مشاعر رمضانية
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على الحبيب محمد صلى الله عليه, وعلى آله وصحبه وسلم.
رمضان فرصة سانحة، ونعمة تامة.. ميدان للتنافس والتسابق وعامل للتهذيب.. يروض النفوس المؤمنة على الفضيلة, ويرتفع بها عن الرذيلة.. تجانب القبيح, وتكتسب الهدى والرشاد.. سمت فيه الأرواح, فتعلقت بالحق ودعت إليه قولا وسلوكا..
رمضان مناسبة كريمة تهفو إليه النفوس, وتهنأ به الأرواح.. تكثر فيه دواعي الخير.. تتفتح فيه الجنات, وتنـزل الرحمات, وترتفع الدرجات, وتغفر الزلات..
رمضان تهجد وتراويح.. ذكر وتسبيح.. تلاوات وصلوات.. جود وصدقات.. أذكار ودعوات..
إذا لم يكن في السمع مني تصاون | ||
وفي بصري غضن وفي منطقي صمت | ||
فحظي إذن من صومي الجوع والظمأ | ||
فإن قلت إني صمت يوما فما صمت | ||
في رمضان تتربى الأمة على الجد وعفة اللسان.. تتربى على سلامة الصدر, ونقاء القلب.. على الحب والتآخي تتوحد جهودهم, وتنعقد آمالهم.. يتخلون عن تتبع السقطات, وتلمس العثرات, والحكم على النيات.. سائدهم عند سماع ما لا يحمد من قول وفعل أن يقول أحدهم: "إني صائم"، صائم عن التعدي بسمع أو بصر أو لسان.. صائم القلب عن الحقد والحسد.. صائم اليد عن البطش أو التعدي.. صائم الرجل عن السير إلى مواطن الشبهات أو الشهوات.. صائم النظر عن التلصص إلى الأعراض.
في رمضان يجوع الصائم, وهو قادر على الطعام.. ويعاني العطش, وهو قادر على الشراب.. ولا رقيب عليه إلا الله.. يدع طعامه وشرابه وشهوته لله.. الألسنة تصوم عن الرفث والصخب، والآذان تعرض عن السماع المحرم.. والأعين محفوظة عن النظر المحظور.. والقلوب مخطومة عن الخطيئة.. في النهار عمل وإتقان.. وفي الليل تهجد وقرآن، صحة للأجساد, وتهذيب للنفوس, وضبط للإرادة، وإيقاظ للرحمة, وتدريب على الصبر, واتجاه نحو الرضا والتسليم..
من صامه صادقا, وصلى ورده, وقام بما اقترض عليه ربه فيه, فقد وُفق من حافظ على الصلوات الخمس فيه جماعة، فأعطاها قلبه وجوارحه، فقد فاز.
من أخذ الطهر والعفة والاستقامة من خلق رمضان فقد ربح.
من عرف كتاب الله فيه فجعله أنيسه وسميره وعاشق بين حناياه, فقد هدي وكفي ووقي... هل بعد هذا من حلاوة؟ فما أجل رمضان وألذ أوقاته.
من الحي الذي لا يموت؟ من المتفرد بتصريف الشهور والأعوام والمتوحد بتدبير الليالي والأيام؟
إنه الله، فتبارك الله.. }فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ{.
إن الليالي والأيام تطوى, والشهور والأعوام تنصرم، وإذا بلغ الكتاب أجله, فلا يستأخرون ساعة, ولا يستقدمون.. وإن من يعش, فإنه يرى حلوا ومرا، فلا الحلو دائم ولا المر جاثم، والليل والنهار متعاقبان, ولا تكون من بعد زوالها أحاديث, ولا يبقى للإنسان إلا ما حمله زادا للآخرة..
