مصارحات رمضانية
التصنيفات
الوصف المفصل
- مصارحات رمضانية
- المصارحة الأولى :(صوت الإرادة يدوي )
- المصارحة الثانية :( الصيام والوظيفة )
- المصارحة الرابعة : ( رمضان والضيافة )
- المصارحة الخامسة :( ما أشد قبحها في رمضان )
- المصارحة السادسة : ( هل ستغلبه أم سيغلبك ؟ )
- المصارحة السابعة : ( بين الغطيط والسهر ضياع !)
- المصارحة الثامنة : ( معاً .. ضد التسول )
- المصارحة التاسعة :( فضائيات )
- المصارحة العاشرة : ( ماذا عن الخدم في رمضان ؟)
- المصارحة الحادية عشرة : ( أفضل الجود )
- المصارحة الثانية عشرة : ( رمضان وشباب الشوارع )
- المصارحة الثالثة عشرة : ( نظرات موبوءة )
- المصارحة الرابعة عشرة : ( خصوصيات زوجية )
- المصارحة الخامسة عشرة : ( ما هكذا تكون العمرة )
- المصارحة السادسة عشرة : ( أوقفوهم عند حدهم )
- المصارحة السابعة عشرة :( رمضان والجمعيات الخيرية )
- المصارحة الثامنة عشرة : ( أنت بطل التغيير )
- المصارحة التاسعة عشرة :( قيادة السيارات في رمضان )
- المصارحة العشرون :( مرحباً بالرمضانيين )
- المصارحة الحادية والعشرون :( همسات في أذن مصلية )
- المصارحة الثانية والعشرون : ( مهازل تسويقية )
- المصارحة الثالثة والعشرون :( لا تشوه ابتسامتك )
- المصارحة الرابعة والعشرون :( أطفالنا في رمضان)
- المصارحة الخامسة والعشرون : ( بوح إلى زوج شرود )
- المصارحة السادسة والعشرون :( ماذا بعد العيد ؟)
- المصارحة السابعة والعشرون : ( أجمل النسيان )
- المصارحة الثامنة والعشرون : ( قبل الوداع )
- المصارحة الأخيرة : ( العيد وآثاره على إصلاح ذات البين )
مصارحات رمضانية
صارحك بها
خالد بن سعود الحليبي
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي المصارحات
أخي الصائم ..
أحمد الله تعالى إليك , الذي بلغنا بفضله ومنته شهره العظيم ,وأسأله تعالى أن يبلغنا صيامه وقيامه , وأن يتقبل ذلك كله منا .. إنه سميع مجيب .
وإني لأهنئك كما أهنئ نفسي وجميع أحبابي المسلمين بهذه المنة العظيمة , ولم لا وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه كان رجلان من بلي من قضاعة , أسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة . قال طلحة بن عبيد الله : فأُريتُ الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد , فعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم _ أو ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم _ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السَّنَةِ *
فكم أنا سعيد _ أخي الحبيب _ وأنا أتحدث إليك في هذا الشهر الكريم , أتعلم لماذا ؟
لأنه نوع من التواصل بين المسلمين في شهرهم المعظم بين الشهور , نتناصح فيه ونتغافر , ويذكر أحدنا نفسه بحديثه قبل أن يصل الذكر إلى مستمعه ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) الذاريات :55
أخي الصائم ..
للحديث معك نكهة خاصة , ولندائك في خاطري رائحة تذكرني بعطر الحقول حين يتدفق في جوانبها الماء وأكاد أحس بنسمات الربيع الفتي فوق الروابي الخضر حين أقول لك : أخي الصائم .
فأنت أخي وإن لم أعرف لك أسما أو رسما , وأخي وإن جهلت إليك الطريق فما أعظم هذا النداء الإيماني , الذي يلغي بيني وبينك كل المسافات , ويهدم كل الحواجز , ويوحد بيننا الأهداف والآمال ولآلام . ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات:10
وما أجل هذا الوصف الندي الذي ارتبط بك في الشهر الكريم ( الصائم ) بكل ما تحمل هذه الكلمة من أحاسيس وإيحاءات .
صائم : طاعة لله تعالى , وليس رياء ولا سمعة , فما أبعد الصوم عن الرياء ,ألم يقل المولى جل وعلا في الحديث القدسي : «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به » رواه الشيخان وغيرهما .
صائم : تعبداً لله تعالى , وأي عز أعظم من ذلك :
ومما زادني شرفاً وتيها ** وكدت بأخمصي أطا الثريا
دخولي تحت قولك ياعبادي ** وأن صيرت أحمد لي نبيا
صائم : تستشعر بها أنك داخل في عبادة تستمر ساعات طوالا , لا تعيقك عن نشاط , ولا تمنعك من راحة , بل تضفي على جوارحك خشوعاً , وعلى شخصك وقاراً , وعلى فؤادك راحة كم كنت تنشدها وأنت تشق بحر الحياة المتلاطم .
فهل تسمح لي يا أخي الصائم أن أرافقك خلال شهر الصوم والرحمة والمغفرة والعتق من النيران , لنقف بعض الوقفات نستعرض فيها شيئاً مما قد يبدو لنا من صور اجتماعية , وممارسات يومية خلال هذا الشهر الكريم , وأمور قابلة للنقاش , وإبداء وجهة النظر حولها , ولعل منها ما نتفق على استحسانه , أو على استهجانه ونبذه , وقد نختلف حول بعضها , ولا بأس , فالخلاف لا يفسد للود قضية , كما يقال .
فإلى المصارحة الأولى ..
المصارحة الأولى :(صوت الإرادة يدوي )
أخي الصائم ..
الصيام مدرسة روحية لتهذيب النفس , وتوجيه السلوك , وتدريب الجسد والروح على العزائم , لا يكون ذلك بقوة الأمر والنهي ولكن بالحب والطاعة المختارة , بل بالشوق الذي لا حدود له , فقبل أن يفد الشهر الكريم بأشهر , تتطلع النفوس المؤمنة بلهف شديد إلى هلال رمضان , فإذا هل بالبركة والأمان تبادل المسلمون التهاني بينهم , وكأن العيد قد حل قبل أوانه , فيا طيب روائح تلك التباريك الفرحة وهي تعطر الأفواه الصائمة , والمجالس العامرة , مصحوبة بابتسامة الرضا والقبول والتسليم .
عندها ترسخ في نفس المسلم عزيمة ثابتة لا يتطرق إليها أدنى تردد :أن تستقيم على هدي الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شؤون هذه العبادة , مهما تعارضت مع الهوى الشخصي , والرغبة الخاصة , وهذا هو ميدان ترويض مهرة النفس الشموس , على خلق الإرادة , وتحقيق المراد دون ضعف أو تخاذل , وهو درس لا تقتصر حاجتنا إليه في رمضان فقط , بل في جميع لحظات حياتنا حتى نلقي ربنا تعالى
فما أحوجنا إلى الإرادة الراسخة حين تعرض علينا رشوة مغرية لأبطال حق أو إحقاق باطل , وما أحوجنا إلى الإرادة القوية حين ندعى إلى مجلس فحش , أو مصاحبة رفقة سوء , وما أحوجنا إلى وقفة شامخة حين تستذلنا إيماءة من شهوة دنيئة !!
وإذا كنا أعزة حقا في داخل نفوسنا , فلماذا نخجل من إعلان إرادتنا العليا تلك , وتأبينا على كل المراودات السلوكية الهابطة , بصوت مسموع ؟!
لماذا لا نصرخ بكل شجاعة في وجه مفاتيح الشر :
لا.. لن نسمح لكم أن تقتربوا من سياج مروءاتنا ..
لا.. لن نسمح لأنفسنا أن تكون فرائس سهلة لأنيابكم الشرسه ..
لا.. لن نسمح لأعصابنا وبطوننا أن تسجرنا إلى الهاوية بعد أن أعلا الله قدرنا ..
إننا حين نرفض كل دعوة إلى انحراف , فإننا نرتفع بمستوى إنسانيتنا إلى السمو الذي أراده الله تعالى لها , وهو ما نستشفه من قول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) محمد :12 . فتساوي القدر بين الإنسان والبهيمة في هذه الآية ليس لأنهما يشتركان في الحاجة إلى الطعام ولكن لفقدان ضابط الإرادة عند الإنسان , فالكافر حين عرض عليه الإيمان اختار غيره , وحين عرض عليه ضبط سلوكه بما يصلح شأنه , وليس غير خالقه يقدر أن يختار له , ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك 14 . ولكنه أبى إلا أن يكون كالبهيمة لا حدود لحرية إرادته .
فلله الحمد كله أن جعلنا مسلمين , وله الحمد حين من علينا أن نثني ركبنا بين يدي رمضان نتعلم منه شيئا مما يعيننا على كسب إرادة تحررنا من قيود شهواتنا , مختارين حامدين شاكرين .
وإلى المصارحة الثانية
* * *
المصارحة الثانية :( الصيام والوظيفة )
أخي الصائم ..
لعلك تشاركني العجب من قوم جعلوا صيامهم حجة لهم وعذرا عن تقصيرهم في أداء واجباتهم على الوجه الحسن , فعللوا تأخرهم في قدومهم إلى وظائفهم بأنهم كانوا نائمين , ونوم الصائم عبادة !! وعللوا تراخيهم عن إتقان أعمالهم بأنهم مرهقون بسبب الجوع أو العطش , وللصائم الحق في أن يخفف عنه من جهد العمل ومشقته , وعللوا خروجهم المبكر قبل أن يستوفي وقت العمل حقه , بأنهم محتاجون لقضاء بعض اللوازم للإفطار !! وعللوا تذمرهم من المراجعين ,وسلاطة ألسنتهم على الناس بأنهم .. أستغفر الله .. صائمون !!
فياليت شعري كيف يفسر هؤلاء أثر الصيام على أنفسهم ,وكيف يفصلونه على قدود مشتهياتهم ؟!
رمضان شهر العمل والبذل والعطاء لا شهر الكسل والخور والضعف , شهر وقت فيه أكبر الانتصارات في الإسلام في القديم والحديث , فلم يكن عائقاً عن أداء مهمة , ولا داعياً للتقاعس عن إتقان عمل . « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » . حديث جليل لا يتخلف مراده بتغير الأزمان , وقاعدة عظيمة لا تختل بظرف طارئ كيف والصوم عبادة تؤدى لله , هدفها الأول تربية التقوى في النفس المؤمنة يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) . والتقوى وازع إيماني عميق الجذور , إذا تغلغل في النفس كان حاجزاً مانعاً لها عن كل ما يسخط الله ودافعاً قوياً لها إلى كل ما يحب الله , والإتقان مما يحب الله , وهو من صفات الكمال التي اتصف بها عز وجل قال تعالى ( الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88) فأول ثمرة متوخاة من تقوى تعالى في العمل , مراقبته غز وجل في كل الساعات التي تمضيها _ أخي الموظف الصائم – وأنت تمارس عملك , بأن تكون في مرضاة الله وألا تضيع منها دقيقة واحدة في غير ما يخص وظيفتك , وأن تنشط لمهامك بوعي تام , وأن تكون في موقعك ينبوع أخلاق ونهر عطاء تتدفق بكل خير على مراجعيك دون تذمر منهم أو مشقة عليهم , فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : « اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليه فاشقق عليه , ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به » .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : « والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ». تخيل معي لو أن كل صائم منا حمل هذه الراية البيضاء , إذن لبكى الشيطان بكاء مرّاً !! لأننا أفشلنا أكبر مؤامرة خطط لها من أجل إفساد عبادتنا , وذات بيننا .
فما رأيك – أخي الصائم – أن تحمل الراية معي لنكون في كوكبة الصابرين , ونواجه كل متحد لمشاعرنا , أو مستفز لأعصابنا بهذا الهتاف الإيماني : « إني امرؤ صائم » بل فلنحاول أن نناصح زملاءنا في العمل ونذكّرهم إذا رأينا منهم بعض ظواهر هذه الممارسات الخاطئة .. فلعلنا نفوز باستجابة ... ودعوة ... ومثوبة .
وإلى المصارحة الثالثة
***** المصارحة الثالثة : ( الإفطار العشري )
أخي الصائم
كثيرا ما يدور الحديث بين الناس حول بعض الممارسات الاجتماعية الخاطئة في رمضان , والتي فشت في المجتمع فشو الغبار , حتى لم تدع بيتا إلا داهمته , أو على الأقل تركت عليه مسحة من التقليد , هذا إذا استطاع هذا البيت العتيد الصمود أمام طغيان العادة على التدبير والعقل والاستقلالية .
وكثير من هذه العادات مستهجنة عند جميع الناس قولا أو على أقل تقدير عند كثير منهم ولكنهم ينهزمون أمامها عملا فهم يتحدثون عنها حديث المنكر المتبرم , ويقعون في شباكها كالعصافير الجائعة .
ولعل من أبرز هذه الظواهر المريضة الإسراف في إعداد مائدة الإفطار, فقبيل شهر رمضان المبارك تشهد أسواق المواد الغذائية تدفقا بشريا هائلا ، يحدث إرباكا كبيرا في التسوق كما يحدث اختناقات خطيرة في المرور ويجعل المجتمع كله في هيئة استعداد ضخم لموسم غذائي , وليس لموسم عبادي , فتزداد التكاليف وتتضاعف على كاهل راعي الأسرة وعائلها , وتتراكم المواد الغذائية في المنازل وتبدأ رحلة العذاب لراعية المنزل في إعداد الإفطار العشري ( الذي لا يقل عن عشرة أصناف )
فلا وقت لديها لتلتفت إلى تربية أولادها ولا تملك الزمن الذي تقرأ فيه وردها ولا تخشع في صلاتها ولا تسل عن مفاصلها ولا عن نفسيتها حين تنتهي المهمة مع الأذان أو بعده بقليل وقد اشتعلت أعصابها وهي تصارع الوقت مخافة أن يصرعها فلا يبقى لها جسد ولا تهدأ لها روح .
فهل حقا نحن نحتاج إلى كل هذا الإمدادات الغذائية الشرهة إذا صمنا ؟
لا أظن ذلك
فبطن الإنسان لا يتوسع إذا صام بل يضيق .
ولكن الذي يتسع هو عينه فقط ولا سيما حين يتسوق بعد العصر , وقد بدأت أسرة الجهاز الهضمي تتناوب في إرسال الاستغاثات إلى الدماغ لطلب الغذاء فيذهب صاحبنا يلبي رغبة كل فرد في هذه الأسرة الهضمية على حدة , كما يحرص أن يلبي جميع رغبات أسرته الكريمة , وهنيئاً مريئاً لمحلات بيع المواد الغذائية !! ويا عون الله للعائلين .
أخي الصائم
لماذا نواصل السير في الدروب التي خبرنا آفاتها وتكسرت في أقدامنا أشواكها لماذا لا نتفق الآن على اتخاذ قرار ثنائي بيني وبينك أن نوقف تسلط هذه العادة على حياتنا , ولتكن وجبة الإفطار كغيرها من الوجبات التي كنا نتناولها قبل رمضان , تتنوع موادها الغذائية وتتكامل ولا تتضخم فتشبعنا وتمتعنا ولا تتخمنا وتغذينا ولا ترهقنا.
