائفةٍ فيه مقالة، فللبابليِّين فيه مذهب، وللفرس مذهبٌ آخر، وللهند مذهب، وللصِّين مذهبٌ رابع. والأقوالُ إذا تعارضت وتعذَّر الترجيحُ كان دليلًا على فسادها وبطلانها. وسيأتي إن شاء الله بسطُ الكلام على هذه الوجوه أكثر من هذا. الوجه السابع مما يدلُّ على بطلان القول بالأحكام: أنَّ الطالعَ عندهم هو الشَّكل المخصوصُ الحاصلُ للفلَك عند انفصال الولد من رَحِم أمِّه. وإذا ثبت هذا، فنقول: الاستدلالُ بحصول ذلك الشَّكل على جميع الأحوال الكليَّة التي تحصلُ لهذا الولد إلى آخر عُمره استدلالٌ باطلٌ قطعًا، ويدلُّ عليه وجوه: أحدها: أنَّ ذلك الشَّكل كما حَدَث في تلك اللحظة فإنه يفنى ويزول، ويحدُث شكلٌ آخر، فذلك الشَّكل المعيَّنُ معدومٌ في جميع أجزاء عُمر هذا الإنسان، والمعدومُ لا يكونُ علةً للموجود، ولا جزءً من أجزاء العلَّة (2). وإذا كان كذلك امتنع الاستدلالُ بذلك الشَّكل على الأحوال التي تحدُث في جميع أجزاء العمر. الثاني: أنه لا مشابهةَ بين ذلك الشَّكل المخصوص وبين هذا الإنسان _________ (1) (ت): «الكثرة». (2) (ت): «ولا جزء للعلة».

(3/1187)


الذي انفصل من بطن الأمِّ إلا في أمرٍ واحد، وهو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما ظهر بعد الخفاء، ومجرَّدُ ذلك لا يوجبُ ارتباطَ ذلك الشَّكل المخصوص للفلَك بسائر أحوال هذا الإنسان البتَّة؛ فمدَّعي ذلك فاسدُ العقل. والنظر الثالث: أنه عند حدوث ذلك الطالع حدثت أنواعٌ من الحيوانات، وأنواعٌ من النبات، وأنواعٌ من الجمادات، فلو كان ذلك الطالعُ يوجبُ آثارًا مخصوصةً لوجب اشتراكُ كلِّ الأشياء التي حدثت في عالمنا هذا في ذلك الوقت في تلك الآثار، وحيث لم يكن الأمرُ كذلك علمنا أنَّ القولَ بتأثير الطالع باطل. الرابع: هَبْ أنَّ الطالعَ له أثر، إلا أنَّ الواجبَ أن يقال: الطالعُ المعتبر هو طالعُ مَسْقَط النطفة، لا طالعُ الولادة، وذلك لأنَّ عند مَسْقَط النطفة يأخذُ ذلك الشخصُ في التكوُّن والتولُّد، فأما عند الولادة فالشخصُ قد تمَّ تكوُّنه وحدوثُه، ولا حادثَ في هذا الوقت إلا انتقالُه من مكانٍ إلى مكانٍ آخر. فثبت أنه لو كان للطَّالع اعتبارٌ لوجب أن يكون المعتبر هو طالعُ مَسْقَط النطفة لا طالع الولادة. الوجه الثامن: أنَّ الأرصادَ لا تنفكُّ عن نوع الخلل والزَّلل (1)، وقد صنَّف أبوعلي ابنُ الهيثم (2) رسالةً بليغةً في أقسام الخلل الواقع في آلات _________ (1) انظر: «العمل بالاسطرلاب» للصوفي (314)، و «زيج» البتاني (191)، و «المطالب العالية» (8/ 155). (2) الحسن (وقيل: محمد) بن الحسن، صاحب التصانيف المشهورة في الهندسة، (ت: 430 تقريبًا). انظر: «أخبار الحكماء» للقفطي (218)، و «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (2/ 90).

(3/1188)


الرَّصَد (1)، وبيَّن أنَّ ذلك الخلل ليس في وُسْع الإنسان دفعُه وإزالتُه. وإذا عُرِفَ هذا فنقول: إذا بَعُدَ العهدُ بتجديد الرَّصَد اجتمعت تلك المُسامَحَاتُ القليلة، ويحصلُ بسببها تفاوتٌ عظيمٌ في مواضع الكواكب، وكذلك فإذا وُجِد موضعُ الكوكب بحسب بعض الزِّيجات (2) درجةً معينة (3)، ووُجِدَ بحسب زِيجٍ آخر غير تلك الدَّرجة؛ ربَّما حصل التفاوتُ بالبروج. ولمَّا كان علمُ الأحكام مبنيًّا على مواضع الكواكب (4) ومناسباتها، ثمَّ قد تبيَّن أنَّ التفاوتَ الكثير وقع في قَطْع الكواكب (5) = عُلِمَ بطلانُ هذا العلم وفسادُه (6). الوجه التاسع: أنَّ المعقول من تأثير هذه الكواكب في العالم السُّفلي هو أنها بحسب مَسَاقِط شُعاعاتها تسخِّنُ هذا العالَم أنواعًا من السُّخونة. _________ (1) عَدَّ منها قريبًا من ثلاثين وجهًا من الوجوه التي لا يمكنُ الاحتراز عنها. انظر: «المطالب العالية» (8/ 155). (2) جمع «زيج»، فارسية معربة، وهو كتابٌ فيه جداول يعرَف بها مواضعُ الكواكب وسيرها، بطريقةٍ حسابية، ومنه يستخرج التقويم. انظر: «قصد السبيل» (1/ 101)، و «مفاتيح العلوم» (197)، و «أبجد العلوم» (2/ 314). (3) في طرة (د، ق): «لعله: حين». ولا وجه له، فالعبارة كذلك في «السر المكتوم» (27). (4) من قوله: «وكذلك فإذا وجد» إلى هنا ساقط من (ت)؛ لانتقال النظر. (5) أي: في سيرها وقطعها للمسافات. انظر: «روح المعاني» (9/ 135، 23/ 24). (6) انظر: «أبكار الأفكار» للآمدي (2/ 272).

(3/1189)


فأمَّا تأثيراتُها في حصول الأحوال النفسانيَّة، من الذَّكاء والبلادة، والسَّعادة والشَّقاوة، وحُسْنِ الخلق وقُبحِه، والغِنى [والفقر]، والهمِّ والسرور، واللذَّة والألم= فلو كان معلومًا لكان طريق علمه إمَّا الخبرُ الذي لا يجوزُ عليه الكذب، أو الحسُّ الذي يشتركُ فيه الناس، أو ضرورةُ العقل، أو نظرُه، وشيءٌ من هذا كلِّه غيرُ موجودٍ البتَّة؛ فالقولُ به باطل. ولا يمكنُ الأحكاميِّين أن يدَّعوا واحدًا من الثلاثة الأُوَل (1)، وغايتُهم أن يدَّعوا أن النظر والتجربة قادهم إلى ذلك، وأوقعهم عليه. ونحن نبيِّن فساد هذا النظر والتَّجربة بما لا يمكنُ دفعُه من الوجوه التي ذكرناها، ونذكرُ غيرها ممَّا هو مثلُها وأقوى منها. وكلُّ علمٍ صحيح فله براهينُ يستند إليها تنتهي إلى الحِسِّ أو ضرورة العقل، وهذا العلمُ فلا ينتهي إلا إلى حَدْسٍ وتخمينٍ لا تغني من الحقِّ شيئًا، وغاية أهله تقليدُ من لم يَقُمْ دليلٌ على صِدْقه. الوجه العاشر: أنَّا إذا فَرضنا أنَّ رجلين سألا منجِّمَين في وقتٍ واحدٍ في بلدٍ واحدٍ عن خصمَين، أيُّهما الظَّافر بصاحبه؟ فهاهنا يكونُ ذلك الطَّالعُ مشتركًا بين كلِّ واحدٍ من ذَينِك الخصمَين، فإن دلَّ ذلك الطَّالع على حال الغالب أو المغلوب، مع كونه مشتركًا بين الخصمين (2)، لَزِمَ كونُ كلٍّ منهما غالبًا لخصمه ومغلوبًا من جانبه. وذلك محال. فإن قالوا: بُيِّن حالُ كلِّ واحدٍ منهما بسبب طالع الأصل، أو طالع التحويل، أو برج الانتهاء. _________ (1) وهي: الخبر المقطوع بصدقه، والحِسُّ المشترك، وضرورة العقل. (2) من قوله: «فإن دلَّ ذلك» إلى هنا ساقط من (ت)؛ لانتقال النظر.

(3/1190)


قلنا: هذا تسليمٌ لقول من يقول: إنَّ طالعَ الوقت لا يدلُّ على شيءٍ أصلًا، بل لا بدَّ من رعاية الأحوال الماضية، لكنَّ الأحوال الماضية كثيرةٌ غيرُ مضبوطة؛ فتوقُّفُ دلالة طالع الوقت على اعتبار تلك الأحوال الماضية يقتضي التوقُّفَ على شرائطَ لا يمكن اعتبارُها البتَّة. وقد ساعدَ أصحابُ الأحكام على الاعتراف بأنَّ الاعتمادَ على طالع الوقت غيرُ مفيد، بل لا يتمُّ الأمرُ إلا عند معرفة طالع الأصل، فطالعِ التحويل، وبرج الانتهاء، ومعرفة التَّسييرات، فعند اعتبار جملة هذه الأمور يتمُّ الاستدلال، ومع اعتبار جملتها وتحريرها بحيث يُؤْمَنُ الغلطُ فيها يكونُ الاستدلالُ على سبيل الظَّنِّ، لا على سبيل القطع. الوجه الحادي عشر: أنَّا لو فَرضنا جادَّةً مسلوكة، وطريقًا يمشي فيه النَّاس ليلًا ونهارًا، ثم حصل في تلك الجادَّة آبارٌ (1) متقاربة، بحيثُ لا يقدرُ سالكُ ذلك الطريق على سلوكه إلا بتأمُّلٍ كثيرٍ وتفكُّرٍ شديدٍ حتى يتخلَّص من الوقوع في تلك الآبار؛ فإن من المعلوم بالضرورة أنَّ سلامةَ من يمشي في هذه الطريق من العُمْيان لا يكونُ كسلامة من يمشي من البُصَراء، بل ولا بدَّ أن يكون عَطَبُ العُمْيان في ذلك الطريق كثيرًا جدًّا، وأن تكون سلامةُ البُصَراء غالبةً جدًّا. إذا عرفتَ هذا، فنقول: مثالُ العميان عند الأحكاميِّين: الذين لا يَعْرِفون _________ (1) مهملة في (د). وفي (ق، ت): «آثار». وهكذا في المواضع التالية. وهو تحريف. انظر: «مسألة في الردِّ على المنجمين» للشريف المرتضى (2/ 307 - رسائله)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 202). ولا أدري أنقل المصنف هذا المثل من كتاب الشريف المرتضى مباشرةً أم بواسطة؟

(3/1191)


أحكام النجوم، وهم الأكثرون من الخلائق. ومثالُ البصراء عندهم: هم أهل هذا العلم (1)، وهم الأقلُّون. ومثالُ الطريق الذي حصلت فيه الآبارُ العميقةُ المُهْلِكة: الزمان الذي يمضي على الخلق أجمعين (2). ومثالُ تلك الآبار: المصائب الزمانيَّة والمِحَن والبلايا. فلو كان هذا العلمُ صحيحًا لوجَب أن يكون فوزُ المنجِّمين بالغِنى والسلامة والنِّعم أتمَّ فوز، وسلامتُهم فوق كلِّ سلامة. ومعلومٌ أنَّ الأمر بالعكس، والغالبُ كونُ المنجِّمين ومَنْ سَمِعَ منهم وعَمِلَ بقولهم في الإدبار والنَّحْس والحرمان، والواقعُ أبينُ شاهدٍ بذلك، ولو ذهبنا نذكُر الوقائعَ التي شُوهِدَت من ذلك واشتملت عليها التواريخُ لزادت على ألوفٍ عديدة. فلا تجدُ أحدًا راعى هذا العلمَ وتقيَّد به في حركاته واختياراته إلا وكانت عاقبتُه قريبًا إلى إدبارٍ ونِكايةٍ وبلايا لا يصابُ بها سواه، ومَنْ كَثُرَ خُبْرُه بأحوال الناس فإنه يعرفُ من ذلك مالا يعرفُه غيرُه. الوجه الثاني عشر: أنَّا نشاهدُ عالَمًا كثيرًا يُقْتَلون في ساعةٍ واحدةٍ في حرب، وخلقًا يَغْرَقُون في ساعةٍ واحدة، مع القطع باختلاف طوالعهم، واقتضائها عندكم أحوالًا مختلفة! ولو كان للطوالع تأثيرٌ في هذا لامتنع عند اختلافها الاشتراكُ في ذلك (3). ولا ينفعكم جوابُ من انتصر لكم بأنَّ الطوالعَ قد يكون بعضُها أقوى من بعض، ولعل طالعَ الوقت أقوى من طالع الأصل، وكان الحكمُ له، فإنَّ _________ (1) (ق): «العمل». (2) في «رسائل الشريف المرتضى»: «يمضي عليه الخلق أجمعون». (3) انظر: «الفِصَل» (5/ 150)، و «تفسير القرطبي» (19/ 28).

(3/1192)


طالعَ الوقت لعلَّه اقتضى هلاكًا أو غرقًا عامًّا، وهو أقوى من طالع الأصل، فكان التأثيرُ له= لأنَّا نقول: هذا بعينه يُبْطِلُ عليكم طالعَ المولود والأصل، ويُحِيلُ القولَ بتأثيره واعتباره جملة؛ فإنَّ الطوالعَ بعده مختلفةٌ كثيرة، ولعلَّ بعضها (1) أو أكثرها أقوى منه، فيكون الحكمُ بمُوجَبه باطلًا، إذ لا أمانَ لكم من اقتضاء الطوالع بعده ضدَّ ما اقتضاه، وحينئذٍ فلا يفيدُ اعتبارُه شيئًا. الوجه الثالث عشر: أنَّا نرى الجيشَين العظيمَين والحِزْبَين المتغالبَيْن (2) يقتتلان ويختصمان، وقد أُخِذَ طالعُ الوقت لكلٍّ منهما، ومع هذا فالمنصورُ والغالبُ أحدُهما، مع أنَّ الطالعَ واحد! ولا ينفعُكم في هذا جوابُ من انتصر لكم بأنه لا مانعَ من القول بخطأ الآخِذ للطالع في الحساب والحُكم؛ فإنه لو أُخِذَ لهما أيُّ طالعٍ كان لم يكن الغالبُ إلا أحدَهما، حتى لو كان الطالعُ قطعًا (3) لا يُتَصَوَّرُ فيه الغلطُ لم يكن بدٌّ من كون أحدهما غالبًا والآخر مغلوبًا، وهذا يُبْطِلُ مذهبَ الأحكام بلا ريب (4). الوجه الرابع عشر: أنَّ الأجزاء المفترَضة في الفلَك إمَّا أن تكون متشابهةً في الطبيعة والماهيَّة، أو مختلفةً فيها؛ فإن كانت متشابهةً (5) كان الجزءُ الذي _________ (1) في الأصول: «واصل بعضها». والمثبت أشبه بالصواب. وانظر: «الفلاكة والمفلوكون» (25)، ففي سياقه اختلاف. (2) (ق): «المتعاليين». (ت): «المتقابلين». (3) (ت): «قطعيا». وطمست الياء في (د، ق). (4) انظر: «غاية المرام» (212)، و «أبكار الأفكار» (2/ 272). (5) (ق، د): «متساوية».

(3/1193)


هو الطالعُ مساويًا لسائر الأجزاء، وحُكمُ سائر الأجزاء واحدًا (1)، وإن كانت الأجزاءُ مختلفةً في الماهيَّة والطبيعة فلا ريب أنَّ الفلَك جِرْمٌ في غاية العظمة، حتى قالوا: إنَّ الرجلَ الشَّديد العَدْو إذا رَفَع رجلَه ووَضعَها يكون الفلَك قد تحرَّك ثلاثةَ آلاف ميل (2). وإذا كان كذلك، فمِن الوقت الذي ينفصلُ الولدُ من بطن أمِّه إلى أن يأخذَ المنجِّمُ الأصطرلاب (3) ويأخذَ الارتفاعَ يكون الفلَكُ قد تحرَّك مثلَ كلِّ الأرض كذا ألف مرَّة. وإذا كان الأمرُ كذلك، فالجزءُ الذي يأخذُه المنجِّمُ بالأصطرلاب ليس الجزءَ الطالعَ في الحقيقة (4)، وإذا كانت الأجزاءُ الفلَكيَّة مختلفةً في الطبيعة والماهيَّة عَلِمْنَا أنَّ أخذَ الطوالع محال. وقد اعترف فضلاؤكم بهذا، وقالوا: إنَّ الأمر وإن كان كذلك إلا أنَّ التجربةَ قد دلَّت على أنَّ هذا الطالعَ الذي تعذَّر على الإنسان تحصيلُه يدلُّ على كثيرٍ من تَقْدِمة (5) المعرفة، مع ما فيه من الخلل الكثير الذي ذكرتم، فوجبَ أن لا يُهْمَل. _________ (1) (ت): «كان الجزء الذي هو الطالع وحكم سائر الأجزاء واحد». (2) انظر: «المطالب العالية» (8/ 156). (3) بالصَّاد وبالسين، يونانيةٌ معربة، آلة استعملها الفلكيون القدماء في تعيين مواضع الكواكب، وقياس ارتفاعها، ومعرفة الوقت والجهات الأصلية. انظر: «قصد السبيل» (1/ 194)، و «المعجم الوسيط» (17). (4) انظر: «أبكار الأفكار» (2/ 272). (5) في الأصول: «مقدمة». وهو تحريف. وسيأتي بيانها (ص: 1310).

(3/1194)


وهذا خطأٌ بيِّن؛ فإنَّ التَّجارب التي دلَّت على كذب ذلك وبطلانه ووقوع الأمر بخلافه أضعافُ أضعاف التجربة التي دلَّت على صدقه، كما سنذكرُ قطرةً مِنْ بحره عن قريبٍ إن شاء الله. ولهذا قال أبو نصر الفارابي (1): واعْلم أنك لو قَلَبْتَ (2) أوضاعَ المنجِّمين، فجعلتَ الحارَّ باردًا، والباردَ حارًّا، والسَّعْدَ نحْسًا، والنَّحْسَ سعدًا، والذكرَ أنثى، والأنثى ذكرًا، ثمَّ حَكَمْتَ؛ لكانت أحكامُك مِن جنس أحكامهم، تصيبُ تارةً وتخطاء تارات (3). وهل معكم إلا الحَدْسُ والتخمينُ والظُّنون الكاذبة؟! ولقد حُكِيَ (4) أنَّ امرأةً أتت منجِّمًا فأعطته درهمًا، فأخَذ طالعَها، وحَكَمَ وقال: الطالعُ يُخْبِرُ بكذا، فقالت: لم يكن شيءٌ من ذلك! ثم أخَذ الطالعَ وقال: يُخْبِرُ بكذا. فأنكرَتْه! حتى قال: إنه ليدلُّ على قَطْعٍ في بيت المال (5)، فقالت: الآن صدقتَ، وهو الدِّرهم الذي دفعتُه إليك!! _________ (1) محمد بن محمد بن طرخان، الفيلسوف، صاحب التصانيف (ت: 339). انظر: «أخبار الحكماء» (382)، و «السير» (15/ 416). (2) في الأصول: «قبلت». وستأتي على الصواب (ص: 1313). (3) العبارة بالمعنى في رسالته «ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم» (1/ 300 - رسائله). وانظر: «السر المكتوم» (86)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 182). (4) انظر: «الرسالة المصرية» لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز (1/ 45 - نوادر المخطوطات)، و «أخبار الحكماء» للقفطي (252)، ففيهما أنَّ المنجم هو رزق الله النحاس. (5) في المصدرين السابقين: بيت مالك. وسيأتي تفسير القَطْع (ص: 1455).

(3/1195)


الوجه الخامس عشر: أنَّ الأجسامَ لا تنفعلُ في غيرها إلا بواسطة المُماسَّة، وهذه الكواكبُ لا مُماسَّة لها بأعضائنا وأبداننا وأرواحنا، فيمتنعُ كونُها فاعلةً فينا (1). أقصى ما في الباب أن يقال: إنها وإن لم تكن مُماسَّةً لأعضائنا إلا أنَّ شُعاعها يَصِلُ إلى أجسامنا. فيقال: لا ريب أن تأثيرَ الشُّعاع إنما يكونُ بالتَّسخين عند المُسامَتة (2) أو بالتَّبريد عند الانحراف عن المُسامَتة؛ فهذا ــ بعد تصحيحه ــ يقتضي أن لا يكون لهذه الكواكب تأثيرٌ في هذا العالَم إلا على سبيل التَّسخين والتَّبريد. فأمَّا أن تُعْطِي العلومَ والأخلاق، والمحبة والبغضاء، والموالاة والمعاداة، والعِفَّة والحريَّة (3)، والنَّذالة والخُبْث، والمكر والخديعة، فذلك خارجٌ عن معقول العقلاء، وهو مِنْ حماقات الأحكاميِّين وجهالاتهم. فإن قيل: التأثيرُ بالتَّسخين والتَّبريد يوجبُ اختلافَ أمزجة الأبدان، واختلافُ أمزجة الأبدان يوجبُ اختلافَ أفعال النفس. قيل: فنحن نرى التَّسخينَ يقتضي حرارةً وحِدَّةً في المزاج، يفعلُ بها هذا _________ (1) انظر: «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 303)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 200). (2) الموازاة والمقابلة. «التاج» (سمت). وفي (ق): «المشامتة» بالمعجمة. وفي (ت): «المماسة». في الموضعين. (3) مهملة في (د، ق). والحرية تطلق عرفًا على العفَّة، فيقال: غلام حر، أي: عفيف. انظر: «زاد المعاد» (3/ 584)، و «بدائع الفوائد» (1373)، و «إعلام الموقعين» (4/ 228). وربما كانت تحريفًا عن: «والجود»، والمصنف يذكرهما كثيرًا في خصال الكمال.

(3/1196)


غايةَ الخير والأفعال الحميدة، وهذا غايةَ الشرِّ والأفعال الخبيثة، والشُّعاعُ قد سَخَّنَ مراكبها (1)، فما المُوجِبُ لانفعال نفسَيْهما عن هذا التَّسخين هذا الانفعالَ المتباعِدَ المتناقض (2)؟! وأيضًا؛ فما المُوجِبُ لاختلاف القَوابِل، وتأثيرُ الكواكب فيها بطَبْعِه وتسخينه وتبريده؟! فكيف اختلفت القَوابِلُ هذا الاختلافَ العظيم وهي مستندةٌ إلى تأثيرٍ واحد؟! الوجه السادس عشر: أنَّ رجلًا لو جلس في دارٍ لها بابان، شرقيٌّ وغربيٌّ، فسأل المنجِّمَ وقال: مِنْ أيِّهما يقتضي الطالعُ خروجي؟ فإذا قال له المنجِّم: من الشرقيِّ، أمكَنَه تكذيبُه والخروجُ من الغربي، وبالعكس، وكذلك السَّفرُ في يومٍ واحد، وابتداءُ البناء وغيره في يومٍ يعيِّنه له المنجِّم ويحكمُ باقتضاء الطالع له من غير تقُّدمٍ عنه ولا تأخُّر، فإنه يُمْكِنُه تكذيبُه في ذلك أجمَع (3). فإن قلتم: إنَّ المنجِّم إذا أخبره بما يفعلُه ويختارُه يصيرُ ذلك داعيًا له إلى أن يخالِفَه في قوله ويكذِّبه، فالطريقُ إلى علَّة تصديقه (4) أن يحكُم ذلك المنجِّم على معيَّنٍ، ويكتبه في كتابٍ ويخفيه، أو يذكرَه لإنسانٍ آخر ويخفيه عن صاحب الواقعة، فهاهنا يظهرُ صدقُ المنجِّم! _________ (1) (د، ق): «مراكبهما». والبدن مَرْكَبٌ للنفس. انظر: «الروح» (499، 325)، و «روضة المحبين» (115)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 457). (2) (ت): «المتنافر». (3) انظر: «الفِصَل» (5/ 150)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 305)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 202). (4) (ط): «علم صدقه».

(3/1197)


قلت: هذا العذرُ من أسقط الأعذار؛ لأنَّ النجوم لو كانت كما تزعمون دالَّةً على جميع الكائنات الواقعة في هذا العالَم لعرفَ المنجِّمُ ذلك الذي يستقرُّ عليه اختيارُه على كلِّ حال، شاء تكذيبَه أو لم يشأه، فلمَّا لم يكن الأمرُ كذلك سقطَ القولُ بصحَّة هذا العذر. فإن قيل: الأشخاصُ الفلَكيَّة مؤثِّرات، والسُّفليَّة قَوابِل، ويجوزُ أن تختلف الأحوالُ الصَّادرةُ عن الفاعل بسبب اختلاف القَوابِل، وإذا كان كذلك فهَبْ أنَّ الدلائل الفلَكيَّة دلَّت على أنه إنما يختارُ الخروجَ من الباب الفُلاني، إلا أنَّ كونَ ذلك الإنسان مشغوفًا بتكذيب المنجِّم حالةٌ حاصلةٌ في النفس، مانعةٌ من ظهور ذلك الأثر الذي تقتضيه المُوجِباتُ الفلَكيَّة، فلهذا الأمر لم يحصُل الأمرُ على وَفْقِ حُكم المنجِّم. قيل: إذا اقتضت المُوجِباتُ الفلَكيَّة أثرًا امتنعَ أن يحصُل في النفس ما يضادُّه؛ لأنَّ تلك الإرادات والمُيول والعُزومَ الواقعة في النفس هي عندكم من مُوجَبات الآثار الفلَكيَّة، فيمتنعُ أن تكون مضادَّةً لمُوجِبها، لا سيَّما والمنجِّم يحكمُ بأنه إنما تقتضي النجومُ أن يريد الإنسانُ كذا وكذا، وليس حكمُه أنَّ الطالعَ يقتضي كذا وكذا إلا أن يريدَ الإنسانُ خلافَه، هذا ما لا يقولُه أحدٌ منكم؛ فعُلِمَ بطلانُ هذا الاعتذار. الوجه السابع عشر: أنه لا سبيلَ إلى معرفة طبائع البروج وطبائع الكواكب وامتزاجاتها إلا بالتَّجربة، وأقلُّ ما لا بدَّ منه في التَّجربة أن يحصُل ذلك الشيءُ على حالةٍ واحدةٍ مرَّتين، إلا أنَّ الكواكبَ (1) لا يُمكِنُ تحصيلُ ذلك فيها؛ لأنه إذا حصَل كوكبٌ معيَّنٌ في موضعٍ معيَّنٍ في الفلَك وكانت _________ (1) (ت): «إلا أن تكون الكواكب».

(3/1198)


سائرُ الكواكب متصلةً به على وضعٍ مخصوصٍ وشكلٍ مخصوص فإنَّ ذلك الموضعَ المعيَّن بحسب الدرجة والدَّقيقة لا يعودُ إلا بعد ألوفِ ألوفٍ من السِّنين، وعمرُ الإنسان الواحد لا يفي بذلك، بل عمرُ البشر لا يفي به، والتَّواريخُ التي تضبِطُ هذه المدَّة مما لا يمكنُ وصولُها إلى الإنسان؛ فثبت أنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذه الأحوال من جهة التَّجربة البتَّة (1). ولا ينفعكم اعتذارُ من اعتذرَ عنكم بأنه لا حاجةَ في التَّجربة إلى ما ذكرتم، لأنَّا إذا شاهَدنا حادثًا معينًا في وقتٍ مخصوص، فلا شكَّ أنه قد تحصُل في الفلَك اتصالاتٌ للكواكب المختلفة في ذلك الوقت، فلو قدَّرنا عَوْدَ ذلك الوضع الفلَكيِّ بتمامه على تلك الحال ألفَ مرَّةٍ لم يُعْلَمْ أنَّ المؤثِّر في ذلك الحادث هل هو مجموعُ الاتصالات أو اتصالٌ معيَّنٌ منها؟ فإذا علمنا أنَّ ذلك الوضعَ بجملته فاتَ وما عاد، ولكنه عاد اتصالٌ واحدٌ من تلك الاتصالات، وكلَّما عاد ذلك الاتصالُ المعيَّنُ فإنه يعودُ ذلك الأثرُ بعينه، لا لأجل (2) سائر الاتصالات؛ فثبت أنَّ الرجوعَ في هذا الباب إلى التَّجربة غيرُ متعذِّر. وهذا الاعتذارُ في غاية الفساد والمكابرة؛ لأنَّ تخلُّف ذلك الأثر عن ذلك الاتصال العائد أكثرُ من اقترانه به، والتجربةُ شاهدةٌ بذلك، كما قد اشتهرَ بين العقلاء أنَّ المنجِّمين إذا أجمعوا على شيءٍ (3) من الأحكام لم يكد يقَع، ونحنُ نذكرُ طرفًا من ذلك، فنقول في: _________ (1) انظر: «السر المكتوم» (10)، و «الفِصَل» (5/ 149)، و «أبكار الأفكار» (2/ 270)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 303)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 201، 204). (2) «لا» ليست في (ت). (3) (ص): «على حكم».

(3/1199)


الوجه الثامن عشر: لمَّا نظر حُذَّاقكم وفضلاؤكم سنة سبعٍ وثلاثين عام صِفِّين في مَخْرَج عليٍّ رضي الله عنه من الكوفة إلى محاربة أهل الشَّام، اتفقوا على أنه يُقْتَلُ ويُقْهَرُ به جيشُه. فظهر كذبُهم، وانتصر جيشُه على أهل الشام، ولم يَقْدِروا على التخلُّص منهم إلا بالحيلة التي وَضعُوها مِنْ نَشْرِ المصاحف على الرِّماح والدُّعاء إلى ما فيها. وقد قيل: إنَّ هذا الاتفاق منهم إنما كان في حرب أمير المؤمنين رضي الله عنه للخوارج (1)؛ فإنهم اتفقوا على أنه إن خرَج في ذلك الطالع قُتِلَ وهُزِمَ جيشُه، فإنَّ القمرَ كان إذ ذاك في العقرب، فخالفَهم عليٌّ رضي الله عنه، وقال: بل نخرُج ثقةً بالله، وتوكُّلًا عليه، وتكذيبًا لقول المنجِّم (2)، فما غزا غَزاةً بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ منها، قتَل عدوَّه، وأيَّده الله عليهم بالنصر والظَّفر بهم، ورجع مؤيَّدًا منصورًا مأجورًا، والقصةُ معروفةٌ في السير والتواريخ (3). ومِن ذلك: اتفاقُ مَلئِكم (4) في سنة ستٍّ وستين على غلبة عبيد الله بن زياد للمختار بن أبي عُبيد، وأنه لا بدَّ أن يقتلَه أو يأسِرَه، فسار إليه في نحوٍ من ثمانين ألف مقاتل، فلقيه إبراهيمُ بن الأشتَر صاحبُ المختار بأرضِ نَصِيبِين (5) وهو _________ (1) (ق): «حرب المؤمنين للخوارج». (2) (ت، ص): «للمنجمين». (3) انظر: «تاريخ الطبري» (5/ 83)، و «البداية والنهاية» (10/ 585)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 199)، وما سيأتي (ص: 1427). (4) (ت، ص): «ملائهم». (5) من مدن الجزيرة الفراتية. انظر: «معجم البلدان» (5/ 288)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (124). لكن الوقعة لم تكن بها، بل بخازر (نهر بأرض الموصل)، وقد كان المختار ذكر للناس أن أصحابه سيظهرون على ابن زياد بنصيبين، تفاؤلًا منه أو كهانة، فأخطأ في تحديد الموضع. انظر: «تاريخ الطبري» (6/ 92)، و «البداية والنهاية» (12/ 47).

(3/1200)


فيما دون سبعة آلاف مقاتل، فانهزَم أصحابُ ابن زيادٍ بعد أن قُتِلَ منهم خلقٌ لا يحصيهم إلا الله، حتى قيل: إنهم (1) ثلاثةٌ وسبعون ألفًا، ولم يُقْتَلْ من أصحاب ابن الأشتَر سوى عددٍ لا يبلغون مئة، وفيهم يقولُ الشَّاعر: برزُوا نحوَهم بسبعةِ آلا ... فٍ أرَتهُم عجائبًا في اللقاءِ فتَعشَّوا منهم بسبعين ألفًا ... أو يزيدونَ قبل وقتِ العشاءِ فجزاكَ ابنَ مالكٍ وأبا إسـ ... ــحاقَ عنَّا الإلهُ خيرَ جزاءِ (2) يريدُ بابن مالكٍ إبراهيمَ بن مالك الأشتَر، وأبو إسحاق كنية المختار. وقتلَ ابنُ الأشتَر عبيدَ الله بن زياد في المعركة، ولم يَعْلَمْ به، حتى إذا هدأ الليلُ قال لأصحابه: لقد ضربتُ على شاطاء هذا النَّهر رجلًا فرجَع إليَّ سيفي وفيه رائحةُ المسك، ورأيتُ إقدامًا وجُرأة، فصرعتُه فذهبَت رجلاه قِبَل المشرق ويداه قِبَل المغرب، فانظُروه، فأتوه بالنِّيران، فإذا هو عبيدُ الله بن زياد. ذكر ذلك المبرِّد في «الكامل» (3). فانظُر حكمةَ الله في انعكاس ما قال الكذَّابون المنجِّمون! وقيل: لما علم عبيدُ الله بن زياد أنَّ أمر القتال قد تيسَّر، وسأل (4) منجِّمَه عن _________ (1) (ت، ص): «حتى قتل منهم». وكذا في (د)، لكن صحِّحت في الطرة. (ق): «حتى قيل إنهم قتل منهم»، لم يحسن التصحيح. (2) الثاني في «التذكرة» للقرطبي (1124) عن «مرج البحرين» لابن دحية. (3) (3/ 196). ورائحة المسك لا من دمه، بل من طيبٍ وضعَه! (4) كذا في الأصول. والأشبه حذف الواو.

(3/1201)


قوَّة نجمِه ونجمِ ابن الأشتَر، وقال: والله إني لأعلمُ أنه ليس بشيء، إلا أني كنتُ أنا وهو صغيران (1) وقعَت بيني وبينه خصومةٌ بسبب حَمَام كنَّا نلعبُ به، فضربني إلى الأرض، وقعَد على صدري، وقال: والله إني قاتلُك، ولا يقتلُك أحدٌ غيري إن شاء الله، وأنا من استثنائه بالمشيئة خائف! فذهبَ به منجِّمه إلى ما قرَّره المنجِّمون له مِن قوَّة نجمِه وأنَّ هذا وهمٌ منه، وحكمُ النجوم يقضي على وهمه، فحقَّق الله سبحانه ذلك الوهم، وأبطلَ حكمَ الطالع والنجم! ومِن ذلك: اتفاقُهم عندما تمَّ بناءُ بغداد سنة ستٍّ وأربعين ومائة أنَّ طالعَها يقضي بأنه لا يموتُ فيها خليفة (2)، وشاع ذلك، حتى هنَّأ الشعراءُ به المنصور (3)، حتى قال بعض شعرائه: يَهْنيكَ منها بلدةً يُقضى لنا ... أنَّ المماتَ بها عليك حرامُ لمَّا قَضَت أحكامُ طالع وقتِها ... أن لا يُرى فيها يموتُ إمامُ وأكَّد هذا الهذيانَ في نفوس العوامِّ موتُ المنصور بطريق مكة، ثم المهدي بماسَبَذان (4)، ثم الهادي بعِيسَاباذ (5)، ثم الرَّشيد بطُوس (6)، فلمَّا _________ (1) كذا في الأصول. والصواب: «صغيرين». (2) انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 68)، و «البداية والنهاية» (12/ 391)، و «معجم البلدان» (1/ 460). (3) انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 68)، و «ثمار القلوب» (741). (4) موضع في بلاد فارس. «معجم البلدان» (5/ 41). (5) محلةٌ بشرقي بغداد، منسوبة لعيسى بن المهدي، ومعنى «باذ» بالفارسية: عمارة. «معجم البلدان» (4/ 172). (6) من مدن نيسابور بإقليم خراسان، وتقع أطلالها اليوم على بضعة أميال من شمال مدينة مشهد بإيران. انظر: «معجم البلدان» (4/ 49)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (430)، و «دائرة المعارف الإسلامية» (15/ 358). وفي (ص): «بطرسوس»، وهو خطأ، هذه من ثغور الشام، وهي اليوم ضمن حدود تركيا، وبها دفن المأمون. «معجم البلدان» (4/ 28).

(3/1202)


قُتِل بها الأمينُ بشارع باب الأنبار (1) انخرَم الأصلُ الباطلُ الذي أصَّلُوه، وظهر الزُّورُ الذي لفَّقوه (2)، حتى رجعَ القائلُ الأول (3) فقال: كذَبَ المنجِّمُ في مقالته التي ... نَطَقَتْ به كذبًا على بَغْدانِ (4) قَتْلُ الأمين بها لعمري يقتضي ... تكذيبَهم في سائر الحُسْبان ثمَّ مات ببغداد جماعةٌ من الخلفاء، مثل: الواثق، والمتوكِّل، والمعتضِد، والمكتفِي، والناصر، وغير هؤلاء. ومِنْ ذلك: اتفاقُهم في سنة ثلاثٍ وعشرين ومئتين في قصَّة عَمُّوريَّة على أنَّ المعتصم إن خرجَ لفتحِها كانت عليه الدَّائرة، وأنَّ النصرَ لعدوِّه، _________ (1) من أبواب مدينة بغداد، مدخل القادمين من الشام، أنشأ عنده الأمين أحد مجالس لهوه. انظر: «تاريخ الطبري» (8/ 509)، و «معجم البلدان» (1/ 459)، و «بغداد مدينة السلام، الجانب الغربي» لصالح العلي (2/ 138). (2) وخرَّج بعضهم ما وقع للأمين على وجهين، الأول: أن الأمين لم يقتَل داخل بغداد. والثاني: أن الأمين قُتِل، والكلام في الموت لا في القتل!. انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 69)، و «ثمار القلوب» (742)، و «نشوار المحاضرة» (5/ 43). (3) (ق): «حتى رجع الحق قائل الأول». ولعلها: راجَع الحقَّ. (4) الشطر الثاني في «روح المعاني» (12/ 102): * كان ادعاها في بِنا بغدان * وفي «الفلاكة والمفلوكون» للدلجي (26) ــ وقد نقل كالآلوسي كثيرًا من هذا المبحث دون تصريح ــ: * نطقت على بغداد بالهذيان *

(3/1203)


فرزقَه الله التوفيقَ في مخالفتهم، ففتَح اللهُ على يديه ما كان مُغْلَقًا، وأصبح كذبُهم وخَرْصُهم بعد أن كان موهومًا عند العامَّة (1) محقَّقًا، ففتَح عَمُّوريَّة وما والاها من كلِّ حصنٍ وقلعة، وكان ذلك من أعظم الفتوحات المعدودة. وفي ذلك الفتح قام أبو تمَّام الطَّائيُّ منشدًا له على رؤوس الأشهاد: السَّيْفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعبِ ... بِيضُ الصَّفائحِ لا سُودُ الصَّحائفِ في ... مُتونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ ... والعِلمُ في شُهُبِ الأرماح لامِعةً ... بينَ الخَمِيسَين لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ (2) ... أين الرِّواية أم أين النجومُ وما ... صاغُوه مِن زُخْرفٍ فيها ومِنْ كذب تخرُّصًا وأحاديثًا مُلفَّقَةً ... ليست بِنَبْعٍ إذا عُدَّتْ ولا غَرَبِ (3) عجائبًا زعموا الأيامَ مُجْفِلةً (4) ... عنهنَّ في صَفَرِ الأصفارِ أو رَجَبِ وخوَّفوا النَّاسَ مِنْ دهياءَ مُظْلِمةٍ ... إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنَبِ وصيَّروا الأبرُجَ العُليا مرتِّبةً ... ما كانَ منقلِبًا أو غيرَ منقلِبِ يقضونَ بالأمر عنها وهي غافلةٌ ... ما دارَ في فَلَكٍ منها وفي قُطُبِ لو بَيَّنَتْ قطُّ أمرًا قبلَ مَوْقِعه ... لم يَخْفَ ما حلَّ بالأوثانِ والصُّلُب _________ (1) (ص): «عند الناس». (2) الخميسين: الجيشين. والشهب السبعة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر. (3) النَّبع: شجرٌ صلب. والغَرَب: شجرٌ ينبت على الأنهار ليست له قوة. يقول: هذه الأحاديث ليست بقويةٍ ولا ضعيفة، أي هي غيرُ شيء. (4) مجفلة: أحسَّت بأمرٍ يَذْعَرها فهربت منه بعجلةٍ ورعب.

(3/1204)


وهي نحوٌ من سبعين بيتًا (1)، أُجِيزَ على كلِّ بيتٍ منها بألف درهم. ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة اثنتين وتسعين ومئتين في قصَّة القرامطة على أنَّ المكتفي بالله إن خرَج لمقاتَلتهم كان هو المغلوبَ المهزوم (2)، وكان المسلمون قد لَقُوا منهم على توالي الأيام شرًّا عظيمًا وخَطبًا جسيمًا، فإنهم قتلوا النساءَ والأطفال، واستباحوا الحَرِيمَ والأموال، وهدموا المساجد، وربطوا فيها خيولَهم ودوابَّهم، وقصَدوا وفدَ الله وزوَّار بيته فأوقعوا فيهم القتلَ الذَّريع والفعلَ الشَّنيع، وأباحوا محارمَ الله، وعطَّلوا شرائعَه. فعزمَ المكتفي على قتالهم والخروج إليهم بنفسه، فجمعَ وزيرُه القاسمُ بن عبيد الله (3) مَن قَدِرَ عليه من المنجِّمين، وفيهم زعيمُهم أبو الحسن العاصمي (4)، وكلُّهم أوجَب عليه بأن يشيرَ على الخليفة أن لا يخرُج، فإنه إن خرَج لم يرجع، وبخروجه تزولُ دولتُه، وبهذا تشهدُ النجومُ التي يقضي بها طالعُ مولده، وأخافوا الوزيرَ من الهلاك إن خرَج معه. وقد كان المكتفي أمَر الوزيرَ بالخروج معه، فلم يَجِد بُدًّا من متابعته، فخرَج وفي قلبه ما فيه، وأقام المكتفي بالرَّقَّة حتى أُخِذ أعداءُ الله جميعًا، وسُقِيَت جموعُهم بكأس السيف نَجِيعًا. ثمَّ جاء الخبرُ مِن مِصر بموت خُمَارويه بن أحمد بن طُولون، وكانوا به _________ (1) ديوانه، بشرح التبريزي (1/ 40 - 74). (2) في الأصول: «الملزوم». وهو تحريف. (3) الحارثي (ت: 291)، ظلومٌ سفَّاك للدماء، متهمٌ بالزندقة. انظر: «السير» (14/ 18). (4) له خبرٌ في «مختصر تاريخ الدول» لابن العبري (137). وسيأتي له ذكر (ص: 1212، 1234).

(3/1205)


يستطيلون، فأرسل المكتفي من تسلَّمها، واستحضر القُوَّادَ المصريَّة إلى حضرته. ثمَّ لمَّا عادَ أمَر القاسم بن عبيد الله الوزير بإحضار رئيس المنجِّمين إلى حضرته، وصَفَعَه الصَّفعَ الكثير، بعد أن وَقَفَه ووبَّخه على عظيم كذبه وافترائه، وتبرَّأ منه ومن كلِّ من يقولُ برأيه. قال أبو حيان التَّوحيدي في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» وقد ذكر هذه القصَّة: «فهذا وما أشبهه من الافتراء والكذب لو ظَهَرَ ونُشِر، وعُيِّر أهلُه به، ووُقِفُوا عليه، وزُجِروا عن الدَّعوى المُشْرِفَة على الغيب؛ لكان مَقْمَعَةً لمن يُطْلِقُ لسانَه بالاطِّلاع على ما يكونُ في غدٍ، وقَطعًا لألسنتهم، وكفًّا لدعاويهم (1)، وتأديبًا لصغيرهم وكبيرهم» (2). ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاث مئة عندما أراد القائدُ جَوْهَرُ العزيزُ بناءَ مدينة القاهرة، وقد كان سَبَق مولاه الملقَّب بالمُعِزِّ إلى _________ (1) (ت، ص): «لدواعيهم». (2) لم أقف عليه في «الإمتاع والمؤانسة»، وقد طُبع عن نسختين سقيمتين إحداهما ناقصة. ونقله الدلجي في «الفلاكة والمفلوكون» (26) من هنا. وأخبار المكتفي ووزيره القاسم مع القرامطة في «تجارب الأمم» لمسكويه (شيخ أبي حيان) (5/ 29 - 50)، وغيره (انظر: الجامع في أخبار القرامطة لسهيل زكار)، وليس فيها خبر المنجِّمين، فهل صنَعه أبو حيان نكايةً فيهم؟. وانظر لرأي أبي حيان في التنجيم: رسالته في العلوم (25)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 39)، و «البصائر والذخائر» (6/ 101). وسيأتي نقلٌ طويلٌ من كتابه «المقابسات» (ص: 1314).

(3/1206)


الدخول إلى الدِّيار المصريَّة لمَّا أمره بالغَرْب (1) بدخولها بالدَّعوة، وأمَره إذا دخلها أن يبني بها مدينةً عظيمةً تكونُ (2) نجومُ طالعِها في غاية الاستقامة، وتكونُ بطالع الكوكب القاهر، وهو زُحَل أو المرِّيخ على اختلاف جَلْوِه (3). فجمَع القائدُ جوهرُ المنجِّمين بها، وأمر كلَّ واحدٍ منهم أن يحقِّق الرَّصَدَ ويُحْكِمَه، وأمر البنَّائين أن لا يضعوا الأساسَ حتى يقال لهم: ضَعُوه، وأن يكونوا على أُهْبةٍ (4) من التيقُّظ والإسراع، حتى يوافقوا تلك الساعةَ التي اتفقت عليها أرصادُ أولئك الجماعة، فوُضِعَت الأساساتُ على ذلك في الوقت الحاضر، وسمَّوها بالقاهرة، إشارةً بزعمهم الكاذب إلى الكوكب القاهر. واتَّفقوا كلُّهم على أنَّ الوقتَ الذي بُنِيَت فيه يقضي بدوام جَدِّهم وسعادتهم ودولتهم، وأنَّ الدعوةَ فيها لا تخرُج عن الفاطميَّة وإن تداولتها الألسنُ العربيَّة والعجميَّة. _________ (1) أي: بالمغرب. وكان المُعِزُّ هناك. وفي (ط): «لما أمره المعز». (2) مهملة في (د). (ق): «يكون»، بالياء، في الموضعين. (3) مهملة في الأصول. وفي (ط): «حاله». وهم يزعمون أن المريخ حارٌّ وزحل بارد، فإذا بدأ المريخ في الارتفاع انحطَّ زحل، حتى ينتهي المريخ في الارتفاع، فيجلو؛ فلذلك يشتدُّ الحر. ثم يبدأ زحل في الارتفاع والمريخ في الهبوط، حتى ينتهي زحل في الارتفاع، فيجلو؛ وذلك أول الشتاء. (4) (ق، د): «هيئة». (ت): «هبة». «الفلاكة والمفلوكون» (26): «نهاية». والمثبت من (ص).

(3/1207)


فلما مَلَكَها أسدُ الدِّين شِيرَكُوه بن شاذي، ثمَّ ابنُ أخيه الملك الناصرُ صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب، ومع ذلك المصريُّون قائمون بدعوة العاضد عبد الله بن يوسف= توهَّم الجهَّالُ أنَّ ما قال المنجِّمون من قبلُ حقًّا؛ لتبدُّل اللسان وحالُ الدعوة مُسْتَبقى. فلمَّا ردَّ صلاحُ الدين الدعوةَ إلى بني العباس، انكشفَ الأمر، وزال الالتباس، وظهر كذبُ المنجِّمين، والحمدُ لله ربِّ العالمين. وكانت المدةُ بين وضع الأساس وانقراض دولة الملاحدة منها نحوًا من مئةٍ وثلاثةٍ وتسعين عامًا. فنقَض انقطاعُ دولتهم على المنجِّمين أحكامَهم، وخَرَّبَ ديارَهم، وهتَك أستارَهم، وكشَف أسرارَهم، وأجرى الله سبحانه تكذيبَهم والطَّعنَ عليهم على لسان الخاصِّ والعامِّ، حتى اعتَذر من اعتَذر منهم بأنَّ البنَّائين كانوا قد سبقوا الرَّصَّادين إلى وضع الأساس (1). وليس هذا مِنْ بَهْتِ القوم ووقاحتِهم (2) ببعيد؛ فإنه لو كان كذلك لرأى الحاضرون تبديلَ البناء وتغييرَه، فإنهم لو دخلهم شكٌّ في تقديمٍ أو تأخيرٍ أو سَبْقٍ بما دون الدَّقيقة في التقدير لما سامَحوا بذلك، مع المقتضي التَّامِّ والطاعة الظاهرة والاحتياط الذي لا مزيدَ فوقه، وليس في تبديل حجرٍ أو تحويله برفعِه ووضعِه كبيرُ أمرٍ على البنَّائين ولا مشقَّة، وقرائنُ الأحوال في _________ (1) انظر: «اتعاظ الحنفا» للمقريزي (1/ 247)، و «الخطط» (1/ 377). وفي سياق القصة اختلاف. (2) (ص): «وقحتهم». وهي بمعنى المثبت.

(3/1208)


إقامة دولةٍ بتقريرها، وإنشاء قاعدةٍ بتحريرها، شاهدةٌ بأنَّ الغفلة عن مثل هذا الخَطْب الجسيم مما لا يُتسَامحُ بها البتَّة. ويا لله العجب! كيف لم يظهر سبقُ البنَّائين للرَّصَّادين إلا بعد انقراض دولة الملاحدة، وأمَّا مدَّة بقاء دولتهم فكان البِناءُ مقارنًا للطالع المرصود، فهل في البَهْتِ فوق هذا؟! ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة خمس وتسعين وثلاث مئة في أيام الحاكم (1) على أنها السَّنةُ التي تنقضي فيها بمصر دولةُ العُبيديِّين، هذا مع اتفاق أولئك على أن دعوتهم لا تنقطعُ من القاهرة، وذلك عند خروج الوليد بن هشام المعروف بأبي رَكْوَة الأمويِّ، وحَكَم الطالعُ له بأنه هو القاطعُ لدعوة العُبيديِّين، وأنه لا بدَّ أن يستولي على الدِّيار المصريَّة ويأخذ الحاكمَ أسيرًا، ولم يَبْقَ بمصر منجِّمٌ إلا حكَم بذلك، وأكبرُهم المعروفُ بالفكري (2) منجِّم الحاكم. _________ (1) الحاكم بأمر الله، العبيدي الزنديق، حاكم مصر (ت: 411). انظر: «السير» (15/ 173). (2) كذا في الأصول هنا، وفي سائر المواضع الآتية. وفي «البيان المغرب» لابن عذاري (1/ 256): «البكري»، ولعلها في مخطوطته بالفاء، على طريقة المغاربة في نقط الفاء نقطةً واحدةً من أسفل، فظنَّها المحققُ باءً موحَّدة، وفي «اتعاظ الحنفا» (2/ 47): «العسكري»، وفي «نهاية الأرب» (28/ 178): «العكبري». ولعله: أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدفي المصري؛ فإن الصدفيَّ هو منجِّمُ الحاكم المشهور، وله صنَع الزيجَ الحاكمي، وزيجُه معروفٌ منسوبٌ إليه، كما أن صفة المذكور عند ابن عذاري هي صفة الصدفي المذكورة في ترجمته من الغفلة وضعف العقل (انظر: «وفيات الأعيان» 3/ 430)، ويبعد أن يكون «الفكري» شخصًا آخر له تلك المنزلة ثم لا يذكر اسمُه وأخباره في كتب التراجم والتواريخ المشهورة العامِّ منها والخاصِّ بتلك الحقبة، وقد فتَّشتُها. ولا يشكل على هذا إلا أني لم أرهم ذكروا تلك النسبة الغريبة في ترجمة الصدفي، وأنهم ذكروا وفاة الصدفي في شوَّال سنة 399 فجأة، ووفاة «الفكري» مقتولًا عند المقريزي وابن عذاري والنويري سنة 394. فعسى أن تكون تلك نسبةً له لم تشتهر، وكونه مات فجأةً لا يناقض قتل الحاكم له، بل لعله يفسِّر سبب الفجأة، وربما أمر بسمِّه سرًّا فلم يشتهر ذلك حينئذ، أما الاختلاف في تاريخ وفاته فقريب، ولعل وجهه أن الحاكم أمر في سنة 394 بقتل المنجمين، فتوهَّم مَن ذكر وفاته تلك السنة أنه كان فيمن قُتِل يومئذ، لشهرته بالتنجيم.

(3/1209)


وكان أبو رَكْوَة قد مَلَكَ بَرْقَة وأعمالَها، وكثُرت جموعُه، وقَوِيَت شوكتُه، وخرجت إليه جيوشُ الحاكم من مصر فعادت مفلولة (1)، فلم يَشُكَّ النَّاسُ في حِذْقِ المنجِّمين. وكان مِنْ تدبير الحاكم أنْ دعا خواصَّ رجاله وأمرهم أن يعملوا بما رآه من احتياله، وهو أن يكاتِبوا أبا رَكْوةَ بأنهم على مذهبه، وأنهم مائلون عن الدَّعوة الحاكميَّة، وراغبون في الدَّعوة الوليديَّة الأمويَّة، وأطمَعُوه بكلِّ ما أوهموه به أنهم صادقون، وله مناصحون، فلمَّا وَثِقَ بما قالوه، وخَفِيَ عليه ما احتالوه، زحَف بعساكره حتَّى نَزل بِوَسِيم (2) على ثلاثة فراسخ من مصر، فخرجت إليه العساكرُ الحاكميَّة، فهزمتْه، فتحقَّق أنها كانت خديعة، فهربَ وقُتِلَ خلقٌ كثيرٌ من عسكره، وطُلِبَ فأُخِذ أسيرًا، ودُخِل به القاهرةَ على _________ (1) مهزومة. وفي (ص): «مغلولة». (2) (ق): «برسيم». تحريف؛ برسيم زقاقٌ بمصر، وليس المقصود. انظر: «معجم البلدان» (5/ 377، 384)، و «الخطط» للمقريزي (1/ 208)، و «تاج العروس» (وسم).

(3/1210)


جَمَلٍ مشهورًا، ثمَّ أمر الحاكمُ بقتله بعد ما أُحضِرَ بين يديه مغلولًا بِغُلٍّ من حديد، وذلك في رجب سنة سبع وتسعين وثلاث مئة، وكان مبدأ خروجه في رجب سنة خمس وتسعين. فظهرَ كذبُ المنجِّمين. وكان هذا الفكريُّ قد استولى على الحاكم، فإنه اتفقت له معه قضيَّتان (1) أمالتاه إليه: إحداهما: أنَّ الحاكمَ عزم على إرسال أسطولٍ إلى مدينة صُور لمحاربتهم، فسأله الفكريُّ أن يكون تدبيرُه إليه ليُخْرِجَه في طالعٍ يختارُه، وتكون العهدةُ إن لم يظفر عليه (2)، واتَّفقَ ظهورُ الأسطول. الثانية: أنه ذَكَرَ أنَّ بساحل بِرْكة رُمَيْس (3) مسجدًا قديمًا، وأن تحته كنزًا عظيمًا، وسأله أن يتولى هو هدمَه، فإن ظهرَ الكنزُ وإلا بنَاه هو مِن ماله وأودعَه السِّجن، فاتَّفقَ إصابةُ الكنز؛ فطاشَ المغرورُ بذلك. فلمَّا حكمَ عليه الفكريُّ بتغيير دولته، وقضى المنجِّمون بمثل قضائه، فوقَع للحاكم أن يغيِّر أوضاعَ المملكة والدَّولة، ليكونَ ذلك هو مقتضى الحكم النُّجوميِّ، فصار يأمرُ في يومه بخلاف كلِّ ما أمَر به في أمسِه؛ فأمَر بسبِّ الصَّحابة رضوانُ الله عليهم على رؤوس المنابر والمساجد، ثمَّ أمَر _________ (1) (ت): «قصتان». (2) (ص): «يظهر عليه». (3) بمصر. وفي (ت): «رمسيس». «الفلاكة والمفلوكون» (27): «موريس». والمثبت من (ق) وهو الصواب. انظر: «تاج العروس» (برك).

(3/1211)


بقطع سبِّهم وعقوبة من سبَّهم، وأمَر بقطع شجرة الزَّرَجُون (1) من الأرض وأوجَب القتلَ على من شربَ الخمر، ثمَّ أمَر بغرس هذه الشجرة، وأباحَ شُربَ الخمر، وأهمَل الناس، حتى نُهِبَ الجانبُ الغربيُّ من القاهرة، وقُتِلَت فيه جماعة، ثمَّ ضبَط الأمرَ حتى أمَر أن لا تُغْلَق الحوانيتُ ليلًا ولا نهارًا، وأمَر مناديه ينادي: من عُدِمَ له (2) ما يساوي درهمًا أخَذ من بيت المال عنه درهمين، بعد أن يحلِفَ على ما عَدِمَه أو يعضدَه بشهادة رجلين، حتى تحيَّل الناسُ في سَتْر حوانيتهم بالجَرِيد لئلَّا تدخُلها الكلاب، ثمَّ عَمَدَ إلى كلِّ مُتَولٍّ في دولته ولايةً فعزَله، وقتَل وزيرَه الحسن بن عمَّار (3)؛ كلُّ ذلك ليكون قولُ أهل التَّنجيم أنَّ دولتَه تتغيَّر واقعًا على هذا الضرب من التَّغيير. فلمَّا كان مِنْ أمر أبي رَكْوَة ما تقدَّم ذِكرُه، ساء ظنُّه بعلم النِّجامة، فأمَر بقتل منجِّمه الفكريِّ، وأطلقَ في المنجِّمين العيبَ والذَّمَّ. وكان قد جمَع بين المنجِّمين بالدِّيار المصريَّة، واستدعى غيرَهم، وأمَرهم أن يرصُدوا له رَصَدًا يعتمدُ عليه، فصارت الطَّوائفُ النُّجوميَّة إلى هذا الرَّصَد يتحاكمون، وإن تضمَّن بعض خلاف الرَّصَد المأمونيِّ، ووضعوا له الزِّيجَ المسمَّى بالحاكميِّ (4). وكان هذا الفكريُّ قد أخَذ علمَ النِّجامة عمَّن أخَذه عن العاصميِّ، فسيَّر _________ (1) وهي شجرة العنب. «اللسان» (زرجن). (2) (ت): «من أخذ له». (3) في الأصول: «عماد». وهو تحريف. انظر: «الكامل» لابن الأثير (7/ 477، 481)، و «البداية والنهاية» (15/ 466)، و «اتعاظ الحنفا» (2/ 36). (4) انظر ما سيأتي (ص: 1234).

(3/1212)


أوقاتَ الحاكم وساعاته، ووافقه على ذلك المنجِّمون، فلما قتَله لم يَزُل أثرُ التَّنجيم عن نفسه؛ لتشوُّف النفس على التطلُّع إلى الحوادث قبل وقوعها. وكان بعدُ يتولَّعُ (1) بهذا العلم، ويجمعُ أصحابَه، فحكموا له في جملة أحكامهم بركوب الحمار على كلِّ حال، وألزموه (2) أن يتعاهدَ الجبلَ المقطَّمَ في أكثر الأيام، وينفردَ وحده بخطاب زُحَل بما علَّموه إياه من الكلام، ويتعاهَد فعلَ ما وضعوه له من البُخورات والأعزام (3)، وحكموا بأنه ما دام على ذلك وهو يركبُ الحمار، فهو سالمُ النفس من كلِّ إنذار (4). فلَزِمَ ما أشاروا به عليه، وأذِنَ الله العزيزُ العليم، ربُّ الكواكب ومسخِّرها ومدبِّرها، أنَّ هلاكَه كان في ذلك الجبل على الحمار (5)، فإنه خرجَ يومًا بحماره إلى ذلك الجبل على عادته، وانفردَ بنفسه منقطعًا عن موكبه، وقد استعدَّ له قومٌ بسكاكين تقطُر منها المنايا، فقطَّعوه هنالك للوقت والحِين، ثمَّ أعدموا جثَّته، فلم يُعْلَم لها خبر؛ فمِنْ هنا يقولُ أتباعُه الملاحدة: إنه غائبٌ مُنتَظر. وأظهرت قدرةُ الربِّ القاهر ــ تبارك اسمُه وتعالى جدُّه ــ تكذيبَ قول تلك الطائفة المُفْتَرين، ووقوعَ الأمر بضدِّ ما حكموا به، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ _________ (1) (ت، ص): «يبالغ». (2) (ت): «وأمروه». (3) جمع عزيمة، الرُّقى التي يعزم بها على الجن، وهي عامية، والصواب: عزائم. وفي (ق، د، ص): «والاعتزام». (4) مهملة في (د). (ق): «ابدار». وفي (ط): «إيذاء». والوجه ما أثبت. (5) (ق): «على ذلك الحمار».

(3/1213)


عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، فظهَر مِنْ كذبهم وجهلهم بدولته (1) في خروج أبي رَكْوَة وفي هذا الحِين، فهذا في مبدئها، وهذا في ختامها. فهل بعد ذلك وثوقٌ لعاقلٍ بالنجوم وأحكامها؟! كلَّا لعمرُ الله، ليس بها وثوق، وإنما غاية أهلها الاعتمادُ على رازقٍ ومرزوق! فأمَّا إصابةُ الفِكريِّ بظفَر الأسطول فإنما كان بتَحَيُّلٍ دبَّره على أهل صُور، لا بالطالع، فكانت الغلبةُ له عليهم بالتحيُّل الذي دبَّره ساعةَ القتال، لا بما ذكره من حكم الطَّالع قبلَ تلك الحال. وأمَّا إصابةُ الكنز فليس من النُّجوم في شيء، ومعرفةُ مواضع الكنوز علمٌ متداولٌ بين الناس، وفيه كتبٌ مصنَّفةٌ معروفةٌ بأيدي أرباب هذا الفنِّ، وفيها خطأٌ كثير، وصوابٌ قد دلَّ الواقعُ عليه (2). ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة على خروج ريحٍ سوداء تكونُ في سائر أقطار الأرض عامَّة، فتُهلِكُ كلَّ من على ظهرها إلا من اتخَذ لنفسه مغارةً في الجبال، بسبب أنَّ الكواكبَ كانت بزعمهم اجتمعَت في برج الميزان، وهو برجٌ هوائيٌّ لا يختلفُ فيه منهم اثنان، كما اجتمعَت في برج الحُوت زمن نوحٍ عليه السلام، وهو عندهم برجٌ مائيٌّ، فحصَل الطُّوفانُ المائيُّ (3). قالوا: وكذا اجتماعُها في البرج الميزانيِّ (4) يوجبُ _________ (1) في الأصول: «دولته». وفي (ط): «بتغيير دولته». (2) انظر: «زاد المعاد» (4/ 348)، و «الفهرست» (380)، و «مقدمة ابن خلدون» (913 - 919)، و «الفلاكة والمفلوكون» (30). (3) انظر: «المنتظم» (9/ 97). (4) غير محررة في (د). وفي (ت، ص): «الترابي».

(3/1214)


طوفانًا هوائيًّا. ودخَل ذلك في عقول (1) الرَّعاع من الناس، فاتَّخذوا المغارات استدفاعًا لما أنذرهم به الكذَّابون من الناس، فأذِنَ الله ربُّ العالمين مسخِّرُ الرِّياح ومُدبِّر الكواكب أنه لمَّا حان (2) ذلك الوقتُ الذي حَدُّوه، والأجلُ الذي عَدُّوه؛ قلَّ هبوبُ الرِّياح عن عادتها، حتى أهَمَّ النَّاسَ ذلك، ورأوا من الكَرب بقلَّة هبوب الرِّياح ما هو خلافُ المعتاد، فظهَر كذبُهم للخاصِّ والعامِّ (3). وكانوا قد دبَّروا في قصَّة هذه الرِّيح التي ذكروها بأنْ عَزَوْها إلى عليٍّ رضي الله عنه، وضمَّنوها جزءًا بمضمون هذه الرِّيح، وذكروا قصَّةً طويلةً في آخرها أنَّ الراوي عن علي رضي الله عنه قال له: لقد صدَّقني المنجِّمون فيما حكيتُ عنك، وقالوا: إنه تجتمعُ الكواكبُ في برج الميزان كما اجتمعَت في برج الحُوت على عهد نوح وأحدثَت الغَرَق، فقلتُ له: يا أميرَ المؤمنين، كم تقيمُ هذه الرِّيح على وجه الأرض؟ قال: ثلاثة أيامٍ ولياليها، وتكونُ قوَّتها من نصف الليل إلى نصف النهار من اليوم الثاني. _________ (1) (ت): «قلوب». وصحِّحت في طرة (ق). (2) (ق): «كان». (3) انظر: «أخبار الحكماء» (564)، و «تاريخ الإسلام» (12/ 669، 671)، و «السلوك» (1/ 211)، و «النجوم الزاهرة» (6/ 102)، و «شذرات الذهب» (6/ 449). قال ابن تغري بردي: «وهذا الكذب متداولٌ بين القوم إلى زماننا هذا، حتَّى إنه لا يمضي شهر إلا وقد أوعدوا الناس بشيءٍ لا حقيقة له، والعجبُ أن الشخص من العامة إذا كذَب مرةً على رجلٍ يستحي ولا يعودُ إلى مثلها، وهؤلاء القوم لا عِرْض لهم ولا دين ولا مروءة».

(3/1215)


وانظُر إلى اتفاقهم على أنَّ الكواكب إذا اجتمعَت في برج الميزان حصَل هذا الطُّوفانُ الهوائيُّ، واتفاقُهم على اجتماعها فيه في ذلك الوقت، ولم يقَع ذلك الطُّوفان! ومِن ذلك: اتفاقُهم في الدولة الصَّلاحيَّة (1) بحكم زُحَل والدالي (2)، أنَّ مدينةَ الإسكندريَّة لا يموتُ فيها من الغُزِّ (3) والي، فلمَّا مات بها الملكُ المعظَّمُ شمسُ الدولة تورانشاه بن أيوب بن شاذي سنة خمس وسبعين وخمس مئة، ثمَّ واليها فخرُ الدِّين قَرَاجَا بن عبد الله سنة تسع وثمانين وخمس مئة، ثمَّ واليها سعدُ الدِّين سودكين (4) بن عبد الله سنة خمس وستِّ مئة= انخرمت هذه القاعدةُ أصلًا، وبطَل قولُهم فرعًا وأصلًا، حتى قال بعضُ شعراء ذلك العصر عند موت الأمير فخر الدِّين: وقضى كُلُوحُ الثَّغر عند مماته ... أنَّ المنجِّمَ كاذبٌ لا يَصْدُقُ لو كان فيهِ لا يموتُ مُؤَمَّرٌ ... أودى (5) وفخرُ الدِّين حيٌّ يُرْزَقُ ومِن ذلك: اجتماعُهم في سنة خمس عشرة وستِّ مئة لما نزل الفِرنْجُ على دمياط، على أنهم لا بدَّ أن يغلبوا على البلاد، فيتملَّكوا ما بأرض مصر مِن رقاب العباد، وأنهم لا تدورُ عليهم الدَّائرةُ إلا إذا قام قائمُ الزَّمان (6)، _________ (1) صلاح الدين الأيوبي. (2) الدَّالي: الدلو. وهو بيت زحل. انظر: «صفة جزيرة العرب» للهمداني (46)، و «روح المعاني» (19/ 40)، و «كفاية الطالب» للموسوي (15، 18). (3) جنسٌ من الترك. «اللسان» (غزز). (4) (ت) و «الفلاكة والمفلوكون» (28): «بن سودكين». (5) أي: هَلَك المنجِّم. (6) وهو مهدي الشيعة. انظر: «فرج المهموم» لابن طاووس (258).

(3/1216)


وظهَر براياته الخافقة ذلك الأوان؛ فكذَّبَ اللهُ ظنونَهم وأتى من لُطفِه الخفيِّ ما لم يكن في حساب، ورَدَّ الفرنجَ بعد القتل الذَّريع فيهم والأسْرِ على العِقاب (1). وكان المنجِّمون قد أجمعوا في أمر هذه الواقعة على نحو ما أجْمَعَ عليه مَنْ قبلَهم في شأن عمُّورية، واتفقَ أن كان مبدأ هذا الفتح في سابع رجب سنة ثمان عشرة وست مئة، ومبدأ ذلك الفتح في سابع رجب أيضًا سنة ثلاث وعشرين ومئتين. قال الفاضلُ العلَّامة محمدُ بن عبد الله بن محمود الحسيني (2): ولما كذَّب اللهُ هؤلاء القوم فيما ادَّعوه نسجتُ على منوال أبي تمَّام في قصيدته البائيَّة المكسورة، فعملتُ بائيَّةً مفتوحة، وهي: الحمدُ للهِ حمدًا يبلغُ الأربا ... نقضي به مِن حقوقِ اللهِ ما وَجَبا حمدًا يزيدُ إذ النُّعمى تزيدُ به ... أُخراه أُولاه تُعطي ضعفَ ما وَهَبا لا ييأسُ المرءُ مِنْ رَوْحِ الإله فكم ... مَنْ راحَ في مُسْتهَلٍّ كان قد صَعُبا فكم مشى بك مكروهٌ رَكَضْتَ به ... من غيرِ علمٍ إلى ما تشتهي خَبَبا وكم تقطَّعَ دونَ المشتهى سببٌ (3) ... وكان منك لأعلى المنتهى سببا لا ينبغي لك في مكروهِ حادثةٍ ... أن تبتغي لك في غيرِ الرِّضا طلَبا _________ (1) (ص): «الأعقاب». (2) الفقيه المالكي، توفي بالإسكندرية سنة 631. قال المنذري: «وكان له شعرٌ حسن، وتصرُّف في التجنيس وغيره». «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 367). (3) (ت): «وكم يقع دون ما قد تشتهي سبب».

(3/1217)


للهِ في الخلقِ تدبيرٌ يفوتُ مدى (1) ... أسرارِ حكمته أحكامَ مَنْ حَسَبا ابغِ النَّجاءَ إذا ما ذو النِّجامة في ... زُورٍ من القول يقضي كلَّ ما قَرُبا وذو الأراجيز فيما قد يقولُ فَدَعْ ... فما أرى جِيزَ شيءٌ (2) كان قد كُتِبَا ما كانَ لله في ديوانِ قدرته ... من كاتبٍ بِحُدُوسِ الظَّنِّ إذ كتبا (3) لا يعلمُ الغيبَ إلا اللهُ خالقُنا ... لا عالمٌ غيره عُجْمًا ولا عَرَبا لا شيءَ أجهلُ ممَّن يدَّعي ثقةً ... بحَدْسِه وترى (4) فيما يَرى رِيَبا قد يجهلُ المرءُ ما في بيته نظرًا ... فكيف عنه بما في غيبِه احتجبا قد كذَّبَ اللهُ قولَ القائلينَ غدًا ... إذا أتى رجبٌ لم تَحْمَدُوا رَجَبا قالوا يُرى عجبٌ فيه فقلتُ لهم ... بالنَّصرِ من بعد يأسٍ (5) تُبْصِروا عَجَبا في منقضى (6) السَّبعةِ الأيام منه أتى ... ما فات (7) في مقتضاه السَّبعة الشُّهُبا وأعتَمَتْ فيه عَوَّاءُ النجوم (8) على ... عُواءِ ذئبٍ من الكفَّارِ قد حَرِبا والشِّعْرَيانِ (9) فكلٌّ منهما شَعَرت ... بأن للحقِّ فيهم سيفَ من غَلَبا _________ (1) (ت، ص): «لله في كل تدبير يفوت رضى». (2) (ت): «فما أرى خير شيء». (3) (ت، ص): «من كاتب وبسوء الظن قد كتبا». (4) (د): «ويرى». (5) (ق): «بالنصر بعد يأس». (ت، ص): «بالضر من بعد يأس». (6) (ق): «مقتضى». (7) (د، ق، ت): «ما بات». والمثبت من (ص). (8) العوَّاء (بالمدِّ والقصر): كواكبُ معروفة. «اللسان» (عوي). (9) كوكبان، هما: العبور والغميصاء. «اللسان» (شعر).

(3/1218)


وصَحَّ عن قمر الأفلاك (1) أنهمُ ... ما فيهمُ غيرُ مقهورٍ (2) وقد نَشِبا عطاؤهم ردَّ في وجهَيْ عُطاردِهم ... إلى الذي منهمُ ما شاءَ قد سَلَبا وقد بَدَت زهرةُ الإسلام زاهرةً ... قد أظلمَت فوقَهم مِن دونها سُحُبا وأجمَلت حُمْرةُ المرِّيخ حكمَهم (3) ... ففُسِّرَت بدمٍ فيهم لمن خَضَبا ولم يكُ المشتري تقضى (4) سعادتُه ... إلا إلى المشتري نفسًا بما طَلَبا وقيل (5) منقلبُ الأبراج ذو ضررٍ (6) ... فعادَ منه فبات النَّفع (7) منقلِبا كم حاملٍ ثائرٍ في الثَّور أو حَمَلٍ ... أجازَ فيهم على جَوزائهم حَرَبا ولم يَدُر فَلَكٌ إلا لذي ملكٍ ... يُدِيرُ جيشًا عليهم عَسْكرًا لَجِبا حتى غدا ثغرُ دِمياطٍ وقد حَكَموا ... أن لا يُرى باسمًا مُسْتَجْمِعًا شَنِبا يَفْتَرُّ عن صُبْحِ إيمانٍ به جَذِلًا ... وكان في ليلِ كُفرٍ باتَ مكتئبا ومدَّ كفًّا له التوحيدُ فانقبضتْ ... رِجْلٌ من الشِّركِ في تأخيره هَرَبا وتلك حربٌ صَلِيبٌ عودُها فقَضَت ... أن لا يعودَ صليبٌ بعدُ منتصبًا _________ (1) (ت): «من قهر الأفلاك». (2) (ت): «غير مغلوب». (3) إجمال حُمرة المريخ لحكمهم فُسِّر بالدم الذي سال منهم. (4) (ت، ص): «يقضي». (5) (ق): «وقبل». وهي مهملة في (ت). (6) (ق): «قدر». (ص): «صور». وهو تحريف. (7) (ت): «مناف النفع» (ق، ص): «مبات النفع». والحرفان الأولان مهملان في (د). والمثبت أشبه.

(3/1219)


وأطلقَ القول بالتَّأذين إذ خَرِسَت ... له نواقيسُ جرجيسٍ فما احتسبا (1) ومما اتفق عليه المنجِّمون: أنَّ الإنسانَ إذا أراد أن يستجيب الله دعاءه جعَل الرَّأسَ في وسط السماء مع المشتري أو بنظرٍ منه (2) مقبول، والقمرَ متصلًا به أو منصرفًا عنه يتصلُ بصاحب الطالع، أو صاحب الطالع متصلًا بالمشتري ناظرًا إلى الرَّأس نظر مودَّة (3)؛ فهنالك لا يَشُكُّون أنَّ الإجابةَ حاصلة (4). قالوا: وكانت ملوكُ اليونان يَلْزَمون ذلك، فيَحْمَدُون عُقباه. والعاقلُ إذا تأمَّل هذا الهذَيان لم يَحْتَجْ في علمه ببطلانه ومُحاله إلى فكرٍ ونظر، فإنَّ ربَّ السموات والأرض سبحانه لا يتأثرُ بحركات النجوم، بل يتقدَّسُ ويتعالى عن ذلك. فيا للعقول التي أضحكَت عليها العقلاء من المؤمنين والكفَّار! ما في هذه الاتصالات حتى تكون على وجوب إجابة الله من أقوى الدَّلالات؟! ومما عليه المنجِّمون متفقون أو كالمتفقين: أنَّ الخبرَ إذا ورَد في وقت _________ (1) (د، ق، ص): «له النواقيس اجر قيس فاحتسبا». (ت): «له النواقيس اخرس فاحتسبا». والمثبت من (ط) ولعله من تصرف الناشر. وفي القصيدة مواضع لم تتحرر كما ينبغي في الأصول، ولم أجدها في مصدرٍ آخر. (2) (ت): «أو ينظر منه». وهي مهملة في (ق). (3) في «الفلاكة والمفلوكون» (28): «والقمر متصل به أو منصرف عنه ... متصل بالمشتري ناظر ... ». (4) ليعقوب بن إسحاق الكندي (ت: 260) رسالةٌ في تحرِّي وقت يجري فيه إجابة الدعاء والتضرع إلى الله تعالى من جهة التنجيم. انظر: «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 111).

(3/1220)


أوتادٍ ثابتة (1) الوجود، والقمرُ وعطاردُ في بروجٍ ثوابت، والقمرُ منصرفٌ عن السُّعود؛ فالخبر ليس بباطل! والباطلُ مثلُ هذا؛ فإنه يلزمُهم أنَّ من وضعَ خبرًا باطلًا في ذلك الوقت أنَّ الطالعَ المذكور يصحِّحُه، أو يقولوا: لا يُمْكِنُ أحدًا أن يكذبَ في ذلك الوقت! وقد أورَد أبو معشر المنجِّم هذا السُّؤالَ في كتاب «الأسرار» (2) له، وأجابَ عنه: أنَّ الأخبارَ تختلف، فإن ورَد خبرٌ مكروهٌ من أسباب الشرِّ والجَوْر والأفعال المنسوبة إلى طبائع النُّحوس (3)، وفي الطالع [نحسٌ] (4)، والقمر منصرفٌ عن سَعْد؛ فالخبرُ باطل. وإن ورَد خبرٌ محبوبٌ من أسباب الخير والعدل والأفعال المنسوبة إلى طبائع السُّعود، وفي الطالع سَعْد، والقمرُ [غير] منصرفٍ عن سعد؛ فالخبرُ حقٌّ. قال: وزُحَل لا يدلُّ في كلِّ حالٍ على الكذب، بل يدلُّ على وجود العوائق عمَّا يُوقِعُ ذلك الخبر، لكنَّ البلاءَ المريخُ أو الذَّنَبُ إذا استوليا (5) على الأوتاد وعلى القمر أو عُطارد؛ فإنهما يدلَّان على الكذب والبطلان. ثمَّ قال: وعلى كلِّ حال، فالقمرُ في العقرب والبروج الكاذبة يُنْذِرُ _________ (1) (د): «اوتاد ـامنه». (ق، ت): «او ـا د ـا منه». وهو مشكلٌ كما ترى، ولستُ فيما أثبتُّ على ثقة. (2) «أسرار النجوم»، نسخه كثيرة، وفيها اختلافٌ كبير، ولم يطبع بعد. وهو غير كتاب «المذاكرات»، ذاك أسئلة وجهها له شاذان بن بحر، فأجابه عنها. انظر: «تاريخ الأدب العربي» (4/ 208)، و «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 114، 124). (3) في الأصول: «طبائع المنجمين». والمثبت من (ط). وهو الصواب. (4) ساقطة من الأصول. (5) (ت): «استويا».

(3/1221)


بكذبٍ في نفس الخبر أو زيادةٍ أو نقصان، وفي الحَمَل والبروج الصَّادقة يدلُّ على صدقٍ فيه واستواء، وفي السَّرطان والبروج المنقلبة لا يدلُّ على انقلاب الخبر إلى باطل، ولكنه قد ينقلبُ فيصيرُ أقوى مما هو عليه الآن، إلا أن ينظُر إليه نَحْسٌ فيفسده ويُبْطِله. ثمَّ قال: واعرِف صدقَ الخبر مِنْ سهم الغيب إذا شككتَ فيه؛ فإن كان سليمًا من المرِّيخ والذَّنَب، وينظرُ إليه صاحبُه أو القمرُ أو الشَّمس نظرَ صلاحٍ، فهو حقٌّ. هذا منتهى كلامه في الجواب، وهو كما تراه متضمِّنٌ أن عند هذه الاتصالات التي ذكرها يكونُ الخبرُ صحيحًا صدقًا وعند تلك الاتصالات الأُخَر تكون منذرةً بالكذب. فيقالُ لهؤلاء الكذَّابين المفترين الملبِّسين: أيستحيلُ عندكم معاشرَ المنجِّمين أن يضعَ أحدُكم خبرًا كاذبًا عند تلك الاتصالات، أم ذلك واقعٌ في دائرة الإمكان (1)، بل هو موجودٌ في الخارج؟! وكذلك يستحيلُ أن يصدُق مُخْبِرٌ عند الاتصالات الأُخَر، أو يبعُد صدقُ العالَم عندها ويكونُ كذبُهم إذ ذاك أكثرَ منه في غير ذلك الوقت؟! وهل في الهَوَس أبلغُ (2) من هذا؟! ولو تتبَّعنا أحكامَهم وقضاياهم الكاذبة التي وقعَ الأمرُ بخلافها لقام منها عدَّةُ أسفار. وأمَّا نكباتُ مَن تقيَّد بعلم أحكام النجوم في أفعاله وسفره، ودخوله _________ (1) (ت): «في جائز الإمكان». (2) (ت): «أكثر».

(3/1222)


البلدَ وخروجه منه، واختياره الطالعَ لعمارة الدَّار والبناء بالأهل وغير ذلك؛ فعند الخاصَّة والعامَّة منهم عِبَرٌ يكفي العاقلَ بعضُها في تكذيب هؤلاء القوم ومعرفته لافترائهم على الله تعالى وأقضيته وأقداره، بل لا يكادُ يُعْرَفُ أحدٌ تقيَّد بالنجوم في ما يأتيه ويَذَرُه إلا نُكِبَ (1) أقبحَ نكبةٍ وأشنعَها؛ مقابلةً له بنقيض قصده، وموافاة النُّحوس له من حيثُ ظنَّ أنه يفوزُ بسَعْدِه. فهذه سنةُ الله في عباده التي لا تُبدَّل، وعادتُه التي لا تُحَوَّل: أنَّ من اطمأنَّ إلى غيره، أو وَثِقَ بسواه، أو رَكَنَ إلى مخلوقٍ يدبِّره؛ أجرى اللهُ له بسببه أو من جهته خلافَ ما عَلَّق به آمالَه. وانظُر ما كان أقوى تعلُّق بني بَرْمَك بالنُّجوم، حتى في ساعات أكلهم وركوبهم وعامَّة أفعالهم، وكيف كانت نكبتُهم الشَّنيعة (2). وانظُر حالَ أبي علي ابن مُقلة الوزير، وتعظيمَه لعلم أحكام النجوم، ومراعاته لها أشدَّ المراعاة، ودخولَه داره التي بناها بطالعٍ زعَم الكذَّابون المفترون أنه طالعُ سعدٍ لا يرى به في الدَّار مكروهًا، فقُطِعَت يدُه، ونُكِبَ في داره أقبحَ نكبةٍ نُكِبَها وزيرٌ قبله (3). وقتلى المنجِّمين أكثرُ من أن يحصيهم إلا الله عزَّ وجل. الوجه التاسع عشر: أنَّ هؤلاء القوم قد أقرُّوا على أنفسهم وشهادة بعضهم على بعضٍ بفسادِ أصول هذا العلم وأساسه. _________ (1) (د): «إلا ونكب». (2) انظر: «التذكرة الحمدونية» (9/ 321)، و «تاريخ الطبري» (8/ 287)، و «المنتظم» (9/ 130)، و «البداية والنهاية» (13/ 639). (3) انظر: «السير» (15/ 224)، و «البداية والنهاية» (15/ 123).

(3/1223)


فقد كان أوائلُهم من الأقدمين وكبارُ رُصَّادهم من عهد بَطْليموس وطيموخارس ومانالاوس قد حكموا في الكواكب الثابتة بمقدار، واتفقوا أنه صحيحُ الاعتبار، وأقام الأمرُ على ذلك فوق سبع مئة عام، والناسُ ليس بأيديهم سوى تقليدهم، حتى كان في عهد المأمون، فاتفق مِنْ رُصَّادهم وحُكَّامهم علماءُ الفريقين، مثلُ خالد بن عبد الملك المروزي (1)، وحبَش (2) صاحب الزِّيج المأمونيِّ، ومحمد بن الجهم (3)، ويحيى بن أبي منصور (4) = على أنهم امتحنوا رصدَ الأوائل فوجدوهم غالطين فيما رصدُوه، فرصدوا هم رصدًا لأنفسهم، وحرَّروه، وسمَّوه: الرَّصَدَ المُمْتَحَن، وجعلوه مبدأً ثانيًا بعد ذلك الزمن. وكان لأوائلهم إجماعٌ على صحَّة رصدِهم، ولهؤلاء إجماعٌ على خطئهم فيه؛ فتضمَّن ذلك شهادة الأواخر على الأوائل أنهم كانوا غالطين، وإقرار الأواخر على أنفسهم أنهم كانوا بالعمل به مخطئين. ثمَّ حدَثت طائفةٌ أخرى، منهم كبيرُهم وزعيمُهم أبو معشر محمد بن جعفر (5)، وكان بعد أصحاب الرَّصَدِ المُمْتَحَن بنحوٍ من ستين عامًا، فردَّ _________ (1) انظر: «طبقات الأمم» لصاعد (50، 56)، و «مروج الذهب» (1/ 100)، و «أخبار الحكماء» (301، 326). ونسبته في بعضها: المروروذي. نسبة إلى مرو الروذ، وتعرف بمرو الصغرى. والمروزي نسبة إلى مرو. وهي من مدن خراسان. (2) في الأصول: «حسن». وهو تحريف. انظر: «الفهرست» (334)، و «طبقات الأمم» (54)، و «أخبار الحكماء» (223)، و «كشف الظنون» (2/ 968). (3) البرمكي. انظر: «طبقات الأمم» (60). (4) انظر: «طبقات الأمم» (50، 57، 60)، و «أخبار الحكماء» (484). (5) كذا في الأصول. والصواب: جعفر بن محمد. كان في أوَّل أمره من أهل الحديث، ثمَّ دخل في علم أحكام النجوم، وصار من الصابئين، وعبَد القمرَ مدَّةً كما أخبر عن نفسه (ت: 272). انظر: «الفهرست» (335)، «طبقات الأمم» (57)، و «أخبار الحكماء» (201)، و «السير» (13/ 161)، و «نقض التأسيس» لابن تيمية (1/ 123، 447).

(3/1224)


عليهم، وبيَّن خطأهم، كما ذكر أبو سعيد شاذان بن بحر المنجِّم في كتاب «أسرار النجوم» (1)، قال: قال أبو معشر: أخبرني محمد بن موسى المنجِّم الجليس (2) ــ وليس بالخوارزمي ــ قال: حدَّثني يحيى بن أبي منصور، أو قال: حدَّثني محمد بن محمد الجليس قال: دخلتُ على المأمون وعنده جماعةُ المنجِّمين، وعنده رجلٌ قد تنبَّأ، وقد دعا القضاةَ والفقهاء ولم يحضروا بعد، ونحن لا نعلم، فقال لي ولمن حضرَ من المنجِّمين: اذهبوا فخذوا الطالعَ لدعوى رجلٍ في شيءٍ يدَّعيه، وعرِّفوني بما يدلُّ عليه الفلكُ مِنْ صِدْقِه وكذبِه، ولم يُعْلِمنا المأمونُ أنه متنبِّاء، فجئنا إلى ناحيةٍ من القصر، وأحكمْنا أمرَ الطالع، وصوَّرناه، فوقع (3) الشَّمس والقمرُ في دقيقةٍ [واحدة، وسهمُ السعادة وسهمُ الغيب في دقيقةٍ واحدةٍ مع دقيقة] (4) الطالع، والطالعُ الجَدي، والمشتري في السنبلة ينظرُ إليه، والزُّهَرة وعطاردُ في العقرب ينظران إليه، فقال كلُّ من حضر من المنجِّمين: هذا الرجلُ صحيحٌ _________ (1) هو كتاب «المذاكرات» (ق: 2/ب - نسخة كيمبردج). انظر حاشية «البصائر والذخائر» (3/ 64). (2) مهملة في (د). وفي (ق): «الحليس». وهو تحريف. انظر: «أخبار الحكماء» (390، 484) والمصادر التالية. (3) «مختصر تاريخ الدول» لابن العبري (137)، و «أخبار الحكماء» (485): «فصورنا موضع». وفي «سرور النفس» للتيفاشي (194): «وأحكمنا موقع». (4) من «البصائر والذخائر» (3/ 65)، و «مختصر تاريخ الدول»، و «أخبار الحكماء». وكأنه سقط لانتقال النظر ..

(3/1225)


ما يدَّعيه لا كذبَ فيه. قال يحيى: وأنا ساكت، فقال لي المأمون: قُل. فقلت: هو في طلب تصحيحه، وله حجةٌ زُهَريَّة وعُطارديَّة، وتصحيحُ ما يدَّعيه لا يتمُّ له. فقال: من أين قلتَ؟ فقلت: لأنَّ صحةَ الدعاوى من المشتري، [ومن تثليث الشمس وتسديسها إذا كانت الشمس غير منحوسة, وهذا الطالع يخالفه؛ لأنه هبوط المشتري] (1)، وهو ينظرُ إليه نظرَ (2) موافقة، إلا أنه كارهٌ لهذا البرج، فلا يتمُّ له التصديقُ ولا التصحيح، والذي قاله (3) إنما هو مِنْ حجةٍ عُطارديَّة وزُهَريَّة، وذلك يكونُ من جنس التَّحسين والتَّزويق والخِداع عن غير حقيقة. فقال: لله درُّك. ثمَّ قال: تدرون ما يدَّعي هذا الرجل؟ قلنا: لا. قال: هذا يدَّعي النبوة. فقلت: يا أمير المؤمنين، ومعه شيءٌ يحتجُّ به؟ فسأله، فقال: نعم؛ معي خاتمٌ ذو فصَّين، ألبسُه فلا يتغيَّر منِّي شيء، ويلبسه غيري فلا يتمالكُ من الضَّحك حتى ينزعَه، ومعي قلمٌ شاميٌّ أكتبُ به، ويأخذُه غيري فلا تنطلقُ أصبعُه. فقلت: يا سيدي، هذا عُطاردُ والزُّهَرةُ قد عَمِلا عملَهما. فأمَره المأمونُ فأظهَر ما ادَّعاه منهما، وكان ذلك ضربٌ من الطِّلَّسْمات (4)، فما زال به المأمونُ أيامًا كثيرةً حتى أقرَّ وتبرَّأ من دعوى النُّبوة، ووَصَف الحيلةَ _________ (1) من «مختصر تاريخ الدول» (137)، و «أخبار الحكماء» (485)، و «فرج المهموم» (66)، وكأنها سقطت لانتقال النظر أيضًا. (2) في الأصول: «زحل». وهو تحريف. والتصويب من المصادر السابقة. (3) (ت) و «فرج المهموم»: «قالوا». (ق): «قالوه». «مختصر تاريخ الدول» و «أخبار الحكماء»: «قال». والمثبت أشبه. (4) جمع طلَّسم، من السِّحر، خطوطٌ وأعدادٌ يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوبٍ أو دفع أذى. انظر: «المعجم الوسيط»، و «أبجد العلوم» (2/ 327) ..

(3/1226)


التي احتالها في الخاتم والقلم، فوَهَبَ له المأمونُ ألفَ دينارٍ وصَرَفَه، فلقيناه بعد ذلك فإذا هو أعلمُ النَّاس بعلم النجوم، ومِنْ أكبر أصحاب عبد الله القشيري (1)، وهو الذي عَمِلَ طِلَّسْمَ الخنافس في دُور بغداد (2). قال أبو معشر: لو كنتُ في القوم لذكرتُ أشياءَ خَفِيَت عليهم؛ كنتُ أقول: الدعوى باطلةٌ من أصلها، لأنَّ البرجَ منقلبٌ وهو الجَدي، والمشتري في الوبال، والقمرُ في المَحاق، والكوكبان الناظران إلى الطالع في برجٍ كذَّابٍ وهو العقرب. فتأمَّلْ كيف اختلفَت أحوالُهم وأحكامُهم مع اتحاد الطالع، وكلٌّ منهم يُمْكِنُه تصحيحُ حُكمه بشبهةٍ من جنس شبهة الآخر، فلو اتفق أن ادعى رجلٌ صادقٌ في ذلك الوقت والطالع دعوى، ألم يكن ادعاؤه ممكنًا غير مستحيل، ودعواه صحيحةً في نفسها؟ أم تقولون: إنه لا يمكنُ أن يدَّعي أحدٌ في ذلك الوقت والطالع دعوى صحيحةً البتة؟! ومن المعلوم لجميع العقلاء أنه يمكنُ إذ ذاك [وقوعُ] (3) دعويَيْن مِنْ رجلٍ مُحِقٍّ ومُبْطِلٍ بذلك الطالع بعينه. فما أسخفَ عقلَ من ارتبط بهذا الهذَيان، وبنى عليه جميعَ حوادث الزمان! وليس بيد القوم إلا ما اعترفَ به فاضلُهم وزعيمُهم أبو معشر. قال شاذان في الكتاب المذكور أيضًا: قلتُ لأبي معشر: الذَّنَبُ باردٌ يابس، فلم قلتم: إنه يدلُّ على التأنيث؟ فقال: هكذا قالوا!. قلت: فقد قالوا: _________ (1) في «أخبار الحكماء» و «سرور النفس»: عبد الله ابن السري. (2) انظر: «الديارات» للشابشتي (300)، و «الخزل والدأل» (2/ 26)، و «معجم البلدان» (2/ 508). (3) ليست في الأصول، والسياق يقتضيها.

(3/1227)


إنه ليس بصادقٍ في اليُبس، لكنه باردٌ عفنٌ ملتوي (1)، فقال: كلُّ الأعراض الغائبة توهُّم، لا يكونُ شيءٌ منها يقينًا، وإنما يكونُ توهُّمٌ أقوى من توهُّم. ومن تأمَّل أحوالَ القوم علمَ أنَّ ما معهم زَرْقٌ (2) وتفرُّسٌ يصيبون معها ويخطئون (3). قال شاذان في كتابه المذكور: كان الداري (4) الثنويُّ (5) الذي بالهند يُكاتِبُ أبا معشر ويُهادِيه، فأنفَذ لأبي معشر مولدًا لابن مالكِ سرنديب، طالعُه الجوزاء، والشَّمس والقمر في الجَدي، والقمرُ خارجٌ عن الشُّعاع، وعُطارد في الدَّلو، والمشتري في الحَمَل، وزُحَل في السَّرطان راجعٌ في بُحْران الرجوع، فحكمَ له أبو معشر بأنه يعيشُ دورَ زُحَل الأوسط، فقلت: سبحان الله! زُحَل (6) راجعٌ في بُحْران الرجوع، في بيتٍ (7) ساقطٍ عن الأوتاد، لا يعطيه إلا دوره الأصغر، ويحتاجُ أن يسقط منه الخمسين! وجعلتُ أُنكِرُ عليه ذلك وأخوِّفه أن تسقط منزلتُه عند أهل تلك البلاد، إلى _________ (1) (ط): «لكنه بارد فنظر لي». (2) أي: حِيَلٌ وخِدَاع. رجلٌ زرَّاق: خدَّاع. والزرَّاق - بلغة الساسانيين -: الذي يقعد على الطريق فيحتال وينظر بزعمه في النجوم. انظر: «الأنساب» للسمعاني (6/ 267)، و «اللسان» «زرق»، و «قصد السبيل» (2/ 84)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (5/ 311). (3) انظر: «نشوار المحاضرة» (2/ 324). (4) كذا في الأصول. لعله نسبة إلى: دار، قرية على خمسة فراسخ من هراة. انظر: «الأنساب» (5/ 252). وفي (ط): «الرازي». (5) (ق، د): «المثنوي». وهي مهملة في (ت). (6) في الأصول: «جاه». وفي (ط): «جاءه». وهو تحريف. (7) (ت): «فحكم له أبو معشر في بيت».

(3/1228)


أن ذكَر محاورةً طويلةً انتهت بهما إلى أنَّ أبا معشرٍ أخَذ ذلك من عادات أهل الهند في طول الأعمار. وقال له شاذان في مسألةٍ سئل عنها: ما أنتم إلا زَرَّاقين! ثمَّ حدثت بعد هؤلاء جماعة، منهم: أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر بن عبدٍ (1)، المعروفُ بالصُّوفيِّ، وكان بعد أبي معشر بنحوٍ من سبعين عامًا، فذكَر أنه قد عَثَرَ مِنْ غلط الأواخر بعد الأوائل على أشياء كثيرة، وصنَّف كتابًا في معرفة الثوابت، وحمله إلى عضد الدولة بن بُوَيه، فاستحسنه، وأجزلَ ثوابَه، وبيَّن في هذا الكتاب من أغاليط أتباع الرَّصَد الثاني أمورًا كثيرة لعُطارد المنجِّم، ومحمد بن جابر البتَّاني، وعلي بن عيسى الحرَّاني. فقال في مقدمة كتابه: «ولمَّا رأيتُ هؤلاء القوم مع ذِكْرهم في الآفاق وتقدُّمهم في الصِّناعة، واقتداء الناس بهم، واشتغالهم بمؤلفاتهم (2)، قد تبعَ كلُّ واحدٍ منهم مَن تقدَّمه مِنْ غير تأمُّلٍ لخطئه وصوابه بالعيان والنظر، وأوهموا الناسَ الرَّصد، حتى ظنَّ كلُّ من نظر في مؤلَّفاتهم أن ذلك عن معرفةٍ بالكواكب ومواضعها». إلى أن قال: «ومُعَوَّلُهم على كُراتٍ (3) مُصَوَّرةٍ مِنْ عمل من لا يعرفُ (4) _________ (1) كذا في الأصول. والضبط من (د). وفي «أخبار الحكماء» (309): عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سهل. توفي سنة 375. (2) «صور الكواكب الثمانية والأربعين» (ق: 3/أ): «واستعمالهم مؤلفاتهم». (3) في الأصول: «آلات». وهو تحريف. والتصويب من «صور الكواكب الثمانية والأربعين» للصوفي (ق: 1/ب). (4) «صور الكواكب»: «من لم يعرف».

(3/1229)


الكواكبَ بأعيانها، وإنما عوَّلوا على ما وجدوه في الكتب من أطوالها وعُروضها، فرسَموها في الكُرة من غير معرفةٍ خطئها وصوابها». ثمَّ قال: «وزادوا أيضًا على أطوال كواكبَ كثيرةٍ وعُروضِها (1) دقائقَ يسيرة، ونقصُوا منها، وأوهموا بذلك أنهم رصَدوا الكلَّ، وأنهم وجدوا بين أرصادهم وأوضاع بَطْليموس من الخلاف في أطوالها وعروضها القَدْرَ الذي خالفوا به سوى الزِّيادة التي وجدوها من حركاتها في المدَّة التي بينهم وبينه من السِّنين، مِنْ غير أنْ عَرفوا الكواكبَ بأعيانها». وله تواليفُ أُخَر مشحونةٌ ببيان أغاليطهم، وإيضاح أكاذيبهم وتخاليطهم (2). وشَهِد عليهم بأنهم تارةً قلَّدوا في الأقوال النجومية (3)، وتارةً قلَّدوا فيما وجدوه من الصُّوَر الكوكبية، فهم مقلِّدون في القول والعمل، ليس مع القوم بصيرة. وشَهِدَ عليهم بأنهم مُوهِمون (4) مدلِّسون، بل كاذبون مفترون، مِن جهة أنهم زادوا دقائقَ مابين زمانهم وزمان بَطْليموس، وأوهموا بها أنهم رصَدوا ما رصَده مَن قبلهم، فعثَروا على ما لم يعثُروا عليه. _________ (1) (ت، د): «الكواكب كثرة وعروضها». (ق): «الكواكب كثرة عروضها». والمثبت من «صور الكواكب الثمانية والأربعين». (2) انظر: «تاريخ الأدب العربي» (4/ 217). (3) في الأصول: «النحوسية». وهو تحريف. والمثبت من (ط). (4) (ت): «موهومون». (ط): «مموهون».

(3/1230)


ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم: الكوشْيار بن باشهري (1) الديلمي، ومن تواليفه: «الزِّيج الجامع» (2)، و «المجمل في الأحكام» (3)، وهو عندهم نهايةٌ في الفنِّ، وكان بعد الصُّوفي بنحو ثلاثين عامًا. وذكر في مقدمة كتابه «المجمل»: «إني جمعتُ في هذا الكتاب من أصول صناعة النجوم (4)، والطريق إلى التصرُّف فيها (5)، ما ظننتُه كافيًا في معناه، مغنيًا (6) في أكثر الأمر عمَّا سواه، فأخذتُ فيه (7) أقربَ طريقٍ _________ (1) مهملة في (د). وفي (ق، ت): «ياسر بن». تحريف. وهو أبو الحسن كوشيار بن لبان الجِيلي (ت: 350)، وقيل: بل كان حيًّا سنة 459، وما ذكره المصنف يشهد للأول. انظر: «تاريخ حكماء الإسلام» (91)، و «أخبار الحكماء» (130)، و «كشف الظنون» (2/ 971، 1453، 1604، 1643)، و «هدية العارفين» (1/ 445)، و «الأعلام» (5/ 236). ووقع في مواضع من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: كوشيار الديلمي. انظر: «الرد على المنطقيين» (265)، و «مجموع الفتاوى» (9/ 216، 25/ 184، 207). والجيلي: نسبة إلى جيل، بلاد متفرقة وراء طبرستان. وتلك بلاد الديلم. وخلط في «الذريعة» (11/ 72) بينه وبين أبي علي كوشيار بن لياليروز الجيلي، المحدِّث، المترجم في «الأنساب» (3/ 414) و «تاريخ بغداد» (12/ 492) وغيرهما. (2) في الأصول: «الزيجات والجامع». وهو خطأ. (3) انظر: «كشف الظنون» (2/ 968)، و «تاريخ الأدب العربي» (4/ 215)، و «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 130). (4) «المجمل» (ق: 1/ب): «صناعة الأحكام وجُمَلها». (5) «المجمل»: «التصرف فيها واستعمالها». (6) «المجمل»: «مستغنيا». (7) في الأصول: «مغنيا عما سواه وأكثر الأمر فيما اخذ به». والمثبت من «المجمل»، وبه يستقيم الكلام. ولعل المصنف استدرك قوله: «أكثر الأمر» في الطرة، فلم يفطن الناسخ إلى موضعها الصحيح في المتن.

(3/1231)


عرفته (1) إلى القياس، وأوضحَ سبيلٍ سلكته (2) إلى الصواب؛ إذ هي صناعةٌ غيرُ مُبَرْهَنة، وللخواطر والظُّنون [فيها] مجال، بلا نهاية (3) صوابٍ ومحال». إلى أن ذكَر علمَ الأحكام، فقال فيه (4): «ولا سبيل للبرهان عليه، ولا هو مُدْرَكٌ بكلِّيته، نَعَم ولا بأكثره؛ لأنَّ الشيء الذي يُسْتَعملُ فيه هذا العلم فأشخاصُ الناس (5)، وجميعُ مادون الفلَك القمريِّ مطبوعٌ على الانتقال والتغيُّر، ولا يثبتُ على حالٍ واحدةٍ في أكثر الأمر، ولا الإنسانُ بكامل (6) _________ (1) (د): «عزوته». ومهملة في (ق). (ت): «عزوابه». والمثبت من «المجمل». (2) «المجمل»: «مسلك علمته». (3) «المجمل»: «وكلام الحشوية فيها بلا نهاية». وفي طرة النسخة: «الحشوية من أهل الأحكام، وهم الذين يحكمون في الصناعة أحكامًا خارجة عن القياس». وأظن المصنف حذفها عمدًا، استثقالًا للفظة «الحشوية». (4) لا بأس أن أنقل ما أغفله المصنف، لتكتمل الفكرة، قال في «المجمل»: «السبيل إلى علم أحكام النجوم بشيئين: أحدهما، وهو الأقدم: علم أفلاك الكواكب وحركاتها وحساب تقاويمها وأحوالها، وهو علمٌ أُدرِك بالآلات والرصد، وعليه براهين هندسية، ومن تفرَّد به كان عالمًا بأشرف العلوم وأصدقها (وفي نسخة: وأدقها) بعد العلوم الدينية، وقد تقدم لنا في ذلك كتابان سميناهما: الزيج الجامع، وكتاب البالغ. والثاني: علم الأفعال الصادرة عن الكواكب وقواها وتأثيراتها فيما دون فلك القمر. وهو علمٌ يدرَك بالتجربة والقياس، ومضطرٌّ إلى العلم الأول، ولا سبيل للبرهان إليه ... ». (5) «المجمل»: «هذا العلم أعني الهيئات (كذا قرأتها، ولم تحرر في النسخة) والأشخاص الإنسان». (6) (ق، ت): «للانسان بكامل». (د): «للانسان تكامل». والمثبت من «المجمل»، وليس في النسخة كلمة «القوة».

(3/1232)


القوَّة في الحَدْس بخواصِّ الأحوال (1) التي تكونُ من امتزاجات الكواكب؛ فبلغَ من الصُّعوبة وتعسُّر الوقوف عليه إلى أن دَفَعَه بعض الناس، وظنُّوا أنه شيءٌ لا يُدْرِكه أحدٌ البتة، وأكثرُ المتفرِّدين (2) بالعلم الأول ــ يعني علمَ الهيئة ــ ينكرونَ هذا العلم، ويجحدون منفعتَه، ويقولون: هو شيءٌ يقعُ بالاتفاق، وليس عليه برهان» (3). إلى أن قال: «ومن المتفرِّدين بالعلم الثاني ــ يعني علمَ الأحكام ــ من يأتي على جزئيَّاته (4) بحُجَجٍ على سبيل النظر والجدل، ويظُنُّ (5) أنها برهانٌ؛ لجهله بطريق البرهان وطبيعته». فحصَل من كلام هذا تجهيلُ أصحاب الأحكام (6)، كما حصَل من كلام الصُّوفي تكذيبُ أصحاب الأرصاد، وهذان الرجلان من عظمائهم وزعمائهم. _________ (1) (ت): «الأفعال». (2) في الأصول: «المنفردين»، في الموضعين. تحريف. والمثبت من «المجمل» .. (3) ثم أجاب عن ذلك بقوله: «فنقول: أما الاتفاق فإذا دام أو وقع في أكثر الأحوال فهو أحد البراهين، وأما البرهان فليس كل ما لا يكون عليه برهانٌ يُهجَر فيترَك الانتفاع به، فليس من الحكم بل ليس من العقل أن يترك الانتفاع بالسكنجبين في تسكين الصفراء حتى يقوم البرهان على فعله! لكن يستعمَل وينتفَع به ويقتصَر من برهانه على ما ترى من فعله دائمًا أو في الأكثر». وهو جوابٌ عليل، وفيه مصادرةٌ على المطلوب، فإن اتفاق إصابة أحكام النجوم لم يدم ولم يكثر! (4) (د): «جزوياته». (5) (د): «يظن». (ق، ت): «فظن». والمثبت من «المجمل». (6) وإن كان رأيه أن هذا علمٌ يدرَك بالتجربة والقياس، وما اتفقت عليه الأمم منه ليس لنا أن نرى رأيا بخلافه، وما اختلفت فيه اتبعنا الأقرب للقياس، أما اختلاف الآحاد فلا يلتفت إليه، وكتابه «المجمل» هو في تقرير هذا العلم وتفصيل أبوابه ومسائله.

