×
هذا الكتيب يبين مفهوم الصدق، وفضائله وخصائصة، ويبين الصدق في أقوال السلف والحكماء.

 الصدق الفضيلة الجامعة

د. سليمان بن محمد بن فالح الصغير

بسم الله الرحمن الرحيم

 المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين.. أما بعد:

فلقد تضمن الإسلام شرائع عدة، في العقيدة والعبادة وحياة الأسرة وسلوك الفرد والجماعة، ومما تستهدفه هذه الشرائع تربية النفس البشرية تربية سوية، قوامها الخلق الفاضل، ولأن الأخلاق الفاضلة لابد لها من ضابط يقومها ويدهم نشاطها؛ فإن ذلك الضابط، هو: «الإيمان» فلا مكان للأخلاق بدون عقيدة حتى يشعر الإنسان أنه يمثل في هذا السلوك الأخلاقي دينه الذي يؤمن به. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكمْلُ المؤمنين أحسنُهم خُلُقًا»([1]).

إن الأخلاق وإن كانت انبعاثًا فطريًا فإنه يعرض لها من شواغل الحياة الدنيا والافتتان بالأهواء والشهوات ما ينحرف بها عن جادة الحق، لهذا نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق يبين الترابط بين الإيمان وحسن الخلق، فالإيمان له من التأثير على الإنسان ما ليس لأية قوة أخرى داخلة في النفس أو خارجة عنها، والأخلاق في الإسلام ذات طابع شمولي تشمل فكر الإنسان واعتقاده ونفسه وسلوكه، فمن أخلاق الفكر: تحري الحق، والإنصاف، والتجرد والحياد...، والصبر على التدبر والتفكر والبحث العلمي فهذه كلها أخلاق ترتبط بفكر الإنسان، ومن أخلاق الاعتقاد: عدم تتبع الأوهام والخرافات والتقليد الأعمى.. إلى غير ذلك، وأما حب الحق والخير والشجاعة والعفة وعلو الهمة والجود فأخلاق تتصل بنفس الإنسان، وأما ما يتصل بالسلوك الظاهر من أخلاق فكثيرة.

وأمهات الأخلاق ترجع إلى خلق أصيل هو: «الصدق» ذلك الخلق الذي يُعَدُّ ضرورة اجتماعية، لا يمكن لمجتمع أن يستغني عنه، ومتى أهمل هذا الخلق في مجتمع ما، فترقب نهاية له مأساوية بشعة.. وعلى قدر درجة ذلك الإهمال يكون تفكك المجتمع وتصارع أفراده ونهب مصالح بعضهم، ثم يبدأ انهيار هذا المجتمع وينتهي بالدمار.

لك أن تتخيل مجتمعًا انعدم فيه خُلُق «الصدق» كيف تكون الثقة بين أفراده سواءً بالعلوم والمعارف أو الأخبار أو ضمان الحقوق والعهود والوعود والمواثيق أو الدعاوي والشهادات؟..

ولقد كان أحد الأسباب الداعية لكتابة هذا الموضوع هو انتشار الكذب والغش والخداع بصور مختلفة في مجتمعاتنا الإسلامية على مختلف المستويات – مع الأسف الشديد – وتطرقت في الحديث إلى بشاعة الكذب وبعض صوره وألوانه وما ذكره العلماء فيما يجوز منه وما لا يجوز؛ إذْ لا عيب والحديث عن الصدق أن يذكر ضده؛ ذلك أن حقائق الفضائل تتجلى بمعرفة أضدادها.

إن الإسلام يعلن أن الصدق أحد الأسس التي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي، ووضع قواعد لتربية هذا المجتمع على الصدق واتخذ كل الوسائل الكفيلة لغرس هذا الخلق العظيم في نفوس أفراده جميعًا صغاره وكباره، رجاله ونسائه، وجعل فضيلة (الصدق) جامعة ومرجعًا للأخلاق الفاضلة، ورتب عليها آثارًا حميدة في الحياة الفردية والاجتماعية والأخروية، ستتبين ذلك في ثنايا هذه الرسالة.

أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن ينفعنا بما علمنا من العلم النافع.

كتبه

سليمان بن محمد بن فالح الصغير

رمضان المبارك 1421هـ


 1- الصدق مفهومه وأسسه

مفهوم الصدق:

الصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لا يكون صدقا تامًا..

والصدِّيق: الرجل الكثير الصدق.

وقيل: مَنْ لم يصدر منه الكذب أصلا.

وقيل: مَنْ لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق.

وقيل: من صدق بقوله واعتاده، وحقق صدقه، قال تعالى في إبراهيم - عليه السلام -: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾([2] وقال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾([3]).

فالصديقون: قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ولكن درجتهم تأتي درجة النبيين([4]).

وأصل الصدق في الأقوال سواء كانت ماضية أو مستقبلة ولكنه يتعدى ويكون في الأعمال. لذا جاء في أحد تعاريف الصدق أنه: (هو التزام الحقيقة قولاً وعملا)([5]).

مما سبق نستنتج أن الصدق هو: تطابق العقيدة والقول والعمل بعضها مع بعض وتوافق ذلك مع الواقع والحقيقة.

أسس الصدق النفسية وانبثاقه وتأصله في النفس:

يقصد بالأسس تلك الصفات التي متى وجدت في نفس إنسان فإنه أصبح من اليسير عليه أن يتحلى بفضيلة الصدق، ومن أهم هذه الأسس:

1- محبة الحق: حيث يتولد الشعور النفسي بأن الحق هدف أسمى يسعى إليه الإنسان، ويبذل جهده في الوصول إليه، لأنه قوام الحياة كلها فيعشق الحق وتسري محبته في نفسه. أما جحود الحق مع العلم بأنه حق فذلك انحراف خلقي قبيح، والعوامل النفسية الدافعة لهذا الجحود كثيرة، وكلُّها لا تعدو أن تكون من قبيل الأهواء الجائحة([6]).

وكذلك الذي يُنْكِرَ ذوي الفضل، ويجحد علم أصحاب العلم، ولا سيما إذا كان ذلك يُفْضي إلى الإضرار بمصالح ذوي الفضل والعلم، إنه لا يفعل شيئًا في ذلك إلا من حُرِم عماد الأخلاق الكريمة، وسقط في رذيلة كبرى من الرذائل الخلقية، هي رذيلة جحود الحق وعدم الاعتراف به والإذعان له.

2- ومنها الجرأة والصراحة: فإن الشجاع صدوق صريح لا يعرف المداراة والمداهنة فلا يحتال ولا يخادع ولا يكذب.