يشب الصغير, ويهرم الكبير, وينظر المرء ما قدمت يداه، وكل يجري إلى أجل مسمى.. فماذا قدمت لما تستقبل من عمل فيما بعد رمضان؟
رمضان موسم البر والإحسان، حيث تتدفق أيدي المؤمنين بالعطايا, وتود نفوسهم بالسخاء، فتتآلف قلوب الأغنياء والفقراء، ويضمحل البغض والخصام, وتسطع أنوار الفضيلة ومحاسن الأخلاق, وتتلاشي الرذيلة ومساوئ الأخلاق.. فإذا بالشفاء تستعذب الكلمة الطيبة والبسمة الصادقة.. وإذا القلوب تهفو إلى مواقع المعروف, وتنداح إلى العمل الصالح.. وإذا النفوس تأنس بالخير والبر والإحسان.. وإذا بالجوارح تسعى في سبيل الطاعة.. يراقب الصائم كل كلمة يقولها أو نظرة ينظرها أو تصرف يتصرفه أو فكرة تخامره أو خفقة يخفقها.. وكل شعور أو إحساس في أعماقه.. يراقب كل ذلك؟ هل هو على طريق محمد؟ هل للصيام في لسانه أدب, وفي أعماقه توجيه؟
من لذائذ رمضان وحلاوته القرب من القرآن الكريم.. يفتح مغاليق القلوب, فيبدد عنها الظلام, ويقلب واقعها ظهرا لبطن.. فيصبح التالي له, والعامل به إنسانا آخر, كأنما هو خُلق من جديد.. فلا الوجه هو الوجه، لقد ازداد بهاء ونورا.. ولا القلب هو القلب، لقد ازداد شفاء.. ولا الروح هي الروح، لقد أشرقت حبا وتحنانا.. أما سمعتموهم وهم يقولون لكل من جاء من عند رسول لله ﷺ: (لقد جاء بغير الوجه الذي ذهب به) فما تغير حقيقة الوجه, وإنما إشراقته.. وما تغير القلب, وإنما بهاؤه.. وما تغيرت الروح, وإنما روحها..
إنه حقا حياة: }وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا{ [الشورى: 52].
فما أجمل أيام الحياة بالقرآن الكريم! وما ألذ أوقات رمضان مع الكتاب العظيم! تحت رايته تكونت خير أمة أخرجت للناس.. ولا عودة لها في منـزلة الخيرية إلا بهذا النهج.. وعلى مائدته تربى الجيل الأولى حيث انطلق يقرأ القرآن بلسانه تلذذا.. وبقلبه تخشعا وتدبرا.. وبمشاعره تأثيرا.. وبقلبه اهتداء.. وبجوارحه تطبيقا.. فكان حالهم مع القرآن: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ [الأنفال: 2]، فكان الواحد منهم يعيش مع هذا الكتاب العظيم عيشة الحلاوة والطمأنينة, كلما مر بآيات الجنة بكى شوقا..
فحي على جنات عدن فإنها | ||
منازلنا الأولى, وفيها المخيم | ||
وكلما مر بآيات النار شهق شهقة, وبكى دمعة, وكأن زفير جهنم في أذنيه.. عندما يمر باستغفار استغفر.. ويمر بسؤال سأل.. فاللذة في لسانه وقلبه وروحه وحياته.. فهل أحسنا بهذا مع القرآن في رمضان.. وللقرآن مع رمضان قصة.. ومن أبجدياتها بناء الروح, وسعادة الحياة.