(3/1233)


ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم المنجِّم المعروفُ بالفكريِّ (1) منجِّم الحاكم بالدِّيار المصرية، وكان قد انتهت إليه رياسةُ هذا العلم، وكان قد قرأ على من قرأ على العاصميِّ، فوضعَ هو وأصحابُه رصَدًا آخر، وهو الرَّصدُ الحاكمي، وخالف فيه أصحابَ الرَّصَد المُمْتَحَن في أشياء، وعلى ذلك التفاوت بنَوا الزِّيجَ الحاكمي. وكان الحاكمُ قد أراد أن يحذُو على فعل المأمون، فأمر أن يجتمع عنده من أهل عصره (2) المنجِّمون ورئيسُهم الفكري، فوضعوا الزِّيجَ الحاكمي، وخالفوا أصحابَ الرَّصَد المأموني، ومالوا بأتباعهم (3) إلى الرَّصَد الحاكمي. ولو اتفق بعد ذلك رَصَدٌ آخر لسلكَ أصحابُه في خلاف من تقدَّمهم مسلك أوائلهم. هذا ومستندُهم ومعوَّلهم الحِسُّ والحساب، وهما لا يقبلان التَّغليط، فما الظنُّ بما يدَّعونه من علم الأحكام، الذي مبناه على هواجِس الظُّنون وخيالات الأوهام؟! ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم: أبو الرَّيحان البِيرُوني، مؤلِّف كتاب «التفهيم إلى صناعة التنجيم»، جمَع فيه بين الهندسة والحساب والهيئة والأحكام، وكان بعد كوشيار بنحوٍ من أربعين سنة (4)، فخالفَ من تقدَّمه _________ (1) راجع ما تقدم تعليقًا (ص: 1209). (2) غير محرَّرة في (د، ق). ويمكن أن تقرأ: عهده. وسقط من (ت) من قوله: «وكان الحاكم» إلى: «فوضعوا الزيج الحاكمي». (3) في الأصول: «أتباعهم»، ويصح لغةً، لكن المثبت أشبه. (4) (ت: 440). انظر: «إرشاد الأريب» (2330)، و «الأعلام» (5/ 314).

(3/1234)


وأتى مِن مُناقضتهم والردِّ عليهم بما هو دالٌّ على فساد الصِّناعة في نفسها. وختَم كتابَه بقوله في الخبيء والضمير (1): «ما أكثر افتضاحَ المنجِّمين فيه! وما أكثر إصابةَ الزَّاجرين (2) فيه بما يستعملونه من كلامه وقتَ السؤال ويرونه باديًا من آثارٍ وأفعالٍ على السائل» (3). وقال: «وعند البلوغ إلى هذا الموضع من صناعة التنجيم كفاية، ومن تعدَّاه فقد عرَّض نفسَه وصناعتَه لما بلغت إليه الآن من السُّخرية والاستهزاء، فقد جَهِلَها المتفقِّهون فيها، فضلًا عن المنتسبين إليها» (4). انتهى كلامه. ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم: أبو الصَّلت أميَّة بن عبد العزيز بن أميَّة الأندلسي، الشاعر المنجِّم الطبيب الأديب، وكان بعد البِيرُوني بنحوٍ من ثمانين عامًا (5)، ودخل مصر، وأقام بها نحو عامين (6)، ولما كان بالغَرب _________ (1) الخبيء: ما عُمِّي من شيءٍ ثم سُئل عنه. والضمير: ما يُضْمَر في النفس. «المعجم الوسيط». وانظر: «أخبار الحكماء» (446 - 447). (2) من زَجْرِ الطير، وهو إثارتها والتيمُّن بسُنوحها والتشاؤم ببروحها. «اللسان» (زجر). وفي (ط): «الراصدين». (3) «التفهيم» (263). وانظر كتابه: «تحقيق ما للهند» (515) [وكتابه "تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن" (290)]. (4) «التفهيم» (279). (5) (ت: 529، وقيل: 546). انظر: «أخبار الحكماء» (106)، و «وفيات الأعيان» (1/ 243)، و «إرشاد الأريب» (740)، و «نفح الطيب» (1/ 105). (6) كذا في الأصول. والذي عند مترجميه أنه عاش فيها أكثر من ذلك، قيل: عشرين سنة، وسُجِنَ بها ثلاث سنين، وصنَّف بعد ما خرج منها: «الرسالة المصرية»، وصف فيها ما عاناه بمصر وعاينه، ومما ذكر: حال المنجِّمين بها، وقلة بصرهم بصناعتهم، وتقليدهم فيها، وتعلُّقهم منها بالقشور، وولوع المصريين بالنجوم، وشغفهم بها، وتصديقهم لأحكامها. وهي منشورة ضمن «نوادر المخطوطات» (1/ 17 - 62).

(3/1235)


تُوفِّيت والدة الأمير علي بن تميم صاحب المهديَّة (1)، وكان قد وافقَ موتُها إخبارَ بعض المنجِّمين بذلك قبل وقوعه، فعَمِل أميَّةُ قصيدةً يرثيها بها، وهي من مستحسَن شعره (2)، فقال فيها: وراعَك قولٌ للمنجِّم مُوهِمٌ ... ومن يعتَمِدْ (3) زَرْقَ المنجِّمِ يُوهَمِ فواعجبًا يَهْذِي المنجِّم دهرَه ... ويكذبُ إلا فيكِ قولُ المنجِّم وكان المذكورُ رأسًا في الصِّناعة، وقد اعترفَ بأنَّ المنجِّمَ كذَّابٌ صاحبُ زَرْقٍ وهذَيان. ثمَّ حدثت طائفةٌ أخرى بالمغرب، منهم: أبو إسحاق الزَّرقال (4)، وأصحابُه، وهو بعد أبي الصَّلت بنحوٍ من مئة عام (5)، وقد خالفَ الأوائلَ والأواخرَ في الصِّناعتين: الرَّصَديَّة والأحكاميَّة، فأسقَط من الرَّصَد المُمْتَحن المأمونيِّ في البروج درجات، ومن الرَّصَد الحاكميِّ دقائق، وسلكَ في الأحكام طرقًا غير الطُّرق المعهودة عند القوم، وزعَم أنَّ عليها _________ (1) مدينة ساحلية، جنوب تونس العاصمة، انتقل إليها المعزُّ بن باديس (جد علي بن تميم) سنة 449. (2) انتخب منها العماد الكاتب في «الخريدة» (1/ 371 - قسم المغرب) أبياتًا، ليس منها هذان. وذكر العماد أنَّ القصيدة في رثاء والدة أمية، وهو كما قال [والبيتان في ديوانه (59 - تحقيق عبد الله الهوني)]. (3) مهملة في (د، ق، ت). (ص): «يعتني». (4) كذا في الأصول. وفي «تكملة الصلة» (169 - طبعة الجزائر)، و «تاريخ الإسلام» (10/ 735): «ابن الزرقالة». وفي «طبقات الأمم» (75)، و «أخبار الحكماء» (76): «ولد الزرقيال». وبعضهم ينسبه: «الزرقالي» [ولابن الزرقالة رسالة "الشكازية" في الفلك، طبعت بأسبانيا. مجلة دراسات أندلسية (العدد 7، ص: 49)]. (5) كذا في الأصول. ووفاته عند مترجميه سنة 493، أي قبل وفاة أبي الصلت.

(3/1236)


المعوَّل، وأنَّ طُرق من تقدَّمه ليست بشيء. ولو حدَث في هذا العصر من يُشْبِه من تقدَّمه لرأينا اختلافًا آخر، ولكنَّ هذه الصِّناعة قد ماتت، ولم يبقَ بأيدي المنتسبين إليها إلا تقليدُ هؤلاء الضُّلَّال فيما فهموه من كلامهم الباطل، وما لم يفهموه منه فقد يظنُّون أنه صحيحٌ ولكنَّ أفهامهم نَبَتْ عنه! وهذا شأنُ جميع أهل الضلال مع رؤسائهم ومتبوعيهم. فجهَّالُ النصارى إذا ناظرهم الموحِّدُ في تثليثهم وتناقُضه وتكاذُبه، قالوا: الجوابُ على القسِّيس، والقسِّيسُ يقول: الجوابُ على المِطْران، والمِطْرانُ يحيلُ الجوابَ على البَتْرك، والبَتْركُ على الأُسْقُف، والأُسْقُف على الباب (1)، والبابُ على الثلاث مئة والثمانية عشر أصحاب المجمَع الذين اجتمعوا في عهد قُسطنطين ووضعوا للنصارى هذا التثليثَ والشِّركَ المناقِض للعقول والأديان، ولعلهم عند الله أحسنُ حالًا من أكثر القائلين بأحكام النجوم، الكافرين بربِّ العالمين وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فصل ورأيتُ لبعض فضلائهم، وهو أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى (2) رسالةً بليغةً في الردِّ عليهم، وإبداء تناقضهم، كتبها لمَّا بصَّره اللهُ رشدَه، _________ (1) كذا ذكر المصنف هذه المراتب. وفي «المعجم الوسيط» (61، 436، 875) أن الأسقف فوق القسيس ودون المطران، وأن البطرك رئيس الأساقفة. (2) العالم الجليل المسند، كان أوحد زمانه في المنطق، حجةً في النقل والترجمة (ت: 391). انظر: «الفهرست» (186)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 36)، و «المقابسات» (348)، و «تاريخ بغداد» (11/ 179)، و «السير» (16/ 549).

(3/1237)


وأراه بطلانَ ما عليه هؤلاء الضلَّال الجهَّال، كتبها نصيحةً لبعض إخوانه، فأحببتُ أن أوردها بلفظها، وإن تضمَّنت بعض الطُّول والتكرار (1)، وأتعقَّب بعض كلامه بتقرير ما يحتاجُ إلى تقرير، وبسؤالٍ يُورَدُ عليه ويُطْعَنُ به على كلامه، ثمَّ بالجواب عنه؛ ليكون قوَّةً للمسترشد، وبيانًا للمتحيِّر، وتبصرةً للمهتدي، ونصيحةً لإخواني المسلمين (2). وهذا أوَّلها (3): «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم عصمَك الله من قبول المُحالات، واعتقاد ما لم تَقُم عليه الدلالات، وضاعَف لك الحسنات، وكفاك المهمَّات بمنِّه ورحمته (4). كنتَ ــ أدام الله توفيقَك وتسديدك ــ ذكرتَ لي اهتمامَك بما قد لهجَ به وجوهُ أهل زماننا من النظر في أحكام النجوم، وتصديق كلِّ ما يأتي به من ادعى أنه عارفٌ بها مِن علم الغيب الذي تفرَّد الله سبحانه وتعالى به، ولم يجعله لأحدٍ من الأنبياء والمرسلين، ولا ملائكته المقربين، ولا عباده الصَّالحين، مِن معرفة طويل الأعمار وقصيرها، وحميد العواقب وذميمها، _________ (1) وقد أحسن المصنف بذلك، فإن في إدراج مثل هذه المصنفات اللِّطاف في مثاني الكتب حفظًا لها، فمثلها يخشى عليه الضياع إذا تمادى الزمان، لا سيما ما يغيظ أهل الباطل، فإنهم يبادرون إلى إعمال الحيلة في إعدامه، كما يقول السبكي في «طبقات الشافعية» (3/ 399). (2) اخترتُ تحبير نصِّ الرِّسالة، ليتميَّز عن تعليقات المصنف، وليسهل تتبعه لمن رام قراءته على الوجه. (3) [لأبي الصقر عبد العزيز بن عثمان القبيصي نقضٌ على هذه الرسالة. انظر: "تتمة صوان الحكمة" للبيهقي (92)] (4) (ت): «بمنه وكرمه».

(3/1238)


وسائر ما يتجدَّدُ ويحدثُ ويُتَخوَّفُ ويُتمَنَّى. وسألتني أن أعملَ كتابًا أذكرُ فيه بعضَ ما وقع إليَّ من اختلافهم في أصول الأحكام الدَّالة على وهمهم وقُبح اعتقادهم، وما يُستَدلُّ به من طريق النظر والقياس على ضعف مذهبهم، وألخِّصُ ذلك وأختصرُه وأقرِّبه بحسب الوُسع والطاقة، فوعدتُك بذلك، وقد ضمَّنتُه كتابي هذا، واللهَ أسألُ عونًا على ما قرَّبَ منه (1)، وتوفيقًا لما أزلَفَ لديه، إنه قريبٌ مجيب فعَّالٌ لما يريد. لستُ مستعملًا للتَّحامل على من أثبتَ تأثيرَ الكواكب في هذا العالم وتَركِ إنصافهم، كما فعل قومٌ ردُّوا عليهم، فإنهم دفعوهم عن أن يكون لها تأثيرٌ البتَّة غيرَ وجود الضِّياء في المواضع التي تطلعُ عليها الشَّمس والقمر، وعدمِه فيما غابا عنه، وما جرى هذا المجرى. بل أسلِّمُ لهم أنها تؤثِّر تأثيرًا ما يجري على الأمر الطبيعي: مثل: أن يكون البلدُ القليلُ العَرْض مزاجُه يميلُ عن الاعتدال إلى الحرِّ واليُبس، وكذلك مِزاجُ أهله، وأجسامُهم ضعيفة، وألوانُهم سودٌ وصُفر، كالنُّوبة والحبشة، وأن يكون البلدُ الكثيرُ العَرْض مزاجُه يميلُ عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة (2)، وكذلك مزاجُ أهله، وأجسامُهم عَبْلة (3)، وألوانهم بيضٌ وشُعورُهم شُقر، مثلُ التُّرك والصَّقالبة. ومثل: أن يكون النباتُ يَنْمِي ويقوى ويشتدُّ ويتكاملُ وينضجُ ثمرُه _________ (1) في الأصول: «قررت منه». والمثبت من (ط) أشبه. (2) من قوله: «وكذلك مزاج أهله» إلى هنا ساقط من (ت). (3) العَبْل: الضخم من كلِّ شيء. «اللسان» (عبل).

(3/1239)


بالشَّمس والقمر، فإن أهلَ الصحراء ومن يُعانِيها (1) مجمعون على أن القِثَّاء تطولُ وتغلُظ بالقمر، وقد شاهدتُ غير شجرةٍ كبيرةٍ حاملةٍ من التِّين والتُّوت وغيرهما، فما قابلَ الشَّمس منها أسرعَ نضجُ الثَّمر الكائن فيه، وما خَفِي منها عنها بقي ثمرُه فِجًّا (2) وتأخَّر إدراكُه. ومثال ذلك: ما يشاهَدُ من حال الرَّيحان الذي يقال له: اللَّينَوفَر، وحال الخُبَّازى، وورق الخِطْمِيِّ، والآذَرْيُون (3)، وأشياء كثيرةٍ من النبات، فإنَّا نراه يتحركُ ويتفتَّحُ مع طلوع الشَّمس، ويضعُف إذا غابت؛ لأن هذه أمورٌ محسوسة (4). وليس الكلامُ في هذا التأثير كيف هو؟ وعلى أيِّ سبيلٍ يقع؟ فما يليقُ بغرضنا هاهنا؛ فلذلك أدعُه. فأمَّا ما يزعمونه فيما عدا هذا مِن أنَّ النجوم توجبُ أن يعيش فلانٌ كذا وكذا سنة، وكذا وكذا شهرًا، وينتهونَ في التحديد إلى جزءٍ من ساعة، وأن _________ (1) وتحتمل قراءتها: يعاينها. (2) الفِجُّ من كلِّ شيء: ما لم ينضج. «اللسان» (فجج). (3) نباتات معروفة. انظر: «القاموس المحيط» (625، 1516)، و «نهاية الأرب» (11/ 219)، و «المعجم الوسيط» (381، 215، 245)، و «معجم الألفاظ الزراعية» للأمير الشهابي (449، 416، 29، 24، 114). والأول: هو زهر اللوتس، ويقال له: سوسنة الماء، والأخير: هو دوَّار الشمس، ويسميه بعضهم: عبَّاد الشمس، والعبودية لا تكون إلا لله. وذكر البيروني في كتاب «الصيدنة» أن النيلوفر يسمى: «وردة المجوس» و «وردة الشمس» و «خُرپرست» (ومعناه بالفارسية: عباد الشمس). (4) انظر: «مروج الذهب» (2/ 354)، وما سيأتي (ص: 1282، 1286).

(3/1240)


تَدُلَّ على تقلُّد رجلٍ بعينه المُلك، وتقلُّد آخرَ بعينه الوزارة، وطول مدَّة كلِّ واحدٍ منهما في الولاية وقِصَرها، وما فعله الإنسانُ وما يفعلُه في منزله، وما يُضمِرُه في قلبه، وما هو متوجِّهٌ فيه من حاجاته، وما هو في بطن الحامل، والسَّارق ومن هو، والمسروق وما هو، وأين هو، وكميَّته، وكيفيَّته، وما يجبُ بالكسوف، وما يحدثُ معه، والمختار من الأعمال في كلِّ يومٍ بحسب اتصال القمر بالكواكب؛ مِن أن يكون هذا اليومُ صالحًا للقاء الملوك والرؤساء وأصحاب السُّيوف، وهذا اليومُ محمودًا للقاء الكتَّاب والوزراء، وهذا اليومُ محمودًا للقاء القضاة، وهذا اليومُ محمودًا لأمور النساء، وهذا اليومُ محمودًا لشرب الدواء والفَصْد والحجامة، وهذا اليومُ محمودًا للعب الشِّطرنج والنَّرد، وغير ذلك= فمحالٌ أن يكون معلومًا من طريق الحسِّ. وليس عليه نصٌّ من كتاب الله، بل قد نصَّ الله سبحانه فيه على بطلانه بقوله تبارك وتعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى عرَّافًا أو كاهنًا أو منجِّمًا فصدَّقه بما يقولُ فقد كفر بما أُنزِل على محمد» (1). _________ (1) أخرجه الحاكم (1/ 8)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/ 135) من حديث أبي هريرة، دون قوله: «أو منجمًا». وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه في تهذيبه لسنن البيهقي (6/ 3229). وروي من وجهين آخرين مرسلاً ومنقطعًا، وله شواهد من رواية جماعة من الصحابة ابن مسعود، وجابر، وعلي، وعمران بن حصين، وواثلة بن الأسقع. ولم أجد لفظة: «أو منجمًا» في شيءٍ من كتب الحديث المسندة، وهي داخلةٌ في معنى الكهانة والعرافة. انظر: «شرح السنة» (12/ 182)، و «إكمال المعلم» (7/ 153)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 173).

(3/1241)


ولا هاهنا ضرورةٌ تدعو إلى القول به. ولا هو أوَّلٌ في العقول (1). ولا يأتون عليه ببرهانٍ ولا دليلٍ مقنع. وهذه هي الطُّرقُ التي تثبتُ بها الموجودات، ويُعْلَمُ بها حقائقُ الأشياء، لا طريقَ هاهنا غيرها، ولا شيءَ لأحكام النجوم منها. وأنا أبتداءُ الآن بوصف جملةٍ من اختلافهم في الأصول التي يبنونَ عليها أمرَهم، ويفرِّعون عنها أحكامَهم (2)، وأذكرُ المستبشَع من أقاويلهم وقضاياهم وظاهر مناقضاتهم، ثمَّ آتي بطرفٍ من احتجاجهم والاحتجاج عليهم، والله الموفِّق للصواب بفضله. ذِكرُ اختلافهم في الأصول زعموا جميعًا: أنَّ الخيرَ والشرَّ والإعطاء والمنعَ وما أشبه ذلك يكونُ في العالَم بالكواكب، وبحسب السُّعود منها والنُّحوس، وعلى حسب كونها في البروج الموافقة والمنافرة لها، وعلى حسب نظرها بعضِها إلى بعض من التسديس والتربيع والتثليث والمقابلة، وعلى حسب مُجَاسدة (3) بعضها بعضًا (4)، وعلى حسب كونها في شَرفها وهبوطه ووَبالها. _________ (1) وهو ما لا يفتقر بعد توجُّه العقل إليه إلى حدسٍ أو تجربة، كقولنا: الواحد نصف الاثنين. «التعريفات» (58). (2) (ت): «وينزعون بها أحكامهم». (3) (ق): «محاشدة». تحريف. انظر: «الزيج الصابي» للبتاني (194، 196)، و «رسائل إخوان الصفا» (4/ 335). (4) قوله: «وعلى حسب مجاسدة بعضها بعضًا» ليس في (ت).

(3/1242)


ثمَّ اختلفوا على أيِّ وجهٍ يكونُ ذلك؟ فزعم قومٌ منهم أنَّ فعلَها بطبائعها، وزعمَ آخرون أنَّ ذلك ليس فعلًا لها لكنَّه يدلُّ عليه بطبائعها». قلت: وزعمَ آخرون أنها تفعلُ في البعض بالعَرَض، وفي البعض بالذَّات. قال: «وزعمَ آخرون أنها تفعلُ بالاختيار لا بالطبع، إلا أنَّ السَّعدَ منها لا يختارُ إلا الخير، والنَّحسَ منها لا يختارُ إلا الشرَّ. وهذا بعينه نفيٌ للاختيار؛ فإنَّ حقيقةَ القادر والمختار القدرةُ على فعل أيِّ الضدَّين شاء، وتركِ أيهما شاء». قلت: ليس هذا بشيء؛ فإنه لا يلزمُ من كون المختار مقصورَ الاختيار على نوع واحدٍ سَلْبُ اختياره، ولكنَّ الذي يُبْطِلُ هذا أنهم يقولون: إنَّ الكوكبَ النَّحسَ سَعدٌ في برج كذا، وفي بيت كذا، وإذا كان الناظرُ إليه من النجوم كذا وكذا، وكذلك الكوكبُ السَّعْد. ويقولون: إنها تفعلُ بالذَّات خيرًا، وبالعَرَض شرًّا، وبالعكس. وقد يقولون: إنها تختارُ في زمانٍ بعد زمانٍ خلافَ ما تختارُ في زمانٍ آخر، وقد تتفق كلُّها أو أكثرُها على إيثار الخير (1)، فيكونُ في العالم في ذلك الوقت على الأكثر الخيرُ والنفعُ والحُسْن. قالوا: كما كان في زمن هُرمز (2) وفي أيام أنوشِروان. وبضدِّ ذلك أيضًا. _________ (1) (ت): «إكثار الخير». (2) (ق، ت): «تهمز». والمثبت من (ط). وهرمز هو ابن أنوشروان. من ملوك الفرس.

(3/1243)


فيقال: إذا كانت مختارةً، وقد تتفقُ على إرادة الخير وعلى إرادة الخير والشرِّ، بطلَ دلالةُ حصولها في البروج المعيَّنة، ودلالةُ نظر بعضها إلى بعض بتسديسٍ أو تربيعٍ أو تثليثٍ أو مقابلة؛ لأنَّ هذا شأنُ من لا يقعُ فعلُه إلا على وجهٍ واحدٍ في وقتٍ معيَّن على شروطٍ معيَّنة. ولا ريب أنَّ هذا ينفي الاختيار. فكيف يصحُّ قولكم بذلك وجمعُكم بين هاتين القضيتين ــ أعني جواز اختيارها في زمانٍ خلافَ ما تختاره في زمانٍ آخر، وجواز اتفاقها على الخير واتفاقها على الشرِّ ــ من غير ضابطٍ ولا دليلٍ يدلُّكم عليه، ثم تحكمون بتلك الأحكام مستندين فيها إلى حركاتها المخصوصة، وأوضاعها، ونسبة بعضها إلى بعض؟! قال: «وزعمَ آخرون أنها لا تفعلُ باختيار، بل تدلُّ باختيار. وهذا كلامٌ لا يُعْقَلُ معناه، إلا أني ذكرتُه لمَّا كان مَقُولًا. واختلفوا؛ فقالت فرقة: من الكواكب ما هو سَعدٌ، ومنها ما هو نَحس، وهي تُسْعِدُ غيرَها وتَنْحَسُه. وقالت فرقة: هي في أنفسها طبيعةٌ واحدة، وإنما تختلفُ دلالتُها على السُّعود والنُّحوس، وإن لم تكن في أنفسها مختلفة. واختلفوا؛ فقال قوم: إنها تؤثِّر في الأبدان والأنفس جميعًا. وقال الباقون: بل في الأبدان دون الأنفس». قلت: أكثرُ المنجِّمين على القول بأنها تُسْعِدُ وتَنْحَسُ غيرَها. وأمَّا الفرقةُ التي قالت: هي دالَّةٌ (1) على السَّعدِ والنَّحس، فقولُهم وإن _________ (1) (ق): «دلالة».

(3/1244)


كان أقربَ إلى التوحيد من قول الأكثرين منهم فهو أيضًا قولٌ مضطربٌ متناقض؛ فإنَّ الدلالةَ الحسِّية (1) لا تختلفُ ولا تتناقض. وهذا قولُ من يقول منهم: إنَّ للفلك طبيعةً مخالفةً لطبيعة الأُسْتُقُصَّات (2) الكائنة الفاسدة، وأنها لا حارَّةٌ ولا باردة، ولا يابسةٌ ولا رطبة، ولا سَعْدَ ولا نَحْسَ فيها، وإنما يدلُّ بعضُ أجرامها وبعضُ أجزائها على الخير، وبعضُها على الشر، وارتباطُ الخير والشرِّ والسَّعد والنَّحس [بها] (3) ارتباط المدلولات بأدلَّتها، لا ارتباط المعلولات بعِلَلها. ولا ريب أنَّ قائلَ هذا أعقلُ وأقربُ من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعيِّ والعلِّيَّة. وأمَّا القولُ بتأثيرها في الأبدان والأنفس، فهو قولُ بَطْليموس وشِيعَته وأكثر الأوائل من المنجِّمين. وهؤلاء لهم قولان: أحدهما: أنها تفعلُ في الأنفس بالذَّات، وفي الأبدان بالعَرَض؛ لأنَّ الأبدانَ تنفعلُ عن الأنفس. والثاني: أنها هي سببُ جميع ما في عالَم الكَوْن (4) والفساد، وفعلُها _________ (1) (ق): «الحسنة». وهو تحريف. (2) العناصر الأربعة عند القدماء، وهي: الماء والهواء والنار والتراب. والأسطقس: الأصل البسيط يتكون منه المركَّب. «المعجم الوسيط» (17). (3) زيادة من (ط). وليست في الأصول. (4) الكون: استحالة جوهر المادة إلى ما هو أشرف منه. ويقابله الفساد، وهو استحالة جوهر المادة إلى ما هو دونه. «المعجم الوسيط» (كان). ويردُ هذا المصطلح هنا باشتقاقاتٍ مختلفة.

(3/1245)


في ذلك كلِّه بالذَّات. وكأنه لا خلافَ بين الطائفتين؛ فإنَّ الذين قالوا: «فعلُها في النفوس» لا يُضِيفون انفعالَ الأبدان إلى غيرها بذاتها، بل إليها بوسائط (1). قال: «واختلفَ رؤساؤهم بَطْليموس ودورسوس (2) وأنطيقوس (3) ورِيمُس (4) وغيرُهم من علماء الروم والهند وبابل في الحُدود وغيرها، وتضادُّوا في المواضع التي يأخذون منها دليلَهم؛ فبعضهم يُغَلِّبُ ربَّ بيت الطَّالع، وبعضهم يقول بالدليل المستولي على الحظوظ. واختلفوا؛ فزعَم بَطْليموس أنه (5) يعلمُ سهمَ السعادة، بأن يأخذَ أبدًا العددَ الذي يحصلُ من موضع الشَّمس إلى موضع القمر، ويبتداء من الطَّالع فيرصدَ منه مثل ذلك العدد، ويأخذَ إلى الجهة التي تتلو من البروج؛ فيكون قد عرفَ موضعَ السَّهم. وزعَم غيرُه أنه يَعُدُّ من الشَّمس، ثمَّ يبتداء من الطَّالع فيَعُدُّ مثلَ ذلك إلى الجهة المتقدِّمة من البروج». قلت: وزعم آخرون أن بَطْليموس يرى أنَّ جميعَ ما يكونُ ويفسُد إنما _________ (1) قال الآلوسي في «روح المعاني» (23/ 103): «ولعل الخلاف لفظيٌّ». (2) مهملة في الأصول. وانظر: «الفهرست» (300). (3) «الفهرست» (327): «انطينوس». وانظر: «أخبار الحكماء» (96، 132). (4) انظر: «الفهرست» (420)، و «علم الفلك» لنلِّينو (219). (5) (ق): «أنهم». وهو خطأ.

(3/1246)


يُعْرَفُ دليلُه من موضع التقاء النيرِّين، إمَّا الاجتماعُ وإمَّا الامتلاء (1)؛ لأنَّ هذين الكوكبين عنده مثلُ الرئيسين العظيمين، أحدُهما يأتمرُ لصاحبه (2) وهو القمر، وهما سببا جميع ما يحدثُ في عالم الكَوْن والفساد، وأنَّ الكواكبَ الجاريةَ والثابتةَ منهما بمنزلة الجُند والعسكر من السُّلطان. فإذا أراد النظرَ في أمرٍ من الأمور؛ إن كان بعد الاجتماع أو عنده فإنه يأخذُ الدليلَ عليه من الكوكب المستولي على جزء الاجتماع وجزئَي الشَّمس والقمر في الحال، ويشاركُه مع الشَّمس بالنسبة إلى الطالع. وإذا كان بعد الامتلاء أو عنده فإنه ينظرُ أيُّ النيرِّين كان فوق الأرض عند الامتلاء، وينظرُ إلى الكوكب المستولي على ذلك الجزء وجزءِ النيِّر الذي كان بُعْدُ الشَّمس من الطالع كبُعْدِ القمر من سهم السعادة؛ فلذلك يجبُ عنده أن يؤخذ العددُ أبدًا من الشَّمس إلى القمر؛ لتبقى (3) تلك النسبة وهي البُعْدُ (4) بين كلِّ واحدٍ من النيِّرين طالعه محفوظ (5). _________ (1) للقمر من أوَّل الشهر إلى آخره خمس حالات، منها: الاستقبال، ويسمَّى: الامتلاء؛ لامتلاء القمر فيه نورًا، وذلك في الليلة الرَّابعة عشرة، ويكون في البرج السابع من بروج الشمس. ومنها: الاجتماع، وهو اجتماعه مع الشمس آخر الشهر، وهو تحاذيهما الكائن قبل الهلال. انظر: «نهاية الأرب» (1/ 50)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 136). (2) (ت): «مأتم لصاحبه». (3) (ق): «ليبقى». (4) (ت): «وفي البعد». (5) كذا في الأصول.

(3/1247)


فهذا قولٌ آخر غيرُ أولئك (1). وللفُرسِ مذهبٌ آخر، وهو أنهم قالوا: لما كانت الشَّمس لها نوبةُ النهار، والقمر له نوبةُ الليل، وكان سهمُ السعادة بالنهار يؤخذُ من الشَّمس إلى القمر، وجبَ أن يُعكسَ ذلك بالليل؛ لأنَّ نسبة النهار إلى الشَّمس مثلُ نسبة الليل إلى القمر، وكلُّ واحدٍ من النيِّرين ينوبُ واحدًا من الزَّمانين، فيأخذون سهمَ السعادة ــ بزعمهم ــ بالليل من القمر إلى الشَّمس، وبالنهار بالعكس. وزعموا أنَّ كلام بَطْليموس إنما يدلُّ على هذا؛ لأنه قال: وإنْ أخَذْنا من الشَّمس إلى القمر إلى خلاف تأليف البروج وألقيناه بالعكس كان موافقًا للأوَّل. فقالوا: يجبُ أن يُعكس الأمر بالليل. فهذا اختلافُ المنجِّمين على بَطْليموس ينقُض بعضُه بعضًا، وليس بأيدي الطائفة برهانٌ يرجِّحون به قولًا على قول، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 28 - 30]. قال: «واختلفوا؛ فرتَّبت طائفةٌ منهم البروجَ المذكَّرة والمؤنَّثة من البرج الطالع، فعدُّوا واحدًا مذكَّرًا وآخر مؤنَّثًا، وصيَّروا الابتداءَ بالمذكَّر. وقسَّمَت طائفةٌ أخرى البروجَ أربعةَ أجزاء، وجعلوا البروجَ المذكَّرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء، والتي تقابلها من الغَرب إلى وَتد الأرض، وجعلوا الرُّبعين الباقيين مؤنَّثين». _________ (1) (ط): «غير قول أولئك».

(3/1248)


قلت: ومِنْ هذَيانهم في هذا الذي أضحكوا به عليهم العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين: حارَّ المزاج، وباردَ المزاج، وجعلوا الحارَّ (1) منها ذكرًا والباردَ أنثى، وابتدؤوا بالحَمَل وصيَّروه ذكرًا حارًّا، ثمَّ الذي بعده مؤنَّثًا باردًا، ثم هكذا إلى آخرها، فصارت ستَّةً ذكورًا وستَّةً إناثًا، وليست على الولاء، بل واحدٌ ذكر، وثلاثةٌ أخَر (2) أنثى مخالفةٌ له (3) في الطبيعة والذكوريَّة والأنوثيَّة، مع أن قسمة الفلك إلى البروج قسمةٌ فرضيَّةٌ وضعيَّة، فهل في أنواع هذَيان الهاذِين أعجبُ من هذا؟! ولمَّا رأى من به رَمَقٌ مِن عقلٍ منهم تهافُتَ هذا الكلام، وسخريةَ العقلاء منه، رام تقريبَه بغاية جهده وحِذْقه، فقال: إنما ابتداء بالذَّكر دون الأنثى لأنَّ الذَّكر أشرفُ من الأنثى؛ لأنه فاعلٌ والأنثى منفعِلة! فاعجبوا يا معشر العقلاء ــ واسألوا اللهَ أن لا يخسِفَ بعقولكم كما خسَف بعقول هؤلاء ــ لهذا الهذَيان، أفترى في البروج ناكحًا ومنكوحًا يكونُ المنكوحُ منها منفعِلًا لناكحه بالذكوريَّة، والأنوثيَّةُ تابعةٌ لهذا الفعل والانفعال فيها؟! قال (4): وأيضًا، فالذكوريَّة والأنوثيَّة سببُ الانفراد والازدواج فيها؛ فإنَّ الأفرادَ ذكورٌ والأزواجَ إناث (5). _________ (1) (ت): «المزاج الحار». (2) (ت): «وثلاثة أجزاء». (3) (ق): «مخالف له». (4) أي المنتصر لهم ممن به رمقٌ من عقل. (5) انظر: «السر المكتوم» (35).

(3/1249)


وهذا أعجبُ من الأول، أنَّ الذكرَ ينضمُّ إلى الذكر فيصيرُ المضمومُ إليه أنثى! فتبًّا للمصغي إليكم والمُجَوِّزِ عقلُه صِدقَكم وإصابتَكم، وأمَّا أنتم فقد أشهد اللهُ سبحانه عقلاءَ عباده وألبَّاءهم (1) مقدارَ عقولكم وسخافتَها، فلله الحمدُ والمنة. قال هذا المنتصرُ لهم: وإنما جعلوا الأفراد للذَّكر، والأزواجَ للأنثى؛ لأنَّ الفردَ يحفظُ طبيعتَه ــ أعني ينقسم دائمًا إلى فرد ــ، والزَّوجَ لا يحفظُ طبيعتَه ــ أعني ينقسم مرَّةً إلى الأفراد ومرَّة إلى الأزواج ــ، كما يعرضُ ذلك للأنثى، فإنها تلدُ مرَّةً مثلَها (2)، ومرَّةً ذكرًا مخالفًا لها، ومرَّةً ذكرين، ومرَّةً أنثيين، ومرَّةً ذكرًا وأنثى. وفسادُ هذا والعلمُ بفساد عقل صاحبه ونظره مُغْنٍ لذي اللُّبِّ عن تطلُّب دليل فساده. قال المنتصر: وأمَّا لم جعلوا (3) البرجَ الأنثى يلي (4) برجَ الذَّكر؟ فلأنَّ الطبيعةَ هكذا ألَّفَتْ الأعدادَ واحدًا فردًا وآخر زوجًا، هكذا بالغًا ما بلَغ. وهذه القسمةُ عندهم هي قسمةٌ ذاتيَّةٌ للبروج. ولها قسمةٌ ثانيةٌ بالعَرَض، وهي أنهم يبدؤونَ من الطالع إلى الثاني عشر، فيأخذون واحدًا ذكرًا وهو الأول، وآخرَ أنثى وهو ما يليه (5). وهذه _________ (1) (ت): «وألبابهم». (2) (ت، ق): «تلد من مثلها». (3) (د، ق): «وإنما جعلوا». (4) (ت، ق): «بل». وهو تحريف. (5) (ت): «وهو الثاني وهي ما يليه».

(3/1250)


تختلفُ بحسب اختلاف الطالع. والقسمةُ الأولى إنما كانت ذاتيَّة لأنَّ الابتداءَ لها برأس الحَمَل، وهو موضعُ تقاطع الدائرتين اللتين هما فلكُ البروج ومعدَّلُ النهار. وأمَّا المَيْل (1) للقسمة الثانية فإنه لا يبقى على حالٍ واحدة؛ لأنه مأخوذٌ من الجزء المماسِّ لأفق البلد، وهو دائمًا يتغيَّر بحركته مع الكلِّ، وحصول الأجزاء كلِّها واحدًا بعد آخر على الأفق في دورةٍ واحدة. وأمَّا قسمةُ الفلك أرباعًا؛ فإنهم قالوا: إذا خرج خطٌّ من أفق المشرق إلى أفق المغرب، وخطٌّ من وتد الأرض إلى وسط السماء، انقسمت البروجُ أربعة أقسام، كلُّ قسمٍ ثلاثة بروجٍ على طبيعةٍ واحدة، ابتداءُ كلِّ قسمٍ من طرف قُطرٍ إلى طرف القُطر الذي يليه، وأطرافُ هذين القُطرين تسمَّى أوتادَ العالم، فالقسمُ الأول من وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكرٌ شرقيٌّ مجفِّفٌ (2) سريع، ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنثٌ جنوبيٌّ محرِقٌ (3) وسط، ومن وتد (4) الغارب إلى وتد الرابع ذكرٌ مُقْبِلٌ رطبٌ غربيٌّ بطيء، ومن وتد الرابع إلى وتد الطالع مؤنثٌ مُدْبِرٌ (5) مبرِّدٌ شماليٌّ وسط. وهذه القسمة مخالفةٌ لتلك القسمتين؛ لأنَّ هذه قسمةُ البروج بأربعة _________ (1) مَيْل فلك البروج عن فلك معدل النهار. انظر: «الزيج الصابي» (17). (2) الحرف الثاني مهمل في (د). (ق): «مخفف». (ت): «مخفق». وهو تحريف. انظر: «روح المعاني» (23/ 104). (3) (ت): «محرن». (4) في الأصول: «ذيل». وهو تحريف. (5) (د، ق): «ذليل». (ت): «دليل». تحريف. انظر: «السر المكتوم» (87).

(3/1251)


أقسامٍ متساوية، كلُّ ثلاثة بروجٍ منها تسعين (1) درجة لها طبيعةٌ تخصُّها، مع أنَّ الفلك شيءٌ واحدٌ وطبيعةٌ واحدة، وقِسمتُه إلى الدَّرَج والبروج قسمةٌ وهميةٌ بحسب الوضع، فكيف اختلفت طبائعُها وأحكامُها وتأثيراتُها واختلفت بالذُّكوريَّة والأنوثيَّة؟! ثم إنَّ بعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك، بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحَمَل فنسبها إلى الذكوريَّة، والثانية إلى الأنوثيَّة، وهكذا إلى آخر الحُوت. ولا ريبَ أنَّ هذا الهذَيان لازمٌ لمن قال بقسمة البروج إلى ذكرٍ وأنثى، وقال: الذكرُ طبيعةُ الفرد، والأنثى طبيعةُ الزَّوج؛ فإنَّ هذا بعينه لازمٌ لهم في درجات البُرج الواحد، وكأنَّ هذا القائلَ تصوَّر لزومَه لأولئك، فالتزَمَه. وأمَّا بَطْليموس فله هذيانٌ آخر؛ فإنه ابتدأ بأول درجة كلِّ برجٍ ذكر، فنسَب منها إلى تمام اثني عشر (2) درجةً ونصفًا إلى الذكوريَّة، ومنه إلى تمام خمسٍ وعشرين درجةً إلى الأنوثيَّة، ثمَّ قسم باقي البروج بنصفين، فنسَب النصفَ الأول إلى الذكر والنصفَ الآخر إلى الأنثى، وعلى هذه القسمة ابتدأ بالبرج الأنثى فنسَب الثُّلثَ ونصف السُّدس إلى الأنوثيَّة، ومثلها بعده إلى الذكوريَّة، وبقي سُدْسٌ قسَمه بنصفين، فنسَب النصفَ الأولَ إلى الأنثى والآخرَ إلى الذكر، كما عملَ بالبرج الذكر، حتى أتى على البروج كلِّها. وأمَّا دوروسوس (3) فله هذيانٌ آخر؛ فإنه يقسِّم البروجَ كلَّها، كلَّ برجٍ _________ (1) كذا في الأصول. والجادة: تسعون. بالرفع. (2) كذا في الأصول. والجادة: اثنتي عشرة. (3) كذا. وتقدَّم (ص: 1246) برسم: دورسوس.

(3/1252)


ثمانيةً وخمسين دقيقةً ومئة وخمسين دقيقة (1)، ثمَّ ينظر؛ فإن كان البرج ذكرًا أعطى القسمةَ الأولى للذكر ثمَّ الثانية للأنثى، إلى أن يأتي على الأقسام كلِّها، وإن كان البرجُ أنثى أعطى القسمةَ الأولى للأنثى ثمَّ الثانية للذكر، إلى أن يأتي على الأقسام كلِّها. ولو قُدِّرَ أنَّ جاهلاً آخر قَفَزَ (2) هذه الأوضاع وقَلَبها وتكلَّم عليها لكان مِن جنس كلامهم، ولم يكن عندهم من البرهان ما يردُّون به قولَه، بل إنْ رأوه قد أصاب في بعض أحكامه ــ لا في أكثرها ــ أحسنُوا به الظنَّ، وتقلَّدوا قولَه، وجعلوه قدوةً لهم! وهذا شأنُ الباطل! عُدنا إلى كلام عيسى في رسالته، قال: «واختلفوا في الحدود؛ فزعم أهلُ مصر أنها تؤخذُ من أرباب البيوت، وزعم الكلدانيُّون أنها تؤخذُ من مدبِّري المثلَّثات (3). وإذا كان اختلافُ الذين يقتدون (4) بهم في أصولهم هذا الاختلاف، وليس هم ممَّن يطالِبُ بالبرهان ولا يعتقدُ الشيءَ حتى يصحَّ على البحث والقياس، فيعرفونَ مع من الحقُّ من رؤسائهم، وفي أيِّ قولٍ هو من أقوالهم فيعملون به، وإنما طريقتُهم التسليمُ لما وجدوه في الكتب المنقولة من لسانٍ _________ (1) في الأصول: «ثمانية وخمسين دقيقة مئة وخمسين دقيقة». وفي (ط): «ثمانية وخمسون دقيقة ومئة وخمسون ثانية». والمثبت من «روح المعاني» (23/ 104). (2) (ت): «مر». (ط): «تفنن في». (3) (ق، د): «المثليات». وهو تحريف. انظر: «صفة جزيرة العرب» للهمداني (39)، و «رسائل إخوان الصفا» (1/ 123)، و «روح المعاني» (23/ 103). (4) (د، ق): «يعتدون».

(3/1253)


إلى لسان= فكيف يجوزُ لهم أن ينفردوا باعتقاد قولٍ من هذه الأقوال وينصرفوا عمَّا سواهُ إلا على طريق الشَّهوة والتخمين؟! والله المستعان. ذِكرُ بعض ما يُستبشَعُ من أقوالهم ويُستَدلُّ به على مناقَضتهم مِن ذلك: زعمهُم أنَّ الفلكَ جسمٌ واحد، وطبيعةٌ واحدة، وأنه شيءٌ واحد، وليس بأشياء مختلفة، ثم زعموا بعد ذلك أنَّ بعضَه ذكرٌ وبعضَه أنثى، ولا دلالة لهم على ذلك ولا برهان، ولا وجدنا جسمًا واحدًا في الشَّاهد بعضُه ذكرٌ وبعضُه أنثى». قلت: قد رامَ بعضُ الملبِّسين من فضلائهم تصحيحَ هذا الهذَيان، بأن قال: ليس يستحيلُ أن يكون جسمٌ واحدٌ بعضُه أنثى وبعضه ذكر، كالرَّجل مثلًا، فإنَّ العينَ والأذنَ واليد والرِّجلَ منه مؤنثة، والرأسَ والصُّلبَ والصدرَ والظهرَ منه ذكر. وأيضًا؛ فإنَّ الجسم مركَّبٌ من الهَيُولى والصورة (1)، والهَيُولى مذكرةٌ والصورةُ مؤنثة. وأيضًا؛ لمَّا وجدَ المنجِّمون الشَّمسَ تدلُّ على الآباء والأبُ ذكرٌ، والقمرَ يدلُّ على الأمِّ وهي أنثى، قالوا: إنَّ الشَّمس ذكرٌ والقمرَ أنثى. قالوا: وقد قال أرسطو في كتاب «الحيوان»: طَمْثُ المرأة يدرُّ في نقصان الشهر، ولذلك (2) قال بعض الناس: إنَّ القمر أنثى. _________ (1) الهيولى: لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادة. والصورة: ما به يحصُل الشيء بالفعل، كالهيئة الحاصلة للكرسي بسبب اجتماع الخشب. «المعجم الفلسفي» (536، 741). (2) (ق، ت): «وكذلك».

(3/1254)


قالوا: وأيضًا؛ فالشَّمس إذا كانت قريبًا من سَمْت الرؤوس كان الحرُّ واليُبس، وهما من طبيعة الذكوريَّة، والقمرُ إذا كان يقرُب من سَمْت الرؤوس بالليل كان البردُ والرطوبة، وهما من طبيعة الأنثى. فليَعجَب العاقلُ اللبيبُ من هذه الخرافات! فأمَّا أعضاءُ الإنسان الذكرُ والأنثى، فذلك أمرٌ راجعٌ إلى مجرد اللفظ وإلحاق علامة التأنيث في تصغيره ووصفه وخبره وعَوْد الضمير عليه بلفظ التأنيث وجَمْعه جمعَ المؤنَّث، وليس ذلك عائدٌ إلى طبيعة العُضو ومِزاجه. فنظيرُ هذا قولُ النحاة: الشَّمس مؤنثة؛ للَحاق العلامة لها في تصغيرها فتقول: شُمَيْسة، وفي الخبر عنها نحو: الشَّمس طالعة. والقمرُ مذكر؛ لعدم لحاق العلامة له في شيءٍ من ذلك. فعلى هذا الوجه وقعَ التذكيرُ والتأنيثُ في أعضاء الحيوان. وأمَّا قِسمتُكم البروجَ وأجزاءَ الفلك إلى مذكرٍ ومؤنث، فليست بهذا الاعتبار، بل باعتبار الفعل والانفعال والحرارة والرطوبة، فتشبيهُ أحد البابين بالآخر تلبيسٌ وجهل. وأمَّا تركيبُ الجسم من الهَيُولى والصورة فأكثرُ العقلاء نفَوْه (1)، وقالوا: هو شيءٌ واحدٌ متصلٌ متواردٌ عليه الاتصال والانفصال، كما يتواردُ عليه غيرُها من الأعراض فيقبلُها، ولا يلزمُه من قبوله الاتصالَ _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 328)، و «درء التعارض» (3/ 398)، و «الرد على المنطقيين» (67).

(3/1255)


والانفصال (1) أن يكون هناك شيءٌ آخرُ غير الجسميَّة يقبلُ به ذلك، والذين قالوا بتركيبه منهما لم يقل أحدٌ منهم أصلًا: إنه مركَّبٌ من ذكرٍ وأنثى. والصورةُ مؤنثةٌ في اللفظ لا في الطبيعة. واضحاك لهم على (2) عقولهم السخيفة! وأمَّا دلالةُ الشَّمس على الأب وهو مذكَّر، ودلالةُ القمر على الأمِّ وهي أنثى، فلو سلِّمت لكم هذه الدَّلالة، كيف يلزمُ منها تذكيرُ ما دلَّ على الذَّكر وتأنيثُ ما يدلُّ على الأنثى؟! وأين الارتباطُ العقليُّ بين الدليل والمدلول في ذلك؟ كيف، ودلالةُ الشَّمس على الأب والقمر على الأمِّ مبنيٌّ على تلك الدعاوى الباطلة التي ليس لها مستندٌ [تستندُ] (3) إليه إلا خيالاتٌ وأوهامٌ لا يرضاها العقلاء؟! وأمَّا ما حكوه عن أرسطو فنقلٌ محرَّف، ونحن نذكرُ نصَّه في الكتاب المذكور، فإنَّ لنا به نسخةً مصحَّحةً قد اعتُني بها (4). قال في المقالة الثامنة عشرة ــ بعد أن تكلَّم في علَّة الإذكار والإيناث وذَكَر قولَ من قال: إنَّ سببَ الإذكار حرارةُ الرَّحِم وسببَ الإيناث برودتُه، وأبطَل هذا بأنَّ الرَّحِمَ مشتملٌ على الذكر والأنثى معًا في الإنسان وفي كلِّ حيوان يلد ــ، قال: فقد كان ينبغي على قول هذا القائل أن يكونَ التوأمان إمَّا _________ (1) من قوله: «كما يتوارد عليه» إلى هنا ساقط من (ت). (2) كذا في (د، ق). (ت): «واضحاك بهم». ولم أتبينها. وأصلحها ناشر (ط) إلى: «وا ضحكاه على». (3) زيادة من (ط). (4) انظر: «أبجد العلوم» (2/ 260)، و «كشف الظنون» (1/ 659).

(3/1256)


ذكرين وإمَّا أنثيَين، ــ وأبطله بوجوهٍ أخر ــ، وهذا رأيُ إنبدُقليس (1). وذَكَرَ قولَ دِيمُقراطِيس أنَّ ذلك ليس لأجل حرارة الرَّحِم وبرودته، بل بحسب الماء الذي يخرُج من الذَّكر وطبيعته في الحرارة والبرودة، وجَعَل قوَّة الإذكار والإيناث تابعةً لماء الذَّكر. وذَكَر قولَ طائفةٍ أخرى أنَّ خروجَ الماء من الناحية اليمنى من البدن هي علةُ الإذكار، وخروجَه من الناحية اليسرى هي علةُ الإيناث، قال: إنَّ الناحيةَ اليمنى من الجسد أسخنُ من الناحية اليسرى وأنضجُ وأدفأُ من غيرها. ورجَّحَ قولَ دِيمُقراطِيس بالنسبة إلى هذه الآراء، ثم قال: فقد بينَّا العلَّة التي من أجلها يُخْلَقُ في الرَّحِم ذكرٌ وأنثى، والأعراض التي تَعرِضُ تشهدُ لما بينَّا، فإنَّ (2) الأحداثَ يلدون الإناثَ أكثر من الشَّباب، والمتشيِّبين (3) يلدون إناثًا أيضًا أكثر من الشباب؛ إذ (4) الحرارةَ التي في الأحداث ليست بتامَّةٍ بعد، والحرارةَ التي في الشُّيوخ ناقصة، والأجسامُ الرطبةُ التي خِلْقتُها (5) شبيهةٌ بخِلقة بعض النساء تلدُ إناثًا أكثر. ثمَّ قال: فإذا كانت الريحُ شَمالًا كان الولدُ ذكرًا، وإذا كانت جَنوبًا كان المولودُ أنثى؛ لأنَّ الأجسادَ إذا هبَّت الجَنوبُ كانت رطبة، وكذلك يكونُ _________ (1) Empedocles. «عيون الأنباء» (1/ 36): أنباذقليس. ورسم في الأصول: ابندقليس. ونحوه في «طبقات الأمم» (21). وتحرَّف في «تاريخ الحكماء» (249، 270). (2) في الأصول: «ان». ولعل الأشبه ما أثبت. (3) كذا في الأصول. وهو استعمالٌ نادر. (4) في الأصول: «ان». تحريف. (5) في الأصول: «خلقها». والمثبت من (ط).

(3/1257)


الزرعُ (1) أكثر، وكلَّما كَثُرَ الزرعُ يكونُ الطَّبخُ غيرَ نضيج، ولحالِ هذه العلة يكونُ زرعُ الذُّكور أرطب، ويكونُ دمُ طَمْثِ النساء من قِبَل الطِّباع عند خروجه أرطبَ أيضًا. قلت: ومراده بالزرع الماءُ الذي يكونُ من الرجل. قال: ولحالِ هذه العلة يكونُ طمثُ النساء من قِبَل الطِّباع في نقص الأهلَّة أكثر؛ لأنَّ تلك الأيامَ أبردُ من سائر أيام الشَّهر، وهي أرطبُ أيضًا؛ لنقص الأهلَّة وقلة الحرارة، والشَّمس تصير (2) الصيفَ والشتاء في كلِّ سنة، فأمَّا القمرُ فيفعل ذلك في كلِّ شهر. فتأمَّل كلامَ الرجل، فإنه لم يتعرَّض لكون القمر ذكرًا ولا أنثى، ولا أحال على ذلك، وإنما أحال على الأمور الطبيعية في الكائنات الفاسدات، وبيَّن تأثيرَ النيِّرين في الرُّطوبة واليُبوسة والحرارة والبرودة، وجعَل لذلك تأثيرًا في الإذكار والإيناث، لا للنجوم والطوالع. ومع أنَّ كلامه أقرب إلى العقول من كلام المنجِّمين، فهو باطلٌ من وجوهٍ كثيرةٍ معلومةٍ بالحسِّ والعقل وأخبار الأنبياء (3)؛ فإنَّ الإذكارَ والإيناثَ لا يقومُ عليه دليل، ولا يستندُ إلى أمرٍ طبيعي، وإنما هو مجرَّدُ مشيئة الخالق الباراء المصوِّر الذي {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]، {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. _________ (1) (ت): «النزع». وهكذا في المواضع التالية. (2) (ت): «نظير». وهي مهملة في (د، ق). المثبت من (ط). (3) انظر ما تقدم (ص: 737، 738).

(3/1258)


ولهذا هو قرينُ الأجل والرِّزق والسَّعادة والشَّقاوة، حيث يستأذنُ المَلَكُ الموكَّل بالمولود ربَّه وخالقَه، فيقول: يا ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ سعيدٌ أم شقيٌّ؟ فما الرِّزق؟ فما الأجل؟ فيقضي الله ما يشاء، ويكتبُ المَلَك. ولاستقصاء الكلام في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ بها من هذا، وقد أشبعنا الكلامَ فيها في كتاب «الرُّوح والنفس وأحوالها وشقاوتها وسعادتها ومقرِّها بعد الموت» (1). والمقصودُ الكلامُ على أقوال الأحكاميِّين من أصحاب النجوم، وبيانُ تهافُتِها، وأنها إلى المُحالات والتخيُّلات أقربُ منها إلى العلوم والحقائق. وأمَّا قولُ المنتصر لكم: إنَّ الشَّمس إذا كانت مسامتةً للرؤوس كان الحرُّ واليُبس، وهما من طبيعة الذُّكور، وإذا كان القمرُ مسامتًا للرؤوس كان البردُ والرطوبة، وهما من طبيعة الإناث. فيقال: هذا لا يدلُّ على تأنيث القمر وتذكير الشَّمس بوجهٍ من الوجوه؛ فإنَّ البردَ والرُّطوبةَ يكونان أيضًا بسبب بُعْدِ الشَّمس من المسامتة ومَيْلها عن الرؤوس، وحصولها في البروج الشمالية، سواءٌ كان القمرُ مسامتًا أو غير مسامت، فينبغي على قولكم أن يكون سببُ هذا البرد أنثى، وهذا لا يقولُه عاقل، بل الأسبابُ طبيعيةٌ مِن بَردِ الهواء وتكاثُفه وضعفِ (2) تأثير الشَّمس في تحليل الأبخرة التي تكونُ منها الحرارةُ بسبب بعدها عن الرؤوس، _________ (1) وهو كتابٌ كبير أحال عليه المصنف في بعض كتبه. انظر: «جلاء الأفهام» (298، 371). وليس هو كتاب «الروح» المطبوع، فإنه أحال فيه على كتابه الكبير هذا (ص: 202). وانظر: «ابن قيم الجوزية» للشيخ بكر أبو زيد (258). (2) مهملة في (د). وفي (ق): «وصعب».

(3/1259)


وليس سببُ ذلك أنثى اقتضته وفعلَته. فقد جمعتم إلى جهلكم بالطبيعة، والكذب على الخِلقة، القولَ الباطلَ على الله وعلى خلقه. وليس العجبُ إلا ممَّن يدَّعي شيئًا من العقل والمعرفة، كيف ينقادُ له عقلُه بالإصغاءِ إلى مُحالاتكم وهذياناتكم؟! ولكنْ كلُّ مجهولٍ مَهِيب! ولمَّا تكايَسَ مَن تكايسَ منكم في أمر الهَيُولى وزعَم أنها أنثى، وأنَّ الصُّورةَ ذكر، وأنَّ الجسمَ الواحدَ مشتملٌ على الذكر والأنثى، أضحَك عقلاءَ الفلاسفة عليه، فإنَّ زعيمَهم ومعلِّمهم الأول (1) قد نصَّ في كتاب «الحيوان» له على أنَّ الهَيُولى في الجسم (2) كالذَّكر. وإن قلتم: فهذا يشهدُ لقولنا أيضًا؛ لأنها إن كانت عنده كالذَّكر فالصورةُ أنثى، فصار الجسمُ الواحدُ بعضُه ذكرٌ وبعضه أنثى. قلنا: القائلون بتركُّب الأجسام (3) من الهَيُولى والصورة لم يقولوا: إنَّ أحدهما متميِّزٌ عن الآخر، كما زعمتم ذلك في أجزاء الفلك، بل عندهم الهَيُولى والصورة قد اتحدا وصارا شيئًا واحدًا، فالإشارةُ الحِسِّيةُ إلى أحدهما هي بعينها إشارةٌ إلى الآخر، وأنتم جعلتم الجزء المذكَّر من الفلك (4) مباينًا للجزء الأنثى منه بالوضع والحقيقة، والإشارةَ إلى أحدهما غيرَ الإشارة إلى الآخر. _________ (1) وهو أرسطو. والفارابي معلمهم الثاني. (2) (ت): «الهيولى كالذكر». (3) (ق): «بتركيب الأجسام». (4) في الأصول: «من القلب». وهو تحريف.

(3/1260)


وللكلام مع أصحاب الهَيُولى مقامٌ آخرُ ليس هذا موضعه (1)؛ فإنَّ دعوى تركُّب الجسم منهما دعوى فاسدةٌ من وجوهٍ كثيرة، وليس يصحُّ شيءٌ هنا غيرُ الهَيُولى الصِّناعية؛ كالخشب للسَّرير، والطبيعيَّة؛ كالمنيِّ للمولود، وهي المادةُ الصِّناعيةُ والطبيعيَّة، وما سوى ذلك فخيالٌ ومحال، والله المستعان. عُدنا إلى كلام صاحب الرسالة، قال: «ومن ذلك (2): زعمُهم أنه إن اتفقَ مولودٌ ابنُ ملكٍ وابنُ حجَّامٍ في البلد والوقت والطالع والدرجة، وكانت سائرُ دلالات السعادة موجودةً في مَولِدَيهما، وَجَبَ أن يكون من ابن الملك مَلِكٌ جليلٌ سائسٌ مدبِّر، ومن ابن الحجَّام حجَّامٌ حاذق. وهذا يُخرِجُ النجومَ عن أن تكونَ تدلُّ على ما يتجدَّدُ من حال الإنسان، ويجعلُها تدلُّ على حِذقه في صناعة أبيه (3) وتقصيره فيها». قلت: وممَّا يوضِّحُ فسادَ قولهم في ذلك أنَّ بَطْليموس جعَل الكواكبَ الدَّالة على الصِّناعات ثلاثة: المرِّيخ والزُّهَرة وعطارد، وقال: لأنَّ الصناعات العملية تحتاجُ إلى ثلاثة أشياء ضرورةً، أحدها: المعرفة، والثاني: الآلة، والثالث: لطافةٌ (4) في الكفِّ؛ ليخرُج المعمولُ المصنوعُ حسنًا. _________ (1) راجع ما تقدم (ص: 1255) والتعليق عليه. (2) مما يستبشَع من أقوالهم ويستَدلُّ به على مناقضتهم. (3) في الأصول: «حذقه وصناعة أبيه». وهو تحريف. (4) (ق): «الطاقة». وهو تحريف.

(3/1261)


فالآلةُ للمرِّيخ، وتكونُ ــ على الأكثر ــ إمَّا حديدًا وإمَّا مصاحبةً للحديد (1)، ولذلك يقولون: صورتُه صورةُ شابٍّ بيمناه سيفٌ مسلول، وبيسراه رأسُ إنسان (2)، وهو راكبٌ أسدًا، وثيابه حُمْرٌ تَلْهَب. وآخرون منهم يقولون: على رأسه بيضةٌ، وبيسراه طَبَرْزِين (3)، وعليه خرقةٌ حمراء، وهو راكبٌ فرسًا أشهَب. والمعرفةُ لعطارد، ولذلك يقولون: صورتُه صورةُ شابٍّ بيمناه حيَّة، وبيسراه لوحٌ يقرؤه، وهو راكبٌ على طاووس. ومنهم من يقول: صورتُه صورةُ رجلٍ جالسٍ على كرسيٍّ، بيده مصحفٌ يقرؤه، وهو راكبٌ على طاووس (4)، وعلى رأسه تاج، وثيابه ملوَّنة (5). والتزاويقُ والنقوشُ وما شاكلَ ذلك للزُّهَرة، ولذلك يقولون: صورتُها صورةُ امرأةٍ حسناء، بين يديها مِزْهَرٌ تضربُ به (6)، وهي راكبةٌ على جمل. _________ (1) العبارة غير محررة في الأصول. ولعلَّ فيها سقطًا. ففي (ق، د): «والآلة للمريخ إليها تكون على الأكثر إما حديد وإمَّا مصاحبة للحد». (ت): «فالآلة المريخ البنا تكون على الأكثر إمَّا حديدا وإمَّا مصاحبة للحد». (ط): «والآلة للمريخ التي يشير إليها يكون على الأكثر إمَّا حديدا وإمَّا مصاحبة للحديد»، ولعله من تصرف الناشر. وبما أثبتُّ يستقيم السياق. (2) في الأصول: «سنان». والمثبت من «السر المكتوم» (57) أشبه. (3) وهو فأسٌ يعلِّقه الفارسُ في سرج جواده. فارسيَّةٌ معرَّبة. انظر: «المعرب» للجواليقي (276)، و «قصد السبيل» (2/ 252). (4) من قوله: «وهو راكب على طاووس» في الموضع الأول إلى هنا سقط من (ق)؛ لانتقال النظر. (5) «السر المكتوم» (58): «وعليه ثيابٌ خضرٌ وصفر». (6) المِزْهَر: العُود، من آلات الطرب. «المعجم الوسيط» (زهر). وفي «السر المكتوم»: «بَرْبَط». وهو المزهر.

(3/1262)


ومنهم من يقول: امرأةٌ جالسةٌ مُرخاةُ الشَّعر، ذوائبُها بيسراها وباليمنى مرآةٌ تنظرُ فيها (1)، مُصبغةُ الثوب (2)، وعليها طوقٌ وأسْوِرةٌ وخلاخِل. وأمَّا الشَّمس والقمرُ، فهما الدَّالَّان على المُلْك، فالشَّمسُ صورتُها صورةُ رجلٍ بيده اليمنى عصا يتوكَّأ عليها، وباليسرى مِرْزبَّة (3)، راكبٌ عجلةً تجرُّها أربعةُ نمور. ومنهم من يقول: صورتُها صورةُ رجلٍ جالسٍ قابضٍ على أربعةِ أعِنَّة أفراس، ووجهه كالطَّبق يلتهبُ نارًا (4). قالوا: ودلائلُ المُلْك ليست بأعيانها هي دلائل الصِّناعات، ولا دلائل (5) الصِّناعات هي دلائل المُلك، بل قد يجوزُ أن تدلَّ على رياسةٍ ما إلا أن المُلكَ أخصُّ من الرياسة، ولكلِّ واحدٍ من الكواكب على الإطلاق دلالةٌ على رياسةٍ ما في معنى من المعاني. فيقال: أرأيتم إن حصلت أدلَّةُ المُلك (6) في طالع مولودٍ ليس من المُلك في شيء، بل أكثرُ المولودين لا ينالون المُلكَ البتة، وإنما ينالُه واحدٌ _________ (1) «السر المكتوم»: «امرأة أخرى تنظر إليها». وهو خطأ. وفي «أسرار الطلسمات» لبطليموس (ق: 4/ب): «وبيدها اليمنى تفاحة». (2) «السر المكتوم»: «وفي ثيابها خضرةٌ أو صفرة». (3) في الأصول: «حرز». وهو تحريف. والمثبت من «السر المكتوم». وفي «أسرار الطلسمات»: «مقرعة، نرجس، ترس» في ثلاث صور. (4) لم يذكر القمر. وصورته عندهم: صورة إنسانٍ ممسكٍ بيمناه محبرته، وبيسراه مثلَّثين، كأنه يحسُب، وعلى رأسه كالتاج، وهو على عجلةٍ تجرها أربعةٌ من الأفراس. «السر المكتوم» (58). وذكر في «أسرار الطلسمات» له أربع صورٍ أخرى. (5) (ت، ق): «ودلائل». (6) (ت): «دلالة الملك».

(3/1263)


من الناس، ولا يلزمُ أن يكون في آبائه مَلِكٌ ولا يكون ابنَ مَلِك، فما بال طالع المُلك المشتَرك بين عدَّة أولادٍ خَصَّ هذا وحدَه؟! حتى إنَّ أكثركم ينظرُ بنصِّ بَطْليموس إلى جنس المولود وما يصلحُ له، فيحكمُ على ابن المَلكِ بالمُلك، وعلى ابن الحجَّام بالحِجامة، فإن كان طالعُهما واحدًا حكم بتقدُّم ابن الحجَّام في رياسةِ صناعتِه وكونِه كمَلكِهم. ومعلومٌ أنَّ الحِسَّ والوجودَ أكبرُ المكذِّبين لكم في هذه الأحكام، فما أكثرَ من نال المُلكَ وليس هو من أبناء الملوك البتة، ولا كان طالعُه يقتضي ذلك، وحُرِمَه من يقتضيه طالعُه بزعمكم ممَّن أبوه مَلِك! وكذلك الكلامُ في غير المُلك من الطالع الذي يقتضي كونَ المولود حكيمًا عالمًا، أو حاذقًا في صناعته، كم قد أخلَف وحصَل العلمُ والحكمةُ والتقدُّمُ في الصِّناعة لغير أرباب ذلك الطالع! وفي ذلك أبينُ تكذيبٍ لكم وإبطالٍ لقولكم، والله المستعان. قال صاحبُ الرِّسالة: «ومن ذلك (1): قولهم: إنَّ الكواكبَ المتحيِّرةَ أجلُّ من الثوابت، وأبينُ تأثيرًا في العالَم، وإنَّ كلَّ واحدٍ من الكواكبِ الثابتة يفعلُ فعلًا واحدًا لا يزولُ عنه من غير أن يَنْحَسَ أو يُسْعِد، وإنَّ عطارد ــ وهو (2) من الكواكب المتحيِّرة ــ ليس له طبْعٌ يُعْرَف، وأنه نحسٌ إذا قارن النُّحوس، وسعدٌ إذا قارن السُّعود. _________ (1) مما يستبشَع من أقوالهم ويستَدلُّ به على مناقضتهم. وفي (ت، ق): «ومن بعد ذلك». (ط): «وأبعد من ذلك». والمثبت أشبه. (2) في الأصول: «هو».

(3/1264)


ومن ذلك قولهم: إنَّ قوةَ القمر الترطيب، وإنَّ العلةَ في ذلك قربُ فلكِه من الأرض، وقبولُه للبخارات الرَّطبة التي ترتفعُ إليه منها، وإنَّ قوة زُحل أن يُبرِّد ويجفِّف تجفيفًا يسيرًا، وإنَّ علَّة ذلك بعدُه عن حرارة الشَّمس وعن البخارات الرَّطبة التي ترتفعُ من الأرض، وإنَّ قوةَ المرِّيخ مجفِّفةٌ مُحرِقة، لمشاكلة لونه للون النار، ولقربه من الشَّمس؛ لأنَّ الكرةَ التي فيها الشَّمس موضوعةٌ تحته». قلت: فليتأمَّل العاقلُ ما في هذا الكلام (1) من ضروب المحال. وما للفلَك ووصول البخارات الأرضية إليه! وهل في قوَّة البخارات تصاعدُها إلى سطح الفلك مع البُعد المُفْرِط؟! والبخارُ إذا ارتفعَ فغايةُ ارتفاعه كارتفاع السَّحاب، لا يتعدَّاه، وهل تتأثَّر العُلويَّات بطبائع السُّفليَّات وتتكيَّف بكيفيَّاتها وتنفعِل عنها؟! ومما يدلُّ على فساد ذلك أيضًا: أنَّ القمرَ لو كان يترطَّبُ من البخارات وجبَ أن تزدادَ رطوبتُه في كلِّ يوم؛ لأنه دائمُ القبول للبخارات. ولا يقولون ذلك. وإن التزمه منهم مكابرٌ، وقال: كلُّ يومٍ يزدادُ رطوبةً، قيل له: فما تُنكِرُ أن تكون دلالةُ زُحَل والمريِّخ على النُّحوس تتزايدُ وتكونُ دلالته على النُّحوس في اليوم أكثر من دلالته في الأمس؟! ولو فُتِحَ عليكم هذا البابُ فلعل السَّعْدَ ينقلبُ نحسًا، وبالعكس، وهذا يرفعُ الأمانَ عن أصول هذا العلم. _________ (1) (ت): «ما تحت هذا الكلام».

(3/1265)


وأيضًا؛ فإذا جوَّزتم انفعالَ الفلكيَّات عن أجزاء هذا العالم السُّفليِّ لَزِمَكم تجويزُ فساد هذه الكواكب من هذه الأجزاء (1) العنصريَّة، ولزمكم تجويزُ أن يرتفعَ إلى القمر من الأدخِنة ما يوجبُ جفافَه وبلوغَه في اليُبس الغاية. وأيضًا؛ فإذا جوَّزتم ذلك فَلِمَ لا تجوِّزون نفوذَ تلك البُخَارات إلى ما وراء فلَك القمر، حتى يترطَّب فلَكُ الأفلاك؟! فإن قلتم: فلكُ القمر عائقٌ عن ذلك. قلنا: وكرةُ الأثير (2) حائلةٌ بين عالمنا هذا وبين فلك القمر، فكيف جوَّزتم وصولَ البُخارات الأرضيَّة إلى فلَك القمر؟! [وأما زعمهم أنَّ في] (3) مشابهة لون المرِّيخ للون النَّار ما يقتضي (4) تأثيره الإحراقَ والتجفيف، فهل في الهذَيان أعجبُ من هذا؟! فإن أرادوا النارَ البسيطة فإنها لا لونَ لها، وإن أرادوا النارَ الحادثةَ فهي بحسب مادَّتها التي توجبُ حُمْرتَها وصُفْرتها وبياضها. _________ (1) (د، ق): «الأجرام». (2) في الأصول: «الأثر». ويقال له: الفلك الأثير، والكرة الثانية، وكان يعتقَد أنه يملأ الفضاء، والأرض والأفلاك تتحرك خلاله، وزعموا أنه مؤثر في العالم الأرضي بحرارته ويبسه، ولذا سمِّي أثيرًا. انظر: «التوقيف على مهمات التعاريف» (564)، و «الموسوعة العربية العالمية» (الأثير). (3) في الأصول بدل ما بين المعكوفين: «وفي». وكأن ثمة سقطًا. وأثبتُّ ما يفهَم به السياق. (4) في الأصول: «مما يقتضي». وأثبت الأنسب للسياق.

(3/1266)


وأمَّا كونُ الشَّمس تحته فهذا لا يقتضي تأثيرَها فيه، وإعطاءه قوَّة التَّجفيف والإحراق؛ فإنَّ الشَّمس لو أثَّرت فيه ذلك وأعطته إيَّاه لكانت بهذا التأثير والإعطاء للزُّهَرة أولى؛ لأنَّ كُرتَها (1) فوق كرة الزُّهَرة، ونسبتها إلى كرة الزُّهَرة كنسبتها إلى كرة المرِّيخ، فهلَّا كانت قوَّةُ الزُّهَرة التجفيفَ والإحراق؟! بل تأثيرُ الشَّمس فيما تحتها أولى من تأثيرها فيما فوقها. قال صاحبُ الرسالة: «وإنَّ الكواكبَ الثَّابتةَ (2) التي في الدُّبِّ الأكبر (3) قوَّتُها كقوة المرِّيخ. وهذا غلطٌ عظيم؛ لأنَّ لونَ هذه الكواكب غيرُ مُشْبِهٍ للون النار، وليست الكرةُ التي فيها الشَّمس موضوعةً تحتها، بل الكرةُ التي فيها زُحَل موضوعةٌ تحتها، فهي بأن يكون حالُها مُشْبِهًا لحال زُحَل أولى؛ لأنها فوقه، وبُعْدُها عن الشَّمس وعن حرارات الأرض أكثرُ مِن بُعْدِه». قلت: والعجبُ من هؤلاء، يعلَمون قولَ مُقَدَّمهم بَطْليموس: إنَّ طبائعَ الأجرام السَّماوية واحدة؛ ثمَّ يحكمون على بعضها بالحرارة، وعلى بعضها بالبرودة، وكذلك بالرُّطوبة واليُبوسة! قال: «وزعموا أنَّ عطاردَ معتدلٌ في التجفيف والترطيب؛ لأنه لا يَبْعُدُ في وقتٍ من الأوقات عن حَرِّ الشَّمس بُعْدًا كثيرًا، ولا وَضْعُه فوق كرة القمر، وأنَّ الكواكبَ الثابتةَ التي في الجاثي (4) حالُها شبيهةٌ بحاله، وليس يوجَدُ لها _________ (1) في الأصول: «كونها». وهو تحريف. (2) أي: ومما يستبشَع من أقوالهم ويستَدلُّ به على مناقضتهم قولهم: ... . (3) وهي سبعة أنجم ظاهرة. واسمها عند العرب: بنات نعش الكبرى. انظر: «الأنواء» لابن قتيبة (147، 148)، و «المرصع» لابن الأثير (330). (4) (ق): «الجاني». (ت): «الحاتي». وهو تحريف. انظر: «صور الكواكب الثمانية والأربعين» (59)، و «مفاتيح العلوم» (194).

(3/1267)


من السَّببين (1) اللذَيْن دلَّا على طبيعة عطارد شيئًا، بل الذي (2) يوجَدُ لها ضدُّ ذلك، وهو أنها بعيدةٌ من الشَّمس في أكثر الأوقات، وأن فلكها أبعدُ أفلاك الكواكب من كرة القمر. وقالوا: إنَّ الكواكبَ التي في العواء (3) تشبهُ حالَ عطارد وزُحَل في بعض الأوقات، وتشبهُ حالَ المشتري والمرِّيخ في بعضها». قلت: وقد استدلَّ فضلاؤكم (4) على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها، فقالوا: زُحَل لونُه الغُبْرة والكُمُودة (5)، فحكمنا بأنه على طبع السَّوداء، وهو البردُ واليُبس، فإنَّ السوداء لها من الألوانِ الغُبْرةُ. وأمَّا المرِّيخُ، فإنه يشبهُ لونُه لونَ النار، فلا جرَمَ قلنا: طبعُه حارٌّ يابس. وأمَّا الشَّمس، فهي حارَّةٌ يابسة؛ لوجهين: أحدهما: أنَّ لونها يشبهُ لونَ الحُمْرة. الثاني: أنَّا نعلمُ بالبديهة (6) أنها مسخِّنةٌ للأجسام، منشِّفةٌ للرطوبات. _________ (1) (ت): «الشيئين». (2) في الأصول: «الدور». وهو تحريف. (3) (ق): «النفاد». ومهملة في (د). (ت): «المقاد». وأقرب ما يحتمله الرسم من الصواب: العواء، والعقاب. وهما كوكبتان معروفتان، ككوكبة الجاثي المتقدمة. انظر المصدرين السابقين. (4) وهو الرازي، في «السر المكتوم» (34). (5) الكُمْدة: تغيُّر اللون وذهاب صفائه. «اللسان» (كمد). والكمودة (وهي محدثة): القُتمة القريبة من السَّواد. انظر: «المواقف» للإيجي (2/ 458)، و «سبل الهدى والرشاد» (2/ 261). (6) في الأصول: «بالتدبير». ولعله محرفٌ عما أثبت. وفي «السر المكتوم»: «أن كونها مسخنة للأجسام، منشفة للرطوبات، أمرٌ ظاهر».

(3/1268)


وأمَّا الزُّهَرة، فإنَّا نرى لونَها كالمركَّب من البياض والصُّفْرة، ثمَّ إنَّ البياض يدلُّ على طبيعة البلغم الذي هو البردُ والرطوبة، والصُّفرة تدلُّ على الحرارة. ولما كان بياضُ الزُّهَرة أكثر من صُفْرتها حكمنا عليها بأنَّ بردَها ورطوبتَها أكثر. وأمَّا المشتري، فلمَّا كانت صُفْرتُه أكثر مما في الزُّهَرة كانت سخونتُه أكثر من سخونة الزُّهَرة، وكان في غاية الاعتدال (1). وأمَّا القمر، فهو أبيض، وفيه كُمُودة، فبياضُه يدلُّ على البرد (2). وأمَّا عطارد، فإنا نراه على ألوانٍ مختلفة (3)، فربما رأيناه أخضر، وربما رأيناه أغبَر، وربما رأيناه على خلاف هذين اللَّونين، وذلك في أوقاتٍ مختلفة، مع كونه في الأفق على ارتفاعٍ واحد، فلا جَرَمَ قلنا: إنه لكونه قابلًا للألوان المختلفة يجبُ أن يكونَ له طبائعُ مختلفة، إلا أنا لمَّا وجدنا في الغالب عليه الغُبرة الأرضية، قلنا: طبيعته أميَلُ إلى الأرض واليُبس. وهذا التقريرُ باطلٌ من وجوهٍ عديدة (4): أحدها: أنَّ المشاركةَ في بعض الصِّفات لا تقتضي المشاركةَ في الماهيَّة _________ (1) «السر المكتوم»: «كان معتدلًا مائلًا إلى الحرارة». (2) «السر المكتوم»: «البرد والرطوبة». (3) (ق): «نرى عليه الألوان مختلفة». وفي «السر المكتوم»: «نراه على الألوان المختلفة». (4) من «السر المكتوم» (34، 35)، قال: «واعلم أن العلماء طعنوا في هذا الوجه من وجوه ... »، ثم ذكرها.

(3/1269)


والطبيعة ولا في صفةٍ أخرى. الوجه الثاني: أنَّ الدَّلالةَ بمجرَّد اللَّون (1) على الطبيعة ضعيفةٌ جدًّا؛ فإنَّ النُّورة والنُّوشادِر (2) والزَّرنيخ والزِّئبق المصعَّدَين (3) والكبريت في غاية البياض مع أنَّ طبائعَها في غاية الحرارة. الثالث: أنَّ ألوانَ الكواكب ليست كما ذكرتم. فزُحَل رصاصيُّ اللون، وهذا مخالفٌ للغُبرة والسَّواد الخالص. وأمَّا المشتري، فلا شكَّ (4) أنَّ بياضَه أكثرُ من صُفرته، فيلزمُ على قولكم أنَّ بردَه أكثرُ من حرِّه. وهم ينكرونَ ذلك. وأمَّا الزُّهَرة، فلا صُفرةَ فيها البتة، بل الزُّرقةُ ظاهرةٌ في أمرها (5)، فيلزمُ أنْ تكونَ خالصةَ البرد. وأمَّا المرِّيخ، فإن كان حرُّه (6) لشبهه بالنارِ في لونه، فهذه المشابهة بين الشَّمس (7) والنار أتمُّ، فيلزمُ أن تكونَ حرارةُ الشَّمس وسخونتُها أقوى من _________ (1) (ت): «في مجرَّد دلالة اللون». (2) (ق): «النوشاذر». وانظر: «الحيوان» للجاحظ (5/ 349) وحاشيته. (3) في الأصول: «المصعد». والمثبت من «السر المكتوم». والتصعيد: تحويل السائل إلى بخار بتأثير الحرارة. «المعجم الوسيط». (4) في الأصول: «فلا بد». والمثبت من «السر المكتوم». (5) «السر المكتوم»: «لونها». (6) «السر المكتوم»: «حره ويبسه». (7) (ق، د): «من الشمس». تحريف.

(3/1270)


حرارة المرِّيخ (1). وهم لا يقولون بذلك. وأمَّا عُطارد، فإنَّا وإنْ رأيناه متخلفَ اللون في الأوقات المختلفة إلا أنَّ السببَ فيه أنَّا لا نراه إلا إذا كان قريبًا من الأفق، وحينئذٍ يكونُ بيننا وبينه بخاراتٌ مختلفة، فلا جَرَمَ اختلفَ لونه (2) لهذا السبب. وأمَّا القمر، فقد قال زعيمُكم المؤخَّر أبو معشر: إنه لا يَنْسِبُ لونَه إلى البياض إلا من عَدِمَ الحِسَّ البصريَّ (3). فتبينَّ بطلانُ قولكم في طبائع الكواكب وتناقضُه واختلافُه. ولما علم بعض فضلائكم فسادَ قولكم في طبائع الكواكب، وأنَّ العقلَ يشهدُ بتكذيبه، صدَفَ عنه وأنكره، وقال: إنما نشيرُ بهذه القوى والطبائع إلى ما يحدثُ عن كلِّ واحدٍ من الأجرام السماويَّة وينفعلُ بها من الكائنات الفاسدات، لا أنها بطبائعها تفعلُ ذلك، بل يحدثُ عنها ما يكونُ حارًّا أو باردًا أو رطبًا أو يابسًا، كما يقال: إنَّ الحركةَ تُسَخِّنُ والصَّومَ يجفِّف (4)، لا على أنها تفعلُ ذلك بطبائعها، بل بما يحدُث عنها، فبَطْليموس قال: إنَّ القمرَ يرطِّبُ والشَّمس تسخِّنُ بحسب ما يحدثُ عنهما، وتنفعلُ المنفعلاتُ بتلك القوى، لا بأنَّ طبائعَها مكيِّفات. _________ (1) «السر المكتوم»: «وجب أن تكون الشمس أكثر سخونة من النار». وهو خطأ. (2) (ق): «أخلف لونه». (3) ثم أجاب الرازي: «ويمكن أن يجاب عن هذه الأسئلة بأن هذه التشابهات في الألوان توجبُ حركةً للظنون، فلما انضافت التجارب إليها كانت مطابقةً لتلك الظنون، فلا جرم حكموا بها قطعًا». (4) انظر: «زاد المعاد» (4/ 246)، و «المدخل» لابن الحاج (1/ 288).

(3/1271)


فيقال: نحن لم ننازعكم في تأثير الشَّمس والقمر في هذا العالَم بالحرارة والرطوبة والبرودة واليُبوسة وتوابعها، وتأثيرها في أبدان الحيوان والنبات، ولكنْ هما جزءٌ من السبب المؤثِّر، وليسا بمؤثِّرٍ تامٍّ، فإنَّ تأثيرَ الشَّمس مثلًا إنما كان بواسطة الهواء وقبوله للسُّخونة والحرارة بانعكاس شعاع الشَّمس عليه عند مقابلتها لجِرْم الأرض، ويختلفُ هذا القبولُ عند قُرب الشَّمس من الأرض وبُعْدِها، فيختلفُ حالُ الهواء وأحوالُ الأبخرة في تكاثُفها وبرودتها وتلطُّفها وحرارتها، فتختلفُ التأثيراتُ باختلاف هذه الأسباب، والشَّمس جزءُ السبب (1) في ذلك، والأرضُ جزء، والهواءُ جزء، والمقابلةُ الموجِبةُ لانعكاس الأشعَّة جزء، والمحلُّ القابلُ للتأثير والانفعال جزء. ونحن لا ننكرُ أنَّ قوةَ البرد بسبب بُعْدِ الشَّمس عن سَمْتِ رؤوسنا، وقوةَ الحرِّ بسبب قُرب الشَّمس من سَمْتِ رؤوسنا. ولا ننكرُ أنَّ الشَّمس إذا طلعت فإنَّ الحيوانَ ناطقَه وبهيمَه يخرجُ من مكامنه وأكنَّته، وتظهرُ القوةُ والحركةُ فيهم، ثمَّ مادامت الشَّمس صاعدةً في الربع الشرقيِّ (2) فحركاتُ الحيوان في الازدياد والقوَّة والاستكمال، فإذا مالت الشَّمس عن وسط السماء أخذَت حركاتُ الحيوان وقُواهم في الضعف، وتستمرُّ هذه الحالُ إلى غروب الشَّمس، ثمَّ كلما ازدادَ نورُ الشَّمس عن هذا العالم بُعْدًا ازدادَ الضعفُ والفتورُ في حركة الحيوان، وهدأت الأجساد، ورجعت الحيواناتُ إلى مكامِنها، فإذا طلعت الشَّمس رجعوا إلى الحالة الأولى. _________ (1) في الأصول: «والسبب جزء الشمس في ذلك». سبق قلم. (2) «السر المكتوم» (21): «صاعدة إلى وسط سمائهم».

(3/1272)


ولا ننكرُ أيضًا ارتباطَ فصول العالم الأربعة بحركات الشَّمس وحلولها في أبراجها. ولا ننكرُ أنَّ السُّودان لما كان مسكنُهم خطَّ الاستواء إلى محاذاة ممرِّ رأس السَّرطان (1)، وكانت الشَّمسُ تمرُّ على [سَمْت] (2) رؤوسهم في السنة إمَّا مرَّةً وإمَّا مرتين؛ تسوَّدت أبدانُهم، وتجعَّدت شعورُهم، وقلَّت رطوباتهم، فساءت أخلاقُهم، وضعُفت عقولُهم. وأمَّا الذين مساكنُهم أقربُ إلى محاذاة ممرِّ السرطان، فالسَّوادُ فيهم أقلُّ، وطبائعُهم أعدَل، وأخلاقُهم أحسن (3)، وأجسامُهم أنصَف (4)، كأهل الهند، واليمن، وبعض أهل الغَرب، [وكلِّ العرب] (5). وعكسُ هؤلاء الذين مساكنُهم على ممرِّ رأس السرطان إلى محاذاة بناتِ نَعْشٍ الكبرى، فهؤلاء لأجل أنَّ الشَّمس لا تُسَامِتُ رؤوسَهم، ولا تبعُد عنهم أيضًا بُعْدًا كثيرًا، لم يَعْرِض لهم حرٌّ شديدٌ ولا بردٌ شديد، فألوانهم متوسِّطة، وأجسامُهم معتدلة، وأخلاقُهم فاضلة (6)، كأهل الشَّام والعراق _________ (1) «السر المكتوم»: «محاذاة من رأس السرطان». (2) من «السر المكتوم»، وكذا الزيادات التالية، فإن هذا المبحث ملخَّصٌ منه. (3) «السر المكتوم»: «آنس». (4) أي: أعدل. أفعل تفضيل، مِن أنصَفَ، على غير قياس. وفي (ت): «أنظف». (ق): «اتصف». (ط): «ألطف». وفي «الفلاكة والمفلوكون» (24): «أنصع». والمثبت من (د) و «السر المكتوم». (5) «السر المكتوم»: «وبعض المغاربة وكل العرب». (6) «السر المكتوم»: «حسنة».

(3/1273)


وخراسان وفارس والصِّين (1). ثمَّ من كان من هؤلاء أميَلُ إلى ناحية الجنوب كان أتمَّ في الذَّكاء والفهم، ومن كان منهم يميلُ إلى ناحية المشرق فهم أقوى نفوسًا وأشدُّ ذكورةً (2)، ومن كان يميلُ إلى ناحية المغرب غلبَ عليه اللِّينُ والرَّزانة (3). ــ ومن تأمَّل هذا حقَّ التأمُّل، وسافر بفكره في أقطار العالَم، عَلِمَ حكمةَ الله في نشر مذهب أهل العراق (4) وما فيه من اللِّين وما شاكله في أهل المشرق، ومذهب أهل المدينة (5) وما فيه من الشدَّة والقوَّة في أهل المغرب ــ. وأمَّا من كانت مساكنُهم محاذيةً لبنات نَعْش، وهم الصَّقالبةُ والرُّوس (6)، فإنهم لكثرة بُعْدِهم عن مسامتة الشَّمس (7) صارَ البردُ غالبًا _________ (1) ابتدأ الرازي بالصين وختم بالشام، فعكسه المصنِّف، وحقَّ له!. (2) «السر المكتوم»: «تذكيرا». (3) «السر المكتوم»: «ألين نفسًا وأشد ثباتًا وأكثر كتمانًا للأمور». وفي «صفة جزيرة العرب» للهمداني (36) عن بطليموس: «وأمَّا الذين يميلون إلى ناحية المغرب فهم أكثر تأنيثًا [لعلها: تأنِّيًا]، وأنفسهم ألين، ويخفُون أمورهم في أكثر الأمر ويسترونها». (4) وهو مذهب أهل الرأي، أبي حنيفة وأصحابه. (5) وهو مذهب مالك بن أنس. (6) (د، ق): «والرومن». (ت): «والروم». وهو تحريف. والمثبت من «السر المكتوم». قال ياقوت: «الروس: أمةٌ من الأمم، بلادهم متاخمةٌ للصقالبة والترك». والصقالبة: شعوبٌ تسكن بين جبال الأورال والبحر الأدرياتي في أوروبا الشرقية والوسطى. «الموسوعة العربية الميسرة» (1126). وفي فاتحة تعليقات شكيب أرسلان على «تاريخ ابن خلدون» تعريفٌ جيدٌ بهم. (7) «السر المكتوم»: «لكثرة بعدهم عن ممرِّ البروج وحرارة الشمس».

(3/1274)


عليهم، والرطوبةُ الفَضْليَّة فيهم؛ لأنه ليس من الحرارة هناك ما يُنَشِّفُها ويُنْضِجُها، فلذلك صارت ألوانُهم بيضاء، وشُعورهم سَبِطَةً (1) شقراء، وأبدانُهم رَخْصَة (2)، وطبائعُهم مائلةً إلى البرودة، وأذهانُهم جامدة (3). وكلُّ واحدٍ من هذين الطرفين (4) ــ وهما الإقليمُ الأولُ والسابع ــ يقلُّ فيه العمران، وينقطعُ بعضُه عن بعض؛ لأجل غلبة اليُبس (5)، ثمَّ لا تزالُ العمارةُ تزدادُ في الإقليم الثاني والسادس [والثالث] والخامس، ويقلُّ الخرابُ فيها. وأمَّا الإقليمُ الرابعُ فإنه أكثرُ الأقاليم عِمارة، وأقلُّها خرابًا؛ لفضل (6) الوسط على الأطراف، بسبب اعتدال المزاج. ــ وهو الذي انتشرت فيه دعوةُ الإسلام، وضَرَبَ الدِّينُ بجِرانِه فيه (7) وظهرَ فيه أعظمَ من ظهوره في سائر الأقاليم. ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «زُوِيَت لي الأرضُ، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وسيبلغُ مُلكُ أمتي ما زُوِيَ لي منها» (8)، فمكان انتشار (9) دعوته - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) مسترسلةٌ غير جعدة. «اللسان» (سبط). (2) ناعمة لينة. «اللسان» (رخص). (3) «السر المكتوم» بدل الجملة الأخيرة: «وأخلاقهم وحشية». (4) «السر المكتوم»: «الطريقين». (5) «السر المكتوم»: «لغلبة الكيفيتين الفاعلتين». (6) في الأصول: «بالفصل». وهو تحريف. وعلى الصواب في «السر المكتوم». (7) استقام وقرَّ قراره. «اللسان» (جرن). (8) أخرجه مسلم (2889) من حديث ثوبان. (9) (ط): «فكان انتشار».

(3/1275)


في أعدل الأرض، ولذلك انتشرت شرقًا وغربًا أكثر من انتشارها جنوبًا وشمالًا، ولهذا لمَّا زُوِيَت له فأُرِيَ مشارقَها ومغاربها، وبشَّر أمَّته بانتشار مملكتها في هذين الرُّبعين، فإنهما أعدلُ الأرض، وأهلُها أكملُ الناس خَلْقًا وخُلُقًا، فظهرَ الكمالُ له في الكتاب، والدِّين، والأصحاب، والشَّريعة، والبلاد، والممالك، صلواتُ الله وسلامُه عليه. فإن قيل: فقد فضَّلتم الإقليمَ الرابعَ على سائر الأقاليم (1)، مع أنَّ شيئًا من الأدوية لا يتولَّدُ فيه إلا دواءً ضعيفًا، وإنما تتكوَّنُ الأدويةُ في سائر الأقاليم. قيل: هذا من أدلِّ الدَّلائل على فضله عليها؛ لأنَّ طبيعةَ الدَّواء لا تكونُ معتدلة، إذ لو حصَل فيها الاعتدالُ لكان غذاءً لا دواءً، والطبيعةُ الخارجةُ عن الاعتدال لا تحدُث إلا في المساكن الخارجة عن الاعتدال ــ. وكذلك حالُ الشَّمس في المواضع التي تسامتُها، فموضعُ حضيضِها وغاية قُربها من الأرض في البراري الجنوبية تكونُ تلك الأماكنُ محترقةً ناريَّة لا يتكوَّنُ فيها حيوانٌ البتة. ــ ولذلك، والله أعلم، كانت أكثرُ البحار (2) من الجانب الجنوبيِّ (3) دون الشماليِّ؛ لأنَّ الشَّمس إذا كانت في حضيضِها كانت أقربَ إلى الأرض، وإذا كانت في أوْجِها كانت أبعَد، وعند قُربها من الأرض يَعْظُمُ _________ (1) انظر لتفضيله: «التنبيه والإشراف» للمسعودي (32 - 38). (2) (د، ق): «البخار». وهو تحريف. (3) في الأصول: «الجوانب الجنوبي». والمثبت من (ط).

(3/1276)


تسخينُها، والسُّخونةُ جاذبةٌ للرطوبات، وإذا انجذبت الرطوباتُ إلى الجانب الجنوبيِّ انكشف الجانبُ الشماليُّ ضرورةً، وصار مستقرًّا للحيوان الأرضي، والجنوبيُّ أعظم الجانبين رطوبةً وأكثرها مياهًا ومقرًّا للحيوان المائيِّ ــ. وأمَّا المواضعُ المسامتةُ لأوج الشَّمس في الشمال فهي غيرُ محترقة، بل معتدلة لبُعْدِ الشَّمس من الأرض. وبسبب التفاوت القليل الحاصل بين أقرب قُرب الشَّمس من الأرض وأبعدِ بُعْدِها منها صار [الجانب] الجنوبيُّ محترقًا والجانبُ الشماليُّ معتدلًا، فلو كانت الشَّمس حاصلةً في فلك الكواكب (1) لفسَد هذا العالَم (2) من شدَّة البرد، ولو فرضنا أنها انحدرَت إلى فلك القمر لاحترق هذا العالَم. فاقتضت حكمةُ العزيز العليم الحكيم أنْ وَضَعَ الشَّمسَ وسط الكواكب السَّبعة، وجعَل حركتَها المعتدلةَ وقُربها المعتدل سببًا لاعتدال هذا العالَم، وجعَل قُربها وبعدَها وارتفاعَها وانخفاضها سببًا لفصوله التي هي نظامُ مصالحه، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين. وأهلُ الإقليم الأول لأجل قُربهم من الموضع المحاذي لحضيض الشَّمس كانت سخونةُ هوائهم شديدة، ولا جَرَمَ كانوا أشدَّ سوادًا من مكان خطِّ الاستواء (3). _________ (1) «السر المكتوم»: «لو صارت إلى فلك الثوابت». (2) «السر المكتوم»: «لفسدت الطبائع». (3) «السر المكتوم»: «فلا جرم هم أهل السواد، لأن تأثير الشمس فيهم أكثر».

(3/1277)


وأهلُ الإقليم الثاني سخونةُ هوائهم ألطف، فكانوا سُمْرَ الألوان. والإقليمُ الثالثُ والرابعُ أعدلُ الأقاليم مزاجًا، بسبب اعتدال الهواء. وسببُ تعديله (1) [أن غاية] ارتفاع الشَّمس إنما يكونُ (2) [عند كونها] في أبعد بُعْدِها عن الأرض (3). فهاهنا وإن حصلت المسامتةُ المُوجِبةُ (4) لمزيد السُّخونة، لكن حصَل أيضًا البعدُ المقلِّلُ للسُّخونة، فحصَل الاعتدالُ من بعض الوجوه. وفي الجانب الجنوبيِّ وإن حصَل مزيدُ القُرب من الأرض لكن لم تحصُل هناك مسامتةٌ [معتدلة]، [فلذا كانت أكثر] (5) المساكن المعمورة لخطِّ الاعتدال في الجانبين بهذه الطريق، وصار أهلُ الإقليم الثالث والرابع أفضلَ الناس صُورًا وأخلاقًا. وأمَّا الإقليم الخامس، فإنَّ سخونة الهواء هناك أقلُّ من الاعتدال بمقدارٍ يسير، فلا جَرَمَ صار في حيِّز البرد (6)، وصارت طبائعُ أهله أقلَّ نضجًا من _________ (1) مهملة في (د). (ق): «تعديه». (ت): «بعديه». (ط): «تعديل». ولعل المثبت أشبه. (2) في الأصول: «لا يكون». (3) «السر المكتوم»: «بسبب اعتدال الهواء. وأيضًا، فغاية ارتفاع الشمس إنما يكون عند كونها في أبعد بعدها عن الأرض». (4) في الأصول: «مسامتة الوحيد»، والكلمة الثانية مهملة في (د). وفي (ط): «مسامتة مفيدة». والأشبه ما أثبت. (5) الزيادتان الأخيرتان مني، ليستقيم السياق. ومن قوله: «فهاهنا ... » إلى: «بهذه الطريق» ليس في «السر المكتوم». (6) (د، ق): «حز البرد». ومهملة في (ت). وفي «السر المكتوم»: «حيز البرد والثلوج».

(3/1278)


طبائع أهل الإقليم الرابع؛ لأنَّ بُعْدَهم (1) عن الاعتدال قليل. وأمَّا أهلُ الإقليم السادس والسابع، فإنَّ أهلَها مَقْرُورون (2)، ولغلبة البرد والرطوبة عليهم يشتدُّ بياضُ ألوانهم وزُرْقةُ عيونهم. وأمَّا المواضعُ التي تَقْرُب من أن يكون القطبُ (3) فيها فوق الرأس، فهناك لا يَصِلُ تسخينُ الشَّمس إليها، فلا جَرَمَ عَظُمَ البردُ فيها، ولم يتكوَّن هناك حيوانٌ البتة. وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الشَّمس جزءُ السَّبب، وأنَّ الهواءَ جزءُ السَّبب، والأرض جزء، وانعكاس الشُّعاع جزء، وقبول المنفعِلات جزء، ومجموعُ ذلك سببٌ واحدٌ قدَّره العزيزُ العليمُ القدير، وأجرى عليه نظامَ العالَم. وقدَّر سبحانه أشياءَ أُخَر لا يعرفُها هؤلاء الجهَّال، ولا عندهم منها خبر، مِنْ تدبير الملائكة، وحركاتهم، وطاعة أستُقُصَّات العالم وموادِّه لهم، وتصريفهم تلك الموادَّ بحسب ما رُسِمَ لهم من التقدير الإلهيِّ والأمر الرباني. ثمَّ قدَّر تعالى أشياءَ أُخَر تُمَانِعُ هذه الأسبابَ عند التصادم، وتُدافِعُها، وتقهرُ مُوجَبَها ومقتضاها، ليظهر عليها أثرُ القهر والتسخير والعبوديَّة، وأنها _________ (1) (ق، د) و «السر المكتوم»: «إلا أن بعدهم». والمثبت من (ت). (2) رجل مقرور: أصابه البرد. وفي الأصول: «محرورون». محرفة. والمثبت أقرب ما يحتمل الرسم من الصواب، ولست منه على ثقة. وفي «السر المكتوم»: «نجونيون». ولعلها: أسمنجونيون. الأسمنجون: اللون الأزرق الخفيف، والنسبة إليه: أسمنجوني. «المعجم الوسيط» (18). (3) (ق): «القط». (ط): «الخط». وكلاهما تحريف. والمثبت من (د، ت).

(3/1279)


مصرَّفةٌ مدبَّرةٌ بتصريفِ قاهرٍ قادرٍ كيف يشاء، ليدلَّ عبادَه على أنه هو وحده الفعَّالُ لما يريد، المدبِّر لخلقه كيف يشاء، وأنَّ كلَّ ما في المملكة الإلهيَّة طوعُ قدرته، وتحت مشيئته، وأنه ليس شيءٌ يستقلُّ وحده بالفعل إلا الله، وكلُّ ما سواه لا يفعلُ إلا بمشاركٍ ومُعاوِن، وله ما يُعاوِقُه ويُمانِعُه ويسلبه تأثيرَه. فتارةً يسلبُ سبحانه النَّارَ إحراقَها ويجعلُها بردًا، كما جعَلها على خليله بردًا وسلامًا، وتارةً يمسكُ بين أجزاء الماء فلا يتلاقى، كما فعل بالبحر لموسى وقومه، وتارةً يشقُّ الأجرامَ السَّماوية، كما شقَّ القمرَ لخاتم أنبيائه ورسله، وفتحَ السماءَ لمَصْعَده وعُروجه، وتارةً يقلبُ الجمادَ حيوانًا، كما قلبَ عصا موسى ثعبانًا، وتارةً يغيِّر هذا النظامَ ويُطْلِعُ الشَّمس من مغربها، كما أخبر به أصدقُ خلقه عنه (1). فإذا أتى الوقتُ المعلوم، فشقَّ السَّموات (2) وفَطَرَها، ونَثَرَ الكواكبَ على وجه الأرض، ونَسَفَ جبالَ العالم ودكَّها مع الأرض، وكوَّر شمسَ العالم وقمرَه، ورأى ذلك الخلائقُ عيانًا= ظهَر للخلائق كلِّهم صدقُه وصدقُ رسله، وعمومُ قدرته وكمالها، وأنَّ العالَم بأسره منقادٌ لمشيئته، طوعُ قدرته، لا يستعصي عليه انفعالُه لما يشاء (3) ويريدُه منه، وَعَلِمَ الذين كفروا وكذَّبوا رسله من الفلاسفة والمنجِّمين والمشركين والسُّفهاء الذين سمَّوا أنفسهم الحكماء أنهم كانوا كاذبين. _________ (1) أخرجه البخاري (4359) ومسلم (157). (2) (ت): «فتق السموات». (3) (ت): «كما يشاء».

(3/1280)


واجتمعَ جماعةٌ من الكبراء والفضلاء يومًا، فقرأ قاراء: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} حتى بلغ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 1 - 14]، وفي الجماعة أبو الوفاء ابن عقيل (1)، فقال له قائل: يا سيِّدي، هَبْ أنه أَنْشَرَ الموتى للبعث والحساب، وزَوَّجَ النفوسَ بقرنائها للثواب والعقاب، فما الحكمةُ في هَدْم (2) الأبنية، وتسيير الجبال، ودكِّ الأرض، وفَطْرِ السَّماء، ونَثْرِ النُّجوم، وتخريب هذا العالم وتكوير شمسه، وخَسْفِ قمره؟! فقال ابنُ عقيل على البديهة: إنما بنى لهم هذه الدارَ للسُّكنى والتمتُّع، وجعلها وما فيها للاعتبار والتفكُّر، والاستدلال عليه بحسن التأمُّل والتذكُّر، فلمَّا انقضت مدةُ السُّكنى، وأجلاهم من الدار؛ خرَّبها، لانتقالِ السَّاكن منها، فأراد أن يُعلِمَهم بأنَّ في إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وإبداء ذلك الصُّنع العظيم، بيانًا لكمال قدرته، ونهاية حكمته، وعظمة ربوبيته (3)، وعِزِّ جلاله، وعِظَم شأنه (4)، وتكذيبًا لأهل الإلحاد وزنادقة المنجِّمين وعُبَّاد الكواكب والشَّمس والقمر والأوثان، ليعلمَ الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا أنَّ منارَ آلهتهم قد انهدم، وأنَّ معبوداتهم قد انتثَرت، والأفلاكَ التي زعموا أنها وما حوَتْه هي الأربابُ المستوليةُ على هذا العالم قد تشقَّقت _________ (1) الفقيه الأصولي الحنبلي. تقدمت الإشارة إلى ترجمته (ص: 963). (2) في الأصول: «هذه». ولعلها: هدِّه. وفي (د) بخطٍّ دقيق بين السطرين: نقض. والمثبت من (ط)، وهو أشبه، وسيأتي على الصواب. (3) (ت): «وعظمته وربوبيته». (4) (ت): «وعظيم سلطانه».

(3/1281)


وانفطرَت؛ ظهرَت حينئذٍ فضائحُهم، وتبيَّن كذبُهم، وظهَر أنَّ العالَم مربوبٌ مُحْدَثٌ مدبَّر، له ربٌّ يصرِّفه كيف يشاء؛ تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة القائلين بقدَمِه. فكم لله من حكمةٍ في هَدْم هذه الدَّار! ودلالةٍ على عظيم قدرته وعزَّته وسلطانه، وانفراده بالربوبية، وانقياد المخلوقات بأسرها لقَهْره، وإذعانها لمشيئته، فتبارك الله ربُّ العالمين. ونحن لا ننكرُ ولا ندفعُ أن الزرعَ والنباتَ (1) لا ينمو ولا ينشأ إلا في المواضع التي تطلعُ عليها الشَّمس (2)، ونحن نعلمُ أيضًا أنَّ وجود بعض النبات في بعض البلاد لا سببَ له إلا اختلافُ البلدان في الحرِّ والبرد الذي سببُه حركةُ الشَّمس وتقاربُها في قُربها وبُعْدِها من ذلك البلد. وأيضًا، فإنَّ النخلَ ينبتُ في البلاد الحارَّة، ولا ينبتُ في البلاد الباردة، وشجرَ الموز (3) لا ينبتُ في البلاد الباردة. وكذلك ينبتُ في البلادِ الجنوبية أشجارٌ وفواكهُ وحشائشُ (4) لا يُعْرَف شيءٌ منها في جانب الشمال، وبالعكس. وكذلك الحيواناتُ يختلفُ تكوُّنها (5) بحسب اختلاف حرارة البلاد _________ (1) عاد النقل من «السر المكتوم» (23). (2) «السر المكتوم»: «أو يصل إليها قوة حرُّها». (3) «السر المكتوم»: «شجر الأترج والليمو واللوز». (4) (ت): «وأعشاب». (5) في الأصول: «تختلف بكونها»، والحرف الأول مهمل في (د). وفي «السر المكتوم»: «يختلف الحال في تولدها».