3- ومنها الأنفة ونبل النفس: فإن الإباء يدعو إلى أن يصون المرء كرامته من الدنايا، وينزهها عما لا يليق، حتى تكون نفسه نبيلة الغاية كريمة السجايا.

وأما الإيمان فهو الذي تنبثق فضيلة الصدق منه؛ إذْ إن الإيمان بالله شهيد على استقامة حياته ظاهرًا وباطنًا علانية وسرًا.

ويتأصل الصدق في النفس إذا تذكر الإنسان الآخرة، وما يكون فيها من جزاء رغبة في ثواب الله، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.

* * *

 2- فضائل الصدق وخصائصه

1- الصدق رأس الفضائل، وأجمل الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان وتزيده في العلم هيبة ووقارًا. إذ به تُنَال الثقة وتُكْسب الثروة ويَطيب العيش. والصدق إحدى الضروريات التي يتوقف عليها نظام العالم بأسره. ألا ترى أنه بالصدق تثبت الحقوق، وتحفظ الأرواح. ويتم النظام، ويعيش الناس في أمان وسلام، ولولاه لانتزعت ثقة الناس بعضهم من بعض، ولما وصل إليهم شيء من الحقائق في العلوم والأديان.

ألا ترى أن الرجل الصادق يكون دائمًا موضع الثقة ومحل الأمانة مبجلاً محترمًا مهما كانت درجته. لأن الصادق لا يكون خائنًا، ولا مختلسًا، ولا موزرًا، ولا نمامًا، ولا مخادعًا، ولا غشاشًا.

فإذا عاملت رجلاً صادقًا فأنت في مأمن على مالك وعرضك. ويكون هو على يقين من رغبة الناس في معاملته. فالتاجر لا يعامله الناس إلا إذا اشتهر عنه الصدق في المعاملة. والصانع ينصرف عنه عملاؤه إذا لم يصدق في مواعيده. والطبيب لا يقصده أحد إلا إذا وثق به الناس وكان صادقًا، والصدق من أهم الأسس، بل هو الأساس المتين الذي تقوم عليه المجتمعات. ولولاه ما بقى مجتمع. ذلك لأنه لابد للجميع من أن يتفاهم أفراده بعضهم مع بعض. ومن غير التفاهم لا يمكن أن يتعاونوا.

والدليل على ضرورة الصدق هو أن أغلب المعلومات التي وصلت إلينا بالسماع أو بالقراءة مبناها الصدق. وعليها يعتمد الإنسان في معاملاته وتصرفاته. فلو كانت مكذوبة لكانت الأعمال المبنية عليها خطأ وخللاً. ولما وصل إلينا من العلم إلا القليل، ومن أجل هذا عُد الصدق أساسًا من أسس الفضائل، وعنوانًا لرقي الأمم وعزتها.

ويُعد خلق (الصدق) عماد الأخلاق ومرجعًا لأمهاتها، حيث ترى الإنسان الصادق يتصف دائمًا بالفضائل والأخلاق فتجده صريحًا لا يرائي، مستقيمًا غير متذبذب، كريمًا حازمًا، أمينًا، قنوعًا، رحيمًا، بارِّا، صابرًا، عفيفًا، متواضًعا، واضحًا، عاملاً، عادلاً، بعيدًا كل البعد عن الغش والغدر والمكر.. أما الإنسان الكاذب فتجده بعكس ذلك.

فالصدق ضرورة لبناء الشخصية، وفضيلة من فضائل السلوك الحضارية ذات النفع والأثر العظيمين.

2- الصدق يهدي إلى الإيمان وإلى كل خير يقول - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقًا وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»([7]).

فدل هذا الحديث على أن الصدق يهدي إلى البر، والبر كلمة جامعة تدل على كل وجوه الخير، ومختلف الأعمال الصالحات، مما هو زائد على فعل الواجبات وترك المحرمات من الأمور التي تقتضيها مرتبة التقوى.

ومن كان صدوقًا خُلُقه الصدق فإنه لا يمكن أن يكون منافقًا، لأن الكذب هو العماد الأول للنِّفاق، والصادق إما أن يؤمن حقًا ويعلن إسلامه بصدق، وإما أن يتوقف حتى تتبيَّن له الحقيقة، فخلق الصدق يمنعه من أن يظهر الإيمان كذبًا، ويبطن الكفر، كما يمنعه من جحود الحق بعد معرفته.

3- الصدق خلق قابل للاكتساب والترسيخ، ففي الحديث أيضًا دلالة على أن خُلق الصدق في حياة الإنسان قابل للاكتساب، وقابل للتنمية والترسيخ، عن طريق التدريب اعملي المقترن بالإرادة الجازمة، فمِنْ مظاهر الإرادة الجازمة تحري الصدق في الأقوال كلها، وفي مختلف وسائل التعبير العمَلية. والذي يتحرَّى الصِّدْق لا يسمَحُ لنفسه بأن يلقي كلامًا جزافًا دون تروٍّ ولا بصيرة، ولا يسمح بأن يتبع ما ليس له به علم، فيحكم بالظنون التي ليس لها ما يدعمها ويؤيدها من الأدلة الكافية للإثبات أو للنفي، ولا يسمح لنفسه بأن يرائي أو ينافق في أعماله لأنه يحرص على الصدق ويتحرى بإرادته الجازمة الصدْق في أقواله وأعماله، وعندئذ يكون صدِّيقًا، وهذا ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث: «وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا».

وجاء في رواية أخرى: «ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا».

4- الصدق أحد أسباب دخول الجنة: فعن عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم»([8]).

فجل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصدق أحد عناصر ستة مَنْ تحلي بها دخل الجنة، وفي هذا ترغيب بالتحلي بخلق الصدق.

5- لا يكون المؤمن كذابًا: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾([9]).

وعن صفوان بن سليم: «أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا»([10]).

فدلت الآية على حصر افتراء الكذب بالذين لا يؤمنون، أما الكذبات العارضات في حياة الإنسان، التي لا تكون افتراء مدبرًا مقصودًا، والتي لا تكون من خلق متأصل ثابت، فربما تقع من المؤمن.

وكذلك دل الحديث على أن المؤمن لا يكون كذابًا، أي: لا يصل إلى مستوى في تحري الكذب يوصف فيه بأنه كذاب، أما الكذبات العارضات فليس في الحديث ما يدل على أنها لا تكون من المؤمن، وذلك لأن (كذاب) صيغة مبالغة تدل على تمكن خلق الكذب في نفسه. فافتراؤه وافتعاله عن إصرار وتعمد إنما يفعله الكذابون الذين لا يؤمنون فتبيَّن تلازم الإيمان والصدق.

6- حصول الصادقين على معية الله ومنزلة القرب منه: قد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخصص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾([11]).