فإذا كان للصيام أثر طبي رائع على الجسد من صحة وحيوية وتقوية لجهاز المناعة , ووقاية من العلل والأمراض والسموم المتراكمة في خلاياه كما يجزم بذلك الأطباء . فإن الإفراط في الطعام يهدم هذا الأثر ويحرم الصائم من منفعة عظيمة كانت بين يديه ولنتذكر دائما وصية خالقنا الحنان المنان لنا في محكم التنزيل ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) (لأعراف: 31) . وما أجمل أن يرحل رمضان عنا وقد تحسن وزننا وصحت أجسادنا كما تصح فيه أرواحنا , إذن لاستقبلنا عيدنا ونحن في غاية السعادة والعافية .
ترى هل ستعقد هذا القرار الآن ياصاحبي ..آمل ذلك .
وإلى المصارحة الرابعة..
المصارحة الرابعة : ( رمضان والضيافة )
أخي .. رمضان شهر كريم , ومن شأنه أنه يضفي على صوامه بجوه الروحاني الشفاف سماته الجميلة الجليلة , ومنها صفة إكرام الضيف وهي عادة أصيلة من عادات مجتمعنا الطيب , تتوافق مع روح الإسلام الذي جعل الضيافة حقا للضيف على المضيف , ففي الحديث الصحيح : « ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه »
إن إكرام الضيوف من مكارم الأخلاق التي يدعو لها دين جاء ليعزز شأنها وينشرها في البشرية , ويوثق علائقها , فأي غربة ستبقي للغريب حين حين يشعر وهو في طريقه إلى هذه البلاد أن له بيوتاً سوف يأوي إليها وكأنها ملك له , وأن له أهلاً سوف يأنس بهم وكأنهم أهله , فيشعر حينئذ بالأمن والاطمئنان .
وازدهت صور الكرم العربي حين جاء رسول الإسلام والأخلاق فكان أجود الناس بأبي هو وأمي ولاسيما في رمضان,فما عرف عنه أن رد سائلاً ولا عبس في وجه ضيف , بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر . وإذا أعياه المال والطعام ولم يجد منهما شيئاً التفت إلى أصحابه يطلب منهم أن يستضيفوا ضيفه , حتى رسم الصحابة بكرمهم لوحات إنسانية كريمة تتضاءل أمامها كثير من لوحات الكرم الحاتمي , فماذا بعد أن يؤثر المرء ضيفه على نفسه وعلى أطفاله حتى يبيتوا جائعين ليشبع ضيفهم , بل يوهموه أنهم يأكلون معه فيطفئوا السراج حتى لا يكتشف هذا النبل والكرم العظيم .
أخي الصائم .. إن مما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين أن علاقة المضيف بضيفه هي علاقة عبادة , ولاسيما حينما يكون تفطير صائم أو تسحيره فليست استضافته تطبيقاً لعرف من الأعراف ولا جرياً لعادة اجتماعية سائدة وإنما هي عبادة من العبادات العظيمة يؤديها ليؤجر عليها . ولذلك ينبغي أن يرعى فيها حقوق الله تعالى , وأن يجتهد في إكرام ضيفه قدر طاقته ويتجمل معه حسب استطاعته , فلا داعي أن يستدين ويرهق نفسه وأولاده من أجل أن يظهر أمام الضيف بغير حقيقته ,أومن أجل ألا يعاب من عشيرته فإن مثل هذا البلاء قد استشرى , وإن جريرة الديون على المعسرين أعظم خطراً من حديث الناس الوقتي الذي يذهب مع الزمن وعلى الضيف أن يعذر صاحبه وألا يحمله أكثر من طاقته , فلا يحقرن كل منهما شيئاً مهما قل ولو كان مذقة لبن أو كأس عصير , فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها :
إذا الضيف جاءك فابسم له *** وقرب إليه وشيك القرى
ولاتحقر المزدرى في العيون *** فكم نفع الهين المزدرى
وأما الأثرياء فلهم أن يقدموا ما يشاءون من أصناف الطعام القادرين عليها , دون أن يصلوا إلى حد الإسراف فمن أسرف فقد وقع تحت طائلة قوله تعالى :( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً )(الاسراء: 26،27) والآية في معرض الإنفاق على الآخرين . وعليه بعد ذلك أن يحفظ نعمة الله التي تبقت فيأكلها أو يؤكلها أهله أو المحتاجين .
ولعلنا نجد ذلك الإسراف الوبيل يتضاعف في ولائم شهر رمضان الكريم , حيث تعرض عشرات الأصناف بكميات كبيرة وربما انتقل إلى طبع دائم في البيوت , فيستأصل كالمرض الذي لا يجدون فكاكا منه .
وليست الضيافة بالطعام والشراب فقط , بل إن من أجمل القرى وأكمله الحديث مع الضيف والترحيب به وإزالة الوحشة عنه :
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله *** ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف كثرة القرى *** ولكنما وجه الكريم خصيب
إنه الكريم حقا ذاك الذي يتناسى كل همومه أمام ضيفه ,ويشعره بالراحة معه وحب لقياه , مهما كانت ظروفه وعسرها , حتى لاينكد عليه حلاوة اللقاء .
وإلى المصارحة الخامسة ..
المصارحة الخامسة :( ما أشد قبحها في رمضان )
أخي الصائم ..
ما أجمل ليالي رمضان وما أندى أحاديثها إذا تجالس الأحباب ونثروا بينهم ورود الود وتهادوا رياحين الكلام ينتقون أطايبه كما ينتقى أطايب التمر كما يقول الفاروق , صفت أرواحهم بالصيام وطهرت ألسنتهم بالذكر والسلام , واغتسلت جوارحهم بطول القيام , تلاقوا كما تتلاقى الغصون في موسم الربيع ليس بينهم صخاب ولا سباب ولا تشوى بينهم أعراض الخلائق , بل تتجاذبهم مشاعر الأشقاء فينصح بعضهم بعضاً ويدل أحدهم أخاه على ما يصلح آخرته ودنياه , فإذا بالمنافع تجني كما تجنى الثمرات , وإذا المحبة تطفح على الوجوه بالضحكات والبسمات .
هذه هي الصورة المثلى التي يجب أن تكون عليها مجالسنا في كل حين ولا سيما في رمضان شهر الطهارة من فحش القول وآفات اللسان .
ولكن هل هذا واقع كل الناس ؟
لعل الجواب سيكون : لا وإنما هو حال ثلة منهم رأوا أن من تمام صيامهم عن المفطرات الصوم عن أعراض الناس والتفكه بها منصتين إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :" من لم يع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري .
ومن أشد الزور في القول نقيصة الغيبة , التي لم تدع _ إلا ما رحم ربي _ مجلساً إلا دنسته , ولا لساناً إلا زلت به , ولا طالحاً ولا صالحاً إلا راودته , فلم يسلم إلا قليل .
الغيبة ذلك الوحش الضاري , والعدو الصائل , ينقض على الحسنات فينهشها وعلى اللحوم البشرية فيأكلها , وعلى المجتمعات الإسلامية فيفرقها .
ألا ترى – أخي الصائم – كيف تساهل كثيرون في أمرها , حتى أصبحت كأنها عادة اجتماعية متعارف عليها لا تكاد تنكر فبينما كان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر , ويحفظون أعراض بعضهم عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال , ويرون خلافه من عادة المنافقين , فقد انتشر خلاف ذلك اليوم , فها نحن أولاء نرى كيف يلقى أهل المجلس زائرهم بالترحاب ويأخذون معه أطراف الأحاديث التي تفوح بالمجاملات وما إن يودعهم حتى تبدأ وجبتهم الدسمة بلحمة متناسين مثل قول الله تعالى :( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) ( الحجرات: 12 )
إن من العجب حقاً أن يصوم أحدنا عن الحلال , ويفطر على الحرام والأعجب من ذلك أن نتظاهر بنزاهتنا عن أبواب الغيبة فندخلها من أسوارها , فالغيبة قد تكون بالإشارة والغمز والكتابة والحركة والتمثيل ,بل هو أشد غيبة كأن يمشي المغتاب مثل مشية أخيه يعيبه فرسولنا صلى الله عليه وسلم حين حكت له عائشة رضي الله عنها إنساناً قال:" ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا "رواه أبو داود بل من أعجب الغيبة : أن يذكر عنده أحد الناس , فيقول : الحمد لله الذي لم يبتلينا بذنبه نسأل الله أن يعصمنا من مثل عمله وإنما قصد أن يعيبه بصيغة الدعاء وربما قدم بمدحه ثم يشير إلى تقصيره فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش أو أن يصغي إلى الغيبة على سبيل التعجب فيزيد من نشاط المغتاب .
أخي الصائم .. ليكن صومنا فرصة لنا لنعالج أنفسنا من هذا الدء فننكرها على الآخرين باللسان أو بالقلب عند عدم القدرة حتى لا نقع في الإثم العظيم .
وليضع أحدنا نفسه موضع رجل جعل أهل مجلس موقع تندرهم وضحكهم , فهل يطيق ذلك ؟! ألا تكره نفوسنا أن نسمع كلمة قيلت فينا تعيبنا سواء أكانت حقاً أم باطلاً ؟ فكذلك الناس – أخي الصائم القائم – لا يرضونه لأنفسهم ..
وأخيرا هاك هذه الحادثة القصيرة قبل أن أودعك , روي عن الحسن أن رجلاً قال له : إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه رطباً على طبق وقال : قد بلغني أنك قد أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام .
الغيبة – يا أخي – نار فلا تقربها من حسناتك لاسيما وأنت تظمئ نهارك وتحيي ليلك وترخص مالك لتثقل بها ميزانك ..
وإلى المصارحة السادسة ..
المصارحة السادسة : ( هل ستغلبه أم سيغلبك ؟ )
أخي الصائم ...
لاتزال نداوة رمضان ترطب القلوب المؤمنة , ولا يزال أرج العبادة فيه ينعش الأرواح الصائمة , ولا تزال نفحاته العطرة تبعث الهمم العالية لمواصلة المسيرة الخيرة في اغتنام أوقاته لا جتناء الطيبات من الأعمال والأقوال .
رمضان شهر يعود فيه الإنسان إلى أطيب عناصره وأرقاها وهو الروح , فيزكيها ويلبي رغباتها حتى يشف عن إيمات رفيع يستجيب معه لأوامر الله طائعاً مختاراً راغباً في المزيد مستمتعاً بالعبادة ولذائذها ويعيش الجسد فيه حالة من التراجع في البحث عن مشتهياته فالهم الأول للمسلم في هذا الشهر هو الحصول على هدف التشريع الإلهي للصوم في مثل قول الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
والتقوى شرط القبول : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27) .
وهل يحصل الإنسان على شيء قيم إلا بثمن مماثل , ولذلك كان على استعداد تام للتضحية بكل ثمين يمكن أن يقدم لله تعالى من أجل القبول هذا الذي ركب الصالحين بالهم بعد العمل ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)(المؤمنون:60). هذا الشعور يجعل النفس تتحرر من كثير من قيودها التي ترهقها وهي مشدودة إلى الدنيا أكثر من الآخرة خلال ممارسات الحياة المعاصرة وتعقيداتها ولذلك فإنها تستريح في رمضان وتستجيب إلى كثير من نداءات الخير التي كانت مشغولة عنها في غيره ملبية مشتاقة وهنا فرصة أخذها بما كانت تأباه من السلوكيات الحسنة والأخذ بزمامها عن الممارسات الخاطئة .
ولعل من أبرز الأمراض العصية التي انهار أمام سلطانها كثيرون ، هي عادة التدخين ، فعلى الرغم من أن المدخن أعلم الناس بمضار التدخين ، لما يراه من اثرها على نفسه وصحته وماله وعياله ومجتمعه ، حتى إنك لو طلبت منه أن يسردها عليك لسدِّ عليك الأفق ، ولكنه لا يملك الإرادة الكافية للإقلاع عنه . يمنعه من ذلك وهمٌ غرير بأنه أصبح يجري في دمه ، ولا يمكن أن يستغني عنه ، وأنه أصبح جزءاً من شخصيته ، وأنه .. والواقع يقول غير ذلك .. الواقع يقول : إن آلاف المدخنين قد أقلعوا عن هذه العادة السيئة بكل المقاييس ، والبداية دائما تنبع من الذات ، حين يقتنع المدخن بهذا القرار الصائب ، وبعمل على تحقيقه . والفرصة في شهر رمضان مواتية أكثر من غيره ، فالنفس تكون قريبة من الخير ، حريصة على ما يرضي الله ، ولا شك أن ترك التدخين هو إقلاع عن ذنب تجب التوبة منه ، وفي رمضان يمضي الصائم أكثر من نصف اليوم ممتنعاً عن ممارسة هذه العادة ، مما يضع المدخن أمام اختبار يومي ، يرى أنه ينجح فيه بامتياز ، فما الذي يجعله يتردد عن إكمال بقية اليوم ، وإن وجود عيادة خاصة لمساعدة المدخنين على ترك الدخان فرصة ثمينة يجب استغلالها ، وقد قمت بزيارة ميدانية لها فوجدتها عيادة هادئة ، قد هيئت للنجاح في أداء مهمتها ، ولكن أيضاً مع أهل الإرادة القوية ، والعزيمة التي تكتسح التردد منذ أن يطرأ .
أخي الصائم .. كن عوناً لأخيك على نفسه ، ولا تكن عوناً للشيطان عليه ، فانصحه برفق ، وقوِّ عزيمته بدلاً من تخجيله ، واحمل لواء مكافحة التدخين في هذا الشهر الكريم .
وأنت يا أخي العزيز ، يا من ابتليت بهذه العادة : أرجوك من أجل الله تعالى أقلع عن شيء يضرك اليوم ، ويضر أولادك في المستقبل ، ويضر بمجتمعك ما دامت سيجارتك تنفث سمَّها في أجوائه . فهيا انتزع نفسك من قائمة المدخنين ، واندرج في قائمة الأصحاء المعافين ..
وهيا معي إلى المصارحة السابعة ..
المصارحة السابعة : ( بين الغطيط والسهر ضياع !)
أخي الصائم ..
دعنا نتساءل هل الصيام يدعونا إلى الحركة والإنتاج أم إلى السكون والدعة ؟
لو تأملنا حياة عدد من أفراد المجتمع لوجدنا الإجابة تقول بلسان الحال : إن الصيام تسبب في الخمول والتراخي فقلة الأكل تؤدي إلى نقص الطاقة الجسدية مما يؤدي بالتالي إلى البحث عن وسائل الراحة وزيادة حصة النوم من ساعات اليوم .
هكذا يعتذر الخاملون لأنفسهم ولو تأملت حياتهم في غير رمضان لما وجدت فرقاً كبيراً في قدر الإنتاج ذلك لأنهم مرضى نفوس يتعللون لكل زمان بما يلائمه ليستمروا في سلبيتهم .
وإلا فأين الضعف الذي يتحدثون عنه حينما ينظمون أوقاتهم ليحفظوا طاقاتهم ويوظفوها فيما يفيدهم ؟
إن أول العلاج _ أخي الصائم الكريم _ أن نحس بقيمة الوقت وأن نوقن أنه يمثل الحياة , والحياة أغلى مما ينبغي أن نحافظ عليه من أماناتنا , والفراغ جوهرة نفيسة قد لا يكتشف الإنسان ثمنها الحقيقي إلا حين تنزع منه وكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى كما قيل :
فالوقت أنفس ماعنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
إن أمتنا خسرت كثيرا من الطاقات الشابة سخروا ما أوتوا من مواهب في خدمة شهواتهم وتلبية غرائزهم وحسب إنهم يعيشون ليأكلوا ويشربوا ثم ليموتوا , دون أن يتركوا أي أثر إيجابي لهم على هذه الأرض التي كانت تنتظر محراثهم وبذرهم وسقيهم .