(3/1282)


وبرودتها؛ فإنَّ البَبْر (1) والفيل يكونان بأرض الهند، ولا يكونان في سائر الأقاليم التي هي دونها في الحرارة، وكذلك غزالُ المِسْك (2) والكَركَنْد (3) وغير ذلك. وكذلك لا ندفعُ تأثيرَ القمر في وقت امتلائه في الرطوبات، حتى في جَزْرِ البحار ومَدِّها، فإنَّ منها ما يأخذُ في الازدياد من حين يفارقُ القمرُ الشَّمس إلى وقت الامتلاء، ثمَّ إنه يأخذُ (4) في الانتقاص، ولا يزالُ نقصانُه يستمرُّ بحسب نقصان القمر حتى ينتهي إلى غاية نقصانه عند حصول المَحاق. ومن البحار ما يحصُل فيه المَدُّ والجَزْرُ في كلِّ يومٍ وليلة مع طلوع _________ (1) مهملة في (د، ق)، وكتب ابن بردس فوقها بخطٍّ دقيق: كذا. (ت): «البيز». (ط): «النسر». وهو تحريف. وعلى الصواب في «السر المكتوم». والبَبْر: سبعٌ هنديٌّ يعادل الأسد في عِظَم الجثة والقوة، أبيض البطن والجانبين مع صفرة، ومخططٌ بخطوط سود. وهو المسمى بالانجليزية: Tiger. ويسميه الناس اليوم: النمر. والنمر مرقَّط وأصغر حجمًا ويكون في آسيا وأفريقيا وغيرها. انظر: «الحيوان» للجاحظ (7/ 131، 170)، و «ثمار القلوب» (769)، و «حياة الحيوان» (1/ 379)، و «معجم الحيوان» (149، 248)، و «معجم الألفاظ الزراعية» للأمير الشهابي (483، 643)، و «الموسوعة العربية العالمية» (الببر). (2) انظر: «مروج الذهب» (1/ 188)، و «حياة الحيوان» (3/ 57). (3) «السر المكتوم»: «الكركدن». وهو من أسمائه. ويسمَّى اليوم: وحيد القرن. انظر: «الحيوان» (7/ 123، 170، 6/ 27)، و «قصد السبيل» (1/ 393)، و «معجم الحيوان» (203)، و «المعجم الوسيط» (784). (4) ساقطة من (ت، ق).

(3/1283)


القمر وغروبه، وذلك موجودٌ في بحر فارس وبحر الهند وكذلك بحر الصِّين. وكيفيَّته: أنه إذا بلغ القمرُ مشرقًا من مشارق البحر (1) ابتدأ البحرُ بالمَدِّ، ولا يزالُ كذلك إلى أن يصيرَ القمرُ إلى وسط سماء ذلك الموضع, فعند ذلك ينتهي [المدُّ] منتهاه (2)، فإذا زال القمرُ من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المدُّ مرةً أخرى (3)، ولا يزالُ زائدًا إلى أن يصَل القمرُ إلى وتد الأرض، فحينئذٍ ينتهي المدُّ منتهاه، ثمَّ يبتداء الجَزْرُ ثانيًا، ويرجعُ الماءُ كما كان. وسُكَّانُ البحر كلَّما رأوا في البحر انتفاخًا (4) وهيجانَ رياحٍ عاصفةٍ وأمواجٍ شديدة، علموا أنه [وقتُ] ابتداءِ المَدِّ، فإذا ذهبَ الانتفاخُ وقلَّت الأمواجُ والرياحُ علموا أنه وقتُ الجَزْر. وأمَّا أصحابُ الشُّطوط (5) والسَّواحل فإنهم يجدونَ عندهم في وقت المَدِّ للماء حركةً من أسفله إلى أعلاه، فإذا رجعَ الماءُ ونزل فذلك وقتُ الجَزْر. _________ (1) «السر المكتوم»: «مشرقا في مشارق». (2) هنا زيادة في «السر المكتوم» أخشى أن تكون سقطت لانتقال النظر: «فإذا انحطَّ القمر من وسط سَمَاه جرَزَ الماءُ ورجع البحر، ولا يزال كذلك راجعًا إلى أن يبلغ القمر مغربه، فعند ذلك ينتهي الجزر إلى منتهاه». (3) في الأصول: «من تحت الأرض». وأحسبه تحرَّف عما أثبت. وفي «السر»: «ابتدأ المد هناك في المرة ثانية». (4) ارتفاعًا وعلوًّا. وفي (ت): «انفتاحا». وفي الموضع الثاني: «الانفتاح». وهو تحريف. والمثبت من (د، ق) و «السر المكتوم». (5) جمع: شطٍّ. وهو الشاطاء.

(3/1284)


وكذلك أيامُ بُحْرانات الأمراض (1) ــ بحسب زيادة القمر ونقصانه ــ منطبقةٌ عليها. وكذلك الأخلاطُ التي في بدن الإنسان ما دام القمرُ آخذًا في الزيادة فإنها تكونُ أزيد، ويكونُ ظاهرُ البدن أكثر رطوبةً وحُسْنًا، فإذا نقصَ ضوءُ القمر صارت هذه الأخلاطُ في غَوْرِ البدن والعروق، وازدادَ ظاهرُ البدن يُبْسًا. وكذلك ألبانُ الحيوانات تتزايدُ من أول الشهر إلى نصفه، فإذا أخَذ القمرُ في النقصان نقصَت غزارتُها. وكذلك أدمغةُ الحيوانات في أول الشهر أزيدُ منها في نصفه الأخير. وإن حدثَ في أجواف الطيور بيضٌ في النصف الأول من الشهر كان بياضُه أكثر من بياض الحادث في نصفه الثاني. وكذلك الإنسانُ إذا نامَ أو قعد (2) في ضوء القمر حدثَ في بدنه الاسترخاءُ والكسل، وهاجَ عليه الزُّكامُ والصُّداع. وإذا وُضِعَت لحومُ الحيوانات مكشوفةً تحت ضوء القمر تغيَّرت طعومُها وتعفَّنت. وكذلك السَّمكُ في البحار والآجام [والمياه] الجارية توجدُ من أول الشهر _________ (1) البُحران: التغيُّر الذي يحدُث للعليل فجأةً في الأمراض الحُمِّية الحادَّة، ويصحبه عرقٌ غزير وانخفاضٌ سريعٌ في الحرارة. انظر: «مفاتيح العلوم» (167)، و «قصد السبيل» (1/ 254)، و «المعجم الوسيط» (40). (2) «السر المكتوم»: «فقد». تحريف.

(3/1285)


إلى وقت الامتلاء أكثر، وخروجُها من قُعور البحار والآجام أظهَر، ومِن بعد الامتلاء إلى الاجتماع فإنها تدخلُ قعورَ البحار والآجام، والذي يظهرُ من سَمِين السَّمك في النصف الأول من الشهر أكثرُ من الذي يظهرُ في الثاني منه. وكذلك حُرُشُ الأرض (1) يكونُ خروجُها من أجحِرَتها في النصف الأول من الشهر أكثر من خروجها في النصف الثاني. وأصحابُ الغِراس يزعمونَ أنَّ الأشجارَ والغُروسَ إذا غُرِسَت والقمرُ زائدُ الضوء كان نشوؤها وكمالها وإسراعُها في النبات أكملَ (2) من التي تُغْرَسُ في مَحَاقه وذهاب نُوره. وكذلك تكونُ الرياحينُ والبقولُ والأعشابُ من الاجتماع إلى الامتلاء أزيدَ نشوءًا وأكثر نموًّا، وفي النصف الثاني بالضدِّ من ذلك. وكذلك القثَّاءُ والقَرْعُ والخِيارُ والبطِّيخُ ينمو نموًّا بالغًا عند ازدياد الضوء، وأمَّا في وسط الشهر عند حصول الامتلاء فهناك يَعْظُمُ النموُّ حتى [إنه] يظهر التفاوتُ للحِسِّ في الليلة الواحدة. وكذلك الينابيعُ (3) تزدادُ في النصف الأول من الشهر، وتنقصُ في النصف الثاني (4). _________ (1) جمع: حريش، دويبةٌ على قدر الإصبع، بأرجلٍ كثيرة، وتسميها العامة: «أم أربعة وأربعين». «التاج» (حرش). (2) (ق): «أحمد». (3) «السر المكتوم»: «المعادن والينابيع». (4) «السر المكتوم» (23 - 25).

(3/1286)


إلى غير ذلك من الوجوه التي تؤثِّر فيها الشَّمس والقمرُ في هذا العالم. فنحنُ لم ندفَعْكم عن هذه التَّأثيرات وأضعافها، إنما الذي أنكره عليكم العقلاءُ من أهل المِلل وغيرهم أنَّ جملةَ الحوادث في هذا العالم، خيرِها وشرِّها، وصلاحِها وفسادها، وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقُواه، ومُدَدِ بقاء أشخاصه، وجميع أحوالها العارضة لها، وتكوُّن الجنين، ومدَّة لُبثه في بطن أمِّه وخروجه إلى الدُّنيا، وعمره ورزقه، وشقاوته وسعادته، وحُسْنه وقُبحه (1)، وحِذْقه وبلادته، وجهله وعلمه، بل ونزول الأمطار، واختلاف أنواع الشَّجر والنبات في الشكل واللون والطُّعوم والروائح والمقادير، بل انقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه، والبحريِّ وأنواعه، والبريِّ وأقسامه، وأشكال هذه الحيوانات، واختلاف صورها وأنواعها وأفعالها وأخلاقها ومنافعها، بل وتكوُّن المعادن المنطبعة (2)، كالحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضَّة، بل وغير المنطبعة، كالملح والقَارِ والزِّرنيخ والنِّفط والزِّئبق، بل العداوة الواقعة بين الذِّئاب والغنم، والحيَّات والسِّباع وبني آدم، والصَّداقة والعداوة بين أفراد النوع الواحد سيَّما بين ذكوره وإناثه. وبالجملة؛ فالأرزاقُ والآجال، والعزُّ والذلُّ، والرِّفعةُ والخفض، والغَنَاءُ والفقر، والإحياءُ والإماتة، والمنعُ والإعطاء، والضرُّ والنفع، والهدى والضلال، والتوفيقُ والخذلان، وجميعُ ما في العالم، والأشخاصُ وأفعالها وقُواها وصفاتها وهيآتها= فالمعطي له هذه النجومُ (3)، واتصالاتُها _________ (1) (ت): «وحسنه وقبحه وأخلاقه». (2) التي تقبل الطبع، وهو الصنعة والصياغة. «اللسان» (طبع). (3) خبر: «أنَّ جملة الحوادث في هذا العالم ... فالأرزاق والآجال ... » وفي (ق): «والمعطى له هذه». وهو خطأ. وكتب ابن بردس في (د) بخطٍّ دقيق بين السطرين تحت: «فالمعطي»: خبر أن.

(3/1287)


وانفصالاتُها (1)، واتصالاتُها بنُقَطٍ وانفصالاتُها عن نُقَطٍ، ومقارنتُها ومفارقتُها ومسامتتُها ومباينتُها، فهي المعطيةُ لهذا كلِّه المدبرةُ الفاعلة له، فهي الآلهةُ والأربابُ على الحقيقة، وما تحتها عبيدٌ خاضعون لها ناظرون إليها! فهذا كما أنه الكفرُ الذي خرجوا به عن جميع الملل، وعن جملة شرائع الأنبياء، ولم يُمْكِنْهم أن يقيموا بين أرباب الملل إلا بالتستُّر بهم ومنافقَتهم والتزيِّي بزيِّهم ظاهرًا، وإلا فقتلُ هؤلاء من الأمر الضروريِّ في كلِّ ملَّة؛ لأنهم سُوسُها وأعداؤها= فهو من الهذيان الذي أضحكوا به العقلاء على عقولهم، حتى ردَّ عليهم من لا يؤمنُ بالله واليوم الآخر من الفلاسفة، كالفارابي وابن سينا (2) وغيرهما من عقلاء الفلاسفة، وسخروا منهم، واستضعفوا عقولَهم، ونسبوهم إلى الزَّرْق والزَّرْجَنَة (3) والتلبيس. وقد ردَّ عليهم أفضلُ المتأخرين من فلاسفة الإسلام أبو البركات البغدادي (4) _________ (1) «واتصالاتها وانفصالاتها» ليست في (ت). (2) راجع ما تقدم (ص: 1182، 1195) والتعليق عليه. (3) (ق): «والزرنجة». تحريف. والزرجنة: المكر والخديعة. «المحيط» للصاحب بن عباد (الجيم والزاي)، و «القاموس» (زرجن). والزَّرق تقدم تفسيره. (4) هبة الله بن علي بن ملكا، توفي سنة نيف وخمسين وخمس مئة، وقيل قبل ذلك. انظر: «السير» (20/ 419)، و «أخبار الحكماء» (460)، و «حكماء الإسلام» (346). وهو من مقتصدة الفلاسفة، وأقربهم إلى الحق، كما يقول ابن تيمية، وفيلسوف الإسلام، كما يصفه المصنِّف. انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 205، 16/ 383)، و «منهاج السنة» (1/ 348، 403)، و «نقض التأسيس» (1/ 304)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 258).

(3/1288)


في كتاب «المعتبر» (1) له، فقال: «وأمَّا علمُ أحكام النجوم فإنه لا يتعلَّقُ به منه أكثر من قولهم بغير دليلٍ بحرِّ كواكبَ وبَرْدِها ورطوبتها ويبوستها واعتدالها، كما يقولون بأنَّ زُحَلَ منها باردٌ يابس، والمرِّيخَ حارٌّ يابس، والمشتري معتدل، والاعتدال خيرٌ والإفراط شر، ويُنْتِجُونَ من ذلك أنَّ الخيرَ يوجبُ سعادةً والشرَّ يوجبُ مَنْحَسَة، وما جانسَ ذلك مما لم يقُل به علماءُ الطَّبيعيين، ولم تُنْتِجْه مقدِّماتهم في أنظارهم، وإنما الذي أنتجَته هو أنَّ السماء والسماويَّات (2) فعَّالةٌ فيما تحويه وتشتملُ عليه وتتحركُ حوله فعلًا على الإطلاق، لم يحصل له (3) من العلم الطبيعي حدٌّ ولا تقدير (4)، والقائلون به ادَّعوا حصولَه من التوقيف والتجربة والقياس منهما كما ادَّعى أهلُ الكيمياء. وإلا، فمِن [أين] (5) يقولُ صاحبُ العلم الطبيعي بحسب أنظاره التي سبقت (6): إنَّ المشتري سعدٌ، والمرِّيخَ نحسٌ، أو المرِّيخَ حارٌّ يابس، وزُحل _________ (1) في الأصول: «التعبير». تحريف. والمثبت هو المعروف، ونصَّ عليه مؤلفه في مقدمته (1/ 4)، وعلَّل هذه التسمية. (2) في نسخة من «المعتبر»: «أن السماويات». وفي «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد (6/ 206) وقد نقل كلام أبي البركات: «أن الأجرام السماوية». (3) أي: صاحب العلم الطبيعي. (4) «المعتبر»: «حد ولا وقت ولا تقدير». (5) زيادة من «المعتبر»، وهكذا الزيادات الآتية، إلا ما نبهت على خلافه. (6) أي: سبق ذكرها في كتاب المعتبر.

(3/1289)


باردٌ يابس؟! والحارُّ والباردُ من الملموسات، وما دلَّه على هذا لمسٌ كما يُسْتَدلُّ بلمس الملموسات (1)؛ فإنَّ ذلك ما ظهرَ للحِسِّ في غير الشَّمس حيثُ تُسَخِّنُ الأرضَ بشعاعها. وإن كان في السمائيَّات شيءٌ من طبائع الأضداد فالأولى أن تكون كلُّها حارَّة؛ لأنَّ كواكبها كلَّها منيرة. ومتى يقولُ الطبيعيُّ [المحقِّق] بتقطُّع الفلك وقسمته (2) [إلى أجزاء]، كما قسَّمه المنجِّمون قسمةً وهميَّة إلى بروجٍ ودَرَجٍ ودقائق؟! وذلك جائزٌ للمتوهِّم كجواز غيره، غيرُ واجبٍ في الوجود ولا حاصل، ونقلوا ذلك التوهُّم الجائزَ إلى الوجود الواجب في أحكامهم. وكان الأصلُ فيه ــ على زعمهم ــ حركةَ الشَّمس في الأيام والشهور، فجعلوا (3) منها قسمةً وهميَّة، وجعلوها حيثُ حكموا كالحاصلة الوجودية المتميِّزة بحدودٍ وخطوط، كأنَّ الشَّمس بحركتها من وقتٍ إلى وقتٍ مثله خَطَّت في السماء خطوطًا، وأقامت فيها جدرانًا وحدودًا، وغيَّرت في أجزائها طباعًا تغييرًا (4) يبقى فتبقى به القسمةُ إلى تلك البروج والدَّرَج مع جواز الشَّمس عنها! وليس في جوهر الفلك اختلافٌ يتميزُ به موضعٌ منه عن موضعٍ سوى الكواكب، والكواكبُ تتحركُ عن أمكنتها، فتبقى الأمكنةُ على التَّشابُه، فبماذا _________ (1) «المعتبر»: «وما دله على هذا لمس، ولا ما استدل عليه بلمس كتأثيره فيما يلمسه». (2) «المعتبر»: «بتقطيع الفلك وتقسيمه». (3) «المعتبر»: «فحصلوا». (4) (ق): «طباعا معتبرا». وهو تحريف.

(3/1290)


تتميزُ درجةٌ عن درجةٍ (1) ويبقى اختلافُها بعد حركة المتحرِّك في سَمْتِها؟! فكيف يقيسُ الطبيعيُّ على هذه الأصول ويُنْتِجُ منها نتائجَ ويحكمُ بحسبها (2) أحكامًا؟! فكيف أن يقول بالحدود التي تجعلُ (3) خمسَ درجاتٍ من برج الكوكب (4) وستَّةً لآخَر وأربعةً لآخَر، ويختلفُ فيها المصريُّون والبابليُّون، ويصدُق الحكمُ مع الاختلاف؟! [وجعلوا أربابَ البيوت كأنها مُلَّاك، والبيوتَ] (5) كأنها أملاكٌ تثبتُ بصكوكٍ وحُكام (6)؛ الأسدُ للشَّمس، والسَّرطانُ للقمر! وإذا نظر الناظرُ وجَد الأسدَ أسدًا من جهة كواكبَ شكَّلوها بشكل الأسد، ثمَّ انتقلت عن موضعها [وبقي الموضعُ أسدًا، وجعلوا الأسدَ للشَّمس وقد ذهبَت عنه الكواكبُ] التي كان بها أسدًا، كأنَّ [ذلك] المُلْكَ يثبتُ (7) للشَّمس _________ (1) «المعتبر»: «فبماذا تتميز بروجه ودرجه». (2) (ق): «بحسنها». وهو تحريف. (3) مهملة في (د). وفي «المعتبر»: «يجعل». «شرح نهج البلاغة»: «ويجعل». والمثبت من (ت، ق). (4) كذا في الأصول و «المعتبر» و «شرح النهج». ولعله: «من برجٍ لكوكب». (5) الزيادة من «شرح النهج». وبدلها في مطبوعة «المعتبر»: «وأرباب البيوت». وفي الأصول: «وأرباب البيوتات» (الكلمة الثانية مهملة في د، وتحرفت في ق وت إلى: اليبوسات). (6) «شرح النهج»: «وأحكام». (7) «المعتبر»: «ثبت». «شرح النهج»: «بيت». وهي مهملة في (ق). والمثبت من (د، ت).

(3/1291)


مع انتقال السَّاكن، وكذلك السرطانُ للقمر! هذا مِن ظواهر الصِّناعة وما لا يُمارى فيه، ومَنْ طالعُه الأسدُ فالشَّمس كوكبُه وربَّةُ بيته. ومن الدقائق في الحقائق النجومية: [الدرجاتُ] المذكَّرة والمؤنَّثة، والمظلمةُ والنيِّرة، والزائدةُ في السَّعادة (1)، ودَرَج الآثار، مِن جهة أنها أجزاءُ الفلك التي قطَّعوها وما انقطعت، مع انتقال ما ينتقلُ من الكواكب إليها وعنها! ثمَّ يُنْتِجُون من ذلك نتائج الأنظار، من أعداد الدَّرَج وأقسام الفلَك، فيقولون (2): إنَّ الكوكبَ ينظرُ إلى الكوكب من ستين درجةً نظرَ تسديس؛ لأنه سُدْسُ الفلك، ولا ينظرُ إليه من خمسين ولا سبعين، وقد كان قبل السِّتين بخمس دَرَجٍ وهو أقربُ من ستِّين وبعدها بخمس دَرَجٍ وهو أبعدُ من الستين لا يَنْظُر! فليت شِعْري ما هو هذا النظر؟! أترى الكوكبَ يظهرُ للكوكب ثمَّ يحتجبُ عنه؟! أو شعاعُه يختلطُ بشعاعه عند حدٍّ لا يختلطُ به قبله ولا بعده؟! وكذلك التربيع من الرُّبع الذي هو تسعون درجة، والتثليث من الثُّلث الذي هو مئةٌ وعشرون، فلم لا يكونُ التخميسُ من الخُمس، والتسبيع من السُّبع، والتعشيرُ من العُشر؟! [ثم يقولون] (3): الحَمَلُ حارٌّ يابسٌ من البروج الناريَّة، والثورُ باردٌ _________ (1) «المعتبر»: «والزيادة في السعادة». والمثبت من الأصول و «شرح النهج». (2) من قوله: «ما ينتقل من الكواكب» إلى هنا ساقط من (ق). (3) من «شرح النهج». وفي «المعتبر» والأصول: «والحمل».

(3/1292)


يابسٌ من الأرضيَّة، والجوزاء حارٌّ رطبٌ من الهوائيَّة، والسرطان باردٌ رطبٌ من المائيَّة! ما قال الطبيعيُّ قطُّ هذا، ولا يقولُ به. وإذا احتجُّوا وقاسوا كانت مباداءُ قياساتهم أنَّ الحَمَلَ برجٌ منقلب؛ لأنَّ الشَّمس إذا نزلت فيه ينقلبُ الزمانُ من الشِّتاء إلى الربيع، والثَّورَ ثابتٌ؛ لأنه إذا نزلت الشَّمس فيه يثبتُ الربيعُ على ربيعيَّته. والحقُّ أنه لا انقلابَ في الحَمَل، ولا ثباتَ في الثَّور (1)، بل هو في كلِّ يومٍ غيرُ ما هو في الآخر. ثمَّ [هَبْ] أنَّ الزمانَ انقلب بحلول الشَّمس فيه، وهو يبقى دهرَه منقلبًا مع خروج الشَّمس منه وحلولها فيه (2)، أتراها تُخلِفُ فيه أثرًا أو تُحِيلُ منه طباعًا، وتبقى تلك الاستحالةُ إلى ما تعود فتجدِّدها؟! ولم لا يقولُ قائل: إنَّ السرطان حارٌّ يابس؛ لأنَّ الشَّمس إذا نزلت فيه يشتدُّ حرُّ الزمان، وما يُجانِسُ هذا مما لا يلزمُ لا هو ولا ضدُّه؟! ما في الفلك اختلافٌ يعرفُه (3) الطبيعيُّ إلا بما فيه من الكواكب ومواضعها، وهو واحدٌ متشابهُ الجوهر والطَّبع. وهذه أقوالٌ قالها قائل، فقَبِلَها قابل، ونقلها ناقل، فحَسُنَ بها ظنُّ السامع، واغترَّ بها من لا خبرةَ له ولا قدرةَ له على النظر، ثمَّ حكمَ بحسبها _________ (1) «المعتبر»: «لا ينقلب في الحمل ولا يثبت في الثور». (2) «شرح النهج»: «والحق أنه لا ينقلب الحمل ولا يثبت الثور، بل هما على حالهما في كل وقت، ثم كيف يبقى دهره منقلبًا مع خروج الشمس منه وحلولها فيه». (3) في الأصول: «معرفة». وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر». وفي «شرح النهج»: «فليس في الفلك اختلاف يعرفه الطبيعي».

(3/1293)


الحاكمون بجيِّدٍ ورديء، وسلبٍ وإيجاب، وبتٍّ وتجويز (1)؛ فصادفَ بعضُه موافقةَ الوجود فصَدَق، فاغترَّ به المغترُّون (2)، ولم يلتفتوا إلى ما كذَبَ منه فيكذِّبون (3)، بل عَذَروا، وقالوا: هو منجِّم، ما هو نبيٌّ حتى يصدُق في كلِّ ما يقول! واعتذروا له بأنَّ العلمَ أوسعُ من أن يحيط به، ولو أحاط به لصدَق في كلِّ شيء! ولعمرُ الله إنه لو أحاط به علمًا صادقًا لصَدَق، والشأنُ أن يحيط به على الحقيقة، لا على أن يَفْرِض فرضًا ويتوهَّم وهمًا، فينقله إلى الوجود، ويُثْبِتَه في الموجود (4)، وينسبَ إليه، ويقيسَ عليه. والذي يصحُّ منه (5) ويلتفتُ إليه العقلاء هي أشياءُ غير هذه الخُرافات التي لا أصل لها، مما حصَل بتوقيفٍ أو تجربةٍ حقيقيَّة؛ كالقِرانات، والانتقالات، والمقابلة (6) من جملة الاتصالات، فإنها كالمقارنة (7) مِن جهة أنَّ تلك غايةُ القُرب وهذه غايةُ البُعد، وممَرِّ كوكبٍ من المتحيِّرة تحت كوكبٍ من الثابتة، وما يَعْرِضُ (8) للمتحيِّرة من رجوعٍ واستقامة، وارتفاعٍ (9) _________ (1) مهملة في (د). وفي (ق، ت): «ونحوس». وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر». (2) «المعتبر»: «فاعتبر به المعتبرون». وفي «شرح النهج»: «فيعتبر به المعتبرون». (3) «شرح النهج»: «فيكذبوه». (4) (ت): «الوجود». (5) أي: علم أحكام النجوم. (6) (ت): «والمقابلات». (7) في الأصول: «المقارنة». وفي «المعتبر»: «كالمقاربة». والمثبت من «شرح النهج». (8) في الأصول: «يفرض». وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر». (9) في الأصول: «ورجوع». وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر».

(3/1294)


في شمالٍ وانخفاضٍ في جنوب، وغير ذلك. وكأني أريدُ أن أختصر الكلام هاهنا وأوافِقَ إشارتَك، وأعملَ بحسب اختيارك رسالةً في ذلك أذكرُ ما قيل فيها في علم أحكام النجوم من أصولٍ حقيقيَّةٍ أو مجازيَّةٍ أو وهميَّةٍ أو غلَطيَّةٍ وفروعٍ ونتائجَ (1) أُنتِجَت عن تلك الأصول، وأذكرُ الجائزَ من ذلك والممتنع، والقريبَ والبعيد، فلا أردُّ علمَ الأحكام من كلِّ وجهٍ كما ردَّه من جَهِلَه، ولا أقبلُ منه (2) كلَّ قولٍ كما قَبِلَه من لم يَعْقِلْه، بل أوضِّحُ موضعَ القبول والردِّ في المقبول [والمردود]، وموضعَ التَّوقيف والتَّجويز، والذي من المنجِّم (3) والذي من التنجيم، والذي منهما. وأوضِّحُ لك أنه لو أمكَن الإنسانَ [الواحدَ] أن يحيط بشكل كلِّ ما في الفلك (4) علمًا لأحاط علمًا بكلِّ ما يحويه الفلك؛ لأنَّ منه مباداء الأسباب، لكنه لا يمكنُ ويَبْعُدُ عن الإمكان بعدًا عظيمًا؛ والبعضُ الممكنُ منه لا يهدي (5) إلى بعض الحُكم، لأنَّ البعض الآخر المجهولَ قد يناقِضُ المعلومَ في حُكمه، ويُبْطِلُ ما يُوجِبه، فنسبةُ المعلوم إلى المجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب، وكفى بذلك بُعدًا». انتهى كلامه (6). _________ (1) في الأصول: «وفروع نتائج». والمثبت من «المعتبر». (2) في الأصول: «فيه». والمثبت من «المعتبر». (3) (ت): «والذي من المنهج والذي من المنجم». (4) (ت): «بكل ما في الفلك». (5) في الأصول: «يهتدي». والمثبت من «المعتبر». (6) «المعتبر» (2/ 232 - 236).

(3/1295)


ولو ذهبنا نذكرُ مَنْ ردَّ عليهم من عقلاء الفلاسفة والطبائعيِّين والرِّياضيِّين لطال ذلك جدًّا، هذا غير ردِّ المتكلِّمين عليهم، فإنَّا لا نقنعُ به ولا نرضى أكثرَه؛ فإنَّ فيه من المكابرات والمُنُوع الفاسدة والسُّؤالات الباردة والتطويل الذي ليس تحته تحصيلٌ ما يضيِّعُ الزمانَ في غير شيء (1)، وكان تركُهم لهذه المقابلة خيرًا لهم منها، فإنهم لا للتوحيد والإسلام نَصَرُوا، ولا لأعدائه كَسَرُوا. والله المستعان وعليه التكلان. فصل فلنرجع إلى كلام صاحب الرِّسالة. قال: «وزعموا أنَّ القمر والزُّهَرة مؤنَّثان، وأنَّ الشَّمس وزُحَل والمشتري والمرِّيخ مذكَّرة، وأنَّ عطارد ذكرٌ أنثى مشاركٌ للجنسين جميعًا وأنَّ سائر الكواكب تُذكَّرُ وتُؤنَّثُ بسبب الأشكال التي تكونُ لها بالقياس إلى الشَّمس. وذلك أنها إذا كانت مشرِّقةً متقدِّمةً للشمس فهي مذكَّرة، وإن كانت مغرِّبةً تابعةً كانت مؤنَّثة، وأنَّ ذلك أيضًا يكونُ بالقياس إلى أشكالها إلى الأفق، وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء أو من المغرب إلى ما يقابلُ وسطَ السماء (2) مما تحت الأرض فهي مذكَّرة؛ لأنها إذا كانت شرقيَّةً فهي من ناحية مَهَبِّ الصَّبا، وإذا كانت في الرُّبعَيْن _________ (1) وشهد بهذا شاهدٌ من أهلهم! قال الآمدي في «غاية المرام» (210): «قد أكثر الأصحاب [أي: الأشاعرة] في الردِّ عليهم [أي: المنجِّمين] بأسئلةٍ باردة، واستفساراتٍ جامدة، وإلزاماتٍ لا ثبوت لها على محكِّ النظر، تليقُ بمناظرة العامة والصبيان، فسادُها يظهر ببديهة العقل لمن له أدنى تحصيل ... »!. (2) «أو من المغرب إلى ما يقابل وسط السماء» ساقط من (ق).

(3/1296)


الباقيين فهي مؤنَّثة؛ لأنها في ناحية مَهَبِّ الدَّبور. وإذا كان هذا هكذا صارت الكواكبُ التي يقال: «إنها مؤنَّثةٌ» مذكَّرةً، والتي يقال: «إنها مذكَّرةٌ» مؤنَّثةً، وصارت طباعُها تستحيل (1)، بل تصيرُ أعيانُها تنقلب؛ فإنَّ القمرَ (2) والزُّهَرة مؤنَّثان والكواكبَ الخمسة الباقية مذكَّرةٌ على الموضع (3) الأول، فإن تقدَّم القمرُ والزُّهَرة الشَّمس وكانا مُشرِّقَيْن صارا مذكَّرين، وإن تأخَّرت الكواكبُ الخمسةُ وكانت مُغرِّبةً تابعةً كانت مؤنَّثةً على الموضع (4) الثاني، ويصيرُ عطاردُ ذكرًا إذا شرَّق، أنثى إذا غرَّب، ذكرًا أنثى إذا لم يكن بأحد هاتين الصفتين». قلت: وقد أجاب بعض فضلائهم عن هذا الإلزام، فقال: ليس ذلك (5) بممكن؛ لأنا قد نقول: إنَّ الأدكنَ أبيض إذا قِسناه إلى الأسود، ونقول: إنه أسودُ إذا قِسناه إلى الأبيض، وهو شيءٌ واحدٌ بعينه، مرَّةً يكونُ أسود، ومرَّةً يكونُ أبيض، وهو في نفسه لا أسودُ ولا أبيض، وكذلك الكواكب، يقال: إنها ذُكرانٌ وإناثٌ بالقياس إلى الأشكال ــ أعني: الجهات ــ، والجهات إلى الرياح، والرياح إلى الكيفيَّات، لا أنها ذكرانٌ وإناث (6). _________ (1) أي: تتغير. (ق): «مستحيل». (ت): «يستحيل». والحرف الأول مهملٌ في (د). والمثبت أشبه. (2) في الأصول: «ان القمر». والمثبت أولى. (3) (د): «الموضوع». (4) (د، ق): «الموضوع». (5) أي: صيرورة الكواكب التي يقال: «إنها مؤنثة» مذكرة، والعكس، واستحالة طباعها، وانقلاب أعيانها. (6) أي: في أنفسها. وفي الأصول: «لأنها ذكران وإناث». وهو تحريف. وعلى الصواب في «روح المعاني» (12/ 101).

(3/1297)


وهذا تلبيسٌ منه؛ فإن الأدكنَ فيه شائبةُ البياض والسَّواد، فلذلك صدَق عليه اسمُهما؛ لأن الكيفيَّتين محسوستان فيه، فتكيُّفه بهما أوجب أن يقال عليه الاسمان. وأمَّا تقسيمُ الكواكب إلى الذُّكور والإناث، فهي قسمةٌ وضعتم فيها تمييز كلِّ نوعٍ عن الآخر بحقيقته وطبيعته وحدِّه (1)، وقلتم: البروجُ تنقسمُ إلى ذكورٍ وإناثٍ قسمةً تميَّز فيها عن قسمٍ غيرُ قسمِه (2)، لا أنَّ حقيقتها متركبةٌ من طبيعتين ذكوريَّةٍ وأنوثيَّة بحيث يصدُقان على كلِّ برجٍ برج. فنظيرُ ما ذكرتم من الأدكن أن يكون كلُّ برجٍ ذكرًا وأنثى. فأين أحد البابين من الآخر لولا التلبيسُ والمحال؟! وأيضًا؛ فانقسامُها إلى الذُّكور والإناث انقسامٌ بحسب الطبيعة والتأثير والتأثُّر الذي هو الفعل والانفعال، وما كان كذلك لم تنقلب حقيقتُه وطبيعتُه بحسب الموضع والقُرب والبُعد. قال صاحب الرِّسالة: «وزعموا أنَّ القمرَ منذ الوقت الذي يُهِلُّ فيه إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكونُ فاعلًا للرطوبة خاصَّة، ومنذ وقت انتصافه الأول في الضوء إلى وقت الامتلاء يكونُ فاعلًا للحرارة، ومنذ وقت الامتلاء إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكونُ فاعلًا لليُبس، ومنذ وقت الانتصاف إلى الوقت الذي يخفى فيه ويفارقُ الشَّمس يكونُ فاعلاً للبرودة. _________ (1) «وحدِّه» ليست في (ق). (2) (ت): «عن قسم عن غير قسمة». (ط): «تميز فيها قسم عن قسم».

(3/1298)


وأيُّ شيءٍ أقبحُ من هذا؟! ولا سيَّما وقد أعطى قائلُه أن القمرَ رطبٌ، وأنه يفعلُ بطبعه لا باختياره، وكيف [يمكن] أن يفعلَ شيءٌ واحدٌ بطبعه الأشياءَ المتضادَّة مرةً في الدهر، فضلًا عن أن يفعلها في كلِّ شهر؟! وهل القولُ بأن شيئًا واحدًا يفعلُ بطبعه الترطيبَ في وقتٍ، ويفعلُ بطبعه التجفيفَ في آخر، ويفعلُ الإسخانَ في وقتٍ، ويفعلُ التبريدَ في آخر= إلا كالقول بأنَّ شيئًا واحدًا تنقلبُ عينُه وقتًا بعد وقت؟!». قلت: قد قالوا: إنَّ الشَّمس لما كانت تفعلُ هذه الأفاعيل بحسب صُعودها وهبوطها في فلَكها، فإنها إذا كانت من خمسة عشر (1) درجةً من الحوت إلى خمسة عشر من الجوزاء فعلَت التَّرطيب، وهو زمانُ الرَّبيع، وكذلك من خمسة عشر درجةً من الجوزاء إلى خمسة عشر درجةً من السُّنبلة تفعلُ التَّسخين، وهو زمان القَيظ، ومن خمسة عشر درجةً من السُّنبلة إلى خمسة عشر درجةً من القوس تفعلُ التجفيف، وهو زمان الخريف (2)، وكذلك من خمسة عشر درجةً من القوس إلى خمسة عشر درجةً من الحوت تفعلُ التبريد، وهو زمانُ الشتاء، وهذا دورُها في الفلَك مرَّةً في العام، والقمرُ يدورُه (3) في شهرٍ واحد= صارت نسبةُ دور القمر في الفلَك كنسبة دور الشَّمس فيه، فكانت نسبةُ الشَّهر إلى القمر كنسبة السَّنة إلى الشَّمس، فالشَّهر يجمعُ الفصولَ الأربعة كما تجمعُه السَّنة، وما تفعلُه الشَّمس في كلِّ تسعين يومًا وكسرٍ يفعلُه القمرُ في سبعة أيَّامٍ وكَسْر. _________ (1) كذا في الأصول. ولها نظائر في كتب المصنف. وأصلحها ناشر (ط). (2) من قوله: «وكذلك من خمسة عشر درجة من الجوزاء» إلى هنا ساقط من (ق). (3) (ق): «يدور».

(3/1299)


قالوا: فآخرُ الشَّهر شبيهٌ بالشتاء، وأولُه شبيهٌ بالربيع، والرُّبع الثاني من الشَّهر شبيهٌ بالصَّيف، والرُّبع الثالث منه شبيهٌ بالخريف. فهذا غايةُ ما قرَّروا به هذا الحكم. قالوا: وأمَّا كونُ الشيء الواحد سببًا للضِّدَّين، فقد نصَّ (1) أرسطاطاليس في كتاب «السَّماع الطبيعي» (2) على جوازه. والجوابُ عن هذا: أنَّ الشَّمس ليست هي السَّببَ الفاعل لهذه الطبائع المختلفة، وإنما قربُها وبعدُها وارتفاعُها وانخفاضُها أثَّر في سخونة الهواء وتبريده، وفي تحلُّل البُخارات وتكاثُفها، فيحدُث بذلك في الحيوان والنبات والهواء هذه الطبائعُ والكيفيَّات، والشَّمس جزءُ السَّبب كما قررناه. وأمَّا القمر، فلا يؤثِّر قربُه ولا بعدُه وامتلاؤه ونقصانه في الهواء كما تؤثِّره الشَّمس، ولو كان ذلك كذلك لكانَ كلُّ شهرٍ من شهور العام يجمعُ الفصولَ الأربعة بطبائعها وتأثيراتها وأحكامها، وهذا شيءٌ يدفعه الحسُّ فضلًا عن النظر والمعقول. وقياسُ القمر على الشَّمس في ذلك مِن أفسد القياس؛ فإنَّ الفارق بينهما في الصِّفة والحركة والتأثير أكثرُ من الجامع، فالحكمُ على القمر بأنه يُحْدِثُ الطبائعَ الأربعة قياسًا على الشَّمس، والجامعُ بينهما قطعُه للفلَك في كلِّ شهرٍ كما تقطعُه في سنة= لا يعتمدُ عليه من له خبرةٌ بطرق الأدلَّة وصنعة _________ (1) في الأصول: «قضى». وهو تحريف. وسيأتي على الصواب. (2) ويُعرف بـ «سمع الكيان»، وهو ثمان مقالات، وشرَحه جماعة. انظر: «الفهرست» (350، 351، 356)، و «أخبار الحكماء» (41، 52، 53).

(3/1300)


البرهان (1). وأمَّا قولكم: إنَّ أرسطاطاليس نصَّ في كتابه على أنَّ الواحدَ قد يكونُ سببًا للضِّدَّين، فنحن نذكرُ كلامَه بعينه في كتابه ونبيِّن ما فيه. قال في المقالة الثانية: «وأيضًا، فإنَّ الواحدَ بعينه (2) قد يكونُ سببًا للضِّدَّين، فإنَّ الشيء الذي بحضوره يكونُ أمرٌ من الأمور فغيبتُه قد تكونُ سببًا لضدِّه، فيقالُ [في] ذلك: إنَّ غيبةَ الرُّبَّان سببُ غرق السَّفينة، وهو الذي كان حضورُه سببَ سلامتها». فتأمَّل هذا الكلام، وقابِل بينه وبين كلامهم في فِعل القمر الأمورَ المضادَّة يظهَرْ لك تلبيسُ القوم وجهلُهم؛ فإنَّ نظيرَ (3) ذلك بطلانُ هذه الطبائع والكيفيَّات عند انقطاع تعلُّق القمر بهذا العالَم، كما بطلَ عملُ السفينة وجَرْيُها عند غيبة الرُّبَّان عنها وانقطاع تعلُّقه بها، فلم يكن الرُّبَّانُ هو سببَ الغرق الذي هو ضدُّ السَّلامة، كما كان القمرُ سببًا لليُبس الذي هو ضدُّ الرطوبة وللحرارة التي هي ضدُّ البرودة، وإنما كانت أسبابُ الغرق غلبةَ (4) إحدى الأسباب التي كان الرُّبَّانُ يمنعُ فعلَها، فلمَّا غاب عنها عَمِلَ ذلك السَّببُ عملَه فغَرِقَت. وهذا أوضحُ مِن أن يحتاج إلى تقرير (5)، ولكنَّ الأذهانَ التي قد _________ (1) (ت): «وصيغة البرهان». (ق): «وصفة البرهان». (2) «بعينه» ليست في (ق). (3) مهملة في (د). (ق، ت): «انظر». وهو تحريف. (4) (ت): «عليه». (5) (ت): «دليل».

(3/1301)


اعتادت قبولَ المُحالات قد تحتاجُ في علاجها إلى ما لا يحتاجُ إليه غيرُها، وبالله التوفيق. قال صاحب الرسالة: «وقالوا في معرفة أحوال أمَّهات المدن: إنَّ ذلك يُعْلَمُ من المواضع التي فيها الشَّمس والقمرُ في أول ابتنائها (1) ومواضع الأوتاد منها، خاصةً وتدَ الطالع، كما يُفْعَلُ في المواليد، فإن لم يوقَف على الزَّمان الذي ابتُنِيَت (2) فيه فليُنْظَر إلى موضع وسط السماء في مواليد الولاة والملوك الذين كانوا في ذلك الزَّمان الذي بُنِيَت فيه تلك المدن». قلت: ونظيرُ هذا من هذَيانهم قولهم: إنَّا نعرفُ أحوالَ الأب من مولد الابن إذا لم يُعْرَف مولدُ الأب! قالوا: إنَّ هذا الموضع (3) تالٍ في المرتبة للطالع، وهو أخصُّ المواضع بالطالع، كما أنَّ الأبَ أخصُّ الأشياء بالابن، فكذلك أخصُّ الأشياء بالمَلِك مملكتُه، فموضعُ وسط سمائه يدلُّ على مدينته وأحوالها. وكلُّ عاقلٍ يعلمُ بطلانَ هذه الدلالة وفسادَها، وأنه لا ارتباط بين طالع المدينة وطالع السُّلطان، كما لا ارتباط بين طالع ولادة الابن وطالع ولادة أبيه، وإنما هذه تشبيهاتٌ بعيدة (4)، ومناسباتٌ في غاية البُعد. قال صاحبُ الرِّسالة: «وقالوا في معرفة حال الوالدين: إنَّ الشَّمس _________ (1) (ت): «ابتدائها». (2) (ت): «أثبتت». (3) (ت) «المولد». (4) «بعيدة» ليست في (ت).

(3/1302)


وزُحَل يشاكلان الآباءَ بالطبع (1). ولستُ أدري كيف تُعْقَلُ (2) دلالةُ شيءٍ ليس مما يتوالدُ بطبعه على شيءٍ من طريق التوالد؛ لأنَّ الأبَ إنما يكونُ أبًا بإضافته إلى ابنه، والابنُ إنما يكونُ ابنًا بإضافته إلى أبيه. وإنهم يستدلُّون (3) على حال الأولاد بالقمر والزُّهَرة والمشتري، وإنَّ أحوالَ الأب تُعْرَفُ من مولد ابنه (4)، بأن يقامَ موضعُ الكوكب الدَّالِّ عليه ــ وهو الشَّمس أو زُحَل ــ مقامَ الطالع، ويُستَدلُّ على حال الابن من مولد أبيه، بأن يقامَ موضعُ الكوكب الدَّالِّ عليه ــ وهو أحدُ الكواكب الثلاثة: القمر والمشتري والزُّهَرة ــ مقامَ الطالع. وقد يكونُ الإنسانُ في أكثر الأوقات أبًا، فتكونُ الشَّمس أو زُحَل تدلُّ عليه من مولد ابنه، وله في نفسه مولدٌ لا محالة، ويمكنُ أن يكون ربُّ طالعِ مولدِه كوكبًا غير الكوكبين الدَّالَّة على حاله من مولد أبيه وابنه، فيكونُ حالُه يُعْرَفُ من ثلاثة كواكبَ وثلاثة بروجٍ مختلفة الأشكال والطبائع! وتناقضُ هذا القول بيِّنٌ لمستعمِله فضلًا عن متوهِّمه». قلت: قد قالوا في الجواب عن هذا: إنه لا تناقض فيه، بل هو حقٌّ واجب. قالوا: إذا أردنا أن نعرف حالَ سقراطَ مثلًا من حيثُ هو إنسان، أليس _________ (1) (ت): «متشاكلان بالطبع». (2) مهملة في (د). (ق): «يفعل». (ت): «تفعل». والمثبت من (ط). (3) معطوف على ما قبله. أي: وقالوا: إنهم يستدلون. (4) (ق): «مواليد ابنه». وهو خطأ.

(3/1303)


يُنْظَرُ إلى ما يخُصُّ الحيوانَ والإنسانَ الكلِّي، وإذا أردنا أن نعرف حالَه من حيث هو أبٌ أن يُنْظَرَ إلى المضاف وما يلحقُه، وإذا أردنا أن نعرف حالَه من حيث هو عَدْلٌ (1) يُنْظَرُ إلى الكيفية وما يخصُّها، والأولُ جوهر، والباقي أعراض، وسقراطُ واحد، ونعرفُ أحوالَه من مواضع مختلفة متباينة، مرَّةً يكونُ جوهرًا ومرَّةً يكونُ عَرَضًا؟ فكذلك إذا أردنا أن نعرف حالَه من مولده نظرنا إلى الطالع وربِّه، وإذا أردنا أن نعرف حالَه من مولد أبيه نظرنا إلى العاشر (2) والشَّمس، وكذلك إذا أردنا أن نعرف حالَه من مولد ابنه نظرنا إلى موضعٍ آخر، وليس ذلك متناقضًا كما أنَّ الأول ليس متناقضًا. فيقال: هذا تشبيهٌ (3) فاسد، واعتبارٌ باطل؛ فإنَّ نظركم في طالع الأب لتستدلُّوا به (4) على حال الولد، ونظرَكم في الطالع (5) لتستدلُّوا به على حال الأب، هو استدلالٌ على شيءٍ واحد، وحكمٌ عليه بسببٍ لا يقتضيه ولا يقارنه (6)، فأين هذا مِن تعرُّف إنسانيَّة سقراط وأبوَّته وعدالته وعلمه مثلًا وطبيعته؟! فإنَّ هذه أحوالٌ مختلفة، لها أدلَّةٌ وأسبابٌ مختلفة، فنظيرُها: أن تُعْرَفَ حالُ الولد من جهة سعادته ونَحْسِه (7) وصحَّته وسقمه مِن طالعه، _________ (1) (ط): «عالم». (2) لعل المراد: البرج العاشر، وهو الجدي، وهو بيت زحل. (3) (ق): «تنبيه». وهو تحريف. (4) في الأصول: «وان نظرنا في طالع الأب ليستدلوا به». والمثبت أشبه. (5) أي: طالع الولد. (6) في الأصول: «يفارقه». والمثبت أشبه. (7) في الأصول: «ومحبته». وهو تحريف.

(3/1304)


وحالُه من جهة ما يناسبه من الأغذية والأدوية مِن مزاجه، وحالُه من جهة أفعاله ورئاسته مِن أخلاقه؛ كالحياء والصَّبر والبَذل، وحالُه من جهة اعتدال مزاجه مِن اعتدال أعضائه وتركيبه وصورته؛ فهذه أحوالٌ بحسب اختلاف أسبابها. فأين هذا مِن أخذِ حال الولد وعمره وسعادته وشقاوته من طالع أبيه، وبالعكس؟! فالله يُعِينُ العقلاءَ على تلبيسكم ومحالكم، ويثبِّتُ عليهم ما وَهَبهم من العقول التي رَغِبَ بها (1) ورَغِبوا بها عن مثل ما أنتم عليه. قال: «وزعمَ بَطْليموس أنَّ الفلَك إذا كان على شكلٍ ما ذَكَره، في مولدٍ ما، وكانت الكواكبُ في مواضعَ ذَكَرها؛ وجبَ أن يكونَ الولدُ أبيضَ اللون سَبِطًا، وإن وُجِدَ مولودٌ في بلاد الحبشة والفلَك متشكِّلٌ على ذلك الشَّكل والكواكبُ في المواضع التي ذَكَرها لم يَمْضِ ذلك الحكمُ عليه، ومضى على المولود إن كان من الصَّقالبة أو مَن قَرُبَ مزاجُه من مزاجهم. وزعمَ أنَّ الفلَك إذا كان على شكلٍ ما ذَكَره، في مولدٍ ما، وكانت الكواكبُ في مواضعَ ذَكَرها؛ فإنَّ صاحبَ المولد يتزوَّجُ أختَه إن كان مصريًّا، فإن لم يكن مصريًّا لم يتزوَّجها. وزعمَ أنَّ الفلَك إذا كان على شكلٍ آخر ذَكَره، في مولدٍ من المواليد، وكانت الكواكبُ في مواضع بيَّنها (2)؛ تزوَّجَ الولدُ بأمِّه إن كان فارسيًّا، وإن _________ (1) (ق، د): «رغبت». (2) في الأصول: «موضع بينهما». وهو تحريف. ومضت نظائره على الصواب.

(3/1305)


لم يكن فارسيًّا لم يتزوَّجها. وهذه مناقضةٌ شنيعة؛ لأنه ذَكَر علَّةً ومعلولًا يوجدُ بوجودها، ويرتفعُ بارتفاعها، ثمَّ ذَكَر أنها توجدُ من غير أن يوجدَ معلولُها». قلت: أربابُ هذا الفنِّ يقولون: لا بد من معرفة الأصول التي يحكمُ عليها؛ لئلَّا يغلَط الحاكمُ ويذهبَ كلامُه هدرًا إن لم يعرِف الأصول، وهي: الحِسُّ (1)، والشريعة، والأخلاق، والعادات، مما يحتاجُ المنجِّم إلى تحصيلها، ثمَّ يحكم عليها (2). وكذلك قال بَطْليموس: إنه يجبُ على المنجِّم النظرُ في صور الأبدان وخواصِّ حالات الأنفُس، واختلاف العادات والسُّنن. قال: ويجبُ على من نظر في هذه الأشياء على المذهب الطبيعيِّ أن يتشبَّث أبدًا بالسَّبب الأول الصحيح؛ لئلَّا يغلَط بسبب اشتباه المواليد (3)، فيقول مثلًا: إنَّ المولودَ في بلاد الحَبَش يكونُ أبيض اللون سَبِطَ الشَّعر، وإنَّ المولودَ في بلاد الروم أسود اللون جَعْدُ الشَّعر، أو يغلَط أيضًا في السُّنن والعادات التي يُخَصُّ بها بعضُ الأمم في الباه (4)، فيقول مثلًا: إنَّ الرجلَ من أهل أنطاكيا يتزوَّجُ بأخته، وكان الواجبُ أن ينسبَ ذلك إلى الفارسيِّ. _________ (1) (ق، د): «الجنس». وهو تحريف. (2) انظر: «شرح نهج البلاغة» (6/ 211). (3) (ت): «المولد». (4) النكاح. وفي الأصول: «الباهلي». والمثبت من (ط). ووقع في «صفة جزيرة العرب» للهمداني (48) نقلًا عن بَطْليموس في سياقٍ آخر: «الباهية». والباهيَّة نسبة إلى الباه، وتوصف بها بعض الأدوية والأغذية.

(3/1306)


وفي الجملة؛ ينبغي أن يأخُذ أوَّلًا (1) حالات القضاء الكلِّي، ثمَّ يأخُذ حالات القضاء الجزئي؛ ليعلمَ منها حالات الأمر (2) في الزِّيادة والنقصان. وكذلك يجبُ ضرورةً أنْ يقدِّم في قسمة الأزمان أصنافَ الأسنان (3) الزمانية، وموافقتَها لكلِّ واحدٍ من الأحداث، وأن يتفقَّد أمرَها؛ لئلَّا يغلطَ في وقتٍ من الأوقات في الأعراض العامِّية البسيطة التي ينظرُ فيها في المواليد، فيقول: إنَّ الطفلَ يباشرُ الأعمالَ أو يتزوجُ أو يفعلُ شيئًا من الأشياء التي يفعلُها من هو أتمُّ سنًّا منه، وإنَّ الشيخَ الفاني يُولَدُ أو يفعلُ شيئًا من أفعال الأحداث. وهذا ونحوه يدلُّ على أنَّ الأمورَ وغيرها إنما هي بحسب اختلاف العوائد والسُّنن والبلاد وخواصِّ الأنفس، واختلافُ الأسنان والأغذية وقُواها أيضًا فيها تأثيرٌ قوي، وكذا الهواءُ والتُّربةُ واللباسُ وغيرها، كلُّ هذه لها تأثيرٌ في الأخلاق والأعمال، وأكبرُها: العوائدُ، والمَرْبا، والمنشأ. فإحالةُ هذه الأمور على الكواكب والطالع والمقارنة والمفارقة والمناظرة (4) من أبين الجهل، ولهذا اضطرَّ إمامُ المنجِّمين ومعلِّمهم (5) إلى _________ (1) (ق): «أن أو لا». (2) (د، ق): «ليعلم منها الأمر». (3) (ت): «الإنسان». (ق): «الأشنان». (4) في الأصول: «والناظر». والمثبت أشبه. (5) وهو بَطْليموس. قال القفطي في ترجمته من «أخبار الحكماء» (130): «وما أعلم أحدًا بعده تعرَّض لتأليف مثل كتابه المعروف بالمجسطي، ولا تعاطى معارضته، بل تناوله بعضهم بالشرح والتبيين ... ، وإنما غاية العلماء بعده التي يجرون إليها، وثمرة عنايتهم التي يتنافسون فيها: فهم كتابه على مرتبته، وإحكام جميع أجزائه على تدريجه ... ».

(3/1307)


مراعاة هذه الأمور، وأخبرَ أنَّ الحاكمَ بدون معرفتها والتشبُّث بها يكونُ مخطئًا. وحينئذٍ، فالطالعُ المعتبر المؤثِّر إنما هو طالعُ العوائد والسُّنن والبلاد، وخواصِّ هيآت النفوس الإنسانية، وقُوى أغذية أبدانها وهوائها وتربتها، وغير ذلك مما هو مشاهدٌ بالعيان تأثيرُه في ذلك. أفليس مِن أبين الجهل الإعراضُ عن هذه الأسباب، والحَوالةُ على حركات النجوم واجتماعها وافتراقها ومقابلتها في تربيعٍ أو تثليثٍ أو تسديسٍ مما لو صحَّ لكان غايتُه أن يكون جزءَ سببٍ من الأسباب التي تقتضي هذه الآثار؟! ثمَّ إنَّ لها من المقارنات والمفارقات والصَّوارف والعوارض ما لا يحصِي المنجِّمُ القليلَ من عُشر معشاره، أفليس الحكمُ بمجرَّد معرفة جزءٍ من أجزاء السَّبب بالظَّنِّ والحَدْس أو التقليد لمن حَسُنَ ظنُّه به حكمٌ كاذب؟! ولهذا كذِبُ المنجِّم أضعافُ أضعاف صدقِه بكثير، حتى إنَّ [صِدْق] بعض الزَّرَّاقين، وأصحاب الكشف، وأرباب الفراسة، والحَزَّائين (1)، أكثرُ من صدق هؤلاء بكثير (2)، وما ذاك إلا لأنَّ المجهول مِن جُمَل (3) الأسباب _________ (1) هم الكهَّان الناظرون في النجوم. وأصل الحزو: الخرص والتقدير. «اللسان». (2) انظر: «رسائل الشريف المرتضى (2/ 308، 309)، و «البصائر والذخائر» (6/ 101). (3) في الأصول: «حمل». بالمهملة. والمثبت من (ط).

(3/1308)


وما يعارضُها ويمنعُ تأثيرَها أكثرُ من المعلوم منها، فكيف لايقعُ الكذبُ والخطأ؟! بل لا يكادُ يقعُ الصِّدقُ والصوابُ إلا على سبيل التصادف (1). ونحن لا ننكرُ ارتباطَ المسبَّبات بأسبابها، كما ارتكبه كثيرٌ من المتكلِّمين، وكابروا العِيان، وجحَدوا الحقائق، كما أنَّا لا نرضى بهذَيانات الأحكاميِّين ومحالاتهم، بل نُثْبِتُ الأسبابَ والمسبَّبات والعِللَ والمعلولات، ونبيِّنُ مع ذلك بطلانَ ما يدَّعونه من علم أحكام النجوم وأنها هي المدبِّرةُ لهذا العالم، المُسْعِدةُ المُشْقِية، المُحْيِيةُ المُمِيتة، المعطيةُ للعلوم والأعمال والأخلاق والأرزاق والآجال، وأنَّ نظرَكم (2) في هذا العلم موجبٌ لكم (3) من علم الغيب ما انفردتم به عن سائر الناس، وليس في طوائف الناس أقلُّ علمًا بالغيب منكم، بل أنتم أجهلُ الناس بالغيب على الإطلاق! ومن اعتبرَ حال حُذَّاقكم وعلمائكم واعتمادَهم على ملاحمَ (4) مُركَّبةٍ من إخبارات بعض الكهَّان، ومناماتٍ وفراساتٍ وقصصٍ متوارثةٍ عن أهل الكتاب وغيرهم، ومَزْج ذلك بتجاربَ حصلت، مع اقتراناتٍ نجوميةٍ _________ (1) في الأصول: «التصاديف». والمثبت من (ط). (2) التفات. (3) (ت): «يوجب لكم». (4) جمع: ملحمة. وهي تأليفٌ قصصيٌّ منظومٌ - في الغالب - أو نثريٌّ، طويل، في وصف الحروب والوقائع والفتن الماضية والمستقبلة. وفيه كتبٌ كثيرة، والغالب عليها الكذب والخرافة. انظر: «الجامع» للخطيب (2/ 162)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 79)، و «زاد المعاد» (3/ 237، 5/ 788)، و «أبجد العلوم» (2/ 518، 519).

(3/1309)


واتصالاتٍ كوكبيَّةٍ يُعْلَمُ بالحساب حصولُها في وقتٍ معيَّن، فقضيتُم بحصول تلك الآثار أو نظيرها عندها، إلى أمثال ذلك من أسباب علم تَقْدِمَة المعرفة (1) التي جَرَّبت الناسُ (2) منها مثل ما جرَّبتم، فصدقَت تارةً وكذبَت تارة (3). فغايةُ الحركات النجوميَّة والاتصالات الكوكبيَّة أن تكون كالعِلَل والأسباب المشاهَدة التي تأثيراتُها موقوفةٌ على انضمام أمورٍ أخرى إليها، وارتفاع موانعَ تمنعُها تأثيرَها؛ فهي أجزاءُ أسبابٍ غيرُ مستقلَّةٍ ولا مُوجِبة. هذا لو أقمتم على تأثيرها [دليلًا]، فكيف وليس معكم إلا الدعاوى وتقليدُ بعضكم بعضًا، واعترافُ حذَّاقكم بأنَّ الذي يُجْهَلُ من بقيَّة الأسباب المؤثِّرة، ومن الموانع الصَّارفة، أعظمُ من المعلوم منها بأضعافٍ مضاعفةٍ لا تدخلُ تحت الوَهْم؟! فكيف يستقيمُ لعاقلٍ الحكمُ بعد هذا؟! وهل يكونُ في العالم أكذبُ منه؟! _________ (1) تقدمة المعرفة بالحوداث قبل وقوعها، بدلائل تدلُّ عليها، منها ما هو صحيحٌ مُفْضٍ إلى المعرفة، وتختلف قوى النَّاس في إدراكه وتحصيله، ومنها ما هو بخلاف ذلك. انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 172، 173)، و «منهاج السنة» (4/ 54)، و «الفهرست» (362، 364، 436)، و «أبجد العلوم» (2/ 14، 29)، وما سيأتي (ص: 1434 - 1437، 1454). ولابن قاضي بعلبك (ت: 675): «شرح تقدمة المعرفة لأبقراط» منه نسخة خطية في جامعة الملك سعود. (2) (ق، د): «جرت بين الناس». وهو تحريف. (3) خبر «ومن اعتبر حال حذاقكم ... » محذوفٌ، تقديره: عرف ذلك.

(3/1310)


قال صاحب الرِّسالة: «وإذا كان الفلَك متى تشكَّل شكلًا ما، دلَّ إن كان في مولد مصريٍّ على أنه يتزوَّجُ أختَه، فذلك سُنَّةٌ كانت لهم وعادة، وإن كان في مولد غيره لم يدلَّ على ذلك. ونحن نجدُ أهلَ مصرَ في وقتنا هذا قد زالوا عن تلك العادة، وتركوا تلك السُّنَّة بدخولهم في الإسلام والنصرانيَّة واستعمالهم أحكامَهما. فيجبُ أن تسقط هذه الدَّلالةُ من مواليدهم لزوالهم عن تلك العادة، أو تكون الدَّلالةُ توجبُ ذلك في مولد كلِّ أحدٍ منهم ومن غيرهم، أو تسقط الدَّلالةُ وتبطُل بزوال أهل مصر عما كانوا عليه، وكذلك جمهورُ أهل فارس. وأيُّ ذلك كان، فهو دالٌّ على قُبْح المناقَضة وشدَّة المغالطة. وقد رأيتُ وجهَهم بَطْليموس يقول في كتابه المعروف بـ «الأربعة» (1): فيَحْدُسُ على أنه يكون كذا وكذا، ويقول: فإذا كان كذا وكذا توهَّمنا أنه يكونُ كذا وكذا». قلت: الذي صرَّحَ به بَطْليموس أنَّ علمَ أحكام النجوم بعد استقصاء معرفة ما ينبغي معرفتُه (2) إنما هو على جهة الحَدْس لا العلم واليقين. فمِن ذلك قولُه: «هذا، وبالجملة، فإنَّ جميعَ علم حال هذا العنصر إنما يستقيمُ أن يُلْحَقَ على جهة الظَّنِّ والحَدْس لا على جهة اليقين، وخاصَّةً ما كان منه مركَّبًا من أشياء كثيرةٍ غير متشابهة». _________ (1) ويسمى أيضًا: «المقالات الأربع». انظر: «تاريخ الأدب العربي» (4/ 95)، و «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 87). (2) (ت): «بعد استقصاء معرفته».

(3/1311)


قال شارحُ كلامه (1): «وإنما ذهبَ إلى ذلك لأنَّ الأفعالَ التي تصدُر عن الكواكب إنما هي بطريق العَرَض، وأنها لا تفعلُ بذواتها شيئًا. والدليلُ على ذلك قولُه في الباب الثاني من كتاب «الأربعة»: وإذا كان الإنسانُ قد استقصى معرفةَ حركة جميع الكواكب والشَّمس والقمر، حتى إنه لا يذهبُ عليه شيءٌ من المواضع والأوقات التي تحدثُ لها فيها الأشكال، وكانت عنده معرفةٌ بطبائعها قد أخذها من الأخبار المتواترة التي تقدَّمته، وإن لم يعلم طبائعَها في نفس جواهرها، لكن يعلمُ قُواها التي تفعلُ بها، كالعلم بقوَّة الشَّمس أنها تُسَخِّن، وكالعلم بقوة القمر أنها تُرَطِّب، وكذلك يعلمُ أمرَ قُوى سائر الكواكب، وكان قويًّا على معرفة أمثال سائر هذه الأشياء لا على المذهب الطبيعيِّ فقط، لكن يُمْكِنُه أيضًا أن يعلمَ بجودة الحَدْس خواصَّ الحال التي تكون من امتزاج جميع ذلك». قال الشارح: «وبَطْليموس يرى أنَّ علمَ الأحكام إنما يُلْحَقُ على جهة الحَدْس لا على جهة اليقين». قلت: وكذلك صرَّحَ أرسطاطاليس في أوَّل كتابه «السَّماع الطبيعي» أنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب، فقال: «لمَّا كانت حالُ العلم واليقين في جميع السُّبل التي لها مباداءُ أو أسبابٌ أو اسْتُقُصَّات إنما يلزمُ مِن قِبَل المعرفة بهذه (2)، فإذا لم تُعرف الكواكبُ على أيِّ جهةٍ تفعلُ هذه _________ (1) شرح كتابه هذا جماعة. منهم: ثابت بن قرة الحراني (الآتي ذكره). ومحمد بن جابر البتاني (ت: 317). وعلي بن رضوان الطبيب (ت: 453). انظر: تاريخ الحكماء» (132، 164، 589)، و «أبجد العلوم» (3/ 163)، و «هدية العارفين» (1/ 132)، والمصدرين السابقين. (2) «بهذه» ليست في (ت).

(3/1312)


الأفاعيل ــ أعني بذاتها أو بطريق العَرَض ــ، ولم تُعرف ما هيآتُها وذواتها؛ لم تكن معرفتُنا بالشيء [أنه] ينفعل (1) على جهة اليقين». وهذا ثابتُ بن قُرَّة (2) ــ وهو ما هو عندهم ــ يقول في كتاب «ترتيب العلم» (3): «وأمَّا علمُ القضاء من النجوم فقد اختلفَ فيه أهلُه اختلافًا شديدًا، وخرج فيه قومٌ إلى ادِّعاء ما لا يصحُّ (4) ولا يصدُق، بما لا اتصال له بالأمور الطبيعية، حتى ادَّعوا في ذلك ما هو مِن علم الغيب، ومع هذا فلم يوجد منه إلى زماننا هذا قريبٌ من التمام كما وُجِدَ غيرُه». هذا لفظُه، مع حُسْن ظنِّه به، وعَدِّه له في العلوم. وهذا أبو نصر الفارابيُّ يقول: «واعلَم أنك لو قلبتَ أوضاعَ المنجِّمين فجعلتَ السَّعدَ نَحْسًا، والنَّحْسَ سعدًا، والحارَّ باردًا، والباردَ حارًّا، والذَّكرَ أنثى، والأنثى ذكرًا، ثمَّ حكَمْتَ؛ لكانت أحكامُك من جنس أحكامهم، تصيبُ تارةً وتخطاءُ تارة» (5). وهذا أبو عليِّ ابنُ سينا قد أتى في آخر كتابه «الشفاء» في ردِّ هذا العلم وإبطاله بما هو موجودٌ فيه (6). _________ (1) (ت): «تفعل». وهي مهملة في (ق). (2) الحرَّاني، الصاباء، المنجِّم، لم يكن في زمانه من يماثله في الطب والفلسفة (ت: 288). انظر: «الفهرست» (380)، و «السير» (13/ 485). (3) لعله كتاب «مراتب العلوم» أو «مراتب قراءة العلوم». انظر: «أخبار الحكماء» (164)، و «هدية العارفين» (1/ 132). (4) في الأصول: «يصلح». والمثبت من (ط). (5) تقدم (ص: 1195). (6) راجع ما تقدم (ص: 1182).

(3/1313)


وقرأتُ بخطِّ رِزْق الله المنجِّم (1) ــ وكان من زعمائهم ــ في كتاب «المقابسات» (2) لأبي حيَّان التوحيديِّ مناظرةً دارت بين جماعةٍ من فضلائهم جمَع جَمْعَهم (3) بعضُ المجالس، فذكرتُها ملخَّصةً مما لا يتعلَّقُ بها، بل ذكرتُ مقاصدَها. قال أبو حيَّان: «هذه مُقَابَسَةٌ دارت في مجلس أبي سليمان محمد ابن طاهر بن بَهْرام السِّجستاني (4)، وعنده أبو زكريا الصَّيْمري (5)، _________ (1) النحاس، المصري، أكبر المنجِّمين بها لعهده، ذكره أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في «الرسالة المصرية» (1/ 44 - نوادر المخطوطات)، وعنه القفطي في «أخبار الحكماء» (251). وتقدمت له قصةٌ طريفة (ص: 1195). (2) «المقابسات» (4 - 11) عناية ميرزا محمد الشيرازي (وهي النشرة الأولى للكتاب سنة 1306، بالهند)، (120 - 138) تحقيق السندوبي (أعاد نشر الطبعة الهندية مع تصحيح وتعليق)، (57 - 80) تحقيق محمد توفيق حسين (اعتمد على نسخة ليدن، وقطعة من الظاهرية، والطبعة الهندية)، وقد اعتمدتُ على النشرة الأخيرة (الطبعة الثانية 1989، دار الآداب ببيروت)، وانتفعتُ بالأوليين، ورمزتُ للهندية بـ (ز)، ولطبعة السندوبي بـ (س). وتحرفت «المقابسات» في (ت) إلى: «المقايسات» بالمثناة التحتية. (3) «جمع» ليست في (ت). (4) المنطقي، عالم بالحكمة والفلسفة والمنطق، أستاذ أبي حيان (في المقابسات: 253 ما يفيد أنه كان حيًّا سنة 371، وفي الطبعة الهندية: سنة 391). انظر: «الفهرست» (369)، و «أخبار الحكماء» (388)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 33). (5) فيلسوف، له أخبارٌ في كتب أبي حيان، وذكره الشهرستاني في «الملل والنحل» (3/ 34) ضمن المتأخرين من فلاسفة الإسلام (ووقع في بعض طبعاته: «أبا زكريا يحيى بن عدي الصَّيمري» بإسقاط حرف العطف قبل الصيمري، وهو خطأ، ويحيى بن عدي طبيبٌ فيلسوفٌ نصراني، ترجمته في «الفهرست»: 322، و «أخبار الحكماء»: 488، وانظر: «طبقات الشافعية»: 4/ 67).

(3/1314)


والنُّوشْجاني (1) أبو الفتح، وأبو محمد العَروضي (2)، وأبو محمد المقدسي (3)، والقُومِسي (4)، وغلام زُحَل (5)، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء إمامٌ في شأنه، فردٌ في صناعته. _________ (1) في الأصول: «الوسنجاني». وفي (ط)، و «المقابسات» (نسخة ليدن): «البوشنجاني». وكلاهما تحريف. وعلى الصواب في «المقابسات» (ز)، و «أخبار الحكماء» (307). وانظر: «الإمتاع والمؤانسة» (2/ 14)، وذيل «تجارب الأمم» للروذراوري (7/ 96، 97). وهي نسبة إلى نُوشْجان، بلدة بفارس. انظر: «الأنساب» (12/ 159)، و «وفيات الأعيان» (5/ 243). (2) فيلسوف، لزم يحيى بن عدي المنطقي. انظر: «المقابسات» (131). (3) «المقابسات» و «أخبار الحكماء» (307): «وأبو محمد العروضي والمقدسي». وفي «المقابسات» (ز): «والعروضي أبو محمد المقدسي»، فجعلهما واحدًا، وهو خطأ. وأحسب «المقدسي» محرَّفًا عن «الأندلسي»، وأبو محمد الأندلسي من أصحاب أبي سليمان المنطقي وجلسائه، وله ذكرٌ كثير في كتب أبي حيان (ت: 375). انظر: «المقابسات» (88، 112)، و «البصائر والذخائر» (6/ 127، 206، 8/ 200)، و «أخلاق الوزيرين» (370، 397، 401)، و «الصداقة والصديق» (48، 88) .. (4) (ق، د): «القوطسي». (ت): «القوسطي». وكلاهما تحريف. وعلى الصواب في «المقابسات»، و «أخبار الحكماء» (307). نسبةً إلى قُومِس، على طريق خراسان. انظر: «الأنساب» (10/ 261)، و «معجم البلدان». وهو أبو بكر، فيلسوفٌ كبير الطبقة في الفلسفة وعلم الأوائل، حسن البلاغة. انظر: «المقابسات» (84، 85)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 32). (5) أبو القاسم عبيد الله بن الحسن، منجمٌ حاسب (ت: 376). انظر: «الفهرست» (359)، و «أخبار الحكماء» (306)، و «البصائر والذخائر» (6/ 101).

(3/1315)


فقيل في المجلس: لِمَ خلا علمُ النجوم من الفائدة والثمرة، وليس علمٌ من العلوم كذلك، فإنَّ الطِّبَّ ليس على هذه الحال ــ ثمَّ ذُكِرت فائدتُه والمنفعةُ به، وكذلك الحسابُ والنحوُ والهندسةُ والصَّنائعُ ذُكِرَت وذُكِرَت منافعُها وثمراتُها ــ؟ ثمَّ قال السائل: وليس علمُ النجوم كذلك؛ فإنَّ صاحبه إذا استقصى (1)، وبلغَ الحدَّ الأقصى في معرفة الكواكب، وتحصيل سَيرها واقترانها ورجوعِها ومقابلتها، وتربيعِها وتثليثها وتسديسها، وضُروب مزاجِها في مواضعها من بروجها وأشكالها، ومطالعِها ومقاطِعها (2) ومغاربها ومشارقِها ومذاهبها، حتى إذا حَكَمَ أصاب، وإذا أصابَ حَقَّق، وإذا حقَّقَ جَزَم، وإذا جَزَم حَتَم= فإنه لا يستطيعُ البتة قَلْبَ شيءٍ عن شيء، ولا صرفَ شيءٍ عن شيء (3)، ولا تبعيدَ حالٍ قد دَنَتْ، ولا نفيَ مُلِمَّةٍ (4) قد اكتُتِبَت (5)، ولا رفعَ سعادةٍ قد أجَمَّت وأطَلَّت (6)، أعني: أنه (7) لا يقدرُ على أن يجعل الإقامةَ سفرًا، ولا الهزيمةَ ظفرًا، ولا العقدَ حلًّا (8)، ولا الإبرامَ نقضًا، ولا اليأسَ رجاءً، ولا الإخفاقَ دَرَكًا، ولا العدوَّ صديقًا، ولا الوليَّ عدوًّا، ولا البعيدَ قريبًا، ولا القريبَ بعيدًا. _________ (1) «المقابسات»: «إن استقصى». (2) في الأصول: ومعاطفها». والمثبت من «المقابسات». (3) «المقابسات»: «صرف أمر إلى أمر». (4) في الأصول: «ملة». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». (5) «المقابسات»: «ألمَّت». وفي (ز): «كتبت». (6) «المقابسات»: «وأظلت». بالمعجمة. (7) في الأصول: «امر». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». (8) في الأصول: «فلا». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات».

(3/1316)


فكأنَّ العالِمَ به، الحاذق المتناهي في خفيَّاته (1)، بعد هذا التَّعب والنَّصَب، وبعد هذا الكدِّ والدَّأب، وبعد هذه الكُلفة الشَّديدة والمُؤنة الغليظة (2)، هو مستسلمٌ (3) للمقدار، مُسْتَجْدٍ (4) لما يأتي به الليلُ والنهار، وعادت حالُه مع علمه الكثير (5) إلى حال الجاهل بهذا العلم الذي انقيادُه كانقياده، واعتبارُه كاعتباره (6)، ولعلَّ توكُّل الجاهل أحسنُ من توكُّل العالم به، ورجاءه (7) في الخير المشتهى (8) ونجاته من الشرِّ المتوقَّى أقوى وأصحُّ (9) من رجاء هذا المُدِلِّ بزِيجِه وحسابه وتقويمه وأسطُرلابه. ولهذا لما لقي أبو الحسين النُّوري (10) ما شاء الله (11) المنجِّم قال له: _________ (1) «المقابسات» (ز): «في حقائقه». (2) في الأصول: «والمعرفة الغليظة». والمثبت من «المقابسات». (3) في الأصول: «مستلزم». تحريف. والمثبت من «المقابسات». (4) «المقابسات»: «مستحذ». والمثبت من الأصول و (ز). (5) «المقابسات»: «الكبير». (6) «المقابسات»: «واعتياده كاعتياده». والمثبت من الأصول و (ز). (7) في الأصول: «ورضاه». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». (8) «المقابسات»: «المتمنى». (ز، س): «المتوقع». (9) «المقابسات»: «وأفسح». (ز، س): «وأرسخ». (10) كذا في الأصول. وهو خطأ. وفي «المقابسات» و «البصائر والذخائر» (5/ 30): «الثوري» بلا كنية. وهو الصواب. وفي «أخبار الحكماء» (437): «سفيان الثوري». وانظر: «البيان والتبين» (4/ 13). وأظن المصنف ظنَّه «النوري» فزاد كنيته من عنده. وأبو الحسين النوري شيخ الصوفية بالعراق لعصره، متأخر (ت: 295). انظر: «السير» (14/ 70). (11) في الأصول: «ماشا». والمثبت من «المقابسات»، و «البصائر والذخائر»، و «أخبار الحكماء». وهذا لقبه، واسمه ميشا، وهو منجمٌ يهودي، كان في زمن المنصور، وعاش إلى أيام المأمون.

(3/1317)


أنت تخاف زُحَل وأنا أخافُ ربَّ زُحَل، وأنت ترجو المشتري وأنا أعبدُ (1) ربَّ المشتري، وأنت تغدو بالاستشارة (2) وأنا أغدو بالاستخارة، فكم بيننا؟! وهذا أنوشروان ــ وكان من الملوك (3) الأفاضل ــ كان لا يَرْفَعُ بالنجوم رأسًا، فقيل له في ذلك، فقال: صوابُه يُشْبِهُ الحَدْس، وخطؤه شديدٌ على النفس. فمتى أفضى هذا الفاضلُ النِّحريرُ، والحاذقُ البصير، إلى هذا الحدِّ والغاية؛ كان علمُه عاريًا من الثمرة، خاليًا من الفائدة، حائلًا عن النتيجة، بلا عائدةٍ ولا مَرْجُوع. وإنَّ أمرًا أوَّلُه على ما قرَّرنا، وآخرُه على ما ذكرنا، لحريٌّ أن لا يُشْغَلَ الزمانُ به، ولا يُوهَبَ العمرُ له، ولا يُعَارَ (4) الهمَّ والكدَّ (5)، ولا يُعاجَ عليه (6) بوجهٍ ولا سبب. _________ (1) «المقابسات» و «البصائر والذخائر»، و «أخبار الحكماء»: «أرجو». (2) استشارة النجوم. وفي (ت): «تعدو بالإشارة». وهو تحريف. (3) «المقابسات» (ز، س): «من المغفلين»!. وهو تحريفٌ طريف، والصواب: «المعقَّلين» أي: الأذكياء. انظر: «تكملة المعاجم» لدوزي (7/ 269)، ومقدمة تحقيق «الهفوات النادرة» (31). ولعل ابن القيم استشكلها فغيَّرها. (4) «المقابسات»: «يقارَّ». والمثبت من الأصول و (ز، س). (5) «المقابسات» (ز، س): «والكدر». (6) أي: ولا يلتفَت إليه. وفي «المقابسات» (ز، س): «يعاد عليه».

(3/1318)


هذا إن كانت الأحكامُ صحيحةً مُدْرَكَةً محقَّقَة، ومصابةً مُلْحَقةً معروفةً محصَّلة (1)، ولم يكن المذهبُ على ما زعمَ أربابُ الكلام والذين (2) يأبونَ تأثيرَ هذه الأجرام العالية في الأجسام السافلة، وينفُون الوسائطَ بينهما والوصائل، ويدفعون الفواعِل والقوابِل. تمَّ السؤال. فأجاب كلٌّ من هؤلاء بما سَنَحَ له: * فقال قائلٌ منهم: عن هذا السُّؤال المَهُول (3) جوابان: أحدهما: هو زجرٌ عن النظر فيه؛ لئلَّا يكون هذا الإنسانُ مع ضَعْف نَحِيزَته (4)، واضطراب غريزته، وضَعْف مُنَّته (5)، عَدَّاءً على ربِّه، شريكًا (6) له في غَيْبِه، متكبِّرًا على عباده، ظانًّا بأنه فيما يأتي (7) من شأنه قائمٌ بجَدِّه وقدرته، وحوله وقوته، وتشميره وتَقْلِيصه، وتَهْجِيره وتَعْرِيسه، فإنَّ هذا النَّمَط يحجُز الإنسانَ عن الخشوع لخالقه، والإذعان لربِّه، ويُبْعِدُه عن _________ (1) «المقابسات» (ز، س): «أو مصانة ملحقة ومعروفة محضة». (2) «المقابسات» (ز، س): «وأرباب الكلام والدين». وهي قراءةٌ محتملة. (3) «المقابسات»: «عن هذه المسألة على التهويل»، (ز، س): «عن هذه المسألة لا على هذا التهويل». (4) أي: طبعه. وفي (ق، د): «تجربة». (ت): «تحريه». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». وفي (ز، س): «مخيلته». (5) أي: قوَّته. وفي (ت): «منه». وأهملت في (د). (ق): «منية». وهو تحريف. وفي «المقابسات»: «وانفتات طينته، وانبتات مريرته». (6) «المقابسات»: «بحَّاثًا». (7) «المقابسات»: «مأتي».

(3/1319)


التسليم لمدبِّره، ويحولُ بينه وبين طرح الكاهِل (1) بين يدي من هو أملكُ له وأولى به. وأمَّا الجوابُ الآخر: فهو بشرى عظيمةٌ على نعمةٍ جسيمةٍ لمن حصل له هذا العلم، وذلك سرٌّ لو اطُّلِع عليه، وغيبٌ لو وُصِلَ إليه، لكان ما يجدُه الإنسانُ فيه من الرَّوْح والرَّاحة والخير في العاجلة والآجلة يكفيه مُؤنةَ هذا الخطب الفادح، ويغنيه عن (2) تجشُّم هذا الكدِّ الكادح. فاجعَل أيها المنكِرُ لشرف هذا العلم بدلَ عَيْبِك (3) ما يخفى عليك خفيُّه ومكنونُه تذلُّلًا لله ــ تقدَّس اسمُه ــ فيما استبان لك معلومُه ووَضَحَ عندك مظنونُه. ثمَّ قال: اعلم أنَّ العلمَ به حقٌّ، ولكنَّ الإصابةَ بعيدة، وليس كلُّ بعيدٍ محالًا، ولا كلُّ قريبٍ صوابًا، ولا كلُّ صوابٍ معروفًا، ولا كلُّ محالٍ موصوفًا، وإنما كان العلمُ حقًّا، والاجتهادُ فيه مبلِّغًا (4)، والقياسُ فيه صوابًا، وبذلُ السعي دونه محمودًا؛ لاشتباك (5) هذا العالَم السفليِّ بذلك العالَم العُلويِّ، واتصالِ هذه الأجسام القابلة بتلك الأجسام (6) الفاعلة، واستحالةِ _________ (1) أي الحِمْل الذي عليه. على المجاز. وغُيِّرت في «المقابسات» (س) إلى «الكل». (2) (ت): «ويعينه على». «المقابسات» (س): «وينهيه عن». (ز): «ويهينه عن». (3) (ق): «قبل عينك». (ت): «يدل عليك». والمثبت من (د) و «المقابسات». وفي (ز، س): «بدل غيبك». (4) «المقابسات»: «في طلبه مخلِّصًا». (5) «المقابسات» (ز، س): «لامتثال». (6) «المقابسات»: «الأجرام».

(3/1320)


هذه الصُّور بحركات تلك المتحرِّكات المُتشاكِلَة (1) بالوحدة. وإذا صحَّ هذا الاتصالُ والتَّشابُك، وهذه الحبائلُ (2) والرُّبُط، صحَّ التأثيرُ من العُلويِّ، وقبولُ التأثير من السفليِّ، بالمواصلات (3) الشُّعاعيَّة، والمناسبات (4) الشَّكليَّة، والأحوال الخَفِيَّة والجَلِيَّة. وإذا صحَّ التأثيرُ من المؤثِّر، وقبولُه من القابل، صحَّ الاعتبار، واستنَّ (5) القياس، وصَدَق الرَّصَد، وثبتَ الإلف، واستحكمَت العادة، وانكشفَت الحدود، وانْثَالَت العِلَل (6)، وتعاضدَت الشَّواهد، وصار الصوابُ غامرًا، والخطأ مغمورًا، والعلمُ جوهرًا راسخًا، والظنُّ عَرَضًا زائلًا. فقيل: هل تصحُّ الأحكام أم لا؟ * فقال [قائل] (7): الأحكامُ لا تصحُّ بأسرها، ولا تبطلُ من أصلها، وذلك بسببٍ يتبيَّنُ (8) إذا أُنعِمَ النظر، ونُشِطَ للإصغاء (9)، وصُمِدَ نحو _________ (1) في الأصول: «المحركات المشاكلة». والمثبت من «المقابسات». (2) (ق، ت): «الحبال». والمثبت من (د) و «المقابسات». وفي (ز، س): «الحبائك». (3) في الأصول: «والمواضع». والمثبت من «المقابسات». (4) (ق، د): «وبالمنسلبات». (ت): «والمثلثات». والمثبت من «المقابسات». وفي (ز، س): «والمداءبات». (5) أي: مضى على سَنَنه في جهةٍ واحدة. وفي «المقابسات» (س): «واتسق». (6) انصبَّت وتتابعت. (7) من «المقابسات». (8) «المقابسات»: «لسبب بين بالهوينا». (ز، س): «وتلك ليست بالهوينا». (9) في الأصول: «وبسط الإصغاء»، والكلمة الأولى مهملة في (د). والمثبت من «المقابسات».

(3/1321)


الفائدة، بغير متابعة الهوى وإيثار التعصُّب. ثمَّ قال: الأمورُ الموجودةُ على ضربين: ضربٍ له الوجودُ الحقُّ، وضربٍ له الوجود، ولكنْ ليس الوجودَ الحقَّ (1). فأمَّا الأمورُ الموجودةُ بالحقِّ، فقد أعطت الأخرى نسبةً من جهة الوجود (2)، وارتجعَت منها حقيقةَ ذلك. فالحاكمُ (3) بالاعتبار الفاحص عن هذه الأسرار؛ إن أصابَ فبنسبةِ الوجود الذي لهذا العالم (4) السفليِّ من ذلك العُلويِّ، وإن أخطأ فبما فات (5) هذا العالَم السفليَّ من ذلك العالم العُلويِّ. والإصابةُ في هذه الأمور السيَّالة المتبدِّلة عَرَض، والإصابةُ في أمور الفلَك جوهر، وقد يكونُ هناك ما هو كالخطأ، ولكن بالعَرَض لا بالذَّات، كما يكون هاهنا ما هو كالصواب (6) والحقِّ، ولكن بالعَرَض لا بالذَّات؛ فلهذا صحَّ بعضُ الأحكام وبَطَل بعضُها. ومما يكونُ شاهدًا لهذا: أنَّ العالَم السفليَّ مع تبدُّله في كلِّ حالة، _________ (1) «وضرب له الوجود ولكن ليس الوجود الحق» ساقط من (ز، س). (2) (د، ق): «فأما الأمور الموجودة بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود الحق فأما الأمور الموجودة بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود». وهو خطأ وتكرار لا معنى له. والمثبت من (ت) و «المقابسات». (3) (ق، ت): «فالحكم». والمثبت من (د) و «المقابسات». (4) في الأصول: «الذي هو هذا العالم». والمثبت من «المقابسات». (5) في الأصول: «فبافات». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». (6) في الأصول: «لا هو بالصواب». تحريف. والمثبت من «المقابسات».

(3/1322)


واستحالته في كلِّ طَرْفٍ ولَمْح، متقيِّلٌ (1) لذلك العالَم العُلويِّ، يتحرَّكُ شوقًا إلى كماله، وعشقًا لجماله، وطلبًا للتشبُّه به، وتحقُّقًا بكلِّ ما أمكن من شَكْله، فهو بحقِّ التقيُّل يُعطِي هذا العالَم السفليَّ ما يكونُ به مشابهًا للعالَم العُلويِّ، وبهذا التقيُّل (2) تقيَّلَ الإنسانُ الناقصُ الكاملَ، وتقيَّلَ الكاملُ من البشر المَلَكَ، وتقيَّلَ المَلَكُ الباري جلَّ وعزَّ. * قال آخر: إنما وجب هذا التقيُّل والتشبُّه لأنَّ وجودَ هذا العالَم وجودٌ متهافتٌ مستحيل، لا صورة له ثابتة، ولا شكلٌ دائم، ولا هيئةٌ معروفة، وكان من هذا الوجه فقيرًا إلى ما يمدُّه ويشدُّه. فأمَّا سِنْخُه (3) فهو موجودٌ وثابتٌ _________ (1) في الأصول وطبعات «المقابسات»: «متقبل» بالباء الموحدة. وكذا في المواضع التالية. وهو تحريف. والتقيُّل: التشبُّه، تقيَّل فلانٌ أباه: اتَّبعه وأشبهَه وعمل عمله. انظر: «اللسان» و «التاج» (قيل)، و «اللآلي» للبكري (774). والفلاسفة ترى أن كمال الإنسان هو بالتشبُّه بالإله على قدر الطاقة، وأن الفلك والمتحرِّكات العُلويَّة إنما تتحرَّك للتشبُّه بمن فوقها. ولذا قيل في حدِّ الفلسفة: هي تقيُّل الإله ما أمكن. انظر: «درء التعارض» (9/ 324)، و «الرد على الشاذلي» (20، 58، 96، 139)، و «الصفدية» (2/ 233، 234)، و «جامع المسائل» (6/ 123، 124)، و «بغية المرتاد» (229)، و «الرد على المنطقيين» (220)، و «منهاج السنة» (3/ 285)، و «جامع الرسائل» (2/ 187)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 465، 12/ 145، 17/ 329)، و «تحقيق ما للهند» للبيروني (22). ولم يتفطن العلامة محمد بن تاويت الطنجي لمدلول هذا اللفظ في تحقيقه لكتاب أبي حيان «أخلاق الوزيرين» (376). (2) «المقابسات»: «ومن هذا الباب». (3) أي: أصله. وأهملت في (د) وكتب ابن بردس فوقها بخطٍّ دقيق: «كذا». وفي (ق): «مسحه». (ت): «سبحه». وهو تحريف. وفي «المقابسات»: «سنخه وسوسه». والسُّوس بمعنى السِّنخ.

(3/1323)


مقابِلٌ لذلك العالَم الموجود الثابت، وإنما عرَضَ ما عَرَضَ لأنَّ أحدهما مؤثِّر، والآخَر قابِل، فبحقِّ هذه المرتبة ما وُجِدَ [التبايُن، وبحقِّ تلك المرتبة ما وُجِدَ] (1) التواصُل. * وقال آخر: قد يُغْفِلُ مع هذا كلِّه المنجِّمُ اعتبارَ حركاتٍ كثيرة من أجرامٍ مختلفة؛ لأنه يعجزُ عن نظمِها وتقويمها، ومَزْجِها وتسييرها، وتفصيل أحوالها وتحصيل خواصِّها، مع بُعْد حركة بعضها وقُرب حركة بعضها، وبُطئها وسرعتها، وتوسُّطها والتفاف (2) صُورها، والتباس تقاطعها (3)، وتداخُل أشكالها. ومن الحكمة في هذا الإغفال أنَّ الله تقدَّس اسمُه يُتِمُّ بذلك القَدْر المُغْفَل، والقليل الذي لا يؤبَه له، والكثير الذي لا يُحاوَلُ البحثُ عنه= أمرًا لم يكن في حُسبان الخلق، ولا فيما أعمَلوا فيه القياسَ والتقديرَ والتوهُّم (4). ولهذا يُحْكِمُ هذا الحاذقُ في صناعته لهذا المَلِك، وهذا الماهرُ في عمله (5) لهذا المَلِك، ثمَّ يلتقيان، فتكونُ الدَّائرةُ على أحدهما، مع شدَّة الوِقاع (6)، وصِدْق المِصاع، هذا وقد حُكِمَ له بالظَّفر والغلب. _________ (1) مستدرك من «المقابسات»، وأظنه سقط لانتقال النظر. (2) (ق، د): «والتفاق». (ت): «واتفاق». والمثبت من «المقابسات». (3) «المقابسات» (ز، س): «مقاطعها». (4) «المقابسات»: «عملوا فيه القياس واختلط بالتقدير والتوهم». (5) «المقابسات»: «علمه». (6) «المقابسات»: «الدفاع». والوقاع: المواقعة في الحرب. والمِصاع: الجِلاد.

(3/1324)


* وقال آخر ــ وهو النُّوشْجاني ــ: إنما يؤتى أحدُ الحاكمَيْن لأحد المَلِكين (1) لا من جهة غلطٍ يكونُ في الحساب، ولا من قلَّة مهارةٍ في العمل، ولكنْ يكونُ في طالعه أن لا يصيبَ (2) في ذلك الحكم، ويكونُ في طالع الملك أن لا يصيبَ منجِّمُه في تلك الحرب، فمقتضى حاله وحال صاحبه يحولُ بينه وبين الصواب، ويكونُ الآخرُ مع صحة حسابه وحُسْن إدراكه قد وجبَ في طالع نفسه وطالع صاحبه ضدُّ ذلك، فيقعُ الأمرُ الواجب، ويبطلُ الآخرُ الذي ليس بواجب. وقد كان المنجِّمان من جهة العلم والحساب أعطيا للصِّناعة حقَّها، ووفَّيا ما عليهما، ووقفا موقفًا واحدًا على غير مزيَّةٍ بيِّنة ولا علَّةٍ قائمة. * قال آخر: ولولا هذه البقيةُ (3) المندفنة والغايةُ المستترةُ التي استأثر اللهُ بها لكان لا يَعْرِضُ هذا الخطأُ مع صحَّة الحساب، ودقَّة النظر، وشدَّة الغَوْص، وتوخِّي المطلوب، ومع غَلَبة الهوى والميل إلى المحكوم له. وهذه البقيةُ دائرةٌ في أمور هذا الخَلق فاضلِهم وناقصِهم ومتوسِّطهم، في دقيقها وجليلها، وصعبها وذلولها (4)، ومن كان له في نفسه باعثٌ على التصفُّح والنظر والتخبُّر (5) والاعتبار وقفَ على ما أومأتُ إليه وسلَّم. _________ (1) في الأصول: «المايلين». والمثبت من «المقابسات». (2) (ت) و «المقابسات»: «أن يصيب». وهو خطأ. (3) «المقابسات»: «الحسنة». (ز، س): «المشيئة». (4) (ق) و (ت): «وذكرها». والمثبت من «المقابسات». (5) مهملة في (د). (ت): «والتحر». (ق): «والبحر». وفي «المقابسات»: «والتخير». وكله تحريف. والتخبُّر (بالباء الموحدة): الاستخبار. وانظر لاستعمال أبي حيان له: «البصائر والذخائر» (8/ 122)، و «الإمتاع والمؤانسة» (3/ 194).

(3/1325)


ولحكمةٍ جليلةٍ ضربَ اللهُ دون هذا العلم (1) بالأسداد، وطوى حقائقَه عن أكثر العباد، وذلك أنَّ العلمَ بما سيكونُ ويحدثُ ويُسْتَقْبَلُ علمٌ حُلوٌ عند النفس (2)، وله موقعٌ عند العقل، فلا أحدَ إلا وهو يتمنَّى أن يعلمَ الغيب، ويطَّلع عليه، ويدركَ ما سوفَ يكونُ في غدٍ، ويجدَ سبيلًا إليه. ولو ذُلِّلَ السَّبيلُ (3) إلى هذا الفنِّ لرأيتَ الناسَ يُهْرَعونَ إليه، ولا يُؤْثِرون شيئًا آخر عليه؛ لحلاوة هذا العلم عند الرُّوح، ولُصوقه بالنفس، وغرام كلِّ أحدٍ به، وفتنة كلِّ إنسانٍ فيه. فبنعمةٍ من الله لم يُفْتَح (4) هذا الباب، ولم يُكشَف دونه الغطاء، حتى يرتعي (5) كلُّ أحدٍ روضَه، ويلزمَ حدَّه، ويرغبَ فيما هو أجدى عليه وأنفعُ له إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلًا، فطوى اللهُ عن الخلق حقائقَ الغيب، ونَشَرَ لهم نُبَذًا منه وشيئًا يسيرًا يتعلَّلون به؛ ليكونَ هذا العلمُ محروصًا عليه كسائر العلوم، ولا يكون مانعًا من غيره. قال: ولولا هذه البقيةُ التي فضحَت الكاملين، وأعجزَت القادرين، لكان تعجُّبُ الخلق من غرائب الأحداث وعجائب الصُّروف (6) وطرائف الأحوال عبثًا وسفهًا، وتوكُّلهم على الله لهوًا ولعبًا. _________ (1) «المقابسات» (ز، س): «هذه العلل». (2) «المقابسات» (ز، س): «خلق للنفس». (3) (ت): «ولولا ذلك السبيل». (4) في الأصول: «لم يصح». والمثبت من «المقابسات». (5) (ق، د): «يرتقي». (ت): «يلتقي». تحريف. والمثبت من «المقابسات». (6) «المقابسات» (ز، س): «الضروب».

(3/1326)


* فقال آخر: وهذا يتَّضحُ بمثال، وليكن المثالُ أنَّ مَلِكًا في زمانك وبلادك، واسعَ المُلك، عظيمَ الشَّأن، بعيدَ الصِّيت، سابغَ الهيبة (1)، معروفًا بالحكمة، مشهورًا بالحزم، يضعُ الخيرَ في مواضعه، ويوقِعُ الشرَّ في مواقعه، عنده جزاءُ كلِّ سيئةٍ وثوابُ كلِّ حسنة، قد رتَّب لبريده أصلحَ الأولياء له، وكذلك نَصَبَ لجباية أمواله أقوَمَ الناس بها، وكذلك ولَّى عمارةَ أرضه أنهَض الناس بها، وشرَّفَ آخر بكتابته، وآخر بوزارته، وآخر بنيابته. فإذا نظرتَ إلى مُلكه وجدتَه مؤزَّرًا (2) بسَداد الرأي ومحمود التدبير، وأولياؤه حواليه، وحاشيتُه بين يديه، وكلٌّ يَخِفُّ إلى ما هو مَنُوطٌ به، ويستقصي طاقتَه ويبذلُ فيه (3)، والملكُ يأمرُ وينهى، ويُصْدِرُ ويُورِد، ويثيبُ ويعاقِب. وقد عَلِمَ صغيرُ أوليائه وكبيرُهم، ووضيعُ رعاياه وشريفُهم، ونَبِيهُ الناس وخاملُهم: أنَّ الأمرَ الذي تعلَّق بكذا وكذا (4) صدَرَ من الملك إلى كاتبه؛ لأنه من جنس الكتابة وعلائقها وما يدخلُ في شرائطها ووثائقها، والأمرَ الآخر صدَرَ إلى صاحب بريده؛ لأنه من أحكام البريد وفُنونه، والأمرَ الآخر أُلقِي إلى صاحب المعونة؛ لأنه من جنس ما هو مرتَّبٌ له منصوبٌ من أجله، والحديثَ الآخر صَدَرَ إلى القاضي؛ لأنه من باب الدِّين والحُكم _________ (1) «المقابسات»: «شائع الهيبة». (ز، س): «شائع الذكر». (2) «المقابسات»: «موزونا». (3) «المقابسات»: «ويستقصي طاقته فيه ويبذل وسعه دونه». (4) «المقابسات»: «الرأي الذي تعلق بأمر كذا». (ز، س): «الرأي الذي يطلق بأمره كذا وكذا».

(3/1327)


والفصل (1). وكلُّ هذا مُسَلَّمٌ إلى المَلِك لا يُفْتَاتُ عليه في شيءٍ منه، ولا يُسْتَبدُّ بشيءٍ دونَه، فالأحوالُ على هذا كلُّها جاريةٌ على أذلالها (2) وقواعدها في مجاريها، لا يُرَدُّ شيءٌ منها (3) إلى غير شكله، ولا يرتقي إلى غير طبقته. فلو وقفَ رجلٌ له من الحزم نصيبٌ ومن اليقظة (4) قِسطٌ على هذا المُلك الجسيم، وتصفَّحَ أبوابَه بابًا بابًا، وحالًا حالًا، وتخلَّل بيتًا بيتًا (5) ورفعَ سَجْفًا سَجْفًا، لأمكنه أن يعلمَ ــ بما يُثْمِرُه (6) له هذا النظر، ويميِّزه له (7) هذا القياس، وأوقعَه عليه (8) هذا الحَدْسُ ــ ما سيفعلُه هذا المَلِكُ غدًا، وما يتقدَّمُ به إلى شهر، وما يكادُ يكونُ منه إلى سنةٍ وسنتين؛ لأنه يَفْلِي الأحوالَ فَلْيًا (9)، ويقايِسُ بينها، ويلتقطُ ألفاظَ المَلِك ولحَظاته وإشاراته _________ (1) «المقابسات» (ز، س): «والقضاء». (2) مهملة في (د، ق، ز). وفي (ت): «أدلتها». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». والأذلال جمع: ذِلٍّ، وهو الطريق الممهَّد بكثرة الوطء. (3) «المقابسات»: «لا يزل منها شيء». (4) «المقابسات» (ز، س): «الفطنة». (5) «المقابسات» (ز، س): «شيئًا فشيئًا». (6) (ت): «بما يتميز». «المقابسات» (ز، س): «ما يتم». (7) (ق، د): «وميزه له». «المقابسات»: «ويثيره». (ز، س): «ويسره». (8) «المقابسات»: «ويصيده». (ز): «ويصده». (س): «ويصدره». (9) مهملة في (د). (ق، ت): «يعلى الأحوال قلنا». والمثبت من «المقابسات». وفي (ز، س): «على الأحوال مليا».

(3/1328)


وحركاته، ويقول في بعضها: رأيتُ الملك يقولُ (1) كذا وكذا (2) ويفعلُ كذا وكذا، وهذا يدلُّ على كذا وكذا، وإنما جرَّأه هذه الجرأة على هذا الحُكم والبتِّ أنه قد مَلَكَ لَحْظَ المَلِك ولفظَه، وحركتَه وسكونَه، وتعريضَه وتصريحَه، وجدَّه وهزلَه، وشكلَه وسَجِيَّته (3)، وتجعُّدَه واسترسالَه، ووُجومَه ونشاطَه، وانقباضَه وانبساطَه، وغضبه ورضاه. ثمَّ هَجَسَ في نفس هذا المَلِك هاجس، وخطر بباله خاطر، فقال: أريدُ أن أعمَل عملًا، وأُوثِر أثرًا، وأُحدِثَ حالًا، لا يقفُ عليها أوليائي، ولا المطيفون بي (4)، ولا المختصُّون بقُربي (5)، ولا المتعلِّقون بحِبالي، ولا أحدٌ من أعدائي والمتتبِّعين لأمري والمُحْصِين لأنفاسي، ولا أدري كيف أفتتحُه ولا أقترحه؛ لأنِّي متى تقدَّمتُ في ذلك إلى كلِّ من يلوذُ بي ويطيفُ بناحيتي، كان الأمرُ في ذلك نظيرَ جميع أموري، وهذا هو الفسادُ الذي يلزمني تجنُّبه، ويجبُ عليَّ التيقظُ فيه. فيقدحُ له الفكرُ الثاقبُ أنه ينبغي أن يتأهَّب للصَّيد ذاتَ يوم، فيتقدَّمُ بذلك، ويذيعُه، فيأخذُ أصحابُه وخاصَّتُه في أُهْبَة ذلك وإعداد الآلة، فإذا تكامَل ذلك له أصْحَر للصَّيد، وتقلَّب (6) في البيداء، وصمَّم على ما يلوحُ له، _________ (1) في الأصول: «يفعل». والمثبت من «المقابسات». (2) «المقابسات» (ز، س): «ويقول في بعضها: يترك كذا وكذا». (3) «المقابسات»: «وسحنته». وهي محتملة. والمثبت من الأصول و (ز، س). (4) في الأصول: «المطيعون لي». والمثبت من «المقابسات» أشبه. (5) (ت): «بقولي». (ق، د): «بقوله». والمثبت من «المقابسات». (6) «المقابسات» (ز، س): «وتطلب».

(3/1329)


وأمعَن وراءه، وركضَ خلفَه جوادَه، ونهى من معه أن يتبعَه، حتى إذا أوغَل في تلك الفِجَاج الخاوية، والمدارج المتنائية، وتباعدَ عن مَتْنِ الجادَّة وَوَضَح المحجَّة، صادفَ إنسانًا، فوقفَ وحاورَه وفاوضَه، فوجده حصيفًا محصِّلًا يتَّقِدُ فهمًا وإفهامًا، فقال له: أفيك خير؟ فقال: نعم، وهل الخيرُ إلا فيَّ وعندي وإلا معي؟! أَلْقِ إليَّ ما بدا لك، وخلِّني وذلك. فقال له: إنَّ الواقفَ عليك المكلِّمَ لك ملكُ هذا الإقليم، فلا تُرَعْ واهدَأ. فقال: السعادةُ قيَّضتني لك، والجَدُّ أطلعكَ عليَّ. فيقول له المَلِك: إني أريدُ أن أصطنعك (1) لأربٍ في نفسي، وأبلُغَ بك إن بلَغْتَ لي ذلك، أريدُ أن تكون عينًا لي وصاحبًا لي نصوحًا، واطْوِ سرِّي عن سانِح فؤادك فضلًا عن غيره. فإذا بلغ منه التَّوثِقة والتَّوكيد ألقى إليه ما يأمره به ويحثُّه على السعي فيه، وأزاحَ علَّتَه في جميع ما يتعلَّقُ المرادُ به، ثمَّ ثنى عنانَ دابته إلى وجه عسكره وأوليائه ولحقَ بهم، فقضى وَطَرَه، ثمَّ عادَ إلى سريره، وليس عند أحدٍ من رهطه وبطانته وغاشيته وخاصَّته وعامَّته علمٌ بما قد أسرَّه إلى ذلك الإنسان. فبينما الناسُ على مَكِناتهم (2) وغَفَلاتهم إذ أصبحوا ذات يومٍ عن حادثٍ _________ (1) مهملة في (ق). «المقابسات»: «أصطفيك». والمثبت من (د، ت). (2) أمكنتهم. وفي «المقابسات»: «سكناتهم».

(3/1330)


عظيم، وخَطْبٍ جسيم، وشأنٍ هائل، فكلٌّ يقولُ عند ذلك (1): ما أعجبَ هذا! من فعل هذا؟! متى تهيَّأ هذا؟! هذا صاحبُ البريد ليس عنده منه أثر، هذا صاحبُ المعونة وهو عن الخبر بمَعْزِل، وهذا الوزيرُ الأكبر وهو متحيِّر، وهذا القاضي وهو متفكِّر، وهذا حاجبُه وهو ذاهل. وكلُّهم عن الأمر الذي دَهَمَ غافل. وقد قضى الملكُ مأربتَه، وأدرك حاجتَه، وطلب بغيتَه، ونال غَرَضَه. فكذلك ينظرُ المنجِّمُ إلى زُحَل والمشتري والمرِّيخ والشَّمس والقمر وعطارد والزُّهَرة، وإلى البروج وطبائعها، والرأس والذَّنب وتقاطعهما، والهِيلاج والكَدْخُداه (2)، وإلى جميع ما دانى هذا وقارَبه (3) وكان له فيه نتيجةٌ وثمرة، فيحسبُ ويمزجُ ويرسُم، وتنقلبُ عليه أشياء كثيرةٌ من سائر الكواكب التي لها حركاتٌ بطيئةٌ وآثارٌ مَطْويَّة، فينبعثُ مما (4) أهملَه وأغفلَه وأضرَبَ عنه ولم يتَّسع له= ما يملكُ عليه حِسَّه وعقلَه وفِكرَه ورويَّته، حتى لا يدري مِن أين أُتِي؟ ومِن أين دُهِي؟ وكيف انفرَج (5) عليه الأمر، وانسدَّ _________ (1) في الأصول: «فكل يقول ذلك عند ذلك». (2) (ق، د): «الكامداه». (ت): «الكاملان». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». والهيلاج والكدخداه: كوكبا المولود. فالأول لرزقه والثاني لعمره؛ فإن ولد في صعوده كان زائدًا فيه، وإن كان في هبوطه كان بعكسه، في زعم المنجمين. انظر: «قصد السبيل» (2/ 386)، و «مفاتيح العلوم» (203)، و «شرح المختار من لزوميات أبي العلاء» للبطليوسي (1/ 142)، و «الفهرست» (375، 383، 386)، و «ديوان ابن الرومي» (2/ 490). (3) (ق، د): «وقارنه». وفي (ت): «وفاته». والمثبت من «المقابسات». (4) في الأصول: «فيما». والمثبت من «المقابسات». وفي (ز، س): «بما». (5) «المقابسات» (ز، س): «امتزج».