في ظل رمضان تتضح بواعث الألفة والمحبة والترابط بين قلوب المؤمنين وأرواحهم.. في صلاتهم.. في صيامهم.. في سائر دروب عبادتهم لله تعالى.. يذكرهم بالمعاني الإنسانية الرفيعة التي نادى بها الإسلام, ودعا إلى تطبيقها في واقع حياتهم، معنى الحب الخالص والأخوة المتينة التي أفاضها الله عليهم نعمة جُلي.. }وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا{ [آل عمران: 103].. إنه ينعش حياة المؤمن؛ ليترفع عن لوثات الشر والفساد، فيسمو بشهواته ورغباته إلى مستوى الحياة الطاهرة النظيفة العفيفة, فلا تنطلق رغباته, ولا ميوله إلا فيما يحب الله, ويرضى, فيكون مصدر خير في مجتمعه, ونبع طهر في سلوكه, وصاحب همة في فكره.. إلى الله يسعى.. ومن فضله يستمد سيره في دروب الحياة.. للرحمة معنى, وللعطف مبنى.. يجد سلواه ولذة فؤاده في دمعة يكفكفها, وكأنها دمعته، وحاجة لمسلم يقضيها, وكأنها حاجته، وابتسامة على شفاة مؤمن يرسمها, وكأنها على وجهه.. ومن لذته برمضان يرى أن حق كل مسلم في ماله عظيم, وفي سلوكه كبير ليبني من رمضان لأمة رمضان تماسكا يدفع, وبناء يرفع..
من ذاق حلاوة رمضان.. غضت عينه عن المحارم, فكان الله معه ببصره.. وكف لسانه عن المآثم من غيبة ونميمة وزور وبهتان, فكان الله معه.. من عف سمعه عن سماع المنكرات, والتطاول في أعراض المسلمين كان الله معه بسمعه.. ومن كان الله معه في جميع أحواله لم يقبل جوفه حرام.. ولم تسع قدماه إلى معصية.. ولم تبطش يداه بالظلم أو تمس حراما.. ويستقيم عقله على الحق.. ويستنير قلبه بأنوار الهدى.. فهنيئا لمن اتقى, وآمن: }أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [يونس: 62] لذة فؤاد وحلاوة قلب.. ومن كان الله معه, فماذا يضره؟
في رمضان شعور عظيم متبادل, فالفقير يشعر بحرص الغني على قضاء حوائجه والعناية بشئونه, وتلمس حاجاته.. وشعور الغني بمدى واجبه تجاه إخوانه المؤمنين, فيجود, ويعطي, وهو على شعور: }وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ{ [سبأ: 39].
رمضان حلو جميل يقوم فيه المحسنون في هدءات الأسحار, وسكنات الليل حي يرق الأفق, وتزهو النجوم, ويصفو الكون, ويتجلى الله على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس, ويفتح لهم باب رحمته «ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من سائل فأعطيه» فيسأل الطالب, ويعطيه, ويستغفر المذنب, ويتوب عليه، وتتصل القلوب بالله, فتحس بلذة لا تعدل لذاذات الدنيا كلها ذرة واحدة منها.. ثم وهم في لذتهم تلك إذا بالفجر يقترب, فيأكلون شيئا يقيم أودهم لصيام يومهم, فيشعرون ببركة السحر والسحور.. ثم يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء مشي الشفاء في الأجسام ينادي (الصلاة خير من النوم)، فيقومون إلى الصلاة جماعة متذكرين أن الصلاة راحة وحلاوة «أرحنا بالصلاة يا بلال» فتعذب الألسنة بالقرآن, ويسري الإيمان في الجنان, وتنـزل الرحمة في كل مكان. فهل هناك لذة فوق هذه اللذة, فما أجملك يا رمضان, وأحلاك!.