والسؤال الآن : هل الوقت في رمضان أقل أهمية منه في غيره ؟
على العكس تماماً , فالوقت في رمضان يزداد قيمة وأهمية بسبب الفضل العظيم الذي خصه الله به . والوقت يتضاعف حينما نستطيع أن نتجاوز الظغوط الاجتماعية علينا التي تحاول أن تلزمنا السهر الطويل ليلاً بحجة أن أجواء رمضان الاجتماعية هذه هي طبيعتها عندنا منذ عقود من الزمان وبطبيعة الحال حين يسهر الإنسان كل الليل , فلا بد أن يعوضه نوماً طوال النهار
وهنا المعضلة .. فالليل الرمضاني الذي كان يقضى أوله في عصر السلف في صلاة التراويح ثم النوم حتى ثلث الليل الأول ليكمل مع صلاة التهجد أصبح في برنامج هؤلاء مدينة للألعاب يتنقلون فيها بين المراجيح والمسابح وفطائر الوجبات السريعة .
والنهار الذي كان لكسب الرزق , والسعي في الأرض لإعمارها كما أراد كما أراد خالقها وخالقنا أصبح غطيطاً يذهب بالقلوب حتى عن واجباتها العبادية والاجتماعية .
لقد كنا نقرأ عن السلف من يقول :" والله أنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل فإن الوقت والزمان عزيز " , وقرأنا ما أذهلنا عن النووي رحمه الله أنه يقول :" إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة ثم أنتبه " .
نهار رمضان يتبارك ويزداد حينما يأخذ الجسم راحته في الليل / الموطن الأصلي للنوم وحينما يعمل المسلم بالسنة فيتسحر متأخراً ويفطر مبكراً فإن الامتناع عن الأكل نهاراً يوفر له الزمن الذي كان يقضيه في تناوله ويزيد من نشاطه ذلك لأن الأكل في وسط النهار سبيل للخمول وهو ما نشاهده من الرغبة في النوم ظهراً بعد الغداء مباشرة ومن ثم الكسل عن أعمالنا التي ربما كنا ننوي القيام بها قبل أن نتخم بطوننا
أخي الصائم ..
أليس هدراً أن نضيع شهراً مباركاً كهذا الشهر في سهر عقيم وتبديد لأجل نعمة بعد نعمة الإيمان هي نعمة الوقت الغالية ؟
حتماً سيكون جوابك ..لا.
فهيا إلى المصارحة الثامنة ..
المصارحة الثامنة : ( معاً .. ضد التسول )
أخي الصائم ..
إن صيانة المجتمع مما يعكر صفاء ينابيعه مسؤولية مشتركة بين الدولة والمواطن , فاسمح لي أن أناقش معك اليوم دوري ودورك في القضاء على ظاهرة خطيرة تنمو أشواكها في رمضان أكثر من غيره فتشوه صفاء روحانيته الصافية , إنها ظاهرة التسول .
فبينما أنت تسبح في عالم الصفاء في بيت من بيوت الله تتلذذ بالصلاة والمناجاة مع رب العزة والجلال , قد خشعت الأصوات وانسكبت العبرات ورقت القلوب بسماع كلام علام الغيوب إذا برجل يحمل طفلاً أو عكازاً يشق الصفوف ليقف أمام المصلين صائحاً بأعلى صوته يتصنع البكاء والمسكنة ويهتف بالمصلين أن يعينوه على بلواه ويسترسل في شرح حال غير موثقة فيقطع بذلك أسباب الخشوع ويصرف القلوب عن الذكر والتسبيح ثم يجلس ليتلقى الأموال التي ربما كانت عليه حراماً لكونه كذاباً غير مستحق . وللأسف الشديد تجد التعاطف معه كبيراً مما يشجعه على الاستمرار .
إننا – أخي الصائم – قد نتساهل في مثل هذه القضية متناسين أن لها أضراراً كبيرة على الفرد وعلى المجتمع , فالتسول من الأبواب التي تعطل اليد العاملة القادرة على الإنتاج والكسب , حين يجد المتسول أنه يكسب من مهمته هذه أكثر بكثير من لو أنه عمل بنفسه فيمتهن هذه المهنة الذليلة ويتعود على دلق ماء وجهه أمام الناس ، حتى يفقد إحساسه بوخزات نظرات الآخرين وانتقادهم , ويظل يتسكع في كل طريق منتهكاً حق إنسانيته وحق كرامته وحق مجتمعه ومن الطبيعي بعد ذلك أن تراه لايأبه بأن يستمر في هذه المهنة حتى بعد ان يغنيه الله . وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم :ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس " , ولذلك كان الجزاء من جنس العمل إذ " يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم " كما في الصحيحين .
إن من حق الفقير الذي يعمل ولا يكفيه مردود عمله المالي أو إذا كان عاجزاً عن العمل بسبب مرض أو سجن أو نحوهما أن يطلب من إخوانه المسلمين ما يسد حاجته ولكن الأمور قد أخذت أنظمتها فأصبحت هناك دائرة للضمان الاجتماعي ومراكز لجمعيات البر فعلى المحتاج أن يقصدها ويأخذ حقه منها مرفوع الرأس غير ذليل . وهي مسؤلة عن إيصال الصدقة والزكاة الشرعية إلى مستحقيها فهي تتعرف الفقر الحقيقي من خلال دراسة ضافية بأساليب رسمية موثقة وأخرى اجتماعية خاصة كي تؤدي الصدقة دورها في خدمة المجتمع ومحو شرور الفقر عنه .
إننا – أخي الصائم – حين نعطي غير المستحق فقد حرمنا المستحق وشجعنا المحتالين على دروب الغش والخديعة بل وأسهمنا في نشر البطالة وتحطيم الإنسانية في نفس من نعطيه :
كل من أعطاه قرشا *** حطم الإنسان فيه
إنه مسخ شباب *** راعش لا روح فيه
حقا إننا نحتار حين تعرض امرإة حالها علينا وقد أضجعت إلى جانبها طفلها وبدت في حالة من البؤس ترقق القلوب فليس لنا أن نكذبها فقد تكون ولا نستطيع أن نصدقها لأننا لا نملك الزمن الكافي لاستقصاء حالتها ولا يجوز أن ننهرها وقد قال تعالى : ( وأما السائل فلا تنهر ) الضحى 10 ) فليس أمامنا إذن إلا أن نتعاون مع إدارة مكافحة التسول ونسلمها لها لتتعرف حالها ويكفينا درساً ما حدث في إحدى المحافظات حين اكتشفت الإدارة رجلاً يتلبس بلبوس المرأة يرتدي العباءة والحجاب ويجلس عند بوابة المسجد ليستعطف القلوب الطيبة .
ومن التسول المقنع ما يسمى أخذ العادة أو ما نسميه في عاميتنا ( العويّدة ) ويقصد بها الزكاة السنوية التي تعودت بعض الأسر أخذها من بعض الأغنياء ، فيستحلوا أخذها حتى بعد أن تصلح حالهم ويغنيهم الله من فضله وقد بلغت هذه الظاهرة في رمضان أن يتجمهر الفقراء والمحتالون سواء على بوابة هذا الغني ويربكوا حركة السير ويؤذوا أهل الحي بتجمعهم أمام بيوتهم وذلك كل يوم من رمضان يشجعهم على ذلك التوزيع العشوائي للزكاة وهي ظاهرة بيد الأغنياء أن يحسموها بإرسال زكاتهم إلى جمعيات البر والمؤسسات الخيرية ويرتاحوا ويريحوا وتبرأ ذمتهم مما عليهم
وقاني الله وإياك – أخي الصائم – غوائل الفقر وذل المسألة .
وإلى المصارحة التاسعة
المصارحة التاسعة :( فضائيات )
أخي الصائم
إن المسلم الحق يفرح فرحاً شديداً بإدراك رمضان ليستثمروه في طاعة الله ولكن بعض العادات الاجتماعية تستطيع – بقوة سلطانها على الناس – أن تغتصب من رمضان حقه في خلوص أوقاته فيما يرضي الله تعالى
ومن ذلك صرف كثير من الناس أوقات طائلة في الجلوس بين يدي الشاشة الصغيرة التي أصبحت بعد البث الفضائي تضع العالم بين يدي جليسها من شرقه إلى غربه .
لقد أصبح فضاؤنا العربي والإسلامي ميداناً لتنافس شرس بين عشرات القنوات الفضائية المتزايدة يوماً بعد يوم بينما مضامينها – إلا ما رحم ربي _ لا تزال تنهار من الناحية الفكرية والأخلاقية فجل ما يبث دعايات فجة ومواد خليعة تتاجر بغرائز المشاهدين وتحتقر ذواتهم وعقولهم ، وأي احتقار أشد وأنكى من أن تعرض الرذيلة دون حياء وتلغى كل الرغابة الشرعية عن تلك البرامج بحجة أن المشاهد العربي المسلم لا يريد غير هذا المستوى الدنيء من البرامج ولا تتدخل رقابة هذه الفضائيات إلا عندما تشاهد من الفاحشة ما يقام عليه الحد مع أن هذه القنوات تدرك يقيناً أن المقبلات الجنسية التي تسمح بها تكون عادة أقوى تأثيراً ونفاذاً لاستثارة الغرائز الجنسية من الممارسة نفسها .
وتزداد صولة هذه الفضائيات في شهر رمضان حيث تستعد ببرامج خاصة تحت مسميات كثيرة مثل الفوازير والمسابقات والمسلسلات وكلها تشترك في هتك حرمة شهر الله المعظم وفيما يسميه أحد كتابنا : (( العهر الإعلامي وكأنما اختار منفذوها هذا الشهر المبارك ليصرفوا الناس عن العبادات بما يقدمونه خلال برامجهم من رقص وعري وفجور يندى له جبين المسلم الغيور على دينه .
يقول الكاتب الغيور : (( ولو انصرف المشاهدون عن مشاهدة مثل هذه البرامج لما وجدت هذه البضاهة الفاسدة من يروجها ولوجدت محطات التلفزة المعنية حالها مضطرة إلى تقديم البرامج النافعة التي تحترم وعي المشاهد وتراعي حرمة الشهر الكريم وتحسن إلى المسلم بدلاً من أن تسيء إليه ))
ويقول كاتب آخر : (( من مجمل مشاهداتي هذه السنة خرجت بانطباع جازم : أن غالبية هذه القنوات لاتحترم عقول مشاهديها ولا وقتهم ولا تذوقهم البسيط ولا المعنى العميق لوظيفة هذا الشهر الكريم في حياتنا فلدى القائمين على إدارة وبرمجة هذه المحطات شعور مستحكم أن جمهرة المشاهدين هم أناس أقرب إلى الجهل وبسطاء لا يحتملون قدراًً من التركيز والجهد وفارغون نفسياً ووجدانياً ينتظرون الأغاني والرقصات الموشاة بأجساد فرحة متمايلة لكي تشبع أفئدتهم الفارغة والقائمون أيضاً يعانون أنفسهم من الثقافة والمعرفة والهدف الذي ينطوي على هذه المحطات وهم ضمن وعيهم الهزيل هذا لا يعترفون بأن عقل المشاهد أسمى قليلاً من هذه الفوضى من الألوان والأزياء والحركات ))
أخي الصائم : لن أزيدك على قول هؤلاء الغيورين عليك وأنت أغير منهم على نفسك وأهلك وذريتك فاحم أسرتك من هذا الاستخفاف بدينهم ومشاعرهم وعقولهم وقيمتهم واتق الله أن تطيعه في النهار صائماً , ويعود البعيد في الليل عاصياً .
حماني الله وإياك من كل فتنة.
وإلى المصارحة العاشرة ..
المصارحة العاشرة : ( ماذا عن الخدم في رمضان ؟)
أخي الصائم ..
ها أنت ذا تقضي أياماً تفيض بالبهاء كما يهوي القلب التقي وتتقلب في نعيم العبادة كما يتمنى العبد المحب لمولاه , وتحرص على التخفف من أعمال الدنيا ليفرغ فؤادك لما هو أعز وأجل . فأهنئك بكل هذا الثراء الرباني وأذكرك – أخي الصائم بأن هناك من يتمنى منك أن تلحظه بعين رعايتك وشيء من اهتمامك ويود لو يذكرك بنفسه أنه مسلم يتمنى منك أن يحظى بخصوصية في المعاملة تتناسب مع خصوصية رمضان .
إنهم تحت يديك أجراء يترقبون إشارتك وينظرون مواضع نظرك ليلبوا لك كل طلباتك , خدم كانوا بين أهلهم أسياداً فأذلتهم الحاجة والمسكنة حتى ساقوا نساءهم للخدمة في بيتك وبيوت بني ديارك خارج ديارهم مرغمين وساقوا شبابهم سائقين وعاملين يرضون بأدنى المهن ويتغربون من أجل رواتب زهيدة لا ترفعهم من حال الفقر إلى الغنى غالباً ولكنها تقيم أودهم وتشبع جوعة أطفالهم وتحفظ ماء وجوههم عن دنس الاستجداء وذل المسألة .
أفلا تستحق هذه الفئة منك لفئة حانية تؤجر عليها في رمضان ؟
إنهم مثلك مسلمون يصومون كما تصوم ويتمنون أن يقوموا من الأعمال الصالحة في هذا الشهر بمثل ما تقوم فهلا خففت عنهم بعض الأعمال وفرغتهم جزءاً من الوقت ليفرغوا لقراءة القرآن أو صلاة القيام ؟!
هذا هو أملي فيك فكما أنك تسعى إلى فقير لتعطيه وإلى محتاج لتعينه وإلى ملهوف لتغيثه فلن تنسى إن شاء من هم في بيتك أو مؤسستك .
ودعني – أخي الصائم – ألتفت إلى صنف آخر من الناس لا يزالون قلة ولله الحمد أعيذك أن تكون واحداً منهم أولئك الذين تولوا على هؤلاء الفقراء فظلموهم كثرت أموالهم ولكنهم ماطلوهم في إعطائهم حقوقهم وأخروا رواتبهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة , وأمنوا هم في ديارهم ولكنهم خوفوا هؤلاء الغرباء بقطع أرزاقهم وإرجاعهم إلى ديارهم مقهورين مفلسين وأراحوا هم أجسامهم وأرهقوا هؤلاء البؤساء بالأعمال المضنية ولم يفرقوا حتى بين رمضان وغيره فبينما هم زادوا لأنفسهم ساعات النوم والراحة تركوا هؤلاء المساكين يشقون ليل نهار بعد أن خلط الناس بين الأوقات في رمضان فلا يكادون يجدون وقتاً يلتقطون فيه أنفاسهم مع هؤلاء الأسياد عفواً الظلمة لأنفسهم ولغيرهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : نعم هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " رواه البخاري . ولا أدري كيف أمن هؤلاء من عاقبة الظلم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة رواه مسلم وكيف لم يقلقلوا بعد ظلمهم خوفاً من دعوة ليس بينها وبين الله حجاب .
أخي الصائم ..
كما ترجو الأجر في صيامك وقيامك فاطلبه في التخفيف عن خدمك وعمالك في هذا الشهر وإسداء المعروف لهم والسماح لهم بأداء العبادات والطاعات حتى لو كانت تستدعي سفراً إلى مكة لأداء العمرة فلتحتسب ذلك عند الله فإنما هي فرصة ثمينة لهم ماداموا بين ظهرانينا قريبين من الحرم ولك في ذلك الأجر إن شاء الله .