ولهم منزلة القرب منه، إذ درجتهم تأتي درجة النبيين، أثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدق والصبر وبأنهم أهل الصدق، فقال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([12])، وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.

*  *  *


 3- الصدق في أقوال السلف والحكماء

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لأن يضعني الصدق - وقلما يفعل - أحب إلي من أن يرفعني الكذب وقلما يفعل.

وقال إبراهيم الخواص: الصادق لا يُرى إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل به.

وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أحارب بسيفي في سبيل الله.

وقال بعضهم: مَنْ لم يؤد الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت، قيل: وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق. وقيل: من يطلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل.

وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قَدْر له في قلوب الخَلْق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على الشيء من عمله، فإن كراهته له دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامة الصديقين، هذا إذا لم يكن له مراد سوى عمارة حاله عندهم، وسكناه في قلوبهم تعظيمًا له، وأما لو كان مراده بذلك تنفيذًا لأمر الله ونشرًا لدينه ودعوة إلى الله فهذا الصادق حقًا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها.

وقال بعضهم: الصادق الذي يتهيأ له أن يكون ولا يستحي من سره لو كشف. قال تعالى: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([13]).

وقال عبد الواحد بن زيد: الصدق الوفاء لله بالعمل. وقيل: استواء السر والعلانية.

وقال علي - رضي الله عنه -: قد يبلغ الصادق بصدقه. ما لا يبلغه الكاذب باحتياله. ومن كلامه - رضي الله عنه -: الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك. وقال أيضًا: الباطل والحق يتداولان دول الزمان من غير مذلة للحق ولا معزة للباطل.

وقال الأحنف بن قيس: يا بني، يكفيك من شرف الصدق أن الصادق يقبل قوله في عدوه. ومن دناءة الكذب أن الكاذب لا يقبل قوله في صديقه ولا عدوه. لكل شيء حلية وحلية المنطق الصدق يدل على اعتدال ووزن العقل.

وقال الشعبي: عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك. واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.

وقال عبد الملك لمعلم أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن.

وقال أرسطاطاليس: أحسن الكلام ما صدق فيه قائله. وانتفع به سامعه. وأن الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب.

وقال الحكماء: الصدق عمود الدين، وركن الأدب، وأصل المروءة. فلا تتم هذه الثلاثة إلا به.

وقال أحد العلماء: علم ابنك الصدق، والصدق يعلمه كل شيء.

وقال آخر: ليكن مرجعك إلى الحق ومنزعك إلى الصدق. فالحق أقوى معين. والصدق أفضل قرين.

وقال آخر: لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق، الحق ملجأ الضعفاء والأقوياء.

وقال بعض الفضلاء: الصدق منجيك وإن خفته. والكذب مرديك وإن أمنته.

وقال بعض العلماء: من صدق في مقاله زاد في جماله.

وقال آخر: تحروا الصدق وإن رأيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة.

وقال محمود الوراق الشاعر:

الصدق نجاةٌ لا ربا بهِ

وقُرْبة تُدني إلى الربِّ

وقال أحد الشعراء:

الصدق يُمْنٌ ومنجاةٌ ومحمدةٌ

فيه الكرامةُ والإقبالُ والشرفُ

وقال آخر:

عوّدْ لسانك قولَ الصدق تحظَ به

إن اللسانَ لِمَا عُدْتَ معتاد

مُوَكَّلٌ يَتَقَاضى ما مننت له

في الخير والشر فانظر كيف ترتاد

وقال آخر:

عليكَ بالصدق ولو أنه

أحرقك الصدق بنار الوعيد

وقال النيسابوري:

وأكرم الآداب صدق المنطق

أكرم به أكرم به من خلق

أعدل شاهد على الصلاح

أقرب منهاج إلى الفلاح

شرف به أخلاقك الكريمة

استر به حالاتك الذميمة

من صدق الحديث في المقال

شارك المثرين في الأموال([14])

***

 4- الصدق في العقيدة والأقوال

الصدق في العقيدة:

الصدق في العقيدة هي أن تكون موافقة للحقيقة فيجب أن تقوم هذه على البحث والنظر حتى تصل إلى درجة اليقين فتكون عقيدة صادقة، والصدق في الإيمان بالله هو أمانة الفطرة القائمة على توحيده تعالى وهذه الأمانة هي العهد العظيم، حيث يستلزم ذلك الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالدين الذي جاء به، فهذا هو التكليف الشرعي لقيام الحياة في الأمة الإسلامية على شرع الله في جميع شؤونها، فالعمدة في الفصل بين الصدق والكذب هو الاعتقاد.

الصدق في الأقوال:

الأصل في الصدق أن يكون الأقوال الماضية والمستقبلية الخبرية، ومعنى كون الصدق في القول هو: أن يكون القول الصادر من الإنسان مطابقًا لما هو متيقن منه في نفسه وأن يكون موافقًا للحقيقة الواقعة. ومثال ذلك: أن المؤمن إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. كان صادقًا في قوله، ولكن المنافق إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله كان كاذبًا في قوله؛ لأن قول المنافق وإن كان موافقًا للحقيقة فإنه غير متيقن منه في نفسه أي أنه خالف اعتقاده أو فعله، وأهمية الصدق في القول وعظمته كبيرة جدًا.

روى أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب»([15]) لذا حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التسرع في نقل الأخبار قبل التثبت منها، لئلا يقع الناقل في الكذب.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»([16]).

ومما نشاهده في مجتمعنا أن بعض الناس يندفع إلى الكذب، حين يعتذر عن خطأ وقع منه، ويحاول التملص من عواقبه. وهذا غباء وهوان، وهو فرار من الشر إلى مثله أو أشد، والواجب أن يعترف الإنسان بغلطه. فلعل صدقه في ذكر الواقع وألمه عما بدر منه يمسحان هفوته ويغفران زلته وينجيانه مما خشي من العاقبة.

إن الرجل الصادق يستطيع إذا أراد أن يتحدث عن أشياء يشعر بها في نفسه، كمشاعر الحب والبغض أو يحس بها كالعطش والجوع ونحو ذلك مما يدركه بحواسه الخمس فإنه يستطيع أن لا يحدثك إلا ما يطابق الواقع والاعتقاد فلا يقول: (إني أبغض فلانا) وهو يحبه، كما لا يقال: (سمعت صراخا) أو (رأيت فلانا) مثلا إلا إذا كان قد سمع فعلا أو رأى على الحقيقة.