يا من ذقت حلاوة رمضان.. هل تذكرت أنه في رمضان ينيب الناس؟ فيؤمون بيوت الله متعبدين أو متعلمين، ولكتاب ربهم تالين تسمع لمجلسهم دوي كدوي النحل, ولصدورهم أزيز كأزيز المرجل من الخشوع والتأثر، هل تذكرت أنه في هذا الشهر تتحقق معاني رمضان, فتكون المساواة بين الناس كل الناس، فلا يجوع واحد, ويتخم آخر.. إنهم كلهم في الجوع والشبع سواء, فيحس الغني بألم الجوع, فيعرف للفقير حقه حين يقول: (أنا جائع), ويعرف للمريض حقه حين يقول: (لا أجد لهذا الطعم لذة) تذكره حينئذ, واعلم أنه ليس الذي يطيب الطعام غلاء ثمنه, ولا جودة صنعه, ولكنه الجوع الذي يشتهيه, والصحة التي تهضمه، فاحمد الله على ما أولاك من نعم.. هل تذكرت يا من ذقت حلاوة رمضان أن الإيمان يهون كل عسير، فيكون بإذن الله يسيرا.. وأن به تدفع بإذن الله المرارات حتى كأنها حلاوة ما بعدها حلاوة، وهذا الذي استغربه الأنصار لما سمعوا قصة بلال رضي الله عنه، فقالوا: (يا بلال، كيف صبرت على العذاب في مكة؟) فقال ويا لجمال ما قال.. لقد قال كلاما يهون به المصاب ويُعزى به المكروب، لقد قال: (لقد خلطت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان, فغلبت حلاوة الإيمان مرارةَ العذاب، فهان عليَّ ما ألقاه). إذا فكل الذي يلقاه فيها محبب.. فهل خرجنا من رمضان, ومعنا حلاوة الاستمرار على التهجد ومحبة المداومة على طريق الحق، يقول ابن القيم رحمه الله: (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته, وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه, والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه).
جاءت سكرة الموت أحد الصالحين, واشتد عليه مرضه، فلما سمع المؤذن بكى بكاء شديدا؛ لأنه قلبه معلقا بالمساجد. فقال له أحد أبنائه: مالك, وقد عذرك الله! قال: يصلي الناس في المسجد, وأنا أصلي في البيت. احملوني إلى المسجد. فلما صلى مع الناس, وقضيت الصلاة وجدوه قد قبضه الله, وهو ساجد. فأنعم بها من خاتمة.
يا من ذقت لذة رمضان.. أيام مضت صمنا نهارها وقمنا ليلها.. تقربنا فيها إلى الله بأنواع القربات؛ طمعا في ثوابه, وخوفا من عقابه.. ثم انتهت تلكم الأيام وكأنها طيف خيال.. مرحلة من العمر لن تعود, ولم يبق إلا ما أودعناه فيها من عمل صالح.. وكل يوم مضى يدني من الأجل..
تمر بنا الأيام تترى وإنما | ||
نساق إلى الآجال والعين تنظر | ||
فلا عائد ذاك الشاب الذي مضى | ||
ولا زائل ذات المشيب المكدر | ||
قال الحسن البصري رحمه الله: (إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته لمرضاته, فسبق قوم, ففازوا, وتخلف آخرون, فخابوا.. فالعجب من اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون, ويخسر المبطلون). ولقد حكى عن علي رضي الله عنه أنه كان يقوم في آخر ليلة من رمضان, ويقول: (يا ليت شعري من هذا المقبول فنهينه، ومن هذا المحروم فنعزيه).
ليت شعري من فيه يقبل منا | ||
فهنيئا ويا خيبة المردود | ||
من تولى عنه بغير قبول | ||
أرغم الله أنفه يخزي شديد | ||
ولقد قال العقلاء: كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار, فإنه يقطع ثم يوقد في النار، ومن فرط في الزرع وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد إلا الندم والخسارة.
ترحل شهر الصبر وا لهفاه وانصرما | ||
واختص بالفوز في الجنات من خدما | ||
وأصبح الغافل المسكين منكسرا | ||
تراه يحصد إلا الهم والندما | ||
يا من ذقت اللذة والحلاوة([1]) في رمضان, هل تقبل غيرها بعد أن أراك الله إياها.. وفقك لها جودا بجود وإحسانا بإحسان.
وفقنا الله في رمضان للصيام والقيام والجود والإحسان على ما يحبه الله ويرضاه.
قد قلته مجتهدا | وليس يخلو من غلط | |
من الذي ما ساء قط | ومن له الحسنى فقط |
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
([1]) لذة الطاعة.