وإلى المصارحة الحادية عشرة ..
المصارحة الحادية عشرة : ( أفضل الجود )
أخي الصائم ..
إن الرحمة تنشأ عن الألم فإذا ذاق الغني طعم الجوع الذي يذوقه الفقير تحركت أحاسيسه تجاهه وإن غرغرة المعدة في نهار رمضان لخطبة بليغة اللسان تعظ الغني أن ينسى أخاه الفقير فتزكو نفسه وتتربى على خلال الجود والرحمة والشعور الرفيع الذي يزهق أنفاس الأنانية ويرتفع إلى مستوى الإيثار ورد أن يوسف عليه السلام كان يكثر الصيام وهو على خزائن الأرض فسئل في ذلك فقال : " أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير "
أخي الصائم
إن من الغلظة حقاً أن تجد أقواماً لا تهزهم دمعة محروم ولا تحرك أعصابهم تأوهات مبتلى , ران على قلوبهم ما يكسبون من الأموال الطائلة فعاشوا لأنفسهم يهرقون الذهب والفضة بين يدي شهواتهم وسفراتهم بل وأطفالهم ويضنون بها عن أسرة محتاجة فقدت عائلها أو يتيم يتجرع مرارة اليتم كل يوم مرات ومرات وكأنهم ضمنوا النعمة التي بين أيديهم والله تعالى يقول :{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: 9 )
إن رمضان – كما يقول أحد العلماء - : شهر نزلت فيه هداية السماء إلى الأرض فناسب أن يكون زمن عبادة ترتفع بها النفوس من شهوات الأرض إلى روحانية السماء وتتخلص من جوانب المادية ودوافع الغرائز إلى صفاء ونقاء يضفي على النفوس البشرية نوعاً من الشفافية والرقة "
فما أقسى قلبه !! ذاك الذي دخل رمضان فلم يغير في موقفه من الفقراء شيئاً وما أرق قلبه !! ذاك الذي لم تطب نفسه حين أراد أن يستعد لشهر الصوم ببعض الاحتياجات إلا أن يتكفل بعدد من الأسر ليفرحهم كما فرح ويؤنس نفوسهم التي أوحشها الفقر ولوعتها الفاقة .
لقد اعتاد الناس في رمضان صوراً اجتماعية رائعة يتبادلون فيها هدايا الأطعمة فيما بينهم ويتداعون إلى الولائم , وكان لابد أيضاً أن يكون لفئة الفقراء منهم نصيب فبئست الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويطرد عنها الفقراء .
إن رمضان هو شهر الجود وأفضل الجود وأكرمه هو الجود على المحتاجين لأنه خالص من نوايا تبادل المصالح والرد بالمثل كما يقع بين الأغنياء وفيه روح التكافل الاجتماعي الذي حث عليه ديننا الحنيف والذي هو سفينة المجتمع في بحار الدنيا المتلاطمة الأمواج .
أخي الصائم ..
رمضان كريم .. وكريم .. وكريم .. كم يتمنى الفقير قربة مع علمه بأن فيه زيادة في المصاريف , مما يخصه أو يخص كسوة العيد بعده ولكنه يعلم مع ذلك أنك تجود فيه أكثر من سائر العام فهو يؤمل أن يجمع فيه أجرة منزله ونفقات كسوته وكسوة عياله طوال العام ويقضي ديونه ليستأنف رحلة جديدة مع نصب الحياة وكدحها .
فلا تخيب رجاءه مما أفاض الله عليك من صدقة أو زكاة أو هبة فإنه لا يضيع عند الله مثقال حبة من خردل من عمل صالح . تقبل الله مني ومنك ومن سائر إخواننا المسلمين .
وإلى المصارحة الثانية عشرة ..
المصارحة الثانية عشرة : ( رمضان وشباب الشوارع )
أخي الصائم ..
إن النعم كلما ازدادت قيمة في نفوسنا كلما ازددنا حرصاً عليها نشفق عليها أن تنزع من أيدينا أو تنال منها مصيبة أو جائحة لا قدر الله .
هذا المجتمع الآمن الذي ترفرف على ربوعه راية التوحيد هو من أعظم المكاسب التي يجب علينا أن نحافظ عليها ولا نسمح لأحد أن يخدش جمالها وإن وجود بعض الظواهر الاجتماعية المؤثرة على صبغته الهادئة والوادعة لتمثل تشويهاً حقيقياً كأنه بثور متقيحة في وجه حسناء وهي ظواهر تمثل إفرازاً سيئاً لتلاقح المجتمعات المفتوح دون حدود عبر الفضاء والشبكة العنكبوتية وتقليداً محضاً لما يشاهد هنا وهناك .
صورة محزنة شاهدتها في شهر رمضان بالقرب من منزلي حيث يحلو السهر الشبابي الطائش ..
أحد كبار السن في حينا على عتبات الثمانين من عمره خرج يريد قضاء حاجة له من أحد المحلات التجارية القريبة من منزله وفي الطريق رأى جمهرة من الشباب قد اصطفت على جنبات الطريق لاتألو جهداً في إثارة الفوضى تتفنن في إزعاج الحي والمارة بوسائل لا تنقصها الهمجية تخجل العائلات المحترمة حين تضطر للخروج لحاجتها , وتلجئ السيارات العابرة للحوادث المرورية وترعب المارة , وتعرض عشرات الأطفال المغرر بهم للخطر الداهم كل ذلك من أجل استعراض سمج للمهارات الخارقة التي يتمتع بها أحد الشباب المتهور وهو يرقص سيارته أو يدور بها في غطرسة , والتي قد تنتهي بانقلاب السيارة , أو الاصطدام في سيارات , أو ربما الدخول في أحد جدران المنازل القريبة كما حدث ذلك ورأيته .
لن أنسى شيخنا الوقور وهو يراقب هذه المهزلة مرغماً غير مختار , لأنه يقف محتاراً على حافة الشارع ينتظر الفرج ولو للحظات ليقطع الشارع إلى مكان حاجته , وفجأة انزلقت سيارة مجنونة إلى موقع الشيخ لترديه قتيلاً في لحظات , ليكون واحداً من ضحايا التجمعات الشبابية المشبوهة في الطرق العامة .
وإذا كان سرد الحادثة كافياً لتكون عبرة للشباب , فإن الكلمة التي يجب أن تقال يجب أن توجه لأولياء الأمور , الذي منحوا هذه السيارات لمن لا يستحقها , ومن لا يعرف كيف ينتفع بها , ولا يقدر مدى خطرها ويبقون هم غافلين عن فلذات أكبادهم لاهين عنهم بشؤن الحياة التي لا تنتهي , حتى إذا وقعت الكارثة واستدعي أحدهم إلى دائرة الأمن بدأ يتلفت يميناً وشمالاً يبحث عن مخرج لولده من ورطته ويذهب أمثال هذا الشيخ القتيل يشكو إلى ربه من قتله ومن تسبب في قتله .
أخي الصائم ..
أليس أولادنا من أعظم الأمانات عندنا ؟ أو ليسوا مسؤولين أمام الله عن شبابهم فيم يبلونه , فلماذا.. لماذا نرخصهم فنسلمهم لرفقاء السوء في مثل هذه التجمعات الموبوءة , التي لا تخلو من مواعيد مشبوهة ومد الجسور في علاقات تبدأ في الشارع , وتنتهي في مغارة من مغارات الفساد وعصابة من عصابات المخدرات , لا قدر الله ..
ومهما يكن من شيء فإن هذه التجمعات لا تمثل الوجه النقي الطاهر لشهر رمضان المبارك , الذي ينبغي أن نصطبح به ونتمسى وقد اغتسلنا من أدراننا وخطايانا .
أخي الصائم .. ترفق بابنك , وانتشله من هذه الوهدة التي لا يدري قاع هاويتها حين يطل عليها بعين المتعة فيراها بركة زرقاء توج بلآليء الضوء المتوهج , فتغريه بالعومة التي قد لا ينجو من فكيها .
أعتذر لك أخي الصائم إن كنت قد جرحت مشاعرك بمدية الحقيقة , ولكن عذري أنني أحبك , وأحب لك الخير الذي أحبه لنفسي .
وإلى المصارحة الثالثة عشرة ..
المصارحة الثالثة عشرة : ( نظرات موبوءة )
أخي الصائم ..
من الظواهر الاجتماعية التي تبدو غير مرغوبة من فئات كثيرة من المجتمع وجود الشباب دون صحبة أحد من نساء بيوتهم في أسواق النساء العامة في شكل فردي أو ثنائي أو أكثر دون أن يكون لديهم حاجة في الشراء لأنفسهم أو لأهلهم .
فهم في موطن تهمة مهما برأوا ساحتهم أمام المجتمع بحجج شتى , ولاسيما إذا بدوا في نوع من الزينة والتجمل المبالغ فيهما , ووقفوا في مواطن مريبة , وراحوا يطلقون سهامهم دون وعي لحرمات الله ومحارم خلقه . وربما صحبوا ذلك بتعاطي الدخان , أو تناول بعض المرطبات والوجبات الخفيفة مما يشير بوضوح إلى أنهم جاءوا لهدف آخر غير التسوق .
إن هذه الظاهرة ليست خاصة برمضان ولكنها تكثر فيه بسبب فراغ الشباب في زمن التسوق المفضل لدى النساء بعد العشاء إلى قريب من الفجر .
فيا أخي الصائم ..
لو تأملت معي هذه الظاهرة لرأيتها خروجاً ظاهراً على المألوف من عادات هذا البلد الطيب , وخرقاً لأعز مكاسبه من الفضيلة وانتهاكاً صارخاً لحرمات الله في شهر الطاعة والإنابة .
وإذا كانت نعم الله تعالى على الإنسان أجل من أن تحصى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) إبراهيم : 34 فإن من أجلها نعمة البصر التي ليس لفضلها ساحل وليس لامتداد أثرها على الإنسان أفق مشهود , أفيكون شكرها إلا بصرفها فيما خلقت له من طاعة الله وتلاوة كتابه , أو النظر في ملكوته من مشاهد الخلق العظيمة أو المنافع البشرية .
ولكن هذه النعمة تتحول إلى حسرة وألم , وندامة وأي ندامة حين يطلق الشاب العنان لكل نظرة أن تصل إلى ما تريد وإلى كل ما تشتهي متناسياً أن للناس _ مثله _ حرمات يغارون عليها ولهم عورات يأبون أن تصل العيون إليها , وكم من الحوادث العظيمة التي جرها النظر الموبوء إلى صاحبه :
كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على خطر
وللصوم مع هذه النعمة شأن عجيب , فهو يهذبه ويوجهه :
يا معشر الشباب , من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج , ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه وجاء " رواه الشيخان .
فالصوم إذن سلاح قوي في أيدي الشباب , يمنحهم قوة الإرادة , مقابل إضعاف دواعي الشهوة فيتحكمون في أهوائهم وشهواتهم , قال لقمان الحكيم :" يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة ", ويقول آخر :" إذا شبعت النفس من الشهوات جاعت إلى الخبائث "
معشر الشباب .. اقرءوا قول الإمام الغزالي وتأملوه : : أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق ".
واعلموا أن النظرة سهم مسموم كما قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم , ومعنى ذلك أنه يرتد على نفس صاحبه في مقتل من مقاتل الفضيلة والحشمة كما يصنع السم في البدن .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} النور : 30
ولا شك أن من يمنعه الصيام من تحقيق شهوته من أجل الله تعالى وحده فإنه لن يخسر بل هو الربح العظيم , فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة فيقول :" أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " فيشفع فيه .
وإلى المصارحة الرابعة عشرة ..
المصارحة الرابعة عشرة : ( خصوصيات زوجية )
أخي الصائم ..
ما أجمل أن يكون لرمضان ظلاله الجميلة على الحياة الزوجية فيضيف إليها من نفحاته ما يجعلها تزداد صلة وحميمية ولا شك أن مما يزيد هذه الصلة حرارة ويبقيها حية متواصلة استمرار ما أحل الله من المتعة بين الزوجين والعجيب أنك تقرأ ذلك في كتاب الله بعد المقطع الخاص بفرضية الصوم في رمضان مباشرة حين يقول الله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } البقرة : 187 هكذا صريحة مباشرة , كي لا يتردد متزهد ولا يخاف متورع ولا يماري متأول , أمر إلهي كريم يبيح العلاقة الجنسية بين الزوجين بكل تفاصيلها المباحة ليحافظ البيت المسلم على أمنه النفسي وعفته الجسدية وتواصله العاطفي .
إن ما استدعى مثل الحديث ما يشبع عند بعض الأسر المسلمة من مقاطعة لكل المداعبات بين الزوجين إلى درجة الانفصال التام في المنام والبعد الجسدي المتعمد ليل نهار فالليل سهر مشترك مع الأقارب والأولاد والنهار لا يليق كما يزعمون أن يجتمع الزوجان في فراش واحد ويبقى الإنسان معرضاً للفتنة بالآخر أو بغيره خلال الصوم أو ظامئاً لشقه الآخر وهو بين يديه مما يؤدي أحياناً إلى جفاف العلاقة بينهما , وربما يتولد الجفاء بطول المدة وشهر كامل مدة طويلة جداً ربما أمرضت وشقت دون داع من دين أو خلق رفيع .
وإذا رجعنا إلى حياة نبينا صلى الله عليه وسلم لوجدنا الأمر مختلفاً تماماً فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم : كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم رمضان " وأنه كما روى الجماعة كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملك لإربه " وفي مسلم كان يقبل في رمضان وهو صائم " وحتى حين يعتكف في مسجده العشر الأواخر ويشد مئزره , فإنه لا ينقطع عن أهله انقطاعاً تاماً بل جاء عن عائشة رضي الله عنها " أنه كان صلى الله عليه وسلم معتكفاً فكانت ترجله ( أي تمشطه ) وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه " فلم يحمله اعتكافه وهو العبادة الملزمة بمكان معين أن يقاطع أهله أو يلاطفهم .
وما ورد من قول عائشة " كان أملككم لإربه " أي أن من كان عنده القدرة على ملك نفسه عما هو أكثر من القبلة والمداعبة فلا بأس بذلك سواء أكان شيخاً كبيراً أم شاباً يعرف من نفسه أنه قادر على التحكم في تصرفاته وذلك في نهار رمضان وأما من لا يستطيع فأمامه ليل طويل لا توجد فيه حدود سوى ما شرعه الله في سوى رمضان , وإن بعد الزوجين في الليل عن فراش الآخر هو الذي جعل الأسئلة تتعدد ممن تورطوا في الجماع في نهار رمضان فوقعوا في إثم عظيم , ومعصية يجب عليهم بسببها التوبة والقضاء والكفارة المغلظة وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ومن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً
أخي الصائم ...
لماذا نفرط في المباح لنقع في الحرام ؟ ! لماذا ننساق مع العادات والفوضى الاجتماعية , ونعطي ظهورنا للنظام , لنتجرع بعد ذلك مرارة الندم .. لا قدر الله ؟! .
وإلى المصارحة الخامسة عشرة ..
المصارحة الخامسة عشرة : ( ما هكذا تكون العمرة )
أخي الصائم ..