(3/1331)


دونه المطلب (1)، وفاتَ المطلوب، وعزبَ عنه الرأي؟ هذا، ولا خطأ له في الحساب، ولا نقصَ في قصد الحقِّ (2). وهذا كي يُلاذَ بالله وحده في الأمور كلِّها، ويُعْلَمَ أنه مالكُ الدُّهور، ومدبِّر الخلائق، وصاحبُ الدواعي والعلائق، والقائمُ على كلِّ نَفْس، والحاضرُ عند كلِّ نَفَس، وأنه إذا شاء نفَع، وإذا شاء ضَرَّ، وإذا شاء عافى، وإذا شاء أسقَم، وإذا شاء أغنى، وإذا شاء أفقر، وإذا شاء أحيا، وإذا شاء أمات، وأنه كاشفُ الكربات، مغيثُ ذوي اللَّهَفات، قاضي الحاجات، مجيبُ الدعوات، ليس فوق يده يد، وهو الأحدُ الصمد، على الأبد والسَّرمد. * وقال آخر (3): هذه الأمورُ وإن كانت مَنُوطةً بهذه العُلويَّات، مربوطةً بالفلَكيَّات، عنها تَحْدُث، ومن جهتها تنبعث، فإنَّ في عرضها ما لا يستحقُّ أن يُنسَبَ إلى شيءٍ منها إلا على وجه التقريب. ومثالُ ذلك: ملكٌ له سلطانٌ واسع، ونعمةٌ جمَّة، فهو يُفْرِدُ كلَّ أحدٍ بما هو لائقٌ به، وبما هو ناهضٌ فيه، فيولِّي بيتَ المال مثلًا خازنًا أمينًا كافيًا شهمًا يفرِّقُ على يده، ويجمعُ (4) على يده، ثمَّ إنَّ هذا الملك قد يضعُ في هذه الخزانة شيئًا لا علمَ للخازن به، وقد يُخْرِجُ منها شيئًا لا يقفُ الخازنُ _________ (1) «المقابسات» (ز، س): «الطلب». (2) «المقابسات»: «ولا تقصير في الحق». (3) وهو الحرَّاني الصوفي، وكان قد شام شيئًا من الحكمة، ولم يكن حاضرًا بالمجلس إنما سمع أبو حيان منه هذا بمكة قديمًا، كما قال. (4) في الأصول: «ويخرج». والمثبت من «المقابسات».

(3/1332)


عليه، ويكونُ هذا منه دليلًا على مُلكه واستبداده، وعلى تصرُّفه وقدرته. * وقال آخر: لمَّا كان صاحبُ علم النجوم يريدُ أن يقفَ على أحداث الزمان ومستقبل الوقت، من خيرٍ وشرٍّ، وخِصْبٍ وجَدْب، وسعادةٍ ونَحْس، وولايةٍ وعزل، ومقامٍ وسفر، وغمٍّ وفرح، وفقرٍ ويسار، ومحبةٍ وبغض، وجِدَةٍ وعُدْم (1)، وعافيةٍ وسقم، وأُلفةٍ وشتات، وكسادٍ ونَفَاق، وإصابةٍ وإخفاق، وحياةٍ وممات، وهو إنسانٌ ناقصٌ في الأصل؛ لأنَّ نقصانَه بالطبع، وكمالَه بالعَرَض، ومع هذه الحال المحطوطة بالسِّنخ (2)، المَؤوفة بالطين (3)، قد بارى بارئَه، ونازعَ ربَّه، وتتبَّع غيبه، وتخلَّل حكمَه، وعارضَ مالكَه= حَرَمَه الله فائدةَ هذا العلم، وصرَفَه عن الانتفاع به، والاستثمار (4) من شجرته، وأضافَه إلى من لا يحيطُ بشيءٍ منه ولا يتحلى بشيءٍ فيه (5)، ونظَمَه في باب القسر والقهر (6)، وجعلَ غايةَ سعيه فيه الخيبة، ونهايةَ علمه به الحيرة، وسلَّطَ عليه في صناعته الظَّنَّ والحَدْس، والحيلةَ والزَّرْق، والكذبَ والخَتْل (7). _________ (1) في الأصول: «وجدة وعدم ووجدان». والمثبت من «المقابسات». (2) أي: بالأصل. (3) يشبه رسمها في الأصول: «المعروفة بالظن». وفي «المقابسات»: «المؤفة بالطين». (ز، س): «المزوقة بالطين». ولعل الصواب ما أثبت. يعني: الفاسدة بتركيبها الطيني. وأبو حيان كثير الحمل على الطين في كتبه! (4) «المقابسات»: «والاستمتاع». (5) مهملة في (د). (ت): «يتجلى». (ق): «يخل». والمثبت أشبه. (6) «المقابسات»: «لا يحيط بشيء منه ونظمه في باب القسر والقهر». (ز، س): «لا يحيط بشيء منه ولا تجلى بشيء في باب القهر والقسر». (7) «المقابسات»: «والحيل». والمثبت من (ز، س) والأصول.

(3/1333)


ولو شئتُ لذكرتُ لك من ذلك صَدْرًا، وهو مثبوتٌ (1) في الكتب، ومنثورٌ (2) في المجالس، ومتداولٌ بين الناس. فلذلك وأشباهه حَطَّ رتبتَه، وردَّه على عقبيه؛ ليعلمَ أنه لا يعلمُ إلا ما عُلِّم، وأنه ليس له أن يتمطَّى بما عَلِمَ على ما جَهِل؛ فإنَّ الله سبحانه لا شريك له في غيبه، ولا وزير له في ربوبيَّته، وأنه يُؤنِسُ بالعلم ليطاعَ ويُعْبَد، ويُوحِشُ بالجهل ليُفْزَعَ إليه ويُقْصَد، عزَّ ربًّا، وجلَّ إلهًا، وتقدَّس مشارًا إليه، وتعالى معتمَدًا عليه. * وقال آخر ــ وهو العروضي ــ: قد يقوى هذا العلمُ في بعض الدَّهر حتى يُشْغَفَ به، ويُدانَ بتعلُّمه، بقوَّةٍ سماوية، وشكلٍ فلَكيّ، فيكثرُ الاستنباطُ والبحث، وتشتدُّ العنايةُ والفكر، فتغلبُ الإصابةُ حتى يزول الخطأ. وقد يضعفُ هذا العلمُ في بعض الدَّهر، فيكثرُ الخطأُ فيه بشكلٍ آخر (3) يقتضي ذلك، حتى يسقُط النظرُ فيه، ويحرُم البحثُ عنه، ويكون الدينُ حاظرًا للطلب والحكم به. وقد يعتدلُ الأمرُ في دهرٍ آخر حتى يكون الخطأُ في قَدْر (4) ذلك الصواب والصوابُ في قَدْر الخطأ، وتكون الدواعي والصوارفُ متكافئة، ويكون الدينُ لا يحثُّ عليه كلَّ الحثِّ، ولا يحظُر على طالبه كلَّ الحظر. _________ (1) «المقابسات»: «مبثوث». (2) «المقابسات» (ز، س): «ومنشور». (3) «المقابسات»: «لشكل آخر». (4) «المقابسات»: «في وزن».

(3/1334)


قال: وهذا إذا صحَّ تعلَّق الأمرُ كلُّه بما يتصلُ بهذا العالم السفليِّ من ذلك العالم العُلوي؛ فإذًا الصوابُ والخطأ محمولان على القوى المنبثَّة (1)، والأنوار الشائعة، والآثار الذَّائعة (2)، والعلل الموجِبة، والأسباب المتوافية (3). * وقال آخر ــ وهو النُّوشْجاني ــ: أيها القوم، اختصروا الكلام، وقرِّبوا البُغْية؛ فإنَّ الإطالةَ مَصِدَّةٌ عن الفائدة، مَضِلَّةٌ للفهم والفطنة، هل تصحُّ الأحكام؟ * فقال غلام زُحَل: ليس عن هذا جوابٌ يستتِبُّ (4) على كلِّ وجه. فقيل: ولم؟ بيِّن ذلك. قال: لأنَّ صحَّتها وبطلانها يتعلَّقان بآثار الفلَك، وقد يقتضي شكلُ الفلَك في زمانٍ أن لا يصحَّ منها شيء، وإن غِيصَ على دقائقها، وبُلِغَ إلى أعماقها. وقد يزولُ ذلك الشكلُ [فيجيء زمانٌ لا يبطلُ منها شيءٌ فيه، وإن قُورب في الاستدلال. وقد يتحولُ هذا الشكلُ] (5) في وقتٍ آخر إلى أن _________ (1) (ق، ت): «المثبتة». (2) «المقابسات» (ز، س): «الرائعة». (3) «المقابسات» (ز، س): «الموافقة». (4) مهملة في (د). (ت): «بسبب». (ق): «سبب». (ز، س): «يتسبب». وفي «مختصر تاريخ الدول» لابن العبري (175): «يستثبت». والمثبت من «المقابسات» و «تاريخ الحكماء» (307). (5) من «المقابسات» و «تاريخ الحكماء» و «مختصر تاريخ الدول». وأحسبه سقط لانتقال النظر.

(3/1335)


يكثُر الصوابُ فيها والخطأ، ويتقاربان، ومتى وقفَ الأمرُ على هذا الحدِّ لم يثبت على قضاءٍ (1) ولم يُوثق بجواب (2). * وقال آخر: إنَّ الله تعالى وتقدَّس اخترعَ هذا العالَم وزيَّنه، ورتَّبه وحسَّنه، ووشَّحه ونظَّمه، وهذَّبه وقوَّمه، وأظهرَ عليه البهجةَ وأبطنَ في أثنائه (3) الحكمة، وحفَّه بكلِّ ما طَبَا العقولَ (4) إلى تصفُّحه ومعرفته، وحشَاه بكلِّ ما حاشَ النفوسَ (5) إلى علمه وتقليبه والتعجُّب من أعاجيبه، وأمتَع الأرواحَ بمحاسنه، وأودعه أمورًا، واستخزنه (6) أسرارًا، ثمَّ حرَّك الألبابَ عليها حتى استثارتها ولَقَطَتها، وأحبَّتها (7) وعَشِقَتها ووَلِهَت (8) عليها؛ لأنها عرفَت بها ربَّها وخالقَها وإلاهَها وواضعَها وصانعَها وحافظَها وكافلَها. ثمَّ إنه تعالى مَزَجَ بعضَ ما فيه ببعض، وركَّب بعضَه على بعض، ونسجَ بعضَه في بعض، وأمدَّ بعضَه من بعض، وأحالَ بعضَه إلى بعض، بوسائط من أشخاصٍ وأجناسٍ وطبائع وأنفسٍ وعلومٍ وعقول، وتصرَّف في ملكه بقدرته _________ (1) «المقابسات» و «أخبار الحكماء»: «على قول قضاء». (2) في «المقابسات»: «فقال أبو سليمان [المنطقي السجستاني]: هذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الباب». (3) في الأصول: «اثباته». (ز، س): «أفنائه». والمثبت من «المقابسات». (4) أي: دعاها واستمالها. «التاج» (طبو). ولم تحرر في الأصول. (5) (ت) و «المقابسات»: «جاش». (س): «حث». (6) (ت): «واستخرج به». «المقابسات» (س): «واستجن به». (7) «المقابسات»: «واجتلبتها». (ز، س): «واجتلتها». (8) في الأصول: «ودارت». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات».

(3/1336)


وجُوده وحكمته، لا مَعِيبَ الفضل، ولا معدومَ الاختيار (1)، ولا مردودَ الحكمة (2)، ولا مجحودَ الذَّات، ولا محدود (3) الصفات، سبحانه. وهو مع هذا كلِّه لم يستفد شيئًا، ولم ينتفع بشيء، بل استفاد منه كلُّ شيء، وانتفع به كلُّ شيء، وبلغَ غايتَه كلُّ شيء، بحسب مادَّته المنقادة، وصورته المعتادة، ولم يثبُت بشيء، وثبت به كلُّ شيء، فهو الفاعلُ القادرُ الجوادُ الواهب، والمُنِيلُ المُفْضِل (4)، والأولُ السابق. فلمَّا كان الباحثُ عن العالَم العُلويِّ بتصفُّح سكَّانه (5)، ومعرفة آثاره ومواقعه وأسراره، متعرِّضًا لأن يكون مشابهًا (6) لبارئه، مناسبًا لربِّه بهذا الوجه المعروف= استحال أن يستفيد بعلمه، كما استحال أن يستفيد خالقُه بفعله؛ لأنَّ نعتَه لَصِقَ به (7)، وحكمَه لَزِمَه، وحِلْيتَه (8) بدت منه، وصفتَه عادت عليه. وهذه حالٌ إذا فَطِنَ لها، وأشرفَ ببصيرةٍ ثاقبةٍ عليها، وتحقَّق بحقيقتها، وترقَّى (9) للخبرة بسَنيِّ ما فيها، علم اضطرارًا عقليًّا أنها أجلُّ وأعلى وأنفس _________ (1) «المقابسات»: «مقلي الاختيار». ولعلها: مذموم الاختيار. (2) «المقابسات»: «الحكم». (3) «المقابسات»: «مجحود». (4) (ت): «المتفضل». (5) (ت): «أشكاله». (6) في الأصول: «مثبتا بها». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». (7) العبارة غير محررة في الأصول. وأثبتها من «المقابسات». (8) (ق، ت): «وكليته». وهو تحريف. والمثبت من (د) و «المقابسات». (9) «المقابسات»: «وتؤتي». (ز، س): «وتولى».

(3/1337)


وأسمى وأدومُ وأبقى من جميع فوائد سائر العلوم (1) التي حازها أولئك العالِمون؛ لأنَّ أولئك أعمَلوا فوائدَ علومهم فيما حَفِظ عليهم حدَّ الإنسان وخَلْقَه وعادته وشهوتَه (2) وراحتَه في اجتلاب نفعٍ ودفع ضرر، ونقصَت رتبتُهم عن مشابهته ومناسبته، والتشبُّه بخاصَّته، والتحلِّي بحِلْيته، ولذلك جَبَر اللهُ نقصَهم في علمهم بفوائدَ نالوها، ومنافعَ أحرزوها (3). فأمَّا من أرادَ معرفةَ هذه الخفايا والأسرار من هذه الأجرام والأنوار على ما هُيِّئت له ونُظِمَت عليه، فهو حريٌّ جديرٌ أن يعرى من جميع ما وجده صاحبُ كلِّ علمٍ في علمه من المرافق والمنافع، ويفردَ بالحكم (4) من رتبها على ما هي عليه، غيرَ مستفيدٍ بذلك فائدةً ولا جدوى. وهذه لطيفةٌ شريفة، متى وُقِفَ عليها حقَّ الوقوف، وتُقبِّلت حقَّ التقبُّل، كان المدركُ لها أجلَّ من كلِّ فائتٍ وإن عزَّ؛ لأنها بشريَّةٌ صارت إلهيَّة، وجسميَّةٌ استحالت رُوحانيَّة، وطينيَّةٌ انقلبت نُوريَّة، ومركَّبٌ عاد بسيطًا، وجزءٌ استحال كُلًّا، وهذا أمرٌ قلَّما يهتدى إليه ويتنبَّه عليه. * وقال آخر ــ وهو أبو سليمان المنطقي، وقد سأله أبو حيَّان تلميذُه عن هذه الأجوبة وما فيها من حقٍّ وباطل ــ: إنَّ هاهنا أنفسًا خبيثة، وعقولًا رديَّة، ومعارفَ خسيسة، لا يجوزُ لأربابها أن يَنْشَقُوا ريحَ الحكمة، أو يتطاولوا إلى _________ (1) في الأصول: «سابق العلوم». وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات». (2) (ق، د): «وخلقه وعادته وخلقه وشهوته». (3) في الأصول: «خبروها». (ز): «أخبروها». (س): «حازوها». والمثبت من «المقابسات». (4) (د): «وتفرد بالحكم». (ت): «وتفرد بالحلم». وفي «المقابسات»: «وينفرد بحكم».

(3/1338)


غرائب الفلسفة، والنهيُ ورَد من أجلهم، وهو حقٌّ. فأمَّا النفوسُ التي قوتُها الحكمة، وبُلْغَتُها العلم، وعُدَّتها الفضائل، وعقدتُها (1) الحقائق، وذُخْرُها الخيرات، وعادتُها المكارم، وهِمَّتُها المعالي، فإن النهي لم يوجَّه إليها، والعتبَ (2) لم يوقَع عليها. كيف يكونُ ذلك، وقد بان بما تكرر من القول أنَّ فائدةَ هذا العلم أجلُّ فائدة، وثمرته أحلى ثمرة (3)، ونتيجته أشرفُ نتيجة؟! فليكن هذا كلُّه كافًّا عن سوء الظنِّ، وكافيًا لك فيما وقع فيه القول وطالَ بين هؤلاء السَّادة الجَحاجِحَة (4) في العلم والفهم والبيان والنصح (5)». انتهت الحكاية (6). فليتأمَّل من أنعمَ اللهُ عليه بالعقل والعلم والإيمان، وصانَه عن تقليد هؤلاء وأمثالهم من أهل الحَيرة والضلال= ما في هذه المحاورة، وما انطوت عليه من اعترافهم بغاية علمهم ومستقرِّ أقدامهم فيه، وما حكموا به على أنفسهم من مقتضى حكمة الله فيهم أن يَسْلُبَهم ثمرات علوم الناس وفوائدَها، وأن يكسُوهم لباسَ الخَيبة وقَهْر الناس لهم وإذلالهم إيَّاهم، وأن يجعَل نصيبَ كلِّ أحدٍ من العلم والسعادة فوق نصيبهم (7)، وأن يجعَل _________ (1) «المقابسات»: «وعقيدتها». والمثبت من الأصول و (ز، س). (2) «المقابسات» (ز، س): «والعيب». (3) (ق، ت): «أجل ثمرة». والمثبت من (د) و «المقابسات». (4) جمع: جَحجاح. وهو السيد الكريم. (5) «المقابسات» (ز، س): «والتصفح». (6) وانظر لرأي أبي حيان في التنجيم ما مضى (ص: 1206) والتعليق عليه. (7) من قوله: «وأن يجعل نصيب» إلى هنا ليس في (ت).

(3/1339)


رزقَهم من أبواب الكذب والظنِّ والزَّرْق، وهو أخبثُ مكاسب العالَم، ومكسبُ البغايا وأرباب المواخير خيرٌ من مكاسب هؤلاء؛ لأنهم كسبوها بذنوبٍ وشهوات، وهؤلاء اكتسبوا ما اكتسبوه بالكذب على الله وادِّعاء ما يعلمون هم كَذِبَ أنفسهم فيه. والعجبُ شهادتُهم على أنفسهم أنَّ حكمة الله سبحانه اقتضت ذلك فيهم لتعاطيهم مشاركتَه في غيبه، والاطلاعَ على أسرار مملكته، وتعدِّيهم طورَ العبوديَّة التي هي سِمَتُهم إلى طور الربوبيَّة الذي لم يجعل لأحدٍ سبيلًا إليه! فاقتضت حكمةُ العزيز الحكيم أنْ عامَلهم بنقيض قُصودهم (1) وعكس مُراداتهم، وجعلِ كلَّ واحدٍ فوقهم في كلِّ ملَّة، ورميِ الناس باللسان العامِّ والخاصِّ لهم بأنهم أكذبُ النَّاس، فإنهم هم الزنادقةُ الدَّهريةُ أعداء الرسل (2) وسوسُ المُلك (3)، وأنَّ طالعَهم على من حَسَّنَ الظنَّ بهم وتقيَّد بأحكامهم في حركاته وسكناته وتدبيره شرُّ طالع، والمُلكُ والولايةُ المَسُوسُ بهم أذلُّ ملكٍ وأقلُّه، ومن له شيءٌ من تجارب الأمم وأخبار الدُّول والوزراء وغيرهم فعنده من العلم بهذا ما ليس عند غيره. ولهذا الملوكُ والخلفاءُ والوزراءُ الذين لهم قبولٌ في العالم وصِيتٌ ولسانُ صدقٍ هم أعداءُ هؤلاء الزنادقة، كالمنصور (4)، والرشيد، والمهدي، _________ (1) (ت، ص): «مقصودهم». (2) (ت، ص): «هم الزنادقة والدهرية وأعداء الرسل». (3) (د، ق): «الملل». (4) كذا ذكر المصنف رحمه الله. وفيه نظر. فقد تقدم (ص: 1202) خبر إحضاره المنجمين عند بناء بغداد، بل ذُكِر أنه أوَّل خليفةٍ قرَّب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأنه كان كلفًا بها محبًّا لأهلها. انظر: «مروج الذهب» (5/ 211)، و «طبقات الأمم» (213، 216)، و «أخبار الحكماء» (374، 375، 542)، و «تاريخ الخلفاء» (24)، و «فرج المهموم» (86).

(3/1340)


وكخُلفاء بني أمية، وكالملوك المؤيدين في الإسلام قديمًا وحديثًا، كانوا أشدَّ الناس إبعادًا لهؤلاء عن أبوابهم، ولم يَقُمْ لهم سوقٌ في عهدهم إلا عند أشباههم ونظرائهم من كلِّ منافقٍ متستِّرٍ بالإسلام، أو جاهلٍ مُفْرِطٍ في الجهل، أو ناقص العقل والدِّين. وهؤلاء المذكورون في هذه المحاورة لمَّا صَحَوا وخلا بعضُهم ببعض ولم يُمْكِنهم أن يعتمدوا من التلبيس والكذب والزَّرْق مع بعضهم بعضًا (1) ما يعتمدونه مع غيرهم تكلَّموا بما عندهم في ذلك من الاعتراف بالجهل، وأنَّ الأمرَ إنما هو حَدْسٌ وظنٌّ وزَرْق، وأنَّ أحوالَ العالم العُلويِّ أجلُّ وأعظمُ من أن تدخلَ تحت معارفهم وتُكالَ بقُفْزان عقولهم (2)، وأنَّ جهلَهم بذلك يوجبُ ولا بدَّ جهلَهم بالأحكام، وأنهم لا وثوقَ لهم بشيءٍ مما فيه؛ لجواز تشكُّل الفلَك بشكلٍ يقتضي بطلانَ جميع الأحكام، وتشكُّله بشكلٍ يكونُ بطلانُها وصحَّتُها بالنسبة إليه على السَّواء، وليس لهم علمٌ بانتفاء هذا الشَّكل ولا بوقت حصوله، فإنه ليس جاريًا على قانونٍ مضبوط، ولا على حسابٍ معروف. ومع هذا فكيف يبقى لعاقلٍ الوثوقُ بشيءٍ من علم أحكامهم، وهذه _________ (1) قال شيخنا الإصلاحي: هذا أسلوب العامة اليوم، وغريبٌ وقوعه في كلام المؤلف! والصواب: بعضهم مع بعض. (2) جمع: قَفِيز. مكيالٌ قديم معروف. «المعجم الوسيط».

(3/1341)


شهادةُ فضلائهم وأئمَّتهم؟! ولو أنَّ خصومهم الذين لا يشاركونهم في صناعتهم قالوا هذا القولَ لم يكن مقبولًا كقبوله منهم. والحمدُ لله الذي أشهَد أهلَ العلم والإيمان جهلَ هؤلاء وحيرتَهم وضلالَهم وكذبَهم وافتراءَهم بشهادتهم على نفوسهم وعلى صناعتهم، وأنَّ استفادةَ كلِّ ذي علمٍ بعلمه وكلِّ ذي صناعةٍ بصناعته أعظمُ من استفادتهم بعلمهم، وأنَّ أحدًا منهم لا يمكنه أن يعيشَ إلا في كَنَفِ من لم يُحِط من هذا العلم بشيء، وتحت ظلِّ من هو أجهلُ الناس. ومن العجب قولهم: إنَّ طالعَ أحد المَلِكَين المتغالبَين قد يكونُ مقتضيًا أن لا يصيب منجِّمُه في تلك الحرب، وطالعُ المنجِّم يقتضي خطأه في ذلك الحكم، وطالعُ خصمه ومنجِّمه بالضِّدِّ! فليعجَب ذو اللُّبِّ من هذا الهذَيان وتهافُته؛ فإذا كان الطالعُ مقتضيًا أن لا يصيبَ المنجِّمُ في تلك الحرب وقد أعطى الحسابَ والحُكمَ حقَّه عند أرباب الفنِّ، بحيث يشهدُ كلُّ واحدٍ منهم أنَّ الحكمَ ما حكم به، أفليس هذا مِن أبين الدَّلائل على بطلان الوثوق بالطالع، وأنَّ الحكمَ به حكمٌ بغير علم، وحكمٌ بما يجوزُ كذبُه؟! فما في الوجود أعجبُ من هذا الطالع الصَّادق الكاذب، المصيب المخطاء! وأعجبُ من هذا أنَّ هذا الطالعَ بعينه يكونُ قد حَكَمَ به لظفر عدوِّ هذا عليه منجِّمُه، فوافق القضاءُ والقدرُ ذلك الطالعَ وذلك الحُكم، فيكونُ أحدُ المنجِّمَين قد أصاب لمَلِكه طالعًا وحُكمًا، والآخرُ قد أخطأ لمَلِكه، وقد خرجا بطالعٍ واحد!

(3/1342)


وأعجبُ من هذا كلِّه تشكُّلُ الفلَك بشكلٍ وحصولُ طالعِ سعدٍ فيه باتفاق ملئكم، فيحدُث معه مِن علوِّ كلمة مَن لا تعبؤون به (1) ولا تعدُّونه، وظهورِ أمرهم، واستيلائهم على المملكة والرياسة والعزِّ والجاه (2)، ولَهَجِهم بذمِّكم (3) وعَيبكم وإبداء جهلكم وزندقتكم وإلحادكم، فتحتاجون (4) أن تَنْضَوُوا إليهم، وتعتصموا بحبلهم، وتترَّسوا بهم، وتقولون لهم بألسنتكم ما تنطوي قلوبُكم على خلافه، مما لو أظهرتموه لكنتم حصائدَ سيوفهم كما صرتُم حصائدَ ألسنتهم. فأيُّ سعدٍ في هذا الطالع لعمري، أم أيُّ خيرٍ فيه؟! وليت شعري، كيف لم يوجب لكم هذا الطالعُ بارقةً من سعادة، أو لائحًا من عزٍّ وقبول؟! ولكن هذه حكمةُ ربِّ الطالع (5)، ومدبِّر الفلَك وما حواه، ومسخِّر الكواكب ومجريها على ما يشاءُ سبحانه، أنْ جعَلكم كالذِّمَّة (6)، بل أذلَّ منهم، تحت قهر عبيده، وجعل سهامَ سعادتهم من كلِّ خيرٍ وعلمٍ ورياسةٍ وجاهٍ أوفرَ من سِهامكم، وبيوتَ شرَفهم في هذا العالم أعمرَ من بيوتكم، بل خرَّبَ بيوتكم بأيديهم، فلا ينعمرُ منها بيتٌ إلا بالانضمام إليهم والانتماء إلى _________ (1) (ت): «يعبأ به». (ق): «يعبأون به». (2) (ق): «الحياة». وهو تحريف. (3) (ق، د): «ولهجكم بذمكم». (ت): «ولجهلكم بذنبكم». والمثبت من (ط). (4) (د): «محتاجون». (5) (ت): «رب العالمين». (6) أي: كأهل الذِّمة. وكانوا أذلَّاء!

(3/1343)


شريعتهم وملَّتهم. وهذا شأنُ العزيز الحكيم في الكذَّابين عليه؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. قال أبو قلابة: «هي لكلِّ مفترٍ من هذه الأمة إلى يوم القيامة» (1). وهذه المحاورةُ التي جرت بين أصحاب هذا المَجْمَع (2) هي غايةُ ما يمكنُ النجوميَّ أن يقولَه، ولا يَصِلُ إلى ذلك إلا المبرِّزون منهم، ومع هذا فقد رأيتَ حاصلَها ومضمونَها، ولعلهم أن لو عَلِمُوا أنَّ هذه الكلمات تُنقَل (3) من جماعتهم، وتتصلُ بأهل الإيمان، لم ينطقوا منها ببنتِ شَفَة، ويأبى اللهُ إلا أن يفضحَ المفتري الكذَّاب ويُنْطِقَه بما يبيِّن باطلَه. فصل قال صاحبُ الرِّسالة: «ذِكْرُ جُمَلٍ من احتجاجهم والاحتجاج عليهم مِن أوكد ما يستدلُّون به على أنَّ الكواكبَ تفعلُ في هذا العالَم، أو لها دلالةٌ على ما يحدثُ فيه: أنهم امتحنوا عدةَ مواليد صحَّحوا طوالَعها، _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 236)، والطبري (13/ 135). وأخرجه أبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1/ 358)، واللالكائي في «السنة» (289) عن أيوب. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 280) عن سفيان بن عيينة. (2) (ت): «الجمع». (3) (ق): «تعتد». (ت): «تتعد».

(3/1344)


وجملةَ مسائلَ راعوها، فوجدوا القضيةَ في جميع ذلك صادقة، فدلَّهم ذلك على أنَّ الأصول التي عملوا عليها صحيحة. فيقال لهم: إذا كان ما تدَّعونه من هذا دليلًا على صحة الأحكام، فما الفصلُ بينكم وبين من قال: الدليلُ على بطلان الأحكام أنَّا امتحنَّا مواليدَ صحَّحنا طوالعَها، ومسائل تفقَّدنا أحوالَها، فوجدنا جميعها باطلًا ولم يصحَّ الحكمُ في شيءٍ منها؟! فإن قالوا: إنما يكونُ هذا لجواز الغلط على المنجِّم الذي عملها. قيل لكم: فما تُنكِرون من أن يكون صِدْقُ المنجِّم في حكمه باتِّفاقٍ وتخمين، كإخراج الزَّوج والفرد (1)، وصِدْقِ الحَزْر في الوزن والكيل والذَّرْع والعدد؟! وإذا كانت الدلالةُ على صحَّة مقالتكم صِدْقُكم في بعض أحكامكم، فالدلالةُ على بطلانها كذبُكم في بعضها (2). فإن قالوا: ليس ما قلناه بتخمين (3)؛ لأنَّا إنما نحكمُ على أصولٍ موضوعةٍ في كتب القدماء. قيل لهم: لسنا نشكُّ في أنكم تتبعونَ ما في الكتب، وتقلِّدون من _________ (1) نحو معرفة ما في اليد من زوجٍ وفرد. وهي من الألعاب. انظر: «روضة الطالبين» للنووي (10/ 351). (2) انظر: مختصر «القول في علم النجوم» للخطيب البغدادي (219)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 305). (3) (ت): «بتحكم منجمين».

(3/1345)


تقدَّمكم، وما يقعُ من الصِّدق فإنما يقعُ بحسب الاتِّفاق، والذي حصلتم عليه هو الحَدْسُ والتخمينُ بحسب ما في الكتب. ومما يستدلُّ به من ينتسبُ إلى الإسلام منهم على تصحيح دلالة النجوم: قولُه تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89]، ولا حجَّة في هذا البتَّة؛ لأنَّ إبراهيم ــ عليه الصلاة والسلام ــ إنما قال هذا ليدفعَ به قومَه عن نفسه، ألا ترى أنه عزَّ وجلَّ قال بعدُ: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 90 - 91]، فبيَّن تبارك وتعالى أنه إنما قال ذلك ليدفَعهم به، لِمَا كان عَزَمَ عليه من أمر الأصنام (1)، وليس يحتاجُ أحدٌ إلى معرفة أصحيحٌ هو أم سقيمٌ من النجوم؛ لأنَّ ذلك يُوجَدُ حِسًّا ويُعْلَمُ ضرورةً، ولا يُحتاجُ فيه إلى استدلالٍ وبحث» (2). قلت: قد احتُجَّ لهم بغير هذه الحُجَج، فنذكرُها ونبيِّن بطلانَ استدلالهم بها، وبيانَ الباطل منها. قال أبو عبدالله الرازي (3): «اعلم أنَّ المثبتينَ لهذا العلم احتجُّوا من كتاب الله بآيات. _________ (1) انظر ما سيأتي (ص: 1384) والتعليق عليه. (2) هذا آخر ما نقله المصنف من رسالة أبي القاسم عيسى بن علي. (3) فخر الدِّين، محمد بن عمر، صاحب التصانيف (ت: 606). ولم أجد هذا النصَّ فيما رأيت من كتبه، ومنها: «السر المكتوم». وبعض هذه الاستدلالات في تفسيره الكبير «مفاتيح الغيب» (7/ 26، 9/ 145، 26/ 147، 31/ 31)، و «السر المكتوم» (109، 110)، والنبوات من «المطالب العالية» (8/ 152).

(3/1346)


إحداها: الآياتُ الدالةُ على تعظيم هذه الكواكب. فمنها: قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]، وأكثرُ المفسرين على أنَّ المراد هو الكواكبُ التي تَسِيرُ (1) راجعةً تارةً ومستقيمةً أخرى (2). ومنها: قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76]، وقد صرَّح تعالى بتعظيم هذا القَسَم، وذلك يدلُّ على غاية جلالة مَواقِع النجوم ونهاية شرفها (3). ومنها: قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1 - 3]، قال ابنُ عباس: «الثَّاقب هو زُحَل؛ لأنه يثقُبُ بنوره سَمْكَ السموات السَّبع» (4). ومنها: أنه تعالى بيَّن إلهيَّته بكَونِ هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره فقال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. النوع الثاني: الآياتُ الدالة على أنَّ لها تأثيرًا في هذا العالم؛ كقوله _________ (1) غير محررة في (د). وفي (ق، ت): «تصير». وستأتي على الصواب. (2) انظر ما سيأتي (ص: 1360). (3) انظر: «فرج المهموم» (44). (4) ذكره ابن الجوزي في «زاد المسير» (9/ 81) دون التعليل. وأخرج الطبري (24/ 352) والحربي في «غريب الحديث» (2/ 739) عنه من وجهين أن الثاقب: المضيء. وفي وجهٍ ثالث: الكواكب المضيئة.

(3/1347)


تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، وقوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4]، قال بعضهم: المرادُ هذه الكواكب (1). النوع الثالث: الآياتُ الدالةُ على أن في الأيام ما يكون نحسًا، كقوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16]، وقوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] (2). النوع الرابع: الآياتُ الدالةُ على أنه تعالى وضعَ حركات هذه الأجرام على وجهٍ يُنتَفَعُ بها في مصالح هذا العالَم؛ فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61]. النوع الخامس: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسَّك بعلوم النجوم، فقال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89]. النوع السادس: أنه قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، ولا يكونُ المرادُ من هذا كِبَرَ الجُثَّة؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ ذلك، فوجبَ أن يكون المرادُ كِبَرَ القَدْرِ والشَّرف. _________ (1) يحكى عن معاذ بن جبل. ولا يصح. انظر: «النكت والعيون» (6/ 194)، و «تفسير السمعاني» (6/ 146)، و «البحر المحيط» (8/ 412). (2) النوع الثالث سقط من (ق).

(3/1348)


وقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، ولا يجوزُ أن يكون المرادُ أنه تعالى خلقها ليُستَدلَّ بتركيبها وتأليفها على وجود الصَّانع؛ لأنَّ هذا القَدْرَ حاصلٌ في تركيب البَقَّة والبعوضة، ودلالةُ حصول الحياة (1) في بِنْية الحيوانات على وجود الصَّانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلَكيَّة على وجود الصَّانع؛ لأنَّ الحياةَ لا يَقْدِرُ عليها أحدٌ إلا الله، أما تركيبُ الأجسام وتأليفُها فقد يقدرُ على جنسه غيرُ الله. فلمَّا كان هذا النوعُ من الحكمة حاصلًا في غير الأفلاك، ثم إنه تعالى خصَّها بهذا التشريف، وهو قولُه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} = عَلِمنا أنَّ له تعالى في تخليقها أسرارًا عالية، وحِكَمًا بالغة، تتقاصرُ عقولُ البشر عن إدراكها. ويَقْرُبُ من هذه الآية قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]؛ ولا يمكنُ أن يكونَ المرادُ أنه تعالى خلقها على وجهٍ يمكنُ الاستدلالُ بها على وجود الصَّانع الحكيم؛ لأنَّ كونها دالةً على الافتقار إلى الصَّانع أمرٌ ثابتٌ لها لذاتها؛ لأنَّ كلَّ متحيِّزٍ فإنه مُحْدَث، وكلَّ مُحْدَثٍ فإنه مفتقرٌ إلى الفاعل، فثبت أنَّ دلالةَ المتحيِّزات على وجود الفاعل أمرٌ ثابتٌ لها لذواتها وأعيانها، وما كان كذلك لم يكن سببَ الفعل والجَعْل، فلم يمكن (2) حملُ قوله: {وَمَا خَلَقْنَا _________ (1) في الأصول: «وفي حصول الحياة». والمثبت من «روح المعاني» (12/ 103). (2) في الأصول: «يكن». والمثبت من (ط).

(3/1349)


السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} على هذا الوجه، فوجب حملُه على الوجه الذي ذكرناه. النوع السابع: رُوِي أنَّ عمر بن الخيَّام (1) كان يقرأ كتابَ «المِجَسْطي» (2) على أستاذه، فدخلَ عليهم واحدٌ من أجلاف المتفقِّهة، فقال لهم: ماذا تقرؤون؟ فقال عمرُ بن الخيَّام: نحن في تفسير آيةٍ من كتاب الله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]، فنحن ننظرُ كيف خلقَ السماء، وكيف بناها، وكيف صانها عن الفُروج. النوع الثامن: أنَّ إبراهيم عليه السلام لما استدلَّ على إثبات الصَّانع تعالى بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، قال له نمرود: أتدَّعي أنه يحيي ويميتُ بواسطة الطبائع والعناصر، أو لا بواسطة هذه الأشياء؟ فإن ادعيتَ الأول فذلك مما لا تجده البتَّة؛ لأنَّ كلَّ ما يحدُث في هذا العالم فإنما يحدُث بواسطة أحوال العناصر الأربعة والحركات الفلَكيَّة. وإذا ادعيتَ الثاني فمثلُ هذا الإحياء والإماتة حاصلٌ مني ومن كلِّ أحد؛ فإنَّ الرجلَ قد يكونُ سببًا (3) لحدوث الولد لكن بواسطة تمزيج الطبائع _________ (1) (ق): «الختام». (ت): «الحسامي». شاعرٌ فارسي، فيلسوف، عالم بالرياضيات والفلك، قدح أهلُ زمانه في دينه (ت: 515). انظر: «أخبار الحكماء» (327)، و «الأعلام» (5/ 38). (2) لبَطْليموس، في علم الهيئة وحركات النجوم، ثلاث عشرة مقالة، تناوله من بعده بالشرح والاختصار والتقريب. انظر: «أخبار الحكماء» (130)، و «كشف الظنون» (2/ 1594). (3) في الأصول: «مسندا». والمثبت من (ط). وفي «مفاتيح الغيب» للرازي (7/ 17): «فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي».

(3/1350)


وتحريك الأجرام الفلَكيَّة، وكذلك قد يميتُ (1) بهذه الوسائط. وهذا هو المرادُ من قوله تعالى حكايةً عن الخصم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. ثمَّ إنَّ إبراهيم عليه الصلاةُ والسلام أجاب عن هذا السؤال بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، يعني: هَبْ أنه سبحانه إنما يُحْدِثُ حوادثَ العالم بواسطة الحركات الفلَكيَّة، لكنَّه تعالى هو المبداء (2) للحركات الفلَكيَّة؛ لأنَّ تلك الحركات لا بدَّ لها من سبب، ولا سببَ لها سوى قدرة الله تعالى، فثبتَ أنَّ حوادثَ هذا العالم وإن سلَّمنا أنها إنما حصلت بواسطة الحركات الفلَكيَّة لكنَّه لمَّا كان المدبِّر لتلك الحركات الفلَكيَّة هو الله تعالى كان الكلُّ منه، بخلاف الواحد منَّا، فإنَّا وإن قَدَرْنا على الإحياء والإماتة بواسطة الطبائع وحركات الأفلاك، إلا أنَّ حركات الأفلاك ليست منَّا، بدليل أنَّا لا نقدرُ على تحريكها على خلاف التَّحريك الإلهي، وظَهَر الفَرق. وهذا هو المرادُ من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، يعني: هَبْ أنَّ هذه الحوادثَ في هذا العالم حصلت بحركة الشَّمس من المشرق، إلا أنَّ هذه الحركة من الله؛ لأنَّ كلَّ جسمٍ متحرِّكٍ فلا بدَّ له من محرِّك، وذلك المحرِّكُ لست أنتَ ولا أنا، فلِمَ لا تحرِّكها من المغرب؟! فثبتَ أنَّ اعتمادَ إبراهيم الخليل في معرفة ثبوت الصَّانع على الدلائل _________ (1) (ق): «ولذلك قد نميت». وهو تحريف. (2) (ق): «المبدأ».

(3/1351)


الفلَكيَّة، وأنه ما نازع الخصمَ في كون هذه الحوادث السفليَّة مرتبطةً بالحركات الفلَكيَّة. واعلم أنكَ إذا عرفتَ نهجَ الكلام في هذا الباب علمتَ أنَّ القرآنَ مملوءٌ من تعظيم الأجرام الفلَكيَّة وتشريف الكُرات الكوكبيَّة. * وأمَّا الأخبار، فكثيرة. منها: ما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشَّمس والقمر واستدبارهما (1). ومنها: أنه لمَّا مات ولدُه إبراهيم انكسفت الشَّمس، ثمَّ إنَّ الناسَ قالوا: إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقال: «إنَّ الشَّمس والقمرَ آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» (2). ومنها: ما روى ابنُ مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ذُكِرَ _________ (1) جزءٌ من حديثٍ طويلٍ باطلٍ لا أصل له، أخرجه الحكيم الترمذي في «المناهي» (33)، من مفاريد عباد بن كثير الثقفي، وهو متروك، والحديث من منكراته، ودلائل الوضع لائحةٌ عليه. انظر: «أحوال الرجال» للجوزجاني (177)، و «الكامل» لابن عدي (4/ 334)، و «التهذيب» (5/ 101)، و «شرح مشكل الوسيط» لابن الصلاح (1/ 295)، و «المجموع» (2/ 110)، و «البدر المنير» (2/ 304)، و «التلخيص الحبير» (1/ 113)، و «تنزيه الشريعة المرفوعة» (2/ 397). وانظر ما يأتي (ص: 1402). (2) من حديثي المغيرة بن شعبة وعائشة، أخرجهما البخاري (1043، 1046)، ومسلم (901، 915).

(3/1352)


القَدَرُ فأمسكوا، وإذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكِرَ النجومُ فأمسكوا» (1). ومن الناس من يروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسافروا والقمرُ في العقرب» (2)، ومنهم من يروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه (3)، وإن كان المحدِّثون _________ (1) روي من حديث ابن مسعود، وأبي ذر، وثوبان، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبيد بن عبد الغافر مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطاووس مرسلًا. قال ابن رجب في «فضل علم السلف» (51): «روي من وجوهٍ متعددةٍ في أسانيدها مقال». وجلُّها شديد الضعف. وحسَّن حديث ابن مسعود الذي أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/ 198) العراقيُّ في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 25) وابن حجر في «الفتح» (11/ 477)، ولا يصح، فإن فيه مسهر بن عبد الملك، وليس بالقوي، وقد تفرَّد به عن الأعمش، وهذا لا يحتمل منه. وضعفه السخاوي في «فتح المغيث» (3/ 270). وانظر: «المداوي» (1/ 364). وحديث أبي ذر أخرجه ابن بطة في «الإبانة» (1275، 1982 - القدر)، وحديث أبي هريرة أخرجه أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (4/ 133)، وأحدهما خطأ والآخر منكر. وحديث عبيد بن عبد الغافر عند أبي نعيم في «معرفة الصحابة» (4784) وإسناده ضعيفٌ جدًّا. انظر: «الإصابة» (4/ 160). وانظر لباقي طرق الحديث: «السلسلة الصحيحة» (34). (2) أخرجه الصُّولي في «الأوراق» - نقله السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (321)، وليس في القسم المطبوع - بإسنادٍ شديد الضعف مسلسل بالعلل؛ شيخ الصولي متهمٌ بالكذب، ومن دونه فيهم من لا يحتجُّ به، وليس كما قال في «الدرر المنتثرة». وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (35/ 179): «كذبٌ مختلقٌ باتفاق أهل الحديث». وذكره الصغاني في «الموضوعات» (99). وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1426). (3) أخرج ابن الجنيد في «سؤالاته» ليحيى بن معين (60) عن علي رضي الله عنه كراهته للزواج أو السفر في المحاق أو إذا نزل القمر العقرب، وإسناده ضعيفٌ جدًّا، وحكم عليه ابن حجر في «اللسان» (4/ 324) بالنكارة؛ لأنَّ المعروف عن علي الإنكار على من يعتقد ذلك، أمَّا ابن معين فحكى ابن الجنيد عنه أنه لم ينكره، ولعلَّه إنما لم ينكره على راويه عمر بن مجاشع ورأى العهدة فيه على من دونه. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 297) من وجهٍ آخر فيه من لم أعرفه، كأنه مسروقٌ من الأوَّل. وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1427) والتعليق عليه.

(3/1353)


لا يقبلونه. * وأمَّا الآثار، فكثيرة. منها: عن عليٍّ أنَّ رجلًا أتاه، فقال له: إني أريدُ الخروج في تجارة، وكان ذلك في مَحَاقِ الشَّهر، فقال: تريدُ أن يمحقَ اللهُ تجارتك؟! استقبِل هلالَ الشَّهر بالخروج (1). وعن عكرمة أنَّ يهوديًّا منجِّمًا قال له ابنُ عباس: ويحك، تُخْبِرُ الناسَ بما لا تدري؟! فقال اليهودي: إنَّ لك ابنًا وهو في المَكْتَب، ويجيءُ غدًا محمومًا، ويموتُ في اليوم العاشر منه. قال ابنُ عباس: ومتى تموتُ أنت؟ قال: في رأس السَّنة. ثمَّ قال لابن عباس: لا تموتُ أنت حتى تعمى. ثمَّ جاء ابنُ ابن عباس وهو محموم، ومات في العاشر، ومات اليهوديُّ في رأس السَّنة، ولم يمت ابن عباسٍ رضي الله عنه حتى ذهبَ بصرُه (2). _________ (1) «ربيع الأبرار» (1/ 101) دون إسناد. وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1432). (2) أخرجه ابن النجار في «التاريخ المجدد لمدينة السلام» ــ في ترجمة علي بن طراد، كما في «فرج المهموم» لابن طاووس (110)، ولم ينقل إسناده ــ. وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1433).

(3/1354)


وعن الشعبي قال: قال أبوالدرداء: «والله لقد فارق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وتركنا ولا طائرٌ يطيرُ بجناحيه إلا ونحن ندَّعي فيه علمًا» (1). وليست الكواكبُ موكَّلةً بالفساد والصَّلاح، ولكنَّ فيها دليلَ بعض الحوادث، عُرِف ذلكَ بالتجربة. وجاء في الآثار أنَّ أول من أُعطِيَ هذا العلمَ آدم؛ وذلك أنه عاش حتى أدركَ من ذرِّيته أربعينَ ألف أهل بيت، وتفرَّقوا عنه في الأرض، وكان يغتمُّ لخفاء خبرهم عليه، فأكرمه الله تعالى بهذا العلم، وكان إذا أراد أن يعرفَ حال أحدهم حَسَبَ له بهذا الحساب، فيقفُ على حالته (2). وعن ميمون بن مهران، أنه قال: «إيَّاكم والتكذيبَ بالنجوم، فإنه علمٌ من علم النُّبوة» (3). وعنه أيضًا أنه قال: «ثلاثٌ ارفُضوهنَّ؛ لا تنازعوا أهلَ القَدَر، ولا تذكروا أصحابَ نبيِّكم إلا بخير، وإيَّاكم والتكذيبَ بالنجوم؛ فإنه مِن علم _________ (1) أخرجه أبو يعلى (5109)، وابن منيع (3849 - المطالب العالية، 237 - إتحاف الخيرة» من حديث أبي الدرداء. وروي من مسند أبي ذر، عند أحمد (5/ 153، 162)، والطيالسي (481)، وابن حبان (65)، وغيرهم. وهو حديث واحدٌ وقع فيه اختلافٌ في وصله وانقطاعه وتسمية صحابيِّه. والأشبه أنه منقطعٌ من مسند أبي ذر. انظر: «مسند البزار» (3897)، و «علل الدارقطني» (6/ 290)، و «أطراف الغرائب والأفراد» لابن طاهر (4629، 4653)، و «المطالب العالية» لابن حجر (4/ 214). (2) هذا من الافتراء والبهت، كما سيذكر المصنف (ص: 1440). (3) «ربيع الأبرار» (1/ 100) دون إسناد.

(3/1355)


النُّبوة» (1). ورُوِي أنَّ الشافعيَّ كان عالمًا بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد، فحكمَ الشافعيُّ أنَّ هذا الولدَ ينبغي أن يكون على العضو الفُلانيِّ منه خالٌ صفتُه كذا وكذا، فوُجِدَ الأمرُ كما قال (2). * وأيضًا: أنه تعالى حكى عن فرعون أنه كان يذبحُ أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، والمفسرون قالوا: إنَّ ذلك إنما كان لأنَّ المنجِّمين أخبروه بأنه سيجيءُ ولدٌ من بني إسرائيل، ويكونُ هلاكُه على يده. وهذه الروايةُ ذكرها محمد بن إسحاق وغيره (3). وهذا يدلُّ على اعتراف النَّاس قديمًا وحديثًا بعلم النجوم. * وأمَّا المعقول؛ فهو أنَّ هذا علمٌ ما خَلَتْ عنه ملَّةٌ من الملل، ولا أمَّةٌ من الأمم، ولا يُعرَفُ تاريخٌ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهلُ ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم، ومعوِّلين عليه في معرفة المصالح، ولو كان هذا العلمُ فاسدًا بالكليَّة لاستحال إطباقُ أهل المشرق والمغرب من _________ (1) أخرج الإمام أحمد في «فضائل الصحابة» (19، 1739)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 149) عنه قال: «ثلاث ارفضوهن، سب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والنظر في النجوم، والنظر في القدر». وإسناده صحيح. فهذا هو اللفظ المعروف للأثر. (2) انظر: «مناقب الشافعي» للرازي (328)، وما سيأتي (ص: 1445). (3) أخرجه الطبريُّ في «التفسير» (2/ 45) من رواية ابن إسحاق. وأخرج عبدالرزاق (2/ 87)، والطبري (19/ 518) عن قتادة نحوه. وانظر: «معاني القرآن» للنحاس (5/ 157)، و «تفسير القرطبي» (13/ 223)، وكلام المصنف الآتي (ص: 1453) والتعليق عليه.

(3/1356)


أوَّل بناء العالم إلى آخره عليه (1). وقال بَطْليموس في بعض كتبه: «بعض الناس يعيبونَ هذا العلم، وذلك العيبُ إنما حصلَ من وجوه: الأول: عجزُهم عن معرفة حقيقة مواضع الكواكب بدقائقها وثوانيها (2)، وذلك أنَّ الآلات الرَّصديَّة لا تنفكُّ عن مُسامحاتٍ لا يفي بضبطها الحِسُّ؛ لأجل قلَّتها في الآلات الرَّصدية، لكنَّها وإن قلَّت في هذه الآلات إلا أنها في الأجرام الفلَكيَّة كثيرة، فإذا تباعَدت الأرصادُ حصلَ بسبب تلك المسامحات تفاوتٌ عظيمٌ في مواضع الكواكب (3). الثاني: أنَّ هذا العلمَ علمٌ مبنيٌّ على معرفة الدلائل الفلَكيَّة، وتلك الدلائلُ لا تحصلُ إلا بتمزيجاتِ أحوال الكواكب، وهي كثيرةٌ جدًّا، ثمَّ إنها مع كثرتها قد تكونُ متعارضةً ولا بدَّ فيها من الترجيح، وحينئذٍ يصعبُ على أكثر الأفهام الإحاطةُ بتلك التَّمزيجات الكثيرة، وبعد الإحاطة بها فإنه يصعبُ الترجيحاتُ الجيِّدة، فلهذا السَّبب لا يتفقُ من يحيطُ بهذا العلم كما ينبغي إلا الفردُ بعد الفرد، ثمَّ إنَّ الجهَّالَ يُظهِرُونَ من أنفسهم كونَهم عارفين بهذا العلم، فإذا حَكَمُوا وأخطؤوا ظنَّ الناسُ أنَّ ذلك بسبب أنَّ هذا العلمَ ضعيف. الثالث: أنَّ هذا العلمَ لا يفي بإدراك الجزئيَّات على وجه التفصيل الباهر، فمن حَكَمَ على هذا الوجه فقد يقعُ في الخطأ. _________ (1) انظر: «المطالب العالية» للرازي (8/ 152). (2) (ت، د): «وثوابتها». (ق): «ومواتيها». (ط): «ومراتبها». وكله تحريف. (3) انظر ما تقدم (ص: 1189).

(3/1357)


فلهذه الأسباب الثلاثة توجَّهت المطاعنُ إلى هذا العلم». وحُكِيَ أنَّ الأكاسرة كان إذا أراد أحدُهم طَلَبَ الولدِ أمر بإحضار المنجِّم، ثمَّ كان ذلك الملكُ يخلو بامرأته، فساعةَ ما يقعُ الماءُ في الرَّحِم يأمرُ خادمًا على الباب يضربُ طستًا يكونُ في يده، فإذا سمع المنجِّمُ طنينَ الطَّست أخذ الطالعَ وحكمَ عليه (1)، حتى يُخْبِر بعدد السَّاعات التي يمكثُ الولدُ في بطن أمه، ثمَّ إنه كان يأخذُ الطالعَ ــ أيضًا ــ عند الولادة مرةً أخرى ويحكمُ عليه. فلا جَرَمَ كانت أحكامُهم كاملةً قويَّة؛ لأنَّ الطالعَ الحقيقيَّ هو طالعُ مسقَط النطفة، فإنَّ حدوثَ الولد إنما يكونُ في ذلك الوقت، فأما طالعُ الولادة فهو طالعٌ مستعار؛ لأنَّ الولدَ لا يحدثُ في ذلك الوقت وإنما ينتقلُ من مكانٍ إلى مكانٍ آخر. ورُوِي أنَّ في عهد أَرْدْشِير بن بابَك (2) أنه قال في العهد الذي كتبه لولده: لولا اليقينُ بالبَوارِ الذي على رأس ألف سنةٍ لكنتُ أكتبُ لكم كتابًا إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا أبدًا! وعَنى بالبَوار ما أخبره المنجِّمون من أنه يزول مُلكهم عند رأس ألف سنةٍ من مُلك گُشْتاسْپ (3)، والمرادُ منه: زوالُ دولتهم وظهورُ دولة _________ (1) «ربيع الأبرار» (1/ 102). (2) من ملوك الفرس. (3) أحد ملوكهم الكبار المتقدمين. وفي الأصول: «كستاست». وهو تحريف. انظر: «الفهرست» (15، 307)، و «مختصر تاريخ الدول» (47)، و «الملل والنحل» (1/ 136، 253)، و «طبقات الشافعية» (5/ 324)، و «لقطة العجلان» (90).

(3/1358)


الإسلام. ورُوِي أنه دخلَ الفضلُ بن سهلٍ على المأمون في اليوم الذي قُتِلَ فيه، وأخبره أنه يُقْتَلُ في هذا اليوم بين الماء والنار، فأنكرَ المأمونُ ذلك عليه، وقوَّى قلبَه، ثمَّ اتفقَ أنه دخلَ الحمَّام فقُتِلَ في الحمَّام (1)، وكان الأمرُ كما أخبر». ثمَّ قال (2): «واعلم أنَّ التجاربَ في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية» (3). قلت: فهذا أقصى ما قرَّر به الرازيُّ كلامَ هؤلاء ومذهبَهم، ولقد نثَر الكنانة، ونَفَضَ الجَعْبة، واستفرغَ الوُسْع، وبذلَ الجهد، ورَوَّجَ وبَهْرَج، وقَعْقَعَ وفَرْقَع، وجَعْجَعَ ولا ترى طِحْنًا، وجمَع بين ما يُعْلَمُ بالاضطرار أنه كذبٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه، وبين ما يُعْلَمُ بالاضطرار أنه خطأٌ في تأويل كلام الله ومعرفة مراده. ولا يروجُ ما ذكره إلا على مُفْرِطٍ في الجهل بدين الرسل وما جاؤوا به، أو مقلِّدٍ لأهل الباطل والمُحال من المنجِّمين وأقاويلهم، فإن جمَع بين الأمرين شَرِبَ كلامه شُربًا! ونحن بحمد الله ومعونته وتأييده نبيِّنُ بطلانَ استدلاله واحتجاجه، فنقول: _________ (1) انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 42)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 300). (2) أي: الرازي. (3) هذا آخر ما نقله المصنف من احتجاج الرازي لصناعة التنجيم.

(3/1359)


* أمَّا الاستدلالُ بقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}؛ فإنَّ أكثر المفسِّرينَ على أنَّ المراد هو الكواكبُ التي تسيرُ راجعةً تارةً ومستقيمةً أخرى، فهذا القولُ قد قاله جماعةٌ من المفسِّرين (1)، وأنها الكواكبُ الخمسة: زُحَل وعطارد والمشتري والمرِّيخ والزُّهَرة، ويروى عن عليٍّ (2)، واختاره مقاتل (3) وابن قتيبة (4). قالوا: وسمَّاها خُنَّسًا لأنها في سيرها تتقدَّمُ إلى جهة المشرق، ثم تَخْنُس، أي: تتأخَّر، وكنوسُها استتارُها في مغربها، كما تَكْنِسُ الظِّباءُ وبقرُ الوحش، أي: تأوي إلى كِناسها، وهي أكنَّتها. وتسمَّى هذه الكواكب: المتحيِّرة؛ لأنها تسيرُ مستقيمةً وتسيرُ راجعة. وقيل: كُنوسُها بالنسبة إلى الناظر وهو استتارُها تحت شعاع الشَّمس. وقيل: هي النجوم كلُّها. وهو اختيارُ أبي عبيدة (5)، وقاله الحسنُ وقتادة (6). وعلى هذا القول، فيكون القسَمُ بها باعتبار أحوالها الثلاثة: مِن طلوعها، _________ (1) انظر: «زاد المسير» (9/ 42)، و «تفسير الطبري» (24/ 251). وقال المصنف في «أيمان القرآن» (184): «وهو الصواب». (2) أخرجه الطبري (24/ 251)، وغيره. انظر: «الدر المنثور» (8/ 431). (3) في «تفسيره» (3/ 456). وفي (ق): «ابن مقاتل». وهو خطأ. (4) في «غريب القرآن» (517)، و «الأنواء» (126). (5) في «مجاز القرآن» (2/ 287). وفي الأصول: «أبي عبيد». وهو تحريف. وعلى الصواب في «زاد المسير»، وهو مصدر المصنف. (6) أخرجه عنهما الطبري (24/ 251، 252).

(3/1360)


وغروبها، وما بينهما. فهي خُنَّسٌ عند أول الطلوع؛ لأنَّ النجمَ منها يُرى كأنه يبدو ويَخْنُس، وكنَّسٌ عند غروبها؛ تشبيهًا بالظِّباء التي تأوي إلى كِناسها، وهي جَوَارٍ مابين طلوعها وغروبها. خُنَّسٌ عند الطلوع جوارٍ بعده، كُنَّسٌ عند الغروب. وهذا كلُّه بالنسبة إلى أفق كلِّ بلدٍ يكونُ لها فيه الأحوالُ الثلاثة. وقال عبدالله بن مسعود: هي بقرُ الوحش (1). وهي روايةٌ عن ابن عباس (2)، واختاره سعيد بن جبير (3). وقيل ــ وهو أضعفُ الأقوال ــ: إنها الملائكة. حكاه الماورديُّ في «تفسيره» (4). فإن كان المرادُ بعضَ هذه الأقوال غيرَ ما حكاه الرازيُّ فلا حجَّة له. وإن كان المرادُ ما حكاه، فغايتُه أن يكونَ اللهُ سبحانه قد أقسمَ بها كما أقسمَ بالليل والنهار، والضحى، ومكة، والوالد وولده، والفجر وليالٍ عشر، والشَّفع والوتر، والسماء والأرض، واليوم الموعود، وشاهدٍ ومشهود، والنَّفس، والمرسلات، والعاصفات، والنَّاشرات، والفارقات، والنَّازعات، والنَّاشطات، والسَّابحات، والسَّابقات، وما نُبْصِرُه ومالا نُبْصِرُه من كلِّ _________ (1) أخرجه الطبري (24/ 252)، وعبد الرزاق (2/ 351)، والطبراني في «الكبير» (9/ 219)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 142)، وصححه الحاكم (2/ 516) ولم يتعقبه الذهبي. (2) أخرجها الطبري (24/ 253). (3) أخرجه الطبري (24/ 254). وهذا القول ليس بالظاهر، لوجوهٍ كثيرةٍ بسطها المصنف في «أيمان القرآن» (186 - 189). (4) «النكت والعيون» (6/ 216)، حكاه احتمالًا.

(3/1361)


غائبٍ عنَّا وحاضر، مما فيه التنبيهُ على كمال ربوبيته وعزَّته وحكمته وقدرته وتدبيره وتنوُّع مخلوقاته الدَّالَّة عليه، والمرشدة إليه، بما تضمَّنته من عجائب الصَّنعة وبديع الخِلْقَة، وتشهدُ لفاطرها وبارئها بأنه الواحدُ الأحدُ الذي لا شريكَ له، وأنه الكاملُ في علمه وقدرته ومشيئته ووحدانيته وحكمته وربوبيته ومُلكه، وأنها مسخَّرةٌ مذلَّلةٌ منقادةٌ لأمره مطيعةٌ لمراده منها. ففي الإقسام بها تعظيمٌ لخالقها تبارك وتعالى، وتنزيهٌ له عمَّا نسبه إليه أعداؤه الجاحدون المعطِّلون لربوبيته وقدرته ومشيئته ووحدانيته، وأنَّ مَن هذه عبيدُه (1) ومماليكُه وخلقُه وصنعُه وإبداعُه فكيف تُجْحَدُ ربوبيتُه وإلهيتُه؟! وكيف تُنْكَرُ صفاتُ كماله (2) ونعوتُ جلاله؟! وكيف يسوغُ لذي حِسٍّ سليمٍ وفطرةٍ مستقيمةٍ تعطيلُها عن صانعها، أو تعطيلُ صانعها عن نعوت جلاله وأوصاف كماله وعن أفعاله؟! فإقسامُه بها أكبرُ دليلٍ على فساد قول نوعي المعطِّلة والمشركين الذين جعلوها آلهةً تُعْبَد، مع دلائل الحُدوث والعبوديَّة والتَّسخير والافتقار عليها، وأنها أدلةٌ على بارئها (3) وفاطرها وعلى وحدانيته، وأنه لا تنبغي الربوبيةُ والإلهيةُ لها بوجهٍ ما، بل لا تنبغي إلا لمن فطرها وبرأها، كما قال القائل: تأمَّلْ سطورَ الكائناتِ فإنها ... من الملأ الأعلى (4) إليك رسائلُ وقد خُطَّ فيها لو تأمَّلتَ خَطَّها ... ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ _________ (1) (ت): «هذه الأمور». (2) (ت): «صفات كماله وعن أفعاله». (3) في الأصول: «على أربابها». والمثبت من (ط). (4) (ق): «الملك الأعلى». والبيتان سلف تخريجهما (ص: 1025).

(3/1362)


وقال آخر: فواعجبَا كيف يُعصَى الإله ... أم كيف يجحدُه جاحدُ (1) ولله في كلِّ تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنه واحدُ فلم يكن إقسامُه بها سبحانه مقرِّرًا بذلك (2) علمَ الأحكام النجوميَّة كما يقولُه الكاذبون المفترون، بل مقرِّرًا لكمال ربوبيته ووحدانيته، وتفرُّده بالخلق والإبداع، وكمال حكمته وعلمه وعظمته. وهذا نظيرُ إخباره سبحانه عن خَلقِها وعن حكمة خالقها (3) بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ _________ (1) (ت): «الجاحد». ومضى تخريج الأبيات (ص: 642). (2) (ت): «مقررًا أحكام». (3) (ت، د): «حكمة خلقها».

(3/1363)


يَعْقِلُونَ} [النحل: 12]. وهؤلاء المشركون يعظِّمون الشَّمس والقمرَ والكواكبَ تعظيمًا يسجدون لها به، ويتذلَّلون لها، ويسبِّحونها تسابيحَ معروفةً في كتبهم، ودعواتٍ لا ينبغي أن يُدعى بها إلا خالقُها وفاطرُها وحده. ويقولُ بعضهم في كتابه: مصحف الشَّمس، مصحف القمر، مصحف زُحل، مصحف عطارد (1). وبعضهم يقول: تسبيحة الشَّمس، تسبيحة القمر، تسبيحة عطارد، تسبيحة زُحَل، ولا يتحاشى من ذلك (2). وبعضهم يقول: دعوة الشَّمس، دعوة القمر، دعوة عطارد، دعوة زُحَل. وبعضهم يقول: هيكل الشَّمس والقمر وعطارد (3). وأصله: أنَّ الهيكلَ هو البيتُ المبنيُّ للعبادة، وكان الصَّابئون يبنون لكلِّ كوكبٍ من هذه هيكلًا، ويُصَوِّرون فيه ذلك الكوكب ويتخذُونه لعبادته وتعظيمه ودعائه، ويزعمون أنَّ روحانيَّة ذلك الكوكب تتنزَّلُ عليهم فتخاطبُهم وتقضي حوائجَهم (4)، وشاهدوا ذلك منها وعاينوه، وتلك _________ (1) ومن هؤلاء أبو معشر البلخي (المتقدم ذكره). انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 507، 535)، و «الرد على المنطقيين» (287). ونسبوا إلى هرمس (وهو عندهم إدريس عليه السلام) مثل ذلك. انظر: «السر المكتوم» (88)، و «كشف الظنون» (2/ 1711). (2) انظر: «السر المكتوم» (123 - 129). (3) انظر: «درء التعارض» (1/ 313)، و «منهاج السنة» (2/ 192)، و «الرد على المنطقيين» (287)، و «بغية المرتاد» (369)، و «الرد على البكري» (2/ 567). (4) انظر ما تقدم (ص: 1002) والتعليق عليه.

(3/1364)


الروحانيَّةُ هي الشياطينُ تنزَّلتْ عليهم، وخاطبتْهم، وقَضَتْ حوائجَهم (1). ثمَّ لمَّا رامَ هذا الفعلَ من تستَّر منهم بالإسلام، ولم يُمْكِنه أن يبني بيتًا (2) يعبدُها فيه، كتبَ لها دعواتٍ وتسبيحاتٍ وأذكارًا سمَّاها: هياكل، ثمَّ من اشتدَّ تستُّره وخوفُه أخرجَها في قالب حروفٍ وكلماتٍ لا تُفْهَم، لئلَّا يُبادَر إلى إنكارها وردِّها! ومن لم يَخَفْ منهم خرَّج (3) تلك الدَّعوات والتسبيحات والأذكار بلسان من يخاطبُه بالفارسية والعربية وغيرها، فلمَّا أنكرَ عليه أهلُ الإيمان، قال: إنما ذكرتُ هذه معرفةً لهذا العلم وإحاطةً به، لا اعتقادًا له، ولا ترغيبًا فيه. وقد وَصَفَ (4) ذلك العلمَ وقرَّره على أتمِّ تقرير، وحَمَله هديَّةً إلى مَلِكه فأثابه عليه جملةً من الذهب، يقال: إنه ألفُ دينار (5)، وصار ذلك الكتابُ (6) _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 173، 10/ 451، 11/ 292)، و «الصفدية» (1/ 241)، و «النبوات» (1058)، و «الرد على المنطقيين» (286، 535)، و «الرد على البكري» (1/ 170). (2) (ق، د): «يبني لها بيوتا». (3) (د، ق، ص): «خرج بتلك». (ط): «صرح بتلك». (4) أي: الرازي. وهو المقصود في هذا السياق. (5) ذكر شيخ الإسلام في «نقض التأسيس» (1/ 447) أنه صنَّفه لأم الملك علاء الدين، وأنها أعطته عليه ألف دينار، وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب. (6) وهو «السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم»، وفي نسبته إلى الرازي خلافٌ ضعيف، وهو له بلا ريب، ومن طالعه وله أنسٌ بأسلوب الرازي لم يتردد في ذلك. طبع في الهند طبعة حجرية. انظر: «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» للزركان (111).

(3/1365)


إمامًا لأهل هذا الفنِّ، إليه يلجؤون، وعليه يعوِّلون، وبه يحتجُّون، ويقولون: شهرةُ مصنِّفه وجلالتُه وعلمُه وفضلُه لا تُنكَرُ ولا تُجْحَد. وفي هذا الكتاب من مخاطبة الشَّمس والقمر والكواكب بالخطاب الذي لا يليقُ إلا بالله عز وجلَّ ولا ينبغي لأحدٍ سواه، ومن الخضوع والذُّلِّ والعبادة التي لم يكن عُبَّادُ الأصنام يبلغونها من آلهتهم (1). فيا لله! أتجعلُ (2) قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} دليلًا على هذا ومقدمةً له في أول الكتاب؟! فإن كان الإقسامُ بها دليلًا على تأثيراتها في العالم ــ كما يقولون ــ فينبغي أن يكون سائرُ ما أُقسِمَ به كذلك، وإن لم يكن القسمُ دليلًا بطلَ الاستدلالُ به. * وأمَّا قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، ففيها قولان: أحدهما: أنها النجومُ المعروفة. وعلى هذا ففي مواقِعها أقوال: أحدها: أنه انكدارُها وانتثارُها يومَ القيامة. وهذا قولُ الحسن (3). والمنجِّمون يكذِّبون بهذا ولا يقرُّون به. _________ (1) انظر: «السر المكتوم» (18، 19، 115، 122 - 131). (2) (ت): «فيا لله العجب». (3) أخرجه الطبري (23/ 148).

(3/1366)


والثاني: أنَّ مواقعَها منازلُها. قاله عطاء وقتادة (1). والثالث: أنه مغاربُها. والرَّابع: أنه مواقعُها عند طلوعها وغروبها. حكاه ابنُ عطية عن مجاهد وأبي عبيدة (2). والخامس: أنَّ مواقعَها مواضعُها من السماء. وهذا الذي حكاه ابنُ الجوزي عن قتادة حكاه ابنُ عطية عنه (3)، فيحتملُ أن يكونا واحدًا وأن يكونا قولين. السادس: أنَّ مواقعَها انقضاضُها إثر العفريت وقت الرجوم. حكاه ابنُ عطية أيضًا. ولم يذكر أبو الفرج ابن الجوزي (4) سوى الثلاثة الأُول. والقول الثاني: أنَّ مواقعَ النجوم هي منازلُ القرآن ونجومُه التي نزلت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مدَّة ثلاثٍ وعشرين سنة. قال ابنُ عطية: «ويؤيِّدُ هذا القول عَوْدُ الضمير على القرآن في قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، وذلك أنَّ ذِكرَه لم يتقدَّم إلا على هذا التأويل، _________ (1) أخرجه الطبري (23/ 148). (2) «المحرر الوجيز» (14/ 268). وانظر: «تفسير مجاهد» (2/ 652)، و «مجاز القرآن» (2/ 252). (3) كذا في الأصول. أراد أنَّ هذا القول الخامس حكاه ابن عطية عن قتادة، وهو يشبه القول الثاني الذي حكاه ابن الجوزي عنه. (4) في «زاد المسير» (8/ 151).

(3/1367)


ومن لا يتأوَّلُ هذا التأويلَ يقول: إنَّ الضميرَ يعودُ على القرآن وإن لم يتقدَّم ذكرُه؛ لشهرة الأمر ووضوح المعنى، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، وغير ذلك» (1). قلت: ويؤيِّدُ القولَ الأول أنه أعاد الضميرَ بلفظ الإفراد والتذكير، ومواقعُ النجوم جمعٌ، فلو كان الضميرُ عائدًا عليها لقال: إنها لقرآنٌ كريم، إلا أن يقال: مواقعُ النجوم دلَّ على القرآن، فأعاد الضميرَ عليه؛ لأنَّ مُفسِّرَ الضمير يُكتفى فيه بذلك، وهو من أنواع البلاغة والإيجاز. فإن كان المرادُ من القسم نجومَ القرآن بطلَ استدلالُه بالآية، وإن كان المرادُ الكواكب ــ وهو قولُ الأكثرين ــ فلِمَا فيها من الآيات الدَّالَّة على ربوبية الله تعالى وانفراده بالخلق والإبداع، فإنه لا ينبغي أن تكونَ الإلهيةُ إلا له وحده، كما أنه وحده المنفردُ بخلقها وإبداعها وما تضمَّنته من الآيات والعجائب، فالإقسامُ بها أوضحُ دليلٍ (2) على تكذيب المشركين والمنجِّمين والدَّهريَّة ونوعَي المعطِّلة، كما تقدم. * وكذلك قولُه: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، على أنَّ فيه قولين آخرين غير القول الذي ذكره (3). أحدهما: أنه الثُّريَّا. وهذا قولُ ابن زيد. حكاه عنه أبو الفرج ابن الجوزي (4). _________ (1) «المحرر الوجيز» (14/ 267). (2) (ت): «أعظم دليل». (3) أي: الرازي، فيما سبق (ص: 1347). (4) «زاد المسير» (9/ 81).

(3/1368)


وعنه روايةٌ ثانية: أنه زُحَل، حكاها عنه ابنُ عطية (1). الثاني: أنه الجدي. حكاه ابن عطية عن ابن عباس. وقولٌ آخر حكاه أبو الفرج ابن الجوزي عن عليِّ بن أحمد النيسابوري (2) أنه جنسُ النجوم. * وأمَّا قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، فلم يقل أحدٌ من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء بالتفسير أنها النجوم. وهذه الرواياتُ عنهم (3): فقال ابنُ عباس: هي الملائكة. قال عطاء: وُكِّلت بأمورٍ عرَّفهم اللهُ العملَ بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبِّرُ أمورَ الدنيا أربعة: جبريل وهو موكَّلٌ بالرِّيح (4) والجنود، وميكائيل وهو موكَّلٌ بالقَطر والنبات، وملكُ الموت وهو موكَّلٌ بقبض الأنفس، وإسرافيل وهو ينزلُ الأمر عليهم. وقيل: جبريلُ للوحي، وإسرافيلُ للصُّور. _________ (1) «المحرر الوجيز» (15/ 397). (2) الواحدي (ت: 468). انظر: «البسيط» (23/ 404)، و «الوسيط» (4/ 464)، و «الوجيز» (1192). (3) من «زاد المسير» (9/ 17). (4) في الأصول: «بالوحي». تحريف. وعلى الصواب في «أيمان القرآن» (214). وانظر: «زاد المسير»، و «شعب الإيمان» للبيهقي (1/ 433)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (13/ 430)، و «الدر المنثور» (8/ 405)، وغيرها.

(3/1369)


وقال ابن قتيبة: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} الملائكة تنزلُ بالحلال والحرام (1). ولم يذكر المتوسِّعون في نقل أقوال المفسِّرين، كابن الجوزي والماوردي وابن عطية غير الملائكة (2)، حتى قال ابنُ عطية: «ولا أحفظُ خلافًا أنها الملائكة» (3)، هذا مع توسُّعه في النقل، وزيادته فيه على أبي الفرج ابن الجوزي وغيره، حتى إنه لينفردُ بأقوالٍ لا يحكيها غيره. فتفسيرُ المدبِّرات بالنجوم كذبٌ على الله وعلى المفسِّرين (4). * وكذلك المقسِّمات أمرًا؛ لم يقل أحدٌ من أهل التفسير العالِمين به: إنها النجوم، بل قالوا: هي الملائكة التي تُقَسِّمُ أمرَ الملكوت بإذن ربِّها من الأرزاق والآجال والخَلق في الأرحام، وأمرِ الرِّياح والجبال. قال ابنُ عطية: «لأنَّ كلَّ هذا إنما هو بملائكةٍ تخدمُه، فالآيةُ تتضمَّنُ جميعَ الملائكة؛ لأنهم كلَّهم في أمورٍ مختلفة. قال أبو الطفيل عامرُ بن واثلة: كان عليٌّ رضي الله عنه على المنبر، فقال: لا تسألوني عن آيةٍ من كتاب الله أو سنَّةٍ ماضيةٍ إلا قلتُ لكم، فقام إليه ابنُ الكَوَّاء، فسأله عن: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}، فقال: الذاريات: الرياح، والحاملات: السَّحاب، والجاريات: السُّفن، والمقسِّمات: الملائكة. ثمَّ قال: سَل سؤالَ تعلُّم، ولا _________ (1) «غريب القرآن» (512). (2) تقدم تعليقًا (ص: 1348) ما حكي عن معاذ أنها النجوم. (3) «المحرر الوجيز» (15/ 300). (4) انظر: «التبيان في أيمان القرآن» (216).

(3/1370)


تسأل سؤال تعنُّت» (1). وكذلك قال أبو الفرج، ولم يذكر فيه خلافًا (2) في المقسِّمات أمرًا: «يعني: الملائكة تقسِّمُ الأمورَ على أمر الله به. قال ابنُ السائب: المقسِّماتُ أربعة: جبريل وهو صاحبُ الوحي والغلظة ــ يعني: العقوبة على أعداء الرسل ــ، وميكائيل وهو صاحبُ الرِّزق والرحمة، وإسرافيل وهو صاحبُ الصُّور واللوح، وعزرائيل (3) وهو قابضُ الأرواح» (4). فتفسيرُ الآية بأنها النجومُ تفسيرُ المنجِّمين ومن سلك سبيلَهم. * وأمَّا وصفُه تعالى بعضَ الأيام بأنها أيامُ نَحْس؛ كقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ _________ (1) «المحرر الوجيز» (14/ 3). والأثر أخرجه عبد الرزاق (2/ 241)، والطبري (22/ 390)، والشاشي (620) وغيرهم. وصححه الحاكم (2/ 466) ولم يتعقبه الذهبي. وخرَّجه الضياء في «المختارة» (566)، وعلَّق البخاري موضع الشاهد منه. انظر: «تغليق التعليق» (4/ 318). وابن الكوَّاء، واسمه عبد الله، من رؤوس الخوارج، وله أخبارٌ كثيرةٌ مع علي رضي الله عنه، وكان يلزمه ويعنته في الأسئلة، وقيل: إنه رجع عن رأي الخوارج. انظر: «اللسان» (3/ 329)، و «تاريخ دمشق» (27/ 96). (2) «ولم يذكر» ليست في (ت، ص). (3) ورد في تسميته بهذا آثارٌ كثيرة عن السلف، ولم يصحَّ فيه شيءٌ مرفوع. انظر: «تفسير ابن كثير» (6/ 2766)، و «أجوبة الحافظ ابن حجر على أسئلة بعض تلاميذه» (83 - 94، 109)، و «معجم المناهي اللفظية» (390). (4) «زاد المسير» (8/ 28).

(3/1371)


رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16]، فلا ريب أنَّ الأيامَ التي أوقعَ اللهُ سبحانه فيها العقوبةَ بأعدائه وأعداء رسله كانت أيامًا نَحِسَاتٍ عليهم؛ لأنَّ النَّحْسَ أصابهم فيها، وإن كانت أيامَ خيرٍ لأوليائه المؤمنين، فهي نَحْسٌ على المكذِّبين سَعْدٌ للمؤمنين، وهذا كيوم القيامة، فإنه عسيرٌ على الكافرين يومُ نَحْسٍ لهم، يسيرٌ على المؤمنين يومُ سَعْدٍ لهم. قال مجاهد: {أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}: مَشَائيم. وقال الضحَّاك: معناه: شديدة (1). أي: شديدةُ البرد. حتى كان البردُ عذابًا لهم. قال أبو علي (2): وأنشدَ الأصمعيُّ في النَّحْس بمعنى البرد: كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ ... يُحِيلُ شَفِيفُها الماءَ الزُّلالا (3) وقال ابن عباس: {نَحِسَاتٍ}: متتابعات (4). * وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19]، _________ (1) في الأصول: «شديد» في الموضعين. والمثبت من «المحرر الوجيز» (13/ 93)، وهو مصدر المصنف. (2) الفارسي. انظر: «اللسان» و «التاج» (نحس). (3) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي، في شعره المجموع (126). والسلافة: الخمر. وعُرِضت لنحسٍ: أي وُضِعت في ريح فبرَدت. وشفيفها: بَرْدُها. ويحيل: يَصُبّ. يقول: بردُها يَصُبُّ الماء في الحلق، ولولا بردُها لم يُشْرَب الماء. فسَّره الأصمعي. انظر: «تهذيب اللغة» (4/ 320). (4) أخرج الطبريُّ قول ابن عباس ومجاهد والضحاك (21/ 446، 447).

(3/1372)


فكان اليومُ نَحْسًا عليهم لإرسال العذاب عليهم، [{مُسْتَمِرٌّ}] (1) , أي: لا يُقْلِعُ عنهم كما تُقْلِعُ مصائبُ الدُّنيا عن أهلها، بل هذا النَّحْسُ دائمٌ على هؤلاء المكذِّبين للرسل، و {مُسْتَمِرٌّ} صفةٌ للنَّحْس، لا لليوم، ومن ظنَّ أنه صفةٌ لليوم وأنه كان يومَ أربعاء آخرَ الشَّهر، وأنَّ هذا اليومَ نحسٌ أبدًا (2)، فقد غَلِطَ وأخطأ فهمَ القرآن، فإنَّ اليومَ المذكور بحسب ما يقعُ فيه، وكم لله من نعمةٍ على أوليائه في هذا اليوم، وإن كان له فيه بلايا ونِقَمٌ على أعدائه، كما يقعُ ذلك في غيره من الأيام (3). فسُعودُ الأيام ونحوسُها إنما هو بسُعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الربِّ، ونُحوس الأعمال ومخالفتها لما جاءت به الرسل. واليومُ الواحدُ يكونُ يوم سَعْدٍ لطائفة، ونحسٍ لطائفة، كما كان يومُ بدرٍ يومَ سعدٍ للمؤمنين، ويومَ نحسٍ على الكافرين. فما للكوكب والطالع والقِرانات وهذا السَّعْد والنَّحْس؟! وكيف يُستنبَطُ علمُ أحكام النجوم من ذلك؟! ولو كان المؤثِّر في هذا النَّحْس هو نفسَ الكوكب والطالع لكان نحسًا على العالم، فأمَّا أن يقتضي الكوكبُ كونَه نحسًا لطائفةٍ سعدًا لطائفةٍ فهذا هو المُحال. _________ (1) ليست في الأصول. ويقتضيها السياق. (2) كما وقع في حديثٍ موضوع. انظر: «الموضوعات» لابن الجوزي (917)، و «لطائف المعارف» لابن رجب (148)، و «السلسلة الضعيفة» (1581). (3) انظر: «المحرر الوجيز» (14/ 155)، و «التحرير والتنوير» (24/ 260)، و «روح المعاني» (14/ 84، 86)، و «معجم المناهي اللفظية» (346).

(3/1373)


فصل * وأما استدلالُه بالآيات الدَّالَّة على أنَّ الله سبحانه وضعَ حركات هذه الأجرام على وجهٍ يُنتفَعُ بها في مصالح هذا العالم، بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] = فمِن أطرف (1) الاستدلال. فأين في هذه الآيات ما يدلُّ على ما يدَّعيه المنجِّمون من كذبهم وبهتانهم وافترائهم؟! ولو كان الأمرُ كما يدَّعيه هؤلاء الكذَّابون لكانت الدَّلالةُ والعبرةُ فيه أعظمَ من مجرد الضِّياء والنور والحساب، ولكان الأليقُ ذِكرَ ما تقتضيه من السَّعد والنَّحس، وتعطيه من السَّعادة والشَّقاوة، وتهبُه من الأعمار والأرزاق والآجال والصَّنائع والعلوم والمعارف والصُّور الحيوانيَّة والنباتيَّة والمعدنيَّة وسائر ما في هذا العالم من الخير والشرِّ. وأمَّا قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}، فهو تعظيمٌ وثناءٌ منه تعالى على نفسه، بجَعْلِ هذه البروج والشمس والقمر في السماء. وقد اختُلِفَ في البروج المذكورة في هذه الآية؛ فأكثرُ السَّلف على أنها القصورُ أو الكواكبُ العِظام (2). _________ (1) (ص): «أظرف». بالمعجمة. (2) انظر: «الدر المنثور» (5/ 69، 6/ 269، 8/ 462).

(3/1374)


قال ابن المنذر في «تفسيره» (1): حدثنا موسى: حدثنا شجاع: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قال: قصورًا فيها حَرَس. حدثنا موسى: حدثنا أبو بكر: حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن إسماعيل، عن يحيى بن رافع، قال: قصورًا في السماء. حدثنا موسى: حدثنا أبو بكر: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: النجوم. يعني: {بُرُوجًا}. وكذلك قال عكرمة. حدثنا أبو أحمد: حدثنا يعلى: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قال: النجوم الكبار. وهذا موافقٌ لمعنى اللفظة في اللغة؛ فإنَّ العربَ تسمِّي البناءَ المرتفع: برجًا، قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساءُ: 78]. وقال الأخطل (2): كأنها برجُ روميٍّ يشيِّده ... لُزَّ (3) بجِصٍّ وآجُرٍّ وأحجار _________ (1) أخرج هذه الآثار الطبري (17/ 77، 19/ 288، 289). (2) ديوانه، صنعة السكري (124)، يصف ناقته. (3) أي: ألصق. وتحرَّفت في (ت، ص) وسقطت من (ق). والمثبت من (د) وهي رواية الديوان وكتب اللغة و «المحرر الوجيز» (12/ 35 - المغربية) مصدر المصنف. وفي (ط) و (11/ 62 - القطرية) وبعض المصادر: «بانٍ».

(3/1375)


قال الأعمش: كان أصحابُ عبد الله يقرؤونها: (تباركَ الذي جعَل في السَّماء قُصُورًا). وأمَّا المتأخِّرون من المفسِّرين فكثيرٌ منهم يذهبُ إلى أنها البروجُ الاثني عشر (1) التي تنقسمُ عليها المنازل، كلُّ برجٍ منزلتان وثُلث (2). وهذه المنازلُ الثمانيةُ والعشرون يبدو منها للناظر أربعة عشر منزلًا أبدًا، ويخفى منها أربعة عشر منزلًا، كما أنَّ البروجَ يظهرُ منها أبدًا ستة، ويخفى ستة. والعربُ تسمِّي أربعة عشر منزلًا منها: شاميَّة، وأربعة عشر: يمانيَّة؛ فأول الشاميَّة: الشَّرْطان، وآخرها: السِّماكُ الأعزل، وأول اليمانيَّة: الغَفْرُ، وآخرها: الرِّشاء، إذا طلعَ منها منزلٌ من المشرق غاب رقيبُه من المغرب، وهو الخامس عشر (3). وبها تنقسمُ فصولُ السَّنة الأربع (4): فللربيع منها: الحَمَلُ، والثورُ والجوزاء. ومنازلها: الشَّرْطان، والبُطَين، والثريَّا، والدَّبَران، والهَقْعة، والهَنْعة، والذِّراع. _________ (1) كذا في الأصول. والصواب: الاثنا عشر. (2) انظر: «المحرر الوجيز» (11/ 61)، و «زاد المسير» (4/ 387)، و «الأنواء» لابن قتيبة (120). وورد هذا عن ابن عباس، أخرجه الخطيب في «القول في علم النجوم»، وهو في مختصره (140) دون إسناد. (3) انظر: «الأنواء» للثقفي (27). (4) كذا في الأصول. والجادة: الأربعة. وفي الكتاب من نحو هذا مواضع نبهت على بعضها.

(3/1376)


وللصيف منها: السَّرطان، والأسد، والسُّنبلة. ومنازلها: النَّثْرة، والطَّرْف، والجَبْهة، والزُّبْرة، والصَّرْفة، والعَوَّاء، والسِّماك. وللخريف منها: الميزان، والعقرب، والقَوس. ومنازلها: الغَفْر، والزُّبانى، والإكليل، والقَلْب، والشَّوْلة، والنَّعائم، والبَلْدة. وللشتاء منها: الجَدي، والدَّلو، والحوت. ومنازلها: سعد الذَّابح، وسعد بُلَع، وسعد السُّعود، وسعد الأخبية، والفَرْغ المقدَّم ــ ويسمَّى: الأول ــ، والفَرْغ المؤخَّر ــ ويسمَّى: الثاني ــ، والرِّشاء. ولما كان نزولُ القمر في هذه المنازل معلومًا بالعِيان والمشاهدة، ونزولُ الشمس فيها إنما هو بالحساب لا بالرؤية، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} [يونس: 5]، وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38 - 39]، فخصَّ القمرَ بذكر تقدير المنازل دون الشمس، وإن كانت مقدَّرةَ المنازل؛ لظهور ذلك للحِسِّ في القمر، وظهور تفاوت نوره بالزِّيادة والنقصان في كلِّ منزلٍ منزل (1). ولذلك كان الحسابُ القمريُّ أشهرَ وأعرفَ عند الأمم، وأبعدَ من الغلط، وأصحَّ للضبط من الحساب الشمسيِّ، ويشتركُ فيه الناسُ دون الحساب الشمسيِّ، ولهذا قال تعالى في القمر: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] ولم يقُل ذلك في الشمس. _________ (1) «منزل» الثانية ليست في (ت، ص).

(3/1377)


ولهذا كانت أشهرُ الحجِّ والصَّوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسَيْره ونزوله في منازله، لا على حساب الشمس وسَيْرها؛ حكمةً من الله ورحمةً وحفظًا لدينه؛ لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذُّر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخلُ في الدِّين من الاختلاف والتخليط ما دخلَ في دين أهل الكتاب (1). فهذا الذي أخبرنا تعالى به مِن شأن المنازل وسَيْر القمر فيها، وجَعْل الشَّمس سراجًا وضياءً يُبْصِرُ به الحيوان (2)، ولولا ذلك لم يُبْصِر الحيوان، فأين هذا مما يدَّعيه الكذَّابون من علم الأحكام التي كذبُها أضعافُ صدقها؟! فصل * وأمَّا ما ذكره عن إبراهيم خليل الرحمن أنه تمسَّك بعلم النجوم حين قال: {إِنِّي سَقِيمٌ}، فمن الكذب والافتراء على خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس في الآية أكثر من أنه نظَر نظرةً في النجوم، ثم قال لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ}، فمن ظنَّ مِن هذا أنَّ علمَ أحكام النجوم مِن علم الأنبياء، وأنهم كانوا يُراعونه ويُعانُونه، فقد كذَب على الأنبياء، ونسَبَهم إلى ما لا يليقُ بهم، وهو مِن جنس من نسَبَهم إلى الكهانة والسِّحر، وزعَم أن تلقِّيهم الغيبَ من جنس تلقِّي غيرهم، وإن كانوا فوقهم في ذلك، لكمال نفوسهم وقوَّة استعدادها وقبولها لفيض العُلويَّات عليها. _________ (1) انظر: «أيمان القرآن» (252). (2) (ت، ص): «يبصره الحيوان».

(3/1378)


وهؤلاء لم يعرفوا الأنبياءَ ولا آمنوا بهم، وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرِّياضات الذين خُصُّوا بقوة الإدراك وزكاة النفوس وطهارة الأخلاق (1)، ونَصَبوا أنفسَهم لإصلاح الناس (2) وضبط أمورهم. ولا ريب أنَّ هؤلاء أبعدُ الخلق عن الأنبياء واتباعهم ومعرفتهم ومعرفة مُرسِلهم وما أرسلهم به، هؤلاء في شأنٍ والرسلُ في شأنٍ آخر، بل هم ضدُّهم في علومهم وأعمالهم وهَديهم وإرادتهم وطرائقهم ومَعَادهم، وفي شأنهم كلِّه، ولهذا تجدُ أتباعَ هؤلاء ضدَّ أتباع الرسل في العلوم والأعمال والهَدي والإرادات. ومتى بعَث اللهُ رسولًا يُعاني التنجيم، والتمزيجات، والطِّلَّسمات، والأوفاق، والتَّداخين، والبَخُورات، ومعرفة القِرانات، والحكم على الكواكب بالسُّعود والنُّحوس والحرارة والبرودة والذُّكورة والأنوثة؟! وهل هذه إلا صنائعُ المشركين وعلومُهم؟! وهل بُعِثَت الرسلُ إلا بالإنكار على هؤلاء ومَحْقِهم ومَحْقِ علومهم وأعمالهم من الأرض؟! وهل للرسل أعداءٌ بالذَّات إلا هؤلاء ومن سلك سبيلَهم؟! وهذا معلومٌ بالاضطرار لكلِّ من آمن بالرسل صلواتُ الله وسلامه عليهم، وصدَّقهم فيما جاؤوا به، وعرَف مسمَّى رسول الله وعرَف مُرسِلَه. وهل كان لإبراهيم الخليل عليه الصلاةُ والسلام عدوٌّ مثل هؤلاء _________ (1) (ق): «وزكاة الأخلاق». (2) (ت، ص): «لإصلاح حالهم».

(3/1379)


المنجِّمين الصَّابئين؟! وحَرَّانُ (1) كانت دار مملكتهم، والخليلُ أعدى عدوٍّ لهم، وهم المشركون حقًّا، والأصنام التي كانوا يعبدونها كانت صُورًا وتماثيل للكواكب، وكانوا يتَّخذون لها هياكل ــ وهي بيوتُ العبادات ــ، لكلِّ كوكبٍ منهم هيكلٌ فيه أصنامٌ تناسبُه، فكانت عبادتُهم للأصنام وتعظيمُهم لها تعظيمًا منهم للكواكب التي وضعوا الأصنامَ عليها وعبادةً لها. وهذا أقوى السَّببَين في الشرك الواقع في العالَم، وهو الشركُ بالنجوم وتعظيمُها، واعتقادُ أنها أحياءٌ ناطقة، ولها روحانيَّاتٌ تتنزَّلُ على عابديها ومُخاطِبيها، فصوَّروا لها الصُّورَ الأرضية، ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعةً إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانيَّاتها، وكانت الشياطينُ تتنزَّلُ عليهم وتخاطبُهم وتكلِّمهم وتُرِيهم من العجائب ما يدعوهم إلى بَذْل نفوسهم وأولادهم وأموالهم لتلك الأجسام (2) والتقرُّب إليها (3). وكان مبدأُ هذا الشرك تعظيمَ الكواكب وظنَّ السُّعود والنُّحوس وحصولَ الخير والشرِّ في العالم منها، وهذا هو شركُ خواصِّ المشركين وأرباب النظر منهم، وهو شركُ قوم إبراهيم. والسببُ الثاني: عبادةُ القبور، والإشراكُ بالأموات، وهو شركُ قوم _________ (1) من مدن الجزيرة الفراتية، ظلَّت عامرةً حتى المئة السابعة، وهي اليوم أطلال. انظر: «معجم البلدان» (2/ 235)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (134). (2) (ط): «الأصنام». (3) انظر ما تقدم (ص: 1364).

(3/1380)


نوح، وهو أولُ الشِّركين (1) طَرَق العالم، وفتنتُه أعمُّ، وأهلُ الابتلاء به أكثر، وهم جمهورُ أهل الإشراك. وكثيرًا ما يجتمعُ السَّببان في حقِّ المشرك، يكونُ مَقابِريًّا نُجوميًّا. قال تعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. قال البخاري في «صحيحه» (2): قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان هؤلاء رجالًا صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلَكوا أوحى الشياطينُ إلى قومهم أن انصِبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففَعلوا، فلم تُعْبَد، حتى إذا هلَك أولئك ونُسِخَ العلمُ عُبِدَت». ولهذا لعن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الذين اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد (3). ونهى عن الصَّلاة إلى القبور (4). وقال: «اللهمَّ لا تجعَل قبري وثنًا يُعْبَد» (5). _________ (1) (ت، ص): «شرك». (2) (4920). (3) أخرجه البخاري (435، 1330، 1390) ومسلم (529، 530) من حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم. (4) أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي. (5) أخرجه مالك في «الموطأ» (475) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلًا. ورواه معمر وابن عجلان عن زيد بن أسلم مرسلًا. أخرجهما عبد الرزاق (1/ 406) وابن أبي شيبة (2/ 375، 3/ 345). وخالفهم عمر بن محمد بن صهبان (وهو ضعيف)، فرواه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعًا، أخرجه البزار ــ كما في «التمهيد» (5/ 43) ــ. وهو منكرٌ بلا ريب، والمحفوظ من هذا الوجه الإرسال، بل قال البزار: إنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه مرسلًا. وانظر: «فتح الباري» لابن رجب (3/ 246). وروي موصولا من حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 46)، وأبو يعلى (6681)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 47) وغيرهم بإسنادٍ ظاهرُه الحُسن، إلا أن البزار وأبا نعيم في «الحلية» (7/ 317) ارتابا في تفرُّده. وانظر: «تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي» (271). وروي موصولًا من حديث عمر. والصواب أنه موقوف. انظر: «علل الدارقطني» (2/ 220).

(3/1381)


وقال: «اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» (1). وقال: «إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» (2). وأخبَر أنَّ هؤلاء شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة (3). وهؤلاء هم أعداءُ نوح، كما أنَّ المشركين بالنجوم أعداءُ إبراهيم؛ فنوحٌ عاداه المشركون بالقبور، وإبراهيمُ عاداه المشركون بالنجوم، والطائفتان صوَّروا الأصنامَ على صُوَر معبودِيهم، ثمَّ عبَدوها. وإنما بُعِثَت الرسلُ بمَحْقِ الشرك من الأرض، ومَحْقِ أهله، وقَطْع _________ (1) هو جزء من الحديث الذي قبله. (2) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن عبد الله. (3) أخرجه البخاري (427) ومسلم (528) من حديث عائشة.

(3/1382)


أسبابه، وهَدْم بيوته، ومحاربة أهله، فكيف يُظَنُّ بإمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وخليل ربِّ الأرض والسماء، أنه كان يتعاطى علمَ النجوم، ويأخذُ منه أحكامَ الحوادث؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. وإنما كانت النظرةُ التي نَظَرها في النجوم (1) مِن معاريض الأفعال، كما كان قولُه: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقولُه: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقولُه عن امرأته سارة: «هذه أختي» مِن معاريض المقال، ليتوصَّل بها إلى غرَضه مِن كَسْر الأصنام، كما توصَّل بتعريضه بقوله: «هذه أختي» إلى خَلاصِها من يد الفاجر (2). ولما غَلُظ فهمُ هذا عن كثيرٍ من الناس، وكَثُفَت طباعُهم عن إدراكه، ظنُّوا أنَّ نظره في النجوم ليستنبطَ منها علمَ الأحكام (3)، وعَلِمَ أنَّ نجمَه وطالعَه يقضي عليه بالسَّقم، وحاشَ لله أن يُظَنَّ ذلك بخليله - صلى الله عليه وسلم - أو بأحدٍ من أتباعه. وهذا مِن جنس معاريض يوسف الصِّديِّق - صلى الله عليه وسلم - حين تفتيش أوعية أخيه عن الصَّاع، فإنَّ المفتِّش بدأ بأوعيهتم مع علمه أنه ليس فيها، وأخَّر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها، تعريضًا بأنه لا يَعْرِفُ في أيِّ وعاءٍ هي، ونفيًا للتُّهمة عنه بأنه لو كان عالمًا في أيِّ الأوعية هي لبادَر إليها، ولم يكلِّف نفسَه تعبَ التفتيش لغيرها. _________ (1) (ت، ق، د): «في علم النجوم». وهو خطأ. وعلى الصواب في (ص). (2) انظر ما تقدم (ص: 948). (3) انظر: «فرج المهموم» لابن طاووس (44).

(3/1383)


فلهذا نظرُ الخليلِ - صلى الله عليه وسلم - في النجوم توريةٌ وتعريضٌ محض، ينفي به عنه تهمةَ قومه ويتوصَّلُ به إلى كيد أصنامهم (1). فصل * وأمَّا الاستدلالُ بقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]، وأنَّ المرادَ به كِبَرُ القَدْرِ والشَّرف، لا كبرُ الجُثَّة= ففي غاية الفساد؛ فإنَّ المراد من الخَلق هاهنا الفعل، لا نفسُ المفعول، وهذا من أبلغ الأدلَّة على المَعاد، أي: أنَّ الذي خلق السموات والأرض ــ وخَلْقُها أكبرُ من خلقكم ــ كيف يُعْجِزُه خلقُكم بعدما تموتون خلقًا جديدًا؟! ونظيرُ هذا قوله تعالى في سورة يس: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}، أي: مثل هؤلاء المنكرين (2). فهذا استدلالٌ بشمول القدرة للنَّوعين، وأنها صالحةٌ لهما، فلا يجوزُ أن يثبت تعلُّقها بأحد المقدورَين دون الآخر. فكذلك قولُه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، أي: من لم تَعْجَز قدرتُه عن خلق العالم العُلويِّ والسُّفلي، كيف يعجزُ عن _________ (1) وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين. انظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 309)، و «المحرر الوجيز» (12/ 374)، و «الوسيط» للواحدي (3/ 528). وأجيب عن نظر إبراهيم عليه السلام بأجوبةٍ أخرى. انظر: «تنزيه الأنبياء» للشريف المرتضى (45 - 48)، و «معاني القرآن» للنحاس (6/ 40). (2) (ت): «المتكبرين».

(3/1384)


خلق الناس خلقًا جديدًا بعد ما أماتهم؟! ولا تعرُّض في هذا لأحكام النجوم بوجهٍ قطُّ، ولا لتأثير الكواكب. * وأمَّا قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، فلا ريب أنَّ خلقَ السموات والأرض مِن أعظم الأدلَّة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وعلمه وحكمته وانفراده بالربوبيَّة والوحدانيَّة، ومن سوَّى بين ذلك وبين البَقَّة، وجعَل العبرةَ والدلالةَ والعلمَ بوجود الربِّ الخالق الباراء المصوِّر منهما سواءً، فقد كابَر. والله سبحانه إنما يدعو عبادَه إلى النَّظر والفِكر في مخلوقاته العِظام؛ لظهور أثر الدَّلالة فيها، وبديع (1) عجائب الصَّنعة والحكمة فيها، واتِّساع مجال الفِكر والنَّظر في أرجائها، وإلا: ففي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنه واحدُ (2) ولكن؛ أين الآيةُ والدَّلالةُ في خَلْق العالم العُلويِّ والسُّفلي إلى خَلْق القَمْلة والبرغوث والبَقَّة؟! فكيف يسمحُ لعاقلٍ عقلُه أن يسوِّي بينهما، ويجعَل الدَّلالةَ مِن هذا كالدَّلالة من الآخر؟! والله سبحانه إنما يذكُر من مخلوقاته للدَّلالة عليه أشرفَها وأعظمَها وأظهرَها للحسِّ والعقل، وأبينَها دلالةً (3)، وأعجبَها صَنْعَة؛ كالسماء _________ (1) (ت، د): «وبدُوِّ». وهي قراءة جيدة. وفي طرة (د): «لعله: وبديع». (2) من أبياتٍ مضى تخريجها (ص: 642). (3) (ت): «وأثبتها دلالة».

(3/1385)


والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والنجوم والجبال والسَّحاب (1) والمطر، وغير ذلك من آياته، ولا يدعو عبادَه إلى التفكُّر في القمل والبراغيث والبعوض والبقِّ والكلاب والحشرات ونحوها، وإنما يذكُر ما يذكُر من ذلك في سياق ضرب الأمثال، مبالغةً في الاحتقار والضَّعف؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، فهنا لم يذكُر الذُّباب في سياق الدَّلالة على إثبات الصَّانع تعالى (2)، وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، وكذلك قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]. فتأمَّل ذِكرَ هذه المخلوقات الحقيرة في أيِّ سياق، وذِكرَ المخلوقات العظيمة في أيِّ سياق. وأمَّا قولُ من قال من المتكلِّمين المتكلِّفين: إنَّ دلالةَ حصول الحياة في الأبدان الحيوانيَّة أقوى من دلالة السموات والأرض على وجود الصَّانع تعالى= فبناءٌ من هذا القائل على الأصل الفاسد، وهو إثباتُ الجوهر الفَرد (3)، وأنَّ تأثيرَ الصَّانع تعالى في خَلْق العالم العُلويِّ والسُّفليِّ هو _________ (1) (ق): «والشجر». (2) في طرة (ت) هنا تعليقٌ لم يظهر جيدًا، بسبب التصوير، وفحواه أن في الآية إشارة إلى إثبات الصانع. (3) وهو الجزء الذي لا يتجزأ، والمتحيِّز الذي يقبل العَرض. انظر: «لمع الأدلة» للجويني (87)، و «الحدود الأنيقة» (71)، و «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» (419).

(3/1386)


تركيبُ تلك الجواهر وتأليفُها هذا التأليفَ الخاصَّ، والتركيبُ جنسُه مقدورٌ للبشر وغيرهم، وأمَّا الإحداثُ والاختراع فلا يقدرُ عليه إلا الله (1). والقولُ بالجوهر الفَرد وبناءُ المبدأ والمعاد عليه مما هو من أصول المتكلِّمين الفاسدة التي نازعهم فيها جمهورُ العقلاء، قالوا: وخَلقُ الله تعالى وإحداثُه لما يُحْدِثُه من أجسام العالم هو إحداثٌ لأجزائها وذواتها، لا مجرَّد تركيبٍ لجواهر منفردةٍ قد فرَغ من خلقها، وصنعُه وإبداعُه الآن إنما هو في تأليفها وتركيبها. وهذا من أقوال أهل البدع التي ابتدعوها في الإسلام (2)، وبنوا عليها المَعادَ وحدوثَ العالم، فسلَّطوا عليهم أعداء الإسلام ولم يُمْكِنْهم كَسْرُهم، لمَّا بنوا المبدأ والمَعادَ على أمرٍ وهميٍّ خياليٍّ، وظنُّوا أنه لا يتمُّ لهم القولُ بحدوث العالم وإعادة الأجسام إلا به، وأقام مُنازِعوهم حججًا كثيرةً جدًّا على بطلان القول بالجوهر، واعترفوا هم بقوة كثيرٍ منها وصحَّته، فأوقعَ ذلك شكًّا لكثيرٍ منهم في أمر المبدأ والمَعاد؛ لبنائه على شفا جُرفٍ هار (3). _________ (1) انظر: «شرح الأصول الخمسة» للقاضي عبدالجبار (96)، و «التمهيد» للباقلاني (41)، و «الشامل» للجويني (68)، و «الاقتصاد» للغزالي (19)، ومقدمات سائر كتب المتكلمين. (2) انظر: «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 152)، و «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد (135)، و «منهاج السنة» (1/ 315)، و «درء التعارض» (1/ 283، 7/ 288، 311). (3) انظر: «الفِصَل» (5/ 230 - 236)، و «الصفدية» (2/ 160)، و «منهاج السنة» (3/ 361)، و «نقض التأسيس» (1/ 130، 223)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 33، 545، 13/ 157).