أما إذا كان الحديث عن أمر حدث تلقى خبره عن شخص آخر، أو أدركهما نتيجة تفكر واستدلال، فإن ذلك يتطلب من الرجل الصادق التروي والاحتراس؛ ذلك أن هذين الأمرين قد يزلقان الرجل إلى القول بما يخالف الواقع والحقيقة في أحايين كثيرة فينزلانه محل ضعاف الثقة، وقد تنسب إليه صفة الكذب، ولذا وجب أن لا يُحَدِّث بها قبل أن يتأكد من حقيقتها، وإن رأى الحال يتطلب روايتها والحديث عنها، فعليه أن يعرض ما يرويه مسندا ذلك إلى رواتها حتى يخرج من عهدتها في حال صدقها أو كذبها، وأما استنتاجاته وظنونه فله أن يعرضها بصيغة الاحتمال فلا يطرحها بصيغة الجزم.. ولذا فمن أسند حديثه إلى من سمعه منه، واقتصر في استدلالاته واستنباطاته فقط حقق الصدق.

ومما لا يخرج عن حدود الصدق أيضًا الكناية والمجاز بأنواعه المختلفة، فلا يعد ما جاء على سبيل ذلك من الكذب نظرا لوجود قرينة تدل على إرادة المجاز، كقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60] أو كقولك: (أكلت التفاح) و (شربت النهر) وأنت في الحقيقة لم تأكل إلا تفاحة واحدة ولم تشرب إلى جزءا يسير من النهر.

وأما القصص الخيالية سواء التي تُحكى على ألسنة الجماد أو الحيوان أو على ألسنة أناس يُستدل بقرينة يضعها المتكلم للدلالة على أنها من اختراعه ونسج خياله وتستهدف العبرة والعظة. فإنها تلحق بالكذب لأنها من قبيل الإخبار بما يخالف الواقع. ولكنه عُدَّ عند بعضهم أن ذلك من الكذب المباح، لأن العرف ولسان الحال جريا على أن مثل هذه الحكايات تقال على أساس أنها مختلقة فكأن القائل يعلن أنه سيقول قولاً كذبًا لغاية بريئة، فالسر في تحريم الكذب معدوم في هذه الحالة.

ومهما هاجس في النفس من مخاوف إذا قيل الحق فالأجدر بالمسلم أن يتشجع وأن يتحرج من لوثات الكذب.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تحروا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه، فإن فيه النجاة»([17]). وقال: «إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به»([18]).

والصدق في الأقوال يوصل بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال، فإن حرص الإنسان على التزام الحق فيما ينبس به يجعل ضياء الحق يسطع على قلبه وعلى فكره، ولذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾([19]).

ولقد وضع الإسلام قواعد ووقف أمام ما قد يعترض الإنسان من بلاء ومحنة، وليس أشد على المؤمن الصادق من أن يبتلى أو يضطر بأن يكذب... لذا فلو اعترضت له على وجه الندرة حال يكون حديث الرجل فيها بما يطابق الواقع جالبًا عليه أو على غيره ضررًا فاحشًا فإنه يجوز له أن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضررًا. وأن يأخذ بالتعريض، وهو الأسلوب المحتمل لمعنيين يفهم السامع منها معنى ويريد المتكلم منها معنى آخر وإن شئت فقل: (هي ألفاظ ذاتُ وجهين: أحدهما غير حقيقة، وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب، وثانيهما حقيقة، وهو ما يقصد المتكلم. ويحق لك أن تسمي اللفظ من أجله حديثًا صادقًا. وهذا ما يفعله الذين أُشربوا صدق اللهجة، متى عرفوا أن في القول الصريح حرجًا أو خطرًا)([20]).

ومما يساق مثلاً لهذا أن أبا بكر الصديق كان يُسأل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة، وهو يريد كتم أمره، فيقول: هذا يَهْدِيني السبيل. يريد أبو بكر من: (السبيل) سبيل الخير والسعادة، ويحملها السائل على الطريق التي يسلكها المسافرون.

عُني الإسلام بصدق الحديث جهد العناية، ويريد مع هذا للأمة إخاء وائتلافًا يجعلها كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ويريد لجيشها الفوزَ على الأعداء، ويرغب في أن يكون الزوجان على وفاق، وحياتهما في نظام، لهذا خفف المصطفى صلوات الله عليه في الكلمة: يقولها الرجل ليطفئ عداوة استمرَّت بين طائفتين، أو يقولها في حرب ليكفيّ قومه قارعةً تسلِّط الأعداء، أو ليِّسكت غضب زوجته الصالحة.

وقد ذهب القاضي أبو بكر العربي في تأويل الحديث إلى أنه أذِن في المعاريض، فذكر هذا الحديث الذي يُروى في استثناء الحرب والإصلاح وإسكات غضب الزوجة، ثم قال: ولكن ذلك بالمعاريض، وهي الألفاظ التي يفهم منها السامع خلاف ما يريد القائل، فهذا المأذون فيه.

*  *  *

 5- الصدق في الأفعال والأعمال

نعم الأفعال تكون صادقة وتكون كاذبة. فالفعل الصادق ما وافق العقيدة وما كان صحيحًا صوابا. فلا يكون الفعل صادقًا وصوابًا إلا بشرطين: الأول؛ الإخلاص لله، والثاني: الصحة الموافقة للواقع.

وتوضيح ذلك، أن الذي يصلي صلاة صحيحة موافقة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشروط والأركان... إلخ ولكنه يقصد في هذه الصلاة الرياء والسمعة. فنقول هذا غير صادق في صلاته؛ لأنه فقد الإخلاص لله تعالى، وكذا من يصلي مثلا العصر خمس ركعات، هذا ولو أخلص لله تعالى في صلاته فإنه غير صادق فيها! (أما الكذب في الأفعال فيكون بأن يتظاهر بالورع والاستقامة وهو فاسق، أو أن يتظاهر بالعلم وهو جاهل، أو بالكرم وهو بخيل، وهكذا حتى إذا حقق غرضه عاد كما كان.

يلاحظ أن بعض المرشحين في الانتخابات من ضعاف الإيمان يسارع إلى المسجد ويصلي مع الناس وقد يكون غير متوضئ ليوهم الناس بصلاحه كي يكسب أصوات الناخبين البسطاء من المتدربين، وقد يصرف أحدهم الأموال على أصدقائه دون حساب كي يقال أنه غني، أو أنه يطيل سبحته ويقرأ الأوراد ليوهم زبائنه بصلاحه، وقد تُوهم امرأة ضرتها بعطاء خصها به زوجها لتغيظها أو تتفاخر عليها)([21]).

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفرى الفري أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا»([22]).

وعن أسماء - رضي الله عنها - أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن لي ضرة فهل عليَّ جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور»([23]«المتشبع أي المتكاثر بأكثر مما عنده يتجمل بذلك، كالذي يُري أنه شبعان وليس كذلك، ومن فعله فإنما يسخر من نفسه، وهو من أفعال ذوي الزور»([24]).