إن المسلمين في هذا الشهر الكريم يحرصون أن يكون لهم من كل عمل صالح نصيب , وإن قل . وإن من هذه الأعمال الصالحة المضاعفة الأجر زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة , أملاً في الحصول على ثواب حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم , كما ورد في حديث صحيح عنه وهو عمل جليل يتحمل المسلم في سبيله مشاق كثيرة فهو يبذل ماله ويتغرب عن دياره ويؤجل أعماله ويضحي بوقته واستقراره كل ذلك طمعاً فيما عند الله تعالى . ولا شك أن من خلصت نيته , وصح اتباعه فقد ربح الصفقة .
ولكن – أخي الصائم – هل لي أن أتساءل – معتذراً لكل عباد الرحمن , ووفود الخير المتجهة إلى بيت الله الحرام – ماذا يريد بعض هؤلاء من سفرهم هذا ؟
سؤال قد يواجه بانتقاد شديد من كثير من الناس , ولكني أعتذر عن فضولي الواضح بما أرى من سلوكيات غير مرضية من بعض الزوار بدأت تأخذ حجم الظواهر التي تتطلب الحل السريع , والسريع جداً
فإن بعض الزوار- لو صدقوا مع أنفسهم – أصبح ذهابهم إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة مجرد سياحة , وتغييراً للجو كما يقال وليس للعبادة المحضة ومنهم من تكون لديه أهداف سلوكية محرمة يستغل فيها مجامع النساء في الأسواق والمنتزهات فيسمح لطرفه بما حرم الله وربما جر النظر إلى الخطر .
وآخرون بخلوا بما يجب عليهم من زكاة شرعية أو أداء للديون التي عليهم للناس واستأثروا بالمال في صورة نساك يقصدون الأماكن المقدسة بحجة العبادة , وما دروا أنهم آثمون غير مأجورين حين حرموا الفقراء من حقهم وضيقوا على من وسعوا عليهم دون حق ولا إذن منهم .
وظاهرة أخرى تتبدى في أن الوالدين إذا ذهبا إلى مكة مع أولادهم بنين وبنات حرصاً على اغتنام الأوقات كلها في الحرم لينهلوا من أصناف الأجر ما قسم الله لهم , ولكنهم يتشاغلون عن واجب كبير وهو مسؤوليتهم أولادهم فتراهم يرتلون آيات الله وهم في حرم الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم : 6 , وأولادهم خلال ذلك يغطون نهاراً في نوم وبيل , فتضيع الصلوات عن وقتها وفي الليل يظلون يذرعون الأسواق ذهاباً وإياباً وكأنهم موكلون بالتفتيش فيها , فتهدر الأوقات الفاضلة , والأموال الطائلة في غير فائدة ويتعرضون للفتن والمغريات وربما كانوا هم من أسبابها ولا سيما الفتيات .
فنصيحتي لمن عزم على الذهاب أن ينظر في أمره قبل المسير فإن كان قادراً على ضبط أفراد أسرته وإلا فلا يضيعهم فكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول " كما في الحديث الشريف فليختصر زيارته , وليقتصر على أداء العمرة ثم ليعد من حيث أتى مغفوراً له إن شاء الله .
وإلى المصارحة السادسة عشرة ..
المصارحة السادسة عشرة : ( أوقفوهم عند حدهم )
أخي الصائم ..
إن مما يميز هذا العصر الذي نعيش فيه , أن الترويح أصبح جزءاً مهماً من حياة الأسر والأفراد يخصص له جزء كبير من الوقت والمال والتفكير والمشروعات ويبدو أن رمضان لم يستثن عند الناس اليوم من هذا العنصر الحياتي لا سيما أن جزءاً منه إجازة عن العمل الرسمي , ولا شك أن وجود الترويح بهذه الكثافة يشير إلى ترفه المجتمع , وارتفاع مستوى المعيشة فيه .
ولعل وجود الدوام الرسمي الذي يرغم الإنسان منذ طفولته حتى يبلغ الستين من عمره على عمل مجهد للفكر والجسد جعل من الترويح قضية لا يمكن أن تغفل أو يستهان بها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :" ولكن يا حنظله ساعة وساعة " , مما نقل الترويح في شرع الله من أمر مباح إلى أمر مطلوب , ولكن في إطاره الشرعي المحدد ودون أن يأخذ مساحة أكبر من حجمه الطبيعي .
ولهذا الشهر الكريم خصوصية ينبغي ألا نهضمها حقها , كما أن لهذا المجتمع خصوصية يجب ألا نتنازل عنها ومن ذلك المحافظة على أوقات الفرائض ومراعاة فصل الجنسين خلال اللعب مراعاة للحكم الشرعي ومناسبة اللعبة لطبيعة كل منهما ، وإبعاد الأولاد عن أصحاب السوء حتى لايكون اللعب مجالاً للتأثر السلبي وعدم اختلاط الترويح بالمحرمات كالغناء والموسيقى والكذب والسخرية بالآخرين .
وإذا كنت – أخي الصائم – قد أجملت في الحديث عن أصناف الألعاب فإني لا استطيع أن أقفز على صنفين من الألعاب ينتشر تداولهما بين الناس اليوم هي ألعاب الكمبيوتر , والمفرقعات .
فأما ألعاب الكمبيوتر فإن اللعب بها أصبح هوساً عند بعض الأطفال بل والكبار أحياناً , حتى إن الساعات تتوالى عليهم وهم يسبحون في عجائبها , منساقين وراء فتنتها مما يتسبب في مضار صحية من كثرة الجلوس وتركيز النظر على الشاشة المشعة إلى الآثار النفسية بسبب التوتر الشديد في حلبات السباق الموهوم كما ثبت علمياً أنها تصيب ممارسها بالملل وهو عكس هدف اللعب بها إلى الآثار الاجتماعية حين يتحول اللاعب إلى عضو أشل في المنزل لا نفع له فينتج عن ذلك مشكلات أسرية عديدة .
وأما المفرقعات أو ما يسمى بالشراقيات .. وما أكثرها في رمضان والعيدين – فإنها لعبة المآسي والسادية , فهي إيذاء للآخرين وتلذذ بهذا الإيذاء , فكم روعت من إنسان , وكم أثخنت من جرح وكم أتلفت من ممتلكات ولا أستطيع أن أتناسى جمرة الأسى في قلبي حين رأيت صورة طفلة بريئة فقدت نور عينها بسبب طلقة مفرقعة صبيانية من طفل آخر لتبقى طول حياتها مشوهة حسيرة .
إن مسؤولية حصار هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة تتوزع بين التاجر الذي يخالف الأنظمة ببيعها ويروج بضاعة ضارة وبين من يقوم بشرائها فهل من حل حاسم لنقضي على هذه الظاهرة الضارة ؟!
ومن الممارسات الاجتماعية الخاطئة التي نتمنى – أخي الصائم – أن تختفي خلال ممارسة الترويح على الشواطئ أو في المنتزهات العامة عدم المبالاة بالنظافة أو سلامة المنشآت المعدة للترويح , فبينما تترك صناديق النفايات نظيفة يقوم السياح من مكانهم وكأنه مهجور منذ أيام فأين أثر الدين الذي يتعبد بالطهارة , وأين أثر التحضر والتمدن في زمن تكثر فيه ادعاءات الناس بأثرهما على جميع أنماط حياتهم وأين الحس الوطني الذي يجعل المحافظة على مكتسبات الوطن مضاهية للمحافظة على المكتسبات الفردية , والتي لا يمكن أن نتنازل عن شيء منها أبداً بداع من فطرة التملك وحب الذات
أخي الصائم : لنكن سوياً في صف واحد دعاة إلى شعار واحد
يقول : اترك المكان أفضل مما كان , وليس فقط مثلما كان
وإلى المصارحة السابعة عشرة ..
المصارحة السابعة عشرة :( رمضان والجمعيات الخيرية )
أخي الصائم ..
من أبرز ما يميزنا مجتمعنا الطيب من سمات عليا خلق الإيثار هذه السمة الرفيعة التي تعز على صغار النفوس ومن تملكتهم الأنانية وعشق الذات , الذين يبيعون كل شيء حتى مبادئهم من أجل مصالح زهيدة لا تفطن إليها عيون الكبار .
الإيثار هو الذي جعل كل إنسان في هذا الوطن يرى أن من واجبه أن يقتسم رزقه مع أصناف من إخوانه المسلمين المحتاجين وأن يغرس له في كل بلد من بلدانهم نخلة من البر والإحسان تدر عليه من الدعاء والثواب ما لا يحصيه إلا الله جل في علاه .
ولذلك .. فقد وجدت أفكار الغيورين مرتعاً خصيباً في أرضنا فانطلقت مشروعات النماء والعطاء تنبثق ثم تشب ثم تبلغ أشدها طاوية مرحلة الطفولة بين حنايا أيامها الأولى .
جمعيات تحفيظ القرآن الكريم , جمعيات البر الخيرية , لجان تيسير الزواج , هيئة الإغاثة العالمية , الندوة العالمية للشباب الإسلامي , مكاتب توعية الجاليات , مكاتب الدعوة التعاونية , مؤسسة الحرمين , الإدارة العامة للمساجد , وأمثالها , تتضافر ولا تتنافر , ويخدم كل منها جانباً من جوانب الخير لا يغني عنه الجانب الآخر .
وهي جميعاً تعتمد في مواردها بتوفيق من الله على أمثالك – أخي الصائم – من أهل البر والإحسان , وتعد موسمها الكبير شهر رمضان حيث الجود فيه أكثر من سواه , فما دورك معها ؟
إن مما يحز في الخاطر حقا – يا أخي العزيز – أن يتنصل أحدنا من القيام بأي دور كان ليخدم هذه المؤسسات , والتي كثيراً ما تعتمد في أعمالها على محتسبين لا راتب لهم . ولا يكون حظها منه – بدل أن يكون أحد منابرها الإعلامية ورجالها المخلصين – إلا الإعراض , بل وربما تعدى الأمر إلى إثارة الغبار حول المؤسسة ورجالاتها وأساليب عملها , والحديث عنها في المجالس والأسواق , وليس ذلك من ناصح محب يدخل البيوت من أبوابها فيقدم النصيحة بهدف الإصلاح , ولكن من جاهل أو حاسد أو حاقد , صار كالبعوض يمتص من دم المصابين أقذر الأمراض وينقلها إلى الأصحاء فيصد أهل البر عن بذل الإحسان بالتشكيك في هذه الجمعيات وإثارة الشبهات والشهوات حولها والاتهامات غير الموثقة وإنما اجتلبت من سوق : يقولون .
أما علم هؤلاء المرجفون أنهم يحاربون الله بغيبة هؤلاء المحتسبين , الذين يقومون بعمل ربما كان خيراً من اعتكاف المصلين وصيام المتقين وقيام الخاشعين , فالسعيد من وفقه الله لقضاء حاجات الملهوفين , وبذل المعروف للمعوزين وتخفيف عبء الحياة عن البائسين وما يوفق لذلك إلا ذو حظ عظيم .
الناس للناس ما دام الحياء بهم *** والعسر واليسر ساعات وأوقات
وأسعد الناس من بين الورى رجل *** تقضي على يده للناس حاجات
قد مات قوم وماتت فضائلهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويكفي هؤلاء المحتسبين نصرة الله لهم , وأولئك المرجفين خذلان الجبار لهم يقول , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من مشى في حاجة أخيه مشى الله في حاجته " و" من عادى لي ولياً آذنته بالحرب "
أتراك أخي الصائم ستذهب اليوم إلى واحدة أو أكثر من هذه المؤسسات لتعرض عليها طاقاتك وخدمتك واختصاصك , فلعلها تنتظرك منذ أمد , لتبدأ معك مشروعاً من مشروعات الخير .
وإلى المصارحة الثامنة عشرة ..
المصارحة الثامنة عشرة : ( أنت بطل التغيير )
أخي الصائم ..
أعجبتني كلمة أحدهم : ( الإنسان هو بطل التغيير الاجتماعي في الإسلام ) ومصدر إعجابي بهذه المقولة هو إسباغ صفة البطولة على الإنسان القادر على التغيير , فما أكثر ما نفكر في التغيير الإيجابي ونتمناه , ولكننا نجبن حتى عن تغيير ما نكرهه في ذواتنا فضلاً عن محاولة تغيير ما حولنا مما نعتقد خطأه مهما كان ذلك في إمكاننا .
منذ أن يهل رمضان ومنادي الله ينادي : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر . إنه نداء خاص بشهر رمضان ، يخاطب كل من شهده خطاباً منفرداً وكأنه موجه له ، وهو خطاب مزدوج الطلب ، ينادي في المرء جانب الخير أن أقبل فهذا موسمك الذهبي ، كل بذرة تضعها اليوم ستحصدها سبعين ضعفاً ويزيد ، وينادي جانب الشر فيه أن أقصر فكل أعوانك قد صفدوا ، ولن يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل .
إن هذا التغيير مطلوب في كل الشهور , ولكنه ميزة هذا الشهر الذي يمثل لمن يدخل جامعته المبجلة دورة تدريبية متخصصة في قضية من أهم قضاياه وهي التعامل مع حياته بشجاعة تؤهله أن يحدث فيها التغيير المناسب لتطويرها في الوقت المناسب ، فالنمطية والرتابة تجمد الشخصية , وتفتك بخلايا المخ وتعيقه عن التفكير التطويري .
كل ابن آدم خطاء وليس من الشجاعة بمكان الثبات على الخطاء والإصرار على التشبث به فإن ذلك ليس علامة رجولة ولا ذكاء ولا أريحية بل هو عكس ذلك كله تماماً إنه زيادة طغيان واسترسال في الطريق المهلك .
لقد هبت نفحات رمضان على قلوبنا كالنسائم الطرية فأنعشتها وأحدثت فيها تغييراً سريعاً لم نستطع أن نتعرف سره ولكننا نعيش نعيمه أحسسنا بقربنا من الله أكثر من ذي قبل بمجرد أن هل الهلال وشعرنا بالنداء الحبيب يحرك قلوبنا الساكنة , يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر .
وتلفتنا من حولنا فوجدنا مجتمع الخير يستقبل ضيفه بكل حفاوة وإكرام في كل المظاهر العبادية والاجتماعية والدراسية والوظيفية , كل شيء تغير من أجل رمضان ولكن السؤال يصارحنا : هل هذا التغيير يمثل استجابة الحياء المؤقتة للظرف الطارئ الماضي عن قريب أم استجابة المخبت الذي دخل الشهر أجواء روحه فاكتسح ما في داخلها من لغط الأيام وسفه الشباب وعناد الشيوخ وبدلها كما تبدل الثياب للصلاة ؟!
إن التغيير قضية هائلة بعيدة الغور , واسعة الأفق ولكنها تبدأ من الإنسان ذاته يقول الله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الرعد 11
ففي رمضان فرصة ففي رمضان فرصة لإخضاع سلطة العادة لسلطة الإرادة فالتغيير فيه شامل لكل المظاهر الحياتيه ويشترك فيه كل المجتمع وسريع يقع بين عشية وضحاها , وواقعي يكشف للنفس التي كانت تتمسك بمحبوباتها السيئة متعللة بأنها لا تستطيع الاستغناء عنها بأنها أقوى من ذلك وأنها قادرة حقاً على هجرها مدة من الزمن ليست يسيرة فإذا كانت جادة في التغيير الإيجابي نجحت في الاستمرار على هذا الهجر الجميل .