(3/1387)


وأمَّا أئمةُ الإسلام وفحولُ النظَّار، فلم يعتمدوا على هذه الطريقة، وهي عندهم أضعفُ وأوهى من أن يبنوا عليها شيئًا من الدين، فضلًا عن حدوث العالم وإعادة الأجسام، وإنما اعتمدوا على الطرق التي أرشدَ اللهُ سبحانه إليها في كتابه، وهي حدوثُ ذاتِ الحيوان والنبات، وخَلْقُ نفس العالم العُلويِّ والسُّفلي، وحدوثُ السَّحاب والمطر والرياح وغيرها من الأجسام التي يُشَاهَدُ حدوثُها بذواتها لا مجرَّدُ حدوث تأليفها وتركيبها (1). فعند القائلين بالجوهر لا يُشْهَدُ أنَّ الله أحدثَ في هذا العالم شيئًا من الجواهر، وإنما أحدثَ تأليفَها وتركيبَها فقط، وإن كان إحداثُه لجواهره سابقًا متقدِّمًا قبل ذلك، وأمَّا الآن فإنما تحدُث الأعراض من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فقط وهي الأكوانُ عندهم، وكذلك المَعاد؛ فإنه سبحانه يفرِّقُ أجزاءَ العالم، وهو إعدامُه، ثمَّ يؤلِّفها ويجمعُها، وهو المَعاد. وهؤلاء احتاجوا إلى أن يستدلُّوا على كون عَينِ الإنسان وجواهره مخلوقة، إذ المُشاهَدُ عندهم بالحِسِّ دائمًا (2) هو حدوثُ أعراضٍ في تلك الجواهر من التأليف الخاصِّ (3)، وزعموا أنَّ كلَّ ما يُحْدِثُه الله من السَّحاب والمطر والزُّروع والثمار والحيوان فإنما يُحْدِثُ فيه أعراضًا، وهي جمعُ الجواهر التي كانت موجودةً وتفريقُها، وزعموا أنَّ أحدًا لا يعلمُ حدوثَ عينٍ من الأعيان بالمشاهَدة ولا بضرورة العقل، وإنما يُعْلَمُ ذلك _________ (1) انظر: «نقض التأسيس» (1/ 176)، و «درء التعارض» (7/ 302 - 311). (2) في الأصول: «وانما». والمثبت من (ط). (3) في الأصول: «الخالص». والمثبت أشبه.

(3/1388)


بالاستدلال. وجمهورُ العقلاء من الطوائف يخالفون هؤلاء، ويقولون: الربُّ لا يزالُ يُحْدِثُ الأعيان، كما دلَّ على ذلك الحِسُّ والعقلُ والقرآن؛ فإنَّ الأجسامَ الحادثة بالمشاهدة ذواتُها وأجزاؤُها حادثةٌ بعد أن لم تكن جواهر مفرقةً فاجتمعَت، ومن قال غير ذلك فقد كابر الحِسَّ والعقل، فإنَّ كونَ الإنسان والحيوان مخلوقًا مُحْدَثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمرٌ معلومٌ بالضرورة لجميع الناس، وكلُّ أحدٍ يعلمُ أنه حَدَثَ في بطن أمِّه بعد أن لم يكن، وأن عينَه حدَثت، كما قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، وليس هذا عندهم مما يُستَدلُّ عليه بل يُستَدلُّ به، كما هي طريقةُ القرآن؛ فإنه جعَل حدوثَ الإنسان وخلقَه دليلًا، لا مدلولًا عليه. وقولهم: «إنَّ الحادثَ أعراضٌ فقط، وأنه مركبٌ من الجواهر المفردة»؛ قولان باطلان، بل يُعْلَمُ (1) حدوثُ عين الإنسان وذاته وبطلانُ الجوهر الفرد، ولو كان القولُ بالجوهر صحيحًا لم يكن معلومًا إلا بأدلةٍ خفيةٍ دقيقة، فلا يكونُ [من] أصول الدِّين، بل ولا مقدِّمةً فيها (2). فطريقتُهم تتضمَّنُ جَحْدَ المعلوم، وهو حدوثُ الأعيان الحادثة وذواتها، وإثباتَ ما ليس بمعلوم ــ بل هو باطل ــ، وهو إثباتُ الجوهر الفرد. وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة (3). _________ (1) (ت): «نعم». (2) انظر: «درء التعارض» (1/ 124، 2/ 224، 3/ 339). (3) انظر: «الصواعق المرسلة» (985 - 988، 1187 - 1206).

(3/1389)


والمقصودُ الكلام على قوله: «إنَّ الاستدلال بحصول الحياة في بِنْية الحيوان على وجود الصَّانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلَكيَّة»، وهو مبنيٌّ على هذا الأصل الفاسد. * وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]، فعجبٌ من العجب! فإنَّ هذا من أقوى الأدلة وأبينها على بطلان قول المنجِّمين والدَّهرية الذين يُسْنِدُون جميعَ ما في العالم من الخير والشرِّ إلى النجوم وحركاتها واتصالاتها، ويزعمون أنَّ ما تأتي به من الخير والشرِّ مُغْنٍ عن تعريف (1) الرسل والأنبياء، وكذلك ما تُعطيه من السُّعود والنُّحوس. وهذا هو السَّببُ الذي سُقْنا الكلام لأجله معهم لمَّا حكينا قولَهم (2): إنه لمَّا كانت الموجوداتُ في العالم السُّفليِّ مترتِّبةً (3) على تأثير الكواكب والرُّوحانيَّات التي هي مدبِّراتُ الكواكب، وكان (4) في اتصالاتها نَظَرُ سعدٍ ونحس، وَجَبَ أن يكون في آثارها حُسْنٌ وقُبحٌ في الخَلق والأخلاق، والعقولُ الإنسانيةُ متساويةٌ في النوع، فوجبَ أن يدركها كلُّ عقلٍ سليم، ولا يتوقَّفُ إدراكُها على من هو مثلُ ذاك العاقل في النوع، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}. _________ (1) (ق، ت): «والشر فعن تعريف». وهو تحريفٌ قبيح. (2) فيما تقدم (ص: 1002، 1173). (3) في الموضعين المتقدمين: «مركبة». وفي «نهاية الأقدام»: «مرتبة». (4) في الأصول: «وإن كان». والمثبت من الموضع المتقدم (ص: 1002).

(3/1390)


إلى آخر كلامكم المتضمِّن خلقَ السموات الأرض بغير أمرٍ ولا نهيٍ ولا ثوابٍ ولا عقاب. وهذا هو الباطلُ الذي نفاهُ الله سبحانه عن نفسه، وأخبر أنه ظَنُّ أعدائه الكافرين، ولهذا اتفقَ المفسِّرون على أنَّ الحقَّ الذي خُلِقَت به السمواتُ والأرض هو الأمرُ والنهيُ وما يترتَّبُ عليهما من الثواب والعقاب (1)، فمن جحَد ذلك، وجحَد رسالةَ الرسل، وكفَر بالمعاد، وأحالَ حوادثَ العالم على حركات الكواكب، فقد زعَم أنَّ خلقَ السموات والأرض أبطلُ الباطل (2)، وأنَّ العالم خُلِقَ عبثًا، وتُرِكَ سُدى، وخُلِّي هملًا، وغايةُ ما خُلِقَ له أن يكون متمتعًا باللذَّات الحِسِّيَّة ــ كالبهائم ــ في هذه المدَّة القصيرة جدًّا، ثمَّ يفارقُ الوجودَ وتُحْدِثُ حركاتُ الكواكب أشخاصًا مثلَه هكذا أبدًا. فأيُّ باطلٍ أبطلُ من هذا؟! وأيُّ عبثٍ فوق هذا؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]. والحقُّ الذي خُلِقَت به السمواتُ والأرضُ وما بينهما هو إلهيَّةُ الربِّ المتضمِّنةُ لكمال حكمته وملكه، وأمرُه ونهيُه المتضمِّنُ لشرعه، وثوابُه وعقابُه المتضمِّنُ لعدله وفضله ولقائه. فالحقُّ الذي وُجِدَ به العالم كونُ الله سبحانه هو الإله الحقَّ المعبود، والآمرَ الناهي المتصرِّف في الممالك بالأمر والنهي، وذلك يستلزمُ إرسال _________ (1) انظر ما تقدم (ص: 1072) والتعليق عليه. (2) (ت): «من أبطل الباطل».

(3/1391)


الرسل وإكرامَ من استجابَ لهم وتمامَ الإنعام عليه، وإهانةَ من كفرَ بهم وكذَّبهم واختصاصَه بالشَّقاء والهلاك، وذلك معقودٌ بكمال حكمة الربِّ تعالى وقدرته وعلمه وعدله، وتمام ربوبيته وتصرُّفه وانفراده بالإلهية، وجَرَيان المخلوقات على مُوجَب حكمته وإلهيته وملكه التَّامِّ، وأنه أهلٌ أن يُعْبَدَ ويُطاع، وأنه أولى مَن أكرمَ أحبابَه وأولياءه بالإكرام الذي يليقُ بعظمته وغِناه وجُوده، وأهانَ أعداءه المُعرِضين عنه الجاحدين له المشركين به المسوِّين بينه وبين الكواكب والأوثان والأصنام في العبادة بالإهانة التي تليقُ بعظمته وجلاله وشدَّة بأسه. فهو الله العزيزُ العليم، غافرُ الذَّنب وقابلُ التَّوب شديدُ العقاب ذو الطَّول، لا إله إلا هو إليه المصير (1)، وهو ذو الرحمة الواسعة الذي لا يُرَدُّ بأسُه عن القوم المجرمين (2)، ألا له الخلقُ والأمرُ تباركَ الله ربُّ العالمين (3). وهو سبحانه خلقَ العالم العُلويَّ والسُّفليَّ بسبب الحقِّ، ولأجل الحقِّ، وضمَّنه الحقَّ، فبالحقِّ كان، وللحقِّ كان، وعلى الحقِّ اشتمل، والحقُّ هو توحيدُه، وعبادتُه وحده لا شريك له هو مُوجَب ذلك (4) ومقتضاه، وقام (5) بعدله الذي هو الحقُّ، وعلى الحقِّ اشتمل، فما خلقَ اللهُ شيئًا إلا بالحقِّ _________ (1) كما أخبر سبحانه في فاتحة سورة غافر. (2) كما أخبر في سورة الأنعام: 147. (3) كما في سورة الأعراف: 54. (4) (ق): «وموجب ذلك». وهو خطأ. (5) أي: العالم العلوي والسفلي.

(3/1392)


وللحقِّ، ونفسُ خلقه له حقٌّ، وهو شاهدٌ من شواهد الحقِّ، فإنَّ أحقَّ الحقِّ هو التوحيد، كما أنَّ أظلمَ الظُّلم هو الشرك. ومخلوقاتُ الربِّ تعالى كلُّها شاهدةٌ له بأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنَّ كلَّ معبودٍ باطلٌ سواه، وكلُّ مخلوقٍ شاهدٌ بهذا الحقِّ؛ إمَّا شهادةَ نُطْقٍ، وإمَّا شهادةَ حال، وإنْ ظَهَرَ بفعله وقوله خلافُها، كالمشرك الذي يشهدُ حالُ خلقِه وإبداعِه وصُنعِه لخالقه وفاطره أنه الله الذي لا إله إلا هو، وإنْ عبد غيرَه وزعَم أنَّ له شريكًا، فشاهدُ حاله مكذِّبٌ له مُبْطِلٌ لشهادة فعله وقالِه. وأمَّا قوله (1): «إنه لا يمكن أن يقال: المرادُ أنه خَلَقها على وجهٍ يمكنُ الاستدلالُ بها على الصانع الحكيم ... » إلى آخر كلامه. فيقال له: إذا كانت دلالتُها على صانعها أمرًا ثابتًا لها لذواتها، وذواتُها إنما وُجِدَتْ بإيجاده وتكوينه، كانت دلالتُها بسبب فعل الفاعل المختار لها، ولكنَّ هذا بناءٌ منه على أصلٍ فاسدٍ يكرِّره في كتبه، وهو أنَّ الذوات ليست بمجعولة، ولا تتعلَّقُ بفعل الفاعل (2)، وهذا مما أنكره عليه أهلُ العلم والإيمان، وقالوا: إنَّ كونها ذواتٍ، وإنَّ وجودَها وأوصافَها وكلَّ ما ينسبُ إليها هو بفعل الفاعل، فكونُها ذواتٍ وما يتبعُ ذلك من دلالتها على الصانع كلُّه بجَعْل الجاعل، فهو الذي جعَل الذوات والصِّفات، وثبوتُ دلالتها لذاتها لا ينفي أن تكون بجَعْل الجاعل، فإنه لمَّا جعَلها على هذه الصفة مستلزمةً لدلالتها عليه كانت دلالتُها عليه بجَعْلِه. _________ (1) أي: الرازي، فيما تقدم من احتجاجه. (2) انظر: «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» (170، 365).

(3/1393)


فإن قيل: لو قُدِّر عدمُ الجاعل لها لم يرتفع كونُها ذواتٍ، ولو كانت ذواتٍ بجَعْلِه لارتفع كونُها ذواتٍ بتقدير ارتفاعه. قيل: ما تعني بكونها ذواتٍ وماهيَّات؟ أتعني به تحقُّقَ ذلك في الخارج؟ أو في الذِّهن؟ أو أعمَّ منها؟ فإن عنيتَ الأول، فلا ريب في بطلان كونها ذواتٍ وماهيَّات، وعلى تقدير (1) ارتفاع الجاعل. وإن عنيتَ الثَّاني، فالصُّورُ الذِّهنيةُ مجعولةٌ له أيضًا؛ لأنه هو الذي علَّم فأوجَد الحقائق الذِّهنية في العلم، كما أنه الذي خلقَ فأوجَد الحقائقَ الذهنية في العَيْن، فهو الأكرمُ الذي خلق وعلَّم، فما في الذهن بتعليمه، وما في الخارج بخلقه. وإن عنيتَ القَدْرَ المشتركَ بين الخارج والذِّهن، وهو مسمَّى كونها ذواتٍ وماهيَّاتٍ بقطع النظر عن تقييدٍ بالذِّهن أو الخارج، قيل لك: هذه ليست بشيءٍ البتة، فإنَّ الشيء إنما يكون شيئًا في الخارج أو في الذِّهن والعلم، وما ليس له حقيقةٌ خارجيةٌ ولا ذهنيةٌ فليس بشيء، بل هو عدمٌ صِرْف، ولا ريب أنَّ العدمَ ليس بفعلِ فاعلٍ ولا جَعْلِ جاعل. فإن قيل: هي لا تنفكُّ عن أحد الوجودَين، إمَّا الذِّهني , وإمَّا الخارجي، ولكن نحن أخذناها مجرَّدةً عن الوجودَين، ونظرنا إليها من هذه الحيثيَّة وهذا الاعتبار، ثمَّ حَكمنا عليها بقطع النظر عن تقييدها بذهنٍ أو خارج. _________ (1) (ط): «على تقدير».

(3/1394)


قيل: الحكمُ عليها بشيءٍ ما (1) يستلزمُ تصوُّرَها ليمكنَ الحكمُ عليها، وتصوُّرُها مع أخذها مجرَّدةً عن الوجود الذِّهنِيِّ (2) مُحال. فإن قيل: مسلَّمٌ أنَّ ذلك مُحال، ولكن إذا أخذناها مع وجودها الذِّهنيِّ أو الخارجيِّ فهنا أمران: حقيقتُها وماهيتها، والثاني: وجودُها الذِّهنيُّ أو الخارجي، فنحن أخذناها موجودةً، وحكمنا عليها مجردةً، فالحكمُ على جزء هذا المأخوذ المتصوَّر. قيل: هذا القدرُ المأخوذُ عدمٌ محضٌ ــ كما تقدم ــ، والعدمُ لا يكونُ بجَعْلِ جاعل. ونكتةُ المسألة: أنَّ الذَّوات من حيث هي ذواتٌ إمَّا أن تكون وجودًا أو عدمًا، فإن كانت وجودًا فهي بجَعْلِ الجاعل، وإن كانت عدمًا فالعدمُ كاسمه، ولا يتعلَّقُ بجَعْلِ الجاعل (3). فصل * وأمَّا قولُه: إنَّ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كان اعتمادُه في إثبات الصَّانع على الدلائل الفلَكيَّة، كما قرَّره؛ فيقال: من العجب ذِكرُكم لخليل الرحمن في هذا المقام، وهو أعظمُ عدوٍّ لعبَّاد الكواكب والأصنام التي اتخِذَت على صُورِها، وهم أعداؤه الذين ألقوه في النار، حتى جعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وهو - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ الخلق براءةً منهم. _________ (1) (ت): «الحكم عليها مبني على ما». (2) (ق): «الوجود والذهن». وهو تحريف. (3) انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 144 , 8/ 182, 16/ 265).

(3/1395)


وأمَّا ذلك التقريرُ (1) الذي قرره الرازيُّ في المناظرة بينه وبين المَلِك المعطِّل؛ فمما لم يخطُر بقلب إبراهيم، ولا بقلب المشرك، ولا يدلُّ اللفظُ عليها البتَّة، وتلك المناظرةُ التي ذكرها الرازيُّ تشبه أن تكون مناظرةً بين فيلسوفٍ ومتكلِّم! فكيف يسوغُ أن يقال: إنها هي المرادةُ من كلام الله تعالى؟! فيُكْذَبَ على الله، وعلى خليله، وعلى المشرك المعطِّل! وإبراهيمُ أعلمُ بالله ووحدانيته وصفاته من أن يرضى (2) بهذه المناظرة. ونحن نذكرُ كلامَ أئمَّة التفسير في ذلك ليُفْهَم معنى المناظرة، وما دلَّ عليه القرآنُ من تقريرها. قال ابن جرير (3): معنى الآية: ألم تر يا محمَّد إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه حين قال له إبراهيم: ربِّي الذي يحيي ويميت، يعني بذلك: ربِّي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاءُ ويميتُ من أرادَ بعد الإحياء، قال: أنا أفعلُ ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردتُ قتله فلا أقتله، فيكون ذلك منِّي إحياءً له ــ وذلك عند العرب يسمَّى: إحياءً، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]ــ، وأقتلُ آخَر، فيكونُ ذلك منِّي إماتةً له. قال إبراهيمُ له: فإنَّ الله هو الذي يأتي بالشمس من مشرقها، فإن كنتَ صادقًا أنك إلهٌ فأتِ بها من مغربها. قال الله عزَّ وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، يعني: انقطَع وبطلَت حجَّته. _________ (1) في الأصول: «التدبير». والمثبت من (ط). (2) غير محررة في الأصول , ورسمها يشبه: «يوصى». وفي (ط): «يوحي إليه». ولعل الصواب ما أثبت. (3) (5/ 432 - 437).

(3/1396)


ثمَّ ذَكر من قال ذلك من السَّلف. فروى عن قتادة: ذُكِرَ لنا أنه دعا برجلين، فقتَل أحدَهما واستحيا الآخَر، وقال: أنا أحيي هذا وأميتُ هذا، قال إبراهيمُ عند ذلك: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب. وعن مجاهد: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أقتلُ من شئتُ، وأستحيي من شئتُ أدعُه حيًّا فلا أقتلُه. وقال ابن وهب: حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنَّ الجبَّار قال لإبراهيم: أنا أحيي وأميت، وإن شئتُ قتلتُك وإن شئتُ استحييتُك، فقال إبراهيم: إنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب. فبُهِتَ الذي كفر. وقال الربيع: لما قال إبراهيم: ربِّي الذي يحيى ويميت، قال هو ــ يعني نمرود ــ: فأنا أحيي وأميت، فدعا برجلين فاستحيا أحدَهما وقتَل الآخر، وقال: أنا أحيي وأميت، أي: أستحيي من شئتُ، فقال إبراهيم: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب. وقال السُّدِّي: لما خرجَ إبراهيمُ من النار أدخلوه على المَلِك، ولم يكن قبل ذلك دخَل عليه، فكلَّمه وقال له: من ربُّك؟ قال: ربِّي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، أنا آخذُ أربعةَ نفرٍ فأُدخِلهم بيتًا فلا يُطْعَمون ولا يُسْقَون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمتُ اثنين وسقيتُهما فعاشا، وتركتُ الاثنين فماتا، فعَرف إبراهيمُ أنَّ له قدرةً بسلطانه ومُلكه على أن يفعَل ذلك، قال إبراهيم: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من

(3/1397)


المغرب. فبُهِتَ الذي كفر (1)، وقال: إنَّ هذا إنسانٌ مجنون، فأخرِجُوه، ألا ترون أنه من جنونه اجتَرأ على آلهتكم فكسَرها، وأنَّ النارَ لم تأكله. وخشي أن يفتضحَ في قومه، وكان يزعمُ أنه ربٌّ، فأمَر بإبراهيم فأُخرِج. وقال مجاهد: أحيي فلا أقتُل، وأميتُ من قتلتُ. وقال ابن جريج: أُتِيَ برجلين، فقتَل أحدَهما وترَك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، أقتلُ (2) فأميتُ من قتلتُ، وأحيي فلا أقتُل. وقال ابن إسحاق: ذُكِرَ لنا ــ والله أعلم ــ أنَّ نمرودَ قال لإبراهيم: أرأيتَ إلهك هذا الذي تعبدُ وتدعو إلى عبادته وتذكرُ من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال إبراهيم: ربِّي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذُ الرجلين قد استوجبا القتلَ في حكمي، فأقتلُ أحدَهما فأكونُ قد أمتُّه، وأعفو عن الآخر فأتركُه، فأكونُ قد أحييتُه، فقال له إبراهيم عند ذلك: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، أَعرِفْ أنه كما تقول، فبُهِتَ عند ذلك نمرود، ولم يرجِع إليه شيئًا، وعرَف أنه لا يطيقُ ذلك. فهذا كلامُ السَّلف في هذه المناظرة، وكذلك سائرُ المفسِّرين بعدهم، لم يقل أحدٌ منهم قطُّ: إن معنى الآية أنَّ هذا الإحياءَ والإماتةَ حاصلٌ منِّي ومن كلِّ أحد، فإنَّ الرجلَ قد يكون منه الحدوثُ بواسطة تمزيجِ الطبائع وتحريك الأجرام الفلَكيَّة. _________ (1) (ت): «فبهت الذي كفر عند ذلك». (2) ساقطة من (ق). وهي في (د , ت) و «التفسير».

(3/1398)


بل نقطعُ بأنَّ هذا لم يخطُر (1) بقلب المشرك المناظِر البتَّة، ولا كان هذا مرادَه، فلا يحلُّ تفسيرُ كلام الله بمثل هذه الأباطيل، ونسأل الله أن يُعِيذنا من القول عليه ما لم نعلم، فإنه أعظمُ المحرَّمات على الإطلاق وأشدُّها إثمًا. وقد ظنَّ جماعةٌ من الأصوليِّين وأرباب الجدل أنَّ إبراهيمَ انتقل مع المشرك من حجَّةٍ إلى حجَّة، ولم يُجِبه عن قوله: أنا أحيي وأميت (2). قالوا: وكان يمكنُه أن يُتَمَّم (3) معه الحجَّةَ الأولى، بأن يقول: مرادي بالإحياء إحياءُ الميت وإيجادُ الحياة فيه، لا استبقاؤه على حياته، وكان يمكنُه تتميمُها بمعارضةٍ (4) في نفسها، بأن يقول: فأحْيِ مَن أمتَّ وقتلتَ إن كنتَ صادقًا، ولكن انتقَل إلى حجَّةٍ أوضحَ من الأولى، فقال: إنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، فانقطَع المشركُ المعطِّل. وليس الأمرُ كما ذكروه، ولا هذا انتقال (5)، بل هذا مطالبةٌ له بمُوجَب دعواه الإلهية، والدليلُ الذي استدلَّ به إبراهيمُ قد تمَّ وثبَت مُوجَبه، فلمَّا ادعى الكافرُ أنه يفعلُ كما يفعلُ الله فيكونُ إلهًا مع الله طالَبه إبراهيمُ بمُوجَب _________ (1) (ت): «لا يدخل ويخطر». (2) انظر: «الكافية في الجدل» (552)، و «عَلَم الجذل» (105)، و «الواضح» (1/ 504)، و «البحر المحيط» (5/ 354)، و «الإتقان» للسيوطي (1956). (3) (ت): «يتم». (4) (ط): «بمعارضته». (5) انظر: «الصواعق المرسلة» (491)، و «الداء والدواء» (301)، و «أصول السرخسي» (2/ 288) و «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 171)، و «تفسير ابن كثير» (2/ 631)، و «البداية والنهاية» (1/ 344).

(3/1399)


دعواه مطالبةً تتضمَّنُ بطلانَها، فقال: إن كنتَ ربًّا كما تزعمُ فتحيي وتميتُ كما يحيي ربِّي ويميت، فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فتنطاعُ (1) لقدرته وتسخيره ومشيئته، فإن كنتَ أنت ربًّا فأتِ بها من المغرب. وتأمَّل قولَ الكافر: أنا أحيي وأميت، ولم يقل: أنا الذي أحيي وأميت، يعني: أنا أفعلُ كما يفعلُ الله، فأكونُ ربًّا مثلَه، فقال له إبراهيم: فإن كنتَ صادقًا فافعَل مثلَ فعله في طلوع الشمس، فإذا أطلَعها مِن جهةٍ فأَطْلِعها أنت من جهةٍ أخرى. ثمَّ تأمَّل ما في ضمن هذه المناظرة من حُسْنِ الاستدلال بأفعال الربِّ المشهودة المحسوسة، التي تستلزمُ وجودَه وكمال قدرته ومشيئته وعلمه ووحدانيته، من الإحياء والإماتة المشهودَين اللذَين لا يقدرُ عليهما إلا الله وحده، وإتيانه تعالى بالشمس من المشرق، ولا يقدرُ أحدٌ سواه على ذلك. وهذا برهانٌ لا يقبلُ المعارضةَ بوجه، وإنما لبَّس عدوُّ الله، وأوهمَ الحاضرين أنه قادرٌ من الإحياء والإماتة على ما هو مماثلٌ لمقدور الربِّ تعالى، فقال له إبراهيم: فإن كان الأمرُ كما زعمتَ فأرِني قدرتَك على الإتيان بالشمس من المغرب، لتكون مماثلةً (2) لقدرة الله على الإتيان بها من المشرق. فأين الانتقالُ في هذا الاستدلال والمناظرة؟! بل هذا مِن أحسن ما يكونُ من المناظرة، والدليلُ الثاني مكمِّلٌ لمعنى الدليل الأول، ومبيِّنٌ له _________ (1) (ت): «فتنصاع». انطاع له: انقاد. «اللسان» (طوع). (2) (ت): «مماثلا».

(3/1400)


ومقرِّر، لتضمُّن الدليلين (1) أفعالَ الربِّ الدالَّة عليه وعلى وحدانيته وانفراده بالربوبية (2) والإلهية، لا تقدرُ (3) أنت ولا غيرُ الله على مثلها. ولمَّا عَلِمَ عدوُّ الله صحةَ ذلك، وأنَّ من هذا شأنُه على كلِّ شيءٍ قدير، لا يُعجِزُه شيء، ولا يستصعبُ عليه مراد، خافَ أن يقول لإبراهيم: فسَل ربَّك أن يأتي بها من مغربها، فيفعَل ذلك، فيظهرَ لأتباعه بطلانُ دعواه وكذبُه، وأنه لا يصلحُ للربوبية، فبُهِتَ وأمسَك. وفي هذه المناظرة نكتةٌ لطيفةٌ جدًّا، وهي أنَّ شركَ العالَم إنما هو مستندٌ إلى عبادة الكواكب والقبور، ثمَّ صُوِّرت الأصنامُ على صُوَرها ــ كما تقدَّم ــ. فتضمَّن الدليلان اللذان استدلَّ بهما إبراهيمُ إبطالَ إلهيَّة تلك جملةً بأنَّ الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلحُ الحيُّ الذي يموت للإلهية، لا في حال حياته ولا بعد موته؛ فإنَّ له ربًّا قادرًا قاهرًا متصرِّفًا فيه أحياهُ وأماته، ومَن كان كذلك فكيف يكونُ إلهًا حتى يتَّخذ الصَّنمُ على صُورته ويُعْبَد من دونه؟! وكذلك الكواكبُ أظهرُها وأكبرُها للحِسِّ هذه الشمس، وهي مربوبةٌ مدبَّرةٌ مسخَّرةٌ لا تصرُّفَ لها في نفسها بوجهٍ ما، بل ربُّها وخالقُها سبحانه يأتي بها من مشرقها، فتنقادُ لأمره ومشيئته، فهي مربوبةٌ مسخَّرةٌ مدبَّرةٌ، لا إلهًا يُعْبَدُ من دون الله. _________ (1) (ت): «الدليل». (2) (ت): «بالربوبية والوحدانية». (3) (ط): «كما لا تقدر».

(3/1401)


فصل * وأمَّا استدلالُه بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال (1) الشَّمس والقمر واستدبارهما؛ فكأنه ــ والله أعلم ــ لمَّا رأى بعضَ الفقهاء قد قالوا ذلك في كتبهم في آداب التخلِّي: «ولا يَسْتَقبِلُ الشمسَ والقمر» (2)، ظنَّ أنهم إنما قالوا ذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، فاحتجَّ بالحديث! وهذا مِن أبطل الباطل؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْقَل عنه ذلك (3) في كلمةٍ واحدة، لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا مرسلٍ ولا متصل (4)، وليس لهذه المسألة أصلٌ في الشرع، والذين ذكروها من الفقهاء منهم من قال: العلَّةُ في ذلك أنَّ اسمَ الله مكتوبٌ عليهما، ومنهم من قال: لأنَّ نُورَهما مِن نور الله، ومنهم من قال: إن التنكُّبَ عن استقبالهما واستدبارهما أبلغُ في التستُّر وعدم ظهور الفرجَيْن (5). وبكلِّ حالٍ, فما لهذا ولأحكام النجوم؟! فإن كان هذا دالًّا على دعواكم فدلالةُ النَّهي عن استقبال الكعبة بذلك أقوى وأولى. * وأمَّا استدلالُه بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم موت ولده إبراهيم: «إنَّ الشَّمس _________ (1) (ق) و (ت): «باستقبال». والمثبت من (ط). (2) انظر: «البناية شرح الهداية» (2/ 468)، و «التاج والإكليل» (1/ 281) , و «المجموع» (2/ 94) , و «الإنصاف» (1/ 81). (3) (ت): «لم يقل ذلك». (4) راجع ما تقدم (ص: 1352) تعليقًا. (5) انظر: «المغني» (1/ 122)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 148 - الطهارة).

(3/1402)


والقمر آيتان من آيات الله , لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزَعوا إلى الصلاة» (1)، وهذا الحديثُ صحيح، وهو من أعظم الحُجَج على بطلان قولكم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنهما آيتان من آيات الله، وآياتُ الله لا يحصيها إلا الله، فالمطرُ والنباتُ والحيوانُ والليلُ والنهارُ والبرُّ والبحرُ والجبالُ والشجرُ وسائرُ المخلوقات آياتُه تعالى الدَّالةُ عليه، وهي في القرآن أكثر من أن نذكُرها هاهنا، فهما آيتان، لا ربَّان ولا إلهان، ولا ينفعان ولا يضرَّان، ولا لهما تصرُّفٌ في أنفُسِهما وذواتهما (2) البتَّة، فضلًا عن إعطائهما كلَّ ما في العالم من خيرٍ وشرٍّ وصلاحٍ وفساد، بل كلَّ ما فيه من ذرَّاته وأجزائه وكلِّياته وجزئياته (3)، تعالى الله عن قول المفترين المشركين علوًّا كبيرًا. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته» قولان: أحدهما: أنَّ موتَ الميِّت وحياتَه لا يكونُ سببًا في انكسافهما، كما كان يقولُه كثيرٌ من جُهَّال العرب (4) وغيرهم عند الانكساف، أن ذلك لموتِ عظيمٍ أو ولادةِ عظيم، فأبطَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأخبَر أن موتَ الميِّت وحياتَه لا يؤثِّر في كسوفهما البتَّة. والثاني: أنه لا يحصُل عن انكسافهما موتٌ ولا حياة، فلا يكونُ انكسافُهما سببًا لموت ميتٍ ولا لحياة حيٍّ، وإنما ذلك تخويفٌ من الله _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 1352). (2) (ت): «تصرف في دورانهما». (3) (ق): «وجزئياته له». (4) (ت): «من المشركين ومن جهال العرب».

(3/1403)


لعباده، أجرى العادةَ بحصوله في أوقاتٍ معلومةٍ بالحساب، كطلوع الهلال وإبداره وسِراره (1). فأمَّا سببُ كسوف الشمس فهو توسُّطُ القمر بين جِرْم الشمس وبين أبصارنا، فإنَّ القمرَ عندهم جسمٌ كثيفٌ مُظلِم، وفلكُه دون فلَك الشمس، فإذا كان على مسامتة إحدى نقطتي الرأس أو الذَّنَب أو قريبًا منهما حالةَ الاجتماع من تحت الشمس حالَ بيننا وبين نور الشمس، كسحابةٍ تمرُّ تحتها إلى أن تُجَاوزَها من الجانب الآخر، فإن لم يكن للقمر عرضٌ سَتَر عنَّا نورَ كلِّ الشمس، وإن كان له عرضٌ فبقَدْرِ ما يُوجِبه عرضُه. وذلك أنَّ الخطوطَ الشُّعاعية تخرجُ من بصر الناظر إلى المرئيِّ على شكلِ مخروطٍ رأسُه [عند] نقطة البصر، وقاعدتُه عند جِرْم المرئيِّ، فإذا وجَّهنا أبصارَنا إلى جِرْم الشمس حالةَ كسوفها فإنه ينتهي إلى القمر أولًا مخروطُ الشُّعاع، فإذا توهَّمنا نفوذَه منه إلى الشمس وقع (2) جِرْمُ الشمس في وسط المخروط، وإن لم يكن للقمر عرضٌ انكسف كلُّ الشمس , وإن كان للقمر عرضٌ فبقَدْرِ ما يوجبُه عرضُه ينحرفُ جِرْمُ الشمس عن مخروط الشُّعاع، ولا يقعُ كلُّه فيه، فينكسفُ بعضُه ويبقى الباقي على ضيائه، وذلك إذا كان العرضُ المرئيُّ أقلَّ من نصف مجموع قُطْرِ الشمس والقمر، حتى إذا ساوى العرضُ المرئيُّ نصف مجموع القُطْرين كان صفحةُ القمر تماسُّ (3) مخروطَ الشُّعاع، فلا ينكسفُ ولا يكونُ لكسوف الشمس لُبْثٌ؛ لأنَّ قاعدةَ _________ (1) وهو آخر الشهر عندما يستسرُّ الهلال. (2) في الأصول: «ومع». والمثبت من (ط). (3) (ت): «رأس».

(3/1404)


المخروط المتَّصل بالشمس مساوٍ لِقُطْرَيها، فكلما (1) ابتدأ القمرُ بالحركة بعد تمام الموازاة بينه وبين الشمس تحرَّك المخروطُ وابتدأت الشمسُ بالإسفار. إلا أنَّ كسوفَ الشمس يختلفُ باختلاف أوضاع المَساكِن، حتى إنه يُرى في بعضها ولا يُرى في بعضها، ويُرى في بعضها أقلَّ وفي بعضها أكثر بسبب اختلاف المنظر، إذ الكاسفُ ليس عارضًا في جِرْم الشمس ليستوي فيه النُّظَّارُ من جميع الأماكن، بل الكاسفُ شيءٌ متوسطٌ بينها وبين الأبصار وهو قريبٌ منَّا، والمحجوبُ عنَّا بعيد، فيختلفُ التوسُّطُ باختلاف مواضع الناظرين. وكذلك يختلفُ كسوفُ الشمس في مَباديها وعند انجلائها في كمِّية ما ينكسفُ منها، وفي زمان كسوفها الذي هو من أول البُدُوِّ إلى وسطِ الكسوف، ومن وسط الكسوف إلى آخر الانجلاء. فإن قيل: فجِرْمُ القمر أصغرُ من جِرْم الشمس بكثير، فكيف يحجُب عنَّا كلَّ الشمس؟! (2) قيل: إنما يحجُب عنَّا جِرْمَ الشمس لقربه منَّا وبُعْدِها عنَّا؛ لأنَّ الشيئين (3) المختلفَين في الصِّغَر والكِبَر إذا قَرُبَ الصغيرُ من الكبير يُرى من _________ (1) في الأصول: «فكما». والمثبت أشبه. (2) انظر: «عارضة الأحوذي» (3/ 37)، و «فتح الباري» (2/ 537)، و «عمدة القاري» (7/ 67). (3) (ق): «السببين».

(3/1405)


أطراف الكبير أكثرَ (1) ما يُرى منها مع بُعْدِ الأصغر عنه، وكلَّما بَعُدَ الأصغر عنه وازداد قربُه من النَّاظر تناقصَ ما يُرى من أطراف الأكبر، إلى أن ينتهي إلى حدٍّ لا يُرى من الأكبر شيء، والحِسُّ شاهدٌ بذلك. وأمَّا سببُ خسوف القمر؛ فهو توسطُ الأرض بينه وبين الشمس، حتى يصير القمرُ ممنوعًا من اكتساب النُّور من الشمس، ويبقى ظلامُ ظلِّ الأرض في مَمرِّه؛ لأنَّ القمرَ لا ضوءَ له أبدًا، وإنما يكتسبُ الضوءَ من الشمس. وهل هذا الاكتسابُ خاصٌّ بالقمر أم يشاركه فيه سائرُ الكواكب؟ ففيه قولان لأرباب الهيئة: أحدُهما: أنَّ الشمسَ وحدَها هي المضيئةُ بذاتها , وغيرُها من الكواكب مستضيئةٌ بضيائها على سبيل العَرَض، كما عُرِفَ ذلك في القمر. والقولُ الثاني: أنَّ القمرَ مخصوصٌ بالكُمُودة (2) دون سائر الكواكب وغيرُه من الكواكب مضيئةٌ بذاتها , كالشمس. وردَّ هؤلاء على أرباب القول الأول بأنَّ الكواكب لو استفادت أضواءها من الشمس لاختَلف مقاديرُ تلك الأضواء فيما كان تحت فلَك الشمس منها بسبب القُرب والبُعد من الشمس، كما في القمر , فإنه يختلفُ (3) ضوؤه بحسب قُربه وبُعده من الشمس. والذي حملَ أربابَ القول عليه ما وجدوه مِن تعلُّق حركات الكواكب _________ (1) (ق): «أكبر». (2) وهي القتمة القريبة من السَّواد , كما تقدم تفسيره (ص: 1268). (3) في الأصول: «لا يختلف». وهو خطأ.

(3/1406)


بحركات الشمس، وظنُّوا أنَّ أضواءها مِن ضيائها. وليس الغرضُ استيفاءَ الحِجَاج من الجانبين، وما لكلِّ قولٍ وعليه، والمقصودُ ذكرُ سبب الخسوف القمريِّ. ولمَّا كانت الأرض جسمًا كثيفًا، فإذا أشرقت الشمسُ على جانبٍ منها فإنه يقعُ لها ظلٌّ في الجهة الأخرى؛ لأنَّ كلَّ ذي ظلٍّ يقعُ في الجهة المقابلة للجِرْم المضيء، فمتى أشرقَت عليها من ناحية المشرق وقعت أظلالُها في ناحية المغرب، وإذا وقعَت عليها من ناحية المغرب مالت أظلالُها إلى ناحية المشرق. والأرضُ أصغرُ من جِرْم الشمس بكثير، فينبعثُ ظلُّها ويرتفعُ في الهواء على شكلِ (1) مخروطٍ قاعدتُه قريبةٌ من تدوير الأرض، ثمَّ لا يزالُ ينخرطُ تدويرًا حتى يَدِقَّ ويتلاشى؛ لأنَّ قُطر الشمس لمَّا كان أعظمَ من قُطر الأرض , فالخطوطُ الشُّعاعيةُ المارَّة من جوانب الشمس إلى جوانب الأرض تكونُ متلاقيةً لا متوازية، فإذا مرَّت على الاستقامة إلى الأرض انقذفت (2) على جوانبها , فتلتقي (3) لا محالة إلى نقطة، فينحصر ظلُّ الأرض في سطحٍ مخروط , فيكون مخروطًا لا محالة، قاعدتُه حيثُ ينبعثُ من الأرض، ورأسُه عند نقطة تلاقي الخطوط. ولو كان قُطر الأرض مساويًا لقُطر الشمس لكانت الخطوط الشُّعاعيةُ _________ (1) (د): «شطر». (ق): «سطر». (ت): «شرط». والمثبت من (ط). (2) في الأصول: «انقذف». والمثبت من (ط). (3) (ق): «فيلتقي».

(3/1407)


تخرجُ إليها على التوازي، فيكون الظلُّ متساوي الغِلَظ إلى أن ينتهي إلى محيط العالم. ولو كان قُطر الشمس أصغرَ من قُطر الأرض لكانت الخطوطُ تخرجُ على التلاقي في جهة الشمس وأوسعُها عند قُطر الأرض، ولكان الظلُّ يزدادُ غِلَظًا كلَّما بَعُدَ عن الأرض إلى أن ينتهي إلى محيط العالم، ويلزمُ من ذلك أن ينخسفَ القمرُ في كلِّ استقبال، والوجودُ بخلافه. ولمَّا ثبتَ أنَّ ظلَّ الأرض مخروطيُّ الشكل، وقد وقعَ في الجهة المقابلة لجهة الشمس، فيكونُ نقطةُ رأسه في سطح فلك البروج لا محالة ويدورُ بدوران الشمس مسامتًا للنقطة المقابلة لموضع الشمس. وهذا الظلُّ الذي يكون فوق الأرض هو الليل، فإن كانت الشمسُ فوق الأرض كان الظلُّ تحت الأرض بالنسبة إلينا، ونحن في ضياء الشمس، وذلك النهارُ والزمانُ الذي يوازي دوامَ الظلِّ فوق الأرض هو زمانُ الليل. فإذا اتفقَ مرورُ القمر على محاذاة نقطتي الرَّأس والذَّنَب حالة الاستقبال يقعُ في مخروط الظلِّ لا محالة؛ لأن الخطَّ الخارج عن مركز العالم المارَّ بمركز الشمس ثم بمركز القمر من الجانب الآخر ينطبقُ (1) على سهم مخروطِ الظلِّ، فيقعُ القمرُ في وسط المخروط، فينخسفُ كلُّه ضرورةً؛ لأنَّ الأرضَ تمنعُه من قبول ضياء الشمس، فيبقى القمرُ على جوهره الأصليِّ. فإن كان للقمر عرضٌ (2) ينحرفُ عن سهم المخروطِ بقي الضوءُ فيه _________ (1) (ق) و (ت): «وينطبق». والمثبت من (ط). (2) (ت): «فإن كان القمر عرضا».

(3/1408)


بقدره وطبعه، وقد يقعُ كلُّه في المخروط ولكن يمرُّ في جانبٍ منه، وقد يقعُ بعضُه في المخروط ويبقى بعضُه خارجًا، وربَّما يماسُّ مخروطَ الظلِّ ولا يقعُ من جِرْمه شيء. وإنما (1) يختلفُ هذا باختلاف بُعده من الخطِّ الخارج من مركز العالم المارِّ بمركز الشمس المطابق لسهم المخروط، حتى إذا عَظُمَ عرضُه بأن كان (2) بينه وبين إحدى نقطتي الرأس والذَّنَب أكثر من ثلاثة عشر (3) دقيقةً لا يماسُّ المخروطَ أصلًا، وإذا وقع في جانبٍ منه قلَّ مُكثُه، وربما لم يكن له مكثٌ أصلًا. وإنما يُعرَفُ ذلك بتقديم معرفة قُطر الظِّل. وقُطر القمر يختلفُ باختلاف أبعاده عن الأرض، وكذلك (4) قُطر الظلِّ أيضًا يختلفُ باختلاف أبعاد الشمس عن الأرض، فإنَّ الشمس متى قَرُبَت من الأرض كان ظلُّ الأرض دقيقًا قصيرًا، وإذا بَعُدَت عنها كان ظلُّ الأرض طويلاً غليظًا؛ لأنها متى بَعُدَت عن الأرض يُرى قُطرُها أصغر وأقربَ تلاقيًا منها، وكلما كان أعظمَ مقدارًا في رأي العين فالخطوطُ الشُّعاعية أقصرُ وأقربُ تلاقيًا، فلذلك يختلفُ قَطْعُ القمر غِلَظَ الظلِّ في أوقات الكسوفات. والموضعُ الذي يقطعه القمرُ من الظلِّ يسمُّونه فلَكَ الجوهر. وإذا عُرِفَ قُطر الظلِّ , وعُرِفَ مقدارُ قُطر نصف القمر , وجُمِعَ بينهما _________ (1) (ت): «وربما». (2) في الأصول: «بأن لان». وهو تحريف. وفي (ط): «بأن لا يبقى». (3) كذا في الأصول. ومرَّت له نظائر. (4) (ق): «ولذلك».

(3/1409)


ونُصِّفَ ذلك، وعُرِفَ عرضُ القمر إن كان له عرض، فإن كان العرضُ مساويًا لنصف مجموع القُطرين فإنَّ القمرَ يُماسُّ دائرةَ الظلِّ ولا ينكسف، وإن كان العرضُ أقلَّ من نصف مجموعهما فإنه ينكسف، فيُنظرُ إن كان مساويًا لنصف قُطر الظلِّ انكسف من القمر مثلُ نصف صفحته، وإن كان العرضُ أقلَّ من نصف قُطر الظلِّ فينتقصُ العرضُ من نصف قُطر الظلِّ، فإن كان الباقي مثل قُطر القمر انكسف كلُّه ولا يكونُ له مكث، حتى إذا لم يكن له عرضٌ انكسف كلُّه ويمكثُ زمانًا أكثر. وأطولُ ما يمتدُّ زمانُ الكسوف القمريِّ أربع ساعات، وأمَّا زمانُ الكسوف الشمسيِّ فلا يزيدُ على ساعتين. وكسوفُ القمر يختلفُ باختلاف أوضاع المَساكِن، إذ الكسوفُ عارضٌ في جهةٍ , وهو عبورُه في ظلام ظلِّ الأرض، بخلاف كسوف الشمس، وإنما يختلفُ الوقتُ فقط بأن يكون في بعض المَساكِن على مُضِيِّ ساعةٍ من الليل، وفي بعضها على مُضِيِّ نصف ساعة، وقد يطلعُ منكسفًا في بعض المساكن، وينكسفُ بعد الطُّلوع في بعضها، وقد لا يُرى منكسفًا أصلًا إذا كانت الشمسُ فوق الأرض حالة الاستقبال. وبدءُ الخسوف (1) في القمر أبدًا يكونُ من طرفه الشرقيِّ، إذ هو الذاهبُ إلى الاستقبال نحو المشرق والدخول في الظلِّ بحركته، ثمَّ ينحرفُ قليلًا قليلًا إلى الشمال أو الجنوب في بدء انجلائه أيضًا من طرفه الشرقي، وأمَّا في الشمس فبدءُ الكسوف من طرفها الغربيِّ، إذ الكاسفُ لها يأتي إليها من ناحية الغرب، وكذلك الانجلاءُ أيضًا من الطَّرف الغربيِّ لكن بانحرافٍ منه _________ (1) في الأصول: «ويرى الخسوف». وهو تحريف.

(3/1410)


إلى الشمال والجنوب. وإنما ذكَرنا هذا الفصل، ولم يكن من غرَضنا؛ لأنَّ كثيرًا من هؤلاء الأحكاميِّين يموِّهون على الجُهَّال بأمر الكسوف، ويوهمونهم أنَّ قضاياهم وأحكامهم النجوميَّة من السَّعد والنَّحس والظَّفر والغلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف، فيصدِّقُ بذلك الأغمارُ والرَّعاع (1)، ولا يعلمون أنَّ الكسوفَ يُعْلَمُ بحساب سَيْر النيِّرَين في منازلهما، وذلك أمرٌ قد أجرى اللهُ العادةَ المطَّردة به , كما أجراها في الأبدار والسِّرار والهلال. نعم؛ لا ننكِرُ أنَّ الله سبحانه يُحْدِثُ عند الكسوفَين من أقضيته وأقداره ما يكونُ بلاءً لقومٍ ومصيبةً لهم، ويجعلُ الكسوفَ سببًا لذلك (2)، ولهذا أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند الكسوف بالفزَع إلى ذكر الله والصَّلاة والعِتاقة والصَّدقة والصِّيام (3)؛ لأنَّ هذه الأشياء تدفعُ مُوجَبَ الكَسْف الذي جعله الله سببًا لما جعله، فلولا انعقادُ سبب التخويف لما أمرَ بدفع مُوجَبه بهذه العبادات. ولله تعالى في أيام دهره أوقاتٌ يُحْدِثُ فيها ما يشاءُ من البلاء والنَّعماء ويقضي من الأسباب ما يدفعُ مُوجَبَ تلك الأسباب لمن قام به، أو يقلِّله أو يخفِّفه، فمن فَزِعَ إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفَع عنه الشرُّ الذي جعل اللهُ _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 175)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 311). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 534، 35/ 169)، و «منهاج السنة» (5/ 444)، و «الرد على المنطقيين» (271)، و «زاد المعاد» (5/ 788). (3) الأمر بالذكر والصلاة والعِتاقة والصدقة في «صحيح البخاري» (1044، 2519) وغيره. أما الأمر بالصيام، فلعل من ذلك الترغيب في صيام الأيام البيض، فإن الكسوف غالبًا يقع فيها. انظر: «شرح معاني الآثار» (3/ 37)، و «الفتح» (6/ 255).

(3/1411)


الكسوفَ سببًا له أو بعضه، ولهذا قلَّ ما تسلَمُ أطرافُ الأرض ــ حيث يخفى الإيمانُ وما جاءت به الرسل فيها ــ من شرٍّ عظيمٍ يحصلُ فيها بسبب الكسوف، وتسلَمُ منه الأماكنُ التي يظهرُ فيها نورُ النبوَّة والقيامُ بما جاءت به الرسل، أو يقلُّ فيها جدًّا. ولمَّا كُسِفَت الشمسُ على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قام فَزِعًا مسرعًا يجرُّ رداءه، ونادى في الناس: الصَّلاةَ جامعة، وخَطَبهم بتلك الخطبة البليغة، وأخبرَ أنه لم يَر كيومه ذلك في الخير والشرِّ، وأمَرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعِتاقة والصَّدقة والصلاة والتوبة. فصلواتُ الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وبأمره وشأنه وتصريفه أمورَ مخلوقاته وتدبيره، وأنصحِهم للأمة، ومَن دعاهم إلى ما فيه سعادتُهم في معاشهم ومَعادهم، ونهاهم عمَّا فيه هلاكُهم في معاشهم ومعادهم. ولقد جنى (1) على ما جاءت به الرسلُ طائفتان (2)، هلَك بسببهما من شاء الله، ونجا مِن شركهما من سبقت له العنايةُ من الله (3): * إحدى الطائفتين (4) وقفَت مع ما شاهَدَته وعَلِمَته من أمور هذه الأسباب والمسبَّبات، وأحالت الأمرَ عليها، وظنَّت أنه ليس بعدها شيء، فكفَرت بما جاءت به الرسل وجحَدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوَّات، وغرَّها (5) ما انتهى إليه علومُها ووقفَت عنده أقدامُها من العلم بظاهرٍ من _________ (1) (ت): «حي». ومهملة في (ق). (2) (ط): «ولقد خفي ما جاءت به الرسل على طائفتين». (3) تضاف حاشية: انظر ذكر هاتين الطائفتين في: "المنقذ من الضلال" للغزالي (79 - 81). (4) وهم الفلاسفة. (5) في الأصول: «وغيرها». وهو تحريف.

(3/1412)


المخلوقات وأحوالها. وجاء ناسٌ جُهَّالٌ رأوهم قد أصابوا في بعضها أو كثيرٍ منها، فقالوا: كلُّ ما قاله هؤلاء فهو صواب؛ لِمَا ظهر لنا من صوابهم. وانضافَ إلى ذلك أنَّ أولئك لمَّا وقفوا على الصواب فيما أدَّتهم إليه أفكارُهم من الرياضيات (1) وبعض الطبيعيات وَثِقُوا بعقولهم، وفرحوا بما عندهم من العلم، وظنُّوا أنَّ سائر ما أحْكَمَتْه (2) أفكارُهم من العلم بالله وشأنه وعظمته هو كما أوقعهم عليه فكرُهم، وحكمُه حكمُ ما شهد به الحِسُّ من الطبيعيات والرياضيات؛ فتفاقمَ الشرُّ، وعَظُمَت المصيبة، وجُحِدَ اللهُ وصفاتُه وخلقُه للعالَم وإعادتُه له، وجُحِدَ كلامُه ورسلُه ودينُه. ورأى كثيرٌ من هؤلاء أنهم هم خواصُّ النوع الإنسانيِّ وأهلُ الألباب، وأنَّ ما عداهم هم القُشور، وأنَّ الرسلَ إنما قاموا بسياستهم لئلَّا يكونوا كالبهائم، فهم بمنزلة قيِّم المارِستان (3)، وأمَّا أهلُ العقول والرياضات (4) والأفكار فلا يحتاجون إلى الرسل، بل هم يعلِّمون الرسلَ ما يصنعونه (5) للدَّعوة الإنسانية، كما تجدُ في كتبهم: وينبغي للرسول أن يفعلَ كذا وكذا! _________ (1) في الأصول: «الرياضات». (2) (ت): «اخذ منه». (د، ق): «خدمته». وهو تحريف. وستأتي على الصواب. (3) (ت): «البيمارستان». فارسيةٌ معربة، بمعنى: دار المرضى، «المستشفى». انظر: «الصحاح» (مرس)، و «قصد السبيل» (1/ 320). (4) (ق): «والرياضيات». (5) (ت): «يقولونه».

(3/1413)


والمقصودُ أنَّ هؤلاء لمَّا أوقعَتهم (1) أفكارُهم على العلم بما خفي على كثيرٍ من الناس من أسرار المخلوقات وطبائعها وأسبابها، ذهبوا بأفكارهم وعقولهم، وتجاوزَت ماجاءت به الرسل، وظنُّوا أنَّ إصابتهم في الجميع سواء، وصار المقلِّدُ لهم في كُفرهم إذا خطرَ له إشكالٌ على مذهبهم أو دَهَمَه مالا حيلةَ له في دفعه مِن تناقُضهم وفساد أصولهم يحسِّنُ الظَّنَّ بهم، ويقول: لا شكَّ أن علومهم مشتملةٌ على حلِّه (2) والجواب عنه، وإنما يَعْسُرُ عليَّ إدراكُه لأني لم أحصِّل الرياضيات ولم أُحْكِم المنطقيَّات وعدةَ علومٍ قد صقَلَتها أذهانُ الأوَّلين وأحكمَتها أفكارُ المتقدِّمين! فالفاضلُ كلُّ الفاضل من يفهمُ كلامهم، وأمَّا الاعتراضُ عليهم وإبطالُ فاسد أصولهم فعندهم من المُحال الذي لا يُصَدَّق به. وهذا مِن خداع الشيطان وتلبيسه بغروره لهؤلاء الجُهَّال مقلِّدو (3) أهل الضلال، كما لبَّسَ على أئمَّتهم وسَلفِهم بأنْ أوهمَهم أنَّ كلَّ ما نالوه بأفكارهم فهو صواب، كما ظهرت إصابتُهم في الرياضيات وبعض الطبيعيات، فركَّب مِن ضلالِ هؤلاء وجهلِ أتباعهم ما اشتدَّت به البليَّة، وعَظُمَت لأجله الرزيَّة، وخربَ لأجله العالَم، وجُحِدَ ما جاءت به الرسل وكُفِرَ بالله وصفاته وأفعاله. ولم يعلم هؤلاء أنَّ الرجلَ يكونُ إمامًا في الحساب وهو أجهلُ خلق الله _________ (1) (ق): «أوقفتهم». (2) في الأصول: «حكمه». وهو تحريف. والمثبت من «تهافت الفلاسفة» للغزالي (84)، وهو مصدر المصنف. (3) كذا في الأصول. والجادة: مقلدي. ولعل المصنف كتب: «مقلدة»، فأخطأ النساخ.

(3/1414)


بالطِّبِّ والهيئة والمنطق، ويكونُ رأسًا في الطبِّ ويكونُ من أجهل الخلق بالحساب والهيئة، ويكون مقدَّمًا في الهندسة وليس له علمٌ بشيءٍ من قضايا الطِّبِّ، وهذه علومٌ متقاربة، والبعدُ بينها وبين علوم الرسل التي جاءت بها عن الله أعظمُ من البعد بين بعضها وبعض. فإذا كان الرجلُ إمامًا في هذه العلوم ولم يعلم بأيِّ شيءٍ جاءت به الرسلُ ولا تحلَّى بعلوم الإسلام فهو كالعامِّيِّ بالنسبة إلى علومهم، بل أبعدُ منه، وهل يلزمُ من معرفة الرجل هيئةَ الأفلاك والطِّبَّ والهندسةَ والحسابَ أن يكون عارفًا بالإلهيَّات وأحوال النفوس البشرية وصفاتها ومعادها وسعادتها وشقاوتها؟! وهل هذا إلا بمنزلة من يظنُّ أنَّ الرجلَ إذا كان عالمًا بأحوال الأبنية وأوضاعها، ووزن الأنهار والقُنِيِّ (1)، والقنبطة (2)، كان عالمًا بالله وأسمائه وصفاته وما ينبغي له وما يستحيلُ عليه؟! فعلومُ هؤلاء بمنزلة هذه العلوم التي هي نتائجُ الأفكار والتجارب، فما لها ولعلوم الأنبياء التي يتلقَّونها عن الله بوسائط الملائكة؟! _________ (1) جمع قناة. (2) وهي صناعة شد ألواح السفن بالقنب والقار والزيت. انظر: «جواهر العقود» للأسيوطي (1/ 95). وفي الأصول: «والقنيطة» بالياء. وفي مطبوعة «الصواعق المرسلة» (447): «الفنيطة» بالفاء. وانظر: «هداية الحيارى» (276). وأصلحها ناشر (ط) إلى: «القنطرة»، وهي ما يبنى بالآجرِّ أو الحجارة على الماء، وتطلق على قناة الماء. انظر: «قصد السبيل» (2/ 367).

(3/1415)


هذا، وأين (1) تعلُّق الرياضيات التي هي نظرٌ في نوعي الكمِّ المتصل والمنفصل (2)، والمنطقيات التي هي نظرٌ في المعقولات الثانية (3) ونسبة بعضها إلى بعض بالكلِّية والجزئيَّة والسَّلب والإيجاب وغير ذلك= بمعرفة ربِّ العالمين وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأمره ونهيه، وما جاءت به رسلُه، وثوابه وعقابه؟! ومن الخدع الإبليسيَّة قولُ الجُهَّال: إنَّ فهمَ هذه الأمور موقوفٌ على فهم هذه القضايا العقلية. وهذا هو عينُ الجهل والحُمْق، وهو بمنزلة قول القائل: لا يَعرفُ حدوثَ الرُّمانة من لم يعرف عددَ حبَّاتها وكيفيةَ تركيبها وطبعَها! ولا يعرفُ حدوثَ العَيْن من لم يعرف عدد طبقاتها وتشريحها وما فيها من التركيب! ولا يعرفُ حدوثَ هذا البيت من لم يعرف عددَ لَبِنَاته وأخشابه وطبائعها ومقاديرها! وغير ذلك من الكلام الذي يضحكُ منه كلُّ عاقل، وينادي على جهل قائله وحُمْقِه (4). _________ (1) في الأصول: «وإن». تحريف. (2) الرياضيات نظرٌ في الكمِّ المنفصل، وهو الحساب. والهندسيَّات نظرٌ في الكمِّ المتصل، وحاصله بيان كرِّية السماوات، وعدد طبقاتها، وعدد الأكر المتحركة في الأفلاك، ومقادير حركاتها. انظر: «تهافت الفلاسفة» (84). (3) مهملة في (ق، د). وفي (ت): «التالي». وهو تحريف. والمعقولات الأولى هي البديهيات، والثانية هي المكتسبة. انظر: «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا (1/ 113، 118، 130، 190)، و «الرد على المنطقيين» (130، 179). (4) انظر: «تهافت الفلاسفة» (84، 85).

(3/1416)


بل العلمُ بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه لا يحتاجُ إلى شيءٍ من ذلك، ولا يتوقَّفُ عليه، وآياتُ الله التي دعا عبادَه إلى النظر فيها دالَّةٌ عليه بأوَّلِ النظر (1) دلالةً يشتركُ فيها كلُّ سليم العقل والحاسَّة. وأمَّا أدلةُ هؤلاء، فخيالاتٌ وهميَّة، وشُبَهٌ عَسِرَةُ المُدْرَك، بعيدةُ التحصيل، متناقضةُ الأصول، غيرُ مؤدِّيةٍ إلى معرفة الله ورسله والتصديق بها، مستلزمةٌ للكفر بالله وجَحْدِ ما جاءت به رسلُه. وهذا لا يصدِّق به إلا من عرفَ ما عند هؤلاء، وعرفَ ما جاءت به الرسل، ووازَن بين الأمرين، فحينئذٍ يظهرُ له التفاوت، وأمَّا من قلَّدهم وأحسنَ ظنَّه بهم ولم يعرف حقيقةَ ما جاءت به الرسلُ فليس هذا عُشَّه، بل هو في أوديةٍ هائمٌ حيران، ينقادُ لكلِّ حيران. يَغْدُو من العلم في ثوبين مِنْ طَمَعٍ ... مُعَلَّمَيْن بحِرْمانٍ وخِذلانِ (2) والطائفةُ الثانية (3): رأت مقابلةَ هؤلاء بردِّ كلِّ ما قالوه من حقٍّ وباطل وظنُّوا أنَّ مِن ضرورة تصديق الرسل ردَّ ما عَلِمَه هؤلاء بالعقل الضروريِّ، وعلموا مقدِّماته بالحِسِّ، فنازعوهم فيه، وتعرَّضوا لإبطاله بمقدِّماتٍ جدليَّةٍ لا تغني من الحقِّ شيئًا، وليتهم مع هذه الجِناية العظيمة لم يُضِيفوا ذلك إلى الرسل، بل زعموا أنَّ الرسلَ جاؤوا بما يقولونه، فساء ظنُّ أولئك الملاحدة بالرسل، وظنُّوا أنهم هم أعلمُ وأعرفُ منهم، ومن حَسُنَ ظنُّه منهم بالرسل _________ (1) تقدم بيان المراد به (ص: 1242). (2) لم أجد البيت في مصدرٍ آخر. (3) وهم المتكلمون. انظر: «الرد على المنطقيين» (260، 273 - 274)، و «شفاء العليل» (574).

(3/1417)


قال: إنهم لم يَخْفَ عليهم ما نقولُه، ولكنْ خاطَبوهم بما تحتملُه عقولُهم من الخطاب الجمهوريِّ النافع للجمهور، وأمَّا الحقائقُ فكتموها عنهم. والذي سلَّطهم على ذلك جحدُ هؤلاء لحقِّهم، ومكابرتُهم إيَّاهم على ما لا تمكنُ المكابرةُ عليه مما هو معلومٌ لهم بالضرورة؛ كمكابرتهم إيَّاهم في كون الأفلاك كُرِيَّةَ الشَّكل، والأرض كذلك، وأنَّ نورَ القمر مستفادٌ من نور الشمس، وأنَّ الكسوفَ القمريَّ عبارةٌ عن انمحاء ضوء القمر بتوسُّط الأرض بينه وبين الشمس من حيثُ إنه يقتبسُ نورَه منها، والأرضُ كرةٌ والسماءُ محيطةٌ بها من الجوانب، فإذا وقعَ القمرُ في ظلِّ الأرض انقطعَ عنه نورُ الشمس، كما قدَّمنا. وكقولهم: إنَّ الكسوفَ الشمسيَّ معناه وقوعُ جِرْم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقةٍ واحدة (1). وكقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبَّباتها، وإثباتِ القُوى والطبائع والأفعال والانفعالات، مما تقوم عليه الأدلةُ العقلية (2) والبراهينُ اليقينية. فيخوضُ هؤلاء معهم في إبطاله، فيُغرِيهم ذلك بكُفرهم وإلحادهم والوصيَّة لأصحابهم بالتمسُّك بما هم عليه، فإذا قال لهم هؤلاء: هذا الذي تذكرونه على خلاف الشرع، والمصيرُ إليه كفرٌ وتكذيبٌ بالرسل، لم يستريبوا في ذلك، ولم يلحقهم فيه شكٌّ، ولكنَّهم يستريبون بالشرع، وتنقُص _________ (1) انظر: «تهافت الفلاسفة» (80). (2) (ت): «العامة». ولم تحرر في (د، ق). والمثبت من (ط).

(3/1418)


مرتبةُ الرسل من قلوبهم. وضررُ الدِّين وما جاءت به الرسل بهؤلاء مِن أعظم الضرر، وهو كضرره بأولئك الملاحدة، فهما ضرران عظيمان على الدِّين: ضررُ من يطعنُ فيه، وضررُ من ينصرُه بغير طريقه. وقد قيل: إنَّ العدوَّ العاقلَ أقلُّ ضررًا من الصديق الجاهل (1)، فإنَّ الصَّديقَ الجاهلَ يضرُّك من حيثُ يقدِّر أنه ينفعك، والشأنُ كلُّ الشأن أن تجعلَ العاقل صديقَك، ولا تجعلَه عدوَّك، وتُغْرِيَه بمحاربة الدِّين وأهله. فإن قلت: قد أطلتَ في شأن الكسوف وأسبابه، وجئتَ بما شفيتَ به من البيان الذي لم يشهد له الشرعُ بالصحة ولم يشهد له بالبطلان، بل جاء الشرعُ بما هو أهمُّ منه وأجلُّ فائدةً من الأمر عند الكسوفَين بما يكونُ سببًا لصلاح الأمة في معاشها ومعادها. وأمَّا أسبابُ الكسوف وحسابُه والنظرُ في ذلك، فإنه من العلم الذي لا يضرُّ الجهلُ به (2)، ولا ينفعُ نفعَ العلم بما جاءت به الرسل، وإن كان لا يخلو عن منفعةٍ ولذَّة. وهذا هو الفرقُ بين العلوم التي جاءت بها الرسل (3)، وبين علوم هؤلاء. فكيف تصنعُ بالحديث الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الشمسَ والقمرَ _________ (1) انظر: «روضة العقلاء» (21، 95، 121)، و «المستقصى» (2/ 346). (2) انظر: «القول في علم النجوم» للخطيب (168). (3) من قوله: «وإن كان لا يخلو» إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1419)


آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة» (1)، فكيف يلائمُ هذا ما قاله هؤلاء في الكسوف؟ قيل: وأيُّ مناقضةٍ بينهما؟ وليس فيه إلا نفيُ تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين، أو نفيُ تأثُّر النيِّرَين بموت أحدٍ أو حياته على القول الآخر، وليس فيه تعرُّضٌ لإبطال حساب الكسوف، ولا الإخبارُ بأنه من الغيب الذي لا يعلمُه إلا الله (2). وأمرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عنده بما أمر به من العِتاقة والصلاة والدُّعاء والصدقة، كأمره بالصلوات عند الفجر والغروب والزَّوال، مع تضمُّن ذلك دفعَ مُوجَب الكسوف الذي جعله الله سبحانه سببًا له. فشرعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأمة عند انعقاد هذا السَّبب ما هو أنفعُ لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأنِ الكسوف وأسبابه. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي رواه ابنُ ماجه في «سننه» والإمام أحمد والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: انكسفَت الشمسُ على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فخرجَ فَزِعًا يجرُّ ثوبه، حتى أتى المسجد، فلم يزل يصلِّي حتى انجلت، ثمَّ قال: «إنَّ ناسًا يزعمون أنَّ الشمسَ والقمرَ لا ينكسفان إلا لموت عظيمٍ من العظماء، وليس كذلك، إنَّ الشمسَ والقمرَ لا ينكسفان _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 1352). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 175).

(3/1420)


لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا تجلَّى اللهُ لشيءٍ من خلقه خشَع له» (1). قيل: قد قال أبو حامد الغزالي: هذه الزيادة لم يصحَّ نقلُها، فيجبُ تكذيبُ قائلها (2)، وإنما المرويُّ ما ذكرنا ــ يعني: الحديثَ الذي ليست هذه الزيادة فيه ــ. قال: ولو كان صحيحًا لكان تأويلُه أهونَ من مكابرة أمورٍ قطعية، فكم من ظواهرَ أُوِّلَت بالأدلَّة العقليَّة التي لا تتبيَّنُ في الوضوح إلى هذا الحدِّ، وأعظمُ ما تفرحُ (3) به المُلحِدةُ أن يصرِّح ناصرُ الشرع بأنَّ هذا وأمثاله (4) على خلاف _________ (1) أخرجه أحمد (4/ 267، 269)، والنسائي (1484)، وابن ماجه (1262)، والبيهقي (3/ 332)، وابن خزيمة في «الصحيح» (1403)، و «التوحيد» (598)، وغيرهم من طريق أبي قلابة عن النعمان بن بشير. وأعله البيهقي وابن خزيمة بالانقطاع بين أبي قلابة والنعمان؛ فإنه لم يسمع منه. وإلى ذلك ذهب ابن معين ومال أبو حاتم. انظر: «تاريخ يحيى بن معين» رواية الدوري (2/ 309)، و «المراسيل» لابن أبي حاتم (110). ورواه البيهقي (3/ 334) من طريق الحسن عن النعمان بن بشير، دون لفظ التجلي، وقال: هذا أشبه أن يكون محفوظًا. إلا أن الحسن لم يسمع كذلك من النعمان، كما قال ابن المديني، ومال إليه البزار. انظر: «جامع التحصيل» (163)، و «نصب الراية» (1/ 90). وقد اختلف على أبي قلابة في هذا الحديث على أوجه، فروي تارة عنه عن النعمان، وتارة عن رجل عن النعمان، وتارة عن قبيصة الهلالي، وتارة عن هلال بن عامر عن قبيصة. انظر: جزء الشيخ الألباني في صلاة الكسوف (79). (2) «تهافت الفلاسفة»: «ناقلها». (3) (ق، د): «فانفرج». وهو تحريف. (4) يعني القضايا المعلومة لهم بالضرورة، كسبب الكسوف، ونحوه مما سبق.

(3/1421)


الشرع، فيسهلُ عليه طريق إبطال الشرع، إن كان شرطُه أمثال ذلك (1). وليس الأمرُ في هذه الزيادة كما قاله أبو حامد؛ فإنَّ إسنادها لا مطعنَ فيه (2). قال ابنُ ماجه: حدثنا محمَّد بن المثنى، وأحمد بن ثابت، وجميل (3) ابن الحسن، قالوا: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا خالدٌ الحذَّاء، عن أبي قِلابة، عن النعمان بن بشير ... فذكره. وهؤلاء كلُّهم ثقاتٌ حفَّاظ. ولكن لعلَّ هذه اللفظة مدرجةٌ في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجدُ في سائر أحاديث الكسوف، فقد رواها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صحابيًّا: عائشة أمُّ المؤمنين (4)، وأسماء بنت أبي بكر (5)، وعليُّ بن أبي طالب (6)، وأبيُّ بن كعب (7)، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس (8)، وعبد الله بن عمر (9)، وجابر بن عبد الله (10)، وسمرة بن جندب (11)، _________ (1) «تهافت الفلاسفة» (81). (2) تقدم قبل قليل بيان ما فيه من الانقطاع. (3) في الأصول: «حميد». والمثبت من المصادر. (4) أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901). (5) أخرجه البخاري (1053) (6) أخرجه أحمد (1/ 143)، وابن خزيمة (1388). (7) أخرجه أبو داود (1182)، وأحمد (5/ 134). (8) أخرجه مسلم (907). وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي (1483). (9) أخرجه البخاري (1043). (10) أخرجه مسلم (904). (11) أخرجه النسائي (1501)، وأحمد (5/ 16).

(3/1422)


وقبيصة الهلالي (1)، وعبد الرحمن بن سمرة (2)، رضي الله عنهم (3)، فلم يذكر أحدٌ منهم في حديثه هذه اللفظةَ التي ذُكِرَت في حديث النعمان بن بشير (4)، فمِن هاهنا نخافُ أن تكون أُدرِجَت في الحديث إدراجًا، وليست من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. على أنَّ هاهنا مسلكًا بديعَ المأخذ (5)، لطيفَ المَنْزِع، يتقبَّلُه العقلُ _________ (1) أخرجه أبو داود (1185)، والنسائي (1486، 1487)، وابن خزيمة (1402). وانظر: «الإصابة» لابن حجر (5/ 411). (2) أخرجه مسلم (911). (3) وممن لم يذكرهم المصنف: عبد الله بن عمرو، أخرج حديثه أحمد (2/ 188)، وأصله في البخاري (145) مختصرًا. والمغيرة بن شعبة، أخرج حديثه البخاري (1043) ومسلم (915). وأبو موسى الأشعري، أخرج حديثه البخاري (1059). وأبو مسعود، أخرج حديثه البخاري (1041)، ومسلم (911). وأبو بكرة، أخرج حديثه البخاري (1040، 1048، 1062، 1063، 5785). وابن مسعود، أخرج حديثه ابن خزيمة (1372). وبلال، أخرج حديثه البزار (1371). ومحمود بن لبيد، أخرج حديثه أحمد (5/ 428). (4) إلا ما وقع في حديث قبيصة الهلالي، وقد تقدمت الإشارة إلى الاختلاف فيه عند تخريج حديث النعمان. كما وردت هذه اللفظة في حديث أبي بكرة، أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 64)، ولا تصح، وأصل الحديث في «صحيح البخاري» بدونها. (5) (ق): «بعيد المأخذ». وهو تحريف. والمثبت من (د، ت) و «زهر الربى على المجتبى» للسيوطي (3/ 143)، وقد نقل كلام المصنف.

(3/1423)


المستقيم (1) والفطرةُ السليمة، وهو أنَّ كسوفَ الشمس والقمر يوجِبُ لهما (2) من الخشوع والخضوع بانمحاء نُورهما وانقطاعه عن هذا العالَم ما يكونُ فيه [ذهابُ] (3) سلطانهما وبهائهما، وذلك يوجبُ لا محالةَ لهما من الخشوع والخضوع لربِّ العالمين وعظمته وجلاله ما يكونُ سببًا لتجلِّي الربِّ تبارك وتعالى لهما. ولا يُستنكَر (4) أن يكون تجلِّي الله سبحانه لهما في وقتٍ معيَّن، كما يدنو من أهل الموقف عشيَّة عرفة، وكما ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا عند مضيِّ نصف الليل، فيُحدِثُ لهما ذلك التجلِّي خشوعًا آخرَ ليس هو الكسوف. ولم يقل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله إذا تجلَّى لهما انكسفا. ولكنَّ اللفظة: «فإذا تجلَّى اللهُ لشيءٍ من خلقه خَشَعَ له»، ولفظُ الإمام أحمد في الحديث: «إذا بدا اللهُ لشيءٍ من خلقه خَشَعَ له» (5). _________ (1) (ط) و «زهر الربى»: «العقل السليم». (2) في الأصول: «وجب لهما». والمثبت من «زهر الربى». (3) ليست في الأصول، واستدركتها من «زهر الربى». وجعلها الآلوسي في «روح المعاني» (13/ 112): «ضعف». (4) (ت): «يستكثر». وفي «زهر الربى»: «يستلزم». (5) كذا في الأصول. وفي «زهر الربى»: «ولكن اللفظة عند أحمد والنسائي: إن الله تعالى إذا بدا لشيءٍ من خلقه خشع له. ولفظ ابن ماجه: فإذا تجلى الله تعالى لشيءٍ من خلقه خشع له». والذي في مطبوعتي «المسند» و «سنن ابن ماجه»: «تجلى». وفي مطبوعة «سنن النسائي» في حديث النعمان: «بدا»، وفي حديث قبيصة: «تجلى».

(3/1424)


فهاهنا خشوعان: * خشوعٌ أوجبه كسوفُهما بذهاب ضوئهما وانمحائه. * فتجلَّى الله سبحانه لهما، فحدَث لهما عند تجلِّيه تعالى خشوعٌ آخرُ بسبب التجلِّي، كما حدَث للجبل إذ تجلَّى تبارك وتعالى له أن صار دكًّا (1)، وساخَ في الأرض. وهذا غايةُ الخشوع. لكنَّ الربَّ تبارك وتعالى ثبَّتهما لتجلِّيه؛ عنايةً بخلقه، لانتظام مصالحهم بهما، ولو شاء سبحانه لثبَّت الجبلَ لتجلِّيه كما ثبَّتهما، ولكن أرى كليمَه موسى أنَّ الجبلَ العظيمَ لم يُطِق الثباتَ [لتجلِّيه] (2) له، فكيف تُطِيقُ أنت الثبات للرؤية التي سألتَها (3)؟! فصل * وأمَّا استدلالُه بحديث ابن مسعود عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ذُكِرَ القدرُ فأمسِكوا، وإذا ذُكِرَ أصحابي فأمسِكوا، وإذا ذُكِرَ النجومُ فأمسِكوا» (4)؛ فهذا الحديثُ لو ثبتَ لكان حجةً عليه لا له، إذ لو كان علمُ الأحكام النجومية حقًّا لا باطلًا، لم يَنْهَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أمرَ بالإمساك عنه؛ فإنه لا ينهى عن الكلام في الحقِّ، بل هذا يدلُّ على أنَّ الخائض فيه خائضٌ فيما لا علم له به، وأنه لا _________ (1) «زهر الربى»: «كما حدث للجبل إذا تجلى له تعالى خشوع أن صار دكا». (2) من «زهر الربى». (3) انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 177)، وحاشية السندي على «سنن النسائي» (3/ 144). (4) تقدم تخريجه (ص: 1353).

(3/1425)


ينبغي (1) له أن يخوض فيه ويقول على الله مالا يعلم، فأين في هذا الحديث ما يدلُّ على صحة علم أحكام النجوم؟! * وأمَّا حديثُ النهي عن السَّفر والقمرُ في العقرب (2)، فصحيحٌ من كلام المنجِّمين، وأمَّا رسولُ ربِّ العالمين فمَن نسَب إليه هذا الحديثَ وأمثالَه فإنه من أبعد الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعما جاء به علمًا وعملًا، بل ليس عنده من الرسول إلا اسمُه، وهل يسوغُ لمنتسبٍ إلى الإسلام أن يظُنَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا الحديثَ وأمثاله؟! (3) ولكن إذا بَعُدَ الإنسانُ عن نور النبوَّة، واشتدَّت غربتُه عمَّا جاء به الرسول، جوَّز عقلُه مثلَ هذا، كما يجوِّزُ عقلُ المشرك أن يقول النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو حَسَّنَ أحدُكم ظنَّه بحجرٍ نفعَه» (4)، وهذا ونحوُه من كلام عُبَّاد الأصنام الذين حسَّنوا ظنَّهم بالأحجار، فساقهم حُسْنُ ظنِّهم إلى دار البوار. * وأمَّا الروايةُ عن عليٍّ رضي الله عنه أنه نهى عن السَّفر والقمرُ في العقرب، فمِن الكذب على عليٍّ رضي الله عنه (5)، والمشهورُ عنه خلافُ _________ (1) (ت): «لأنه ينبغي». (2) تقدم تخريجه (ص: 1353). (3) من قوله: «فإنه من أبعد النَّاس» إلى هنا ساقط من (ق) لانتقال النظر. (4) باطلٌ لا أصل له. انظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 513، 19/ 146، 24/ 335)، و «منهاج السنَّة» (1/ 483)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 215)، و «المنار المنيف» (106)، و «المقاصد الحسنة» (402). (5) انظر ما تقدم (ص: 1353 - 1354).

(3/1426)


ذلك وعكسُه (1)، وأنه لما أرادَ الخروجَ لحرب الخوارج اعترضه منجِّمٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج، فقال: لأيِّ شيء؟ قال: إنَّ القمرَ في العقرب، فإن خرجتَ أُصِبتَ (2) وهُزِمَ عسكرُك، فقال عليٌّ رضي الله عنه: ما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأبي بكرٍ ولا لعمرَ منجِّم (3)، بل أخرجُ ثقةً بالله، وتوكُّلًا على الله، وتكذيبًا لقولك (4). فما سافر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرةً أبركَ منها؛ قتَل الخوارج، وكفى المسلمين شرَّهم، ورجعَ مؤيَّدًا منصورًا، فائزًا ببشارة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمن قتلهم حيث يقول: «شرُّ قتلى تحت أديم السَّماء، خيرُ قتيلٍ من قتلوه» (5)، وفي لفظٍ: «طوبى لمن قتلهم» (6)، وفي _________ (1) ولو صحَّ فيحمل على ما قال ابن نجيم في «البحر الرائق» (3/ 387): «هذا إن صحَّ عنه فإنما نهي عنه لئلَّا يتفق اتفاقٌ فينسب إلى كون القمر في العقرب، فيكون إيمانًا بالنجوم وتكذيبًا للأخبار المروية في النهي في هذا الباب». فيكون من باب الأمر بالفرار من المجذوم على قول بعض أهل العلم. (2) (ت): «عطبت أو أصبت». (3) ليست في (ت، ق، د). وفي (ص): «منجما». (4) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (564 - زوائده)، وأبو الشيخ في «العظمة» (707). والقصة معروفة في كتب التواريخ، كما تقدم (ص: 1200). (5) أخرجه أحمد (5/ 253)، والترمذي (3000)، وابن ماجه (176) وغيرهم من حديث أبي أمامة. وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم (2/ 150) ولم يتعقبه الذهبي. (6) أخرجه البيهقي (8/ 188)، والطبراني في «الكبير» (8/ 121، 267، 269)، وغيرهما، ولفظه عندهم: «طوبى لمن قتلهم وقتلوه». وروي من حديث علي، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وابن أبي أوفى.

(3/1427)


لفظٍ: «تقتلُهم أَولى الطائفتين بالحقِّ» (1)، وفي لفظٍ: «لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتلَ عاد» (2)، وقال عليٌّ لأصحابه: «لولا أن تَبْطَروا (3) لحدَّثتكم بما لكم عند الله في قتلهم» (4). فكان هذا الظَّفرُ ببركة خلاف ذلك المنجِّم وتكذيبه والثِّقة بالله ربِّ النجوم والاعتماد عليه، وهذه سنَّة الله فيمن لم يلتفت إلى النجوم ولا بنى عليها حركاته وسكَناته وأسفارَه وإقامته، كما أن سُنَّتَه نكبةُ من بنى عليها وكان منقادًا لأربابها عاملًا بما يحكمون له به، وفي التجارب من هذا ما يكفي اللبيبَ المؤمن (5)، والله الموفِّق. فصل والذي أوجبَ للمنجِّمين كراهيةَ السَّفر والقمرُ في العقرب أنهم قالوا: السَّفر أمرٌ يرادُ لخيرٍ من الخيرات، فإذا كان الوصولُ إلى ذلك الأمر أسرع (6) كان أجود، فينبغي على هذا أن يكون القمرُ في برجٍ منقلب، والعقربُ برجٌ ثابت، والثوابتُ عندهم تدلُّ على الأمور البطيئة. قالوا: وأيضًا، البرجُ (7) للمرِّيخ، والمرِّيخُ عندهم نحسٌ أكبر، والنحسُ _________ (1) أخرجه مسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه البخاري (3343) ومسلم (1064). (3) من البَطَر، وهو الطغيان في النعمة وقلَّة احتمالها. وفي (ق، ت): «تنظروا». وهو تحريف. وأهملت في (د). والمثبت من مصادر الرواية. (4) أخرجه مسلم (1066)، وأبو داود (4763)، وابن ماجه (167) وغيرهم. (5) وقد تقدم ذكر بعضها (ص: 1223). (6) (ت): «إلى ذلك على هذا الأمر أسرع». (7) أي: برج العقرب.

(3/1428)


يَنْحَسُ الحظوظَ على أصحابها، فينبغي أن يكون القمرُ في برج سَعْدٍ؛ لأنَّ السعدَ ينفعُ والنحسَ يضرُّ. وأيضًا، فإنَّ هذا البرجَ هو برجُ هبوط القمر، وإذا كان الكوكبُ في هبوطه لا يلتئمُ لصاحبه ما يريدُه ويقصدُه، بل يكون وبالًا عليه؛ لأنَّ الكوكبَ الهابطَ عندهم كالمنكَّس (1). وأيضًا، فإنَّ القمرَ عندهم ربُّ تاسع العقرب، وإذا كان ربُّ التاسع منحوسًا فالسَّفر مكروه؛ لأنَّ التاسعَ منسوبٌ إلى السَّفر. وبالجملة، فإنَّ العقربَ عندهم شرُّ البروج وللقمر (2) على الإطلاق. قالوا: فلذلك ينبغي الحذرُ من السَّفر والقمرُ في العقرب. قالوا: فمَن كره السَّفر إذ ذاك فإنما يكرهُه بعلمه وعقله، وأميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب أعقلُ أهل الأرض في زمانه (3) وأعلمُهم، فهو أولى بكراهته. وليس ذلك مخصوصًا عندهم بالسَّفر وحده، بل يكرهون جميعَ الابتداآت والاختيارات والقمرُ في العقرب، ولما كان القمرُ أسرعَ الكواكب حركةً، فهو أولى أن يكون دليلًا على الأمور المنقلبة، والسَّفر أمرٌ منقلب، والعقربُ فبرجٌ ثابتٌ غير منقلب (4). _________ (1) الضبط من (ق). (2) (ت): «والقمر». ولعل الصواب: للقمر. (3) (د، ق): «أعقل أهل زمانه». (4) (ت، ق): «منقلب غير ثابت». والمثبت من (ط).

(3/1429)


والتجربةُ والواقع من أكبر شاهدٍ على تكذيبهم في هذا الحكم، فكم ممَّن سافر وتزوَّج وابتدأ واختار والقمرُ في العقرب، وتمَّ له مرادُه على أكمل ما كان يؤمِّله، ولا يزالُ الناسُ يُنْشِؤون الأسفارَ والابتداآت والاختيارات في كلِّ وقتٍ والقمرُ في العقرب وغيره، ويَحْمَدُون عواقبَ أسفارهم، كما أنشأ أميرُ المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه سفرَ جهاده للخوارج والقمرُ في العقرب، وأنشأ المعتصمُ سفرَ فتح عمورية وجهاد أعداء الله والقمرُ في العقرب، وقد أجمعَ الكذَّابون أنه إن خرجَ كُسِرَ عسكرُه وقُتِلَ أو أُسِرَ، فبيَّن الله للمسلمين كذبَهم بذلك الفتح الجليل، ولو استقصينا أمثالَ هذه الوقائع لطال الأمرُ جدًّا. ومن أراد أن يعلمَ كذبَهم قطعًا فليبتداء سفرًا أو اختيارًا أو بناءً أو غيره والقمرُ في العقرب، وليتوكَّل على الله وليسافر، فإنه يرى ما يغبطُه ويسرُّه. ومِنْ أبين الكذب والبَهْت الكذبُ على الحسِّ والواقع (1)، وهذا الذي كرهوه وحذَّروا منه لو كان الواقع شاهدًا به لكان الناسُ لا يختارون ولا يسافرون ولا يبتدئون شيئًا البتة والقمرُ في العقرب، وكان علمُهم بهذا وتجربتُهم له معلومًا بالضرورة، فكيف والأمرُ بالعكس؟! وأيضًا، فيقال لهم: قد يكونُ القمرُ في العقرب ويجامعُه السُّعود، وهما المشتري والزُّهَرة مثلًا، ويكون ربُّ بيت السَّفر وبيتُ الطالع وبيتُ السَّفر أيضًا سُعودات. فهلَّا قلتم: إنَّ السَّفر حينئذٍ يكونُ صالحًا؛ لاجتماع هذه السُّعودات في _________ (1) (ت): «والوقائع».

(3/1430)


البرج المنقلب، واجتماعُها يُكسِبُها قوَّةً؟! بل قال فضلاؤكم: لا يكونُ (1) القمرُ في العقرب مسعودًا وإن جامعَ السُّعود. بل قالوا: إنَّ السُّعودَ أيضًا تنتحسُ فيه، فإذا حلَّ السُّعودُ العقربَ انتحست فيه. ولذلك قلتم: إنَّ الشمسَ إذا حلَّت فيه انتحَسَت أيضًا وضَعُفَت جدًّا (2)، وإن كان معه السَّعدان، أعني المشتري والزُّهَرة. فلو قُلِبَ عليكم هذا الاستدلال، وقيل: إذا حلَّت السُّعودُ في هذا البرج قَوِيَ فعلُها وتضافر بعضُها مع بعض، فقويَ السَّعدُ باجتماعها، ولم يَقْوَ البرجُ على إنحاسها، وقوةُ زُحَل والمرِّيخ النَّحسَيْن على هذا البرج (3) لا تستلزمُ إنحاسَ هذه السُّعود، بل لو قال القائل: إنَّ سعادتَها تؤثِّرُ في نحسِها= كان مِن جنس قولكم. ومِن هنا قال أبو نصر الفارابيِّ: واعلم أنك لو قلبتَ أوضاعَ المنجِّمين فجعلتَ السَّعدَ نحسًا، والنحسَ سعدًا، والحارَّ باردًا، وعكسَه، ثم حكمتَ، لكانت أحكامُك من جنس أحكامهم، تصيبُ وتخطاء (4). فصل * وأمَّا ما احتجَّ به من الأثر عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتاه، فقال: _________ (1) (د): «ولم لا يكون». وهو خطأ. (2) (ق، د): «إذا حلت فيه ضعفت أيضًا جدا». (3) (ت): «النحس على البروج». (4) تقدم (ص: 1195).

(3/1431)


إني أريدُ السَّفر، وكان ذلك في مَحَاق الشَّهر، فقال: أتريدُ أن يمحَق اللهُ تجارتَك؟! استقبِل هلالَ الشَّهر بالخروج (1) = فهذا لا يُعْلَمُ ثبوتُه عن علي، والكذَّابون كثيرًا ما يُنَفِّقُون سِلَعَهم الباطلة بنسبتها إلى عليٍّ وأهل بيته، كأصحاب القُرْعَة والجَفْرِ والبطاقة والهَفْتِ والكيمياء والمَلاحِم وغيرها (2)، فلا يدري ما كُذِبَ على أهل البيت إلا الله سبحانه. ثمَّ لو صحَّ هذا عن عليٍّ رضي الله عنه لم يكن فيه تعريضٌ لثبوت أحكام النجوم بوجه. ولا ريب أنَّ استقبالَ الأسفار والأفعال في أوائل النهار والشَّهر والعام لها مَزِيَّة، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «اللهمَّ بارك لأمَّتي في بُكورها» (3)، وكان صخر _________ (1) تقدم (ص: 1432). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 217، 4/ 78، 79، 11/ 55، 582، 35/ 183)، و «منهاج السنة» (2/ 464، 4/ 54، 7/ 534، 8/ 10، 11، 136)، و «بغية المرتاد» (321، 328)، و «أبجد العلوم» (2/ 214، 215، 433). (3) أخرجه الترمذي (1212)، وأبو داود (2606)، وابن ماجه (2236)، وغيرهم من حديث يعلى بن عطاء عن عمارة بن حديد عن صخر الغامدي. حسَّنه الترمذي، وعبد الحق في «الأحكام الوسطى» (3/ 28)، وصححه ابن حبان (4754)، وجوَّده العقيلي في «الضعفاء» (1/ 236، 124، 2/ 20، 322، 3/ 192، 244، 319، 4/ 10، 177). وأعله أبو حاتم في «العلل» (2/ 268)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 326)، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (716)، والذهبي في «الميزان» (3/ 175)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 486) بأنَّ صخرًا لا يُعْرَفُ إلا في هذا الحديث الواحد، ولا قيل إنه صحابيٌّ إلا به، ولا نقَل ذلك إلا عمارة، وعمارة مجهول. وروي من أوجه كثيرة غير هذا، لا يثبت منها شيء. وقال أبو حاتم: لا أعلم فيه حديثًا صحيحًا. وقد اعتنى به ابن عدي، فأورده في «الكامل (1/ 269، 363، 364، 2/ 220، 329، 3/ 64، 324، 4/ 92، 255، 305، 5/ 5، 60، 61، 75، 189، 6/ 165، 188، 284، 7/ 29، 106، 137، 145، 241، 280) من طرقٍ كثيرةٍ مبينًا عللها، وكذا ابن الجوزي في «العلل المتناهية». وصنَّف فيه المنذري جزءًا مال فيه إلى ثبوته من بعض طرقه.

(3/1432)


الغامديُّ راوي الحديث إذا بعَث تجارةً له بعَثها في أول النهار، فأثرى وكثُر مالُه. ونسبةُ أول النهار إليه كنسبة أول الشَّهر إليه وأول العام إليه، فللأوائل مزيَّةُ القُوَّة، وأولُ النهار والشَّهر (1) والعام (2) بمنزلة شبابه، وآخرُه بمنزلة شيخوخته، وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة، وحكمةُ الله تقتضيه (3). * وأمَّا ما ذكره عن اليهوديِّ الذي أخبرَ ابنَ عباسٍ بما أخبره مِن موت ابنه، إلى تمام ذكر القصة؛ فهذه الحكايةُ إن صحَّت فهي من جنس إخبار الكهَّان بشيءٍ من المغيَّبات، وقد أخبرَ ابنُ صيَّادٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما خَبَّأ له في ضميره، فقال له: «إنما أنت من إخوان الكهَّان» (4). _________ (1) (ق): «والشمس». وهو تحريف. (2) «والعام» من (ص). (3) بوَّب البخاري في «الصحيح»: «باب الخروج آخر الشهر». قال الحافظ في «الفتح» (6/ 114): «أي ردًّا على من كره ذلك من طريق الطِّيرة، وقد نقل ابن بطال أن أهل الجاهلية كانوا يتحرَّون أوائل الشهور للأعمال، ويكرهون التصرُّف في محاق القمر». (4) خبر ابن صياد مخرَّج في الصحيحين وغيرهما، قال له النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: «اخسأ فلن تعدو قدرَك»، وليس فيه العبارة التي ذكرها المصنف، وأوردها ابن تيمية في «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (162) تفسيرًا، فقال: «يعني: إنما أنت من إخوان الكهَّان»، وهو أشبه، إذ لم أجدها في شيءٍ من كتب الحديث، وإنما وردت في حديث دية الجنين. وقد نُسِبَت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وقع هنا في «النبوات» (1045)، و «مدارج السالكين» (3/ 227).

(3/1433)


وعلمُ تَقْدِمة المعرفة لا يختصُّ بما ذكره المنجِّمون، بل له عدَّة أسبابٍ تصيبُ وتخطاء، ويَصْدُقُ الحكمُ معها ويكذِب؛ منها: الكِهَانة، ومنها: المنامات، ومنها: الفألُ والزَّجر، ومنها: السَّانحُ والبارحُ (1)، ومنها: الكَتِف (2)، ومنها: ضربُ الحصى، ومنها: الخطُّ في الأرض، ومنها: الكُشوفُ المستندة إلى الرِّياضة، ومنها: الفِرَاسة، ومنها: الحِزَاية (3)، ومنها: علمُ الحروف وخواصِّها، إلى غير ذلك [من الأمور] التي يُنالُ بها جزءٌ يسيرٌ من علم الكُهَّان. _________ (1) سيأتي تفسيره في كلام المصنف (ص: 1469). (2) (ت، ص): «الكيف». وهي مهملة في (ق، د). وفي (ط): «الكف»، وهي محتملة. والمثبت من «روح المعاني» (13/ 113)، وهو أقربُ إلى رسم الكلمة في الأصول. وهو علمٌ باحثٌ عن الخطوط والأشكال التي ترى في أكتاف الضأن والمعز إذا قوبلت بشعاع الشمس، من حيث دلالتها على أحوال العالم، من الحروب وأحوال الخصب والجدب. انظر: «أبجد العلوم» (2/ 91). (3) مهملة في (ق، د، ص) إلا الياء فمعجمة. (ت): «الحرانه». حزا يحزو ويحزي حزوًا وحزيًا، وتحزَّى: تكهَّن، وتخرَّص، وزجَر الطير. «اللسان» (حزا). فهي كالعيافة والكهانة وزنًا ومعنى، ولم تذكرها المعاجم. ويحتمل أن تكون: «الحِزارة»، من الحزر، وهو التقدير والخرص والتخمين. وتأتي بمعنى القيافة. انظر: «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (12/ 350). والأول أشبه وأقربُ إلى رسم الكلمة في الأصول.

(3/1434)


وهذا نظيرُ الأسباب التي يستدلُّ بها الطبيبُ والفلَّاح والطبائعيُّ على أمورٍ غيبيَّةٍ بما تقتضيه تلك الأدلة. مثالُه: الطبيبُ إذا رأى الجرحَ مستديرًا حكمَ بأنه عَسِرُ البرء، وإذا رآه مستطيلًا حكمَ بأنه أسرعُ برءًا. وكذلك علاماتُ البَحَارِين (1)، وغيرها. ومن تأمَّل ما ذكره بقراطُ في علائم الموت رأى العجائب (2)، وهي علاماتٌ صحيحةٌ مجرَّبة. وكذلك ما يحكُم (3) به الرُّبَّانُ في أمورٍ تحدثُ في البحر والرِّيح بعلاماتٍ تدلُّ على ذلك، من طُلوع كوكبٍ أو غروبه أو علاماتٍ أخرى، فيقول: يقعُ مطرٌ، أو يحدثُ ريحُ كذا وكذا، أو يضطربُ البحرُ في مكان كذا ووقت كذا، فيقعُ ما يحكمُ به. وكذلك الفلَّاحُ يرى علاماتٍ فيقول: هذه الشجرةُ يصيبها كذا، وتيبسُ في وقت كذا، وهذه الشجرةُ لا تحمِلُ العام، وهذه تحمِل، وهذا النباتُ يصيبه كذا وكذا؛ لِمَا يرى من علاماتٍ يختصُّ هو بمعرفتها. _________ (1) جمع «بُحْران»، وهو التغيُّر الذي يحدث للعليل فجأة. وسبق تفسيره. ويجمع أيضًا على «بُحرانات». انظر: «الفهرست» (361)، و «زاد المعاد» (4/ 100)، و «تحفة المودود» (210). (2) ذكر في «معجم المطبوعات العربية» (23، 801) أنَّ رسالة «دلائل قرب الموت» لبقراط طبعت في لكناو سنة 1284. وأورد ابن سينا والرازي في «القانون» و «الحاوي» جملةً كثيرة من تلك الدلائل. (3) في الأصول: «علم». وهو تحريف.

(3/1435)


بل هذا أمرٌ لا يختصُّ بالإنسان، بل كثيرٌ من الحيوان يعرفُ أوقاتَ المطر والصَّحو والبرد وغيره، كما ذكره الناسُ في كتب الحيوان. والفرسُ الرديءُ الخُلُق إذا رأى اللِّجام من بعيدٍ نَفَرَ وجزعَ وعضَّ من يريدُ أن يُلْجِمَه، علمًا منه بما يكونُ بعد اللِّجام. وهذه النملةُ إذا خزَنت الحَبَّ في بيوتها كَسَرَتْه نصفَين، علمًا منها بأنه ينبتُ إذا كان صِحاحًا، وأنه إذا تكسَّر لا ينبت، فإذا خزَنت الكُسْفُرة (1) كسرَتها بأربعة أرباع، علمًا منها بأنها تنبتُ إذا كُسِرَت بنصفين. وهذا السِّنَّور يدفنُ أذاهُ ويغطِّيه بالتراب، علمًا منه بأنَّ الفأرَ يهربُ من رائحته، فيفوتُه الصَّيد، ويشمُّه أوَّلًا فإن وجَد رائحتَه شديدةً غطَّاه بحيث يواري الرَّائحةَ والجِرْم، وإلا اكتفى بأيسر التغطية. وهذا الأسدُ إذا مشى في لِينٍ (2) سَحَبَ ذنبَه على آثارِ رجليه ليغطِّيها، علمًا منه بأنَّ المارَّ يرى مواطاءَ رجليه ويديه. وإذا ألِفَ السِّنَّورُ المنزلَ منَع غيرَه من السَّنانير الدخولَ إلى ذلك المنزل، وحاربهم أشدَّ محاربة، وهم مِن جنسه؛ علمًا منه بأنَّ أربابَه ربما استحسنوه وقدَّموه عليه، أو شاركوا بينه وبينه في المطعم، وإن أخَذ شيئًا مما يخزُنه أصحابُ المنزل عنه هرَب، علمًا منه بما يكونُ إليه منهم من الضَّرب، فإذا ضربوه تملَّقهم أشدَّ التملُّق، وتمسَّح بهم، ولَطَعَ أقدامهم (3)، علمًا منه _________ (1) هي الكزبرة. قال البعلي في «المطلع» (129): «لم أرها تقال بالفاء، مع شدَّة بحثي عنها، وكشفي من كتب اللغة، وسؤالي كثيرًا من مشايخي». (2) أي: أرضٍ لينة. (3) أي: لحَسَها.

(3/1436)


بما يحصِّلُه له المَلَقُ (1) من العفو والإحسان. وهذا في الحيوان البهيم أكثرُ من أن نذكره، فله من تَقْدِمة المعرفة ما يليقُ به، وللخيل والحمَام من ذلك عجائب، وكذلك الثَّعلب وغيره. فعُلِمَ أنَّ هذا أمرٌ عامٌّ للإنسان والحيوان، أُعطِيَ من تَقْدِمة المعرفة بحسبه، وأسبابُ هذه التَّقْدِمة تختلف. والأممُ الذين لم يتقيَّدوا بالشرائع لهم اعتبارٌ عظيمٌ بهذا، وكذلك من قلَّ التفاتُه واعتناؤه بما جاءت به الرسل فإنه يشتدُّ التفاتُه ويكثرُ نظرُه واعتناؤه بذلك. وأمَّا أتباعُ الرسل، فقد أغناهم الله بما جاءت به الرسلُ من العلوم النَّافعة والأعمال الصالحة عن هذا كلِّه، فلا يعتنون به ولا يجعلونه من مطالبهم المهمَّة؛ لأنَّ ما يطلبونه أعلى وأجلُّ من هذا، ومع هذا فلهم منه أوفرُ نصيبٍ بحسب متابعتهم الرسل، من الفراسة الصادقة، والمنامات الصحيحة، والكُشوفات المطابِقة، وغيرها، وهِمَمُهم لا تقفُ عند شيءٍ من ذلك، بل هي طامحةٌ نحو كشف ما جاء به الرسولُ من الهدى ودين الحقِّ في كلِّ مسألة، وهذا أعظمُ الكُشوفِ وأجلُّه وأنفعُه في الدَّارين، مع كشف عيوب النفس وآفات الأعمال. وأمَّا الكشفُ الجزئيُّ (2) عمَّا أكلَ فلانٌ، وعمَّا أحدثه في داره، وعمَّا يجري له في غدِه، ونحو ذلك؛ فهذا مما لا يعبأ به من علَت هِمَّتُه، ولا _________ (1) (ت، ص): «بما يحصل له من الملق». (2) (د): «الجزوي». بتسهيل الهمز.

(3/1437)


يتلفتُ إليه ولا يَعُدُّه شيئًا، على أنه مشتركٌ (1) بين المؤمن والكافر، فلِعُبَّاد الأصنام والمجوس والصابئة والفلاسفة والنصارى من ذلك شيءٌ كثير، وذلك لا ينفعُهم عند الله ولا يخلِّصُهم من عذابه. وهؤلاء الكُهَّانُ وعبيدُ الجنِّ والسَّحرةُ لهم من ذلك أمورٌ معروفة، وهم أكفرُ الخلق (2)، فغايةُ هذا المنجِّم اليهوديِّ الذي أخبَر ابنَ عباسٍ بما أخبره أن يكونَ واحدًا من هؤلاء، فكان ماذا؟! وهل يقفُ عند هذا إلا الهِمَمُ الدنيئة السُّفلية التي لا نهضةَ لها إلى الله والدار الآخرة، لِمَا يُرى (3) لها بذلك من التمييز عن الهَمَج الرَّعاع من بني آدم؟! فصل * وأمَّا احتجاجُه بحديث أبي الدرداء: «لقد توفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وتركنا وما طائرٌ يقلِّبُ جناحيه إلا وقد ذكَّرنا منه علمًا» (4)؛ فهذا حقٌّ وصدق، وهو من أعظم الأدلَّة على إبطال قولكم وتكذيبكم فيما تدَّعونه من علم أحكام النجوم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ذكَّرهم علمَ كلِّ شيءٍ حتى الخِراءة، وذكَّرهم من علم كلِّ طائرٍ (5) وكلِّ حيوان، وكلِّ ما في هذا العالم، ولم يذكِّرهم من علم أحكام النجوم شيئًا البتَّة، _________ (1) (ت، ق، ص): «يشترك». (2) (ص): «من أكفر الخلق». (3) الضبط من (ص). وفي (ت، ق): «يري». (4) تقدم تخريجه (ص: 1355). (5) (ت، ص): «وذكرهم من كلِّ طائر».

(3/1438)


وهو - صلى الله عليه وسلم - أجلُّ من هذا وأعظم، وقد صانه الله سبحانه عن ذلك. وإنما الذي ذكَّركم بهذه الأحكام المشركون عُبَّادُ الأصنام والكواكب، مثلُ بَطْليموس، وتنكلوسا (1)، وطمطم (2) صاحب الدَّرَج، وهؤلاء مشركون عبَّادُ أصنام، وكذلك أتباعهم. أفلا يستحي رجلٌ أن يذكرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام؟! نعم؛ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذكَّر أمَّتَه مِن تكذيبكم، وكفركم، ومعاداتكم، والبراءة منكم، والإخبار بأنكم وما تعبُدون من دون الله حصبُ جهنَّم أنتم لها واردون= ما يعرفُه من عرَف ما جاء به من أمَّته، والبَهْت (3) والفرية والكذب على الله ورسوله. هل كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحدٌ من أهل بيته مثبتًا لأحكام النجوم، عاملًا بها في حركاته وسكناته وأسفاره، كما هو المعروفُ من المشركين وأتباعهم؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. * وأمَّا قولُه: إنه جاء في الآثار أنَّ أوَّل من أعطي هذا العلمَ آدم؛ لأنه _________ (1) البابلي. له كتاب: «الوجوه والحدود»، و «درجات الفلك». انظر: «الفهرست» (2/ 220 ــ نشرة أيمن فؤاد)، و «أخبار الحكماء» (143)، و «الرد على المنطقيين» (286)، و «علم الفلك» لنلِّينو (198، 209). وتحرف في (ت): «بيكلوسا». (ص): «بيكلوشا». (ط): «بنكلوسا». وأهمل في (د، ق). (2) منجمٌ هندي، له كتاب في صور الدَّرج والكواكب. فيه شركٌ وسحر. انظر: «الرد على المنطقيين» (287)، و «مقدمة ابن خلدون» (554)، و «أبجد العلوم» (2/ 319)، و «كشف الظنون» (1/ 404، 650، 2/ 1435). (3) (ت، د): «وبالبهت».