والعمل الصادق هو الذي لا ريبة فيه لأنه وليد اليقين، ولا هوى معه لأنه قرين الإخلاص، ولا عوج عليه لأنه نبع من الحق. ونجاح الأمم في أداء رسالتها، يعود إلى جملة ما يقدمه بنوها من أعمال صادقة، فإن كانت ثروتها من صدق العمل كبيرة، سبقت سبقًا بعيدًا، وإلا سقطت في عرض الطريق، فإن التهريج والخبط، والادعاء والهزل؛ لا تغني فتيلا عن أحد. قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾([25]).

وحينما يكون العمل تعبيرًا صادقًا عما في النفس يكون ممارسة صادقة من ممارسات تزكية النفس، قال الله تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾([26]).

فهذا يؤتي ماله مخلصًا، جاهدًا في تزكية نفسه وتطهيرها من حظ الشيطان.

وقد يكون صدق العمل في بعض الطاعات سببًا في تزكية النفس وتطهيرها من ممارسات أخرى فيها دنس، ولذلك جعل الله من وسائل مداواة الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا واعترفوا بذنوبهم، أخذ قسط من أموالهم على سبيل الصدقة لتطهيرهم وتزكيتهم. قال الله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْبلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾([27]).

وللتربية أثر عظيم في تزكية النفس، ولذلك كانت من مهمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - التربوية تزكية نفوس أصحابه، قال الله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾([28]).

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾([29]).

*  *  *

 6- الصدق في الشهادة والأيمان والبيع والشراء

الصدق في الشهادة:

أمره عظيم وجليل، والكذب فيها من أعظم الكبائر وأخطرها بل السكوت عنها مع العلم بها إثم ومعصية. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾([30]).

هذا تصريح من الله تعالى في أن الكاتم للشهادة آثم قلبه. فكيف إذا كان الإنسان يكذب بالشهادة، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو بكرة - رضي الله عنه -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ثلاثًا. قلنا: بلى، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وكان متكئًا فجلس، وقال: وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت»([31]).

الصدق في الأيمان (بفتح الهمزة):

الأيمان جمع يمين، واليمين: القسم والحلف، والكذب في القسم أمره عظيم؛ لأن الكاذب في هذه الحالة تحمل وزر الكذب ووزر الخديعة حيث صدقه الناس بقسمه وجعل الله عرضة لأيمانه الكاذبة. ولقد شرع الإسلام لمن أقسم على أن يعمل شيئًا ولم يتمكن منه، أن يكفر عن يمينه، أما إذا أقسم على شيء وكذب في قسمه، وكانت نتيجة القسم إبطال حق أو إحقاق باطل وضياع حق، فهذا لا كفارة له.

قال بعض العلماء: (ليس له إلا التوبة وإعادة الحق لأصحابه)([32]).

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس ليس لهن كفارة، الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبعث المتوفي، والفرار من يوم الزحف ويمين صابرة يُقتطع بها مال بغير حق»([33]) واليمين الصابرة، هي اليمين التي ألزم صاحبها وحبس من أجلها، فوصفت بالصبر وأضيفت إليه مجازا.

وقيل: اليمين الصابرة هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، والعياذ بالله تعالى، ذلك لأن صاحبها اقتطع بها مالا بغير حق، أما الكفارة فقد وضحتها الآية التالية.

قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾([34]).

الصدق في المعاملات والبيع والشراء:

على التاجر المسلم أن يتحرى الصدق ويفي بالوعد فإنه رأس ماله فعن عبد الله بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من كن فيه كان منافقا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا أوتمن خان»([35]).

والصدق سبب الخير ومفتاح البركة؛ إذ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما»([36]).

والواقع الذي لا شك فيه أن التزام الصدق في البيع والشراء أمر يحتاج إلى إرادة صلبة، وعزيمة قوية، وإيمان وطيد، واحتمال كريم للتبعات، ولذلك قال بشر بن الحارث: (من عامل الله بالصدق استوحش الناس) وقال ابن القيم: (لحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم) يتحلى الإنسان بأدب الصدق فيشرف قدره وتطيب حياته، ويصفوا باله.

أما شرف القدر فإن الصدق يدل على نقاء السريرة وسمو الهمة ورجحان العقل، كما أن الكذب عنوان سفه العقل وسقوط الهمة وخبث الطوية. وقد جاء ما يرشد إلى أن الصدق حسنة تنساق بصاحبها إلى حسنات، وأن الكذب سيئة تنجر به إلى السيئات، في حديث: الصدق يهدي إلى البر.

ولا يستقيم لأحد سؤدد، أو يحرز في قلوب الناس مكانة إلا حيث يهبه الله لسانا صادقًا، وإذا ابتغى بالكذب منزلة فإنما يتبوؤها بين طائفة ضربت في أدمغتهم الغباوة أو طائفة تؤثر اللهو على الجد، ويشغلها الخداع عن النصيحة.

وأما طيب العيش فإن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن ألفوه يضع الكلمة في غير واقع. وقد يحرص التاجر أو الصانع على درهم أو دينار يقتنصه بكلمة غير صادقة، فإذا هو يضيع سمعة طيبة وربحًا وافرا.

ومن الشاهد أن الصدق يكسب الرجل وقارًا، ويلقي له المودة في عشيرته والناس أجمعين: احترام الناس للرجل الصادق، مما يدعوهم إلى النصح في صحبته، وإذا وضع بين أيديهم شأنا من شؤونه الحيوية قاموا عليها بإخلاص.

وأما صفاء البال فمن ناحيتين:

أولهما: أن مرتكب الرذيلة لابد أن يحس بوخز في ضميره، ويسمى توبيخ الضمير، والكذب من أفظع الرذائل، فوخزه في الضمير غير يسير. ومتى سار الإنسان في طريق الصدق وأقام بينه وبين الكذب حصنا مانعًا عاش في صفاء خاطر وراحة ضمير، ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل.

ثانيهما: أن من يلطخ لسانه برجس الكذب لابد من أن تبدو سريرته، ويجر عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة، فلا يلاقي من الناس إلا ازدراء. وربما رموه بالتوبيخ في وجهه. أما صادق القول فإنه يظل ضافي الكرامة، آمنا من مثل هذا الخطاب المشين.

والمؤمنون الحقيقيون هم الذين يحرصون على هذا الصدق لأنهم يتذكرون ثوابه الجليل، قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾([37]).

وعلى التاجر المسلم أن يتحرى الصدق فلا يكذب فلو حلف وكان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس وهو من الكبائر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب»([38]).