أخي الصائم .. هل عرضت عدداً من عاداتك التي كنت تتمنى التخلص منها على آلة التغيير العجيبة في شهر رمضان .. جرب فقد تكون نهايتها التي تترقبها منذ أمد طويل ، ولكن وصيتي لك أن تكون قوياً في وجه العادة هادئاً في التعامل مع عنادها لتضمن بإذن الله – دوام الإقلاع عنها .. لا أريد أن أحدد لك عادة معينة بل يكفيني أن تمتلك الشجاعة الكافية على امتلاك آلية التغيير التي يمنحها لك رمضان .. يا صائم رمضان .
وإلى المصارحة التاسعة عشرة ..
المصارحة التاسعة عشرة :( قيادة السيارات في رمضان )
أخي الصائم ..
إن مما يثير النظر حقاً في قيادة السيارة في شهر رمضان المبارك أمران :
أولهما : السرعة الخاطفة التي تصل حد التهور والانفعال الشديد قبل أذان المغرب , في الوقت الذي يكون الإنسان وصل حد الإجهاد وقلة التركيز , مما كان يستدعي منه التأني لتفادي مفاجآت الطريق , بل وأخطاء الآخرين الذين يعيشون النفسية نفسها .
والأمر الثاني: كثرة الحوادث المرورية القاتلة منذ بداية الإجازة الرمضانية إلى نهايتها بعد عيد الفطر المبارك , نظراً لكثرة السفر خلال هذه الفترة , بين الأهالي في المدن , أو إلى الأماكن المقدسة لأداء العمرة وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم . ففي كل عام تذبح آلام الحوادث طيور أفراح العيد عند جمهرة من الناس , وينتقل الناس بين البيوتات في عبارات مزدوجة متناقضة العواطف فتباريك العيد تجاور عبارات العزاء , فلماذا كل هذا ؟
إننا صائمون طاعة لله تعالى فلماذا لا نمشي كما يحب الله تعالى أيمكن أن يحدث ذلك ؟ نعم إننا متعبدون بكل خطرات نفوسنا وحركات جوارحنا وهذا كتاب الله ينطق بيننا {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} الفرقان : 63. إنه هدي قرآني ومديح إلهي لفئة من الناس تمشي بسكينة ووقار وتواضع فلا كبر ولا خيلاء في مشيتهم , ولا تعالي ولا افتخار بملبس أو مركب , ممتثلين قوله تعالى { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} الإسراء 37 , كما أنهم يتحملون أذى غيرهم ويلينون في معاملتهم مع الناس وإذا خاطبهم الحمقى بما يسوؤهم ردوا عليهم بسلام بعيد عن الجهل .
وإذا كانت السيارة اليوم من أجل النعم فإن علينا شكر الله عليها ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ( إبراهيم : 7 ) ومن شكره عملياً تسخيرها فيما ينفع وقيادتها بتعقل وهدوء وذوق .
إن مخالفة هذا الهدي عند بعض المتهورين نتجت عنه حوادث مروعة وخسائر هائلة انعكست سلباً على الإنسان والاقتصاد وعلى الحياة الاجتماعية ونمائها ، فإن معظم المتضررين من حوادث المرور من الفئة العمرية المنتجة ومن المتزوجين ومن المتعلمين كل ذلك بسبب غياب الوعي عن فئة من المجتمع نسأل الله تعالى لهم الهداية .
لقد اعتاد كثير من الناس أن يسمي مثل ذلك مجرد حادث سير ! وربما علق أحدهم محوقلاً مسترجعاً : إيه قضاء وقدر ...!
نعم كل شيء بقضاء وقدر , ولكن الأمور بأسبابها :
· فالذي يتعدى السرعة القانونية المحددة من الجهات المختصة يكون آثماً شبيهاً بالقاتل المتعمد لنفسه أو لغيره ولو كان مسافراً لأداء العمرة .
· والذي يهمل أسباب النجاة في سيارته كتغيير العجلات المستهلكة أو الفرامل الهزيلة يكون مخطئاً في حق نفسه وفي حق البشرية من حوله .
· والذي يقطع إشارة المرور دون سبب شرعي كاف – ولو كان للإفطار أو إدراك صلاة – يكون عاصياً لله تعالى قبل أن يكون مخالفاً لأنظمة المرور لأنه خالف ولي الأمر أو من وكلهم بذلك , والالتزام بالأنظمة عبادة خفية أجرها مذخور عند الله كما أن المتهاون بها عمداً آثم ولا شك , قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء : 59
أخي الصائم .. الرحمن الرحيم ينادينا : فيقول {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } البقرة 195 . فلماذا نتناسى نداء الله حينما نمتطي هذه النعمة التي حولها بعضنا إلى نقمة ؟
إذا هانت على المستهترين أرواحهم فإن الآخرين لا تهون عليه أرواحهم !
وإلى المصارحة العشرين ..
المصارحة العشرون :( مرحباً بالرمضانيين )
أخي الصائم ..
في بيوت الله , حيث يأنس الناس في رمضان بجيرة المساجد ويحسون فيها بروحانية خاصة , بعد أن خففوا عن قلوبهم من أثقال الأرض وتبعات الدنيا فتعلقت بالمسجد فإذا دخلوه ثقل عليهم الخروج منه إلا لحاجاتهم , وإذا خرجوا فإن قلوبهم تبقى معلقة به كقناديله التي لا تكف عن الإضاءة في هذا الشهر الكريم يستشرفون لداعي الخير : حي على الصلاة حي على الفلاح , حتى ليصدق في هؤلاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر من يظلهم الله في ظله يوم القيامة :" ورجل قلبه معلق بالمساجد "
ولذلك فإن المساجد تشكل ركيزة اجتماعية في غاية الأهمية في هذا الشهر الكريم فهي التجمع الوحيد الذي يلتقي فيه أهل الحي خمس مرات يومياً ويتذاكرون فيه توجيهات الشريعة وينطلقون منه إلى نشاطهم الاجتماعي اليومي من زيارات التهاني والتعازي وربما اتفقوا على وليمة مشتركة تشيع بينهم روح الألفة والمحبة أو على استضافة العمالة التي بقرب المسجد في إفطار يومي يجلس فيه الغني التاجر مع الفقير العامل على مائدة واحدة ليحققوا معنى الأخوة الإسلامية والمساواة والتكافل بين المسلمين .
وحسنة أخرى لرمضان أنه يجتذب إلى المسجد كل أفراد الحي تقريباً حتى من كانوا يتكاسلون عن حضور الجماعة فيما سواه وهنا يأتي دور الأئمة والمؤذنين والمصلين الدائمين بأن يحاولوا أن يؤلفوا قلوبهم ويحببوهم إلى المسجد بدلاً من التثريب عليهم وتأنيبهم ووصمهم في وجوههم بالرمضانيين الذين لايعرفون الله إلا في رمضان فلكل نفس جانب طيب ينبغي أن يخاطب في لحظة تفتحه ورمضان ربيع النفوس وموسم تفتح ورود القلوب ولو لم يكن في قلوب هؤلاء حب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه لما قدموا حتى في رمضان , فمرحباً بالرمضانيين في بيوت الله في رمضان وأشد على أيديهم أن يعاهدوا الله تعالى أن يظلوا مرتبطين ببيته بعد وداع الشهر العظيم , فقد تذوقوا حلاوة العبادة في جماعة فمن التقصير الشديد التفريط فيها ( واركعوا مع الراكعين ) البقرة : 43
ومما ينبغي أن يذكر فيشكر الجهود التي يبذلها أئمة المساجد في هذا الشهر ومرابطتهم في مساجدهم أوقاتاً أطول تاركين كثيراً من أعمالهم من أجل إجابة المستفتين وإلقاء الدروس والتعاون مع المؤسسات الخيرية وما يتطلبه من متابعة دقيقة والإشراف على حلقات القرآن الكريم ونحو ذلك وهو ما يتطلب تعاوناً بناء من قبل المصلين وإسهاماً فاعلاً مادياً ومعنوياً بدلاً من أن يبقى أحدهم يحسب الدقائق التي قد تزيد في صلاة ما ليوافي بتقريره بعد الصلاة مباشرة , أو يعد على الإمام أخطاءه وتقصيره في أي أمر من الأمور , ناسياً أنه بشر يصيب ويخطئ وأن من يكثر العمل فلابد أن يخطئ .
ولعل مما يلزم به أئمة المساجد في رمضان عدم السفر وترك المسجد في ظرف يحتاج إلى وجودهم وهذا لا شك مما ينبغي أن يشجعوا عليه ويذكروا بفضيلته وأجره ولكن ذلك لا يعني أن يحرموا نهائياً من أداء العمرة مثلاً في رمضان فما على الأمام من حرج إن شاء الله – إذا ذهب خلال يوم أو يومين فأدى مناسك العمرة وعاد إلى جماعة مسجده ليكمل أداء واجبه وليس للمصلين أن يبدوا تذمرهم من ذلك , بل عليهم أن يقدروا جهده معهم وتضحيته من أجل أداء واجبه معهم .
وإلى المصارحة الحادية والعشرين ..
المصارحة الحادية والعشرون :( همسات في أذن مصلية )
أخي الصائم ..
من خصوصيات شهر رمضان المبارك أنه يتيح المجال أمام المرأة المسلمة أن تصلي كل ليلة في المسجد مع جماعة الرجال في المكان المخصص لمثلها وهو ما كان يحدث في كل الشهور والأوقات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحضور السنوي يمثل للمرأة في مجتمعنا فرصة ثمينة تجتمع فيها عدد من الفوائد والمصالح , فإلى جانب المصالح الشرعية حيث تجد جواً ملائماً للعبادة بعيداً عن صخب الأطفال ومشاغل الدار التي لا تنتهي , وتستمع المرأة إلى التلاوة الصحيحة لكتاب الله , وتجد الفرصة لتسأل عما يصلح دينها ودنياها , وتستمع إلى الدروس النافعة فإنها تكسب مصالح اجتماعية , حين تتعرف على نساء الحي الذي تعيش فيه , ولا سيما في هذا الزمن الذي قلت فيه الصلات بين الجيران بحيث لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً إلا قليلاً . والتعارف مطلب شرعي واجتماعي ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) الحجرات: 13 , ينبني عليه تلاحم المجتمع وتكافله وشيوع روح التعاون بين أفراده حينما تمتد هذه الصلات بعد رمضان , وتحقق أهدافها النبيلة .
أختي الصائمة .. إن حسن نيتك في الحضور إلى المسجد لا يخفي الواقع المشهود , والذي ينضح بعدد من السلوكيات والمخالفات التي تقع فيها بعض النساء في قدومهن إلى المسجد , فهناك من تأتي وقد كشفت وجه ابنتها بحجة أنها صغيرة في نظرها وقد تجاوزت العاشرة من عمرها , وهي تتمتع بما يلفت إليها نظر الرجال وهم يدخلون المسجد بالقرب منها , أو أحياناً تسمح بذلك لخادمتها متساهلة بذلك , ومنهن من يلبس النقاب دون غطاء فيقعن في فتنة الرجال وهناك من تأتي وقد بالغت في زينتها ولباسها وأصباغ الوجه وكأنها قادمة على عرس تختال فيه بين النساء بجمالياتها وهناك من تأتي ورائحة العطور تفوح منها بحجة محاولة إطفاء رائحة المطبخ في جسدها وملابسها , حتى لا تؤذي المصليات معها وهي نية حسنة فالحضور برائحة الطعام إلى المسجد خطأ ولا شك يقع فيه بعض النسوة فيؤذين المصلين والمصليات والملائكة الذين يتأذون مما يتأذى منه ابن آدم ولكن لا ينبغي أن يعالج بخطأ آخر فالمرأة إذا تطيبت وشم الرجال طيبها فهي زانية كما في الحديث الشريف , والحل الذي يمكن أن تفعله هو أن تغتسل جيداً وتبدل ملابسها , فخير الطيب الغسل كما ورد .
ومن العجيب جداً أنك ترى المكان المخصص للنساء في المسجد أقل نظافة وترتيباً من مكان الرجال فالمناديل تنتشر فيه انتشار الجراد ، والسجادات مرمية فيه دون تنظيم , والمصاحف لا توضع في أماكنها الطبيعية , وكان المتوقع العكس تماماً فالتنظيف والترتيب من خصوصيات المرأة أكثر من الرجل في المنزل فلماذا يقل هذا الشعور في المسجد مع أن المفترض أن يكون الحرص على النظافة في المسجد بدافع شرعي , حرصاً على نزاهة المكان المعد للصلاة والعبادة من القذر , ولتترك المرأة أثر طيباً في البيت الذي استضافها شهراً كاملاً ولكي تحظى بالأجر الذي جاءت وتركت بيتها من أجله .
ولا أخفيك – أختي الصائمة – أن أصوات أطفالك في المسجد من ضوضاء وبكاء تصل إلى مصلى الرجال فكيف بمن معك من النساء فلا تؤذي أحد – بارك الله فيك – بأولادك ، فإن استطعت أن تضعيهم في أيد أمينة في المنزل وإلا فاجلسي معهم وصلي في دارك فواجبك نحوهم مقدم على رغبتك في حضور الجماعة وهي ليست واجباً عليك .
وإلى المصارحة الثانية والعشرين ..
المصارحة الثانية والعشرون : ( مهازل تسويقية )
أخي الصائم ..
من أبرز الظواهر التي تصاحب شهر رمضان المبارك حتى نهايته ظاهرة التسوق الشره التي تبدأ قبيل مطلع الشهر بالمواد الغذائية وتنتهي بملابس العيد , أو الأعراس التي تعقبه مباشرة ولا شك أنها حالات تستدعي التسوق لا محالة , ولكن المشكلة تكمن في قضية كبرى وقع فيها كثير من الناس اليوم وهي وهم التساوي بينهم في قدر الدخل الذي يجعل متوسط الحال ينفق ويشتري بقدر الثري في جميع مظاهر الحياة اليومية ويظل بعد ذلك يعاني من سداد ديونه التي لا ترحم حاله , فلا يهنأ بنوم ولا يسعد بلقاء أحد فكل من حوله قد أصبح مديناً لهم , يده هي السفلى وأيديهم هي العليا والهدف من وراء ذلك ترف يمكنه أن يستغني عنه حتى يغنيه الله من فضله .
وقد ساعد في تفاقم ذلك ما تقوم به المحلات التجارية من عمليات تسويقية قادرة على إقناع المستهلك بأن إقدامه على الشراء منها سيوفر له كثيراً من أمواله , فالتخفيض يصل إلى ستين في المائة والتقسيط مريح جداً لا يتعدى ثلاث تسعات متجاورة , ولا يحتاج إلى كفيل ومثل هذه التصفية لن تتكرر مرة أخرى , وإذا اشتريت ثلاث قطع فالرابعة مجاناً , ولنا في كل يوم متسوق لا يدفع ثمن مشترواته , والمسابقات تستعر والسيارات قد شمرت عن عجلاتها أمام المحل في زهو , تدغدغ مشاعر المساكين , الذين يجذبهم الإغراء ويخدعهم البريق ويظل أحدهم يجري وراء كل نور من أشعة الليزر التي تشق عنان السماء , لعله يحظى بصفقة العمر , فيشتري أضعاف ما كان ينوي شراءه , فتصبح التخفيضات ترفيعات , وتعود أغنية التوفير رجع نواح .