(3/1439)


عاش حتى أدرك من ذرِّيته أربعين ألف أهل بيت، وتفرَّقوا عنه في الأرض، فكان يغتمُّ لخفاء خبرهم عليه، فأكرمه الله تعالى بهذا العلم، فكان إذا أراد أن يعرفَ حال أحدهم حسَبَ له بهذا الحساب فيقفُ على حالته= فليس هذا بِبِدْعٍ من بَهْتِ المنجِّمين والملاحدة وإفكهم وافترائهم على آدم، وقد عملوا بالمثل السَّائر هنا: إذا كَذَبْتَ فأَبعِدْ شاهدَك (1). فصل * وأمَّا ما نسَبه إلى الشافعيِّ من حكمه بالنجوم (2) على عمر ذلك المولود؛ فلقد نسَب الشافعيَّ إلى هذا العلم وحكمه فيه بأحكامٍ ليعجَزُ عن مثلها أئمَّةُ المنجِّمين. وأظنُّ الذي غرَّه في ذلك أبو عبد الله الحاكم، فإنه صنَّف في «مناقب الشافعي» كتابًا كبيرًا (3)، وذكر علومَه في أبواب، وقال: البابُ الرابع والعشرون في معرفته تسييرَ الكواكب من علم النجوم. وذكر فيه حكاياتٍ عن الشافعي تدلُّ على تصحيحه لأحكام النجوم. وكان هذا الكتابُ وقعَ للرازي، فتصرَّفَ فيه وزاد ونقص، وصنَّف «مناقب الشافعي» من هذا الكتاب، على أنَّ في كتاب الحاكم من الفوائد والآثار ما لم يُلِمَّ به الرازي. والذي غرَّ الحاكمَ من هذه الحكايات تساهلُه في إسنادها، ونحن نبيِّنها _________ (1) انظر: «النوادر» لأبي مسحل (489)، و «الأمثال المولدة» للخوارزمي (313). (2) في الأصول: «على النجوم». والمثبت من (ط). (3) وصفه السبكي في «الطبقات» (1/ 334) بأنه مصنفٌ جامع. وروى البيهقي من طريقه كثيرًا في كتابه «مناقب الشافعي»، والنقل عنه مستفيض، ولم يُعْثَر عليه بعد.

(3/1440)


ونبيِّنُ حالَها، ليتبيَّن أنَّ نسبةَ ذلك إلى الشافعيِّ كذبٌ عليه، وأنَّ الصحيحَ عنه من ذلك ما كانت العربُ تعرفُه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطُّرقات، وهذا هو الثابتُ الصَّحيحُ عنه بأصحِّ إسنادٍ إليه. قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: «قال الله عزَّ وجل: {هُوَ (1) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]، وقال: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وكانت العلاماتُ جبالًا يعرفونَ مواضعها من الأرض، وشمسًا وقمرًا ونجمًا مما يعرفون من الفلَك، ورياحًا يعرفونَ صفاتها (2) في الهواء تدلُّ على قصدِ البيت الحرام» (3). وأمَّا الحكاياتُ التي ذُكِرَتْ عنه في أحكام النجوم، فثلاثُ حكايات: إحداها: قال الحاكم: قُرِاء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي _________ (1) كذا في الأصول، بدون الواو. والتلاوة: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ}. والاكتفاء بموضع الشاهد في مقام الاستدلال والاستشهاد لا التلاوة، وتركُ حرف العطف ونحوه، جادةٌ سلكها جماعةٌ من أهل العلم، منهم الشافعي والبخاري، ووقع مثله في بعض الأحاديث. انظر: «الرسالة» (643، 974، 975)، و «شرح مسلم» للنووي (3/ 9)، و «فتح الباري» (2/ 458، 5/ 68، 7/ 168، 8/ 242، 272، 10/ 479، 11/ 98)، و «عمدة القاري» (12/ 246)، و «شرح المسند» لأحمد شاكر (4/ 131)، و «الحيوان» (3/ 15، 4/ 57، 276)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (1/ 17)، و «تحقيق النصوص» لعبد السلام هارون (51، 52). (2) «إبطال الاستحسان»: «مهابَّها». وهي أجود. (3) «إبطال الاستحسان» (9/ 71 - الأم). وأخرج البيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 125) من طريق شيخه الحاكم نحوه، وهو في «الرسالة» (66، 67).

(3/1441)


ــ وأكثرُ ظنِّي أني حضرتُه ــ: حدَّثنا أبو إسحاق إبراهيمُ بن محمد بن العباس الأزدي ــ في آخرين ــ، قالوا: حدثنا محمد بن أبي يعقوب الجوَّال الدِّينوري: حدثنا عبد الله بن محمد البلَوي: حدَّثني خالي عمارةُ بن زيد، قال: كنتُ صديقًا لمحمد بن الحسن، فدخلتُ معه يومًا على هارون الرشيد، فساءله (1)، ثمَّ إني سمعتُ محمد بن الحسن، وهو يقول: إنَّ محمد بن إدريس يزعمُ أنه للخلافة أهلٌ. قال: فاستشاطَ هارونُ من قوله غضبًا، ثمَّ قال: عَليَّ به. فلمَّا مثَل بين يديه أطرقَ ساعةً، ثمَّ رفعَ رأسَه إليه. فقال: إيهًا! قال الشافعي: ما إيهًا يا أمير المؤمنين؟ أنت الداعي وأنا المدعُوُّ، وأنت السَّائلُ وأنا المجيب. فذكر حكايةً طويلةً سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها، إلى أن قال: كيف علمُك بالنجوم؟ قال: أعرفُ الفلَكَ الدَّائر، والنجمَ السَّائر، والقطبَ الثابت، والمائيَّ، والناريَّ، وما كانت العربُ تسمِّيه الأنواء، ومنازلَ النيِّرَين: الشمس والقمر، والاستقامةَ والرجوع، والنُّحوسَ والسُّعود، وهيآتها وطبائعها، وما أستدلُّ به في برِّي وبحري، وأستدلُّ به في أوقات (2) صلاتي، وأعرفُ ما مضى من الأوقات في كلِّ مَمْسَى ومَصْبَح، وظعني في أسفاري. قال: فكيف علمك بالطِّب؟ قال: أعرفُ ما قالت الرومُ، مثل: أرسطاطاليس، ومهراريس (3)، وفرفوريُس (4)، وجالينوس، وبقراط، _________ (1) «مناقب الشافعي» للبيهقي (1/ 131): «فسأله». (2) «مناقب الشافعي» (1/ 133): «على أوقات». (3) انظر: «أخبار الحكماء» (23). وفي «مناقب الشافعي»: «منهواريس». (4) انظر: «الفهرست» (309، 311، 312، 313، 315)، و «أخبار الحكماء» (347). وفي «مناقب الشافعي»: «وقرقويس».

(3/1442)


وإنبدُقليس (1)، بلُغاتها، وما نُقِلَ (2) عن أطبَّاء العرب (3)، وفتَّقَته (4) فلاسفةُ الهند، ونمَّقَته علماءُ الفرس، مثلُ: حاماسف (5)، وشاهمرد، وبهمرد (6)، وبُزُرْجُمِهْر. ثمَّ ساق العلومَ على هذا النحو، في حكايةٍ طويلةٍ يعلمُ من له علمٌ بالمنقولات أنها كذبٌ مختلق، وإفكٌ مفترى على الشافعي، والبلاءُ فيها من عند عبد الله بن محمد (7) البلويِّ هذا، فإنه كذَّابٌ وضَّاع (8)، وهو الذي وضع رحلةَ الشافعي، وذكَر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد (9)، ولم ير الشافعيُّ أبا يوسف ولا اجتمع به قطُّ، وإنما دخَل بغدادَ بعد موته. ثمَّ إنَّ في سياق الحكاية ما يدلُّ من له عقلٌ على أنها كذبٌ مفترى؛ فإنَّ _________ (1) في الأصول: «واسدفليس». وفي «مناقب الشافعي»: «وأنبدقيليس». وانظر ما تقدم (ص:1257). (2) في الأصول: «نقلت». والمثبت من (ط). (3) «مناقب الشافعي»: «وما نقلت أطباء العرب». (4) غير محررة في الأصول، وأثبتها عن «مناقب الشافعي». (5) «مناقب الشافعي»: «خاماشف». (6) «مناقب الشافعي»: «وشاهم دويهم». (7) في الأصول: «محمد بن عبد الله». ومضى على الصواب. (8) انظر: «الميزان» (2/ 491)، و «الكشف الحثيث» (403). (9) أخرجها البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 130)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 58). وهي مكذوبةٌ مختلقة. انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 331)، و «الميزان» (1/ 315)، و «السير» (10/ 50)، و «البداية والنهاية» (13/ 620)، و «اللسان» (3/ 338)، و «توالي التأنيس» (131)، و «المقاصد الحسنة» (560).

(3/1443)


الشافعيَّ لم يعرف لغةَ هؤلاء اليونان البتَّة حتى يقول: إني أعرفُ ما قالوه بلغاتهم. وأيضًا، فإنَّ في هذه الحكاية أنَّ محمد بن الحسن وشَى بالشافعيِّ إلى الرشيد وأراد قتلَه، وتعظيمُ محمدٍ للشافعيِّ ومحبتُه له وتعظيمُ الشافعيِّ له وثناؤه عليه هو المعروف، وهو يدفعُ هذا الكذب. وأيضًا، فإنَّ الشافعيَّ رحمه الله لم يكن يعرف علمَ الطبِّ اليوناني، بل كان عنده من طبِّ العرب طَرفٌ حُفِظَ عنه في منثور كلامه بعضُه؛ كنهيه عن أكل الباذنجان بالليل، وأكل البيض المصلوق (1) بالليل، وكان يقول: عجبًا لمن يتعشى ببيضٍ وينام، كيف يعيش؟! (2). وكان يقول: عجبًا لمن يخرجُ من الحمَّام ولا يأكل، كيف يعيش؟! وعجبًا لمن يحتجم ثمَّ يأكل، كيف يعيش؟! يعني عقب الحجامة (3). وكان يقول: احذر أن تشربَ لهؤلاء الأطباء دواءً لا تعرفُه (4). _________ (1) كذا في الأصول. وقال الخليل في «العين» (1/ 129): «كلُّ صادٍ قبل القاف إن شئتَ جعلتها سينًا، لا تبالي متصلةً كانت بالقاف أو منفصلة، بعد أن تكونا في كلمة واحدة، إلا أنَّ الصاد في بعض الأحيان أحسن، والسِّين في مواطن أخرى أجود». وانظر: «الكتاب» (4/ 117)، و «الأصول» لابن السراج (3/ 431)، و «شرح الشافية» (3/ 230)، و «القلب والإبدال» لابن السكيت (42)، و «رسالة الملائكة» لأبي العلاء (22)، و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (177)، و «الفرق بين الحروف الخمسة» للبطليوسي (706، 709). (2) «مناقب الشافعي» (2/ 118). (3) «مناقب الشافعي» (2/ 119). (4) «آداب الشافعي ومناقبه» لابن أبي حاتم (323).

(3/1444)


وكان يقول: لا تسكُن ببلدةٍ ليس فيها عالمٌ ينبئك عن دينك، ولا طبيبٌ ينبئك عن أمر بدنك (1). وكان يقول: لم أر شيئًا أنفع للوباء من البَنَفْسَج يُدَّهَنُ به ويُشْرَب (2). إلى أمثال هذه الكلمات التي حُفِظَت عنه، فأمَّا أنه كان يعلمُ طبَّ اليونان والروم والهند والفُرس بلغاتها؛ فهذا بَهْتٌ وكذبٌ عليه قد أعاذه اللهُ من دعواه. وبالجملة، فمن له علمٌ بالمنقولات لا يستريبُ في كذب هذه الحكاية عليه، ولولا طولها لسُقناها ليتبيَّن أثرُ الصَّنعة والوضع عليها. أمَّا الحكايةُ الثانية، فقال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه، قال: وحُدِّثتُ عن الحسن بن سفيان، عن حرملة، قال: كان الشافعيُّ يُدِيمُ النظرَ في كتب النجوم، وكان له صديقٌ وعنده جاريةٌ قد حَبِلت، فقال: إنها تلدُ إلى سبعةٍ وعشرين يومًا، ويكونُ في فخذ الولد الأيسر خالٌ أسود ويعيشُ أربعةً وعشرين يومًا، ثمَّ يموت، فجاءت به على النَّعت الذي وَصَف، وانقضت مدَّتُه فمات، فأحرَق الشافعيُّ بعد ذلك تلك الكتب، وما عاودَ النظرَ في شيءٍ منها (3). وهذا الإسنادُ رجاله ثقات، لكنَّ الشأنَ فيمن حدَّثَ أبا الوليد بهذه الحكاية عن الحسن بن سفيان، أو فيمن حدَّثَ بها الحسن عن حرملة. _________ (1) «آداب الشافعي ومناقبه» (322). (2) «آداب الشافعي ومناقبه» (324). (3) أخرجها البيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 126) من طريق الحاكم.

(3/1445)


وهذه الحكايةُ لو صحَّت لوجبَ أن تُثنى الخناصرُ على هذا العلم، وتُشَدَّ به الأيدي، لا أن تُحْرَق كتبُه، وتُهَان غايةَ الإهانة، وتُجْعَل طُعْمَةً للنار، وهذا لا يُفْعَلُ إلا بكتب المُحال والباطل (1). ثمَّ إنه ليس في طالع الولادة (2) ما يقتضي هذا كلَّه، كما سنذكُره عن قريبٍ إن شاء الله تعالى. والطالعُ عند المنجِّمين طالعان: طالعُ مسقَط النطفة؛ وهو الطالعُ الأصلي، وهذا لا سبيل إلى العلم به إلا في أندر النَّادر الذي لا يقتضيه الوجود. الثاني: طالعُ الولادة، وهم معترفون أنه لا يدلُّ على أحوال الولد وجزئيَّات أمره؛ لأنه انتقالُ الولد من مكانٍ إلى مكان، وإنما أخذوه بدلًا من طالع الأصل لمَّا تعذَّر عليهم اعتبارُه. وهذه الحكايةُ ليس فيها أخذُ واحدٍ من الطالعَيْن؛ لأنَّ فيها الحكمَ على المولود قبل خروجه من غير اعتبار طالعه الأصلي، والمنجِّمُ يقطعُ بأنَّ الحكمَ على هذا الولد لا سبيل إليه، وليس في صناعة النجوم ما يوجبُ الحكمَ عليه والحالة هذه، وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الحكايةَ كذبٌ مختلقٌ على الشافعي على هذا الوجه. وكذلك الحكاية الثالثة، وهي ما رواه الحاكمُ أيضًا: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي: أنَّ زكريا بن يحيى السَّاجي حدثهم: _________ (1) انظر: «الطرق الحكمية» (710)، و «زاد المعاد» (3/ 581). (2) (د، ت): «عالم طالع الولادة». (ق): «العالم طالع الولادة». والمثبت من (ص).

(3/1446)


أخبرني أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي، قال: سمعتُ أبي يقول: كان الشافعيُّ وهو حَدَثٌ ينظرُ في النجوم، وما نظر في شيءٍ إلا فاقَ فيه، فجلس يومًا وامرأةٌ تَلِد، فحسَبَ، فقال: تلدُ جاريةً عوراءَ على فرجها خالٌ أسود، وتموتُ إلى كذا وكذا، فولدت، فكان كما قال، فجعل على نفسه ألا ينظُر فيه أبدًا (1). وأمرُ هذه الحكاية كالتي قبلها، فإنَّ ابن بنت الشافعيِّ لم يلقَ الشافعيَّ ولا رآه، والشأنُ فيمن حدَّثه بهذا عنه (2). والذي عندي في هذا أنَّ الناقل إن أُحسِنَ به الظَّنُّ فإنه غَلِط على الشافعي، والشافعيُّ كان مِن أفرَس الناس، وكان قد قرأ كتبَ الفراسة، وكانت له فيها اليدُ الطُّولى، فحكمَ في هذه القضية وأمثالها بالفراسة، فأصابَ الحكم، فظنَّ الناقلُ أنَّ الحكمَ كان يستندُ إلى قضايا النجوم وأحكامها، وقد برَّأ الله مَن هو دون الشافعيِّ من ذلك الهذيان، فكيف بمثل الشافعيِّ رحمه الله في عقله وعلمه ومعرفته حتى يَرُوجَ عليه هذيانُ _________ (1) أخرجها البيهقي (2/ 125، 126) من طريق الحاكم. وعبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الأسدي، الهمذاني، أبو القاسم (ت: 352)، متهمٌ بالكذب. انظر: «تاريخ بغداد» (10/ 292)، و «تاريخ الإسلام» (8/ 46)، و «اللسان» (3/ 411). وأخرجها البيهقي من وجهٍ آخر عن الساجي. وفيه من لم أعرفه. وأخرجها أبو نعيم في «الحلية» (9/ 77) من طريق عمرو بن عثمان المكي عن ابن بنت الشافعي عن أبيه بالقصة. ورواته ثقات. (2) قد صرَّح بأنه يرويه عن أبيه كما ترى، وأبوه محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس، صحب الشافعيَّ، وروى عنه، وتزوَّج ابنته. وأظنُّ المصنف رحمه الله ذهب وهمُه إلى أن ابن بنت الشافعي هو محمد. وإنما هو أحمد بن محمد.

(3/1447)


المنجِّمين الذي لا يروجُ إلا على جاهلٍ ضعيف العقل؟! وتنزُّه الشافعيِّ (1) رحمه الله عن هذا هو الذي ينبغي أن يكونَ من مناقبه، فأمَّا أن يُذْكَر في مناقبه أنه كان منجِّمًا يرى القول بأحكام النجوم ويصحِّحها (2)، فهذا فعلُ من يَذُمُّ بما يظنُّه مدحًا! وإذا كان الشافعيُّ شديدَ الإنكار على المتكلِّمين، مُزْريًا بهم، حكمُه فيهم أن يُضرَبوا بالجَرِيد، ويُطافَ بهم في القبائل (3)، فماذا رأيه في المنجِّمين؟! وهو أجلُّ وأعلمُ من أن يحكُمَ بهذا الحكم على أهل الحقِّ ومَن قضاياهم في الصِّدق تنتهي إلى الحدِّ الذي ذُكِر في هذه الحكايات (4). فذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم والحاكمُ وغيرهما عن الحُميدي، قال: قال الشافعي: خرجتُ إلى اليمن في طلب كتب الفراسة، حتى كتبتُها وجمعتُها، ثمَّ لما كان انصرافي مررتُ في طريقي برجلٍ وهو مُحْتَبٍ بفناء داره، أزرقِ العين، ناتاء الجبهة، سِنَاط (5)، فقلتُ له: هل من منزل؟ قال: نعم. قال الشافعي: وهذا النَّعتُ أخبثُ ما يكونُ في الفراسة. فأنزلَني، فرأيتُ أكرمَ رجل؛ بعَث إليَّ بعشاءٍ وطِيبٍ وعَلَفٍ لدوابِّي وفراشٍ ولِحَاف، فجعلتُ أتقلَّبُ الليلَ أجمَع، ما أصنعُ بهذه الكتب؟! فلمَّا أصبحتُ قلتُ _________ (1) (د، ق): «وتنزيه الشافعي». (2) (ق): «وتصحيحها». (3) أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 426)، والهروي في «ذم الكلام» (1142)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 116). (4) أي: لو كانت صحيحة. فهذا يدلُّ على بطلانها. (5) لا لحية له. «اللسان» (سنط).

(3/1448)


للغلام: أَسْرِجْ، فأَسْرَجَ، فركبتُ ومررتُ عليه، وقلتُ له: إذا قَدِمْتَ مكة ومررتَ بذي طُوى فاسأل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي، فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا؟ قلتُ: لا، قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ قلتُ: لا، قال: فأين ما تكلَّفتُ لك البارحة؟! قلتُ: وما هو؟ قال: اشتريتُ لك طعامًا بدرهمين، وأُدْمًا بكذا، وعطرًا بثلاثة دراهم، وعلفًا لدوابِّك بدرهمين، وكِرى الفراش واللِّحاف درهمان. قال: قلتُ: يا غلام، فهل بقي شيء؟ قال: كِرى المنزل، فإني وسَّعتُ عليك وضيَّقتُ على نفسي. فغَبِطتُ نفسي بتلك الكتب، فقلتُ له بعد ذلك: هل بقي شيء؟ قال: امضِ أخزاك الله، فما رأيتُ أشرَّ منك! (1). وقال الربيع: اشتريتُ للشافعي طِيبًا بدينار، فقال لي: ممَّن اشتريتَه؟ فقلت: من ذلك الأشقَر الأزرق، فقال: أشقرُ أزرق! اذهبْ فردَّه (2). وقال الربيع: مرَّ أخي في صَحْن الجامع، فدعاني الشافعيُّ فقال لي: يا ربيع، انظُر إلى الذي يمشي هذا أخوك؟ قلت: نعم، أصلحك الله، قال: اذهب. ولم يكن رآه قبل ذلك (3). قال قتيبة بن سعيد: رأيتُ محمد بن الحسن والشافعيَّ قاعدَين بفناء الكعبة، فمرَّ رجل، فقال أحدهما لصاحبه: تعال نَزْكَنْ (4) على هذا المارِّ أيَّ _________ (1) أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (129)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 144)، والبيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 134). (2) «آداب الشافعي ومناقبه» (131)، و «الحلية» (9/ 140). (3) «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131). (4) نتفرَّس. وفي (ت، ق): «نركز». والمثبت من (د) و «المناقب».

(3/1449)


حرفةٍ معه؟ فقال أحدهما: هذا خيَّاط، وقال الآخر: هذا نجَّار. فبعثا إليه فسألاه، فقال: كنت خيَّاطًا واليوم أنجُر، أو: كنتُ نجَّارًا واليوم أَخِيط (1). وقال الربيع: سمعتُ الشافعيَّ وقَدِمَ عليه رجلٌ من أهل صنعاء، فلمَّا رآه قال له: من أهل صنعاء؟ قال: نعم، قال: فحدَّادٌ أنت؟ قال: نعم (2). وقال: كنتُ عند الشافعيِّ، إذ أتاه رجل، فقال له الشافعي: أنسَّاجٌ أنت؟ قال: عندي أُجَراء (3). وقال: كنَّا عند الشافعي إذ مرَّ به رجل، فقال الشافعي: لا يخلو هذا أن يكون حائكًا أو نجَّارًا. قال: فدعوناه، فقال: ما صنعتُك؟ فقال: نجَّار، فقلنا: أو غيرَ ذلك؟ قال: عندي غلمانٌ يعملون (4). وقال حرملة: سمعتُ الشافعيَّ يقول: احذروا من كلِّ ذي عاهةٍ في بدنه؛ فإنه شيطان. قال حرملة: قلت: مَن أولئك؟ قال الأعرجُ والأحولُ والأشلُّ وغيره. وقال: اشتهى الشافعيُّ يومًا عنبًا أبيض، فأمرني، فاشتريتُ له منه بدرهم، فلمَّا رآه استجاده، فقال لي: يا أبا محمد ممَّن اشتريتَ هذا؟ فسمَّيتُ له البائع، فنحَّى الطَّبق من بين يديه، وقال لي: اردُده عليه، واشتر لي من غيره. فقلت له: وما شأنه؟ فقال: ألم أنهكَ أن تصحبَ الأزرقَ الأشقر، _________ (1) «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131). (2) «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131). (3) «حلية الأولياء» (9/ 139). (4) يعني في الحياكة. «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131).

(3/1450)


فإنه لا يَنْجُب؟! فكيف آكلُ من شيءٍ اشتُرِي لي ممَّن أنهى عن صحبته؟! قال الربيع: فرددتُ العنبَ على البائع، واعتذرتُ إليه بكلامٍ حسن، واشتريتُ له عنبًا من غيره (1). وقال حرملة: سمعتُ الشافعيَّ يقول: احذروا الأعورَ والأحولَ والأعرجَ والأحدبَ والأشقرَ والكوسجَ (2) وكلَّ من به عاهةٌ في بدنه، وكلَّ ناقص الخَلقِ فاحذروه، فإنه صاحبُ التواءٍ ومعاملتُه عَسِرَة (3). وقال مرَّةً أخرى: فإنهم أصحابُ خِبٍّ (4). وقال الربيع: دخلنا على الشافعيِّ عند وفاته، أنا والبُوَيطيُّ والمُزَني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: فنظر إلينا الشافعيُّ ساعةً، فأطال، ثمَّ التفتَ، فقال: أمَّا أنت يا أبا يعقوب فستموتُ في حديدك ــ يعني: البويطي ــ، وأمَّا أنت يا مُزَني فستكونُ لك بمصرَ هَنَاتٌ وهَنَات، ولتدركنَّ زمانًا تكونُ أقيسَ أهل ذلك الزمان، وأمَّا أنت يا محمد فسترجعُ إلى مذهب أبيك (5)، وأمَّا أنت يا ربيع فأنت أنفعُهم لي في نشر الكتب، قُم يا أبا يعقوب فتسلَّم الحَلْقَة. _________ (1) «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131)، و «كشف الخفا» (1/ 321). (2) من لا لحية له. كالسِّناط. (3) قال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (132): «إنما يعني: إذا كان وِلادُهم بهذه الحالة، فأما من حدث فيه شيءٌ من هذه العلل، وكان في الأصل صحيح التركيب، لم تضرَّ مخالطته». (4) مكر وخداع. وفي (ت) و «الحلية» (9/ 144): «خبث». والمثبت من (د، ق) و «آداب الشافعي» و «مناقب الشافعي» (2/ 132). (5) مذهب الإمام مالك.

(3/1451)


قال الربيع: فكان كما قال (1). وقال الربيع: ما رأيتُ أفطنَ من الشافعي، لقد سمَّى رجالًا ممَّن يصحبُه، فوصف كلَّ واحدٍ منهم بصفةٍ ما أخطأ فيها، فذكر المزنيَّ والبويطيَّ وفلانًا وفلانًا، فقال: ليفعلنَّ فلانٌ كذا، وفلانٌ كذا، وليصحبنَّ فلانٌ السلطان وليقلَّدنَّ القضاء. وقال لهم يومًا وقد اجتمعوا: ما فيكم أنفعُ [لي] من هذا ــ وأومأ إليَّ ــ؛ لأنه أمثلُكم ناحية (2). وذكر صفاتٍ غير هذه. قال: فلمَّا مات الشافعيُّ صار كلٌّ منهم إلى ما ذَكَر فيه، ما أخطأ في شيءٍ من ذلك. وقال حرملة: لمَّا وقع الشافعيُّ في الموت خرجنا من عنده، فقلت لأبي: يا أبت، كلُّ فراسةٍ كانت للشافعيِّ أخذناها يدًا بيد، إلا قولَه: يقتلُني أشقر، وها هو في السِّياق. فوافَينا عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو، فقلنا: إلى أين؟ قالا: إلى الشافعي، فما بلغنا المنزلَ حتى أدركنا الصُّراخ عليه، قلنا: مَه! ما لكم؟! قالوا: مات الشافعي، فقال أبي: من غمَّضه؟ قالوا: يوسفُ بن عمرو (3)، وكان أزرق! وهذه الآثارُ وغيرها ذكرها ابنُ أبي حاتم والحاكم في مصنَّفيهما في «مناقب الشافعي»، وهي اللائقةُ بجلالته ومنصبه، لا ما باعدَه الله منه من _________ (1) «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 136). (2) مهملة في (د). (ق): «بأخيه». والمثبت من (ت) و «مناقب الشافعي» (2/ 137)، إلا أن في «المناقب»: «أسلمكم» بدل «أمثلكم». (3) يوسف بن عمرو بن يزيد الفارسي. فقيهٌ صدوق. انظر: «مناقب الشافعي» (1/ 455)، و «تهذيب الكمال» (32/ 448).

(3/1452)


أكاذيب المنجِّمين وهذياناتهم، والله أعلم (1). * وأمَّا ما احتَجَّ به (2) من أنَّ فرعون كان يذبحُ أبناءَ بني إسرائيل ويستحيي نساءهم؛ لأنَّ المفسِّرين قالوا: كان ذلك بأنَّ المنجِّمين أخبروه بأنه سيجيء في بني إسرائيل مولودٌ يكونُ هلاكُه على يديه. فأكثرُ المفسِّرين إنما أحالوا ذلك على خبر الكهَّان. وروى بعضهم أنَّ قومَه أخبروه بأنَّ بني إسرائيل يزعمون أنه يولدُ منهم مولودٌ يكونُ هلاكُه على يديه. وهاتان الرِّوايتان هما الدَّائرتان في كتب المفسِّرين (3)، وأمَّا هذه الرواية: أنَّ المنجِّمين قالوا له ذلك؛ فغايتُها أنها من أخبار أهل الكتاب (4) _________ (1) جماهير الشافعية على تحريم التنجيم، تعلمًا وتعليمًا وعملًا وبيعًا لكتبه. انظر: «المجموع» (1/ 27، 9/ 253)، و «روضة الطالبين» (9/ 346)، و «مغني المحتاج» (2/ 12، 4/ 120، 210)، وغيرها. واغترَّ بعضهم بما نُسِب إلى الشافعي من هذه الحكايات، فذهب إلى أن المحرَّم هو اعتقاد تأثير النجوم، فحسب. انظر: «طبقات الشافعية» لتاج الدِّين السبكي (2/ 101، 102). (2) أي الرازي. (3) انظر: «تفسير الطبري» (2/ 45)، «الدر المنثور» (1/ 166). (4) تقدم (ص: 1356) أنها وردت عن قتادة وابن إسحاق. ولا أرى وجهًا لدفعها وإقامة الخلاف بينها وبين الروايات الأخرى، فالكل واردٌ من تفاسير السلف، ولو ثبت أنَّ من أشار على فرعون هم المنجمون، وأنَّ التنجيم كان معروفًا لعهده، وأنهم أصابوا في نجامتهم، فيكون ماذا؟! والمنجِّم قد يصيبُ على جهة التخمين والتخرُّص. والظاهر أنهم كانوا كهانًا ينظرون في النجوم، كما ورد في بعض الروايات أنهم حزَّاؤون، والمنجِّم منهم من يسمِّيه كاهنًا. انظر: «شرح السنة» (12/ 182).

(3/1453)


وقد خالفها غيرُها من الروايات، فكيف يسوغُ التمسُّكُ بها في الأمر العظيم؟! وفي أخبار الكهَّان ما هو أعجبُ (1) من ذلك، فقد أخبروا بظهور خاتم الرسل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهوره، وذلك موجودٌ في دلائل النبوَّة (2). ونحن لا ننكرُ علمَ تَقْدِمة المعرفة بأسبابٍ مفضيةٍ إليه تختلف قُوى الناس في إدراكها وتحصيلها، وإنما كلامنا معكم في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يُسْنِدُونها إليها، وبيان أنَّ ضررَ هذا العلم لو كان حقًّا أعظمُ (3) من نفعه في الدنيا والآخرة، وأنَّ أهلَه لهم أوفرُ نصيبٍ من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وأهلُ هذا العلم أذلُّ الناس في الدنيا، لا يُمْكِنُ أحدًا منهم أن يأكلَ رزقَه بهذا العلم إلا بأعظم ذُلٍّ، وعزيزُهم لا بدَّ أن يتعبَّد وينضوي إلى مكَّاسٍ أو ديوانٍ أو والٍ يكونُ تحت ظلِّه وفي كنفِه، وسائرُهم على الطُّرقات وفي كِسَرِ الحوانيت مُدَسَّسين. صيدُهم كلُّ ناقص العقل والإيمان والدِّين؛ مِن صبيٍّ أو امرأة، أو حمارٍ في مِسْلاخ آدميٍّ، أو ذُبابِ طمَعٍ (4) لو لاحَ لأحدهم طمعٌ في عبادة الأصنام _________ (1) (ت): «أعظم». (2) انظر: «دلائل النبوة» للبيهقي (2/ 243 - 254). (3) (ص): «أكثر». (4) رأى طلحة رضي الله عنه قومًا يمشون معه، فقال: ذبابُ طمَعٍ وفَراشُ نار. أخرجه ابن أبي الدنيا في «التواضع والخمول» (50)، و «العزلة» (156). ورُوِيَت عن الحسن في حديثٍ أخرجه أحمد (4/ 272) وغيره. وتُذكَر في الأمثال. انظر: «الحيوان» (3/ 304)، و «غريب الحديث» لابن قتيبة (2/ 410)، و «ثمار القلوب» (730).

(3/1454)


والشمس والقمر والنجوم لكان أولَ العابدين. ورأسُ مالهم الكذبُ والزَّرْقُ وأخذُ أحوال السائل منه ومن فَلَتات لسانه وهيأته وأغراضه (1)، فيخبرونه بما يناسبُ ذلك من أحواله، فينفعلُ عقلُه لهم، ويقول: لقد أُعطِي هؤلاء علمًا (2) لم يُعْطَهُ غيرُهم. وتراهم في الغالب يقصدُ أحدُهم قريةً أو دكَّانًا منزويًا عن الطريق، ويَصْلِي فيه للصَّيد (3)، وينصبُ الشَّبكة، فإذا لاحَ له بدويٌّ أو حبشيٌّ (4) أو تركمانيٌّ فإنه يَسْتَبْرِك بطلعته، ويقول له: اجلِس حتى أبيِّن لك ما يقتضيه نجمُك وطالعُك، وبيتُ مالك، وبيتُ فراشك، وبيتُ أفراحك وهمومك، وكم بقي عليك من القَطْع (5). _________ (1) (ق، د، ص): «وأعراضه». بالمهملة. (2) (ق): «عطاء». (3) أي: ينصب شِرَاكه، ليوقعه. «اللسان» (صلا)، و «الأساس» (صلي). (4) (د، ق، ص): «خشني». (ت): «خنثي». والمثبت من (ط)، وهو أشبه؛ فإنه لا مزية للخشنيين في هذا السياق، والأحباش فالعبيدُ منهم كثير. (5) القطع عند المنجمين: اقترانٌ للنجوم يحدُث عنه مكروهٌ وشرٌّ بحسب الطالع، وقد ينقضي دون وقوع المكروه إن أمكن الاحترازُ منه. ويكنُّون به عن الموت، وأنه قطعٌ للحياة بحادثٍ يعرض للحيِّ. انظر: «فرج المهموم» (1، 3، 46، 51، 55، 67، 69، 70، 82)، و «تحسين القبيح وتقبيح الحسن» للثعالبي (35، 36)، و «نشوار المحاضرة» (2/ 330)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (8/ 317).

(3/1455)


نعم؛ ما اسمك؟ واسمُ أمِّك وأبيك؟ فإذا قال له اسمَه واسمَ أبويه أخرج له الإصطرلابَ أو الكرةَ النحاس، وقال: كيف قلتَ اسمَك؟ فإذا أخبره ثانيةً قال: وكيف قلتَ اسمَ الوالدة طوَّل الله عمرها؟ فإذا قال: دَرَجَتْ إلى رحمة الله تعالى، قال: ما مات من خلَّف مثلك. ثمَّ يحسبُ، ويقول: فلانةٌ تسعة، وتزيدُ عليها تسعة، تُسْقِطُ منها خمسة، تبقى منها أربعة. اقعُد واسمع يا أخي، إني أرى عليك حُجَجًا مكتوبةً ووثائق (1)، ولا بدَّ لك من الوقوف بين يدي وليِّ أمر، إمَّا حاكمٍ وإمَّا والٍ، وأرى دمًا خارجًا عنك، ما أنتَ من أهله، وأرى ناسًا قد اجتمعوا حولك. وإن كان شكلُ ذلك الرجل شكلَ من هو من أرباب التُّهم قال: وأرى خشبًا يُنْصَب، ومساميرَ تُضْرَب، وجناياتٍ تُؤْخَذ. نعم يا أخي؛ برجُك بالأسد، وهو ناريٌّ مذكَّر، أخذتَ منه نِطاحَ (2) مقدامٍ بطل، نجمُك الزُّهَرة، أنت قليلُ البَخْت (3) عند الناس، مكفورُ الإحسان، مقصودٌ بالأذى، قلَّ أن صاحبتَ أحدًا فأثمرَت لك صحبتُه خيرًا. نعم يا أخي؛ أسعدُ أيامك يومُ الجمعة، وخيرُ كسبك كدُّ يدك، اعلم أنه لا بدَّ لك من أسفار وغُربةٍ وركوبِ أهوالٍ واقتحام أخطارٍ وأمورٍ عِظامٍ أبيِّنها لك إن شاء الله، هات، لا تبخَل على نفسك، حُطَّ يدك في جيبك، حُلَّ _________ (1) (ت، ص): «مكتوبة وثائق». (2) أي: مناطحة. نطحه: ضربه بقرنه. (3) الحظ. فارسيةٌ معرَّبة. انظر: «قصد السبيل» (1/ 255).

(3/1456)


الكيس! ولا يزالُ يلكزُه (1) ويجذبُه ويُطْمِعُه حتى يستخرجَ ما تسمحُ به نفسُه، فإن رأى منه تباطؤًا قال: عجِّل قبل خروج هذه السَّاعة السَّعيدة، فإنها ساعةٌ مباركة، والخَرْجُ فيها مخلوف (2)، أما سمعتَ قول نبيِّك: «يسِّروا ولا تعسِّروا»؟! فإذا حاز ما أخذَه منه قال له: زِدني (3)، فإنَّ أموركَ كثيرة، وتحتاجُ إلى تعبٍ وفكرٍ وحسابٍ طويل، فإذا تمَّ له ما يأخذُه منه بقيَ هو من جُوَّا (4) فكالَ له من جِراب الكذب ما أمكنَه، ولا يبالي أكذَّبه أم صدَّقه. ثمَّ يقول له: يا أخي برجُك الأسد، وهو سهمُ العداوة والحسد، وما عاداك أحدٌ قطُّ وأفلح، بل يُظْفِركَ اللهُ به وينصرك عليه. نعم؛ وهو برجٌ ناري، والنار من النُّور، والنُّور فيه البهجةُ والسُّرور، أبشِرْ فأنت طويلُ العمر، لا تموتُ في هذا الوقت، عمرك من السِّتين إلى السبعين إلى الثمانين إلى التسعين، بيتُ كسبِك كذا وكذا، وأرى حاجةً مهمَّةً قد _________ (1) (ص): «يلزه». (2) «والخرج فيها مخلوف» من (ص). والخرج: الخارج، المصروف. (3) (ت): «زودني». (4) مضبوطة في الأصول بضم الجيم. أي: في مأمن. ضد «برَّا». قال المقريزي في «الخطط» (2/ 14): «قول أهل مصر: جُوَّا، خطأ، والصواب فتح الجيم». انظر: «معجم تيمور» (3/ 65). وجَوُّ كل شيءٍ بطنُه وداخلُه، كما في «اللسان» (جوا). و «برَّا» أصلها «برًّا» من البرِّ، وهو خلاف الكِنِّ وضد البحر. انظر: «تصحيح التصحيف» للصفدي (153).

(3/1457)


خرجت عن يدك، نعم؛ بغير مرادك، وأنت في غالب أحوالك الخارجُ عن يدك أكثرُ من الداخل فيها، بالله صدقتُ أم لا؟ فيقول: والله صحيح، والأمر كما قلتَ، فيقول: ولكن احمد الله، كلُّ ما بقيَ عليك من القَطْع أربعةُ أشهرٍ وعشرةُ أيام وتخرجُ من نحسك، وتدخلُ في برج سعادتك (1)، وتنجو ويُخْلِفُ الله عليك بالخيرات والبركات، ولا بدَّ لك الساعةَ من رزقٍ يأتيك الله به، وتُفْرِحُ به أهلَك وعَيْلتَك (2)، وتصلحُ حالك ويستقيمُ سَعْدُك. الثالثُ (3) يا أخي من برجك (4): برجُ الميزان، وهو بيتُ الإخوان، سَعْدُك يا أخي منهم منقوص، وحظُّك منهم مبخوس (5)، غالبُ من أوليتَه منهم خيرًا جازاك بالشرِّ، وغالبُ من قلتَ فيه الخيرَ منهم يقولُ فيك الشرَّ، بالله أما الأمرُ هكذا؟ وذلك يا أخي أنك خفيفُ الدَّم (6)، كلُّ من رآك مال إليك وأَنِسَ بك، وأنت محسود؛ تُحْسَد في مالك وفي عافيتك، وفي أهلك وأولادك، وفي _________ (1) (ت): «في سعدك». (2) أي: عيالك. (3) لم يتقدم إلا ذكر برج الأسد، في موضعين. لعل هذا من جملة الاحتيال! (4) كذا في الأصول. وهي: بروجك. كنظائرها. (5) (ت، ق): «منحوس». (6) هذه كنايةٌ نادرة الوقوع في كلام السابقين، وإنما كانوا يصفون الروح بالخفَّة. وشاعت في هذا العصر عن المصريين، والبغاددة يقولون: خفيف الروح. انظر تعليق شاكر على «تفسير الطبري» (6/ 391)، و «الكنايات العامية البغدادية» للشالجي (1/ 697). ولعلها جاءت من قِبَل أن الروح والنفس تطلقان على الدم، فيقال: سالت نفسُه، أي: دمه.

(3/1458)


كل ما تعملُه بيدك، ولكنَّ العينَ لا تؤثِّر فيك؛ لأنَّ كلَّ من برجُه الأسد لا بدَّ أن يكون له في رأسه أو جسده علامةٌ مثلُ شَجَّةٍ أو ضربةٍ بين أكتافه أو في ساقه، وما هو بعيدٌ أنَّ في جسدك شامةً أو في جسمكَ ثُلْمَة، وهذا هو الذي يدفعُ عنك العين وأنت لا تدري. الرابعُ من بروجك: العقرب، وهو بيتُ الآباء، أُراكَ كنت قليلَ السَّعد بين أبويك، ومع هذا فكان أكثرُ ميلهم وإشفاقهم مع غيرك عليك، وكان حظُّك منهم ناقصًا، ولهم تطلُّعٌ إلى كدِّك وكسبك. الخامسُ من بروجك: القوس، وهو بيتُ البنين، أُراكَ قليلًا ما يعيشُ لك أولاد، تدفنُهم كلَّهم، ثمَّ تموتُ أنت بعدهم، بلى سوف يكونُ لك ولدٌ يشدُّ اللهُ به عَضُدَك، ويقوِّي أمرك، وتنالُ من جهته راحةً وخيرًا، وربما تكونُ سعادتك على يديه. السادسُ من بروجك: الجَدْي، وهو برجُ أمراضِك وأعلالك (1)، يا أخي، أمراضُك وأسقامُك كثيرة، وأكثرُها في رأسك، وربَّما تكونُ في أجنابك، وهي أمراضٌ قويَّةٌ طِوال، اللهُ يعافينا وإيَّاك، وكنتَ في صغرك لا ترقدُ في السَّرير إلا بعد جهدٍ جهيد، وعهدي بك الآن لا ترقدُ في فراشك إلا بعد شدَّة. نعم؛ وأكثرُ أمراضِك في الصَّيف والخريف. السابع من بروجك: الدَّلو، وهو بيتُ الفِراش، وأرى فراشَك خاليًا، أثمَّ زوجة؟ فإن قال: نعم، قال لا بدَّ لك مِن فراقها عن قريب، إمَّا بموتٍ وإمَّا بطلاق، فإنَّ المرِّيخَ منك في بيت الفراش، وإن قال: لا، قال: عجيبٌ والله، _________ (1) مولَّدة. جمع: علة.

(3/1459)


لقد أبصرتُ في الطالع أنَّ فراشَك فارغ، وأرى روحًا ناظرةً إليك بعين الأُلفة والمحبة، خُطورُك عليه وخطورُه عليك (1)، وأرى لك من قِبَله منفعة، ولك به اتصالٌ وفرح. أبيِّنُ لك على أيِّ سببٍ (2) يكونُ اجتماعكما؟ نعم؛ فإن قال له: نعم، قال: هات، فإنَّ الذي أعطيتني قليل، فإذا أخذَ منه قال: اعلم أنه لا بدَّ لك من الاتصال بهذا الشَّخص على كلِّ حال، إلا أني أرى قد عُمِلَ لك عملٌ، وعُقِدَ لك عُقَد، وأنت في همٍّ وغمٍّ من ذلك، فإن شئتَ عملتُ لك كتابًا نافعًا يكونُ لك حِرْزًا من كلِّ ما تخافه وتحذرُه، ولا يزالُ يَفْتِلُ له في الذِّروة والغارب (3) حتى يستكتبَه الحِرْز! وكذبُ هذه الطائفة وجهلُها وزَرْقُها تغني شهرتُه عند الخاصَّة والعامة عن تكلُّف إيراده، وكلَّما كان المنجِّم أكذب، وبالزَّرْقِ أعرف، كان على الجُهَّال أرْوَج. فصل * وأمَّا قولُه: «إنَّ هذا علمٌ ما خلت عنه ملَّةٌ من الملل، ولا أمَّةٌ من الأمم، ولا يُعْرَفُ تاريخٌ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهلُ ذلك _________ (1) تركيبٌ مولد. وفي (ص): «حضوره عليك وحضورك عليه». (2) (ت): «شيء». (3) مثلٌ يقال للرجل لا يزال يخدع صاحبه حتى يظفر به. وذروة البعير أعلاه. والغارب مقدَّم السنام، وأصل فتل الذروة في البعير هو أن يخدعه صاحبه ويتلطف له بفتل أعالي سنامه حكًّا حتى يسكن ويستأنس، فيتسلق بالزمام عليه. انظر: «جمهرة الأمثال» (2/ 98)، و «مجمع الأمثال» (2/ 69).

(3/1460)


الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعوِّلين عليه في معرفة المصالح، ولو كان هذا العلمُ فاسدًا بالكلِّية لاستحال إطباقُ أهل المشرق والمغرب عليه». فانظُر ما في [هذا] الكلام من الكذب والبَهْت والافتراء على العالَم من أوَّل بنائه إلى آخره؛ فإنَّ آدمَ وأولادَه كانوا برآء من ذلك، وأئمَّتكم معترفون بأنَّ أوَّل من عُرِفَ عنه الكلامُ في هذا العلم وتُلُقِّيت عنه أصولُه وأوضاعُه هو إدريسُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (1)، وكان بعد بناء هذا العالَم بزمنٍ طويل، هذا لو ثبتَ ذلك عن إدريس (2)، فكيف وهو من الكذب الذي ليس مع صاحبه إلا مجردُ القول بلا علمٍ والكذب على رسول الله؟! أوليس من الفرية والبَهْت أن يُنسبَ هذا العلمُ إلى أمَّة موسى في زمنه وبعده، وأنهم كانوا معوَّلهم في مصالحهم على هذا العلم، وكذلك أمَّةُ عيسى وأمَّةُ يونس، والذين آمنوا مع نوحٍ ونجوا معه في السفينة؟! وحسبك بهذا الكذب والافتراء على تلك الأمَّة المضبوطِ أمرُها المحفوظِ فعلُها، فهل كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه يعوِّلون على هذا العلم ويعتمدون عليه في مصالحهم، أو قرنُ التابعين بعدهم (3)، أو قرنُ تابعي التابعين؟! وهذه هي خيارُ قرون العالم على الإطلاق، كما أنَّ هذه الأمَّة خيرُ أمَّةٍ أخرجت للناس، وهم أعلمُ الأمم وأعرفُها، وأكثرُها كتبًا وتصانيف، وأعلاها _________ (1) انظر: «فرج المهموم» (9، 19، 21، 34، 38، 44). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 66، 179 - 181، 187). (3) (د، ق): «بعده».

(3/1461)


شأنًا، وأكملُها في كلِّ خيرٍ ورشدٍ وصلاح، كما ثبت في المسند وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنتم تُوَفُّون سبعين أمَّة، أنتم خيرُها وأكرمُها على الله» (1). فهل رأيتَ خيارَ قرون هذه الأمَّة والموفَّقين من خلفائها وملوكها وساداتها وكبرائها معوِّلين على هذا العلم أو معتمدين عليه في مصالحهم؟! وهذه سِيَرُهم ما بِعَهْدِها (2) مِن قِدَم، ولا يتأتَّى الكذبُ عليهم. هذا، وقد أُعطُوا من التأييد والنصر والظَّفر بعدوِّهم والاستيلاء على ممالك العالم ما لم يظفر به أحدٌ من المعوِّلين على أحكام النجوم، بل لا تجدُ المنجِّمين إلا ذِمَّةً (3) لهم لولا اعتصامُهم بحبلٍ منهم لقُطِّعت حبالُ أعناقهم، ولا تجدُ المعوِّلين على هذا العلم إلا مخصوصين بالخِذلان والحرمان، وهذا لأنهم حقَّ عليهم قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]، قال أبو قِلابة: «هي لكلِّ مفترٍ من هذه الأمَّة إلى يوم القيامة» (4). _________ (1) أخرجه أحمد (5/ 3)، والترمذي (3001)، وابن ماجه (4288)، وغيرهم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم (4/ 84) ولم يتعقبه الذهبي. (2) (ق): «يعهدها». وهي مهملة في (ت، د). وفي (ص): «وما نعهدها». والصواب ما أثبت. وهي جملةٌ يكثر دورانها، وردت في شعر الأحوص والشريف الرضي وغيرهما. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1551). (3) أي: كأهل الذمة. (4) تقدم (ص: 1422).

(3/1462)


نعم؛ لا نُنكِرُ أنَّ هذا العلمَ له طلبةٌ مشغولون به، معتنون بأمره، وهذا لا يدلُّ على صحَّته، فهذا السِّحرُ لم يزل في العالم من يشتغلُ به ويتطلَّبه أعظمَ من اشتغاله بالنجوم وطلبه لها بكثير، وتأثيرُه في الناس مما لا يُنْكَر، أفكان هذا دليلًا على صحَّته؟! وهذه الأصنامُ لم تَزل تُعْبَدُ في الأرض من قبل نوحٍ وإلى الآن، ولها الهياكلُ المبنيَّةُ والسَّدنة، ولها الجيوشُ التي تُقاتِلُ عنها وتحارِبُ لها، وتختارُ القتلَ والسَّبيَ وعقوبةَ الله ولا تنتهي عنها، أفيدلُّ هذا على صحَّة عبادتها، وأنَّ عُبَّادَها على الحقِّ؟! ومن العجب قولُه: «لو كان هذا العلمُ فاسدًا لاستحالَ إطباقُ أهل المشرق والمغرب من أوَّل بناء العالم إلى آخره عليه»! وليس في الفرية أبلغُ من هذا، ولا في البهتان، أترى هذا الرجلَ ما وقف على تأليفٍ لأحدٍ من أهل المشرق والمغرب في إبطال هذا العلم والردِّ على أهله؟! فقد رأينا نحن وغيرنا ما يزيدُ على مئة مصنَّفٍ في الردِّ على أهله وإبطال أقوالهم، وهذه كتبهم بأيدي الناس، وكثيرٌ منها للفلاسفة الذين يعظِّمهم هؤلاء ويرونَ أنهم خلاصةُ العالَم، كالفارابي وابن سينا وأبي البركات الأوحد وغيرهم، وقد حكينا كلامَهم (1). وأمَّا الردودُ في ضمن الكتب حينَ (2) يُرَدُّ على أهل المقالات، فأكثرُ _________ (1) فيما تقدم (ص: 1195، 1182، 1289). (2) في الأصول: «حتى». تحريف. والمثبت من (ط).

(3/1463)


من أن تُذْكَر، ولعلَّها أن تزيد على عِدَّة الألف (1)، تجدُ في كلِّ كتابٍ منها الردَّ على هؤلاء، وإبطالَ مذهبهم، ونسبتَهم إلى الكذب والزَّرْق. ولو أنَّ مقابلًا قابَله، وقال: لو كان هذا العلمُ صحيحًا لاستحالَ إطباقُ أهل المشرق والمغرب على ردِّه وإبطاله، لكان قولُه من جنس قوله، ولكنَّ أهلَ المشرق (2) فيهم هذا وهذا، كما يشهدُ به الحِسُّ والتواريخُ القديمةُ والحديثة. ولقد رأينا من الردود القديمة قبل قيام الإسلام على هؤلاء ما يدلُّ على أنَّ العقلاء لم يزالوا يشهدون عليهم بالجهل وفساد المذهب، وينسبُونهم إلى الدَّعاوى الكاذبة والآراء الباطلة التي ليس مع أصحابها إلا القولُ بلا علم. فصل * وأمَّا ما ذكره في أمر الطَّالع عن الفُرس، وأنهم كانوا يعتنون بطالع مَسْقَط النطفة، وهو طالعُ الأصل، ثمَّ يُحْكَم بموجَبه، حتى يُحْكَم بعدد السَّاعات التي يمكثُها الولدُ في بطن أمِّه= فهذا من الكذب والبَهْت، ومن أراد أن يختبرَ كذبَه فليجرِّبه، فإنَّ تجربةَ مثل هذا ليست ممتنعةً (3) ولا عَسِرَة. ثمَّ إنَّ هذا الواطاء لا علمَ له ولا لأحدٍ أنَّ الولدَ إنما يُخْلَقُ من أوَّل وطئه الذي أنزَل فيه دون ما بعده، وإن فُرِض أنه أمسكَ عن وطئها بعد المرة _________ (1) (ق): «عدَّة آلاف». (ت): «على الاف». (ص): «على الألف». (2) كذا في الأصول، لم يذكر المغرب، واحتمال السهو والقصد قائمان. (3) (ق): «مشقة». تحريف.

(3/1464)


الأولى وحَبَسها بحيث يتيقَّن أنَّ غيره لم يَقْرَبها ــ وهذا في غاية النُّدرة ــ لم يمكن المنجِّم أن يعلم أحوالَ ذلك المولود، ولا تفاصيل أمره البتَّة، ومدَّعي ذلك مجاهرٌ بالكذب والبَهْت. وقد اعترف القومُ بأنَّ طالعَ الولادة مستعارٌ لا يفيدُ شيئًا؛ لأنَّ الولدَ لا يحدثُ في ذلك الوقت، وإنما ينتقلُ من مكانٍ إلى مكان. وقد اعترفوا بأنَّ ضبطَه متعسِّرٌ جدًّا، بل متعذِّر، فإنَّ في اللحظة الواحدة من اللحظات تتغيَّرُ نَصْبةُ (1) الفلك تغيُّرًا لا يُضبَطُ ولا يحصيه إلا الله الذي هو بكل شيء عليم، ولا ريب أنَّ الطَّالعَ يتغيَّر بذلك تغيُّرًا عظيمًا لا يمكنُ ضبطُه. وقد اعترفوا هم بهذا، وأنَّ سببَ هذا التفاوت يُحِيلُ أحكامَهم، واعترفوا بأنه لا سبيل إلى الاحتراز من ذلك. فأيُّ وثوقٍ لعاقلٍ بهذا العلم بعد هذا كلِّه؟! وقد بينَّا أنَّ غايةَ هذا لو صحَّ وسَلِمَ من الخلل جميعُه ــ ولا سبيل إليه ــ لكان جزءَ السَّبب والعلَّة، والحكمُ لا يضافُ إلى جزء سببه، ثمَّ لو كان سببًا تامًّا فصوارفُه وموانعه لا تدخلُ تحت الضبط البتَّة، والحكمُ إنما يضافُ إلى وجود سببه التامِّ وانتفاء مانعه، وهذه الأسبابُ والموانعُ مما لا تدخلُ تحت حصرٍ ولا ضبطٍ إلا لمن أحصى كلَّ شيءٍ عددًا، وأحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، لا إله إلا هو علَّام الغيوب (2). _________ (1) (ت): «يتغير بضبط». (2) انظر ما تقدم (ص: 748)، و «مجموع الفتاوى» (8/ 172، 25/ 198، 35/ 173، 178).

(3/1465)


فلو ساعدناهم على صحة أصول هذا العلم وقواعده لكانت أحكامُهم باطلة، وهي أحكامٌ بلا علم؛ لِمَا ذكرنا من تعذُّر الإحاطة بمجموع الأسباب وانتفاء الموانع، ولهذا كثيرًا ما يُجْمِعون على حكمٍ من أحكامهم الكاذبة فيقعُ الأمرُ بخلافه، كما تقدَّم (1). * وأمَّا تلك الحكاياتُ المتضمِّنةُ لإصابتهم في بعض الأحوال، فليست بأكثر من الحكايات عن أصحاب الكتف (2)، والفأل، والزَّجر، والطَّائر (3)، والضَّرب بالحصى، والطَّرْق (4)، والعِيافة، والكهانة، والخَطِّ، والحَدْس، وغيرها من علوم الجاهلية، وأعني بالجاهلية: كلَّ من ليس من أتباع الرسل، كالفلاسفة والمنجِّمين والكهَّان وجاهلية العرب الذين كانوا قبل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ هذه كانت علومَ القوم، ليس لهم علمٌ بما جاءت به الرسل. * ومِن هؤلاء من يزعمُ أنه يأخذُ من الحروف علمَ الكهَّان (5)، ولهم في ذلك تصانيفُ وكتب (6). _________ (1) (ص: 1199). (2) كذا رسمت في (د، ق) دون إعجام. وفي (ت، ص): «الكهف». (ط): «الكشف». ولعل المثبت هو الصواب. وانظر ما تقدم (ص: 1434). (3) كذا في الأصول. وهو السانح والبارح، كما مضى (ص: 1434)، وسيأتي تفسيره. وربما كان صوابه: والزجر للطائر. (4) وهو الضرب بالحصى، وقيل: الخط في الرمل. «النهاية» (طرق). (5) (ق): «المكان». وهو تحريف. وانظر ما تقدم (ص: 1434). (6) انظر: «أبجد العلوم» (2/ 79، 152، 2/ 236، 238)، و «كشف الظنون» (650)، و «معجم المؤلفين» (2/ 26، 11/ 223، 258، 260، 13/ 255، 325).

(3/1466)


حتى يقولون: إذا أردتَ [معرفة] ما في رؤيا السَّائل من خيرٍ أو شرٍّ فخذ أوَّل حرفٍ من كلامه الذي يكلِّمك به، وقِسْ رؤياه على معنى ذلك الحرف. فإن كان أوَّل ما نطق به باءٌ فرؤياه خير؛ لأنَّ الباءَ من البهاء والخير، ألا تراها في البرِّ والبركة وبلوغ الآمال والبقاء والبشارة والبيان والبَخْت؟! فإذا كان أوَّلُ حرفٍ من كلامه باءً فاعلم أنه قد عاينَ ما أبهاه وبشَّره من الخيرات، وإن كان أوَّلُ كلامه تاءً فقد بُشِّر بالتمام والكمال، وإن كان ثاءً فبشِّره بالأثاث والمتاع؛ لقوله تعالى: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74]. ثمَّ قالوا: فعليك بهذه الأحرف الثلاثة، فليس شيءٌ يخلو منها ويجاوزُها. وإذا تأمَّلتَ جهلَ هؤلاء رأيته شديدًا؛ فكيف حكموا على الباء بالبهاء والبركة، دون البأس والبغي والبَيْن والبلاء والبَوار والبُعد؟!، وكيف حكموا على التاء بالتمام والكمال، دون التَّعْس والتَّباب والتدمير والتَّلف ونحوه (1)؟!، وكيف حكموا على الثَّاء بالأثاث، دون الثُّفْل والثِّقَل والثَّلْب ونحوه؟! * وكذلك استدلاله بأوَّل ما يقعُ بصرُه عليه، كما حُكِيَ عن أبي معشر أنه وقفَ هو وصاحبٌ له على واحدٍ من هؤلاء، وكانا مارَّين في خَلَاص محبوس، فسألاه؟ فقال: أنتما في طلب خَلَاص محبوس، فعَجِبا من ذلك، فقال له أبو معشر: هل يَخْلُصُ أم لا؟ فقالا: تذهبان فتلقيانه قد خَلَص. فوُجِد الأمرُ كما قال، فاستدعاه أبو معشر وأكرمَه وتلطَّفَ له في السؤال عن كيفية علم ذلك، فقال: نحن قومٌ نأخذُ الفألَ بالعَين والنظر، فينظر أحدُنا إلى _________ (1) من قوله: «وكيف حكموا على التاء» إلى هنا ساقط من (ق)، لانتقال النظر.

(3/1467)


الأرض، ثمَّ يرفعُ رأسَه، فأوَّلُ شيءٍ يقعُ نظرُه عليه يكون الحكمُ به، فلمَّا سألتماني كان أوَّل ما رأيتُ ماءً في قِربة، فقلت: هذا محبوس، ثمَّ لما سألتماني في الثانية نظرتُ فإذا هو قد أُفرِغَ من القِربة، فقلت: يَخْلُص، ونصيبُ تارةً ونخطاءُ تارة (1). * ومِن هذا أخذُ بعضِهم الجوابَ عن التفاؤل بالأيام، فإذا رأى أحدٌ رؤيا ــ مثلًا ــ يوم أحدٍ أو ابتدأ فيه أمرًا قال: حِدَّةٌ وقوَّة، وإن كان يوم الجمعة قال: اجتماعٌ وأُلفة، وإن كان يوم سبتٍ قال: قَطْعٌ وفُرقة (2). * ومِن هذا استدلالُ المسؤول بالمكان الذي يضعُ السائلُ يدَه عليه من جسده وقت السؤال، فإن وضعَ يدَه على رأسه فهو رئيسُه وكبيرُه، والرِّجلَين قِوامُه، والأنف بناءٌ مرتفع أو تلٌّ أو نحوه، والفم بئرٌ عذبة، واللحية أشجارٌ وزروع، وعلى هذا النحو. مِنْ ذلك: ما حُكِيَ عن المهدي أنه رأى رؤيا، وأُنْسِيَها (3)، فأصبح مغتمًّا بها، فدُلَّ على رجلٍ كان يعرفُ الزَّجر والفأل، وكان حاذقًا به، واسمه خويلد، فلما دخل عليه أخبره بالذي أراده له، فقال له: يا أمير المؤمنين، صاحبُ الزَّجر والفأل ينظرُ إلى الحركة وأخطار الناس (4)، فغضبَ المهديُّ وقال: سبحان الله، أحدُكم يُذْكَرُ بعلمٍ ولا يدري ما هو، ومَسَحَ يدَه على رأسه ووجهه وضربَ بها على فخذه، فقال له: أُخبرك برؤياك يا أمير المؤمنين، _________ (1) انظر: «نشوار المحاضرة» (2/ 324). (2) (ق، د): «ومزقة». (3) (ق): «وأيسها». (4) وهي حركاتهم.

(3/1468)


قال: هات، قال: رأيتَ كأنك صَعَدْتَ جبلًا، فقال المهدي: لله أبوك يا سحَّار! صدقت، قال: ما أنا بسحَّارٍ يا أمير المؤمنين، غير أنك مسحتَ بيدك على رأسك، فزجرتُ (1) لك، وعلمتُ أنَّ الرأسَ ليس فوقه أحدٌ إلا السماء، فأوَّلتُه بالجبل، ثمَّ نزلتَ بيدك إلى جبهتك، فزجرتُ لك بنزولك إلى أرضٍ ملساءَ فيها عينان مالحتان، ثمَّ انحدرتَ إلى سفح الجبل فلقيتَ رجلًا من فخذك قريش؛ لأنَّ أميرَ المؤمنين مسح بعد ذلك بيده على فخذه، فعلمتُ أنَّ الرجلَ الذي لقيه من قرابته، قال: صدقت، وأمرَ له بمالٍ، وأمرَ أن لا يُحْجَبَ عنه. * ومِنْ ذلك: هؤلاء، أصحابُ الطير السَّانح والبارح، والقَعِيد والناطح. وأصلُ هذا أنهم كانوا يزجُرون الطيرَ والوحشَ ويُثِيرونها، فما تيامَن منها وأخذ ذات اليمين سمَّوه: سانحًا، وما تياسَر منها سمَّوه: بارحًا، وما استقبلهم منها فهو: الناطح، وما جاءهم من خلفهم سمَّوه: القَعِيد، فمن العرب من يتشاءمُ بالبارح (2) ويتبرَّكُ بالسانح، ومنهم من يرى خلاف ذلك (3). قال المدائني (4): سألتُ رؤبةَ بن العجَّاج: ما السانح؟ فقال: ما ولَّاك _________ (1) (ت): «فحزرت». (2) في «بلوغ الأرب» للآلوسي (3/ 312)، هنا زيادة، وهي: «لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه». (3) انظر: «الأمالي» للقالي (2/ 240)، و «العمدة» لابن رشيق (1035). (4) أبو الحسن علي بن محمد، الإخباري، العلامة، صاحب التصانيف (ت: 225، وقيل غير ذلك)، له كتاب: «القيافة والفأل والزجر» لم يعثر عليه بعد، ونقل المصنفُ وصاحبا «نثر الدر» و «التذكرة الحمدونية» عنه جملةً من الأخبار. انظر: «السير» (10/ 400)، و «إرشاد الأريب» (1852).

(3/1469)


ميامَنه. قال: قلت: فما البارح؟ قال: ما ولَّاك مياسِرَه. قال: والذي يجيء من قُدَّامك (1) فهو الناطح والنَّطيح، والذي يجيءُ من خلفك فهو القاعدُ والقَعِيد. وقال المفضَّلُ الضبِّي: البارحُ ما يأتيك عن اليمين يريدُ يسارَك، والسانحُ ما يأتيك عن اليسار فيمرُّ على اليمين. وإنما اختلفوا في مراتبها ومذاهبها؛ لأنها خواطرُ وحُدوسٌ وتخميناتٌ لا أصلَ لها، فمن تبرَّك بشيءٍ مَدَحَه، ومن تشاءم بشيءٍ ذمَّه، ومن اشتهرَ بإحسان الزَّجر عندهم ووجوهه حتى قصَده الناسُ بالسؤال عن حوادثهم وما أمَّلُوه من أعمالهم سمَّوه: عائفًا، وعرَّافًا. وقد كان في العرب جماعةٌ يُعْرَفون بذلك، كعرَّاف اليمامة، والأبلق الأُسَيْدي (2)، والأجلح، وعُروة بن زيد (3)، وغيرهم (4). فكانوا يحكُمون بذلك، ويعملون به، ويتقدَّمون ويتأخَّرون في جميع ما يتقلَّبون فيه ويتصرفون، في حال الأمن والخوف، والسَّعة والضِّيق، والحرب والسِّلم، فإن أنجَحُوا فيما يتفاءلون به مدَحوه وداوموا عليه، وإن عَطِبوا فيه تركوه وذمُّوه، وإن أخفقوا فيه ذمُّوه وتركوه (5). _________ (1) (ت): «أمامك». (2) انظر: «الاشتقاق» (206). (3) (ق): «يزيد». تحريف. (4) انظر: «الحيوان» (6/ 204)، و «البرصان والعرجان» (58)، و «ثمار القلوب» (200)، و «مروج الذهب» (2/ 311). (5) كذا في الأصول، تكررت الجملة بمعناها.

(3/1470)


ومنهم من أنكرها بعقله، وأبطلَ تأثيرَها بنظره، وذمَّ من اغترَّ بها واعتمد عليها وتوهَّم تأثيرَها، فمنهم المرقش (1)، إذ يقول: ولقد غدوتُ وكنتُ لا ... أغدو على واقٍ وحاتِمْ فإذا الأشائمُ كالأيا ... مِنِ والأيامِنُ كالأشائمْ وكذاك لا خيرٌ ولا ... شرٌّ على أحدٍ بدائمْ لا يمنعنَّك مِن بُغا ... ءِ الخيرِ تَعْقَادُ التَّمائمْ قد خُطَّ ذلك في السُّطو ... رِ الأوَّلِيَّاتِ القدائمْ (2) وقال جهم الهذلي (3): ألم تر أنَّ العائفَيْن وإن جرت (4) ... لك الطَّيرُ عمَّا في غَدٍ عَمِيانِ يظنَّان ظنًّا، مرَّةً يخطِئانه ... وأخرى على بعض الذي يَصِفانِ قضى اللهُ أن لا يعلمَ الغيبَ غيرُه ... ففي أيِّ أمرِ اللهِ يمتريان _________ (1) كذا في الأصول وكثير من المصادر. وهو تحريف. والصواب: «المرقم»، وهو خُزَز بن لَوذان أحد بني عوف بن سدوس بن شيبان بن ذهل. انظر: «المؤتلف والمختلف» للآمدي (143)، و «الاختيارين» (171)، و «حماسة» البحتري (139)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 233)، و «عيون الأخبار» (1/ 145)، وذيل «اللآلي» (49). (2) الأبيات في المصادر السابقة، و «الحيوان» (3/ 436، 449)، و «المعاني الكبير» (262، 1187)، و «الزهرة» (341)، و «الصاهل والشاحج» (273) وغيرها. (3) في «الزهرة» (341): «جهم بن عبد الرحمن الأسدي». (4) «الزهرة»: «ولو حوت».

(3/1471)


وقال آخر (1): وما أنا ممَّن يزجرُ الطَّيرَ همُّه ... أطارَ غُرابٌ (2) أم تعرَّض ثعلبُ ولا السَّانحاتُ البارحاتُ عشيَّةً ... أمَرَّ سليمُ القَرنِ (3) أم مرَّ أعضَبُ وقال آخرُ (4) يمدحُ منكِرها: وليس بهيَّابٍ إذا شدَّ رحلَه ... يقولُ: عَدَاني اليومَ واقٍ وحاتمُ ولكنَّه يمضي على ذاك مُقْدِمًا ... إذا صدَّ عن تلك الهَنَاتِ الخُثَارِم يعني بالواقِ: الصُّرَد، وبالحاتم: الغُراب؛ سمَّوه حاتمًا كأنه عندهم (5) يَحتِمُ بالفراق. والخُثَارِم: العاجز، الضعيف الرَّأي، المتطيِّر. وقد شفى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّته في الطِّيَرة حيث سئل عنها، فقال: «ذاك شيءٌ يجدُه أحدُكم فلا يَصُدَّنَّه» (6). وفي أثرٍ آخر: «إذا تطيَّرتَ فلا ترجِع» (7)، أي: امضِ لما قصَدتَ له ولا _________ (1) وهو الكميت الأسدي، من هاشميَّةٍ هي من جيِّد شعره. انظر: «شرح هاشميات الكميت» (44)، و «الزهرة» (342)، وغيرهما. (2) في عامة المصادر: «أصاح غراب». وهو أجود. (3) في الأصول: «سليم القلب». وهو تحريف. (4) وهو خثيم بن عدي الكلبي، ولقبه: الرقاص، في «التكملة» (وقى)، و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (243)، و «الحيوان» (3/ 437)، وغيرها. (5) (ق): «لأنه كأنهم عندهم». (6) أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم. (7) أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 403)، ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (3/ 371)، وابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (83) ــ واللفظ له ــ من حديث إسماعيل بن أمية مرسلًا. وللحديث شواهد. انظر: «التمهيد» (6/ 125)، و «فتح الباري» (10/ 213)، و «السلسلة الصحيحة» (3942)، و «الضعيفة» (4019).

(3/1472)


تَصُدَّنَّك عنه الطِّيَرة. واعلم أنَّ التطيُّر إنما يضرُّ من أشفقَ منه وخاف، وأمَّا من لم يُبال به ولم يعبأ به شيئًا لم يضرَّه البتَّة، ولا سيَّما إن قال عند رؤية ما يتطيَّر به أو سماعه: «اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إله غيرك» (1)، «اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهبُ بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» (2). فالطِّيَرة بابٌ من الشِّرك وإلقاءِ الشيطان وتخويفِه ووسوستِه، يكبُر ويعظُم شأنُها على من أتبعَها نفسَه، واشتغلَ بها، وأكثَر العنايةَ بها، وتذهبُ وتضمحلُّ عمَّن لم يلتفت إليها، ولا ألقى إليها بالَه، ولا شغَل بها نفسَه وفكرَه. _________ (1) كما ورد في حديثٍ مرفوع سيأتي (ص: 1485). وورد من قول عبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار، وسيأتيان (ص: 1489، 1518). ومن قول عبد الله بن عباس، أخرجه أحمد في «الزهد» (238)، وابن أبي شيبة (10/ 443). (2) كما ورد في حديث عروة بن عامر الجهني مرفوعًا. أخرجه أبو داود (3919)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 139)، و «الدعوات» (500) وغيرهما بإسناد فيه انقطاعٌ وإرسال. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (149)، و «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 293)، و «مهذب سنن البيهقي» للذهبي (12822)، و «الإصابة» (4/ 490)، و «التهذيب» (7/ 167). وروي من مرسل عبد الرحمن بن سابط الجمحي، أخرجه أبو داود في «المراسيل» (539) بسندٍ لا بأس به.

(3/1473)


واعلم أنَّ من كان معتنيًا بها قائلًا بها كانت إليه أسرعَ من السَّيل إلى منحدَره، وتفتَّحت له أبوابُ الوساوس فيما يسمعُه ويراه ويُعطاه، ويفتحُ له الشيطانُ فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يُفسِدُ عليه دينَه وينكِّدُ عليه عيشَه. فإذا سمع: «سفرجلًا» أو أهديَ إليه تطيَّر به، وقال: سفرٌ وجلاء، وإذا رأى «ياسمينًا» أو سمع اسمَه تطيَّر به، وقال: يأسٌ ومَيْن (1)، وإذا رأى «سَوْسَنةً» أو سمعها قال: سوءٌ يبقى سنَةً (2)، وإذا خرج من داره فاستقبلَه أعورُ أو أشلُّ أو أعمى أو صاحبُ آفةٍ تطيَّر به وتشاءم بيومه. ويحكى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهمَّاته، فاستقبله رجلٌ أعور، فتطيَّر به، وأمرَ به إلى الحبس، فلمَّا رجع من مهمَّته ولم يَلْقَ شرًّا أمرَ بإطلاقه، فقال له: سألتُك بالله ما كان جُرْمي الذي حبستني لأجله؟ فقال له الوالي: لم يكن لك عندنا جُرم، ولكن تطيَّرتُ بك لما رأيتُك، فقال: فما أصبتَ في يومك برؤيتي؟ فقال: لم ألقَ إلا خيرًا، فقال: أيها الأمير، أنا خرجتُ من منزلي فرأيتُك فلقيتُ في يومي الشرَّ والحبس، وأنت رأيتني فلقيتَ في يومك الخيرَ والسُّرور، فمن الأشأمُ منَّا؟! والطِّيَرة بمن (3) كانت؟! فاستحيا منه الوالي ووصَله (4). _________ (1) المَيْن: الكذب. (2) انظر: «الموشى» (262 - 264)، و «تعبير الرؤيا» لابن قتيبة (35). (3) (ت، ص): «ممن». (4) انظر: «التذكرة الحمدونية» (7/ 38)، و «نثر الدر» (7/ 257)، و «جمع الجواهر» (221)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 303).

(3/1474)


وقال أبو القاسم الزجَّاجي: لم أر أشدَّ تطيُّرًا من ابن الرُّومي الشاعر، وكان قد تجاوز الحدَّ في ذلك، فعاتبتُه يومًا على ذلك، فقال: يا أبا القاسم: الفألُ لسانُ الزمان، والطِّيَرة عنوانُ الحَدَثان (1). وهذا جوابُ من استحكمت علَّتُه، فعجز عنه طبيبُه، بمنزلة من قد غلبه الوسواسُ (2) في الطهارة، فلا يلتفتُ إلى علمٍ ولا إلى ناصح. وهذه حالُ من تقطَّعت به أسبابُ التوكُّل، وتقلَّصَ عنه لباسُه، بل تعرَّى منه. ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع، والمصائبُ به أعلَق، والمحنُ له ألزَم، بمنزلة صاحب الدُّمَّل والقُرحة الذي يتهدَّى إلى قُرحته كلُّ مؤذٍ وكلُّ مُصادِم، فلا يكادُ يُصْدَمُ من جسده أو يصابُ غيرُها! والمتطيِّرُ مُتْعَبُ القلب، مُكْمَدُ الصَّدر (3)، كاسفُ البال، سيِّاءُ الخُلق، يتخيَّلُ من كلِّ ما يراه أو يسمعه، أشدُّ الناس خوفًا، وأنكدُهم عيشًا، وأضيقُهم صدرًا، وأحزنهم قلبًا، كثيرُ الاحتراز والمراعاة لما لا يضرُّه ولا ينفعُه، وكم قد حَرَمَ نفسَه بذلك من حظٍّ، ومنعها من رزقٍ، وقطعَ عليها من فائدة! _________ (1) نقله أبو القاسم الزجاجي في «تفسير رسالة أدب الكتاب» (70، 71) عن شيخه أبي إسحاق الزجاج. وانظر: «رسوم دار الخلافة» للصابي (64)، و «العمدة» لابن رشيق (97)، و «زهر الآداب» (1/ 481 - 491). والحَدَثان: نوائبُ الدهر ومصائبه. (2) (ق): «الوساوس». (3) مغموم. وفي (ق): «مكيد الصدر».

(3/1475)


ويكفيك من ذلك قصةُ النابغة (1) مع زبَّان (2) بن سيَّار الفزاري حين تجهَّزَ إلى الغزو، فلما أراد الرحيلَ نظر النابغةُ إلى جرادةٍ قد سقطت عليه، فقال: جرادةٌ تَجْرُد، وذاتُ ألوان! غيري (3) مَن خرجَ من هذا الوجه. ونَفَذَ زبَّانُ لوجهه ولم يتطيَّر. فلمَّا رجع من غزوه سالمًا غانمًا أنشأ يقول: تَخَبَّر (4) طيرَه فيها زيادٌ ... لِتُخْبِرَه وما فيها خبيرُ أقامَ كأنَّ لقمانَ بن عادٍ ... أشارَ له بحكمته مشيرُ تعلَّمْ أنه لا طيرَ إلا ... على متطيِّرٍ وهو الثُّبورُ بلى شيءٌ يوافِقُ بعضَ شيءٍ ... أحايينًا وباطلُه كثيرُ (5) ولم يَحْكِ اللهُ التطيُّر إلا عن أعداء الرسل، كما قالوا لرسلهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 18 - 19]. وكذلك حكى الله سبحانه عن قوم فرعون، فقال: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ _________ (1) نابغة بني ذبيان. واسمه زياد بن معاوية. انظر: «طبقات فحول الشعراء» (56)، و «جمهرة أنساب العرب» (253). (2) (ق): «زياد». وهو تحريف. (3) مهملة في الأصول. (4) مهملة في (د). وفي (ت، ص): «تحير». وهو تحريف. (5) الأبيات والقصة في «الحيوان» (3/ 447، 5/ 555)، و «العمدة» (1033)، و «الصاهل والشاحج» (272)، وغيرها.

(3/1476)


اللَّهِ} [الأعراف: 131]، يعني (1): إذا أصابهم الخصبُ والسَّعةُ والعافية قالوا: لنا هذه، أي: نحن الجديرون الحقيقون به، ونحن أهلُه، وإن أصابهم بلاءٌ وضيقٌ وقحطٌ ونحوه قالوا: هذه بسبب موسى وأصحابه أُصِبْنا بشؤمهم، ونُفِضَ علينا غبارُهم، كما يقولُه المتطيِّر لمن يتطيَّر به؛ فأخبر سبحانه أنَّ طائرَهم عنده. كما قال تعالى عن أعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]. فهذه ثلاثةُ مواضع حكى فيها التطيُّر عن أعدائه. وأجابَ سبحانه عن تطيُّرهم بموسى وقومه بأنَّ طائرهم عند الله، لا بسبب موسى، وأجابَ عن تطيُّر أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وأجابَ عن الرسل ــ لمن تطيَّر بهم ــ بقوله (2): {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}. وأمَّا قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}؛ فقال ابنُ عباس: طائرُهم ما قضى عليهم وقدَّر لهم. وفي رواية: شؤمُهم عند الله، ومِن قِبَله؛ أي: إنما جاءهم الشؤمُ مِن قِبَله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله (3). _________ (1) (ق): «حتى». تحريف. (2) (ق): «وأجاب عن الرسل بقوله». (3) انظر: «تفسير البغوي» (3/ 269).

(3/1477)


وقال أيضًا: إنَّ الأرزاقَ والأقدارَ تتبعُكم (1). وهذا كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، أي: ما يَطِيرُ له من الخير والشرِّ فهو لازمٌ له في عنقه، والعربُ تقول: جرى له الطَّائرُ بكذا من الخير والشرِّ. قال أبو عبيدة: الطَّائر عندهم: الحظُّ، وهو الذي تسمِّيه العامة: البَخْت (2)، يقولون: هذا يَطِيرُ لفلان، أي: يحصُل له. قلت: ومنه الحديث: «فطارَ لنا عثمانُ بن مظعون» (3)، أي: أصابنا بالقُرعة لما اقترعَ الأنصارُ على نزول المهاجرين عليهم. وفي حديث رويفع بن ثابت: «حتى إنَّ أحدَنا ليَطِيرُ له النصلُ والرِّيش وللآخَرِ القِدْح» (4)، أي: يحصُل له بالشركة في الغنيمة. وقيل في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}: إنَّ الطَّائر هاهنا هو العمل. قاله الفرَّاء (5). وهو يتضمَّن الردَّ على نفاة القَدَر (6). _________ (1) انظر: «معاني القرآن» للنحاس (5/ 485). (2) انظر: «مجاز القرآن» (1/ 372)، و «غريب الحديث» للخطابي (2/ 169). (3) أخرجه البخاري (1243). (4) أخرجه أحمد (4/ 108)، وأبو داود (36)، وغيرهما، وفي إسناده اختلاف، وجوَّده النووي في «المجموع» (2/ 133)، وابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 141). وانظر: «مسند البزار» (2317). (5) «معاني القرآن» (2/ 118). (6) انظر: «نكت القرآن» للقصاب (2/ 108)، و «تهذيب اللغة» (14/ 11، 12)، و «شفاء العليل» (221).

(3/1478)


وخَصَّ العنقَ بذلك من بين سائر أجزاء البدن لأنها محلُّ الطَّوق الذي يُطَوَّقُه الإنسانُ في عنقه، فلا يستطيعُ فَكاكَه، ومن هذا يقال: إثمُ هذا في عنقك، وافعَلْ كذا وإثمُه في عنقي، والعربُ تقول: طُوِّقَها طوقَ الحمامة (1)، وهذا رِبقةٌ في رقبته (2). وعن الحسن: [يا] ابن آدم (3)، بُسِطَت (4) لك صحيفةٌ إذا بُعِثْتَ قُلِّدْتَها في عنقك (5). فخصُّوا العنقَ بذلك لأنه موضعُ القلادة والتَّميمة، واستعمالُهم التعاليقَ فيها كثير، كما خُصَّت الأيدي بالذِّكر في نحو: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، ونحوه. وقيل: المعنى: أنَّ الشُّؤمَ العظيمَ هو الذي لهم عند الله من عذاب النار لا هذا الذي (6) أصابهم في الدنيا. وقيل: المعنى: أنَّ سببَ شؤمهم عند الله، وهو عملُهم المكتوبُ عنده، الذي يجزي (7) عليه ما يسوؤهم، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله. _________ (1) انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 275)، و «ثمار القلوب» (679). (2) الرِّبقة في الأصل: عروةٌ في حبلٍ تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها. «النهاية» (ربق). (3) في الأصول: «الحسن ابن آدم». وأضفت (يا) النداء لدفع الاشتباه. (4) في الأصول: «لتنظر». وهو تحريفٌ عن المثبت من «تفسير عبد الرزاق» (2/ 237)، والطبري (17/ 400)، و «الكشاف» (2/ 652)، وغيرها. (5) من قوله: «في عنقي» إلى هنا ساقط من (ت). (6) (ق): «وهو الذي». تحريف. (7) (ق): «يجري». بالمهملة.

(3/1479)


ولا طائرَ أشأمُ من هذا. وقيل: حظُّهم ونصيبهم. وهذا لا يناقضُ قولَ الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: حظُّكم وما نالكم من خيرٍ وشرٍّ معكم، بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعدوانكم. فطائرُ الباغي الظالم معه، وهو عند الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. ولو فَقِهُوا وفَهِمُوا لما تطيَّروا بما جئتَ به؛ لأنه ليس فيما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ما يقتضي الطِّيَرة، فإنه كلَّه خيرٌ محضٌ لا شرَّ فيه، وصلاحٌ لا فسادَ فيه، وحكمةٌ لا عبثَ فيها، ورحمةٌ لا جَوْرَ فيها، فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيَّروا من هذا؛ فإنَّ الطِّيَرة إنما تكون بالشرِّ، لا بالخير المحض والمصلحة والحكمة والرحمة، وليس فيما أتيتَهم به ــ لو فَهِمُوا ــ ما يوجبُ تطيُّرهم، بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم، وهو عند الله كسائر حظوظهم وأنصبائهم التي ينالونها بأعمالهم وكسبهم. ويحتملُ أن يكون المعنى: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: راجعٌ عليكم، فالطَّيرُ الذي حصل لكم إنما يعودُ عليكم. وهذا من باب القِصاص في الكلام، مثل قوله في الحديث: «أخَذْنا

(3/1480)


فألكَ مِن فيك» (1)، ونظيره قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم» (2). فعلى هذا، معنى: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: نصيبُكم طِيَرتُكم التي تطيَّرتم بها؛ لأنهم اعتقدوا الشُّؤمَ فيما لا شؤمَ فيه البتة، فقيل لهم: الشُّؤمُ منكم، وهو نازلٌ بكم. فتأمَّله. وهذا يُشْبِهُ قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، قيل: جزاءُ مكرهم عنده، فمَكَرَ بهم كما مكروا برسله، ومكرُه تعالى بهم إنما كان بسبب مكرهم، فهو مكرُهم عاد عليهم، وكيدُهم عاد عليهم، فهكذا طِيَرتُهم عادت عليهم وحَلَّتْ بهم. وسُمِّي جزاءُ المكر: مكرًا، وجزاءُ الكيد: كيدًا؛ تنبيهًا على أنَّ الجزاء من جنس العمل. ولمَّا ذكر سبحانه أنَّ ما أصابهم من حسنةٍ وسيئة ــ أي نعمةٍ ومحنة ــ فالكلُّ منه تعالى بقضائه وقدره، فكأنهم قالوا: فما بالك أنتَ تصيبك الحسناتُ والسِّيئاتُ كما تصيبنا؟ فذكر سبحانه أنَّ ما أصابه من حسنةٍ فمن الله مَنَّ بها عليه، وأنعَم بها عليه، وما أصابه من سيئةٍ فمن نفسه، أي: بسببه ومِن قِبَله، أي: لا لنقصِ ما جاء به، ولا لشرٍّ فيه، ولا لشؤمٍ يقتضي أن تصيبه السيئة، بل بسببٍ من نفسِه ومِن قِبَلَه. _________ (1) أخرجه أحمد (2/ 388)، وأبو داود (3917)، وغيرهما من حديث أبي هريرة بإسنادٍ فيه راوٍ لم يسمَّ. وورد التصريح به، وهو ثقة، عند أبي الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (786، 787، 788). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (726). (2) أخرجه البخاري (6258)، ومسلم (2163) من حديث أنس بن مالك.

(3/1481)


وقد قيل في قوله تعالى: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}: إنَّ طائرهم هاهنا هو السببُ الذي يجيءُ فيه خيرُهم وشرُّهم، فهو عند الله وحده، وهو قَدَرُه وقَسْمُه، إن شاء رزقكم وعافاكم، وإن شاء حرمكم وابتلاكم. ومِنْ هذا قالوا: طائرُ الله لا طائرُك (1)، أي: قدرُ الله الغالبُ الذي يأتي بالحسنات ويصرفُ السيئات، ومنه: «اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إلهَ غيرُك». وعلى هذا، فالمعنيُّ بطائركم (2): نصيبُكم وحظُّكم الذي يطيرُ لكم (3). ومَنْ فسَّره بالعمل، فالمعنى: طائرُكم الذي طار عنكم من أعمالكم. وبهذين القولين فُسِّرَ معنى قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، وأنه ما طار عنه من عمله، أو طار له: ما قُضِيَ عليه، وقُدِّرَ عليه، وكُتِبَ له من الرزق والأجل والشقاوة والسَّعادة. فصل وقد ثبت في «الصحيحين» (4) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في وصف السَّبعين ألفًا الذي يدخلون الجنة بغير حسابٍ أنهم «الذين لا يكتوون، ولا يَسْتَرقُون، _________ (1) انظر: «الزاهر» لابن الأنباري (2/ 325)، و «غريب الحديث» للخطابي (2/ 169)، و «جمهرة الأمثال» (2/ 17)، و «الكشاف» (3/ 371). (2) أي: المراد بطائركم. (3) (ق): «يطيركم». (4) البخاري (5705)، ومسلم (218) من حديث ابن عباس.

(3/1482)


ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون»، وزاد مسلمٌ وحده: «ولا يَرْقُون»، فسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «هذه الزيادةُ وهمٌ من الراوي (1)، لم يقل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ولا يرقُون»؛ لأنَّ الراقي محسنٌ إلى أخيه، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الرُّقى فقال: «من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلينفعه» (2)، وقال: «لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا» (3)، والفرقُ بين الراقي والمسترقِي أنَّ المسترقِي سائلٌ مستَعطٍ ملتفتٌ إلى غير الله بقلبه، والراقي محسِنٌ نافع» (4). قلت: والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يجعلُ تركَ الإحسان المأذون فيه سببًا للسَّبق إلى الجِنان، وهذا بخلاف ترك الاسترقاء، فإنه توكُّلٌ على الله، ورغبةٌ عن سؤال غيره، ورضاءٌ بما قضاه، وهذا شيءٌ وهذا شيء (5). وفي «الصحيحين» (6) من حديث أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى _________ (1) وهو سعيد بن منصور، شيخ مسلم. ووقعت كذلك في حديث أنس بن مالك، وإسناده ضعيفٌ جدًّا. انظر: «السلسة الضعيفة» (3690). وفي حديث خباب عند الطبراني في «الكبير» (4/ 56)، وإسناده ساقط. (2) أخرجه مسلم (2199) من حديث جابر. (3) أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي. (4) انظر: «اقتضاء الصراط» (837)، و «مجموع الفتاوى» (1/ 182، 328)، و «الرد على البكري» (1/ 383). واعترض بعضهم على كلام شيخ الإسلام، كما في الفتح (11/ 409)، وأجاب عنه الشيخ سليمان بن عبد الله في «تيسير العزيز الحميد» (85). (5) انظر: «زاد المعاد» (1/ 495)، و «حادي الأرواح» (89). (6) «صحيح البخاري» (5754)، و «صحيح مسلم» (2223).

(3/1483)


ولا طِيرَة، وأحبُّ الفألَ الصالح»، ونحوه من حديث أنس (1). وهذا يحتملُ أن يكون نفيًا، وأن يكون نهيًا، أي: لا تطيَّروا، ولكن قوله في الحديث: «ولا عدوى ولا صفَر ولا هامَة» (2) يدلُّ على أنَّ المرادَ النفيُ وإبطالُ هذه الأمور التي كانت الجاهليةُ تُعانيها، والنفيُ في هذا أبلغُ من النهي؛ لأنَّ النفيَ يدلُّ على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدلُّ على المنع منه. وقد روى ابنُ ماجه في «سننه» (3) من حديث سفيان، عن سلمة، عن عيسى بن عاصم، عن زرٍّ، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطِّيَرة شركٌ، وما منَّا إلا، ولكنَّ الله يُذْهِبُه بالتوكُّل». وهذه اللفظة «وما منَّا إلا ... » إلى آخره، مدرجةٌ في الحديث، ليست من كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كذلك قاله بعض الحفَّاظ (4)، وهو الصواب؛ فإنَّ الطِّيَرة نوعٌ من الشرك كما هو في أثرٍ مرفوع: «من ردَّته الطِّيَرة فقد قارَف الشِّرك» (5)، _________ (1) أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224). (2) أخرجه البخاري (5707)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة. (3) (3538)، وأبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (6122)، والحاكم (1/ 18) ولم يتعقبه الذهبي. (4) منهم: سليمان بن حرب شيخ البخاري، والمنذري، وابن حجر. انظر: «العلل الكبير» للترمذي (485)، و «الترغيب والترهيب» (4/ 33)، و «الفتح» (10/ 213)، و «النكت على ابن الصلاح» (2/ 826، 827). وخالف في ذلك ابنُ القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 387)، والألباني في «الصحيحة» (429) جريًا على ظاهر الإسناد. (5) أخرجه ابن وهب في «الجامع» (656، 657)، والذهبي في «السير» (16/ 517) من حديث فضالة بن عبيد، من طرقٍ يثبت بها. وروي من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه. أخرجه البزار (2316)، وفي إسناده جهالة. وقال أبو حاتم في «العلل» (2/ 282): «هذا حديثٌ منكر». وحسَّنه ابن حجر في «مختصر زوائد البزار» (1160).

(3/1484)


وفي أثرٍ آخر: «من أرجعته الطِّيَرة من حاجةٍ فقد أشرك» قالوا: وما كفَّارةُ ذلك؟ قال: «أن يقول أحدُكم: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك ولا خيرَ إلا خيرُك» (1). وفي «صحيح مسلم» (2) من حديث معاوية بن الحكم السُّلمي أنه قال: يا رسول الله، ومنَّا أناسٌ يتطيَّرون؛ فقال: «ذلك شيءٌ يجدُه أحدُكم في نفسه فلا يصدَّنَّه»؛ فأخبر أنَّ تأذِّيه وتشاؤمَه بالتطيُّر إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطيَّر به، فوهمُه وخوفُه وإشراكه هو الذي يُطيِّره ويصدُّه، لا ما رآه وسَمِعَه. فأوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته الأمر، وبيَّن لهم فسادَ الطِّيَرة؛ ليعلموا أنَّ الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويَحْذرونه، لتطمئنَّ قلوبُهم، ولتسكُن نفوسُهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسَل بها رسله، وأنزَل بها كتبه، وخلَق لأجلها السموات والأرض، وعمَّر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ــ ومن أجله ــ جعَل الجنةَ دارَ التوحيد ومُوجَباته وحقوقه، والنارَ دارَ الشرك ولوازمه ومُوجَباته، فقطعَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَقَ الشرك من قلوبهم لئلَّا يبقى فيها علقةٌ منها، ولا يتلبَّسوا بعملٍ من أعمال أهله البتَّة. _________ (1) أخرجه أحمد (2/ 220)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 101)، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا بسندٍ فيه لين، ومن يصحح رواية العبادلة عن ابن لهيعة يصححه. (2) (537).

(3/1485)


وفي الحديث المعروف: «أقرُّوا الطيرَ على مَكِناتِها» (1). قال أبو عبيد في «الغريب» (2): أراد: لا تزجروها (3)، ولا تلتفتوا إليها، أقرُّوها على مواضعها التي جعلها اللهُ لها ولا تتعدَّوا ذلك إلى غيره، أي: أنها لا تضرُّ ولا تنفع. وقال غيرُه: المعنى: أقرُّوها على أمكنتها، فإنهم كانوا في الجاهلية إذا أراد أحدُهم سفرًا أو أمرًا من الأمور أثارَ الطَّيرَ من أوكارها، لينظر أيَّ وجهٍ تسلُك، وإلى أيِّ ناحيةٍ تطير، فإن خرجَت (4) ذاتَ اليمين خرج لسفره ومضى لأمره، وإن أخَذَت ذاتَ الشمال رجعَ ولم يَمْضِ، فأمرهم أن يُقِرُّوها في أمكنتها، وأبطَل فعلَهم ذلك (5) ونهاهم عنه كما أبطَل الاستقسامَ بالأزلام. _________ (1) أخرجه أحمد (6/ 381)، وأبو داود (2835)، وغيرهما من حديث سباع بن ثابت عن أم كرز رضي الله عنها. وصححه ابن حبان (6126)، والحاكم (4/ 237) ولم يتعقبه الذهبي، وأعله في «الميزان» (2/ 115). ووقع في إسناده اختلافٌ في وصله وانقطاعه، والأشبه أنه متصل. انظر: «مسند الحميدي» (1/ 168)، و «علل الدارقطني» (5/ق 219)، و «بيان الوهم والإيهام» (4/ 586). (2) (2/ 138). (3) (د، ت): «تزجروا بها». (ق): «تزجروا لها». والمثبت من (ط). وفي «غريب الحديث»: «لا تزجروا الطير». (4) في «تهذيب الآثار» للطبري (1/ 203 - مسند عمر): «فإن طارت». وهو مصدر المصنف. (5) «تهذيب الآثار»: «وأبطل ذلك من فعلهم».

(3/1486)


وقال ابن جرير: معنى ذلك: أقرُّوا الطَّيرَ التي تزجُرونها في مواضعها المتمكِّنة فيها، التي هي بها مستقرَّة، وامضُوا لأموركم، فإنَّ زجرَكم إيَّاها غيرُ مُجْدٍ عليكم نفعًا، ولا دافعٍ عنكم ضررًا (1). وقال آخرون: هذا تصحيفٌ من الرواة، وخطأٌ منهم، ولا نعرفُ «المَكِنات» إلا اسمًا لبَيض الضِّباب دونَ غيرها (2). قال الجوهري: «المَكِن بَيضُ الضَّبِّ. قال (3): ومَكْنُ الضِّباب طعامُ العُرَيْـ ... ــبِ لا تشتهيه نفوسُ العَجَمْ وفي الحديث: «أقرُّوا الطير على مَكِناتها»، ومَكُناتها، بالضم والفتح. قال أبو زياد الكلابي وغيره: إنَّا لا نعرفُ للطَّير مَكِنات، وإنما هي: وُكُنات، فأمَّا المَكِنات فإنما هي للضِّباب. قال أبو عبيد: ويجوزُ في الكلام، وإن كان المَكِنُ للضِّباب، أن يُجْعَل للطَّير تشبيهًا بذلك، كقولهم: مَشَافرُ الحَبَش، وإنما المَشافرُ للإبل، وكقول زهير (4) يصفُ الأسد: * له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ * _________ (1) «تهذيب الآثار» (1/ 204). (2) «تهذيب الآثار» (1/ 203). (3) أبو الهندي، شاعرٌ من ولد شبث بن ربعي، من أبياتٍ في «الحيوان» (6/ 89)، و «عيون الأخبار» (3/ 210)، وغيرهما. (4) من معلقته، في ديوانه (30)، وصدره: * لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذَّف *

(3/1487)


وإنما له مخالب» (1). قال هؤلاء: فلعل الراوي سَمِع: أقِرُّوا الطَّيرَ في وُكُناتها، بالواو؛ لأنَّ وُكُناتِ الطَّير عُشُّها (2)، وحيث تسقُط عليه من الشَّجر وتأوي إليه (3). وفي أثرٍ آخر: «[ثلاثٌ] من كنَّ فيه لم ينل الدَّرجات العلى: من تكهَّن، أو استقسَم، أو رجَع من سفرٍ من طِيَرة» (4)، وقد رُفِعَ هذا الحديث. فمن استمسَك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصمَ بحبله المتين، وتوكَّلَ على الله، قطَع هاجسَ الطِّيَرة من قبل استقرارها، وبادَر خواطرَها من قبل استمكانها. _________ (1) «الصحاح» (مكن). (2) «تهذيب الآثار» (1/ 203): «مواضع عشها». (3) فتحصَّل في «المَكِنات» أربعة أقوال. الأول: أنَّ المراد بها الأمكنة. الثاني: أنها جمع مَكِنة، وهي اسمٌ من التمكُّن. الثالث: أنها مصحفةٌ عن «الوُكُنات». الرابع: أنها بَيض الضِّباب واستُعير للطير. ولا تعارض بين الأول والثاني. وانظر: «مناقب الشافعي» للبيهقي (1/ 306، 308)، و «غريب الحديث» لابن الجوزي (2/ 369). (4) أخرجه هناد في «الزهد» (1313)، وابن أبي شيبة (9/ 43)، والبيهقي في «الشعب» (19/ 344)، وغيرهم عن أبي الدرداء موقوفًا، وفي إسناده انقطاع. وروي مرفوعًا، أخرجه البيهقي في «الشعب» (3/ 375)، وهو خطأ، والصواب أنه موقوف. انظر: «علل الدارقطني» (6/ 219). وروي مرفوعًا عند الطبراني في «الأوسط» (2663)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 174)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 201)، وغيرهم، وإسناده شديد الضعف.

(3/1488)


قال عكرمة: كنَّا جلوسًا عند ابن عباس، فمرَّ طائرٌ يصيح، فقال رجلٌ من القوم: خَيْر خَيْر، فقال له ابنُ عباس: «لا خيرَ ولا شرَّ» (1). فبادره بالإنكار عليه؛ لئلَّا يعتقدَ له تأثيرًا في الخير أو الشرِّ. وخرج طاووسٌ مع صاحبٍ له في سفر، فصاحَ غُرابٌ، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأيُّ خيرٍ عنده؟! والله لا تصحَبني (2). وقيل لكعب: هل تتطيَّر؟ فقال: نعم، فقيل له: فكيف تقول إذا تطيَّرت؟ قال أقول: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولاخيرَ إلا خيرُك، ولا ربَّ غيرُك، ولا قوَّة إلا بك (3). وكان بعض السلف يقولُ عند ذلك: طيرُ الله لا طيرُك، وصباحُ الله لا صباحُك، ومساءُ الله لا مساؤك (4). وقال ابن عبد الحكم (5): لما خرج عمرُ بن عبد العزيز من المدينة، قال مزاحم: فنظرتُ فإذا القمرُ في الدَّبَران (6)، فكرهتُ أن أقولَ له، فقلت: _________ (1) أخرجه الدينوري في «المجالسة» (937)، وفي إسناده انقطاع، والطبري كما في «فتح الباري» (10/ 215). وفي مصادر كثيرة دون إسناد. (2) أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 406)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية (4/ 4). (3) انظر: «شعب الإيمان» للبيهقي (3/ 376). والمشهور أنَّ هذا السؤال وقع من كعب لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وسيأتي. (4) انظر: «الزاهر» لابن الأنباري (2/ 326). (5) في «سيرة عمر بن عبد العزيز» (27). (6) منزل من منازل القمر، غير محمودٍ عندهم، والشعراء يذكرونه بالنحوسة. انظر: «الأنواء» لابن قتيبة (37، 38).

(3/1489)


ألا تنظُر إلى القمر ما أحسنَ استواءه في هذه الليلة! قال: فنظرَ عمرُ فإذا هو في الدَّبَران، فقال: كأنَّك أردتَ أن تُعْلِمَني أنَّ القمرَ في الدَّبَران، يا مزاحم، إنَّا لا نخرجُ بشمسٍ ولا بقمر، ولكنَّا نخرجُ بالله الواحد القهار (1). فإن قيل: فما تقولون فيما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستحبُّ الفأل؛ ففي «الصحيحين» (2) من حديث أنسٍ وأبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى ولا طيرة، وخيرُها الفأل»، وفي لفظ: «وأصدقُها الفأل» (3)، وفي لفظ: «وكان يعجبُه الفأل» (4)، وفي لفظ مسلم: «ويعجبني الفألُ الصالح، الكلمةُ الحسنة» (5). وقال: «إذا أبردتُم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسَنَ الاسم حسَنَ الوجه» (6). _________ (1) ووقع مثل هذا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه الرافعي في «التدوين» (3/ 173)، والخطيب في «القول في حكم النجوم» (184 - مختصره)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (18/ 72). (2) تقدم. (3) كما في حديث عروة بن عامر المتقدم (ص: 1473) تعليقًا. وفي حديث حابس التميمي عند أحمد (5/ 70)، وأبي يعلى (1582)، وفي إسناده اضطراب. انظر: «الاستيعاب» (280). وفي حديث أنس عند ابن وهب في «الجامع» (640)، وإسناده ضعيف. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في «الكبير» (8/ 164)، وفي إسناده ضعف كذلك. (4) أخرجه ابن ماجه (3536)، وصححه ابن حبان (6121). وفي الصحيحين: «ويعجبني الفأل». (5) لم أجده عند مسلم، وهو في البخاري (5756). (6) مضى القول فيه (ص: 680).

(3/1490)


ورُوِي عن يحيى بن سعيد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لِلَقْحَةٍ تُحْلَب: «من يحلبُ هذه؟»، فقام رجلٌ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما اسمك؟»، فقال الرجل: مُرَّة، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اجلس»، ثمَّ قال: «من يحلبُ هذه؟» فقام رجلٌ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما اسمك؟» فقال الرجل: حرب، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اجلس»، ثمَّ قال: «من يحلبُ هذه؟» فقام رجلٌ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما اسمك؟» فقال الرجل: يعيش، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يعيشُ احلِب»، فحَلَب (1). زاد ابنُ وهبٍ في «جامعه» (2) في هذا الحديث: فقام عمرُ بن الخطاب، فقال: أتكلَّمُ يا رسول الله أم أصمُت؟ قال: «بل اصمُت، وأُخبِرُك بما أردتَ، ظننتَ يا عمر أنها طِيَرة، ولا طيرَ إلا طيرُه، ولا خيرَ إلا خيرُه، ولكن أُحِبُّ الفأل الحسن». وفي «جامع ابن وهب» (3) أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بغلام، فقال: «ما _________ (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2789)، ومن طريقه ابن وهب في «الجامع» (652) عن يحيى بن سعيد مرسلًا. وأخرجه ابن وهب (654)، والحربي في «إكرام الضيف» (65)، والطبراني في «الكبير» (22/ 277)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/ 239)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (6677)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 72) موصولًا من حديث يعيش الغفاري رضي الله عنه. وفي إسناده لين، وحسنه الهيثمي في «المجمع» (8/ 93). وله شاهد من حديث خلدة الزرقي عند ابن عبد البر في «الاستيعاب» (136)، ولا يصح، وآخر مرسل عند ابن وهب في «الجامع» (653). (2) (655) من مرسل محمد بن إبراهيم التيمي. ولا يصح. (3) (49) من مرسل يزيد بن أبي حبيب. وفيه لين.

(3/1491)


سمَّيتم هذا الغلام؟» فقالوا: السائب، فقال «لا تسمُّوه السائب، ولكن عبد الله»، قال: فغُلِبوا على اسمه، فلم يمُت حتى ذهَب عقلُه. وفي «صحيح البخاري» (1) من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه، أنَّ أباه جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ما اسمك؟» قال: حَزْن، قال: «أنت سَهْل»، قال: لا أغيِّرُ اسمًا سمَّانيه أبي. قال ابنُ المسيِّب: فما زالت الحُزونةُ فينا بعد. وروى مالك (2) عن يحيى بن سعيد، أنَّ عمر بن الخطاب قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جَمْرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، فقال: ممَّن؟ قال: من الحُرَقة، قال: أين مسكنُك؟ قال: بحرَّة النار، قال: بأيِّها؟ قال: بذاتِ لَظى، فقال له عمر: أدرِك أهلَك فقد احترقوا. فكان كما قال عمر. وفي غير رواية مالكٍ هذه القصة: عن مجالد، عن الشعبيِّ، قال: جاء رجلٌ من جُهينة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جَمْرة، قال: ابن من؟ قال: ابن ضِرَام، قال: ممَّن؟ قال: من الحُرَقة، قال: وأين منزلك؟ قال: بحرَّة النار، قال: ويحك، أدرِك منزلَك ــ أو: أهلَك ــ فقد احترقوا. قال: فأتاهم فألفاهم قد احترق عامَّتُهم (3). وقالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبُه التيمُّنُ ما _________ (1) (6190). (2) في «الموطأ» (2790). وهو منقطع. وقد تقدم (ص: 681). (3) انظر: «الإصابة» (1/ 539، 3/ 388).

(3/1492)


استطاع، في تنعُّله، وترجُّله، ووضوئه، وفي شأنه كلِّه» (1). وفي «صحيح البخاري» (2) عن ابن عمر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشُّؤمُ في ثلاث: في المرأة، والدَّار، والدابَّة». وفي «الصحيح» (3) أيضًا من حديث سهل بن سعدٍ الساعديِّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنْ كان، ففي الفرس، والمرأة، والمسكن»، يعني: الشُّؤم. وفي «الموطأ» (4) عن يحيى بن سعيدٍ قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله، _________ (1) أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268). (2) (5093). وهو في مسلم (2225). (3) «صحيح البخاري» (2859)، و «صحيح مسلم» (2226). (4) (2788). وروي من حديث عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس. أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (918)، وأبو داود (3924)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 140)، وابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (82) و «عيون الأخبار» (1/ 150)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 69). وظاهر إسناده الحُسْن، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1529)، لكن قال البخاري: «في إسناده نظر»، وذكر ابن عبد البر في «الاستذكار» (27/ 231) أنه روي من حديث أنسٍ مرسلًا، فلعلَّ هذه هي علَّته. ومن حديث صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (26 - مسند علي)، والبزار (6020)، وهو خطأ، كما قال البزار، وثقات أصحاب الزهري يروونه عنه عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن شدَّاد مرسلًا، ومن هذا الوجه المرسل أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 411)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 68). ومن حديث زمعة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 231)، وهو منكر، وزمعة كثير الغلط على الزهري. ومن حديث سكين، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود. أخرجه البيهقي في «الشعب» (3/ 522)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 463) وإسناده ضعيف. ومن حديث سعد بن إسحاق، عن سهل بن حارثة الأنصاري. أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/ 180)، والطبراني في «الكبير» (6/ 104)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3316)، وهو مرسل، لم تثبت لسهل صحبة. وفي سعد بن إسحاق جهالة. انظر: «التاريخ الكبير» (4/ 100)، و «الإصابة» (3/ 195).