*  *  *


 7- الصدق في المزاح والمدح والوعد والوعيد

الصدق في المزاح:

لقد كان سيرة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - سيرة عطرة كل حدث فيها درس من دروس الأخلاق والآداب.

روى أبو داود عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وأن كان مازحا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»([39]).

حدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ثلاثة أماكن في الجنة كل مكان لمن يتصف بصفة معينة، أحدها: (ترك الكذب وأن كان مازحا)، وهذا وعد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يبين أن الكذب صفة مشينة حتى ولو كان على سبيل المزاح وإضحاك القوم.

فقد ورد في الحديث: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له، ويل له»([40]).

والمزاح الذي لا يتصف بالكذب أمره طيب وممدوح فيه ملاطفة ومداعبة الإخوان تستمتع به النفوس، وشرط ذلك في آداب السلام أن يكون حقا وصدقا وبِقَدْر أيضًا. وقد ورد أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقًا»([41]).

وأتت امرأة عجوز إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان: إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكي، فقال: أخبرت أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾([42])، والرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا كله لم يقل إلا حقًا، فمثل هذا المزاح تطيب به نفس المخاطب وتكون المؤانسة.

الصدق في المدح:

امتازت الأمة الإسلامية بالقصد والاعتدال في جميع شئونها قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾([43]). فلا إفراط ولا تفريط.

عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: أثنى رجل على رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «ويحك قطعت عنق صاحبك قالها ثلاثا. ثم قال: من كان مادحا أخاه لا محالة. فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه ولا يزكى على الله أحدا، أحسب فلانا كذا وكذا» ويصفه بما فيه «إن كان يعلم ذلك منه»([44]).

فإذا رغب المسلم بمدح أخيه ليشجع على مكارم الأخلاق فيحسن أن يكون ذلك في غيبته، لئلا يدخل الغرور إلى نفس الممدوح، وأن يكون الثناء صدقا ودون مبالغة مراقبا وجه الله تعالى في ذلك.

الصدق في الوعد والوعيد:

أخرج الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدا فتخلفه»([45]).

إذا انتشر الكذب في الوعد والإخلاف في العهد بين أفراد المجتمع انعدمت الثقة فيما بنيهم، وانقطع المعروف وعمل الخير، وعاش الناس في حذر من بعضهم، لذا عد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإخلاف في الوعد من صفات المنافقين.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان» متفق عليه، زاد في رواية مسلم: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»([46]).

وقد امتدح الله تعالى الصادقين بالوعيد والموفين بالعهد بآيات كثيرة منها: قوله تعالى يصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾([47] وقال تعالى عن إسماعيل: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾([48]).

والعهود والمواثيق يأخذها المسلم على نفسه في علاقته بإخوانه هو أمانة التعامل في المجتمع المسلم الطاهر النظيف. والوفاء بتلك الأمانات هو واجب الإيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وما لم يف المسلم بها كان خائنًا لله، وخائنًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وخائنًا للأمانات التي أخذها على عاتقه وتعهد بالوفاء بها.

وعلى أرباب الحرف والصناعات، أن يجعلوا من كلمتهم قانونًا مرعي الجانب، يقفون عنده ويستمسكون به، فإنه لمن المؤسف أن الوعود المخلفة، أصبحت عادة مأثورة عن كثير من المسلمين، مع أن دينهم جعل الوعود الكاذبة أمارة النفاق.

وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدر الكلمة التي يقول، ويحترم الكلمة التي يستمع لها، وكان ذلك شارة الرجولة الكاملة فيه، حتى قبل أن يرسل إلى الناس.

عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: «بايعت رسول الله بيعًا قبل أن يبعث فبقيت له بقية. فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه. فقال: يا فتى لقد شققت علي، أنا هاهنا ثلاث أنتظرك»([49]).

انظر كيف توزن الكلمة ويوجب تنفيذها حتى لا تذهب هباء مع اللغو الضائع على أن الوعود الكاذبة ليست فقط كلاما يذهب سدى، ولكنها خرق للمصالح، وإضرار بالناس، وإهدار للأوقات. وليس صدق الوعد خلة تافهة، إنها محمدة ذكرها الله عز وجل في مناقب النبوة: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾([50]).

وسرد الصفات الفاضلة على هذا الترتيب، يدلك على ما لصدق الوعد من مكانة، ولقد كان إسماعيل أصدق الناس وعدا حين قال لأبيه: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾([51]). لما قال أبوه: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾([52]) فإذا كان الوفاء بالوعد يجعله صادقًا فإخلافه كاذبا لا محالة.

والخلاصة أن الوعد، هو: إخبار عما ستفعله في المستقبل من إحسان. وللعلماء في لزوم الوفاء بالوعد ثلاثة أقوال، ملخصها:

1- أن من وعد شخصا بإحسان وجب عليه إنجاز ما وعد وقضي عليه بأدائه. وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ورجحه أبو بكر بن العربي.

2- أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق، ولصاحبه الرجوع عنه.

3- أن الوعد المطلق غير لازم أما المقيد بسبب فإنه يلزم كالدين. وهو مذهب لفقهاء المالكية.

وأما الوعيد فهو: إخبار عما ستفعله من شر، وإخلافه يعد كإخلاف الوعد من جهة أنه كذب.. ولكن الكذب في هذه الحالة يتلاشى أمام فضيلة العفو، ولذا عد إخلاف الوعيد ممدحة، كما قال الشاعر:

وإني إن أوعدته أو وعدته

لأخلف إيعادي وأنجز موعدي

*  *  *


 8- الصدق في القرآن الكريم

يقول الله عز وجل واصفًا نفسه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾([53]). ويقول: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾([54]).

وقد فسر المفسرون الآية بأنه لا أحد أصدق من الله عز وجل في حديثه وخبره ووعده([55]).

فكل ما قيل في العلوم والأعمال مما يناقض ما أخبر به فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقا([56])، وهذا الاستفهام إنكاري يدل على أنه ليس هناك من أصدق من الله عز وجل.

وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾([57] وقال:﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾([58])، فهم أهل الرفيق الأعلى، ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، ولا يزال الله يمدهم بنعمه وألطافه، ويزيد إحسانا منه وتوفيقا، ولهم مزية المعية مع الله، فإن الله تعالى مع الصادقين، ولهم منزلة القرب منه؛ إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان، والإسلام، والصدقة، والصبر وبأنهم أهل الصدق فقال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾([59]) إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.

وقسم سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾([60]).

والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر، وأخبر سبحانه أنه في القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، فقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾([61] وقال: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([62]).

فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله، وعمله وحاله.

فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال؛ كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة؛ كاستواء الرأس على الجسد، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة.

فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صدِّيقِيَّتُه، ولذلك كان لأبي بكر الصديق ذروة الصديقية، حتى سمي الصديق على الإطلاق، والصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع كمال الإخلاص للمرسل.

قد أمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله أن يجعل مدخله على الصدق، فقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾([63]).

وأخبر عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنه سأله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وبشر عباده أن لهم قدم صدق، ومقعد صدق، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾([64])، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾([65]).

فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصدق، وقدم الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأعمال والأقوال. وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.

وقد وصف الله عز وجل رسوله بالصدق. يقول الله عز وجل: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾([66]). فوصف الأنبياء وذريتهم بأنه أعطاهم لسان صدق.

ويقول: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾([67]). فوصف إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقال لنبيه إدريس - عليه السلام -: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾([68]).

*  *  *

 9- آثار الصدق في الحياة الفردية

الصدق يورث التقوى والمغفرة والأجر العظيم، لقد حث الله عز وجل المؤمنين على الالتزام بالصدق وأثنى عليهم يقول الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾([69] ويقول: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾([70] وهؤلاء ممن قال عنهم: ﴿أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، ويقول: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾([71]).

ففي الآية الأولى يحث الله عز وجل عباده الصالحين المؤمنين بأن يصاحبوا الصادقين، وذكر قبله التقوى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ويفهم من هذا أن التزام الصدق يورث التقوى في الإنسان، ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([72]).

وفي الآية الثانية ذكر الله عز وجل أنه وعد الصادقين المغفرة والأجر العظيم، ماذا يريد المؤمن غير هذا؟ المغفرة من الله عز وجل والأجر العظيم كان يكفي له أن يغفر ذنوبه، لكن عطاء الله عز وجل لا يقف عند هذا فإنه أعد للمؤمنين الصادقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولو وضعنا أمام هذه ما ورد في الحديث أن الصدق ينجي والكذب يهلك لاتضح لنا جليًا أن الكذب فعل يهلك الإنسان، في دينه ودنياه.

الصدق أساس في تقوية القيم الروحية وتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب والرقي بالأمم إلى الفضيلة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بما يعرف المؤمن؟ قال: «بوقاره، ولين كلامه، وصدق حديثه»([73]).

وفي الحديث: «إن أهل الجنة كل عين هين سهل طلق».

وقال بعض الحكماء: الصدق أزين حلية والمعروف أربح تجارة والشكر أدون نعمة. وتفشي خلق الصدق بين الناس ينفي النفوس من الشوائب والرذائل والدنس، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسمًا فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقًا، فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثًا).

* ظهور علامات الصدق في وجه الصادق، فالصادق تظهر علامة صدقه على وجهه وصوته، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدث إلى من لا يعرفه، فيقول: والله ما هذا بوجه كذاب ولا صوت كذاب. ولا شك أن أهمية الصدق تؤثر على الصادق كما تؤثر على المخاطب مما يحمله على قبول قول المتكلم الصادق واحترامه.

* والصدق فيه النجاة، لقد كانت قصة المخلفين الثلاثة من أشهر القصص ومثلاً بالغًا لأروع الصور في صدق صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحد أبطالها كعب بن مالك، والثاني: مرارة بن الربيع، والثالث: هلال بن أمية، والقصة بإيجاز هي: في غزوة تبوك تخلف ثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق هم الثلاثة المذكورون آنفًا فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، جاءه المخلفون فاعتذروا إليه فقبل عذرهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وجاءه كعب بن مالك فلما سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، وقال كعب: ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت، لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه، وإني لأرجو فيه عقابي من الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر من حين تخلفت عنك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك». وفعل مثل ما فعل كعبٌ مرارةُ بن الربيع، وهلالُ بن أمية، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلام هؤلاء الثلاثة ولبثوا على ذلك خمسين ليلة لا يكلمهم أحد من الصحابة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فماذا كان جزاء صدق هؤلاء الثلاثة؟ لقد نزل الوحي بتوبتهم، وأصبحت قصتهم قرآنا يتلى، وتسارع الصحابة يحملون بشرى هذه التوبة إلى كعب بن مالك فقدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كعب: فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور. قال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» فقلت: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، وأنزل الله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾([74]).

ومما ورد في سير التابعين هذا الأثر:

كان ربعي بن حراش العبسي الكوفي صدوقًا ثقة، ذكر عند أهل السير أنه من خيار الناس، لم يكن يكذب كذبة قط، وهو من رجال السنة، وله موقف رائع مع الحجاج الذي كان يأخذ بالظنة، كان صدقه منجاة أنقذ الله به ولديه من بطش الحجاج وتعسفه. قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا سفيان، قال: ذكرت ربعي، وتدرون من ربعي؟ كأنه ربعي من أشجع، زعم قومه أنه لم يكذب قط فسعى به ساع إلى الحجاج بن يوسف، فقالوا: ههنا رجل من أشجع زعم قومه أنه لم يكذب قط، وأنه سيكذب لك اليوم، فإنك ضربت على ابنيه البعث، وهما في البيت فغضب، فبعث إليه فإذا شيخ منحنٍ، فقال له: ما فعل ابناك؟ قال هما هذان في البيت، قال: فحمله وكساه وأوصى به خيرًا)([75]).

وقال ابن خلكان: (يقال عن ربعي بن خراش العبسي الكوفي أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان زمن الحجاج، فقيل للحجاج، إنَّ أباهما لا يكذب قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما؟ فأرسل إليه، فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت، قال: قد عفونا عنهما لصدقك)([76]).

* الصدق يؤدي إلى الخير، قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾([77]).

* الصدق ينجي العبد من أهوال القيامة، قال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ...﴾([78]).

* الصدق يورث منازل الشهداء، فعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه»([79]).

* والصدق يورث الطمأنينة والراحة النفسية، فعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا ريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة»([80]).

*  *  *

 10- آثار الصدق في الحياة الاجتماعية

* في الصدق البركة:

إن الصدق له آثاره الحميدة في تعامل الناس بيعًا وشراء وإجارة، هذه الآثار التي تؤتي ثمارها في الدنيا بالنماء والبركة، وتؤتي ثمارها في الآخرة بالثواب والأجر، وعلى النقيض من ذلك يكون الكذب ممحقة للبركة ومناطا للعقاب.

عن حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البيعان بالخيار ما لا يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»([81]).

في الصدق سعادة المجتمع والمحبة بين الناس والشعور بالثقة المتبادلة:

ليس الصدق فرعا من الشجاعة الأدبية فحسب، ولكنه ثمرتها، وهو فوق ذلك ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا به.