أما النساء فيا لها من رحلة يومية مريرة , تقضي فيها المرأة ساعات طوالاً , ركضاً وراء الموديلات الجديدة , لا يقر لها قرار حتى تذرع السوق كله , كي لا تصف إحدى الصديقات محلاً فتخجل أنها لم تقم بزيارته , أما محرمها إذا كان معها فهو مجرد حمال جاء معها ليخفف عنها عبء الأثقال , ليس له رأي ذو بال , بل إن المرأة هي التي تقوم بمفاصلة البائع وهو أخرس ينتظر الأمر بدفع النقود !!
ويقضي الأمر حين تغيب تيم *** ولا يستأمرون وهم حضور
وهي لا تأبه به ولا بحالته المادية ولا بأس عندها إذا استدان , فالمهم ألا تعود إلا بما غلا سعره وندر وجوده لتكتمل لها كل عناصر المباهاة أمام الأخريات هذا غير الذي تكذب فيه وتتباهى بما ليس عندها حتى لا تغلبها واحدة منهن ," والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " كما روى الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولفتة أخيرة في قضية التسوق تسألك – أخي الصائم – هذا السؤال : لماذا لا يحمي وطيس تسوقنا إلا في العشر الأواخر التي كان ينبغي فيها أن نتفرغ للعبادة , ألم نكن نعلم بقدوم العيد من أول الشهر بل قبل هلاله ؟
لقد تعودنا أن نلوم أنفسنا على تأجيلنا شراء اللوازم المدرسية إلى أن تفتح المدارس وعلى تأجيلنا المذاكرة إلى قرب الامتحان وعلى تأجيلنا الاستعداد للمناسبات الشرعية والاجتماعية إلى حين قدومها وفي كل مرة نعزم على تلافي ذلك مستقبلاً , ولكننا نعود إلى التأجيل مرة أخرى .. فمتى نأخذ بالحزم والعزم ؟
وإلى المصارحة الثالثة والعشرين ..
المصارحة الثالثة والعشرون :( لا تشوه ابتسامتك )
أخي الصائم ..
إننا مهما قلنا في الصيام من أثر صحي وأثر اجتماعي بالغ النفع فإن ذلك لا يعني أبداً أن ننسى أنه عبادة محضة لله تعالى , جاء لتربية النفوس على التقوى ومراقبة الخالق سبحانه في جميع السلوكيات , لأن حقيقة الصيام خفية لا يعلمها إلا الله وحده .
عزيزي القارئ . إن مما قد يفهمه بعض الصائمين خطأ , حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " الذي رواه الشيخان . ظانين أن وجود هذه الرائحة في فم الصائم مما يطلب ويحافظ على وجوده , وهو غير مراد في الحقيقة , ولكنها بشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم للصائمين بأن ما يحصل لهم من جراء الصوم من آثار تبدو كريهة للناس هي عند الله عظيمة الشأن , لأنها وقعت في مرضاته وبسبب طاعته , وهذا مثل دم الشهيد , الذي يأتي به يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك مع أن مرأى الدم كريه للنفس الإنسانية .
والذي ينبغي التنبه له أن رائحة الخلوف في فم الصائم هي ليست من فمه وإنما هي من جوفه , ولذلك فإن تنظيف الأسنان لا يؤثر في وجودها أصلاً وإنما قد يثير السواك الطيب رائحة حسنة تغالب شيئاً من تلك الرائحة .
وإن عزوف بعض الصائمين عن السواك من أجل إبقاء رائحة الخلوف أمر مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم , الذي رآه الصحابة رضي الله عنهم يستاك ما لا يحصى وهو صائم , دون تحديد بقبل الزوال أو بعده , فالسواك سنة محببة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقي متمسكاً بها حتى آخر رمق من حياته , وهو مطهرة للفم مرضاة للرب , ولا يؤثر في الصيام حتى وإن كان له طعم طبيعي في الفم وأثر يسير في الريق والأولى أن يتخلص من أثر تنظيفه , حتى لا يبتلع وسخه .
بل لا بأس باستخدام فرشاة الأسنان والمعجون إذا ضمن عدم ابتلاعه , ولا يؤثر الدم اليسير الذي قد يخرج من اللثة , وإن كان الأولى أن يجعل استخدامه لهما بعد الإفطار وبعد السحور قبل أذان الفجر احتياطاً .
أخي الصائم .. لست فقيهاً يريد بيان الأحكام لك , ولكني مثلك أحب النظافة وإن ابتسامتنا للآخرين مهما كانت صادقة شفافة المشاعر تظل مشوهة إذا كانت أسناننا غير نظيفة . وبدل أن تكون الابتسامة في وجوه إخواننا صدقات نرجو ثوابها فإنها ربما تكون مثار اشمئزاز وسخرية .
ومثل ذلك يقال في الغسل فإن السلف رحمهم الله كانوا يغتسلون كل ليلة استعداداً منهم للاجتماع في المساجد للصلاة في رمضان خصوصاً , حباً منهم أن يقفوا أمام مولاهم وهم في خير حال , قد طهرت قلوبهم وأجسادهم وملابسهم . فالمسلم صاحب ذوق رفيع , تعلم من دينه أن يكون طاهراً نظيفاً , للغسل والوضوء والطهارة عموماً في دينه آيات وسنن وأبواب وفصول .
وكما أننا نتضايق حين يقف إلى جوارنا أحد المصلين في المسجد ما يقرب من ساعة أو أكثر ورائحته تفوح بدخان السجائر أو بدخان التدفئة , أو برائحة العرق أو الطبخ , فإننا يجب علينا أن نراعي ذلك مع غيرنا , بل مع ملائكة الرحمن الذين يتأذون مما يتأذى منه ابن آدم , وقد منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكل بصلاً أو ثوماً وظهرت فيهما رائحتهما من حضور صلاة الجماعة حرصاً على أذواق الآخرين ونفسياتهم , وصدق الله العظيم القائل :( وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم : 4 .
وإلى المصارحة الرابعة والعشرين ..
المصارحة الرابعة والعشرون :( أطفالنا في رمضان)
أخي الصائم ..
إن من الظواهر الاجتماعية التي تنتشر في رمضان انشغال الآباء والأمهات عن تربية أطفالهم بالتسوق أو الزيارات اليومية في الديوانيات أو إعداد موائد الطعام أو حتى بقراءة القرآن الكريم في المساجد وإهمالهم في الشوارع أو أمام الشاشات المفتوحة على كل محطات الدنيا دون رقابة أو اهتمام كل ذلك من أجل التخلص من ضوضائهم ومشكلاتهم التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد .
وينتج ذلك نشوء سلوكيات جديدة غالباً ما تكون ضارة تبقى آثارها عليهم بعد ذلك في حياتهم العلمية والعملية .
فأما الشوارع والأرصفة فهي بيئة غير مضمونة في سلامة الخلق أو العلاقات , بل قد تقود إلى ما لا تحمد عقباه من الجرائم الخلقية والجنائية لا قدر الله , وقد يستغل هؤلاء الأطفال من أصحاب السوء في تحقيق رغبات خطيرة من الناحية الأمنية ولا سيما ترويج المخدرات أو التدريب على السرقات من أجل الحصول على المال .
وأما الشاشة التلفازية المفتوحة على جميع القنوات فهي كبيرة الخطر على الطفل خصوصاً فلقد لاحظ الخبراء على الأطفال خاصة أنهم مغرمون بمشاهدة التلفاز , (( فقد كشفت بعض الدراسات أن أغلب الأطفال وكثيراً من الكبار يميلون إلى أن يقبلوا -بدون تساؤل – جميع المعلومات التي تظهر في الأفلام وتبدو واقعية , ويتذكروا تلك المواد بشكل أفضل )) كما يقول الباحث بلومري ( عن أبناؤنا بين وسائل الإعلام وأخلاق الإسلام لمنى يكن )
كما أثبتت دراسات أخرى أن التلفاز غير كثيراً من ترتيباتنا الاجتماعية والتربوية , وأن الأطفال بالذات يحبون أن يتصفوا بصفات البطل الذي يشاهدونه ولو كان غير سوي في خلقه وسمته .
يقول الدكتور سبوك في التلفاز : (( أكاد أحطم جهاز التلفاز أحيانا لأعبر عن ثورتي وضيقي عندما أرى طفلي يحملق مشدوهاً أمام مشهد غرامي حاد يعتدي على بكارة طفولته , أو عندما يعرض سلسلة مثيرة عن الجريمة وكيفية القيام بها وأسلوب تنفيذها وابتكارها ))
ويقول : (( لا يمكن أن تجتمع الأمهات في حديث عن الأطفال دون أن يعلو وجه أكثر من أم حالة الحزن والغضب , لأن التلفاز يسرق من الأبناء وقت المذاكرة ويمنع المراهقين من القراءة المفيدة ))
ويقول : هناك عدد من رجال القضاء والمحللين النفسيين يؤكدون أنه عندما يتم سؤال أحد الشباب المنحرف عن فكرة الجريمة فإن الإجابة تكون من رواية بوليسية أو من برنامج في التلفزيون أو من فيلم في السينما))
وفي دراسة جادة شملت ألفي طالب تتفاوت أعمارهم بين التاسعة والثامنة عشر , , تبين أن الذين يمضون وقتاً طويلاً في مشاهدة التلفاز يعانون انخفاضاً حاداً في اللياقة البدنية بسبب تناول المواد الغذائية مع الاسترخاء أثناء المشاهدة , كما تزيد اضطرابات النوم لدى الأطفال مثل الكوابيس , والأرق , والتوتر النفسي والخوف من الظلمة والأشباح .
وكان ينبغي – أخي الصائم – أن نستغل شهر رمضان في تربية أطفالنا , ونمنحهم جزءا من أوقاتنا فنصحبهم إلى المساجد وإلى حضور دروس العلم فيها ونقيم لهم ما يتناسب مع أعمارهم من برامج داخل المنزل , ونوجههم إلى القراءة النافعة , أو ممارسة الهوايات المفضلة لديهم , والتي تسهم في بنائهم التربوي والسلوكي .
ومن العجيب حقاً أن ترى من يمنع أولاده عن الصيام بحجة أنهم صغار السن في هذا الجو اللطيف حتى بلغ ببعضهم أن يوهم أطفاله الحريصين على الصيام أسوة الكبار أنه يكفيهم ليكونوا صائمين أن يمتنعوا عن الوجبات الرئيسة مثلاً , وأما الأكلات الخفيفة وشرب الماء القليل فإنه لا يؤثر على الصيام , ونحو ذلك من أكاذيب لا تليق بنا في تربية أطفالنا , ولا أدري ما الحال إذا اكتشفوا الأكذوبة بعد حين ؟!
وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يعللون أطفالهم بالألعاب إذا طلبوا الأكل حتى يحين موعد الإفطار , فهل لنا فيهم أسوة حسنة.. ؟! هذا ما أرجوه من نفسي ومنك أخي الصائم .
وإلى المصارحة الخامسة والعشرين ..
المصارحة الخامسة والعشرون : ( بوح إلى زوج شرود )
أخي الصائم ..
أرجو أن تدعني أن أصارحك بحديث ظل يعتلج في صدري أكثر من سنتين أو ثلاث , وكنت أؤجل الحديث عنه , حتى عزمت اليوم على البوح .
إنه ليس بوحي أنا بل بوح زوجتك وأطفالك حديث كل فرد منهم إذا خلا بنفسه , ونجيهم إذا تجالسوا , إنهم يحسون بأنهم وقعوا بين فكي كماشة , ترفعت أخلاقهم عن غيبة الناس فكيف بأبيهم وأحبوك فكرهوا كل كلمة تخدش شخصيتك في نفوسهم وهابوك فتيبست الكلمات على أطراف ألسنتهم فجئت أنوب عنهم فهل ستهبني بعض وقتك ؟
إنهم يقولون إنك لا تقصر معهم في مطعم ولا ملبس , أسكنته ما يليق بمثلهم , وحرصت على تسجيلهم في التعليم كغيرهم , ولكنهم لا يزالون يبحثون عنك في البيت منذ أمد , فلا يجدونك إلا لماماً , فأنت لا تسألهم عن صحتهم ولا تعرف أصدقاءهم , وتجهل مستواهم في دراستهم فقدوا فيك الأنس والحنان الذي لا يظنون أن أحد من الناس يمكنه أن يعوضهم عنه مثلك . وحين دخل شهر رمضان المبارك , أملوا أن يحظوا بمجالستك فخاب ظنهم فلولا جلسة الإفطار السريعة , والتي يعقبها سكوت متواصل لمشاهدة التلفاز لما رأوك وهي جلسة ليست محسوبة لك عندهم لأنهم يعلمون أن جلوسك ليس لهم .
لقد كادت أعصابي تتمزق حين سمعت أحدهم بعد أن رأى أباً يجلس مع أولاده يحكي لهم قصة , سمعته يقول لأمه : لماذا كل الأولاد يجلس معهم أبوهم إلا نحن ؟!
بل لقد ذرفت عيني حين قرأت حادثة تقول : إن أحد الأبناء وقف على باب المنزل ينتظر والده وحينما عاد بادره بالسؤال : والدي كم تعطيك المؤسسة على عملك في اليوم الواحد , فانتهره الأب وعبس في وجهه , ووبخه على مثل هذا السؤال الفضولي , فانكفأ الطفل على نفسه يبكي وانسحب يبكي ذليلاً إلى غرفته .
وبعد أن وعى الأب لخطئه , جلس إلى ولده وقال له : لماذا يا ولدي بادرتني بهذا السؤال قبل أن أرتاح من تعبي , وأنا للتو قد حضرت ولكن قل لي لماذا تسأل هذا السؤال فقال له : أجبني أولا , فقال له : مائة ريال , فأطرق الطفل ثم قال : هل يمكن أن تقرضني خمسين ريالاً فقال الأب ولماذا ؟ فأجاب الطفل : لأني جمعت من مصروفي خمسين ريالاً فأريد أن أكمل لك المائة لأشتري من المؤسسة يوماً واحداً تجلسه معنا .
فاستعبر الأب وبكى , وعلم مدى تقصيره الشديد مع أطفاله بل وزوجته الصبور .
أخي الصائم : إن بعض الآباء يقسمون أخلاقهم نصفين بين أصدقائهم وأفراد عائلتهم فالابتسامة الفرحة والطلاقة في الوجه والتسامح في الخطأ ودماثة الخلق ولطف المعاشرة وطول المجالسة كل ذلك يكون للأصدقاء في الديوانيات والمنتزهات والعبوس والغضب والتوتر الشديد والمحاسبة الدقيقة والشكوى من ضيق الوقت والتبرم بكل شيء للزوجة والأولاد !! فهل هذا من الإنصاف في شيء ؟!!
أخي الصائم : كأني بزوجة مثل صاحبنا تود أن تنفجر يوماً فتقول :
دعني أبح بالذي كتمت من حرق *** ولا تلمني إذا نالتك أشقاها
كم دافعتني إلى بوح لتعتقني *** لكنني خوف هجر منك أنهاها
لا تستطيع فساتيني وأسورتي *** وما تلألأ في كفي وما تاها
أن تشتري من خيالي لحظة خطرت *** فيها رؤاك ولو عزت مزاياها
ولا ألذ بضحكات الصغار وكم *** وددت والله لو أسقيك أحلاها
متى تؤوب إلى دنياي يا حلمي *** وتتقي في بقايا عبرتي الله
وكفكفت بيمين الحب مدمعها *** وسافرت في عروقي نار شكواها
فهل سافرت في عروقك أنت أيضاً – أيها الزوج الشرود – شكراً لك على إنصاتك لبوحي , وبقي أن تصغي لبوح كل فرد من أفراد أسرتك منفرداً , ومجتمعاً .