(3/1493)


- صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، دارٌ سكنَّاها، والعددُ كثيرٌ، والمالُ وافر، فقلَّ العددُ وذهَب المال، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوها، ذميمةً». ولما رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ فرسًا قد لوَّحَ بذنبه، ورجلًا قد استلَّ سيفَه، فقال له: «شِمْ سيفك (1)، فإني أرى السُّيوفَ سَتُسَلُّ اليوم» (2). وكذلك قولُه لما رمى واقدُ بن عبد الله عمرَو بن الحضرمي، فقتله؛ فقال: «[واقدٌ] وقَدَت الحرب، وعامرٌ عَمَرَت ا لحرب، وابنُ الحضرمي حَضَرَت الحرب» (3). ولما خرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر استقبَل في طريقه جبلَين، فسأل عنهما، فقالوا: اسمُ أحدهما: مُسْلِح، والآخر: مُخْرِاء (4)، وأهلُهما بنو النار وبنو _________ (1) أي: أغمِدْه. والشَّيْم من الأضداد، يكون سلًّا وإغمادًا. «النهاية» (شيم). (2) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (304). ولعل الرجل هو أبو بكر رضي الله عنه. انظر: «غريب الحديث» (2/ 5، 6)، و «كنز العمال» (5/ 868، 871). (3) هذا من كلام اليهود، وليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي (ص: 1560). (4) الضبط من «معجم ما استعجم» (1227)، و «معجم البلدان» (5/ 72، 129)، و «سبل الهدى والرشاد» (4/ 79، 137). وضبط السمهودي في «وفاء الوفاء» (4/ 459، 472) «مخرئ» بالضم ثم الفتح وكسر الراء المشددة. وسمِّيا بذلك فيما قيل لأن عبدًا كان يرعى بهما غنمًا لسيده، فرجع ذات يوم من المرعى، فقال له سيده: لم رجعت؟ فقال: إن هذا الجبل مُسْلِحٌ للغنم وإن هذا مُخْرِاءٌ لها، فسمِّيا بهما.

(3/1494)


حُراق؛ فكره المرور بينهما، وتركهما على يساره، وسلَك ذات اليمين (1). وعرَض عبد الله بن جعفر مالًا له على معاوية، يقالُ له: الدعان (2)، وقال له: اشتره منِّي، فقال له معاوية: هذا مالٌ يقول: دعني! ولما نزل الحسينُ بن عليٍّ بكربلاء قال: ما اسمُ هذا الموضع؟ قالوا: كربلاء، قال: كربٌ وبلاء (3). ولما خرجَ عبد الله بن الزبير من المدينة إلى مكة أنشدَه أحدُ أخويه: وكلُّ بني أمٍّ سيُمْسُون ليلةً ولم ... يبقَ مِنْ أعيانهم (4) غيرُ واحد فقال له عبد الله: ما أردتَ إلى هذا؟ قال: لم أتعمَّده. قال: هو أشدُّ عليَّ (5). _________ (1) انظر: «المغازي» للواقدي (1/ 51)، و «سيرة ابن هشام» (3/ 161)، و «تاريخ الطبري» (2/ 433). (2) دَعَان (كسحاب)، وادٍ بين المدينة وينبع. وخبر كراهة معاوية لشرائه في «المغانم المطابة» (299)، و «وفاء الوفا» (4/ 275، 405) في سياقٍ آخر. (3) انظر: «تاريخ دمشق» (14/ 220). وروي وصف كربلاء بذلك مرفوعًا. انظر: الآحاد والمثاني (1/ 307)، و «المعجم الكبير» للطبراني (3/ 106، 108، 133). (4) في الأصول: «أغنامهم». وهو تحريف. والبيت لمتمم بن نويرة، يرثي أخاه، من أبياتٍ في «الأغاني» (15/ 249). (5) انظر: «الحيوان» (3/ 448)، و «تاريخ الطبري» (5/ 341)، و «أنساب الأشراف» (5/ 315).

(3/1495)


وقد كره السَّلفُ ومن بعدهم أن يُتْبَع الميِّتُ بنارٍ إلى قبره مِنْ مِجْمَرٍ (1) أو غيره (2)، وفي معناه الشَّمْع. قالت عائشة رضي الله عنها: «لا تجعلوا آخرَ زاده أن تَتْبعوه بالنار» (3). ولما بايعَ طلحةُ بن عبيد الله عليَّ بن أبي طالب ــ وكان أوَّلَ من بايع ــ قال رجل: أوَّلُ يدٍ بايعته يدٌ شلَّاء، لا يتمُّ هذا الأمرُ له (4). ولما بعث عليٌّ رضي الله عنه معقلَ بن قيسٍ الرِّياحي من المدائن في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذَ على الموصل ويأتي نَصِيبين ورأسَ العين، حتى يأتي الرَّقَّة فيقيمَ بها، فسارَ معقلٌ حتى نزل الحَدِيثة، فبينما هو ذات يومٍ جالسًا إذ نظر إلى كبشين يتناطحان، حتى جاء رجلان فأخذ كلٌّ منهما كبشًا فذهب به، فقال شدَّادُ بن أبي ربيعة الخثعمي: سَتُصْرَفُون من وجهكم هكذا لا تَغْلِبون ولا تُغْلَبون؛ لافتراق الكبشين سليمَيْن. فكان كذلك (5). ولمَّا بعث معاويةُ في شأن حُجر بن عديٍّ وأصحابه، كان الذي جاءهم أعورَ يقال له: هُدبة، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا مع حُجر، فنظر إليه رجلٌ منهم، _________ (1) (ت): «في مجمرة». (2) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (3/ 417)، وابن أبي شيبة (3/ 272)، و «الأوسط» لابن المنذر (5/ 371). (3) علَّقه مالك. انظر: «المدونة» (1/ 256). وفي «مصنف عبد الرزاق» (3/ 419)، و «الاستذكار» (8/ 226) عن بعض السلف. (4) انظر: «الثقات» لابن حبان (2/ 268)، و «تاريخ الطبري» (4/ 428). (5) انظر: «وقعة صفين» (149)، و «نثر الدر» (7/ 235)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 21).

(3/1496)


فقال: إنْ صدَق الفألُ قُتِلَ نصفُنا؛ لأنَّ الرسول أعور، فلمَّا قتلوا سبعةً وافى رسولٌ ثانٍ ينهى عن قتلهم، فكفُّوا عن الباقين (1). وقال عوانةُ بن الحكم: لما دعا ابنُ الزبير إلى نفسه قام عبد الله بن مطيع ليبايع، فقبضَ عبد الله بن الزبير يدَه، وقال لعبيد الله بن علي بن أبي طالب: قُم فبايع، فقال عبيد الله: قم يا مصعبُ فبايع، فقام فبايع، فتفاءلَ الناس، وقالوا: أبى أن يبايعَ ابنَ مطيع وبايع مصعبًا، ليكوننَّ في أمره صعوبةٌ أو شرٌّ (2). فكان كذلك. وقال سلمةُ بن محارب: نزلَ الحَجَّاجُ في محاربته لابن الأشعث ديرَ قُرَّة، ونزل عبد الرحمن بن الأشعث ديرَ الجماجم، فقال الحجَّاج: استقرَّ الأمرُ في يدي وتجمجمَ به أمرُه، والله لأقتلنَّه (3). وقال عمرو بن مروان الكلبي: حدَّثني مروانُ بن يسار، عن مسلمة مولى يزيد بن الوليد، قال: كنت مع يزيد بن الوليد بناحية القريتين (4) قبل خروجه على الوليد بن يزيد، ونحن نتذاكرُ أمره، إذ عرَض لنا ذئبٌ هناك، فتناول يزيدُ قوسَه فرمى الذِّئب، فأصابَ حلقه، فقال (5): قتلتُ الوليد وربِّ الكعبة. فكان كما قال. _________ (1) انظر: «عيون الأخبار» (1/ 147)، و «تاريخ الطبري» (5/ 274). (2) انظر: «البداية والنهاية» (11/ 667)، و «نثر الدر» (7/ 237). (3) انظر: «معجم ما استعجم» (593)، و «معجم البلدان» (2/ 526)، و «تاريخ الطبري» (6/ 347). (4) قرية كبيرة من أعمال حمص. «معجم البلدان» (4/ 336). (5) في الأصول: «فقلت». والمثبت من (ط).

(3/1497)


وقال داود بن عيسى بن محمد بن علي: خرج أبي وأبو جعفر غازيَيْن في بلاد الروم، ومعه غلامٌ له، ومع أبي جعفرٍ مولى له، فسنحَت له أربعةُ أَظْبٍ (1)، ثمَّ مضت تُخَاتِلنا حتى غابت عنَّا، ثمَّ رجعت، ومضى واحد، فقال لنا أبو جعفر: والله لا نرجعُ جميعًا، فمات مولى أبي جعفر. وأمرَ بعضُ الأمراء (2) جاريةً له تغنِّي، فاندفعت تقول: همُ قتلوهُ كي يكونوا مكانَه ... كما غَدَرَت يومًا بكسرى مَرَازِبُهْ (3) فقال: ويلك، غنِّي غير هذا، فغنَّت: هذا مقامُ مُطَرَّدٍ ... هُدِمَتْ منازلُه ودورُه (4) فقال: ويلك، غنِّي غير هذا. فقالت: والله يا سيِّدي ما أعتمدُ إلا ما يسرُّك ويسبقُ إلى لساني ما ترى، ثم غنَّت: كليبٌ لعمري كان أكثرَ ناصرًا ... وأيسرَ جُرْمًا منكَ ضُرِّج بالدَّمِ (5) فقال: ما أرى أمري إلا قريبًا. فسمع قائلًا يقول: قُضِيَ الأمر الذي فيه _________ (1) جمع ظبي. (2) هو الأمين، الخليفة العباسي. (3) البيت للوليد بن عقبة، في «الكامل» (916)، و «الحماسة البصرية» (445)، و «تاريخ دمشق» (39/ 541). (4) البيت لعبيد بن حنين. وينسب لغيره. انظر: «أخبار القضاة» (1/ 263)، و «الأغاني» (4/ 399). (5) البيت للنابغة الجعدي، في ديوانه (143).

(3/1498)


تستفتيان (1). وقد ذُكِرَ في حرب بني تغلب أنَّ تيمَ اللَّات أرسلَ بنيه في طلب مالٍ له، فلمَّا أمسى سمعَ صوتَ الرِّيح، فقال لامرأته: انظري من أين نشأ السحاب؟ ومن أين نشأت الرِّيح؟ فأخبرته أنَّ الرِّيحَ طالعةٌ من وجه السحاب، فقال: والله إني لأرى ريحًا تُدَهْدِهُ الصَّخر، وتمحقُ الأثر. فلمَّا دخلَ عليه بنوه، قال لهم: ما لقيتم؟ قالوا: سِرْنا من عندك، فلمَّا بلغنا دِعْص (2) الشَّعْثَمَيْن إذا بعُفْرٍ (3) جاثماتٍ على دِعْصٍ من رمل. فقال: أمشرِّقاتٌ أم مُغرِّبات؟ [قالوا: مغرِّبات] (4). قال: فما ريحُكم: ناطحٌ أم دابرٌ أم بارحٌ أم سانح؟ فقالوا: ناطح. فقال لنفسه: يا تيمَ اللَّات، دِعْصُ الشَّعْثَمَيْن ــ والشَّعْثَم الشيخ الكبير (5) ــ، وأنت شَعْثَمُ بني بكر، وجَواثِمُ بدِعْص، وريحٌ نَطَحَت فبرحَت. _________ (1) انظر: «تاريخ الطبري» (8/ 512)، و «تاريخ دمشق» (26/ 227)، و «الأغاني» (5/ 138)، و «نثر الدر» (7/ 247)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 23)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 301). (2) (ق): «غصن». وهو تحريف. والدِّعص: الكثيب من الرمل المجتمع. والشعثمين: موضع كانت به وقعةٌ مشهورة. وقيل: هما رجلان قتلا في تلك الوقعة، فنسب إليهما الموضع. انظر: «التاج» (شعثم)، و «أمالي القالي» (2/ 131)، وسمط «اللآلي» (112، 113). (3) (ت): «بجفر». والعُفر: ظباءٌ تعلو بياضها حمرة. «المعاني الكبير» (697)، و «اللسان» (عفر). (4) من (ط)، وليست في الأصول. (5) هذا المعنى أخلَّت به المعاجم، كما أخلَّ جلُّها بهذا الحرف. وانظر: «الاشتقاق» (349)، و «الجمهرة» (1132).

(3/1499)


قال: ثمَّ ماذا؟ قالوا: ثمَّ رأينا ذئبًا قد دلَع لسانَه مِنْ فِيه، وهو يجرد شعره (1) عليه. فقال: ذلك حَرَّانُ ثائرٌ ذو لسانٍ عذول، حامي الظَّهر، همُّه سفكُ الدِّماء، وهو أرقمُ الأراقم، يعني مهلهِلًا (2). قال: ثمَّ ماذا؟ قالوا: ثمَّ رأينا ريحًا وسحابًا. قال: فهل مُطِرتم؟ قالوا: بلى. قال: ببرقٍ؟ قالوا: قد كان ذلك. فقال: أماءٌ سائل؟ [قالوا: نعم]. فقال: ذلك دمٌ سائلٌ ومُرْهَفَاتٌ. قال: ثمَّ مه؟ قالوا: ثمَّ طلعنا تلعةَ الصَّلعاء (3)، ثمَّ تصوَّبنا من تلِّ فاران. قال: فكنتم سواءً أو مترادفين؟ قالوا: بل سواء. قال: فما سماؤكم؟ قالوا: دَجْناء (4). قال: فما ريحُكم؟ قالوا: ناطِح. قال: فما فعل الجيشُ الذين لقيتُم؟ قالوا: نجونا منه هربًا، وجدَّ القومُ في إثرنا. قال: ثمَّ مه؟ قالوا: ثمَّ رأينا عُقابًا منقضَّةً على عُقاب، فتشابكا وهوَيا إلى الأرض، قال: ذاك جمعٌ رامَ جمعًا فهو لاقِيه. قال: ثمَّ مه؟ قالوا: ثمَّ رأينا سَبُعًا على سَبُعٍ ينهشُه، وبه بقيَّةٌ لم يمت. فقال: ذروني، أما والله إنها لقبيلةٌ مصروعةٌ مأكولةٌ مقتولةٌ من بني وائلٍ بعد عزٍّ وامتناع. وذكروا أنَّ تيمَ الَّلات هذا مرَّ يومًا بجملٍ أجرب، وعليه ثلاثةُ غَرابِيب (5)، فقال لبنيه: ستقفون عليَّ مقتولًا. فكان كما قال، وقُتِل عن قريب. _________ (1) كذا في (ت). وهي مهملة في (د، ق). ولست منها على بينة. وفي (ط): «يطحر وشعره عليه» .. وفي «بلوغ الأرب» للآلوسي (3/ 308): «يحرب وشعره عليه». (2) مهلهل بن ربيعة. (3) في الأصول: «قلعة الصنعا». وفي (ط): «قلعة الضعفاء». وفي «بلوغ الأرب»: «قلعة صنعاء». ولعل المثبت أقرب. انظر: «معجم البلدان» (3/ 421). (4) ممطرةٌ مظلمة. وفي (ت): «دخياء». والليلة الدخياء: المظلمة. (5) جمع غِرْبيب، وهو الشديد السواد. والمراد هنا: الغراب.

(3/1500)


وكذلك قولُ علقمة في مسيره مع أصحابه، وقد مرُّوا في الليل بشيخٍ فانٍ، فقال: لقيتم شيخًا كبيرًا فانيًا يُغالِبُ الدَّهرَ والدَّهرُ يغالبه، يخبركم أنكم ستلقون قومًا فيهم ضعفٌ ووَهن. ثمَّ لقي سَبُعًا، فقال: دَلاجٌ (1) لا يُغْلَب. ثمَّ رأى غرابًا ينفضُ بجُؤْجؤه (2)، فقال: أبشروا، ألا ترونَ أنه يخبرُكم أن قد اطمأنت بكم الدار؟ فكان كذلك (3). وذكر المدائنيُّ، قال: خرجَ رجلٌ من لِهْبٍ ــ ولهم عِيافة ــ في حاجةٍ له، ومعه سقاءٌ من لَبَن، فسار صدرَ يومه، ثمَّ عطش، فأناخَ ليشرب، فإذا الغرابُ ينعَب، فأثارَ راحلتَه، ومضى، فلمَّا أجهَده العطشُ أناخَ ليشرب، فنعَب الغراب، فأثارَ راحلته، ثمَّ الثَّالثة، نعَب الغرابُ وتمرَّغ في التراب، فضربَ الرجلُ السِّقاءَ بسيفه، فإذا فيه أسودُ ضخم (4)، ثمَّ مضى، فإذا غرابٌ على سِدْرَة، فصاحَ به، فوقعَ على سَلَمَة (5)، فصاحَ به، فوقعَ على صخرة، فانتهى إليه، فإذا تحت الصخرة كنز. فلمَّا رجع إلى أبيه، قال له: ما صنعت؟ قال: سرتُ صدرَ يومي، ثمَّ أنختُ لأشرب، فإذا الغرابُ ينعَب. قال: أَثِرْهُ، وإلا لستَ بابني. قال: أثرتُه، ثمَّ أنختُ لأشرب، فنعَب الغراب وتمرَّغ في التراب. قال: اضرب السِّقاءَ، وإلا لستَ بابني. قال: فعلتُ، فإذا أسودُ _________ (1) كذا في الأصول. والدَّلوح والدَّلوج: الذي يمرُّ بحمله مثقلًا. انظر: «اللسان» (دلح)، و «شرح أشعار الهذليين» (1/ 138). (2) وهو مجتمع رؤوس عظام الصدر. (3) لعل هذه الأخبار من كتاب المدائني في القيافة والزجر، كالأخبار التالية. (4) في «الجليس والأنيس»: «أسود سالخ». والمثبت من الأصول والمصدرين الآتيين. والأسود: العظيم من الحيَّات. (5) شجرة معروفة ذات شوك يدبغ بورقها. «اللسان» (سلم).

(3/1501)


ضخم. قال: ثمَّ مه؟ قال: ثمَّ رأيتُ غرابًا واقعًا على سِدْرَة. قال: أَطِرْهُ، وإلا لستَ بابني. قال: أطرتُه، فوقَع على سَلَمَة. قال: أَطِرْهُ وإلا لستَ بابني. قال: فوقع على صخرة. قال: أخبرني بما وجدت. فأخبَره! (1). وذكر أيضًا أنَّ أعرابيًّا أضلَّ ذَوْدًا له وخادمًا، فخرج في طلبهما، إذ اشتدَّت عليه الشمس، وحَمِيَ النهار، فمرَّ برجلٍ يحلبُ ناقة، قال: أظنُّه من بني أسد، فسأله عن ضالَّته. قال: ادْنُ، فاشرَب من اللبن، وأدلُّك على ضالَّتك. قال: فشرب، ثمَّ قال له: ما سمعتَ حين خرجت؟ قال: بكاءَ الصِّبيان، ونباحَ الكلاب، وصراخَ الدِّيكة، وثُغاءَ الشاء. قال: تنهاك عن الغُدُوِّ. ثمَّ مه؟ قال: ثمَّ ارتفع النهار فعرض لي ذئبٌ. قال: كَسُوبٌ (2) ذو ظُفر. ثمَّ مه؟ قال: ثمَّ عرضت لي نعامة. قال: ذاتُ ريشٍ، واسمُها حَسَن. هل تركتَ في أهلك مريضًا يُعاد؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى أهلك، فذَوْدُك وخادمُك عندهم. فرجع فوجدهم (3). وذكر أبو خالدٍ التيميُّ قال: كنتُ آخذُ الإبل بضمانٍ فأرعاها في ظَهْر البصرة، فطردَت، فخرجتُ أقفو أثرها حتى انتهيتُ إلى القادسية، فاختلطَت عليَّ الآثار، فقلت: لو دخلتُ الكوفة فتحسَّستُ عنها، فأتيتُ الكُناسة، فإذا الناسُ مجتمعون على عرَّاف اليمامة، فوقفتُ، ثمَّ قلتُ له حاجتي، فقال: _________ (1) انظر: «الجليس والأنيس» (3/ 119)، و «نثر الدر» (7/ 238)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 22). وفيها: «فوقع على صخرة. فقال: أحذِني يا بني. فأحذاه». أي: أعطني. فأعطاه. (2) كثير الكسب. والكواسب: الجوارح. وكساب: اسم للذئب. (3) انظر: «عيون الأخبار» (1/ 150)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 188).

(3/1502)


بعيدةُ أشطانِ الهوى جَمْعُ مثلِها ... على العاجزِ الباغي الغِنى ذو تكاليفِ (1) ولترجعَنَّ. قال: فوجدتُها في الشام مع ابن عمٍّ لي، فصالحتُ أصحابَها عنها. وقال المدائني: كان بالسَّواد زاجرٌ يقالُ له: مهر، فأُخْبِرَ به بعضُ العمَّال، فجعل يكذِّبُ زجرَه، [ثمَّ] أرسَل إليه، فلمَّا أتاه قال: إني قد بعثتُ بغنمٍ إلى مكان كذا وكذا، فانظُر هل وصلَت أم لم تَصِل؟ وقد عرفَ العاملُ قبل ذلك أنَّ بينها وبين الكلأ رحلة (2)، فقال لغلامه: اخرُج فانظُر أيَّ شيءٍ تسمع؟ قال: وكان العاملُ قد أمرَ غلامَه أن يَكْمُنَ في ناحية الدار، ويصيحَ صياحَ ابن آوى (3)، فخرجَ غلامُ الزاجر ليسمع، وصاحَ غلامُ العامل، فرجعَ إلى الزاجر غلامُه وأخبره بما سمع، فقال للعامل: قد ذهبَت عنك وقُطِعَ عليها الطريق، فاستِيقَت. قال: فضحِك العامل، وقال: قد جاءني خبرُها أنها وصلت، والصَّائحُ الذي صاحَ غلامي. قال: إن كان الصائحُ الذي صاحَ ابنَ آوى فقد ذهبَت، وإن كان غلامَك فقد قُتِلَ الراعي (4). قال: فبلغه بعد ذلك ذهابُ الغنم وقتلُ الراعي. _________ (1) (ت): «تكانف». (ق، د) و «بلوغ الأرب» (3/ 310): «تكاثف». والمثبت من (ط)، وهو أشبه. وانظر: «التعليقات والنوادر» (721). (2) كذا في الأصول. ولعلها: مرحلة، وهي ما يقطعه السائر في نحو يوم. (3) حيوان من الفصيلة الكلبية، أصغر حجمًا من الذئب. «المعجم الوسيط». (4) «نثر الدر» (7/ 236): «قتل راعيها قبل ذهابها».

(3/1503)


وذكرَ عن العُكليِّ (1) أنه خرج في تسعة نفرٍ هو عاشرُهم ليصيبوا الطريق، فرأى غرابًا واقعًا (2) على بانة (3)، فقال: يا قوم، إنكم تُصابون في سفركم هذا، فازدَجِروا وأطيعوني وارجعوا، فأبوا عليه، فأخَذ قوسَه وانصرف، وقُتِلَت التسعة، فأنشأ يقول: رأيتُ غرابًا واقعًا فوق بانةٍ ... يُنَشْنِشُ أعلى ريشه ويُطايِرُهْ فقلتُ: غرابٌ واغترابٌ من النوى ... وبانٌ فبَيْنٌ من حبيبٍ تُجَاوِرُهْ (4) فما أعيفَ العُكْلِيَّ (5) لا دَرَّ درُّه ... وأَزْجَرَه للطَّير لا عزَّ ناصِرُهْ (6) وذكرَ عن كُثيِّر عَزَّة أنه خرج يريدُ مصر، وكانت بها عَزَّة، فلقيه أعرابيٌّ من نَهْد، فقال: أين تريد؟ قال: أريدُ عَزَّة بمصر، قال: ما رأيتَ في وجهك؟ _________ (1) وهو السمهريُّ بن بشر العكلي. (2) (ت): «واقفا». (3) شجرٌ سبط القوام ليِّن، يُتطيَّر به. انظر: «المعجم الوسيط» (77)، و «الموشى» (262، 265). (4) في بعض المصادر: «تحاذره». وفي بعضها: «تعاشره». وفي سياق البيت هنا غرابة، والمشهور فيه: فقلت - ولو أني أشاء زجرته ... بنفسي - للنهدي: هل أنت زاجره فقال: غرابٌ واغتراب ... (5) في «الصاهل والشاحج» (609) وعامة المصادر التي نسبَت الأبيات لكثيِّر في خبره الآتي: «النهدي». قال أبو العلاء: «نهدٌ ليس فيها عيافةٌ على ما يذكرون، وإنما الرواية: فما أعيفَ اللِّهبيَّ». وكذا رواها ابن حزم في «الجمهرة» (376). (6) انظر: «الفوائد والأخبار» لابن دريد (10)، و «الحيوان» (3/ 441)، و «الأغاني» (21/ 263). والمشهور نسبة الأبيات لكثيِّر، كما سيأتي.

(3/1504)


قال: رأيتُ غرابًا ساقطًا (1) فوق بانةٍ ينتفُ ريشَه، فقال: ماتت عَزَّة، فانتهَره (2) ومضى، فوافى مصرَ والناسُ منصرفون من جنازتها، فأنشأ يقول: فأمَّا غرابٌ، فاغترابٌ وغُربةٌ ... وبانٌ، فبَينٌ من حبيبٍ تعاشِرُهْ (3) وذكرَ عنه أيضًا أنه هَوِيَ امرأةً من قومه بعد عَزَّة، يقالُ لها: أمُّ الحويرث، وكانت فائقةَ الجمال، كثيرةَ المال، فقالت له: اخرُج فأصِب مالًا وأتزوَّجُك، فخرَج إلى اليمن وكان عليها رجلٌ من بني مخزوم، فلمَّا كان ببعض الطريق عرَض له قُوطٌ ــ والقُوط: الجماعةُ من الظِّباء ــ، فمضى، ثمَّ عرَض له غرابٌ ينعَبُ ويفحصُ الترابَ على رأسه، فأتى كُثيِّر حيًّا من الأزد ثمَّ مِنْ بني لِهْب، وهم من أزجر العرب (4)، وفيهم شيخٌ قد سقط حاجباه على عينيه، فقصَّ عليه ما عرَض له، فقال: إن كنتَ صادقًا لقد ماتت هذه المرأةُ أو تزوَّجت رجلًا من بني كعب، فاغتمَّ كُثيِّر لذلك، وسقى بطنُه (5)، فكان ذلك سببَ موته، وقال في ذلك: _________ (1) كذا في الأصول وبعض المصادر. وهو مستقيم. (2) في الأصول: «فانتهى». تحريف. وفي طرة (د): «لعله: فما انتهى». (3) انظر: ديوان كثيِّر (462)، و «اعتلال القلوب» (644)، و «عيون الأخبار» (1/ 148)، و «الموشى» (265)، و «زهر الآداب» (480)، و «وفيات الأعيان» (4/ 112)، و «الذخيرة» لابن بسام (8/ 535)، وغيرها. (4) انظر: «الاشتقاق» (491)، و «جمهرة أنساب العرب» (376)، و «نسب معد واليمن الكبير» (480)، و «ثمار القلوب» (223). (5) أصابه الاستسقاء، وهو تجمُّع سائلٍ مَصْليٍّ في التجويف البريتوني لا يكاد يبرأ منه. «المعجم الوسيط».

(3/1505)


تيمَّمْتُ لِهْبًا أبتغي العلمَ عندهم ... وقد رُدَّ علمُ العائفين إلى لِهْبِ تيمَّمْتُ شيخًا منهمُ ذا أمانةٍ ... بصيرًا بزَجْرِ الطَّيرِ مُنحنِيَ الصُّلْبِ فقلتُ له: ماذا ترى في سوانحٍ ... وصوتِ غرابٍ يفحصُ الأرضَ بالتُّربِ فقال: جرى الطَّيرُ السَّنيحُ ببَيْنِها ... ونادى غرابٌ بالفِراقِ وبالسَّلْبِ فإن لا تكن ماتت فقد حالَ دونها ... سواكَ حَلِيلٌ باطنٌ من بني كعبِ (1) وقال رجلٌ من بني أسد: تزوجتُ ابنةَ عمٍّ لي، فخرجتُ أريدُها، فلقيني شيءٌ كالكلب، مندلعًا (2) لسانُه في شِقٍّ، فقلت: أخفقتُ (3) وربِّ الكعبة، فأتيتُ القوم، فلم أصِل إليها، ونافَرني أهلُها، فخرجتُ عنهم فمكثتُ ثلاثة أيَّام، ثمَّ بدا لي فيهم، فخرجتُ نحوهم، فلقيتُ كلبةً تَنْطِفُ أطْباؤها (4) لبنًا، فقلت: أدركتُ وربِّ الكعبة، فدخلتُ بأهلي، وحملَت منِّي بغلامٍ، ثمَّ آخر، حتى ولدَت أولادًا. وذكرَ عن يحيى بن خالد قال: حجَّ رجلان، فقيل لهما: هاهنا امرأةٌ تزجُر، قال: فأتَياها فسَألاها، فقال أحدُهما: ما نُضْمِر؟ فقالت: إنك لتسألني عن رجلٍ محبوسٍ مقيَّد. ثم سألها الآخر، فقالت: إنك لتسألني عن رجلٍ مقتول. فقال: هو والله الذي سأل عنه صاحبي، فقالت: هو كما قلتُ. فسألاها عن تفسير ذلك، فقالت: أمَا رأيتما الجاريةَ التي مرَّت ومعها ديكٌ _________ (1) انظر: ديوان كثيِّر (469)، و «الأغاني» (9/ 33)، و «عيون الأخبار» (1/ 148). (2) (ق، د): «مندلها». (ت): «مدلها». (ط): «مدليا». وفي «بلوغ الأرب» (3/ 212): «مندلع». (3) (ت): «اجففت». (ط) و «بلوغ الأرب»: «أخفت». ولم تحرر في (ق). (4) تقطر ضروعُها.

(3/1506)


مشدودُ الرِّجلَين حين سألني الأول؟ قالا: بلى، قالت: فلذلك قلتُ: إنه محبوسٌ مقيَّد، قالت: ورأيتُ الجاريةَ حين رجعَت وسألتَني أنت والدِّيكُ مذبوحٌ، فقلتُ: مقتول. وذكر المدائنيُّ أنَّ أهلَ بيتٍ من العَجم كانوا إذا غاب الرجلُ عن أهله ولم يأتهم خبرُه أربعَ حِجَج زوَّجوا امرأتَه، فتزوَّج منهم رجلٌ جارية، وغاب أربع حِجَجٍ لا يأتيهم، فأرادوا تزويجَ الجارية وكانت مشغوفةً به، فقالت: دعوني سنةً أخرى، فأبوا عليها، وأتوا زاجرًا لهم، فخرج الزاجرُ ومعه تليمذٌ له، فتلقَّاهم قومٌ يحملونَ ميتًا ويدُ الميت على صدره، فقال الزاجرُ لتلميذه: مات الرجل، قال: ما مات، ألا ترى يد الميت على صدره يخبرُ أنه هو الميت والرجلُ صحيح (1)؟ فرجعا فأخبرا الحاكمَ أنه لم يمت، فأمر بتأجيلها سنة، فجاء زوجُها بعد شهر. وذكر ابن قتيبة عن إبراهيم بن عبد الله، قال: دخل عليَّ رجلٌ ضريرٌ زاجرٌ من العرب، وقد خبَّأتُ شيئًا به (2) عنوانٌ من كتابٍ (3)، فقلت: أخبرني بما خبَّأتُ لك، فنظرَ قليلًا، ثمَّ قال: هو من نبات الماء (4). فقلت: زدني في _________ (1) «نثر الدر» (7/ 235): «والرجل حي». (2) رسمها في الأصول يشبه: «سحا به». ولعل ذاك الشيء قطعة من ورق البَردي، وهو نباتٌ مائي، وكان كثيرًا منتشرًا لذلك العهد. انظر: «المخطوط العربي» للحلوجي (25، 26). (3) كذا في الأصول، مضبوطةً مجوَّدة في (د). وفي (ط): كتان. (4) الحرفان الأولان مهملان في (د). وفي (ق، ت): «بنات». وبنات الماء كل ما يألف الماء من السمك والطير والضفادع. انظر: «المرصع» لابن الأثير (307، 316)، و «ثمار القلوب» (344). ولا موضع لها هنا.

(3/1507)


الشرح، قال: هو قطعةٌ من كتاب. فسألتُه عن ذلك، فقال: سألتني عن الخَبِيء، فوقعَت يدي على الحَصِير (1)، فقلتُ: إنه من نبات الماء، فقلتَ: زدني، وصاح صائحٌ من جانب الدار: يا سُوَيْد (2)، فقضيتُ بالسَّواد، وبأنه صغيرٌ للتصغير، ثمَّ نظرتُ فلم يكن ذلك أولى بأن يكون قطعةً من كتاب! قال: وسألتُه عن مِقراضَيْن في يدي قد أدخلتُ إصبعي في حلقتَيهما، فقال: في يدك خاتمٌ من حديد. وذكر ابنُ عيينة، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مُطْعِم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يرمي الجمرة، فجاءته حصاةٌ فأصابت جبهتَه، ففَصَدَت منه عِرْقًا، فقال رجلٌ من بني لِهْب: أُشْعِرَ أميرُ المؤمنين (3)، وربِّ الكعبة، لا يقومُ هذا المقام أبدًا. فقُتِلَ بعد ذلك (4). وثبت في «الصحيحين» (5) من حديث ابن عمر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشُّؤمُ في الدَّار، والمرأة، والفَرس». _________ (1) وكان يصنعُ من البَردي. انظر: «اللسان» (حصر). (2) «يا سويد» ليست في (ق). (3) أي: أُعْلِم بعلامةٍ للقتل، كما تُعْلَم البدنةُ إذا سيقت للنحر. وقيل: إن أحدهم قال ذلك، يريد أنه دُمِّي كما يدمَّى الهدي، فسمعه اللِّهبي، فذهب به إلى القتل؛ لأن العرب كانت تقول للملوك إذا قُتِلوا: أُشعِروا؛ صيانةً لهم عن لفظ القتل. انظر: «تهذيب اللغة» (1/ 416)، و «النهاية» (شعر). (4) أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 402)، ومن طريقه ابن سعد (3/ 334)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/ 50) وغيرهما، بإسنادٍ صحيح. ورواه ابن سعد (5/ 63) من وجهٍ آخر لا بأس به. (5) «صحيح البخاري» (2858)، و «صحيح مسلم» (115/ 2225).

(3/1508)


وفي لفظٍ فيهما: «لا عدوى، ولا صَفَر، ولا طِيَرة، وإنما الشُّؤمُ في ثلاثة: المرأة، والفَرس، والدار» (1). وفي لفظٍ آخر فيهما: «إن يكن الشُّؤمُ في شيءٍ حقًّا، ففي الفَرس، والمسكن، والمرأة» (2). وفي بعض طرق البخاري (3): «والدَّابة»، بدل: «الفرس». وفي «الصحيحين» (4) أيضًا عن سهل بن سعد السَّاعدي، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن كان، ففي المرأة، والفَرس، والمسكن». يعني الشؤم. وقال البخاري: «إن كان في شيءٍ». وفي «صحيح مسلم» (5) عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن كان في شيءٍ، ففي الرَّبْع، والخادم، والفَرس». وفي «صحيح مسلم» (6) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ». _________ (1) «صحيح البخاري» (5753)، و «صحيح مسلم» (116/ 2225). (2) «صحيح مسلم» (117/ 2225) بلفظ «إن يكن من الشؤم شيءٌ حقٌّ ففي الفرس والمرأة والدار». ولم أجده في البخاري. وعزاه ابن حجر في «الفتح» (6/ 61) لمسلم. وانظر: «الجمع بين الصحيحين» لعبد الحق (3/ 383). (3) (5753). (4) «صحيح البخاري» (2859، 5095)، و «صحيح مسلم» (2226) واللفظ له. (5) (2227). والرَّبع: الدار. (6) (2221)، و «صحيح البخاري» (5771).

(3/1509)


وفي «موطأ مالك» (1) أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن أبي عطية أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى، ولا هامَ، ولا صَفَر، ولا يَحُلُّ المُمْرِضُ على المُصِحِّ، ولْيَحْلُل المُصِحُّ حيث شاء»، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه أذى». وقال ابنُ وهب (2): أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدِّثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»، وحدَّثنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» الحديث، ثمَّ صمتَ أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: «لا عدوى»، وأقام [على] أنْ «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» الحديث. قال: فقال الحارثُ بن أبي ذباب ــ وهو ابن عمِّ أبي هريرة ــ: قد كنتُ أسمعُك يا أبا هريرة تحدِّثنا مع هذا الحديث حديثًا آخر قد سكتَّ عنه، كنتَ تقول: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»، فأبى أبو هريرة أن يحدِّث ذلك (3)، _________ (1) (2724 - رواية يحيى بن يحيى). وهو مرسلٌ من هذا الوجه. وأبو عطية لا يعرف. انظر: «تعجيل المنفعة» (2/ 508)، و «الاستذكار» (27/ 53)، و «التمهيد» (24/ 188)، وما سيأتي (ص: 1588). وروي عن مالك موصولًا، وفي إسناده اختلاف، ولا يثبت. انظر: «علل الدارقطني» (11/ 231)، و «سنن البيهقي» (7/ 217)، و «أطراف الموطأ» للداني (273)، و «بذل الماعون» لابن حجر (299). (2) في «الجامع» (627)، ومن طريقه مسلم (2221)، وابن حبان (6115)، وابن عبدالبر في «التمهيد» (24/ 190)، و «الاستذكار» (27/ 58). (3) كذا في الأصول و «التمهيد». وفي كتاب ابن وهب ومسلم وابن حبان: «أن يعرف ذلك». وهو أصح. وفي «الاستذكار» وما يأتي (ص: 1574): «أن يحدث بذلك».

(3/1510)


وقال: «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِح»، فماراه الحارثُ في ذلك، حتى غضبَ أبو هريرة ورَطَنَ بالحبشيَّة، فقال للحارث: أتدري ماذا قلتُ؟ قال: لا، قال أبو هريرة: إني أقول: أبيتُ، أبيتُ. قال أبو سلمة: فلعمري لقد كان أبو هريرة يحدِّثنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى»، فلا أدري أنسيَ أبو هريرة، أو نسخَ أحدُ القولين الآخر؟ قالوا: فهذا النهيُ عن إيراد المُمْرِض على المُصِحِّ إنما هو من أجل الطِّيَرة التي تلحقُ المُصِحَّ. وقال مسدَّد: حدثنا يحيى، عن (1) هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرميِّ بن لاحق، عن سعيد بن المسيب، قال: سألتُ سعدَ بن مالك عن الطِّيَرة؟ فانتهَرني، وقال: من حدَّثك؟ فكرهتُ أن أحدِّثه، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا عدوى، ولا طِيَرة، ولا هامة، وإن كانت الطِّيَرة في شيءٍ ففي الفَرس والمرأة والدَّار، فإذا كان الطَّاعون بأرضٍ وأنتم بها فلا تَفِرُّوا» (2). وفي «صحيح مسلم» (3) عن الشَّريد بن سُويد، قال: كان في وفد ثقيفٍ رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا قد بايعناك فارْجِع». وفي حديثٍ آخر: «فِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد» (4). _________ (1) في الأصول: «بن». تحريف. ويحيى هو القطان، وهشام الدستوائي. (2) أخرجه مسدد، كما في «إتحاف الخيرة» (2/ 422) ومن طريقه أحمد (1/ 174، 181)، وأبو يعلى (766)، والبزار (1082)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (4/ 443)، وغيرهم. وصححه ابن حبان (6127)، وهو كما قال. وانظر: «علل الدارقطني» (4/ 370). (3) (2231). (4) أخرجه البخاري (5707) من حديث أبي هريرة.

(3/1511)


فصل الآن التقت حَلَقتا البِطان (1)، وتداعى: «نَزَالِ» (2) الفريقان. نعم؛ وهاهنا أضعافُ أضعاف ما ذكرتم، وأضعافُ أضعافه. وللناس هاهنا مسلكان عليهما يعتمدُ المتكلِّمون في هذا الباب، لا نرتضيهما، بل نسلكُ مسلك العدل والتوسُّط بين طرفي الإفراط والتفريط، فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه، كالوادي (3) بين الجبلين والهدى بين الضَّلالتين، وقد جعَل اللهُ هذه الأمَّة هي الأمَّة الوسط في جميع أبواب الدِّين، فإذا انحرف غيرُها من الأمم إلى أحد الطَّرفين كانت هي في الوسَط: * كما كانت وسطًا في باب أسماء الربِّ تعالى وصفاته بين الجهميَّة المعطِّلة (4) والمشبِّهة الممثِّلة. * وكانت وسطًا في باب الإيمان بالرسل بين من عَبَدَهم وأشركهم بالله كالنصارى، وبين من قَتَلهم وكذَّبهم (5). فآمنوا بهم وصدَّقوهم ونزَّلوهم منازلهم من العبوديَّة (6). * وكانت وسطًا في القَدَر بين الجبريَّة الذين ينفونَ أن يكون للعبد فعلٌ _________ (1) مثلٌ للأمر يبلغ الغاية في الشدَّة، وقد مرَّ تفسيره (ص: 828). (2) اسم فعل، بمعنى: انزِل. انظر: «ما بنته العرب على فَعَال» للصغاني (86). (3) في الأصول: «والوادي». تحريف. وانظر: «مدارج السالكين» (2/ 496). (4) في الأصول: «والمعطلة». خطأ. (5) كاليهود. انظر: «الجواب الصحيح» (2/ 144، 261). (6) (ق): «وتركوهم من العبودية». وهو تحريف.

(3/1512)


أو كسبٌ أو اختيارٌ البتَّة، بل هو مجبورٌ مقهورٌ لا اختيارَ له ولا فِعل، وبين القدريَّة النُّفاة الذين يجعلونه مستقلًّا بفعله، ولا يدخلُ فعلُه تحت مقدور الربِّ تعالى، ولا هو واقعٌ بمشيئة الله تعالى وقدرته. فأثبتوا له فعلًا وكسبًا واختيارًا حقيقةً، هو متعلَّقُ الأمر والنهي والثواب والعقاب، وهو مع ذلك واقعٌ بقدرة الله ومشيئته، فما شاء الله من ذلك كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تتحرَّكُ ذرَّةٌ إلا بمشيئته وإرادته، والعبادُ أضعفُ وأعجزُ أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولا قدَّره ولا أقدَرهم عليه (1). * وكذلك هم وسطٌ في المطاعم والمشارب بين اليهود الذين حُرِّمت عليهم الطيباتُ عقوبةً لهم، وبين النصارى الذي يستحلُّون الخبائث، فأحلَّ اللهُ لهذه الأمة الوسط الطيبات وحرَّم عليهم الخبائث. * وكذلك لا تجدُ أهلَ الحقِّ دائمًا إلا وسطًا بين طرفي الباطل، فأهلُ السُّنة وسطٌ في النِّحَل، كما أنَّ المسلمين وسطٌ في الملل. * وكذلك ما نحن فيه من هذا الباب؛ فإنهم وسطٌ بين النُّفاة الذين ينفونَ الأسبابَ جملة، ويمنعون ارتباطَها بالمُسبَّبات وتأثيرَها بها، ويَسُدُّون هذا الباب بالكلِّية، ويضطربون فيما ورد من ذلك، فيقابلون بالتكذيب منه ما يُمْكِنُهم تكذيبُه، ويُحِيلون على الاتِّفاق والمصادفة ما لا قِبَل لهم بدفعه، من غير أن يكون لشيءٍ من هذه الأمور مدخلٌ في التأثير، أو تعلُّقٌ بالسببيَّة البتَّة (2). _________ (1) (ق، د): «لا قدره ولا قدرة عليه». (ت): «لا قدرة ولا قدرة عليه». (ط): «لا قوة له ولا قدرة عليه». والمثبت أشبه. (2) (ت): «مدخل أو متعلق بالسببية إليه».

(3/1513)


وربما يقولون: إنَّ أكثر ذلك مجرَّدُ خيالاتٍ وأوهامٍ في النفوس، تنفعلُ عنها النفوسُ كانفعال أرباب الخيالات والأمراض والأوهام. وليس عندهم وراء ذلك شيء. وهذا مسلكُ نفاة الأسباب وارتباط المسبَّبات بها، وهذا جوابُ كثيرٍ من المتكلِّمين (1). والمسلكُ الثاني مسلكُ المُثبِتين لهذه الأمور، المعتقدين لها، الذاهبين إليها، وهي عندهم أقوى من الأسباب الحِسِّيَّة أو في درجتها، ولا يلتفتون إلى قدح قادحٍ فيها، والقدحُ فيها عندهم من جنس القدح في الحِسِّيَّات والضروريَّات. ونحن لا نسلكُ سبيل هؤلاء ولا سبيل هؤلاء، بل نسلكُ سبيلَ التوسُّط والإنصاف، ونجانبُ طريقَ الجَور والانحراف، فلا نُبطِلُ الشرعَ بالقدر، ولا نكذِّبُ بالقدر لأجل الشرع، بل نؤمنُ بالمقدور ونصدِّقُ الشرع؛ فنؤمنُ بقضاء الله وقَدَره وشرعه وأمره، ولا نُعارِض بينهما فنُبطِل الأسبابَ المقدورة أو نقدحُ في الشريعة المنزَّلة، كما فعله الطائفتان المنحرفتان. فإحداهما: أبطلَت ما قدَّره الله من الأسباب بما فَهِمَته من الشرع. وهذا من تقصيرها في الشرع والقدر. والأخرى: توصَّلَت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما شاهدَته من تأثير الأسباب وارتباطها بمسبَّباتها لمَّا ظنت أنَّ الشرع نفاها، فكذَّبت بالشارع. فالطائفتان جانيتان على القدر والشرع. _________ (1) انظر: «المفهم» للقرطبي (5/ 621)، و «مدارج السالكين» (3/ 496)، و «إعلام الموقعين» (2/ 298).

(3/1514)


لكنْ الموفَّقون المهديُّون (1) آمنوا بقدر الله وشرعه، ولم يعارِضوا أحدَهما بالآخر، بل صدَّق كلٌّ منهما الآخر عندهم وقرَّره، فكان الأمرُ تفصيلًا للقَدَر وكاشفًا عنه وحاكمًا عليه، والقدرُ أصلٌ للأمر، ومنفذٌ له، وشاهدٌ له، ومصدِّقٌ له، فلولا القدرُ لما وُجِدَ الأمرُ ولا تحقَّق ولا قام على ساقِه، ولولا الأمرُ لما تميَّز القدرُ ولا تبيَّنت مراتبه وتصاريفُه، فالقدرُ مظهرٌ للأمر، والأمرُ تفصيلٌ له، والله سبحانه له الخلقُ والأمر، فلا يكونُ إلا خالقًا آمرًا، فأمرُه تصريفٌ لقدره، وقدرُه منفذٌ لأمره. ومن أبصرَ هذا حقَّ البصر، وانفتحت له عينُ قلبه؛ تبيَّن له سرُّ ارتباط الأسباب بمسبَّباتها وجرَيانها فيها، وأنَّ القدحَ فيها وإبطالها إبطالٌ للأمر، وتبيَّن له أنَّ كمالَ التوحيد بإثبات الأسباب، لا أنَّ إثباتَها نقضٌ (2) للتوحيد كما زعَم منكروها، حيث جعلوا إبطالَها من لوازم التوحيد، فجَنَوا على التوحيد والشرع، والتزموا تكذيبَ الحِسِّ والعقل، ووقعوا في أنواعٍ من المكابرة سلَّطت عليهم أعداءَ الشريعة، وأوجبَت لهم أن أساؤوا بها الظنَّ وتنقَّصوها وزعموا أنها خطابيَّةٌ وإقناعيَّةٌ وجدليَّة، لا برهانيَّة، فعَظُمَ الخَطب، وتفاقَم الأمر، واشتدَّت البليَّةُ بالطائفتين (3)، وقد قيل: إنَّ العدوَّ العاقل خيرٌ من الصَّديق الجاهل. ونحن ــ بحمد الله ــ نبيِّنُ الأمرَ في ذلك، ونوضِّحُه إيضاحًا يتبيَّن به _________ (1) (ت): «المهذبون». (2) (ق): «نقص». بالمهملة. (3) المتكلمين، والفلاسفة. انظر: «تهافت الفلاسفة» (239)، و «تهافت التهافت» (2/ 781)، وما تقدم (ص: 1418، 1421).

(3/1515)


تصديقُ كلٍّ من الأمرين للآخر، وشهادتُه له، وتزكيتُه له، ونبيِّنُ ارتباطَ كلٍّ من الأمرين بالآخر، وعدمَ انفكاكه عنه، فنقولُ وبالله التوفيق: * أمَّا ما ذكرتم من أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبُه الفألُ الحسَن؛ فلا ريب في ثبوت ذلك عنه، وقد قَرَن ذلك بإبطال الطِّيَرة؛ كما في «الصحيحين» (1) من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طِيَرة، وخيرُها الفأل»، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: «الكلمةُ الصالحةُ يسمعُها أحدُكم». فابتدأهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإزالة الشُّبهة وإبطال الطِّيَرة؛ لئلَّا يتوهَّموها عليه في إعجابه بالفأل الصَّالح. وليس في الإعجاب بالفأل ومحبَّته شيءٌ من الشرك، بل ذلك إبانةٌ عن مقتضى الطَّبيعة ومُوجَب الفطرة الإنسانيَّة التي تميلُ إلى ما يلائمها ويوافقُها مما ينفعها. كما أخبرهم أنه حُبِّبَ إليه من الدنيا النساءُ والطِّيب (2). _________ (1) «صحيح البخاري» (5754)، و «صحيح مسلم» (2223). (2) أخرجه أحمد (3/ 128)، والنسائي (3949)، وغيرهما من حديث ثابت عن أنس مرفوعًا. وصحَّحه الحاكم (2/ 160) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه المصنف في «زاد المعاد» (1/ 150، 4/ 336)، وابن الملقن في «البدر المنير» (1/ 501)، وقوَّاه الذهبي في «الميزان» (2/ 177)، وجوَّده العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 378)، وحسَّنه ابن حجر في «التخليص» (3/ 133)، وصححه في «الفتح» (11/ 345). وروي عن ثابت مرسلًا، وهو أشبه. انظر: «علل الدارقطني» (30 ق/أ - نسخة المكتبة الناصرية)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 160، 4/ 420)، و «سنن البيهقي» (7/ 78)، و «المختارة» (1533، 1737). وروي نحوه من حديث عائشة، أخرجه أحمد (6/ 72)، وفي إسناده رجلٌ مبهم.

(3/1516)


وفي بعض الآثار أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُعجِبُه الفاغِية (1) ــ وهي نَوْرُ الحِنَّاء ــ، وكان يحبُّ الحلواء والعسل (2)، وكان يحبُّ الشرابَ الباردَ الحُلْو (3)، ويحبُّ حُسْنَ الصَّوت بالقرآن والأذان، ويستمعُ إليه (4)، ويحبُّ معالي الأخلاق ومكارم الشِّيم (5). وبالجملة، يحبُّ كلَّ كمالٍ وخيرٍ وما يفضي إليهما. _________ (1) أخرجه أحمد (3/ 152)، والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 47)، والطبراني في «الكبير» (1/ 254) من حديث عبد الحميد بن قدامة عن أنس. وعبد الحميد ذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 126)، ونقل العقيلي عن البخاري قوله: «عبد الحميد بن قدامة عن أنس في الفاغية، لا يتابع عليه». واشتبه على الحافظ ابن حجر في «أطراف المسند» (1/ 428)، فظنه عبد الحميد بن المنذر بن الجارود، الثقة، وتابعه محققو «المسند» (12546 - مؤسسة الرسالة). وانظر: «السلسلة الضعيفة» (1757، 4278). (2) أخرجه البخاري (5431)، ومسلم (1474) من حديث عائشة. (3) أخرجه أحمد (6/ 38)، والترمذي (1895)، وغيرهما من حديث الزهري عن عروة عن عائشة. وصححه الحاكم (4/ 137)، ولم يتعقبه الذهبي. وروي من حديث الزهري مرسلًا، وهو الصواب، وإليه ذهب الترمذي، وأبو زرعة في «العلل» (2/ 36)، والدارقطني في «العلل» (5/ق 28/أ)، والبيهقي في «الشعب» (10/ 472). (4) كما استمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري. (5) وهذا معلومٌ بالضرورة من هديه وسيرته - صلى الله عليه وسلم -.

(3/1517)


والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجابَ بسماع الاسم الحسَن ومحبَّته وميلَ نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياحَ والاستبشارَ والسُّرورَ باسم السَّلام، والفلاح، والنجاح، والتهنئة، والبشرى، والفوز، والظَّفر، والغُنْم، والرِّبح، والطِّيب، ونيل الأمنية، والفرح، والغَوث، والعزِّ، والغنى، وأمثالها. فإذا قرعَت هذه الأسماءُ الأسماعَ استبشرَت بها النفس، وانشرحَ لها الصَّدر، وقويَ بها القلب، وإذا سمعَت أضدادَها أوجَب لها ضدَّ هذه الحال، فأحزنها ذلك وأثار لها خوفًا وطِيَرةً وانكماشًا وانقباضًا عمَّا قصدَت له وعزمَت عليه، فأورثَ لها ذلك ضررًا في الدنيا ونقصًا في الإيمان ومقارفةً للشرك. كما ذكره أبو عمر في «التمهيد» (1) من حديث المقراء، عن ابن لهيعة: حدَّثنا ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أرجعَته الطِّيَرةُ من حاجته فقد أشرَك»، قال: وما كفَّارةُ ذلك يا رسول الله؟ قال: «أن يقول أحدُهم: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إلاه غيرُك، ثمَّ يمضي لحاجته». وذكر ابن وهبٍ (2) قال: أخبرني أسامةُ بن زيد، قال: سمعتُ نافع بن جبير بن مطعم يقول: سأل كعبُ الأحبار عبد الله بن عمرو: هل تتطيَّر؟ فقال: نعم، قال: فكيف تقول إذا تطيَّرت؟ قال: أقول: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، _________ (1) (24/ 201). وتقدم الكلام عليه (ص: 1485). (2) في «الجامع» (660)، وابن أبي شيبة (9/ 45، 10/ 336)، وغيرهما، وإسناده حسن.

(3/1518)


ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا ربَّ غيرُك، ولا قوَّة إلا بك، فقال كعب: إنه أفقهُ العرب، والله إنها لكذلك في التوراة. وهذا الذي جعله الله سبحانه في طِباع الناس (1) وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة، والألفاظ المحبوبة، هو نظيرُ ما جعَل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة، والرِّياض المُنوَّرَة، والمياه الصَّافية، والألوان الحسنة، والروائح الطيِّبة، والمطاعم المستلَذَّة، وذلك أمرٌ لا يمكنُ دفعُه، ولا يجدُ القلبُ عنه انصرافًا، فهو ينفعُ المؤمن، ويَسُرُّ نفسَه، وينشِّطُها، ولا يضرُّها في إيمانها وتوحيدها. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة أنَّ الفأل من الطِّيَرة، وهو خيرُها، فقال: «لا طِيَرة، وخيرُها الفأل»، فأبطَل الطِّيَرة، وأخبر أنَّ الفأل منها، ولكنه خيرُها، ففصَل بين الفأل والطِّيَرة لما بينهما من الامتياز والتضادِّ ونَفْعِ أحدهما ومضرَّةِ الآخر. ونظيرُ هذا منعُه من الرُّقى بالشرك وإذنُه في الرُّقية إذا لم تكن شركًا (2) لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة. وقد اعتاصَ هذا الفُرقانُ على أفهام كثيرٍ ممَّن غَلُظ عن معرفة الحقِّ والدِّين حجابُه، وغَلُظ طبعُه، وكثُف عنه فهمُه، فقال: السَّامعُ إذا سمع مثلًا: يا بشَارة، أو: أبشِر، أو: لا تخَف، أو: يا نَجِيح، ونحوه، وسمعَ ضدَّ ذلك، فإمَّا أن يوجب الأمران ما يُشاكِلُهما، وإمَّا أن لا يوجبا شيئًا؛ فأمَّا أن يوجبَ _________ (1) (ت): «طبائع الناس». (2) أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

(3/1519)


أحدُهما دون الآخر فلا وجهَ له (1). وهذا [قولُ] (2) من عَمِيَ عن الهدى وصَمَّ عن سماعه، وإنما تحصُل الهدايةُ من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتشرقُ ألفاظُها في صدر من تلقَّاها بالتصديق والقبول، فأذعَن لها بالسمع والطاعة وقابلَها بالرضا والتسليم، وعَلِمَ أنها منبعُ الهدى ومَعِينُ الحقِّ. ونحنُ ــ بحول الله (3) ــ نوضِّحُ لمن اشتبه ذلك عليه فُرقانَ ما بينهما، وفائدةَ الفأل، ومضرَّةَ الطِّيَرة، فنقول: الفألُ والطِّيَرة وإن كان مأخذُهما سواءً، ومُجتَناهما واحدًا، فإنهما يختلفان بالمقاصد، ويفترقان بالمذاهب؛ فما كان محبوبًا مستحسَنًا تفاءلوا به وسَمَّوه: الفأل، وأحبُّوه ورَضُوه (4)، وما كان مكروهًا قبيحًا منفِّرًا تشاءموا به وكرهوه وتطيَّروا منه، وسَمَّوه: طِيَرة؛ تفرقةً بين الأمرين، وتفصيلًا بين الوجهين. وسئل بعضُ الحكماء، فقيل له: ما بالكم تكرهون الطِّيَرة، وتحبُّون الفأل؟ فقال: لنا في الفأل عاجلُ البشرى وإن قَصُرَ عن الأمل، ونكرهُ الطِّيَرة لما يلزمُ قلوبَنا من الوَجَل. وهذا الفرقانُ حسنٌ جدًّا، وأحسنُ منه ما قاله ابنُ الروميِّ في ذلك: الفألُ لسانُ الزمان، والطِّيَرةُ عنوانُ الحَدَثان (5). _________ (1) انظر: «الحيوان» (3/ 460)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 354). (2) زيادة تقديرية. (3) (ق): «بحمد الله». خطأ. (4) (ق): «ورضيوه». (5) تقدم (ص: 1475).

(3/1520)


وقد كانت العربُ تَقْلِبُ الأسماء تطيُّرًا وتفاؤلًا، فيسمُّون اللديغَ: سليمًا؛ [تفاءلوا] باسم السَّلامة، وتطيَّروا من اسم السَّقم، ويسمُّون العطشانَ: ناهلًا، أي: سيَنْهَل ــ والنَّهلُ: الشُّرب ــ؛ تفاؤلًا باسم الرِّي، ويسمُّون الفلاةَ: مَفازة، أي: مَنجاة؛ تفاؤلًا بالفوز والنجاة، ولم يسمُّوها مَهْلكةً؛ لأجل الطِّيَرة. وكانت لهم مذاهبُ في تسمية أولادهم: فمنهم من سمَّوه بأسماءٍ تفاؤلًا بالظَّفر على أعدائهم، نحو: غالب، وغَلاَّب، ومالك، وظالم، وعارم، ومُنازِل، ومُقاتِل، ومُعارِك، ومُسْهِر، ومُؤرِّق، ومُصَبِّح، وطارق. ومنهم من تفاءل بالسلامة، كتسميتهم بسالم، وثابت، ونحوه. ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ والسعادة، كسعد، وسعيد، وأسعد، ومسعود، وسُعْدى، وغانم، ونحو ذلك. ومنهم من قصد التسميةَ بأسماء السِّباع ترهيبًا لأعدائهم، نحو: أسد، وليث، وذئب، وضِرْغام وشِبْل، ونحوها. ومنهم من قصد التسمية بما غَلُظَ وخَشُن من الأجسام تفاؤلًا بالقوة، كحَجَر، وصخر، وفِهْر، وجندل. ومنهم من كان يخرجُ من منزله وامرأتُه تَمْخَض، فيسمِّي ما تلده باسم أوَّل ما يلقاه كائنًا ما كان، مِن سَبُعٍ أو ثعلبٍ أو ضبٍّ أو كلبٍ أو ظبيٍ أو جحشٍ (1) أو غيره (2). _________ (1) في الأصول: «حشيش». وهو تحريف. (2) «الاشتقاق» لابن دريد (5، 6). وانظر: «الاشتقاق» للأصمعي (73)، و «الحيوان» (1/ 324)، و «فقه اللغة» للثعالبي (631) [و"الصاحبي" لابن فارس (62)].

(3/1521)


وكان القومُ على ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام ومحمَّد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ففرَّق بين الهدى والضلال، والغيِّ والرشاد، وبين الحسَن والقبيح، والمحبوب والمكروه، والنافع والضار، والحقِّ والباطل، فكره الطِّيَرةَ وأبطَلها، واستحبَّ الفأل وحَمِدَه، فقال: «لا طِيَرة، وخيرُها الفأل»، قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمةُ الصالحةُ يسمعُها أحدُكم». وقال عبد الله بن عباس: «لا طِيَرة، ولكنَّه فأل، والفألُ المُرْسَل: يسار، وسالم، ونحوه من الاسم، يَعْرِضُ لك على غير ميعاد» (1). وسئل بعضُ العلماء عن الفأل؟ فقال: أن تسمعَ وأنت قد أضللتَ بعيرًا أو شيئًا: يا واجِد، أو وأنت خائف: يا سالم (2). وقال الأصمعي: سألتُ ابن عونٍ عن الفأل؟ فقال: أن يكون مريضًا فيسمع: يا سالم (3). وأخبِرك عن نفسي بقضيَّةٍ من ذلك، وهي أني أضللتُ بعض الأولاد يوم التَّروية بمكَّة وكان طفلًا، فجَهِدْتُ في طلبه والنِّداء عليه في سائر الرَّكْب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقْدِر له على خبر، فأيستُ منه، فقال لي إنسان: إنَّ هذا عَجْز، اركب وادخُل الآن إلى مكَّة فتطلَّبه فيها، فركبتُ فرسًا، فما هو إلا أن استقبلتُ جماعةً يتحدَّثون في سَواد الليل في الطريق وأحدُهم يقول: _________ (1) أخرجه ابن وهب في «الجامع» (624) بإسنادٍ ضعيف جدًّا. (2) انظر: «الحيوان» (3/ 461). (3) أخرجه ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (84)، والخطابي في «غريب الحديث» (1/ 183)، و «معالم السنن» (4/ 235)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 192).

(3/1522)


ضاع له شيءٌ فلقيه، فلا أدري انقضاء كلمته كان أسرع أم وِجْداني الطِّفلَ مع بعض أهل مكة في مَحْمَله، عرفتُه بصوته. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طِيَرة، وخيرُها الفأل» ينفي (1) عن الفأل مذهبَ الطِّيَرة من تأثيرٍ أو فعلٍ أو شرك، ويخلِّصُ الفألَ منها. وفي الفُرقان بينهما فائدةٌ كبيرة، وهي أنَّ التطيُّر هو التشاؤمُ من الشيء المرئيِّ أو المسموع، فإذا استعملها الإنسانُ فرجع بها من سفره، وامتنع بها مما عزَم عليه؛ فقد قَرع بابَ الشرك، بل وَلَجَه وبراء من التوكُّل على الله، وفتحَ على نفسه باب الخوف والتعلُّق بغير الله والتطيُّر مما يراه أو يسمعُه، وذلك قاطعٌ له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، و {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، فيصير قلبُه متعلِّقًا بغير الله عبادةً وتوكُّلًا، فيفسُد عليه قلبُه وإيمانُه وحالُه، ويبقى هدفًا لسهام الطِّيَرة، ويُسَاقُ إليه من كلِّ أوب، ويقيِّض له الشيطانُ من ذلك ما يُفْسِدُ عليه دينَه ودنياه، وكم ممَّن هلك بذلك، وخسر الدنيا والآخرة! فأين هذا من الفأل الصالح السَّارِّ للقلوب، المؤيِّد للآمال (2)، الفاتح بابَ الرجاء، المسكِّن للخوف، الرابط للجأش، الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه، والاستبشار المقوِّي لأمله، السَّارِّ لنفسه؟! فهذا ضدُّ الطِّيَرة. فالفألُ يفضي بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد، والطِّيَرة تفضي بصاحبها إلى المعصية والشرك؛ فلهذا استحبَّ - صلى الله عليه وسلم - الفألَ وأبطلَ الطِّيَرة. _________ (1) (د): «شفى». (ق): «يشفي». (ت): «فنفى». والمثبت من (ط). (2) (ت): «المؤيد بالإيمان».

(3/1523)


وأمَّا حديثُ الَّلقْحة (1)، ومنعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حربًا ومُرَّة من حَلْبِها، وإذنُه ليعيش في حلبها؛ فليس هذا بحمد الله في شيءٍ من الطِّيَرة؛ لأنه محالٌ أن ينهى عن شيءٍ ويُبطِلَه ثمَّ يتعاطاه هو، وقد أعاذه الله سبحانه من ذلك. قال أبو عمر (2): «ليس هذا عندي من باب الطِّيَرة؛ لأنه محالٌ أن ينهى عن شيءٍ ويفعلَه، وإنما هو من طلب الفأل الحسن، وقد كان أخبرَهم عن أقبح الأسماء أنه حربٌ ومُرَّة، فأكَّد ذلك، حتى لا يتسمَّى بها أحد». ثمَّ ساقَ من طريق ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر اليَحْصُبي، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (3) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيرُ الأسماء عبد الله وعبدُ الرحمن، وأصدقُها حارثُ وهمَّام؛ حارثٌ يحرثُ لدنياه، وهمَّامٌ يَهُمُّ بالخير» (4)، وكان يكره _________ (1) المتقدم (ص: 1491). (2) في «التمهيد» (24/ 71). وانظر: «الاستذكار» (27/ 234). (3) سقط من (ق): «عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه». (4) هكذا وقع الحديث موصولًا في «التمهيد» بزيادة معاوية رضي الله عنه، وأخرجه ابن وهب في «الجامع» (53) عن ابن لهيعة عن جعفر عن ربيعة عن عبد الله بن عامر مرسلا. وهو أشبه. والوصل من أوهام ابن لهيعة. وهو حديثٌ شاميٌّ مرسل، لا يصحُّ موصولًا، وروي من مرسل عبد الوهاب بن بخت، والزهري، وأبي وهب الكلاعي، ومكحول. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (117، 118)، و «العلل» (2/ 312)، و «الإصابة» (7/ 461). وفي «صحيح مسلم» (2132) من حديث ابن عمر مرفوعًا: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن».

(3/1524)


الاسمَ القبيح؛ لأنه كان يتفاءلُ بالحسن من الأسماء (1). ثمَّ ساق من طريق ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، عن يعيش الغفاري، قال: دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا بناقة، فقال: «من يحلبُها؟» فقام رجل، فقال: أنا، فقال: «ما اسمك؟» قال: مُرَّة، قال: «اقعد»، ثمَّ قام آخر، فقال: «ما اسمك؟» قال: «جمرة»، قال: «اقعد»، ثمَّ قام رجل، فقال: «ما اسمك؟» قال: يعيش، قال: «احلبها» (2). وروى حمَّاد بن سلمة، عن حميد، عن بكر بن عبد الله المزني: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توجَّه لحاجةٍ يحبُّ أن يسمع: يا نَجِيح، يا راشد، يا مبارك (3). وقد روي من حديث بريدة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتطيَّر من شيء، ولكن كان إذا سأل عن اسم الرجل وكان حسنًا رُئي البشاشةُ في وجهه، وإن كان سيئًا رُئي ذلك في وجهه، وإذا سأل عن اسم الأرض وكان حسنًا رُئي ذلك فيه. _________ (1) في الأصول: «الأشياء». والمثبت من «التمهيد». (2) تقدم تخريجه (ص: 1491). (3) أخرجه الحسن بن موسى الأشيب في جزئه (57)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (803 - زوائده). وأخرجه الترمذي (1616)، والطبراني في «الأوسط» (4181)، وغيرهما موصولًا من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن أنس. وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب»، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (2052، 2053). ورجَّح البخاري الرواية المرسلة. انظر: «النكت الظراف» (1/ 181).

(3/1525)


قلت: الحديثُ رواه الإمام أحمد في «مسنده» (1): حدثنا عبد الصمد: حدثنا هشام، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتطيَّر من شيء، ولكنه إذا أراد أن يأتي أرضًا سأل عن اسمها، فإن كان حسنًا رُئي ذلك في وجهه، وكان إذا بعَث رجلًا سأل عن اسمه، فإن كان حسنَ الاسم رُئي البِشْرُ في وجهه، وإن كان قبيحًا رُئي ذلك في وجهه. وقال أبو عمر (2): حدثنا عبد الوارث: حدثنا قاسم: حدثنا أحمد بن زهير: حدثنا حسين بن حريث: حدثنا أوس بن عبد الله بن بريدة، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يتطيَّر، ولكن كان يتفاءل، فركب بريدةُ في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني أسلم، فتلقَّى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليلًا، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «من أنت؟» قال: أنا بريدة، فالتفت إلى أبي بكر، قال: «يا أبا بكر، بَرَدَ أمرُنا وصَلَح»، ثمَّ قال: «ممَّن؟»، قال: من أسلم. قال لأبي بكر: «سَلِمْنا»، ثمَّ قال: «ممَّن؟»، قال: من بني سَهْم، قال: «خرجَ سهمُك (3)» (4). _________ (1) (5/ 347). وتقدم الكلام عليه (ص: 680). (2) في «التمهيد» (24/ 73)، و «الاستذكار» (27/ 235)، و «الاستيعاب» (185)، وفي مطبوعة الأخير سقطٌ وتخليط. (3) (ق): «سهمان». تحريف. (4) وأخرجه أيضًا البغوي في «معجم الصحابة» (216)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 410)، والخطابي في «غريب الحديث» (1/ 181)، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (271)، وغيرهم. وإسناده ضعيفٌ جدًّا، أوس بن عبد الله بن بريدة متروك. انظر: «اللسان» (1/ 470)، و «بيان الوهم والإيهام» (4/ 409)، و «السلسلة الضعيفة» (4112، 5450).

(3/1526)


قال أحمد بن زهير: قال لنا أبو عمَّار (1): سمعتُ أوسًا يحدِّثُ هذا الحديث بعد ذلك عن أخيه سهل بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن بريدة، فأعدتُ ثلاثًا: من حدَّثك؟ قال: سهلٌ أخي. والذي يكشفُ أمرَ حديث الَّلقْحة ما زاده ابنُ وهب في «جامعه» (2) في الحديث، فقال بعد أن ذكره: فقام عمرُ بن الخطاب فقال: أتكلَّمُ يا رسول الله أم أصمُت؟ قال: «بل اصمت، وأُخبرك بما أردتَ، ظننتَ يا عمرُ أنها طِيَرة، ولا طيرَ إلا طيرُه، ولا خيرَ إلا خيرُه، ولكن أحبُّ الفألَ الحسن». فزال بذلك تعلُّق المتطيِّرين، ووضح أمرُ الحديث، والحمدُ لله ربِّ العالمين. ويمكنُ أن يكون هذا منه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التأديب لأمَّته، لئلَّا يتسمَّوا بالأسماء القبيحة، وليبادرَ من أسلمَ منهم وله اسمٌ قبيحٌ إلى إبداله بغيره من غير إيجابٍ منه ولا إلزام، ولكن لوجهين من الاستحباب: أحدهما: انتقالُهم عن مذاهب آبائهم ومقاصد سلفهم الفاسدة القبيحة، التي يُحْزِنُ بها بعضُهم بعضًا عند سماعها ومُوافاة أهلها ومخالطتهم ومفاجأتهم، لِمَا يبقى في ذلك من آثار الطِّيَرة الكامنة في الغريزة، فإن سَلِمَ العبدُ منها، وجاهَد نفسَه عليها عند لُقيا صاحبها وسماعه لاسم أخيه، لم يَسْلَمْ من الكَمَد وحُزن القلب. _________ (1) أحمد بن زهير هو ابن أبي خيثمة، وأبو عمار هو الحسين بن حريث. (2) (655) من مرسل محمد بن إبراهيم التيمي. ولا يصح.

(3/1527)


وقد يؤدِّي ذلك إلى البغضاء، وإلى ضربٍ من النُّفرة والتفرقة، كالصَّديق يدعوه الصَّديقُ القبيحُ الاسم فقد يتمنَّى خاطرُه أنه لم يصحبه (1) ولا رآه ولا سَمِعَ اسمَه، حتَّى إذا صاحَ به ودعاه ذو الاسم الحسَن ابتهجَ إليه وأقبلَ عليه وسُرَّ بصياحه ودعائه له؛ لراحة قلبه إلى حُسْن اسمه. فقد يدنو (2) البعيدُ من قلبه ويبعُد الصديقُ من نفسه من أجل اسمه، فكيف به إذا رآه في نومه (3)، وعُبِّر له تعبيرُ السُّوء من اشتقاق اسمه، كيف يعودُ متمنِّيًا لفقده في رُقاده، متكرِّهًا للقائه، متطيِّرًا لرؤيته؟! وهذا ضدُّ التوادُد والتراحُم والتآلف الذي قصَد الشارعُ ربطَه بين المؤمنين. فكره - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته مُقامها على حالةٍ يؤذي بها بعضهم بعضًا لغير عذرٍ ولا فائدةٍ تعودُ عليهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويؤدِّي هذا إلى التقاطُع والتنافر، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد نَدَبهم واستحبَّ لهم إدخالَ أحدهم السُّرور على أخيه المسلم ما استطاع، ودفعَ الأذى والمكروه عنه، فقال: «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم» (4). وقد أمرهم يوم الجمعة بالغسل والطِّيب عند اجتماعهم (5)؛ لئلَّا يؤذي _________ (1) (ت): «فقد ينهى خاطره أن لا يصحبه». (2) (ق): «يدعو». تحريف. (3) في الأصول: «من نومه». (4) أخرجه مسلم (2564) بنحوه من حديث أبي هريرة. (5) أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846) من حديث أبي سعيد.

(3/1528)


بعضُهم بعضًا برائحته التي إنما يتجشَّمها (1) ساعةً للاجتماع (2) ثم يفترقا (3)، ومنعَ آكلَ الثُّوم والبصل من دخول المسجد لأجل تأذِّي النَّاس والملائكة به (4)، ومنع الاثنين أن يتناجيا دون صاحبهما خشية تأذِّيه وحزنه (5)، ومنع أحدَهم أن يأخذ (6) متاعَ أخيه لاعبًا لأنَّ ذلك يؤذيه (7). ومعلومٌ أنَّ ضررَ الاسم القبيح على كثيرٍ منهم أشدُّ عليه عند همِّه وخروجه من منزله ورؤية صاحبه في منامه ودعائه له من رائحة الثُّوم والبصل. وهذا من كمال رأفته ورحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين وعِزَّة ما عَنِتُوا عليه. ولهذا ــ والله أعلم ــ: 1 ــ غيَّر كثيرًا من الأسماء القبيحة بأحسن منها. _________ (1) (د، ق): «يتحشمها». وعلَّق أحد قراء (د) بخطٍّ دقيق فوقها: «حشمه من باب ضرب، وأحشمه بمعنى، أي: آذاه وأغضبه. مختار». «مختار الصحاح» (حشم). والمثبت من (ت) أشبه، يتجشمها، أي: يتكلَّفها. (2) (ت): «التي يتجشمها ساعة الاجتماع». (3) كذا في الأصول. (4) أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564) من حديث جابر. (5) أخرجه البخاري (6290)، ومسلم (2184) من حديث ابن مسعود. (6) في الأصول: «يأكل». وهو تحريف طريف. (7) أخرجه أحمد (4/ 221)، وأبو داود (5003)، والترمذي (2160)، وغيرهم من حديث يزيد بن السائب. قال الترمذي: «حسن غريب». وحسنه البيهقي في «الخلافيات». انظر: «البدر المنير» (6/ 698).

(3/1529)


2 ــ وغيَّر أسماءً حسنةً إلى غيرها؛ خشية الطِّيَرة والتأذِّي عند نفيها أو الخروج من عند المسمَّى. 3 ــ أو لتضمُّنها تزكيةَ النفس ونحوها (1). فالأول: كتغييره اسمَ الحُباب بن المنذر بعبد الرحمن، وقال: «الحُباب اسمُ الشيطان» (2)، وغيَّر أبا مُرَّة إلى أبي حلوة (3)، وغيَّر أبا العاص إلى مطيع (4)، وغيَّر عاصية بجميلة (5)، وغيَّر اسم بني الشيطان إلى بني عبد الله (6)، _________ (1) انظر: «المسالك» لابن العربي (7/ 547). (2) أخرجه ابن وهب في «الجامع» (52، 76) من وجهين معضل ومرسل. وأخرجه الطبري في «التفسير» (14/ 396) من مرسل الشعبي. وابن سعد في «الطبقات» (3/ 501)، والعسكري في «تصحيفات المحدثين» (2/ 412) من مرسل عروة بن الزبير. وابن وهب في «الجامع» (58، 74) من مرسل الزهري وابن المنكدر. وفيها أنه الحباب بن عبد الله بن أبي بن سلول، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. وروي من وجوهٍ أخرى مرسلة. وروي موصولًا، ولا يصح. انظر: «الآحاد والمثاني» (2479)، و «مجمع الزوائد» (3/ 122، 8/ 50). (3) أخرجه ابن وهب في «الجامع» (64) من مرسل الزهري. وكان مولى للعباس رضي الله عنه. ذكره الفاكهي في «أخبار مكة» عن ابن جريج. انظر: «الإصابة» (7/ 93). (4) أخرجه ابن وهب في «الجامع» (64) من مرسل الزهري. وفي «صحيح مسلم» (1782) أنه - صلى الله عليه وسلم - غيَّر اسم العاص إلى مطيع. (5) أخرجه مسلم (2139). (6) أخرجه ابن وهب في «الجامع» (87) عن ابن لهيعة معضلًا. وعند أحمد (4/ 350)، وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (4456) أنه - صلى الله عليه وسلم - غيَّر اسم شيطان بن قرط إلى عبد الله بن قرط، وإسناده حسن، كما قال ابن حجر في «الإصابة» (4/ 209).

(3/1530)


وغيَّر اسم أصرَم إلى اسم زُرعة (1)، وغيَّر اسم حَزْن ــ جدِّ سعيد بن المسيب ــ إلى سهل (2)، فأبى قبولَ ذلك، فلزمه مسمَّى اسمه من الحُزونة له ولذريته. وقال أبو داود (3): وغيَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اسم العاص (4)، وعزيز (5)، وعَتلة (6)، وشيطان (7)، والحكم (8)، وغُراب (9)، وحُباب (10)، وشهاب فسمَّاه: هشامًا (11)، _________ (1) أخرجه أبو داود (4915)، والطبراني في «الكبير» (1/ 196)، وغيرهما. وصححه الحاكم (4/ 276) ولم يتعقبه الذهبي، وصححه في «السير» (9/ 39)، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1306، 1494). (2) أخرجه البخاري (6190). (3) في «السنن» (5/ 336). (4) إلى مطيع. أخرجه مسلم (1782)، كما سلف. (5) إلى عبد الرحمن. أخرجه أحمد (4/ 178)، وصححه ابن حبان (5828)، والحاكم (4/ 276) ولم يتعقبه الذهبي. (6) إلى عتبة. أخرجه الطبراني في «الكبير» (17/ 120، 122)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 266)، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (1031)، وغيرهم. (7) إلى عبد الله. كما سلف. (8) إلى عبد الله. أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 330)، والطبراني في «الكبير» (3/ 214)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (539، 540)، وغيرهم من طرق. وخرَّجه الضياء في «المختارة» (9/ 419). وانظر: «الإصابة» (2/ 101، 102). (9) إلى مسلم. أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (824)، والطبراني في «الكبير» (19/ 433)، وغيرهما. وصححه الحاكم (4/ 275)، ولم يتعقبه الذهبي. (10) إلى عبد الله وعبد الرحمن. كما سلف. (11) أخرجه أحمد (6/ 75)، والبخاري في «الأدب المفرد» (825)، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه ابن حبان (5823)، والحاكم (4/ 277) ولم يتعقبه الذهبي.

(3/1531)


وسمَّى حربًا: سَلْمًا (1)، وسمَّى المضطجعَ: المنبعِث (2)، وأرضًا اسمُها عَفِرة سمَّاها: خَضِرة (3)، وشِعْبَ الضلالة سمَّاه: شِعْبَ الهدى (4)، وبنو الزِّنْية سمَّاهم: بني الرِّشْدة (5)، وسمَّى بني مُغْوِية: بني رِشْدة (6). _________ (1) انظر: «الإصابة» (3/ 137). وأخرج أحمد (1/ 98، 118)، والبخاري في «الأدب المفرد» (823)، وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟» قال: قلت: حربًا، قال: «بل هو حسن». ثمَّ ذكر مثل ذلك في الحسين. وصححه ابن حبان (6958)، والحاكم (3/ 165، 168) ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (783). (2) أخرجه أبو داود في «الكنى» كما في «الإصابة» (6/ 210)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/ 2637) من حديث عائشة. وصححه ابن حجر. وأخرجه ابن أبي شيبة (8/ 664) مرسلًا. (3) أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «الصغير» (1/ 218) ومن طريقه الخطيب في «التاريخ» (7/ 368)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 19). وروي مرسلًا. وروي بلفظ: «غدرة» بدل «عفرة»، وصححه ابن حبان (5821). وانظر التعليق على «الوابل الصيب» (357). (4) أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 43) مرسلًا. وفي مطبوعته: «بقية الهدى»، «بقية الضلالة». (5) أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 205)، وعمر بن شبة كما في «الإصابة» (2/ 96)، من مرسل أبي وائل بسند حسن، وصححه ابن حجر. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 292) من مرسل عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي، وإسناده ضعيف جدًّا. (6) أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 43) من مرسل عروة بن الزبير. وتحرف في مطبوعته «مغوية» إلى «معاوية».

(3/1532)


قال أبو داود: تركتُ أسانيدها للاختصار. وقال مسروق: لقيتُ عمر، فقال: من أنت؟ فقلت: مسروقُ بن الأجدع، فقال عمر: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الأجدعُ شيطان» (1). وأما الثاني: ففي «صحيح مسلم» (2) عن سمرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسمِّينَّ غلامَك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلَح؛ فإنك تقول: أثَمَّ هو؟ فيقال: لا»، وغيَّر اسمَ بَرَّة بزينب (3)، وكره أن يقال: خرَج من عند بَرَّة (4). وأما الثالث: فكتغييره أبا الحكم بأبي شُريح (5)، وتغييره أيضًا برَّة بزينب، وقال: «لا تزكُّوا أنفسَكم»، فروى مسلمٌ في «صحيحه» (6) عن محمد بن عمرو بن عطاء أنَّ زينب بنت أبي سلمة سألته: ما سمَّيتَ ابنتك؟ قال: سمَّيتُها برَّة، فقالت: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم، وسُمِّيَت برَّة، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزكُّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرِّ منكم»، فقالوا: ما نسمِّيها؟ قال: «سمُّوها زينب». _________ (1) أخرجه أحمد (1/ 31)، وأبو داود (4957)، وابن ماجه (3731)، وغيرهم بسند ليِّن. وأخرجه أحمد في «العلل» (1/ 144 - رواية عبدالله)، وابن سعد في «الطبقات» (6/ 76) عن عمر موقوفًا بإسناد ضعيف. (2) (2137). (3) أخرجه البخاري (6192)، ومسلم (2141) من حديث أبي هريرة. (4) كما في حديث ابن عباس عند مسلم (2140). (5) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (811)، وأبو داود (4955)، والنسائي (5387)، وغيرهم من حديث أبي شريح هاناء بن يزد، وإسناده جيد. (6) (2142).

(3/1533)


ومن هذا ما في «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أخنعَ اسمٍ عند الله يوم القيامة رجلٌ تسمَّى: ملك الأملاك. لا مالك إلا الله»، وقال سفيان بن عيينة: مثل: شاهان شاه. وذكر ابن وهب (2) أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بغلام، فقال: «ما سمَّيتم هذا؟» قالوا: السَّائب، فقال: «لا تسمُّوه السَّائب، ولكن سمُّوه عبد الله»، قال: فغُلِبوا على اسمه، فلم يمُت حتى ذهب عقلُه. فإن قيل: فقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامٌ اسمُه: رَباح (3)، وكان لأبي أيوب غلامٌ اسمه: أفلح (4)، ولعبد الله بن عمر غلامٌ اسمه: رباح (5). قيل: هذا النهيُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على وجه العزيمة والحَتْم، ولكن كان على جهة الكراهة. والدليلُ عليه: ما روى البخاريُّ في «صحيحه» (6) عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن جدِّه حَزْن: أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: «ما اسمك؟» قال: حَزْن، فقال: «أنت سَهْل»، قال: لا أغيِّر اسمًا سمَّانيه أبي. فلم ينكر عليه _________ (1) «صحيح البخاري» (6206)، و «صحيح مسلم» (2143). (2) في «الجامع» (49) من مرسل يزيد بن أبي حبيب. وقد سلف. (3) أخرجه مسلم (1497). وانظر: «الإصابة» (2/ 452). (4) وهو ثقة من كبار التابعين. انظر: «التهذيب» (1/ 322). (5) لم أجد له ذكرًا. ولابن عمر غلام اسمه نافع، وهو ثقة مشهور، وآخر اسمه يسار. انظر: «التهذيب» (11/ 376). وأظن المصنف أراد الأول، وسبق قلمُه. وانظر: «تهذيب الآثار» (1/ 284 - مسند عمر). (6) (6190).

(3/1534)


النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أخبره أنَّ ذلك معصية، بل سكت عنه. وكذلك لما غيَّر اسمَ السَّائب، فأبوا تغييرَه لم ينكِر عليهم. وأيضًا، فروى مسلمٌ في «صحيحه» (1) من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى أن يسمَّى بيعلى (2)، وبركة، وأفلح، ويسار، ونافع، ونحو ذلك، ثمَّ رأيتُه سكت بعدُ عنها فلم يقل شيئًا، ثمَّ قُبِض ولم يَنْهَ عن ذلك، ثمَّ أراد عمرُ رضي الله عنه أن ينهى عن ذلك ثمَّ تركه. ورأيتُ لبعضهم فرقًا بين الفأل والطِّيَرة كلامًا أذكرُه بلفظه (3). قال: أمَّا ما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتفاءل ولا يتطيَّر، فهما وإن كان معناهما واحدًا في الاستدلال، فبينهما افتراق؛ لأنَّ الفألَ إبانة، والتطيُّر استدلال، والإبانةُ أكثر وأشهر وأوضح وأفصح؛ لأنَّ من كان في قلبه وضميره أمرٌ (4) فسمع قائلًا يقول: أقبلَ الخير، أو امضِ بسلام، أو أبشِر، أو نحو ذلك، فقد اكتفى بما سمع عن الاستدلال، والذي يرى طائرًا يَسْنَحُ أو يَبْرَح فليس معه إلا الاستدلالُ على اليُمْنِ بالسانح، والشُّؤم بالبارح، وهذا أمرٌ قد يكونُ وقد لا يكون، وذلك الفألُ في الأعمِّ يكون. _________ (1) (2138). (2) في بعض نسخ «الصحيح»: «مقبل» مكان «يعلى». ورجحه القاضي عياض في «إكمال المعلم» (7/ 12)، وعدَّ الآخر تصحيفًا، وأبى ذلك النوويُّ في شرحه (14/ 118). (3) (ق): «كلاما ما أذكره بلفظه». (4) ساقطة من (ق).

(3/1535)


وقال آخرون: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتطيَّر، أي: لم يكن يُسْنِدُ الأمورَ الكائنة من الخير والشرِّ إلى الطَّير كما يفعلُ الكهَنة. وقال آخرون: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس مع أصحابه فتكلَّمَ أحدُهم بخيرٍ، أو سمع من متكلِّم خيرًا (1)، حضَّهم عليه وعرَّفهم به. ومعلومٌ أنه لا بدَّ لطائرٍ أن يَمُرَّ سانحًا أو بارحًا أو قَعِيدًا أو ناطحًا، فلا يُوقِفُهم عليه ولا يعرِّفهم به، إذ ذلك مِنْ فعل الكهَّان. فكان الحديثُ المرويُّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتفاءلُ ولا يتطيَّر من هذا المعنى. وقد أغنى اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بإخباره إيَّاه، وبإرسال جبريل إليه بما يُحْدِثُه سبحانه، عن الاستدلال على إحداثه بالأشياء التي ينظرُ (2) فيها غيرُه؛ تفرقةً منه سبحانه بين النبوَّة وغيرها. فإن قيل: فهذا الذي نزَل بهذين الرجلين، وهما: السَّائبُ وحَزْن، هل كان من أجل اسميهما أم من غير جهة الاسم؟ قيل: قد يظنُّ من لا يُنْعِم النظر (3) أنَّ الذي نزَل بهما هو من جهة اسميهما، ويُصَحِّحُ بذلك أمرَ الطِّيَرة وتأثيرَها. ولو كان ذلك كما ظنُّوه لوجبَ أن ينزلَ بجميع من تسمَّى باسميهما من أول الدَّهر، ولكان اقتضاءُ الاسم لذلك كاقتضاء النار للإحراق والماء للتبريد ونحوه. _________ (1) من (ص)، وليست في (ت، د، ق). (2) (ت): «يتطير». وهي محتملة. والمثبت أجود. (3) (ت): «يمعن النظر».

(3/1536)


ولكن يُحْمَلُ ذلك ــ والله أعلم ــ على أنَّ الأمرين الجاريَيْن عليهما قد تقدَّما في أمِّ الكتاب، كما تقدَّم لهما ــ أيضًا ــ أن يتسمَّيا باسميهما إلى أن يختارَ لهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غيرَهما، فيرغَبون عن اختياره، ويتخلَّفون عن استحبابه، فيُعاقَبان بما قد سبَق لهما عقوبةً تُطابِقُ اسميهما؛ ليكون ذلك زاجرًا لمن سواهما. وقد يكونُ خوفُه - صلى الله عليه وسلم - على أهل الأسماء المكروهة (1) أيضًا مِنْ مثل هذه الحوادث؛ إذ قد ينزلُ بالإنسان بلاءٌ مُشْبِهٌ بما في اسمه، فيظنُّ هو أو جميعُ من بلغه أنَّ ذلك كان من أجل اسمه عادَ عليه بشؤمه، فيعصي اللهَ عزَّ وجل. وقد كره قومٌ من الصحابة والتابعين أن يسمُّوا عبيدَهم: عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الملك، ونحو ذلك؛ مخافةَ أن يُعْتِقَهم ذلك. قال سعيدُ بن جبير: كنتُ عند ابن عباسٍ سنةً لا أكلِّمه (2) ولا يَعْرِفُني، حتى أتاه يومًا كتابٌ من امرأةٍ من أهل العراق، فدعا غلمانَه، فجعَل يَكْنِي عن عبيد الله وعبد الله وأشباههم، ويدعو: يا مِخْراق، يا وثَّاب (3). وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يسمِّي الرجلُ غلامَه: عبد الله؛ مخافةَ أنَّ ذلك يُعْتِقُه (4). وروى مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم: أنه كره أن يسمِّي مملوكَه _________ (1) (ت): «على أصحاب أهل الأسماء المكروهة». (2) (ق): «لا أكلمه ولا أعرفه ولا يعرفني». خطأ طريف. (3) أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (1/ 285 - مسند عمر). (4) أخرجه الطبري (1/ 285).

(3/1537)


عبد الله، وعبيد الله، وعبد الملك، وعبد الرحمن، وأشباهَه؛ مخافةَ العتق (1). قال بعض أهل العلم (2): كراهتُهم لذلك نظيرُ ما كرهه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من تسمية المماليك برباح ونافع وأفلح؛ لأنَّ ذلك كان منه - صلى الله عليه وسلم - حذرًا من أن يقال: أهاهنا نافع؟ فيقال: لا، أو: أثَمَّ أفلح؟ فيقال لا، أو بركة، أو يسار، أو رباح، فيقال: لا. ومعلومٌ أنَّ السائلَ عن إنسانٍ اسمُه: أفلح أو نافع أو رباح، هل هو في مكان كذا؟ إنما مسألتُه تلك عن مسمَّى (3) شخصٍ من أشخاص بني آدم سُمِّي باسمٍ جُعِلَ عليه دليلًا يُعْرَفُ به إذا ذُكِر، إذ كانت الأسماءُ العَوَاريُّ المفرِّقةُ بين الأشخاص المتشابهة إنما هي أدلَّةٌ على المسمَّين (4) بها، لا مسألةٌ عن شخصٍ صفتُه النفعُ والفلاحُ والبركة. وذلك مِن كراهته - صلى الله عليه وسلم - نظيرُ كراهته تسميةَ تلك المرأة برَّة، فحَوَّل اسمَها: جويرية، وتحويله اسمَ أرضٍ كان اسمها: عَفِرة، فردَّها: خَضِرة، ونحو ذلك كثير. ومعلومٌ أنَّ تحويلَه ما حوَّل من هذه الأسماء عمَّا كان عليه لم يكن لأنَّ التسميةَ بما كان المسمَّى به منهم مسمًّى قبل تحويله ذلك كان حرامَ التسمية، ولكن كان ذلك منه على وجه الاستحباب واختيار الأحسن على الذي هو دونه في الحُسْن، إذ كان لا شيء في القبيح من الأسماء إلا وفي الجميل _________ (1) أخرجه الطبري (1/ 285). (2) هو أبو جعفر الطبري في «تهذيب الآثار» (1/ 286، 287). (3) «تهذيب الآثار»: «مسألته تلك مسألة عن». (4) (ت): «المتسمين». وفي «تهذيب الآثار»: «المسمَّى».

(3/1538)


الحسن منها مثلُه من الدَّلالة على المسمَّى به، مع تَخَيُّر الأحسن (1) بفضل الحُسْن والجمال، من غير مُؤنةٍ تلزمُ صاحبَه بسبب التسمِّي [به]. وكذلك كراهةُ من كره تسميةَ مملوكه: عبد الله وعبد الرحمن، إنما كانت كراهتُه ذلك حذرًا أن يُوجِبَ ذلك له العتق (2)، ولا شكَّ أنَّ جميع بني آدم عبيدُ الله، أحرارُهم وعبيدُهم، وصَفَهم بذلك واصفٌ أو لم يصفهم، ولكنَّ الذين كرهوا التسميةَ بذلك صَرَفوا هذه الأسماءَ عن رقيقهم لئلَّا يقعَ اللَّبسُ على السامع بذلك (3) من أسمائهم، فيظنُّ أنهم أحرار؛ إذ كان استعمالُ أكثر الناس التسميةَ بهذه الأسماء في الأحرار، فتجنَّبوا ذلك إلى ما يزيلُ اللَّبسَ عنهم من أسماء المماليك (4)، والله أعلم. فصل وأمَّا الأثر الذي ذكره مالكٌ عن يحيى بن سعيد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: ما اسمُك؟ قال: جمرة ... ، إلى آخر الحديث (5). فالجوابُ عنه: أنه ليس ــ بحمد الله ــ فيه شيءٌ من الطِّيَرة، وحاشا أميرَ المؤمنين رضي الله عنه من ذلك، وكيف يتطيَّر رضي الله عنه وهو يعلمُ أنَّ الطِّيَرة شركٌ من الجِبْت، وهو القائلُ في حديث اللَّقْحة ما تقدَّم؟! _________ (1) «تهذيب الآثار»: «مع بينونة الأحسن». ولعلها: «تميز» بدل «تخير». (2) «تهذيب الآثار»: «يوجب ذلك له العتق بانفراده بهذا الاسم». (3) «تهذيب الآثار»: «لذلك». (4) انتهى كلام الطبري. (5) المتقدم (ص: 681، 1492).

(3/1539)


ولكن وجه ذلك ــ والله أعلم ــ أنَّ هذا القولَ كان منه مبالغةً في الإنكار عليه؛ لاجتماع أسماء النار والحَرِيق في اسمه واسم أبيه وجدِّه وقبيلته وداره ومسكنه، فوافَق قولُه: «اذهَب فقد احترقَ منزلُك» قَدَرًا لعلَّ قوله كان السَّبب. وكثيرًا ما يجري مثلُ هذا لمن هو دون عُمَر بكثير، فكيف بالمُحَدَّث المُلْهَم الذي ما قال لشيءٍ: «إني لأظنُّه كذا» إلا كان كما قال، وكان يقول الشيءَ ويشيرُ به فينزلُ القرآنُ بموافقته، فإذا نزل الأمرُ الدينيُّ بموافقة قوله فكذلك وقوعُ الأمر الكونيِّ القدريِّ موافقًا لقوله. ففي «الصحيحين» (1) عن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمَّتي أحدٌ منهم فعمر بن الخطاب». قال ابنُ وهب: تفسير «مُحَدَّثون»: مُلْهَمُون (2). وفي «صحيح البخاري» (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يُكَلَّمون (4) من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمَّتي منهم أحدٌ فعمر». وفي «الصحيحين» (5) عن عمر رضي الله عنه قال: «وافقتُ ربِّي في _________ (1) «مسلم» (2398). وفي «البخاري» (3469) من حديث أبي هريرة. (2) التفسير في «صحيح مسلم» عقب الحديث. (3) (3689). (4) بمعنى: «محدَّثون». وانظر: «الفتح» (7/ 50). (5) «صحيح مسلم» (2399). وأخرج البخاري الرواية التالية.

(3/1540)


ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر». وفي «صحيح البخاري» (1) عن أنس قال: قال عمر: وافقني اللهُ في ثلاث، أو: وافقني ربِّي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتَّخذتَ مقامَ إبراهيم مصلَّى، وقلت: يا رسول الله يدخلُ عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرتَ أمَّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آيةَ الحجاب، وبلغني معاتبةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضَ نسائه، فدخلتُ عليهنَّ، فقلت: إن انتهيتنَّ أو ليبدلنَّ اللهُ رسولَه خيرًا منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يَعِظُ نساءَه حتى تَعِظَهُنَّ أنت؟! فأنزل الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5]. وفي «الصحيحين» (2) أنه لما قام - صلى الله عليه وسلم - ليصلي على عبد الله بن أبيِّ ابن سلول رأس المنافقين قام عمر فأخذ ثوبَه، وقال: يا رسول الله أتصلِّي عليه وقد نهاك اللهُ أن تصلِّي عليه؟! فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما خيَّرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وسأزيدُ على السبعين»، فصلى عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، فترَك الصلاةَ عليهم. فإذا كانت هذه موافقةُ عمر لربِّه في شرعه ودينه، ينطقُ بالشيء فيكون _________ (1) (402، 4483). (2) «صحيح البخاري» (4670)، و «صحيح مسلم» (2400، 2774).

(3/1541)


هو المأمورَ المشروع (1)، فكذلك لا يبعدُ موافقتُه له تعالى (2) في قضائه وقدره، ينطقُ بالشيء فيكون هو المقضيَّ المقدور، فهذا لونٌ والطِّيَرةُ لون. وكذلك جرى له نظيرُ هذه القصة مع رجلٍ آخر (3) سأله عن اسمه؟ فقال: ظالم، فقال: ابن من؟ قال: ابن سَرَّاق (4)، قال: تظلمُ أنت ويسرقُ أبوك! وذكر المدائنيُّ عن أبي صُفرة ــ وهو أبو المهلَّب ــ أنه ابتاع سلعةً بتأخيرٍ من رجلٍ من بني سعد، فأراد أن يُشْهِدَ عليه، فقال له: ما اسمك؟ قال: ظالم، قال: ابن من؟ قال: ابن سَرَّاق، قال: لا والله لا يكونُ لي عليك شيءٌ أبدًا. فصل وأمَّا محبةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التيمُّنَ في تنعُّله وترجُّله وطُهوره وشأنه كلِّه، فليس هذا من باب الفأل ولا التطيُّر بالشمال في شيء (5)، ولكنْ تفضيلُ (6) اليمين على الشمال، فكان يعجبُه أن يباشرَ الأفعالَ التي هي من باب الكرامة _________ (1) (ص): «المأمور به المشروع». (2) (ت، ص): «موافقته تعالى». (3) (ق): «جرى له تطير مع رجل آخر». وهو تحريف قبيح. (4) ظالم بن سراق، أبو صفرة، والد المهلب. والخبر في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة (71)، و «ربيع الأبرار» (3/ 12)، وغيرهما. ولا إخاله يثبت، وخبر وفادة أبي صفرة على عمر رضي الله عنه مشهورٌ ليس فيه هذا. ولعل صوابه ما أخرجه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (3/ 201). (5) (ت، ص): «في شيء من ذلك». (6) (ت): «يفضل».

(3/1542)


باليمين، كالأكل والشرب والأخذ والعطاء (1)، وضدَّها بالشمال، كالاستنجاء وإمساك الذَّكَر وإزالة النجاسة، فإن كان الفعلُ مشتركًا بين العُضوَين بدأ باليمين في أفعال التكريم وأماكنه، كالوضوء ودخول المسجد، وباليسار في ضدِّ ذلك، كدخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوه. والله تعالى فضَّل بعضَ مخلوقاته على بعض، وفضَّل بعضَ جوارح الإنسان وأعضائه على بعض، ففضَّلَ العينَ على الكعب، والوجهَ على الرِّجل، وكذلك فضَّل اليد اليمنى على اليسرى (2). وخلقَ خلقَه صنفَين: سعداءَ وجعَلهم أصحابَ اليمين، وأشقياءَ وجعَلهم أصحابَ الشمال. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُقْسِطون عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يَعْدِلُون في حكمهم وأهلِيهم وما وَلُوا» (3). وفي «الصحيح» (4) عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما أُسْرِيَ به رأى آدمَ في سماء الدنيا وإذا عن يمينه أَسْوِدَة، وعن يساره أَسْوِدَة، فإذا نظر قِبَلَ يمينه ضَحِك، وإذا نظر قِبَلَ شماله بكى، فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا آدم، وهذه الأَسْوِدَةُ عن يمينه ويساره نَسَمُ بنيه، فأهلُ اليمين أهلُ السعادة من ذريته، وأهلُ اليسار أهلُ الشقاوة. _________ (1) (ت): «والإعطاء». (2) انظر: «فضل العرب» لابن قتيبة (111). (3) مضى تخريجه (ص: 1009). (4) «البخاري» (349)، و «مسلم» (136) من حديث أنس.

(3/1543)


وفي «المسند» (1) عن عائشة، قالت: «كانت يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمين لطُهوره وطعامه (2)، وكانت يدُه اليسرى لخلائه وما كان من أذى». وفي «المسند» أيضًا و «سنن أبي داود» عن حفصة بنت عمر زوج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كان يجعلُ يمينَه لطعامه وشرابه، ويجعلُ شمالَه لما سوى ذلك» (3). وقال الإمام أحمد (4): «كانت يمينُه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه (5)، وكانت شمالُه لما سوى ذلك». _________ (1) (6/ 265) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة. وإسناده جيِّد. وحسَّنه الحازمي. انظر: «البدر المنير» (2/ 372). وعبدالوهاب بن عطاء قديم السماع من سعيد بن أبي عروبة. إلا أنه روي من وجهٍ آخر عن إبراهيم عن عائشة مرسلًا، وقال الدراقطني في «العلل» (5/ق 68/ب): إنه أشبه بالصواب. وذكر أنَّ الصواب رواية أشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة، وهو ما أخرجه البخاري (168) ومسلم (268). (2) (ت، ص): «لطعامه وشرابه». (3) أخرجه أحمد (6/ 287)، وأبو داود (32) وغيرهما. وصححه ابن حبان (5227)، والحاكم (4/ 109) وتعقبه الذهبي بأنَّ في إسناده راوٍ مجهول. وليس كذلك. انظر: «مختصر استدراك الذهبي» لابن الملقن (5/ 2557). وفي إسناده اختلافٌ أعلَّه به بعضهم. انظر: «فيض القدير» (5/ 204). ولا يظهر. انظر: «علل الدارقطني» (5/ق 164/ب). (4) أي في روايته لحديث حفصة. واللفظ السابق رواية أبي داود. (5) (ق، د، ت): «وشانه». وهو تحريف. والمثبت من (ص) و «المسند». قال المناوي في «فيض القدير» (5/ 204): «يعني: للبس ثيابه أو تناولها».

(3/1544)


فصل وأمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّؤم في ثلاث» الحديث؛ فهو حديثٌ صحيحٌ من رواية ابن عمر، وسهل بن سعد، ومعاوية بن حكيم رضي الله عنهم (1). وقد رُوِيَ أنَّ أم سلمة كانت تزيد: «السَّيف»، يعني في حديث الزهري عن حمزة وسالم عن أبيهما في الشُّؤم (2). وقد اختلفَ الناسُ في هذا الحديث، وكانت عائشةُ أم المؤمنين رضي الله عنها تُنكِرُ أن يكون كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: إنما حكاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجاهلية وأقوالهم. فذكر أبو عمر بن عبد البر (3) من حديث هشام بن عمَّار: حدثنا _________ (1) تقدم تخريج حديثي ابن عمر وسهل بن سعد. وحديث معاوية بن حكيم عن عمه حكيم بن معاوية: أخرجه الترمذي (2284)، وابن ماجه (1993)، وغيرهما. وفي اسم حكيم خلاف، وفي صحبته نظر، ومعاوية لم يُؤْثَر فيه توثيق، ولذا قال ابن حجر في «الفتح» (6/ 62): «في إسناده ضعف». وانظر: «الإصابة» (2/ 114). (2) أخرجها معمر في «الجامع» (10/ 411)، ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 278)، وابن ماجه (1995)، والدارقطني في «غرائب مالك» كما في «الفتح» (6/ 63). والظاهر أنها مدرجة، كما في «النكت الظراف» (5/ 338). ورويت مرفوعة من مرسل سالم بن عبد الله بن عمر، أخرجها النسائي في «الكبرى» (9235)، على اختلافٍ في إسنادها. (3) في «التمهيد» (9/ 289)، وأحمد (6/ 150، 240، 246)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 314) وغيرهم. وصححه الحاكم (2/ 479) ولم يتعقبه الذهبي.

(3/1545)


الوليد بن مسلم، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسَّان: أنَّ رجلين دخلا على عائشة وقالا: إنَّ أبا هريرة يحدِّثُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الطِّيَرة في المرأة والدار والدَّابة»، فطارت شِقَّةٌ (1) منها في السماء، وشِقَّةٌ في الأرض، ثمَّ قالت: كذَب ــ والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم ــ من حدَّث عنه بهذا، ولكنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «كان أهلُ الجاهلية يقولون: إنَّ الطِّيَرة في المرأة والدَّابة»، ثمَّ قرأت عائشة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. قال أبو عمر: وكانت عائشةُ تنفي الطِّيَرة، ولا تعتقدُ شيئًا منها، حتى قالت لنسوةٍ كنَّ يكرهن البناءَ بأزواجهنَّ في شوَّال: ما تزوَّجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شوَّال، وما دخل بي إلا في شوَّال، فمن كان أحظى منِّي عنده؟! وكانت تستحبُّ أن يدخلنَ على أزواجهنَّ في شوَّال (2). قال أبو عمر: وقولها في أبي هريرة: «كَذَبَ» فإنَّ العرب تقول: كذبتَ، بمعنى غلطتَ فيما قدَّرتَ، وأوهَمْتَ فيما قلتَ، ولم تظُنَّ حقًّا (3)، ونحو هذا، وذلك معروفٌ من كلامهم (4)، موجودٌ في أشعارهم كثيرًا، قال _________ (1) أي: قطعة. مبالغة في الغضب والغيظ، كأنها تفرَّقت وتقطَّعت قطعًا من شدة الغضب. «النهاية» (شقق، طير). (2) أخرجه مسلم (1423). (3) (ت): «ولم يكن حقًّا». (4) انظر: «صحيح ابن حبان» (1732)، و «الثقات» (6/ 114)، و «غريب الحديث» للخطابي (2/ 302)، و «النهاية» (كذب)، و «خزانة الأدب» (6/ 194، 197).