وإلى المصارحة السادسة والعشرين .
المصارحة السادسة والعشرون :( ماذا بعد العيد ؟)
اقتضت دورة الفصول أن يستضيفنا رمضان ونحن نعيش الأيام الأخيرة من دراسة الفصل الأول , وهي أيام تحصيل وتركيز لجميع المعلومات التي اشترك في حمل هم استيعابها المدرسة والمنزل مع الطالب .
والذي يخشى من حدوثه أن يكون جو العشر الأواخر من رمضان والعيد من أسباب نكوص الطلاب عن التحصيل والمذاكرة الجادة لما يجري فيهما من برامج عبادية أو اجتماعية وخاصة متعددة وشيقة .
والأمر جد وليس بالهزل فليس بعد العيد إلا الاختبار , وبه يتعلق مستقبل أبنائنا وبناتنا , فإذا رققنا قلوبنا أمام تضرعاتهم المصطنعة بأنها إجازة لا ينبغي أن تشغل بالعمل أو المذاكرة فقد ندفع معهم الثمن باهظاً بعد ذلك وقدم نندم ولات ساعة مندم .فالحزم هو سيد الأخلاق في هذا الموضع على حد قول بعضهم :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحيانا على من يرحم
أخي الصائم .. ليس أمامك إلا أن تقوم بالخطوات الآتية من أجل إنقاذ فصل دراسي كامل من الانهيار وضياع الثمرة وذلك بتهيئة الجو المناسب للمذاكرة والتحصيل في بيتمك بالوسائل الآتية :
أولاً : إشاعة روح الإيجابية بين الأولاد والتفاؤل ، والامتناع عن التهديد بالرسوب والفشل ومحاولة معالجة الخوف بالاستعداد الجيد للامتحان والتشاؤم بالتوكل على الله .
ثانياً : استخدام الحوافز المؤقتة على الإنجاز المرحلي في المذاكرة ، والوعد بالنهائية والوفاء بها , حتى يتم التغلب على دواعي الاسترخاء والتأجيل
ثالثاً : توزيع أوقات المذاكرة , وجعل وقت راحة تقدم فيه الأم – مثلاً – طبقاً لذيذاً تجلس فيه الأسرة كلها لتناوله , ووقت للزيارة , ووقت للعب .
رابعاً : إبعاد الطلاب عن جو المشاحنات المنزلية , وعدم تكليفهم بأية أعمال خلال الاختبارات .
خامساً : المشاركة معهم في المذاكرة أحياناً فيما يصعب عليهم ، ولكن دون إشعارهم بالاتكالية الدائمة على الوالدين أو أحدهما .
سادساً : تعليمهم التنظيم في حياتهم كلها , فالنوم والأكل والمذاكرة واللعب لكل منها وقت خاص لا يطغى به على الآخر ولا ننسى أن السهر المتهور عدو التفوق .
سابعاً : الرسالة العقلية , فالإنسان يعطي الاهتمام لما يشاهده يومياً أكثر مما يشاهده أسبوعياً وهكذا , ويكون ذلك من خلال وضع رسالة معينة أمام عيني الطالب لمدة أسبوع لقضية ينساها أو يتساهل فيها , وهي سبب تأخره الدراسي . ويمكن هنا أن نعالج قضية كراهية بعض المواد بمثل عبارة ( ما أسهل الرياضيات ) .
أخي الصائم .. اغرس في نفوس أولادك حب التفوق لا النجاح فقط , إذ لا مكان في عصرنا للضعفاء ومن أبرز وسائل الوصول إلى قمته التوكل على الله ثم إتقان العمل ( إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه ) ودليل حصولنا عليه أننا حققنا ما يتناسب مع إمكاناتنا من الهدف المحدد .
أخي الصائم .. أتمنى لأولادك كما أتمنى لأولادي التوفيق والتفوق في جميع تجارتهم في الحياة .
وإلى المصارحة السابعة والعشرين ..
المصارحة السابعة والعشرون : ( أجمل النسيان )
أخي الصائم ..
حديثي إليك هنا قديم متجدد , قد يرى المتفائلون أنه قتل بحثاً كما يقال ولكني أراه من أهم ما ينبغي أن يعالج ولا سيما في رمضان بل بالقرب من أجواء عيد الفطر المبارك .
إنها ظاهرة غير صحية تلك التي فشت في بعض الأسر وأدت إلى غير قليل من التدابر والتشاحن المتوارث حتى أصبح بعض الأبناء يرثون عداوات سلفت لا يعرفون لها سبباً .
ولقد عجبت حين رأيت أحدهم يتوقف أمام رجلين ويطيل فيهما النظر ثم يقول لهما : أأنتما أخوان فأجاب أحدهما : نعم بل شقيقان فأخذ يحملق بشراهة ويقول : عجباً !! فسألاه عن مصدر عجبه فأجاب : يظهر عليكم أنكما متفقان ومتماسكان وأنا اليوم لا أكاد أرى أخوين على قلب واحد .
لتقل : إنها مبالغة من هذا الرجل , ولكنها حتماً تشي بغير قليل من وجود هذه الظاهرة في المجتمع .
ولعل من أبرز الأسباب المؤدية إلى فشو القطيعة : فشل الآباء في الربط بين قلوب الأولاد وجعل بعضهم يرى أن الآخر هو شخصه الثاني , الذي يحرص على مصلحته ومستقبله ومثل هذا ينبغي أن يبدأ في فترات حياتهم الأولى ثم تتدرج معهم كلما تقدمت بهم الأعمار وهمهم واحد وفرحهم واحد .
وأما على مستوى الأسر الكبيرة فإنه يجب أن يكون هناك عنصر قيادي بينها يكون هو كبير الأسرة وعميدها ترى فيه من الخصال الكريمة ما يستحق به أن يطاع ويستشار فيجمع شتاتها وترجع إليه في فرحها وترحها ويكون نجدة المستغيث وملاذ المحتاج منهم . وإن غياب مثل هذا العنصر يعد من أبرز أسباب ضعف البناء الداخلي لكل أسرة ومن ثم تصدعها وفشو الخلافات بينها .
إن المرء منا قد يغفر للغريب الذنب الذي لا يغفره للقريب فلماذا ؟
ألأنه يبحث عن مصلحة يجدها عند البعيد ولا يراها عند ذي الرحم ؟
أم لأن القريب بحكم طول الصحبة وسقوط الكلفة سقط حقه من الاحترام والتقدير بل حتى من المجاملة ؟!
أم لأننا لانجد الفرصة لكي نشبع طمع نفوسنا في إرضاخ الآخرين لآرائنا إلا على أقربائنا ، لأننا نأمن العواقب معهم ؟!
إن علينا أن نقبل العذر ممن يعتذر وأن نقابل القطيعة بالوصل , ف " ليس المواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها "
إن أسرة الإنسان وأرحامه هم عدته وسنده وهم قوته ومفزعه . فمهما كانت أصالة الأصدقاء ونبلهم فإنهم لن يصلوا – في النوائب – في مستوى تحنن الأرحام واستعدادهم , ومهما تجذرت العداوات والخلافات بين الأرحام فلا بد من العود – ولو بعد أمد – إلى لأم الجراح , وإعادة العلائق , بينما قد تدوم القطيعة بين الغرباء أبد الدهر لأنه لا يوجد عنصر – كالدم – يستطيع أن يشد المتقاطعين ولو بعد أجيال
إن صلة الرحم – أخي الصائم – عظيمة البركة فهي : طاعة للرحمن وبركة في الأرزاق والأعمار , ومن أسباب التوفيق في الحياة ودفع الأذى , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه "
إن رمضان والقرب من العيد تعد فرصة عظيمة لأجمل نسيان في الوجود , وهو نسيان أخطاء أرحامك في حقك , لتعود القلوب صافية نقية كما كانت .
فهلا عزمت – أخي الصائم – أن تطوي كل ما قد تراكم في قلبك عبر السنين بينك وبين أرحامك وأن تبدأ حياة جديدة غير منغصة بالحقد على أحد , فما أشقى الحساد وما أشد مرض الحاقدين !
عافاني الله وإياك من أمراض القلب وآفاته , حتى نستقبل عيدنا المبارك إن شاء الله , ونحن في أحسن حال وأطهر قلب وأكرم نفس .
وإلى المصارحة الثامنة والعشرين ..
المصارحة الثامنة والعشرون : ( قبل الوداع )
أخي الصائم ..
هل لي – أخي الصائم – بعد أن أكثرت عليك من الحديث أن تسمح لي بأن أخاطب شهرنا الكريم ..
لله أنت يا شهر الصوم والخير , ما أخف ظلك ! وما أسرع خطاك ! حللت كالضيف الحبيب , وسرعان ما تحزم حقائبك لتتركنا مع ذكريات جميلة وكأن آخر يوم منك أول يوم استقبلناك فيه , حينها التفتت القلوب قبل الأنظار وأشعلنا مشاعرنا حباً وشوقاً إليك لا لأننا نثق في أعمالنا , ولكن لأننا نرجو فيك رحمة ربنا .
نعنو وجوها للإله وتستحي *** في صومنا الأقوال والأفعال
حتى إذا أزف الوداع وأوشكت *** نذر الفراق على الربا تنهال
عشناك شوقاً لا يزول وفرحة *** لا تنتهي وإن انتهت آجال
من لنا بمثل شهرنا يوقظ فينا ما غفا ويستحث ما ركد فيا أيها الراحل العزيز تمهل .. فلا تزال همهمات الوداع تئن في قلوبنا .. تقول :
يا أنس المصلين , ترى هل سنبقى على هذه الصلة الحميمة ببيوت الله بعدك ؟
يا كهف المساكين , وقد وجدوا فيك النفوس سمحة معطية ترى هل ستستمر تلك النفوس في نداها وجودها ؟
يا مدرسة النابهين , ترى هل ستبقى دروسك المثلى نابضة في حياتهم حتى تعود إليهم بإذن الله ؟
يا روح العباد , ومزرعة الطائعين وروضة التائبين وجنة المتقين .. ها أنت ذا تستدبرنا وتمضي , فنعود بعدك نراجع حساباتنا ..فمن الناس من لم يذق لذة صيامك وإن امتنع عن المفطرات , يبيت على المحرمات المخزيات , وينام عن الواجبات الصالحات فرغم أنفه إن رحلت ولم يغفر له ..
رمضان رب فم تمنع عن شراب أو طعام
ظن الصيام عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهو على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام
يا ليته إذ صام صام عن النمائم والحرام
فلمثل هذا أن يسكب على نفسه دموع الحسرات وأن يعزي أكثر من لو أن حبيباً له مات .
ومن الناس من كنت له واحة خضراء , زرع فجنى وأخذ واستزاد تعلم من صومه أن النفس تصبر عما اعتادته إذا أرادت , وأن الجسد الذي صبر عن الشهوة المباحة في زمن محدود لديه الاستطاعة أن يصبر عن الشهوة المحرمة في كل وقت , وتعلم أن روح الصيام هي التقوى التي تعيد إلى الإنسان إنسانيته التي يفتقدها أحيانا إذا أطلت رغبة أو رهبة فعزم على أن يعيشك في سائر أيامه :
إذا ما المرء صام عن الدنايا *** فكل شهوره شهر الصيام
هكذا ينبغي أن يكون المسلم فكل خير تلقاه من شهر الصيام يجب أن يحظى منه بالديمومة والاستمرار وكل عادة سيئة أقلع عنها يجب ألا يعود إليها مروءة وشيمة وعزيمة وقبل كل ذلك ديناً وتقوى .
فإلى اللقاء يا شهر الصوم .. إلى اللقاء إن شاء الله في عام مقبل
لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفان
وإلى المصارحة الأخيرة ..
المصارحة الأخيرة : ( العيد وآثاره على إصلاح ذات البين )
أخي القارئ ..
أي البشائر أزفها إليك , وقد بلغك الله صيام شهر الخير كله أفضل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه الشيخان . وها قد بلغت الفرحة الأولى وتهيأت للفرحة الأخرى بعد عمر مديد إن شاء الله :" للصائم فرحتان فرحة عند فطره , وفرحة عند لقاء ربه ", فجمعت بفضل الله وكرمه بين سعادتي الدنيا والآخرة .
وكما عشنا في شهر الصوم سعادة العبادة , فها قد تلألأت أنوار العيد الذي يهل علينا بسعادة أخرى , تنشأ من تبادل التهاني الصافية والحب الصادق الحب الذي يجعل النفس المتعنتة شهوراً طوالاً تنصاع .. فتسامح , تسامح حتى من ظلمها ورفض الاعتراف بظلمه والاعتذار منها فضلاً عمن أخطأ وثاب إلى الحق واعتذر .
وما أجمل التسامح يوم العيد , ما أجمل أن يكون غُسل القلوب وغُسل الأبدان بماء واحد فلا يخرج المرء من داره إلا وقد خلا قلبه من كدر الأحقاد قد تتابعت على قلبه آيات العفو كالبرد على الظمأ ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) الشورى : 37 , ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) الشورى : 43 , فيهتف قد صبرت وغفرت . فارتاحت نفسه من إلحاح الثأر الجهول , وهدأت أعصابه بعد أن انطفأت النار , وترمد الجمر وانطوت صفحة سوداء – بإذن الله – إلى الأبد . لترتفع راية العز بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم :" ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا , وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .
وعيد الفطر له خصوصية اجتماعية عجيبة , هي زكاة الفطر التي شرعت على كل فرد يملك ثمنها في المجتمع بدون استثناء , لتؤدي في صبيحة العيد قبل الصلاة أو قبله بيوم أو يومين لتكون طهرة للصائم زكاة عن بدنه ، وطعمة للمسكين في يوم يتمنى فيه أن يكفي عن مدِّ يده , وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : " اغنوهم بها عن السؤال في ذلك اليوم " .
دين عظيم هذا الذي يراعي مشاعر جميع أفراده في يوم فرحهم ويشيع بينهم نوعاً من التكافل الإنساني الفريد هدفه أن يكون إحساسهم بالعيد واحداً , فالفقير يزداد حبه لأخيه الغني ويتمنى له المزيد من الخير لأنه عطف عليه ولم يتجاهل مشاعره , والغني ستختفي عن عينيه مظاهر البؤس والفاقة التي ربما تكدر عليه هناءته ليعيش المجتمع كله شعوراً متآلفاً متناغماً .
أخي الصائم .. ها قد بلغنا نهاية مشوارنا الدافئ كنت فيه حريصاً على أن أمسك بزمام قلمي عن الزلل وأنا أناجيك خشية أن تجد في نفسك علي شيئاً فسامحني فإن من كثر كلامه لا بد أن يزل لسانه , وقد تحدثت إليك كثيراً فكن ممن مدحهم الله بقوله : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) الزمر 18 .
وإني كما حزنت على فراق شهر رمضان , فأني حزين على فراقك ولكنها الدنيا لا تجمع إلا لتفرق وإني قد استودعتك خطرات من نفسي , سمها هدايا , أو نصائح أو تجارب , سمها ما شئت , ولكني أرجوك لا تنسها ولا تنسني من دعوة صالحة في ظهر الغيب .
أستودعك الله تعالى في آخر هذه المصارحات راجياً من الله تعالى أن نكون ممن صلحت أعمالهم وقبلت دعواتهم وكتبوا من عتقاء الله في هذا الشهر الكريم من النار وتقبل تحيات .