(3/1546)


أبو طالب (1): كذبتم وبيتِ الله نَتْرُكُ مكَّةً ... ونَظْعَنُ، إلا أمرُكم في بَلابلِ كذبتم وبيتِ الله نُبْزَى محمدًا (2) ... ولمَّا نُطاعِنْ دونه ونُناضِلِ ونُسْلِمُه حتَّى نُصَرَّع حولَه ... ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائل وقال شاعرٌ من هَمْدان (3): كذبتم ــ وبيتِ الله ــ لا تأخذُونها ... مُراغَمةً ما دام للسَّيفِ قائمُ وقال زُفَرُ بن الحارث العبسي (4): أفي الحقِّ أمَّا بَحْدَلٌ وابنُ بَحْدَلٍ ... فيحيا وأمَّا ابنُ الزُّبير فيُقْتَلُ كذبتم ــ وبيتِ الله ــ لا تقتلونه ... ولمَّا يكن أمرٌ أغرُّ محجَّلُ قال: ألا ترى أنَّ هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضدُّ الصِّدق، وإنما هو من باب الغلط وظنِّ ما ليس بصحيح، وذلك أنَّ قريشًا زعموا أنهم يُخْرِجون بني هاشم من مكة إن لم يتركوا جِوارَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم _________ (1) في ديوانه (74، 193) من لاميَّته المتقدم بعضها (ص: 269). (2) أي: نُغْلَب ونُقْهَر عليه، و «محمدًا» منصوبٌ بنزع الخافض. انظر: «الخزانة» (2/ 63). وتروى: يُبْزى محمدٌ، أي: يُقْهَر ويُغلَب. «اللسان» (بزا). ورواية الديوان في الموضع الأول: نبرا محمدًا. وفي الثاني: يخزى محمدٌ. (3) وهو عمر بن براقة، فارسُ همدان وشاعرها لعصره، من كلمةٍ باذخة في «الإكليل» (10/ 195)، و «أمالي القالي» (2/ 122)، و «الوحشيات» (31)، و «الحماسة البصرية» (1/ 340)، و «الأغاني» (21/ 199)، وغيرها. (4) من كلمةٍ حماسية. انظر: «الحماسة» بشرح المرزوقي (649، 651).

(3/1547)


أبو طالب: «كذبتم» أي: غلطتم فيما قلتم وظننتم. وكذلك معنى قول الهَمْدانيِّ والعبسي. وهذا مشهورٌ من كلام العرب. قلت: ومن هذا قولُ سعيد بن جبير: «كذبَ جابرُ بن زيد» يعني في قوله: «الطلاقُ بيد السيِّد» (1)، أي: أخطأ. ومن هذا قولُ عبادة بن الصامت: «كذبَ أبو محمَّد» لمَّا قال: «الوترُ واجب» (2) أي: أخطأ. وفي «الصحيح» (3) أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كذَبَ أبو السَّنابل»، لمَّا أفتى أنَّ الحاملَ المتوفَّى عنها زوجُها لا تتزوَّج حتى تتمَّ لها أربعة أشهر وعشرًا، ولو وضعَت. وهذا كثير. والمقصود: أنَّ عائشة رضي الله عنها ردَّت هذا الحديث، وأنكرَته، وخطَّأت قائلَه (4). _________ (1) أخرجه سعيد بن منصور (1/ 210)، وعبدالرزاق (7/ 239)، وغيرهما. (2) أخرجه أحمد (5/ 315)، وأبو داود (425)، وغيرهما، وصححه ابن حبان (1731). وأبو محمد هو مسعود بن زيد بن سبيع الأنصاري، له صحبة، سكن الشام. انظر: «الإصابة» (6/ 98). (3) الحديث في الصحيحين دون موضع الشاهد، وهو عند أحمد (1/ 447)، وعبد الرزاق (6/ 474)، والبيهقي (7/ 429)، وغيرهم من طرقٍ موصولة ومرسلة. انظر: «السلسلة الصحيحة» (3274). (4) نقل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (67/ 352 - 353) تعليقًا طويلًا لابن خزيمة في توجيه تكذيب عائشة لخبر أبي هريرة، والاعتذار لهما. وأظنه من كتاب التوكل من «الصحيح»، وهو من جملة المفقود منه.

(3/1548)


ولكنَّ قولَ عائشة هذا مرجوح (1)، ولها رضي الله عنها اجتهادٌ في ردِّ بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرُها من الصحابة (2). وهي رضي الله عنها لما ظنَّت أنَّ هذا الحديث يقتضي إثباتَ الطِّيَرة التي هي من الشرك لم يَسَعْها غيرُ تكذيبه وردِّه، ولكنَّ الذين رووه ممَّن لا يمكنُ ردُّ روايتهم، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده، ولو انفرد به فهو حافظُ الأمَّة على الإطلاق، وكلُّ ما رواه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فهو صحيح، بل قد رواه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسهل بن سعد الساعدي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، رضي الله عنهم، وأحاديثهم في «الصحيح» (3). فالواجبُ بيانُ معنى الحديث، ومباينته للطِّيَرة الشِّركيَّة. فنقولُ وبالله التوفيق: هذا الحديثُ قد رُوِي على وجهين: أحدهما: بالجزم. والثاني: بالشرط. فأمَّا الأول؛ فرواه مالك، عن ابن شهاب، عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشُّؤم في الدار والمرأة والفرس»، متفقٌ عليه. _________ (1) انظر: «كشف المشكل» لابن الجوزي (2/ 268). (2) وجمع هذه الأحاديث أبو منصور البغدادي والزركشي في كتابين مشهورين مطبوعين بُنِي الثاني منهما على الأول. (3) وتقدم تخريجها.

(3/1549)


وفي لفظٍ في «الصحيحين» عنه: «لا عدوى، ولا صفر، ولا طِيَرة، وإنما الشُّؤم في ثلاثة: المرأة، والفَرس، والدار». وأمَّا الثاني؛ ففي «الصحيحين» أيضًا عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ كان؛ ففي المرأة، والفَرس، والمسكن»، يعني: الشُّؤم. وقال البخاري: «إن كان في شيء». وفي «صحيح مسلم» عن جابر مرفوعًا: «إن كان في شيءٍ؛ ففي الرَّبْع، والخادم، والفَرس» (1). وفي «الصحيحين» (2) عن ابن عمر مرفوعًا: «إن يكن من الشُّؤم شيءٌ حقًّا؛ ففي الفَرس، والمسكن، والمرأة». وروى زهير بن معاوية، عن عُتبة بن حميد، قال: حدثني عبيد الله بن أبي بكر، أنه سمع أنسًا يقول: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طِيَرة، والطِّيَرة على من تطيَّر، وإن يكن في شيءٍ ففي المرأة، والدَّار، والفَرس». ذكره أبو عمر (3). وقالت طائفةٌ أخرى: لم يجزم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشُّؤم في هذه الثلاثة، بل علَّقه على الشَّرط، فقال: «إن يكن الشُّؤم في شيءٍ»، ولا يلزمُ من صِدق الشَّرطيَّة _________ (1) تقدم تخريج هذه الأحاديث. (2) تقدم أنه عند مسلم بنحو هذا اللفظ. (3) في «التمهيد» (9/ 284) تعليقًا، ووصله الطبري في «تهذيب الآثار» (22 - مسند علي)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6/ 98). وفي إسناده ضعف. وصححه ابن حبان (6123)، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (2269). وقال ابن حجر في «الفتح» (6/ 63): «في صحته نظر؛ لأنه من رواية عتبة بن حميد، وهو مختلفٌ فيه».

(3/1550)


صدقُ كلِّ واحدٍ من مفردَيها، فقد يصدقُ التلازمُ بين المستحيلَين (1). قالوا: ولعلَّ الوهمَ وقع من ذلك، وهو أنَّ الراوي غَلِط، وقال: الشُّؤم في ثلاثة، وإنما الحديث: «إن كان الشُّؤم في شيءٍ ففي ثلاثة». قالوا: وقد اختُلف على ابن عمر، والروايتان صحيحتان عنه. قالوا: وبهذا يزولُ الإشكال، ويتبيَّن وجهُ الصواب. وقالت طائفةٌ أخرى (2): إضافةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشُّؤم إلى هذه الثلاثة مجازٌ واتِّساع، أي: قد يحصلُ الشُّؤم مقارنًا لها وعندها، لا أنها هي في أنفسها مما يوجبُ الشُّؤم. قالوا: وقد تكونُ الدارُ قد قضى الله عز وجل عليها أن يميتَ فيها خلقًا من عباده، كما يقدِّرُ ذلك في البلد الذي ينزلُ الطاعونُ به، وفي المكان الذي يكثرُ الوباءُ فيه، فيضافُ ذلك إلى المكان مجازًا، والله خلقه عنده، وقدَّره فيه، كما يخلقُ الموتَ عند قتل القاتل، والشِّبعَ والرِّيَّ عند أكل الآكل وشُرب الشارب. فالدارُ التي يهلكُ بها أكثرُ ساكنيها توصَفُ بالشُّؤم، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد خصَّها بكثرة من قبض فيها، فمن كتبَ اللهُ عليه الموتَ في تلك الدار حَسَّنَ إليه سُكناها، وحرَّكه إليها، حتى يقبض روحَه في المكان الذي كتبَ له، كما ساقَ الرجلَ من بلدٍ إلى بلدٍ للأثر (3) والبقعة التي قضى أنه يكونُ مدفنُه بها. _________ (1) (ص): «بين شيئين مستحيلين». (2) وهم نفاة الأسباب من المتكلمين. (3) كذا رسمها في الأصول. ولست منها على ثقة.

(3/1551)


قالوا: وكذلك ما يوصفُ من طول أعمار بعض أهل البلدان، ليس ذلك من أجل صحَّة هواءٍ، ولا طِيب تُربة، ولا طبعٍ يزدادُ (1) به الأجل، وينقصُ لفواته، ولكنَّ الله سبحانه قد خلقَ ذلك المكان وقضى أن يسكنَه أطولُ خلقه أعمارًا، فيسوقُهم إليه، ويجمعهُم فيه، ويحبِّبه إليهم. قالوا: وإذا كان هذا على ما وصفنا في الدُّور والبقاع جاز مثلُه في النِّساء والخَيل؛ فتكون المرأة قد قدَّر الله عليها أن تتزوَّج عددًا من الرجال، ويموتون معها، فلا بدَّ من إنفاذ قضائه وقدره، حتى إنَّ الرجلَ ليُقْدِمُ عليها من بعد علمه بكثرة من مات معها (2) لوجهٍ من الطَّمع يقودُه إليها، حتى يتمَّ قضاؤه وقدرُه، فتوصفُ المرأة بالشُّؤم لذلك، وكذلك الفَرس، وإن لم يكن لشيءٍ من ذلك فعلٌ ولا تأثير. وقال ابن القاسم: سئل مالكٌ عن الشُّؤم في الفرس والدار، فقال: إنَّ ذلك كذلك (3) فيما نرى، كم من دارٍ قد سكنها ناسٌ فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا. قال: فهذا تفسيره فيما نرى، والله أعلم (4). وقالت طائفةٌ أخرى: شؤمُ الدار مجاورة جار السُّوء لها (5)، وشؤمُ _________ (1) (ت، ص): «يزاد». (2) (ق، د): «عنها». (3) في الأصول: «كذب». وهو تحريف. ولم ترد هذه الجملة في المصادر التالية التي نقلت كلام مالك. (4) انظر: «سنن أبي داود» (3922)، و «البيان والتحصيل» (17/ 275)، و «المنتقى» للباجي (7/ 294). (5) (ت، ص): «جار الشؤم لها».

(3/1552)


الفَرس أن لا يُغزى عليها في سبيل الله، وشؤمُ المرأة أن لا تلد وتكونَ سيِّئةَ الخُلق (1). وقال طائفةٌ أخرى، منهم الخطابي: هذا مستثنى من الطِّيَرة، أي: الطِّيَرة منهيٌّ عنها إلا أن يكون له دارٌ يكره سُكناها، أو امرأةٌ يكره صحبتَها، أو فرسٌ أو خادم، فليفارق الجميعَ بالبيع والطَّلاق ونحوه، ولا يقيمُ على الكراهة والتأذِّي به، فإنه شؤم (2). وقد سلك هذا المسلكَ أبو محمد بن قتيبة في كتاب «مشكل الحديث» له (3)، لمَّا ذكر أنَّ بعض الملاحدة اعترض بحديث هذه الثلاثة. وقال طائفةٌ أخرى: الشُّؤم في هذه الثلاثة إنما يلحقُ من تشاءم بها وتطيَّر بها، فيكونُ شؤمها عليه، ومن توكَّل على الله ولم يتشاءم ولم يتطيَّر لم تكن مشؤومةً عليه. قالوا: ويدلُّ عليه حديثُ أنس: «الطِّيَرة على من تطيَّر» (4)، وقد يجعلُ الله سبحانه تطيُّر العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به، كما يجعلُ الثِّقةَ به والتوكُّل عليه وإفرادَه بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفعُ بها الشرَّ المتطيَّر به. وسرُّ هذا: أنَّ الطِّيَرة إنما تتضمَّنُ (5) الشركَ بالله تعالى، والخوفَ من _________ (1) انظر: «الجامع» لمعمر (10/ 411). (2) انظر: «معالم السنن» (4/ 236)، و «أعلام الحديث» (2/ 1379). (3) (82). (4) تقدم تخريجه (ص: 1550). (5) كذا في الأصول. ولعل الصواب: لما كانت تتضمَّن.

(3/1553)


غيره، وعدم التوكُّل عليه والثِّقة به، كان صاحبُها غرضًا لسهام الشرِّ والبلاء، فيسرعُ نفوذُها فيه، لأنه لم يتدرَّع من التوحيد والتوكُّل بجُنَّةٍ واقية، وكلُّ من خاف شيئًا غيرَ الله سُلِّطَ عليه، كما أنَّ من أحبَّ مع الله غيرَه عُذِّبَ به، ومن رجا مع الله غيرَه خُذِلَ من جهته. وهذه أمورٌ تجربتُها تكفي (1) عن أدلَّتها. والنَّفسُ لابدَّ أن تتطيَّر، ولكنَّ المؤمنَ القويَّ الإيمان يدفعُ مُوجَبَ تطيُّره بالتوكُّل على الله، فإنَّ من توكَّل على الله وحده كفاه مِنْ غيره، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]. ولهذا قال ابن مسعود: «وما منَّا إلا» يعني: من يُقارِبُ التطيُّر، «ولكنَّ الله يُذْهِبه بالتوكُّل» (2). ومن هذا قولُ زبَّان بن سيَّار: أطارَ الطيرَ إذ سِرْنا زيادٌ ... لِتُخْبِرَنا وما فيها خبيرُ أقام كأنَّ لقمان بن عادٍ ... أشار له بحكمته مشيرُ تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا ... على مُتَطيِّرٍ وهو الثُّبورُ قالوا: فالشُّؤم الذي في الدار والمرأة والفَرس قد يكونُ مخصوصًا بمن تشاءم بها وتطيَّر، وأمَّا من توكَّل على الله وخافَه وحده ولم يتطيَّر ولم يتشاءم فإنَّ الفَرس والمرأة والدار لا تكون شؤمًا في حقِّه. _________ (1) (ت): «تكفي وتغني». (2) تقدم تخريجه، وتصويب وقفه على ابن مسعود (ص: 1484).

(3/1554)


وقالت طائفةٌ أخرى: معنى الحديث: إخبارُه - صلى الله عليه وسلم - عن الأسباب المثيرة للطِّيَرة الكامنة في الغرائز، يعني: أنَّ المثيرَ للطِّيَرة في غرائز الناس هي هذه الثلاثة، فأخبَرنا بها لنأخُذ الحذرَ منها، فقال: «الشُّؤم في الدار والمرأة والفرس»، أي: أنَّ الحوادثَ التي تكثرُ مع هذه الأشياء (1)، والمصائبَ التي تتوالى عندها، تقودُ الناسَ إلى التشاؤم بها، فقال: «الشُّؤم فيها»، أي: أنَّ الله قد يقدِّره فيها على قومٍ دون قوم. فخاطَبهم - صلى الله عليه وسلم - بذلك لِمَا استقرَّ عندهم منه - صلى الله عليه وسلم - من إبطال الطِّيَرة وإنكار العدوى، ولذلك لم يستفهموه في ذلك عن معنى ما أراده - صلى الله عليه وسلم -، كما تقدَّم لهم في قوله: «لا يوردُ المُمْرِضُ على المُصِحِّ» (2)، فقالوا عنده: وما ذاك يا رسول الله؟ فأخبرهم أنه خافَ في ذلك الأذى الذي يُدْخِلُه المُمْرِضُ على المُصِحِّ، لا العدوى؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتَّوادُد، وإدخال السُّرور بين المؤمنين، وحُسْن التجاوز، ونهى عن التقاطُع والتباغُض والأذى. فمن اعتقدَ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبَ الطِّيَرةَ والشُّؤم إلى شيءٍ من الأشياء على سبيل أنه مؤثِّرٌ لذلك دون الله، فقد أعظمَ الفرية على الله وعلى رسوله وضلَّ ضلالًا بعيدًا. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابتدأهم بنفي الطِّيَرة والعدوى، ثمَّ قال: «الشُّؤم في ثلاث»، قطعًا لتوهُّم الطِّيَرة المنفيَّة في الثلاثة التي أخبرَ أنَّ الشُّؤم يكونُ فيها، فقال: «لا عدوى، ولا طيَرة، والشُّؤم في ثلاثة»، فابتدأهم بالمؤخَّر من الخبر تعجيلًا لهم بالإخبار بفساد العدوى والطِّيَرة المتوهَّمة من قوله: «الشُّؤم في ثلاثة». _________ (1) (ت، ص): «هذه الثلاثة أشياء». (2) مضى تخريجه (ص: 1509).

(3/1555)


وبالجملة؛ فإخباره - صلى الله عليه وسلم - بالشُّؤم أنه يكونُ في هذه الثلاثة ليس فيه إثباتُ الطِّيَرة التي نفاها، وإنما غايتُه أنَّ الله سبحانه قد يخلقُ منها أعيانًا مشؤومةً على مَنْ قارَبها وسكَنها، وأعيانًا مباركةً لا يلحقُ مَنْ قارَبها منها شؤمٌ ولا شرٌّ. وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يرَيان الخيرَ على وجهه، ويعطي غيرَهما ولدًا مشؤومًا نذلًا يرَيان الشرَّ على وجهه، وكذلك ما يُعْطَاهُ العبدُ من ولايةٍ أو غيرها، فكذلك الدارُ والمرأةُ والفَرس. واللهُ سبحانه خالقُ الخير والشرِّ والسُّعود والنُّحوس، فيخلقُ بعضَ هذه الأعيان سُعودًا مباركة، ويقضي بسعادة مَنْ قارَبها (1)، وحصول اليُمْن له والبركة، ويخلقُ بعضَ ذلك نحوسًا ينتحسُ بها مَنْ قارَبها. وكلُّ ذلك بقضائه وقدره، كما خلقَ سائرَ الأسباب وربَطها بمسبَّباتها المتضادَّة والمختلفة، فكما (2) خلقَ المِسْكَ وغيرَه من حامل الأرواح الطِّيبة (3)، ولذَّذَ بها مَنْ قارَبها من الناس، وخلقَ ضدَّها وجعلها سببًا لألم مَنْ قارَبها من الناس. والفرقُ بين هذين النوعين يُدْرَكُ بالحِسِّ، فكذلك في الدِّيار والنِّساء والخيل، فهذا لونٌ والطِّيَرة الشركيَّةُ لون. فصل وأمَّا الأثرُ الذي ذكره مالكٌ عن يحيى بن سعيد: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، دارٌ سكنَّاها والعددُ كثيرٌ والمالُ وافر، فقلَّ العدد، وذهبَ المال، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دعوها، ذميمة». _________ (1) (ق): «قارنها». وهكذا في المواضع التالية. (2) كذا في الأصول. ولعلها: «وكما». (3) جمع ريح أو رَوْح.

(3/1556)


وقد ذكر هذا الحديثَ غيرُ مالكٍ من رواية أنس، أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنَّا نزلنا دارًا فكَثُرَ فيها عددُنا، وكثُرت فيها أموالُنا، ثمَّ تحوَّلنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالُنا، وقلَّ فيها عددُنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تحوَّلوا عنها» (1). فليس هذا من الطِّيَرة المنهيِّ عنها، وإنما أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالتحوُّل عنها عندما وقعَ في قلوبهم منها، لمصلحتين ومنفعتين: إحداهما: مفارقتُهم لمكانٍ هم له مستثقلون، ومنه مستوحشون، لِمَا لحقهم فيه ونالهم عنده، ليتعجَّلوا الرَّاحةَ مما داخَلَهم من الجزع في ذلك المكان والحُزن والهلع؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد جعل في غرائز الناس وتركيبهم استثقالَ ما نالهم الشرُّ فيه وإن كان لا سببَ له في ذلك، وحُبَّ من جرى لهم على يديه الخيرُ وإن لم يُرِدْهم به. فأمرهم بالتحوُّل مما كرهوه؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ بعثه رحمةً ولم يبعثه عذابًا، وأرسله ميسِّرًا ولم يرسله معسِّرًا، فكيف يأمرُهم بالمقام في مكانٍ قد أحزنهم المقامُ به، واستوحشوا عنده، لكثرة من فقدوه فيه، لغير منفعةٍ ولا طاعةٍ ولا مزيد تقوى وهدى؟! لاسيَّما (2) وطولُ مقامهم فيها ــ بعدما وصل إلى قلوبهم منها ما وصل ـــ قد يبعثُهم ويقودُهم إلى التشاؤم والتطيُّر، فيوقعُهم ذلك في أمرين عظيمين: _________ (1) تقدم تخريج الحديث (ص: 1493). (2) ما يلي هي المصلحة الثانية.

(3/1557)


أحدهما: مقارفةُ (1) الشرك. والثاني: حلولُ مكروهٍ آخرَ بهم (2)؛ بسبب الطِّيَرة التي إنما تلحقُ المتطيِّر. فحماهم - صلى الله عليه وسلم - ــ بكمال رأفته ورحمته ــ من هذين المكروهَيْن بمفارقة تلك الدار، والاستبدال بها، من غير ضررٍ يلحقُهم بذلك في دنيا، ولا نقصٍ في دين. وهو - صلى الله عليه وسلم - حين فَهِمَ عنهم في سؤالهم ما أرادوه من التعرُّف عن حال رحلتهم عنها (3)، هل ذلك لهم ضارٌّ مؤدٍّ إلى الطِّيَرة؟ قال: «دعوها، ذميمة». وهذا بمنزلة الخارج من أرضٍ بها الطَّاعونُ غير فارٍّ منه. ولو مُنِعَ الناسُ الرحلةَ من الدار التي تتوالى عليهم المصائبُ فيها والمحنُ وتعذُّرُ الأرزاق، مع سلامة التوحيد في الرحلة، للَزِمَ ذلك كلَّ من ضاق عليه رزقٌ في بلدٍ أن لا ينتقلَ عنه إلى بلدٍ آخر، ومَنْ قلَّت فائدةُ صناعته أن لا ينتقلَ عنها إلى غيرها. فصل وأمَّا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي سلَّ سيفه يومَ أحد: «شِمْ سيفك، فإني أرى السيوفَ سَتُسَلُّ اليوم» (4)؛ فهذه القصةُ لم يكن الرجلُ قد سَلَّ فيها السَّيف، _________ (1) في الأصول: «مقارنة». بالنون. والمثبت أشبه، وهو لفظ الحديث. (2) في الأصول: «احزنهم». وهو تحريف. (3) (ت، ص): «من غير ضرر يلحقهم بذلك في رحلتهم عنها». (4) تقدم تخريجه (ص: 1494).

(3/1558)


ولكنَّ الفَرسَ لوَّح بذنبه، فسَلَّ السيف، ولم يُرِد صاحبُه سَلَّه، هكذا في القصة. ولا ريب أنَّ الحربَ تقومُ بالخيل والسيوف، ولما لوَّحَ الفَرسُ بذنبه فاستلَّ السيف، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أرى السيوف سَتُسَلُّ اليوم». فهذا له محملٌ من ثلاثة محامل: أحدها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن ظنٍّ ظنَّه في ذلك، ولم يجعَل هذا دليلًا عامًّا في كلِّ واقعةٍ تشبهُ هذه، وإذا كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه ــ وهو أحدُ أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلٌ من أمَّته ــ كان إذا قال: أظنُّ كذا، أو: أرى كذا، خرجَ الأمرُ كما ظنَّه وحَسِبَه، فكيف يُظَنُّ برسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم -؟! الثاني: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قد عَلِمَ قبل مخرجه أنَّ السيوفَ سَتُسَلُّ ويقعُ القتال، ولهذا أخبرهم أنه رأى في منامه بقرًا تُنْحَرُ (2)، وعَلِمَ أنَّ ذلك شهادةُ من قتلَ من أصحابه. الثالث: أنَّ الوحيَ الذي كان يَعْرِفُ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحوادثَ والنوازلَ كان مُغْنِيًا له عن الإشارات والعلامات والأمارات وما في معناها مما يحتاجُ إليه غيرُه، وأمَّا من يأتيه خبرُ السماء صباحًا ومساءً فإخباره بقوله: «أرى السيوفَ سَتُسَلُّ» لم يكن عن تلك الأمارة، وإنما وقع الإخبارُ به عَقِيبها، والشيءُ بالشيء يُذْكَر. _________ (1) (ت): «يظن رسول الله». ولعلها: بظن رسول الله. (2) أخرجه البخاري (3622)، ومسلم (2272) من حديث أبي موسى.

(3/1559)


فصل وأمَّا ما احتجَّ به (1) ونسَبه إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وقَدَت الحرب»، لمَّا رمى (2) واقدُ بن عبد الله الحضرميَّ، «والحضرميُّ حضرت الحرب»؛ فكذبٌ عليه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قال ذلك أعداؤه من اليهود، فتطيَّروا بذلك وتفاءلوا به (3)، فكانت الطِّيَرة عليهم، ووقَدَت الحربُ عليهم. فصل وأمَّا استقبالُه - صلى الله عليه وسلم - الجبلين في طريقه، وهما: مُسْلِح ومُخْرِاء، وتركُ المرور بينهما، وعدلُ ذات اليمين (4)؛ فليس هذا أيضًا من الطِّيَرة، وإنما هو من العدول عمَّا يؤذي النفوسَ ويُشَوِّشُ القلوبَ إلى ما هو بخلافه، كالعدول عن الاسم القبيح وتغييره بأحسنَ منه (5)، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك بما فيه كفاية. وأيضًا؛ فإنَّ الأماكنَ فيها الميمونُ المبارك والمشؤومُ المذموم، فاطَّلعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على شؤم ذلك المكان، وأنه مكانُ سوء، فجاوزَه إلى غيره، كما جاوزَ الوادي الذي ناموا فيه عن الصُّبح إلى غيره، وقال: «هذا مكانٌ حَضَرَنا فيه الشيطان» (6)، والشيطانُ يحبُّ الأمكنةَ المذمومة وينتابُها. _________ (1) من يحتج لإثبات الطِّيرة ويصححها، وقد سلف احتجاجه (ص: 1494). (2) (ق): «رأى». وهو تحريف. (3) انظر: «طبقات ابن سعد» (3/ 390)، و «تفسير الطبري» (4/ 304)، و «سيرة ابن هشام» (3/ 149). (4) كما تقدم (ص: 1494). (5) انظر: «الروض الأنف» (3/ 57). (6) أخرجه مسلم (680) من حديث أبي هريرة.

(3/1560)


وأيضًا؛ فَلِمَا كان المرورُ بين ذينِكَ الجبلين قد يُشَوِّشُ (1) القلب. على أنَّا نقولُ في ذلك قولًا كلِّيًّا نبيِّنُ به سرَّ هذا الباب، بحول الله وعونه وتوفيقه: اعلَم أنَّ بين الأسماء ومسمَّياتها ارتباطًا قدَّره العزيزُ العليم، وألهَمَه نفوسَ العباد، وجعَله في قلوبهم بحيث لا تنصرفُ عنه، وليس هذا الارتباطُ هو ارتباطَ العلَّة بمعلولها، ولا ارتباطَ المقتضي الوجوبَ لمقتضاه وموجَبه، بل ارتباط تناسُبٍ وتشاكُلٍ اقتضته حكمةُ الحكيم. فقَلَّ أن ترى اسمًا قبيحًا إلا وبين مسمَّاه وبينه رابطٌ من القُبح، وكذلك إذا تأمَّلتَ الاسم الثقيلَ الذي تنفرُ عنه الأسماع، وتنبو عنه الطِّباع، فإنك تجدُ مسمَّاه يُقارِبُ أو يُلِمُّ أن يُطابِق. ولهذا من المشهور على ألسنة الناس: أنَّ الألقابَ تنزلُ من السماء (2). فلا تكادُ تجدُ الاسمَ الشنيعَ القبيحَ إلا على مسمًّى يناسبُه. وفي ذلك قولُ القائل: وقَلَّ أنْ أبصَرَتْ عيناكَ ذا لَقَبٍ ... إلا ومعناهُ إن فكَّرتَ في لَقَبِهْ (3) _________ (1) (ق): «تشوف». (د، ت، ص) «يشوق». والمثبت من (ط). (2) انظر: «التمثيل والمحاضرة» (45)، و «مجمع الأمثال» (2/ 257). (3) ثاني بيتين في «نور القبس» (332) لبعض أصحاب ثعلب في هجاء المبرد. وهو في «المفردات» للراغب (744)، و «شرح المقامات» للشريشي (1/ 24) دون نسبة. وبمعناه في «محاضرات الأدباء» (3/ 660).

(3/1561)


وهذا كثيرًا ما يوجدُ أيضًا (1) في أسماء الأجناس. والواضعُ (2) له عنايةٌ بمطابقة الألفاظ للمعاني، ومناسبتها لها، فيجعلُ الحروفَ الهوائيَّة الخفيفةَ للمسمَّى المُشاكِل لها، كالهواء، والحروفَ الشَّديدة للمسمَّى المناسب لها، كالصَّخر والحَجَر، وإذا تتابعَت حركةُ المسمَّى تابَعوا بين حركة اللفظ، كالدَّوَران والغَلَيان والنَّزَوان، وإذا تكرَّرت الحركةُ كرَّروا اللفظ، كقَلْقَلَ وزَلْزَلَ ودَكْدَكَ وصَرْصَرَ، وإذا اكتَنزَ المسمَّى وتجمَّعت أجزاؤه جعَلوا في اسمه من الضَّمِّ الدالِّ على الجمع والاكتناز ما يناسبُ المسمَّى، كالبُحْتُر للقصير المجتمع الخَلْق، وإذا طالَ جعلوا في اسمه (3) من الفتح الدالِّ على الامتداد نظيرَ ما في المعنى، كالعَشَنَّق للطَّويل. ونظائرُ ذلك أكثرُ من أن تُسْتَوعَب، وإنما أشرنا إليها أدنى إشارة (4). وهذا هو الذي أراده من قال: بين الاسم والمسمَّى مناسبة (5)، فلم يفهم عنه بعضُ المتأخِّرين مرادَه، فأخذ يشنِّعُ عليه بأنه لا تناسُبَ طبعِيًّا (6) بينهما، واستدلَّ على إنكار ذلك بما لا طائل تحته (7)؛ فإنَّ عاقلًا لا يقول: إنَّ _________ (1) (ت، ص): «مما يوجد». (2) واضعُ اللغة. (3) (د، ق): «المسمى». وهو تحريف. (4) انظر: «الخصائص» لابن جني (2/ 152 - 168)، و «جلاء الأفهام» (146 - 153)، و «بدائع الفوائد» (189)، و «تحفة المودود» (51، 146)، و «زاد المعاد» (2/ 336) [و"مجموع الفتاوى" (20/ 418)]. (5) وهو عباد بن سليمان الصيمري. (6) (ت): «طبيعيا». (7) انظر: «المحصول» (1/ 181، 183)، و «الإبهاج» (1/ 196)، و «البحر المحيط» (2/ 32)، و «المزهر» للسيوطي (1/ 47).

(3/1562)


التناسُبَ الذي بين الاسم والمسمَّى كالتناسُب الذي بين العلَّة والمعلول، وإنما هو ترجيحٌ وأولويَّةٌ تقتضي اختصاصَ الاسم بمسمَّاه، وقد يتخلَّف عنه اقتضاؤها كثيرًا. والمقصود أنَّ هذه المناسبة تنضمُّ إلى ما جعل الله في طبائع الناس وغرائزهم من النُّفرة من الاسم (1) القبيح المكروه، وكراهته، وتطيُّر أكثرهم به، وذلك يوجبُ عدمَ ملابسته ومجاوزته إلى غيره، فهذا أصلُ هذا الباب. فصل وأمَّا كراهيةُ السلف أن يُتْبَعَ الميِّتُ بشيءٍ من النار، أو أن يُدْخَلَ القبرَ شيءٌ مَسَّته النار، وقولُ عائشة رضي الله عنها: «لا يكونُ آخرُ زاده أن تَتْبعوه بالنار» (2)؛ فيجوزُ أن يكون كراهتُهم لذلك مخافةَ الإحداث لما لم يكن في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فكيف وذلك مما يُنْتِجُ (3) الطِّيَرة به والظُّنونَ الرديَّة بالميت؟! وقد قال غيرُ واحدٍ من السلف، منهم عبد الملك بن حبيب وغيره: إنما كرهوا ذلك تفاؤلًا بالنار في هذا المقام أن تَتْبعه (4). وذكر ابنُ حبيب وغيره أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يصلي على جنازة، فجاءت امرأةٌ ومعها مِجْمَر، فما زال يصيحُ بها حتى توارت بآجام المدينة (5). _________ (1) مهملة في (د). (ق): «بين الاسم». وهو تحريف. (2) تقدم تخريجه (ص: 1496). (3) (ق، د، ت): «يبيح». والمثبت من (ص) أشبه. (4) انظر: «تفسير غريب الموطأ» لابن حبيب (2/ 66). (5) أخرجه عبد الرزاق (3/ 420)، وابن أبي شيبة (3/ 272)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/ 119)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2329) من حديث حنش بن المعتمر مرسلًا. ولا تصحُّ للمعتمر صحبة، بل ضعَّفه البخاري وطائفة. انظر: «الإصابة» (2/ 216)، و «أسد الغابة» (2/ 55)، و «التهذيب» (3/ 59). ويروى من حديث حنش عن أبيه. أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/ 321)، ولا أراه محفوظًا، وأبوه لا يعرف. انظر: «الإصابة» (6/ 176).

(3/1563)


قال بعضُ أهل العلم: وليس خوفُهم من ذلك على الميِّت، لكنْ على الأحياء المجبولين على الطِّيَرة، لئلَّا تحدِّثهم أنفسُهم بالميِّت أنه من أهل النار، لِمَا رأوا من النار التي تَتْبَعُه في أول أيَّامه من الآخرة، ولا سيَّما في مكانٍ يرادُ منهم فيه كثرةُ الاجتهاد للميِّت بالدعاء، فإذا لم يبقَ له زادٌ غيرُه فيظنُّون أنَّ تلك النار من بقايا زاده إلى الآخرة، فتسوءُ ظنونُهم به، وتنفرُ عن رحمته قلوبُهم في مكانٍ هم فيه شهداءُ الله؛ كما جاء في الحديث الصحيح لما مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا، فقال: «وجبَت»، فقالوا: ما وجبَت؟ قال: «وجبَت له الجنة، أنتم شهداءُ الله في الأرض، من أثنيتم عليه خيرًا وجبَت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبَت له النار» (1). وفي أثرٍ آخر: «إذا أردتم أن تعلموا ما للميت عند الله فانظروا ما يتبعُه من حسن الثناء» (2). فقالت عائشة رضي الله عنها: لا يكونُ آخرُ زاده من الثَّناء والدعاء أن _________ (1) أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) من حديث أنس. (2) أخرجه مالك (2630) من قول كعب الأحبار بإسنادٍ صحيح. وروي مرفوعًا من حديث علي، أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ 374)، ولا يصح. انظر: «السلسلة الضعيفة» (1620).

(3/1564)


تَتْبعوه بالنار، فتهيِّجوا بها خواطرَ الناس، وتبعثوا ظنونَهم بالتطيُّر بالنار والعذاب. والله أعلم. فصل وأمَّا تلك الوقائعُ التي ذكروها مما يدلُّ على وقوع ما تطيَّر به مَنْ تطيَّر؛ فنعم، وهاهنا أضعافُها وأضعافُ أضعافها. ولسنا ننكرُ موافقةَ القضاء والقدر لهذه الأسباب وغيرها كثيرًا، وموافقةُ حَزْر الحازرين وظنون الظَّانِّين وزَجْر الزاجرين للقَدَر أحيانًا مما لا ينكرُه أحد. ومن الأسباب التي توجبُ وقوعَ المكروه: الطِّيَرة، كما تقدَّم، وأنَّ الطِّيَرة على من تطيَّر، ولكنْ نصَبَ اللهُ سبحانه لها أسبابًا يُدْفَعُ بها مُوجَبُها وضررُها، من التوكُّل عليه، وحسن الظَّنِّ به، وإعراض قلبه عن الطِّيَرة، وعدم التفاته إليها وخوفه منها، وثقته بالله عز وجل. ولسنا ننكرُ أنَّ هذه الأمور ظنونٌ وتخمينٌ وحَدْسٌ وخَرْص، وما كان هذا سبيلُه فيصيبُ تارةً ويخطاءُ تارات. وليس كلُّ ما تطيَّر به المتطيِّرون وتشاءموا به وقعَ جميعه وصَدَق، بل أكثرُه كاذب، وصادقُه نادر، والناسُ في هذا المقام إنما يعوِّلون (1) وينقلون ما صحَّ ووقَع ويعتنونَ به، فيُرى كثيرًا، والكاذبُ منه أكثرُ من أن يُنْقَل. قال ابن قتيبة: مِنْ شأن [الناس] (2) حفظُ الصَّواب للعجَب به والشَّغف _________ (1) (ت): «يقولون». (2) ليست في الأصول.

(3/1565)


والاستغراب، وتناسي الخطأ. قال: ومن ذا الذي يتحدَّثُ أنه سأل منجِّمًا فأخطأ؟! وإنما الذي يُتَحَدَّثُ به ويُنقَلُ أنه سأله فأصاب. قال: والصوابُ في المسألة إذا كان بين أمرين، قد يقعُ للمعتوه والطِّفل، فضلًا عن أولي العقل (1). وقد تقدَّم من بطلان الطِّيَرة وكذبها ما فيه كفاية. وقد كانت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله تستحبُّ أن تتزوَّج المرأةُ أو يُبنى بها في شوَّال، وتقول: ما تزوجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شوَّال، فأيُّ نسائه كان أحظى عنده منِّي؟! (2)، مع تطيُّر الناس بالنكاح في شوَّال. وهذا فعلُ أولي العزم والقوَّة من المؤمنين، الذين صحَّ توكُّلهم على الله، واطمأنت قلوبُهم إلى ربِّهم، ووثقوا به، وعلموا أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنهم لن يصيبهم إلا ما كتبَ الله لهم، وأنهم ما أصابهم من مصيبةٍ إلا وهي في كتابٍ (3) من قبل أن يخلُقهم ويُوجِدَهم، وعلموا أنه لا بدَّ أن يصيروا إلى ما كتبه وقدَّره، ولا بدَّ أن يجري عليهم، وأنَّ تطيُّرهم لا يردُّ قضاءَه وقدرَه عنهم، بل قد يكونُ تطيُّرهم من أعظم الأسباب التي يجري عليهم بها القضاءُ والقدر، فيُعِينونَ على أنفسهم، وقد جرى لهم القضاءُ والقدر بأنَّ نفوسَهم هي سببُ إصابة المكروه لهم، فطائرُهم معهم. _________ (1) انظر: «القول في علم النجوم» للخطيب (193)، و «رسائل الجاحظ» (3/ 261). (2) تقدم تخريجه (ص: 1546). (3) (ص): «في كتاب الله».

(3/1566)


وأمَّا المتوكِّلون على الله، المفوِّضون إليه، العالمون به وبأمره، فنفوسُهم أشرفُ من ذلك، وهممُهم أعلى، وثقتُهم بالله وحسنُ ظنِّهم به عُدَّةٌ لهم وقوَّةٌ وجُنَّة مما يتطيَّر به المتطيِّرون، ويتشاءمُ به المتشائمون، عالمون أنه لا طيرَ إلا طيرُه، ولا خيرَ إلا خيرُه، ولا إلهَ غيرُه، ألا له الخلقُ والأمر، تبارك الله ربُّ العالمين. فصل ومما كان الجاهليةُ يتطيَّرون به ويتشاءمون منه: العُطاس (1)، كما يتشاءمون بالبَوارِح والسَّوانِح. قال رؤبة بن العجَّاج يصف فلاةً: * قطعتُها ولا أهابُ العُطاسا * (2) وقال امرؤ القيس (3): وقد أغتدي قبل العُطاسِ بهيكلٍ ... شديدِ مَشَكِّ الجَنْبِ فَعْمِ المُنَطَّق أراد (4) أنه كان ينتبهُ للصَّيد قبل أن ينتبه الناسُ من نومهم؛ لئلَّا يسمَع _________ (1) انظر: «المعاني الكبير» (271، 1185)، و «جمهرة اللغة» (835)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 352)، و «العمدة» لابن رشيق (1032). (2) كذا في الأصول. ولم أجده. والمشهور في هذا الباب قوله: * ولا أبالي اللَّجَم العَطُوسا * انظر: ديوانه (71)، و «تهذيب اللغة» (2/ 65، 11/ 103)، و «العباب» (عطس)، و «المعاني الكبير»، و «خزانة الأدب» (2/ 279). وفي روايته اختلاف. (3) ديوانه (172). (4) (ت): «أي».

(3/1567)


عطاسًا فيتشاءم به. وكانوا إذا عَطس من يحبُّونه قالوا له: عُمْرًا وشبابًا، وإذا عَطس من يبغضونه قالوا له: وَرْيًا وقُحَابًا (1). والوَرْي ــ كالرَّمْي ــ: داءٌ يصيبُ الكبد فيفسدُها، والقُحَاب كالسُّعال، وزنًا ومعنى. وكان الرجلُ إذا سَمِع عطاسًا يتشاءمُ به، يقول: بكَ لا بي، أي: أسألُ الله أن يجعل شؤمَ عطاسك بكَ لا بي. وكان تشاؤمهم بالعَطْسة الشَّديدة أشدَّ، كما يحكى عن بعض الملوك أنَّ مسامرًا له عطسَ عطسةً شديدةً راعَتْه، فغضبَ الملك، فقال سميرُه: والله ما تعمَّدتُ ذلك، ولكنَّ هذا عُطاسي، فقال: والله لئن لم تأتني بمن يشهدُ لك بذلك لأقتلنَّك، فقال: أخرِجني إلى الناس لعلِّي أجدُ من يشهدُ لي، فأخرجَه، وقد وكَّل به الأعوان، فوجدَ رجلًا، فقال: يا سيِّدي نشدتُك بالله، إن كنتَ سمعتَ عُطاسي يومًا تشهدُ لي به عند الملك، فقال: نعم، أنا أشهدُ لك، فنهَض معه، وقال: أيها الملك، أنا أشهدُ أنَّ هذا الرجل عطسَ يومًا فطار ضرسٌ من أضراسه! فقال له الملك: عُد إلى حديثك ومجلسك (2). فلمَّا جاء الله سبحانه بالإسلام، وأبطَل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما كان عليه الجاهليةُ من الضلال؛ نهى أمَّته عن التشاؤم والتطيُّر، وشرَع لهم أن يجعلوا مكانَ الدعاء على العاطس بالمكروه دعاءً له بالرحمة، كما أمر العائن أن يدعو بالتبريك للمَعِين. _________ (1) انظر: «البصائر والذخائر» (8/ 135). والمشهور أنَّ ذلك يقال عند السعال. انظر: «أمالي القالي» (2/ 221)، و «تهذيب اللغة» (4/ 74)، وغيرهما. (2) انظر: «الأغاني» (3/ 47)، و «التذكرة الحمدونية» (9/ 390).

(3/1568)


ولما كان الدعاءُ على العاطس نوعًا من الظُّلم والبغي جُعِلَ الدعاءُ له بلفظ الرحمة المنافي للظُّلم، وأُمِرَ العاطسُ أن يدعو لسامعه ويُشَمِّته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: «يغفرُ الله لنا ولكم» (1)، أو: «يهديكم الله ويصلح بالكم» (2). فأما الدعاء بالهداية، فلِمَا أنه اهتدى إلى طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ورَغِبَ عمَّا كان عليه أهلُ الجاهلية، فدعا له أن يثبِّته الله عليها، ويهديه إليها. وكذلك الدعاء بإصلاح البال، وهي حكمةٌ جامعةٌ لصلاح شأنه كلِّه، وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة، فناسبَ بأن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال. وأمَّا الدعاء بالمغفرة، فجاء بلفظٍ يشملُ العاطسَ والمشمِّت، كقوله: «يغفرُ الله لنا ولكم»، ليتحصَّل من مجموع دعوتَي العاطس والمشمِّت لهما المغفرةُ والرحمةُ معًا. فصلواتُ الله وسلامه على المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة. ولأجل هذا ــ والله أعلم ــ لم يُؤمَر بتشميت من لم يحمد الله (3)؛ فإن _________ (1) ورد هذا في أحاديث مرفوعة لا يثبتُ منها شيء، وصحَّ عن غير واحدٍ من الصحابة موقوفًا. انظر: «المستدرك» (4/ 266، 267)، و «عمل اليوم والليلة» للنسائي (212، 324، 225، 229)، و «علل ابن أبي حاتم» (2/ 243)، و «علل الدارقطني» (5/ 334). (2) أخرجه البخاري (6224) من حديث أبي هريرة. وهو أحسن وأصحُّ ما ورد في باب تشميت العاطس. (3) واختلفوا: هل يستحبُّ لمن عنده أن يذكِّره بالحمد؟ مال المصنف إلى عدم تذكيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكِّر الذي عطس ولم يحمد الله. انظر: «زاد المعاد» (2/ 442)، و «عارضة الأحوذي» (10/ 205)، و «الفتح» (10/ 611).

(3/1569)


الدعاء له بالرحمة نعمةٌ، فلا يستحقُّها من لم يحمد الله ويشكرَه على هذه النعمة، ويتأسَّى بأبيه آدم؛ فإنه لما نُفِخَت فيه الروحُ وبلغَت إلى خياشيمه عَطَسَ، فألهمه ربُّه تبارك وتعالى أنْ نَطَقَ بحمده، فقال: الحمدُ لله، فقال الله سبحانه: يرحمُك الله يا آدم (1). فصارت تلك سُنَّة العاطس (2)، فمن لم يحمد الله لم يستحقَّ هذه الدعوة. ولمَّا سبقت هذه الكلمةُ لآدم قبل أن يصيبه ما أصابه كان مآلُه إلى الرحمة، وكان ما جرى عارضًا وزالَ، فإنَّ الرحمة سبقت العقوبة وغلَبت الغضب. وأيضًا؛ فإنما أُمِرَ العاطسُ بالتحميد عند العطاس لأنَّ الجاهلية كانوا يعتقدون فيه أنه داء، ويكرهُ أحدُهم أن يعطس، ويودُّ أنه لم يصدُر منه، لِمَا في ذلك من الشُّؤم، وكان العاطسُ يحبسُ نفسَه عن العطاس، ويمتنعُ من ذلك جهدَه، من اعتقاد جُهَّالهم فيه. ولذلك ــ والله أعلم ــ بنَوا لفظَه على بناء الأدواء، كالزُّكام والسُّعال والدُّوار والسُّهام (3) وغيرها، فأُعْلِمُوا أنه ليس بداء، ولكنه أمرٌ يحبُّه الله، وهو _________ (1) كما تقدم (ص: 69). (2) كذا في الأصول. وفي (ط): «العطاس». (3) وهو الضُّمْر وتغيُّر اللون وذبول الشفتين. وهو أيضًا داءٌ يأخذ الإبل. «اللسان» (سهم).

(3/1570)


نعمةٌ منه يستوجبُ عليها من عبده أن يحمدَه عليها. وفي الحديث المرفوع: «إنَّ الله يحبُّ العطاسَ ويكرهُ التثاؤب» (1). والعطاس ريحٌ مختنقةٌ (2) تخرُج وتفتحُ السَّدَدَ من الكبد، وهو دليلُ خيرٍ للمريض (3)، مُؤْذِنٌ بانفراج بعض علَّته، وفي بعض الأمراض يُسْتَعْمَلُ ما يُعَطِّسُ العليل، ويُجْعَلُ نوعًا من العلاج ومُعِينًا عليه (4). وهذا (5) قدرٌ زائدٌ على ما أحبَّه الشارعُ من ذلك، وأمرَ بحمد الله عليه، وبالدعاء لمن صدرَ منه وحَمِدَ اللهَ عليه. ولهذا ــ والله أعلم ــ يقال: شمَّته، إذا قال له: يرحمك الله، وسمَّته، بالمعجمة وبالمهملة، وبهما رُوِي الحديث. فأمَّا التسميت ــ بالمهملة ــ، فهو تفعيلٌ من السَّمْت الذي يُرادُ به حسنُ الهيئة والوقار، فيقال: لفلانٍ سَمْتٌ حسن. فمعنى «سمَّتَّ العاطس»: وقَّرتَه وأكرمتَه وتأدَّبتَ معه بأدب الله ورسوله في الدعاء له، لا بأخلاق أهل الجاهلية من الدعاء عليه والتطيُّر به والتشاؤم منه. وقيل: «سمَّته»: دعا له أن يعيدَه الله إلى سَمْته قبل العُطاس من السُّكون والوقار وطمأنينة الأعضاء؛ فإنَّ في العُطاس من انزعاج الأعضاء واضطرابها _________ (1) أخرجه البخاري (6223) من حديث أبي هريرة. (2) (ت): «منخنقة». (3) (ق): «دليل جيد للمريض». (4) انظر: «زاد المعاد» (4/ 95، 96). (5) في الأصول: «هذا».

(3/1571)


ما يُخْرِجُ العاطسَ عن سَمْته، فإذا قال له السامع: «يرحمك الله»، فقد دعا له أن يعيدَه إلى سَمْته وهيئته (1). وأمَّا التشميت ــ بالمعجمة ــ، فقالت طائفةٌ منهم ابنُ السِّكِّيت وغيره: إنه بمعنى التسميت، وإنهما لغتان. ذكر ذلك في كتاب «القلب والإبدال» (2)، ولم يذكر أيهما الأصل، ولا أيهما البدل. وقال أبوعلي الفارسي: المهملة هي الأصلُ في الكلمة، والمعجمة بدلٌ منها. واحتجَّ بأن العاطسَ إذا عطس انتفَش وتغيَّر شكلُ وجهه، فإذا دعا له فكأنه أعاده إلى سَمْته وهيئته (3). وقال تلميذُه ابن جنِّي (4): لو جعَل جاعلٌ الشِّينَ المعجمة أصلًا، وأخذَه من الشَّوامت ــ وهي القوائم ــ لكان وجهًا صحيحًا، وذلك أنَّ القوائمَ هي التي تحملُ الفَرسَ ونحوه، وبها عِصمتُه، وهي قِوامُه، فكأنه إذا دعا له فقد أنهضَه وثبَّت أمرَه وأحكمَ دعائمَه. وأنشَد للنابغة (5): * طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدِ * (6) _________ (1) انظر: «القبس» (1145)، و «عارضة الأحوذي» (10/ 207). (2) (41 - الكنز اللغوي). (3) انظر: «شرح الحماسة» للمرزوقي (399). (4) في «التنبيه على شرح مشكلات الحماسة» (168، 169). وقد شرح ابن جني كتاب ابن السكيت في القلب والإبدال، فلا ريب أنه بسط ذلك هناك. (5) (ق، ت): «النابغة». (6) ديوانه (18). وصدر البيت: * فارتاع من صوت كلَّابٍ فبات له *

(3/1572)


وقالت طائفة منهم ابنُ الأعرابي: هو من قولهم: اشْتَمَتَتْ (1) الإبلُ، إذا حَسُنَت وسَمِنت. وقالت فرقةٌ أخرى: معنى «شمَّتَّ العاطس»: أزلتَ عنه الشَّماتة (2). يقال: مرَّضت العليل، أي: قُمت عليه ليزول مرضُه. ومثلُه: قذَّيت عينه، أزلت قذاها. فكأنه لما دعا له بالرحمة قد قصَد إزالةَ الشَّماتة عنه. ويُنْشَدُ في ذلك: ما كان ضرَّ المُمْرِضِي بجفونه ... لو كان مرَّضَ مُنْعِمًا مَن أَمْرَضا (3) وإلى هذا ذهب ثعلب (4). والمقصود: أنَّ التطيُّر من العُطاس (5) مِن فعل الجاهلية الذي أبطلَه الإسلام (6)، وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الله يحبُّ العطاس، كما في «صحيح _________ (1) (ت، د): «اشمت». تحريف. قال ابن الأعرابي: الاشتمات أول السِّمَن، وإبلٌ مشتمتة، إذا كانت كذلك. «التكملة» (شمت). (2) من قوله: «هو من قولهم» إلى هنا ساقط من (ق). (3) أثر الصنعة على البيت لائح، ولم أجده في مصدرٍ آخر. (4) انظر: «البيان والتحصيل» (17/ 141)، و «الاستذكار» (27/ 169)، و «التمهيد» (17/ 334)، وعنه ابن الجوزي في «غريب الحديث» (1/ 560)، و «كشف المشكل» (1/ 273). (5) (ت): «التطير بالعطاس». (6) في طرة (ق) حاشية بخط نعمان الآلوسي: «أقول: وشبيه هذا ما يعتقده الرافضة من التفاؤل بالعطستين والتشاؤم بالعطسة الواحدة، فإذا همَّ بفعلٍ فعطس هو أو غيره مرَّةً فإنه لا يمضي على فعله، أو مرَّتين فإنه يفعل، وهذا كاستخارتهم بالسبحة».

(3/1573)


البخاري» (1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله يحبُّ العطاسَ ويكرهُ التثاؤب، فإذا تثاءبَ أحدُكم فليستره ما استطاع، فإنه إذا فتحَ فاهُ فقال: آه آه، ضَحِك منه الشيطان». فصل وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»، فالمُمْرِضُ الذي إبلُه مِرَاض، والمُصِحُّ الذي إبلُه صِحَاح. وقد ظنَّ بعضُ الناس أن هذا معارضٌ لقوله: «لا عدوى ولا طِيَرة»، وقال: لعلَّ أحد الحديثين نسَخ الآخر، وأورد الحارثُ بن أبي ذُباب ــ وهو ابنُ عمِّ أبي هريرة رضي الله عنه ــ عليه جمعَه بين الرِّوايتين، وظنَّهما أنهما (2) متعارضتان. فروى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان أبو هريرة يحدِّثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»، ثمَّ حدَّثنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»، قال: فقال الحارثُ بن أبي ذُباب ــ وهو ابن عمِّ أبي هريرة ــ: قد كنتُ أسمعُك يا أبا هريرة تحدِّثنا حديثًا آخر قد سكتَّ عنه، كنتَ تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»، فأبى أبو هريرة أن يحدِّث بذلك، وقال: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح»، فماراه الحارثُ في ذلك حتى غضبَ أبو هريرة ورَطَنَ بالحبشيَّة، ثمَّ قال للحارث: أتدري ما قلتُ؟ قال: لا، قال: إني أقول: أبَيتُ أبَيتُ. فلا أدري (3) أنسي أبو هريرة أو نسَخ أحدُ _________ (1) (6223). (2) كذا في الأصول. (3) قائل هذا أبو سلمة.

(3/1574)


القولين الآخر؟ (1). قلت: قد اتفق مع أبي هريرة: سعدُ بن أبي وقاص (2)، وجابر بن عبد الله (3)، وعبدُ الله بن عباس (4)، وأنسُ بن مالك (5)، وعمير بن سلمة (6)، رضي الله عنهم، على روايتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولَه: «لا عدوى» (7). وحديثُ أبي هريرة محفوظٌ عنه بلا شكٍّ من رواية أوثق أصحابه وأحفظهم: أبي سلمة بن عبد الرحمن (8)، ومحمد بن سيرين (9)، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة (10)، والحارث بن أبي ذُباب (11). _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 1510). (2) تقدم تخريج حديثه (ص: 1511). (3) أخرجه مسلم (222). (4) أخرجه أحمد (1/ 328)، وابن ماجه (3539)، وغيرهما. (5) أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224). (6) كذا في الأصول، و «التمهيد» لابن عبد البر (24/ 196)، وهو مصدر المصنف. وهو تحريف. والصواب: «عمير بن سعد». أخرج حديثه ابن عبد البر، وأبو يعلى في «المسند» (1580)، و «المفاريد» (93)، وابن حبان في «الثقات» (3/ 300)، والطبراني في «الكبير» (17/ 54)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 250) من طريق حماد عن أبي طلحة الخولاني عنه. وفي إسناده ضعف. (7) وروي من حديث جماعةٍ آخرين من الصحابة. (8) أخرجها البخاري (5717، 5770)، ومسلم (2220، 2221). (9) أخرجه مسلم (2223). (10) أخرجه البخاري (5754)، ومسلم (2223). (11) كما في رواية مسلم (2221).

(3/1575)


ولم يتفرَّد أبو هريرة بروايته عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بل رواه معه من الصحابة من ذكرناه. وقوله: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» صحيحٌ أيضًا، ثابتٌ عنه - صلى الله عليه وسلم -. فالحديثان صحيحان، ولا نسخَ ولا تعارضَ بينهما بحمد الله، بل كلٌّ منهما له وجه. وقد طعَن أعداءُ السنَّة في أهل الحديث، وقالوا: يروُونَ الأحاديثَ التي ينقضُ بعضُها بعضًا ثمَّ يصحِّحونها، والأحاديث التي تخالفُ العقل. فانتدبَ أنصارُ السنة للردِّ عليهم، ونفي التعارض عن الأحاديث الصحيحة، وبيان موافقتها للعقل. قال أبو محمد بن قتيبة في كتاب «مختلف الحديث» (1) له: «قالوا: حديثان متناقضان. قالوا: رويتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا عدوى ولا طِيَرة»، وأنه قيل له: إنَّ النُّقْبةَ تقعُ بمِشْفَر البعير (2)، فتَجْرَبُ لذلك الإبل، فقال: «فما أعدى الأول؟» (3) هذا أو معناه. _________ (1) (80 - 84). (2) النُّقبة: أول شيء يظهر من الجرب. وجمعها: نُقْب. «النهاية» (نقب). (3) أخرجه أحمد (2/ 327)، وأبو يعلى (6112)، وغيرهما، من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة. وصححه ابن حبان (6119). وروي عن أبي زرعة عن صاحب له عن ابن مسعود. أخرجه أحمد (1/ 440). قال أبو حاتم في «العلل» (2/ 272): «وهو أشبه بالصواب». وانظر: «تاريخ يحيى بن معين» (3/ 571 - رواية الدوري).

(3/1576)


ثمَّ رويتم في خلاف ذلك: «لا يُورِد ذو عاهةٍ على مُصِحٍّ» (1)، و «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد» (2)، وأتاه رجلٌ مجذومٌ ليبايعَه بيعةَ الإسلام، فأرسلَ إليه البيعة (3)، وأمره بالانصراف (4)، ولم يأذن له (5)، وقال: «الشُّؤم في المرأة والدَّار والدابَّة» (6). قالوا: وهذا كلُّه مختلفٌ لا يُشْبِهُ بعضُه بعضًا. قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا اختلاف، ولكلِّ واحدٍ معنى في وقتٍ (7) وموضع، فإذا وُضِعَ موضعَه زال الاختلاف. والعدوى جنسان: أحدهما: عدوى الجُذام؛ فإنَّ المجذوم (8) تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمَ من أطال مجالستَه ومؤاكلتَه، وكذا المرأة تكونُ تحت المجذوم فتضاجعُه في شعارٍ واحد، فيوصِلُ إليها الأذى، وربَّما جُذِمَت، وكذلك ولدُه ينزِعون في _________ (1) أخرجه أبو عبيد في «غريب الحديث» (2/ 221) من مرسل أبي المليح. وتقدم بلفظ: «لا يورد ممرض على مصح»، وهو في «الصحيح». (2) تقدم تخريجه (ص: 1511). (3) «تأويل مختلف الحديث»: «بالبيعة». (4) تقدم تخريجه (ص: 1511). (5) «تأويل مختلف الحديث»: «ولم يأذن له عليه». (6) تقدم تخريجه (ص: 1493). (7) في الأصول: «فيها وقت». والمثبت من (ط). وفي «تأويل مختلف الحديث» و «زاد المعاد» (4/ 151): «ولكل معنى منها وقت». (8) في الأصول: «الجذام». وهو خطأ. والمثبت من «تأويل مختلف الحديث» و «زاد المعاد».

(3/1577)


الكِبَر إليه، وكذلك من به سِلٌّ ودِقٌّ ونُقْب (1). والأطباءُ تأمرُ أن لا يجالَس المجذومُ ولا المَسْلول، ولا يريدونَ بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون به معنى تغيُّر الرائحة، وأنها قد تُسْقِمُ من أطال اشتمامَها، والأطباءُ أبعدُ الناس من الإيمان بيُمْنٍ وشؤم (2). وكذلك النُّقْبةُ تكونُ بالبعير ــ وهو جَرَبٌ رطب ــ، فإذا خالطَ الإبلَ أو حاكَّها وأوى في مَبارِكها أوصَل إليها بالماء الذي يسيلُ منه والنَّطْف (3) نحوًا ممَّا به. فهذا هو المعنى الذي قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُورِد ذو عاهةٍ على مُصِحٍّ»، كَرِه أن يخالِط المَعْيُوهُ (4) الصحيحَ فيناله من نَطْفِه وحِكَّته نحوٌ ممَّا به. قال: وقد ذهب قومٌ إلى أنه أراد بذلك أن لا يظُنَّ أنَّ الذي نال إبلَه من ذوات العاهة، فيأثَم. وليس لهذا عندي وجهٌ إلا الذي خبَّرتُك به عِيانًا (5). _________ (1) السِّل: مرضٌ يصيب الرئة يهزل صاحبه ويضنيه ويقتله. وحمَّى الدِّق: حمَّى تصاحب السِّل غالبًا. والنُّقب: الجرب. (2) انظر: «زاد المعاد» (4/ 130). (3) وهو القَطْر. نَطَفَ الكوزُ: قَطَر. «اللسان» (نطف). (4) في الأصول: «المعتوه». وهو تحريف. المعتوه: ناقص العقل. ولا موضع له هنا. وغيرت في (ط) إلى: «المصاب». والمثبت من «تأويل مختلف الحديث»، و «زاد المعاد». والعاهة: الآفة. وعاهَ المالُ: أصابته العاهة. وأرضٌ معيوهة. ويقال: مَعُوه، ومعهوه. «اللسان» (عيه). (5) «تأويل مختلف الحديث»: «لأنا نجد الذي أخبرتك به عيانًا».

(3/1578)


وأمَّا الجنسُ الآخرُ من العدوى، فهو الطاعون ينزلُ ببلد، فيخرجُ منه خوفَ العدوى. حدثني سهل بن محمد، قال: حدثني الأصمعي، عن بعض البصريِّين: أنه هرَب من الطاعون، فركب حمارًا، ومضى بأهله نحو سَفَوان (1)، فسمع حاديًا يحدُو خلفَه وهو يقول: لنْ يُسْبَقَ اللهُ على حمارِ ... ولا على ذي مَيْعَةٍ مُطَارِ (2) أو يأتيَ الحتفُ على مقدارِ ... قد يُصْبِحُ اللهُ أمامَ السَّاري (3) وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان بالبلد الذي أنتم فيه فلا تخرُجوا منه»، وقال: «إن كان ببلدٍ فلا تدخلوه» (4)، يريد بقوله: «لا تخرُجوا من البلد إذا كان فيه» كأنكم تظنُّون أنَّ الفرارَ من قَدَر الله ينجيكم من الله، ويريد [بقوله]: «إن كان ببلدٍ فلا تدخلوه» أنَّ مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكنُ لأنفسكم، وأطيبُ لمعيشتكم. ومن ذلك: المرأةُ تُعْرَفُ بالشُّؤم، أو الدار، فينالُ الرجلَ مكروهٌ أو جائحة، فيقول: أعْدَتْني بشؤمها. فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى». _________ (1) ماءٌ على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة. «معجم البلدان» (3/ 225). (2) الميعة: أنشطُ الجري. والمُطار: الحديد الفؤاد، الماضي. ويصح أن تقرأ بفتح الميم وتشديد الطاء، بمعنى السريع العدو. (3) الخبر والبيتان في «الحيوان» (3/ 461)، و «البيان والتبين» (3/ 278)، و «التعازي والمراثي» (218)، و «أمالي المرتضى» (4/ 112)، وغيرها. (4) أخرجهما البخاري (3473)، ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد.

(3/1579)


فأمَّا الحديثُ الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] أنه قال: «الشُّؤم في المرأة والدَّار والدَّابة»، فإنَّ هذا الحديثَ يُتَوهَّمُ فيه الغلطُ على أبي هريرة، وأنه سمع فيه شيئًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يَعِه. حدثني محمد بن يحيى القُطَعي: حدَّثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسَّان الأعرج: أنَّ رجلين دخلا على عائشة، فقالا: إنَّ أبا هريرة رضي الله عنه يحدِّثُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما الطِّيَرة في المرأة والدار والدابَّة»، فطارت شِقَقًا (1)، ثمَّ قالت: كذَبَ ــ والذي أنزل الفرقَان على أبي القاسم ــ من حدَّث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان أهلُ الجاهلية يقولون: إنَّ الطِّيَرة في الدَّابَّة والمرأة والدار»، ثمَّ قرأَت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]. حدثني أبي (2)، قال: حدَّثني أحمد بن الخليل، حدَّثنا موسى بن مسعود النَّهدي، عن عكرمة بن عمَّار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنَّا نزلنا دارًا فكَثُرَ فيها عَدَدنا، وكثرت فيها أموالُنا، ثمَّ تحوَّلنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالُنا، وقلَّ فيها عَدَدنا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) أي: قِطَعًا. وفي (ق) ومطبوعة «تأويل مختلف الحديث»: «شفقا». (ت): «سعفا». وكله تحريف. وتقدم أنها كنايةٌ عن الغضب، كأنها تشقَّقت من شدَّته. (2) قائل هذا هو أحمد بن عبد الله بن قتيبة. وهو راوية كتب أبيه. وابن قتيبة يروي عن أحمد بن الخليل دون واسطة، وهو من شيوخه الذين أكثر عنهم. ولم ترد «حدثني أبي» في مطبوعتي «تأويل مختلف الحديث» و «عيون الأخبار» (1/ 150).

(3/1580)


«ذَرُوها (1)، وهي ذميمة» (2). قال أبو محمد: وهذا ليس ينقضُ الحديثَ الأول، ولا الحديثُ الأولُ ينقضُ هذا، وإنما أمَرهم بالتحوُّل منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقالٍ لظلِّها، واستيحاشٍ لِمَا نالهم فيها، فأمرهم بالتحوُّل، وقد جعَل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقالَ ما نالهم السوءُ فيه وإن كان لا سببَ له في ذلك، وحُبَّ من جرى على يده الخيرُ لهم وإن لم يُرِدْهم به، وبغضَ من جرى على يده الشرُّ لهم وإن لم يُرِدْهم به، وكيف يتطيَّر - صلى الله عليه وسلم - والطِّيَرة من الجِبْت؟! وكان كثيرٌ من الجاهليَّة لا يرونها شيئًا، ويمدحونَ من كذَّب بها». ثمَّ أنشَد ما ذكرنا من الأبيات سالفًا (3). ثمَّ قال: حدثنا إسحاق بن راهويه: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أبي أمية، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ لا يَسْلَمُ منهنَّ أحد: الطِّيَرة والظنُّ والحسد»، قيل: فما المخرجُ منهن؟ قال: «إذا تطيَّرتَ فلا ترجِع، وإذا ظننتَ فلا تحقِّق، وإذا حسدتَ فلا تَبْغِ» (4). هذه الألفاظ أو نحوها. حدثني أبو حاتم، قال: حدثنا الأصمعي، عن سعيد بن سَلْم (5)، عن _________ (1) «تأويل مختلف الحديث»: «ارحلوا عنها وذروها». (2) تقدم تخريجه (ص: 1493). (3) (ص: 1471، 1472). (4) تقدم تخريجه (ص: 1472). (5) (ت) ومطبوعة «تأويل مختلف الحديث»: «مسلم». وهو تحريف. وهو سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي.

(3/1581)


أبيه، أنه كان يَعْجَبُ ممَّن يصدِّقُ بالطِّيَرة، ويعيبُها أشدَّ العيب، وقال: فَرَقَت لنا ناقةٌ وأنا بالطَّفِّ (1)، فركبتُ في إثرها، فلقيني هاناء بن عبيد من بني وائل وهو مسرع، وهو يقول: * والشرُّ يُلْقَى مطالعَ الأكَم * (2) ثمَّ لقيني آخرُ من الحيِّ، وهو يقول: ولئن بَغَيْتُ (3) لهم بُغا ... ةً ما البُغاةُ بواجِدينا (4) ثمَّ دفَعنا إلى غلامٍ قد وقعَ في صغره في نار، فأحرقَته، فقبُح وجهُه (5) وفَسَد، فقلتُ له: هل ذكرتَ من ناقةٍ فارِق؟ قال: هاهنا أهلُ بيتٍ من الأعراب، فانظُر، فنظرتُ فإذا هي عندهم وقد أنتجَت، فأخذناها وولدَها. قال أبو محمد: الفارِق: التي حَمَلَت ففارقَت صواحبَها. _________ (1) أرضٌ من ضاحية الكوفة. انظر: «معجم البلدان» (4/ 36). ووقع في الأصول: «بالطائف». وهو بعيد. والمثبت من «تأويل مختلف الحديث» و «عيون الأخبار» (1/ 145) و «التمهيد» (24/ 197) حيث روى الخبر من طريق ابن قتيبة. (2) أي: الشرُّ ظاهرٌ بارز. انظر: «تهذيب اللغة» (2/ 174)، و «أساس البلاغة» (طلع). وهو عجز بيت للنابغة الجعدي في ديوانه (150)، وصدره: * من عهد ما أورثت حبيبه * (3) كذا في الأصول، ومطبوعتي «تأويل مختلف الحديث»، و «الحيوان» (3/ 450). وفي ديوان لبيد، و «عيون الأخبار»، و «نثر الدر» (7/ 237)، وإحدى نسخ «الحيوان»: «بعثت»، وهي أجود. (4) البيت للبيد في «ديوانه» (323). (5) (ت، ص): «فقيح وجهه» بالياء آخر الحروف.

(3/1582)


وقال عكرمة: كنَّا جلوسًا عند ابن عباس، فمرَّ طائرٌ يصيح، فقال رجل: خَيْر خَيْر، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر (1). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحبُّ الاسمَ الحسن، والفألَ الصالح. حدثني الرِّياشي: حدثنا الأصمعي، قال: سألتُ ابن عون عن الفأل؟ فقال: هو أن يكونَ مريضًا فيسمع: يا سالم، أو يكون باغيًا (2) فيسمع: يا وَاجِد (3). وهذا أيضًا مما جُعِل في غرائز الناس وتركيبهم استحبابُه (4) والأنسُ به، وكما جُعِل على الألسنة من التحيَّة بالسَّلام، والمَدِّ في الأمنية، والتبشير بالخير، وكما يقال: انعَم، واسْلَم، وأَنعِمْ صباحًا، وكما تقول الفُرس: عِشْ ألفَ نَوْرُوز (5). والسامعُ لهذا يعلمُ أنه لا يقدِّمُ ولا يؤخِّر، ولا يزيدُ ولا ينقص، ولكن جُعِل في الطِّباع محبةُ الخير، والارتياحُ للبشرى والمنظر الأنيق والوجه الحسن والاسم الخفيف (6). وقد يمرُّ الرجلُ بالروضة المنوِّرة فتسرُّه وهي لا تنفعه، وبالماء الصافي فيُعْجَبُ به وهو لا يشربُه ولا يَرِدُه. _________ (1) تقدم (ص: 1489). (2) طالبًا يطلب شيئًا. (3) تقدم (ص: 1522). (4) (ت، ص): «استحسانه». (5) أوَّل يوم من السنة الشمسية عندهم، وهو من أعيادهم. «التاج» (نرز). (6) (ص، ت): «والاسم الحسن».

(3/1583)


وفي بعض الحديث أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعْجَبُ بالأترجِّ، ويعجبه الحَمَامُ الأحمر (1)، وتعجبه الفاغِيةُ (2)، وهو نَوْرُ الحنَّاء. وهذا مثلُ إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن. وعلى حسب هذا كانت كراهتُه الاسمَ القبيح، كبني النار، وبني حُرَاق (3)، وأشباه هذا. انتهى كلامه (4). وقد سلك أبو عمر ابن عبد البرِّ في هذا الحديث نحوًا من مسلك أبي محمد بن قتيبة، فقال: أمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى»، فهو نهيٌ أن يقول أحد: إنَّ شيئًا يُعْدِي شيئًا، وإخبارٌ أنَّ شيئًا لا يُعْدِي شيئًا، فكأنه قال: لا يُعْدِي شيءٌ شيئًا. يقول: لا يصيبُ أحدٌ من أحدٍ شيئًا من خُلُقٍ أو فعلٍ أو داءٍ أو مرض. وكانت العربُ تقول في جاهليَّتها في مثل هذا: إنه إذا اتصل شيءٌ من ذلك بشيءٍ أعداه، فأخبرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ قولهم واعتقادَهم في ذلك ليس كذلك، ونهى عن ذلك القول؛ إعلامًا منه بأنَّ ما اعتَقَد من ذلك من _________ (1) أخرجه والذي قبله الطبراني في «الكبير» (22/ 339)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 221)، وابن حبان في «المجروحين» (3/ 148)، وغيرهم من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه بإسنادٍ شديد الضعف. وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (1357). وروي من أوجه أخرى مظلمة لا يصلح شيءٌ منها للاعتبار. انظر: «السلسلة الضعيفة» (1393). (2) تقدم تخريجه (ص: 1517). (3) انظر: «سيرة ابن هشام» (3/ 160)، و «البداية والنهاية» (5/ 69). (4) «تأويل مختلف الحديث» (80 - 84).

(3/1584)


اعتَقَد منهم كان باطلًا (1). قال: وأمَّا المُمْرِضُ: فالذي إبلهُ مِراض، والمُصِحُّ: الذي إبلهُ صِحاح. وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: يُكرَه (2) أن يدخُل المريضُ على الصَّحيح منها (3). وليس به إلا قولُ الناس (4). فأشار إلى أن المنع من ذلك سدًّا لذريعة قول الناس (5)، وحمايةً للقلب مما يستبقُ إليه من الأفهام ويقعُ فيه من التطيُّر والتشاؤم بذلك. وقد قال أبو عبيد قولًا قريبًا من ذلك، فقال: قوله في هذا الحديث: «إنه أذى» أي: إيرادَ المُمْرِض على المُصِحِّ. فقال: معنى الأذى عندي المأثم (6). يعني أنَّ المُورِدَ يأثم بأذاه من أورَد عليه، وتعريضِه للتشاؤم والتطيُّر. وقد سلك بعضُهم مسلكًا آخر، فقال: ما يُخْبِرُ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أحدُهما: يخبِرُ به عن الوحي، فهذا خبرٌ مُطابِقٌ لمخبَره من جميع الوجوه، ذهنًا وخارجًا، وهو الخبرُ المعصوم. والثاني: ما يخبِرُ به عن ظنِّه من أمور الدنيا التي هم أعلمُ بها منه، فهذا ليس في رتبة النوع الأول، ولا تثبتُ له أحكامُه. _________ (1) «التمهيد» (24/ 200)، و «الاستذكار» (27/ 57). (2) في «جامع ابن وهب» (629): «قد كنا نكره». (3) «منها» ليست في «التمهيد» و «الاستذكار» و «جامع ابن وهب». (4) «التمهيد» (24/ 200)، و «الاستذكار» (27/ 57). (5) «قول الناس» ليست في (ت). (6) «غريب الحديث» (2/ 223).

(3/1585)


وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه الكريمة بذلك تفريقًا بين النوعين، فإنه لما سمع أصواتَهم في النَّخل وهم يؤبِّرونها ــ وهو التلقيح ــ قال: «ما هذا؟» فأخبروه بأنهم يلقِّحونها، فقال: «ما أرى لو تركتموه يضرُّ شيئًا»، فتركوه، فجاءَ شِيصًا، فقال: «إنما أخبرتكم عن ظنِّي، وأنتم أعلمُ بأمور دنياكم، ولكنْ ما أخبرتكم عن الله» (1). والحديثُ صحيحٌ مشهور، وهو من أدلَّة نبوَّته وأعلامها؛ فإنَّ من خفي عليه مثلُ هذا من أمر الدنيا وما أجرى اللهُ به عادته فيها، ثمَّ جاء من العلوم التي لا يمكنُ للبشر أن تطَّلع عليها (2) البتَّة إلا بوحيٍ من الله، فأخبرَ عمَّا كان، وما يكون، وما هو كائنٌ من لَدُن خَلْقِ العالم إلى أن استقرَّ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وعن غيب السموات والأرض، وعن كلِّ سببٍ دقيقٍ أو جليلٍ تُنالُ به سعادةُ الدارين، وكلِّ سببٍ دقيقٍ أو جليلٍ تُنالُ به شقاوةُ الدارين، وعن مصالح الدنيا والآخرة وأسبابهما، ومفاسد الدنيا والآخرة وأسبابهما. مع كون معرفتهم بالدنيا وأمورها وأسباب حصولها ووجوه تمامها أكثرَ من معرفته، كما أنهم أعرفُ بالحساب والهندسة والصِّناعات والفِلاحة وعمارة الأرض والكتابة. فلو كان ما جاء به مما ينالُ بالتعلُّم والتفكُّر والنظر (3) والطُّرق التي يسلُكها الناسُ لكانوا أولى به منه، وأسبقَ إليه؛ لأنَّ أسبابَ ما ينالُ بالفكرة _________ (1) أخرجه مسلم (2361، 2362، 2363). (2) (ت): «لايمكن البشر الاطلاع عليها». (3) (ق): «والتطير». وهو تحريف.

(3/1586)


والكتابة والحساب والنظر والصِّناعات بأيديهم. فهذا من أقوى براهين نبوَّته وآيات صدقه، وأنَّ هذا الذي جاء به لا صُنْعَ للبشر فيه البتَّة، ولا هو مما ينالُ بسعيٍ وكسبٍ وفكرٍ ونظر، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنزلَه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. قالوا: فهكذا إخباره عن عدم العدوى إخبارٌ عن ظنِّه، كإخباره عن عدم تأثير التلقيح، لا سيَّما وأحدُ البابين قريبٌ من الآخر، بل هو في النوع (1)، فإنَّ اتصال الذَّكر بالأنثى وتأثُّره به كاتِّصال المُعْدى بالمُعْدي وتأثُّره به، ولا ريب أنَّ كليهما من أمور الدنيا لا مما يتعلَّق به حكمٌ من أحكام الشرع، فليس الإخبارُ به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه. قالوا: فلمَّا تبيَّن له - صلى الله عليه وسلم - من أمر الدنيا الذي أجرى الله سبحانه عادتَه به ارتباطَ هذه الأسباب بعضها ببعض، وتأثيرَ التلقيح في صلاح الثمار، وتأثيرَ إيراد المُمْرِض على المُصِحِّ= أقرَّهم على تأبير النخل، ونهاهم أن يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ. قالوا: وإن سمِّي هذا نسخًا بهذا الاعتبار فلا مشاحَّة في التسمية إذا ظهر المعنى، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسَخ أحدُ القولين الآخر؟ يعني تحديثَه (2) بالحديثين؛ فجوَّز أبو سلمة النسخَ في ذلك مع أنه خبر، وهو بما ذكرنا من الاعتبار. _________ (1) (ط): «في النوع واحد». (2) الحرف الأول مهمل في الأصول. وفي (ط): «بحديثه». وسقطت «يعني» من (ت).

(3/1587)


وهذا المسلكُ حسن، لولا أنه قد اجتمع الفصلان (1) في حديثٍ واحد، كما في «موطأ مالك» أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن ابن عطية أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى ولا هامَ ولا صفَر، ولا يَحْلُل المُمْرِضُ على المُصِحِّ، وليَحْلُل المُصِحُّ حيث شاء»، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه أذى» (2). وقد يجابُ عن هذا بجوابين: أحدُهما: أنَّ الحديثَ لا يثبت؛ لوجهين: أحدهما: إرسالُه. والثاني: أنَّ ابنَ عطية هذا ــ ويقال: أبو عطية ــ مجهولٌ لا يُعْرَفُ إلا في هذا الحديث. الجواب الثاني: قولُه فيه: «لا عدوى» نهيٌ لا نفي، أي: لا يُعْدِ (3) المُمْرِضُ المُصِحَّ (4) بحلوله عليه. ويدلُّ على ذلك ما رواه أبو عمر النمري (5): حدَّثنا خلف بن القاسم: حدثنا محمد بن عبد الله: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا أبو هشام _________ (1) «الفصلان» ليست في (ت، ص). (2) تقدم تخريجه (ص: 1510). (3) في الأصول: «يعدي». بإثبات حرف العلة. هنا وفي الموضع الآتي. وحذفتها على الجادة، وليفهَم سياقُ الكلام. (4) (ت، ص، ق): «على المصح». والمثبت أشبه. (5) في «التمهيد» (24/ 189، 190).

(3/1588)


الرفاعي: حدثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: قال مالك: إنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن أبي عطية أو ابن عطية ــ شكَّ بِشْر ــ، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طِيَرة ولا هامَ، ولا يُعْدِ سقيمٌ صحيحًا، وليحلَّ المُصِحُّ حيث شاء». ففي هذا النهيِ (1) كالإثبات للعدوى والنهي عن أسبابها، ولعل بعضَ الرواة رواه بالمعنى، فقال: لا عدوى ولا طيَرة ولا هامَ، وإنما مخرجُ الحديث النهيُ عن العدوى، لا نفيُها. وهذا أيضًا حسنٌ لولا حديثُ ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن أعدى الأول؟» (2). فهذا الحديثُ قد فهمَ منه السامعُ النفي، وأقرَّه عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا استشكَل نفيَه، وأوردَ ما أورده، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بما يتضمنُ إبطالَ الدعوى، وهو قولُه: «فمن أعدى الأول؟». وهذا أصحُّ من حديث أبي عطية المتقدِّم. وحينئذٍ، فيُرجَعُ (3) إلى مسلك التلقيح المذكور آنفًا، أو ما قبله (4) من المسالك. _________ (1) (ق): «النفي». وهو تحريف. (2) تقدم تخريجه (ص: 1576). (3) (ت): «فلنرجع». (4) في الأصول: «أو قبله». والمثبت من (ط).

(3/1589)


وعندي في الحديثين مسلكٌ آخر يتضمَّن إثباتَ الأسباب والحِكَم، ونفيَ ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل، ووقوعَ النفي والإثبات على وجهه، فإنَّ القوم (1) كانوا يثبتونَ العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل، كما يقوله المنجِّمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسُعودها ونحوسها، كما تقدَّم الكلامُ عليهم. ولو قالوا: إنها أسبابٌ أو أجزاءُ أسبابٍ إذا شاء الله صرَف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته، وإنها مسخَّرةٌ بأمره لِمَا خُلِقَت له، وإنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربَط بها مسبَّباتها، وجعَل لها أسبابًا أخرَ تعارضها وتمانعها، وتمنعُ اقتضاءها لِمَا جُعِلَت أسبابًا له. وإنها لا تقتضي مسبَّباتها إلا بإذنه ومشيئته وإرادته، ليس لها من ذاتها ضرٌّ ولا نفعٌ ولا تأثيرٌ البتَّة، إنْ هي إلا خلقٌ مسخَّرٌ مصرَّفٌ مربوب، لا تتحركُ إلا بإذن خالقها ومشيئته، وغايتُها أنها جزءُ سببٍ، ليست سببًا تامًّا، فسببيَّتها من جنس سببيَّة وطء الوالد في حصول الولد، فإنه جزءٌ واحدٌ من أجزاء كثيرةٍ من الأسباب التي خلقَ الله بها الجنين، وكسببيَّة شَقِّ الأرض وإلقاء البَذْر، فإنه جزءٌ يسيرٌ من جملة الأسباب التي يكوِّنُ الله بها النبات، وهكذا جملةُ أسباب العالَم من الغذاء والدواء والعافية والسَّقم وغير ذلك. وإنَّ الله سبحانه يجعلُ من ذلك سببًا ما يشاء ويبطلُ السببيَّةَ عمَّا يشاء، ويخلقُ من الأسباب المعارضة له ما يحولُ بينه وبين مقتضاه. فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه (2) لما أُنكِرَ عليهم. _________ (1) غير بيِّنة في (ق، ت). (د): «العوام». تحريف. والمثبت من (ص). (2) (ص): «الحكم».

(3/1590)


كما أنَّ ذلك ثابتٌ في الداء والدواء، وقد تداوى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالتَّداوي (1)، وأخبر أنَّ ما أنزَل اللهُ داءً إلا أنزَل له دواءً، إلا الهَرَم (2)، فأعلمَنا أنه خالقُ أسباب الداء وأسباب الدواء المعارِضة المقاوِمة لها، وأمرَنا بدفع تلك الأسباب المكروهة بهذه الأسباب. وعلى هذا قيامُ مصالح الدارين، بل الخلقُ والأمرُ مبنيٌّ على هذه القاعدة، فإنَّ تعطيلَ الأسباب وإخراجَها عن أن تكون أسبابًا تعطيلٌ للشرع ومصالح الدنيا، والاعتمادَ عليها والركونَ إليها واعتقادَ أنَّ المسبَّبات بها وحدها وأنها أسبابٌ تامةٌ= شركٌ بالخالق عزَّ وجلَّ وجهلٌ به وخروجٌ عن حقيقة التوحيد، وإثباتُ سببيَّتها على الوجه الذي خلقها اللهُ عليه وجعلها له إثباتٌ للخلق والأمر، للشرع والقدر، للسبب والمشيئة، للتوحيد والحكمة (3). فالشارعُ يثبتُ هذا ولا ينفيه، وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك. ويُشْبِهُ هذا نفيُه سبحانه وتعالى الشفاعةَ في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ _________ (1) انظر: «زاد المعاد» (4/ 10، 13 - 17). (2) أخرجه أحمد (4/ 278)، وأبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436)، وغيرهم من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه. وصححه الترمذي، وابن حبان (486)، والحاكم (4/ 400) ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1383، 1384، 1385). (3) انظر: «تلبيس إبليس» (282)، و «مجموع الفتاوى» (1/ 131، 8/ 70، 139، 169 - 180، 10/ 257)، و «منهاج السنة» (5/ 366)، و «مدارج السالكين» (1/ 244، 3/ 499)، و «طريق الهجرتين» (391).

(3/1591)


عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وفي الآية الأخرى: {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، وفي قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وإثباتُها في قوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]. فإنه سبحانه نفى الشفاعةَ الشِّركيَّة التي كانوا يعتقدونها وأمثالُهم من المشركين، وهي شفاعةُ الوسائط لهم عند الله في جلب ما ينفعُهم ودفع ما يضرُّهم بذواتها وأنفسها بدون توقُّف ذلك على إذن الله ومرضاته لمن شاء أن يَشْفَعَ فيه الشافع، فهذه الشفاعةُ التي أبطلَها اللهُ سبحانه ونفاها، وهي أصلُ الشرك كلِّه، وقاعدتُه التي عليها بناؤه، وآخيَّتُه (1) التي يَرجِعُ إليها. وأثبتَ سبحانه الشفاعةَ التي لا تكونُ إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع قولِه وعملِه، وهي الشفاعةُ التي تُنال بتجريد التوحيد، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أسعدُ الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه» (2). والشفاعةُ الأولى هي الشفاعةُ التي ظنَّها المشركون، وجعلوا الشرك وسيلةً إليها. فالمقامات ثلاثة: أحدها: تجريدُ التوحيد، وإثباتُ الأسباب، وهذا هو الذي جاءت به الشرائع، وهو مطابقٌ للواقع في نفس الأمر. _________ (1) غير محرَّرة في (ق). (ط): «أخبيته». وهو تحريف. وتقدم شرحها. (2) أخرجه البخاري (99) من حديث أبي هريرة.

(3/1592)


الثاني: الشرك في الأسباب بالمعبود (1)، كما هو حالُ المشركين على اختلاف أصنافهم. الثالث: إنكارُ الأسباب بالكلِّية محافظةً من مُنكِرها على التوحيد. فالمنحرفون طرفان مذمومان؛ إمَّا قادحٌ في التوحيد بالأسباب، وإمَّا منكِرٌ للأسباب بالتوحيد، والحقُّ غيرُ ذلك، وهو إثباتُ التوحيد والأسباب، وربطُ أحدهما بالآخر، فالأسبابُ محلُّ حكمه الدِّينيِّ والكوني، والحُكمان عليها يجريان، بل عليها يترتَّب الأمرُ والنهي، والثوابُ والعقاب، ورضا الربِّ وسخطه، ولعنته وكرامته. والتوحيدُ تجريدُ الربوبية والإلهية عن كلِّ شرك. فإنكارُ الأسباب إنكارٌ لحكمته، والشركُ بها قدحٌ في توحيده، وإثباتُها والتعلُّقُ بالمسبِّب (2) والتوكُّلُ عليه والثقةُ به والخوفُ منه والرجاءُ له وحده هو محضُ التوحيد والمعرفة. ففرقٌ (3) بين ما أثبته الرسولُ وبين ما نفاه، وبين ما أبطله وبين ما اعتبره، فهذا لونٌ وهذا لون، والله الموفِّق للصواب. فصل ويُشْبِهُ هذا ما رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن وطء الغَيْل، وهو وطء المرأة إذا _________ (1) (ص، ق): «بالمعهود». (ت): «بالعهود». والمثبت من (د). (2) (ق): «بالسبب». وهو تحريفٌ فاحش. (3) في الأصول: «تفرق». وهو تحريف.

(3/1593)


كانت تُرضِع، وأنه يشبهُ قتلَ الولد سرًّا، وأنه يُدْرِكُ الفارسَ فيُدَعْثِرُه (1). وقوله في حديثٍ آخر: «لقد هممتُ أن أنهى عنه، ثمَّ رأيتُ فارسَ والروم يفعلونه ولا يضرُّ ذلك أولادَهم شيئًا» (2). وقد قيل: إنَّ أحدَ الحديثين منسوخٌ بالآخر، وإن لم نعلَم عَيْنَ الناسخ منهما من المنسوخ، لعدم علمنا بالتاريخ. وقيل ــ وهو أحسن ــ: إنَّ النفيَ والإثباتَ لم يتواردا على محلٍّ واحد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخبَر في أحد الجانبين أنه يفعَل في الولد مثلَ ما يفعَل من يصرعُ الفارسَ عن فرسه، كأنه يُدَعْثِرُه ويصرعُه، وذلك يوجبُ نوعَ وَهْن (3)، ولكنه ليس بقتلٍ للولد وإهلاكٍ له، وإن كان قد يترتبُ عليه نوعُ أذًى للطفل؛ فأرشدَهم إلى تركه، ولم ينهَ عنه، بل قال: «علامَ يفعلُ أحدُكم ذلك؟» (4)، ولم يقل: لا تفعلوه، فلم يجئ عنه - صلى الله عليه وسلم - لفظٌ واحدٌ بالنهي عنه. ثمَّ عزَمَ على النهي سدًّا لذريعة الأذى الذي ينالُ الرضيع، فرأى أنَّ سدَّ هذه الذريعة لا يقاوم المفسدةَ التي تترتبُ على الإمساك عن وطء النساء مدَّة الرضاع، ولاسيَّما من الشَّباب وأرباب الشَّهوة التي لا يَكْسِرُها إلا مواقعةُ نسائهم. _________ (1) أخرجه أحمد (6/ 453)، وأبو داود (3881)، وابن ماجه (2012)، وغيرهم من حديث أسماء بنت يزيد. وصححه ابن حبان (5984)، وحسنه ابن حجر في «الإصابة» (7/ 498). و «يدعثره»: يصرعه ويهلكه. «النهاية» (دعثر). (2) أخرجه مسلم (1442) من حديث جدامة بنت وهب. (3) (ق): «نوع نهي». (4) لم أجده.

(3/1594)


فرأى أنَّ هذه المصلحةَ أرجحُ من مفسدة سدِّ الذريعة بوطئهنَّ (1)، ورأى الأمَّتين اللتين هما من أكثر الأمم وأشدِّها بأسًا يفعلونه ولا يتَّقونه، مع قوَّتهم وشدَّتهم، فأمسَك عن النهي عنه. فلا تعارضَ إذًا بين الحديثين، ولا ناسخَ منهما ولا منسوخ، والله أعلم بمراد رسوله (2). فصل ويُشْبِهُ هذا قولُه - صلى الله عليه وسلم - (3) للذي قال له: إنَّ لي أمَةً، وأنا أكرهُ أن تحبَل، وإني أعزِلُ عنها، فقال: «سيأتيها ما قُدِّرَ لها» (4). فليس بين هذه الأحاديث تعارض، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إنَّ الولدَ يُخْلَقُ من غير ماء الواطاء، بل أخبر أنه سيأتيها ما قُدِّر لها ولو عَزَل، فإنه إذا قُدِّرَ خلقُ الولد قُدِّرَ سبقُ الماء والواطاءُ لا يشعر، بل يخرجُ منه ماءٌ يمازجُ ماءَ المرأة لا يشعُر به يكونُ سببًا في خلق الولد. ولهذا قال: «ليس من كلِّ الماء يكونُ الولد» (5)، فلو خرج منه نطفةٌ لا _________ (1) غير محررة في الأصول، رسمها يشبه: «وطرين». وفي (ط): «فنظر». (2) انظر: «تحفة المودود» (192)، و «زاد المعاد» (5/ 147). (3) فيما أخرجه مسلم (1439) من حديث جابر. (4) هاهنا بياض في (د) بمقدار سطرين ونصف، كأنَّ المصنف تركه في أصله ليكتب الأحاديث التي تدلُّ على أن الولد يخلق من ماء الرجل والمرأة، وظاهرها يوهمُ معارضة هذا الحديث. ويدل لذلك قوله: «فليس بين هذه الأحاديث تعارض»، وهو إنما أورد حديثًا واحدًا لا معارض له. (5) أخرجه مسلم (1438) من حديث أبي سعيد الخدري.

(3/1595)


يُحِسُّ بها لجعلها اللهُ مادةً للولد (1). قلت: مادةُ الولد [غير] مقصورةٍ على وقوع الماء بجملته في الرَّحم، بل إذا قدَّر الله خَلْقَ الولد من الماء فلو وُضِعَ على صخرةٍ لخُلِقَ منه الولد. كيف، والذي يعزِلُ في الغالب إنما يلقي ماءه قريبًا من الفرج، وذلك إنما يكونُ غالبًا عندما يحسُّ بالإنزال، وكثيرًا ما ينزلُ بعضُ الماء ولا يشعُر به، فينزلُه خارجَ الفرج ولا شعورَ له بما ينزلُ في الفرج، ولا بما خالطَ ماءَ المرأة منه. وبالجملة؛ فليس سببُ خلقِ الولد مقصورًا على الإنزال التَّامِّ في الفرج. ولقد حدَّثني غيرُ واحدٍ ممَّن أثقُ به أنَّ امرأته حَمَلَت مع عزله عنها لرضاعٍ وغيره، ورأيتُ بعض أولادهم ضعيفًا ضئيلًا. فصلواتُ الله وسلامه على من يصدِّقُ كلامُه بعضُه بعضًا، ويشهدُ بعضُه لبعض، فالاختلافُ والإشكالُ والاشتباهُ إنما هو في الأفهام، لا فيما خرجَ من بين شفتيه من الكلام. والواجبُ على كلِّ مؤمنٍ (2) أن يَكِلَ ما أشكَل عليه إلى أصدق قائل، ويعلمَ أنَّ فوق كلِّ ذي علمٍ عليم (3)، وأنه لو اعترَض على ذي صناعةٍ أو علمٍ من العلوم التي استنبطتها معاولُ الأفكار ولم يُحِط علمًا بتلك الصِّناعة والعلم، لأزرى على نفسه، وأضحَك صاحبَ تلك الصِّناعة والعلم على عقله. _________ (1) انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 297، 298). (2) (ت): «مسلم». (ص): «عاقل». (3) كذا في الأصول، على الحكاية.

(3/1596)


والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ المقتضي في موضعٍ والمانعَ في موضعٍ آخر، ويُثْبِتُ الشيءَ في موضعٍ وينفي مثلَه في الصُّورة وعكسَه في الحقيقة، ولا يحيطُ أكثرُ الناس بمجموع نصوصه علمًا، ويسمعُ النصَّ ولا يسمعُ شرطَه ولا موانع مقتضاه ولا تخصيصَه، ولا ينتبهُ للفرق بين ما أثبته ونفاه، فينشأ من ذلك في حقِّه من الإشكالات ما ينشأ. وينضافُ هذا إلى عدم معرفة الخاصِّ بخطابه ومجاري كلامه. وينضافُ إلى ذلك تنزيلُ كلامه على الاصطلاحات التي أحدثَها أربابُ العلوم من (1) الأصوليِّين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم، فإنَّ لكلٍّ من هؤلاء اصطلاحاتٍ حادثةً في مخاطباتهم وتصانيفهم، فيجيءُ من قد أَلِفَ تلك الاصطلاحات الحادثة وسبقَت معانيها إلى قلبه فلم يعرِف سواها، فيسمعُ كلامَ الشارع فيحملُه على ما ألِفَه من الاصطلاح، فيقعُ بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يُرِده بكلامه، ويقعُ من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع (2). وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه (3)، مع قلَّة البضاعة من معرفة نصوصه. _________ (1) مهملة في (د). (ت، ق): «بين». والمثبت من (ط). (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 243، 12/ 106، 13/ 146، 14/ 101،133)، و «الاستقامة» (1/ 23)، و «الجواب الصحيح» (4/ 483)، و «إعلام الموقعين» (1/ 35، 43، 90)، و «زاد المعاد» (1/ 283، 2/ 118)، و «الصواعق المرسلة» (189، 289، 672، 675)، و «شفاء العليل» (141). (3) (ت): «من أسباب عليه».

(3/1597)


فإذا اجتمعت هذه الأمورُ مع نوع فسادٍ في التصوُّر، أو القصد، أوهَما ما شئتَ من خَبْطٍ وغلطٍ وإشكالاتٍ واحتمالاتٍ وضرب كلامه بعضه ببعض، وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته، والله المستعان. فصل وأمَّا قضيةُ المجذوم؛ فلا ريب أنه رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد» (1)، وأرسل إلى ذلك المجذوم: «إنَّا قد بايعناك فارجِع» (2)، وأخَذ بيد مجذومٍ فوضعها في القصعة، وقال: «كُلْ، ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه» (3). ولا تنافي بين هذه الآثار، ومن أحاطَ علمًا بما قدَّمناه تبيَّن له وجهُها، وأنَّ غايةَ ذلك أنَّ مخالطةَ المجذوم من أسباب العدوى، وهذا السببُ يعارضُه أسبابٌ أخرُ تمنعُ اقتضاءه. فمِنْ أقواها: التَّوكُّلُ على الله والثقةُ به، فإنه يمنعُ تأثيرَ ذلك السبب المكروه، ولكن لا يقدرُ كلُّ واحدٍ من الأمَّة على هذا، فأرشدَهم إلى مجانبة _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 1511). (2) تقدم تخريجه (ص: 1511). (3) أخرجه أبو داود (3925)، والترمذي (1817)، وابن ماجه (3542) من حديث جابر. وصححه ابن حبان (6120)، والحاكم (4/ 136) ولم يتعقبه الذهبي. وفي إسناده ضعف، والصوابُ أنه موقوفٌ على عمر أو سلمان، وأنكر رفعه البخاري والترمذي والعقيلي وابن عدي. انظر: «علل الترمذي الكبير» (303)، و «الجامع»، و «الضعفاء» (4/ 242)، و «الكامل» (6/ 409).

(3/1598)


السبب المكروه والفرار والبعد منه. ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة، تشريعًا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن يتعرَّض العبدُ لأسباب البلاء. ثمَّ وضعُ يده معه في القصعة، فإنما هو بسبب التوكُّل على الله والثقة به الذي هو من أعظم الأسباب التي يُدْفَعُ بها المكروه والمحذور؛ تعليمًا منه للأمَّة دفعَ الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها، وإعلامًا بأنَّ الضرَّ والنفعَ بيد الله عز وجل، فإن شاء أن يضرَّ عبدَه ضرَّه، وإن شاء أن ينفعه نفعه، وإن شاء أن يصرفَ عنه الضرَّ صرَفه، بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر، ويضرَّه بما هو من أسباب النفع فعَل. ليتبيَّن العبادُ أنه وحده الضارُّ النافع، وأنَّ أسبابَ الضرِّ والنفع بيده، وهو الذي جعلها أسبابًا، وإن شاء خلعَ منها سببيَّتها، وإن شاء جعَل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها، ليُعْلَم أنه الفاعلُ المختار، وأنه لا يضرُّ شيءٌ ولا ينفعُ إلا بإذنه، وأنَّ التوكُّل عليه والثقةَ به تحيلُ الأسبابَ المكروهةَ إلى خلاف موجَباتها، وتبيِّن مرتبتَها، وأنها مَحَالُّ لمجاري مشيئة الله وحكمته، وأنه سبحانه هو الذي يضرُّ بها وينفع، ليس إليها ولا لها من الأمر شيء، وأنَّ الأمر كلَّه لله، وأنها إنما ينالُ ضررُها من علَّق قلبه بها، ووقفَ عندها، وتطيَّر بما يُتَطيَّر منها، فذلك الذي يصيبه (1) مكروهُ الطِّيَرة. والطِّيَرة سببٌ للمكروه (2) على المتطيِّر، فإذا توكَّل على الله ووثقَ به _________ (1) (ت، ص): «يصله». (2) (ت، ص): «سبب المكروه».

(3/1599)


واستعان به لم يصدَّه التطيُّر (1) عن حاجته، وقال: اللهم لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إلهَ غيرُك، اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهبُ بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك، فإنه لا يضرُّه ما تطيَّر منه شيئًا. قال ابنُ مسعود: «ما منَّا إلا» يعني: من يتطيَّر، «ولكنَّ الله يُذْهِبه بالتوكُّل» (2). وقد رُوِي مرفوعًا، والصوابُ عن ابن مسعودٍ قولَه. فالطِّيَرة إنما تصيبُ المتطيِّر لشركه، والخوفُ دائمًا مع الشرك، والأمنُ دائمًا مع التوحيد؛ قال تعالى حكايةً عن خليله إبراهيم أنه قال في محاجَّته لقومه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]، فحَكَم الله عزَّ وجلَّ بين الفريقين بحكمه، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفسيرُ الظُّلم فيها بالشرك، وقال: «ألم تسمعوا قولَ العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» (3). فالتوحيدُ من أقوى أسباب الأمن من المَخاوِف، والشركُ من أعظم أسباب حصول المَخاوِف. _________ (1) (ت، ص): «تصده الطيرة». (2) تقدم تخريجه (ص: 1484). (3) أخرجه البخاري (32)، ومسلم (124) من حديث ابن مسعود.

(3/1600)


ولذلك (1) من خافَ شيئًا غيرَ الله سُلِّط عليه، وكان خوفُه منه هو سببَ تسليطه عليه، ولو خاف اللهَ دونه ولم يَخَفْهُ لكان عدمُ خوفه منه وتوكُّلُه على الله من أعظم أسباب نجاته منه. وكذلك من رجا شيئًا غيرَ الله حُرِمَ ما رجاه منه، وكان رجاؤه غيرَ الله من أقوى أسباب حرمانه، فإذا رجا اللهَ وحده كان توحيدُ رجائه أقوى (2) أسباب الفوز بما رجاه، أو بنظيره، أو بما هو أنفعُ له منه، والله الموفق للصواب. وليكن هذا آخرَ الكتاب، وقد جُلِبَت (3) إليك فيه نفائس في مثلها يتنافسُ المتنافسون، وجُلِيَت عليك فيه عرائس إلى مثلهنَّ بادَر الخاطبون. فإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ العلم وفضله، وشدَّة الحاجة إليه، وشرفَه وشرفَ أهله، وعِظَم موقعه في الدارين. وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ إثبات الصانع بطُرقٍ واضحاتٍ جليَّات تَلِجُ القلوبَ بغير استئذان، ومعرفةَ حكمته في خلقه وأمره. وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ قَدْر الشريعة، وشدَّةَ الحاجة إليها، ومعرفةَ جلالتها وحكمتها. وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفة النبوَّة وشدَّةَ الحاجة إليها بل ضرورة (4) الوجود إليها، وأنه يستحيلُ من أحكم الحاكمين أن يُخْلِيَ العالم عنها. _________ (1) (د، ت): «وكذلك». (2) (ت): «من أقوى». (3) (ق، ص، ت): «جليت». بالياء. والضبط من (د). (4) (ق): «بل وضرورة».

(3/1601)


وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ ما فَطر اللهُ عليه العقولَ (1) من تحسين الحسن وتقبيح القبيح، وأنَّ ذلك أمرٌ عقليٌّ فطري، بالأدلة والبراهين التي اشتَمل عليها هذا الكتاب ولا توجدُ في غيره. وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفة الردِّ على المنجِّمين القائلين بالأحكام بأبلغ طرق الردِّ عليهم من نفس صناعتهم وعلمهم، وإلزامهم بالإلزامات المُفْحِمة التي لا جوابَ لهم عنها، وإبداء تناقضهم في صناعتهم، وفضائحهم وكذبهم على الخلق والأمر. وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ الطِّيَرة والفأل والزَّجْر، والفرقَ بين صحيح ذلك وباطله، ومعرفةَ مراتب هذه في الشريعة والقَدَر. وإن شئتَ اقتبستَ منه أصولًا نافعةً جامعةً مما تَكْمُلُ به النفسُ البشرية وتنالُ بها سعادتَها في معاشها ومعادها. إلى غير ذلك من الفوائد التي ما كان منها صوابًا فمن الله وحده هو المانُّ به (2)، وما كان منها خطأً (3) فمن مؤلِّفه ومن الشيطان، والله بريءٌ منه ورسوله. والله سبحانه المسؤولُ والمرغوبُ إليه المأمولُ أن يجعلَه خالصًا لوجهه، وأن يعيذَنا من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، وأن يوفِّقنا لما يحبُّه ويرضاه، إنه قريبٌ مجيب. _________ (1) (ت): «فطر الله القلوب عليه». (2) (ت): «المنان به». (3) (ق، د): «من خطأ».

(3/1602)


والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. * * * *

(3/1603)