إن من آثار الصدق ونتائجه في المجتمع إشاعته المحبة بين الناس حيث يشعر أفراد المجتمع بالثقة المتبادلة ويرسي أسس التعاون الهادف بين الناس، ويساعد على نشر الفضائل وتقدير ذويها، ويجعل للحق هيبة في المجتمع، تحد من مجاراة المنحرفين ومداهنة المنافقين.

تسعد الجماعة وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق، فالمعاملات: كالبيع والإجارة والقرض والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.

والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق الحديث، حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور، تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلة إلى مزاحمتها ما دامت جادة صادقة.

والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد، إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق الحديث والتعامل.

وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقًا حميمًا.

فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة، يطلق بها لسانه، يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللاً وفسادًا، فالكاذب لا يعد عضوا أضل فقط، وإنما هو عضو يحمل دما مسمومًا لا يلبث أن يسري إلى الأعضاء المتصلة به فيؤذيها.

في الصدق الشعور بالمسئولية والوقوف مع الحق:

للصدق أثار أخروية في شعور المسلم بمسئوليته ووقوفه مع الحق والتزامه نهجه، طاعة لله، وتقربا إليه فيكون أهلا لرعاية الله وتأييده، جديرًا بها، وبالفوز والنعيم في الدار الآخرة، فقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾([82]).

في الصدق الإيمان، ولا يجتمع الإيمان مع الكذب:

قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([83]).

في الصدق تتذلل الصعوبات:

وذلك كلما تحرى الإنسان الصدق في المواقف المختلفة ذللت له الصعوبات التي تواجه أهل الصدق ثم يعتاد الصدق حتى يكون صدِّيقًا.

الصدق أعظم وسام يمنح من الأصدقاء:

فإن اختيار الأصدقاء الأوفياء يعصم من مفسدة الكذب. روى الترمذي بإسناد صحيح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»([84]).

لقد صحب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به، وصدقه إذ كذبه الناس في الإسراء والمعراج، ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات فكان أعظم وسام منحه - صلى الله عليه وسلم - أن سماه صديقا.

*  *  *


 وختامًا...

بعد هذا العرض لفضيلة الصدق فحري أن يلج المسلم أبواب الصدق لاكتسابه، وذلك بإدراك خصائصه ومزاياه وآثاره التي كشفت هذه الرسالة ما تيسر من ذلك، وأقول أنه كلما تحرى المسلم الصدق في مواقف الحياة المختلفة ذللت له الصعوبات التي تواجه الصادقين وتوطنت نفسه على ممارسة الصدق فصار ديدنا له.

ومن ذلك العرض نستطيع أن ندرك واجب الشباب المسلم في التمكين لهذه الفضيلة في حياته الفردية وفي مجتمعه، كما ندرك واجب المجتمع المسلم والدولة المسلمة في رعاية الصدق وحمايته وتمكينه في صفوف الأمة.

فالأمة الصادقة الأمينة تأخذ بعين الاعتبار معيار الصدق والأمانة في ميزان حياتها فتجعله مقياسًا لها في اختيار موظفيها بشتى مرافقها، وتوجه سياسات التربية والتعليم توجيها سديدًا في مناهجها فتخرج الأجيال المؤمنة الصادقة، وتجعل وسائل إعلامها تؤدي وظيفتها لتحقيق ذلك في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا مع الصادقين متحرين له في مواقفنا المختلفة، وأن يحشرنا في زمرة الصديقين، وأن تطهرنا ومجتمعاتنا من أدران الكذب غوائله، إنه سميع مجيب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.



([1]) أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.

([2]) سورة مريم: الآية 41.

([3]) سورة النساء: الآية 69.

([4]) بصائر ذوي التميز: (3/379).

([5]) أخلاص المسلم، د/ محمد سعيد معيض: (ص61).

([6]) الوجيزة في الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن الميداني: (ص212).

([7]) متفق عليه من حديث ابن مسعود.

([8]) رواه الإمام أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.

([9]) سورة النحل: الآية 105.

([10]) رواه الإمام مالك في الموطأ.

([11]) سورة التوبة: الآية 119.

([12]) سورة البقرة: الآية 177.

([13]) سورة البقرة: الآية 94.

([14]) هذه الأقوال منتقاة من مجموعة مصادر منها: بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي (جـ3)، وفلسفة الكذب، للدكتور/ مهدي علام، وحكم وآداب... وغيرها.

([15]) أخرجه الإمام أحمد في المسند: (4/182)، وأبو داود في الأدب: (71).

([16]) أخرجه مسلم.

([17]) ابن أبي الدنيا.

([18]) الترمذي.

([19]) سورة الأحزاب: الآيتان: 70، 71.

([20]) صدق اللهجة.

([21]) أخلاق المسلم: (ص64).

([22]) أخرجه البخاري.

([23]) أخرجه البخاري.

([24]) النهاية لابن الأثير: (2/441).

([25]) سورة الأعلى: الآيتان 14، 15.

([26]) سورة الليل: الآيات 14-21.

([27]) سورة التوبة: الآيات 102-104.

([28]) سورة البقرة: الآيتان 151، 152.

([29]) سورة آل عمران: الآية 164.

([30]) سورة البقرة: الآية 283.

([31]) أخرجه البخاري.

([32]) ينظر «أخلاق المسلم وكيف نربي أبناءنا عليها»: (ص67).

([33]) أخرجه أحمد في المسند.

([34]) سورة المائدة: الآية 89.

([35]) أخرجه الفربابي من طرق كثيرة جدًا في كتابه، صفة النفاق: ص22 وما بعدها.

([36]) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد.

([37]) سورة المائدة: الآية 119.

([38]) أخرجه البخاري.

([39]) سنن أبي داود، وإسناده صحيح.

([40]) سنن أبي داود، كتاب الأدب.

([41]) سنن الترمذي.

([42]) سورة الواقعة: الآيات 35-37.

([43]) سورة البقرة: الآية 143.

([44]) أخرجه البخاري.

([45]) سنن الترمذي.

([46]) تقدم تخريجه.

([47]) سورة المعارج: الآية 32.

([48]) سورة مريم: الآية 54.

([49]) أبو داود.

([50]) سورة مريم: الآية 54، 55.

([51]) سورة الصافات: الآية 102.

([52]) سورة الصافات: الآية 102.

([53]) سورة النساء: الآية 122.

([54]) سورة النساء: الآية 87.

([55]) انظر «تفسير ابن كثير» (1/457).

([56]) «تيسير الكريم الرحمن»: (1/119).

([57]) سورة التوبة: الآية 119.

([58]) سورة النساء: الآية 69.

([59]) سورة البقرة: الآية 177.

([60]) سورة الأحزاب: الآية 24.

([61]) سورة المائدة: الآية 119.

([62]) سورة الزمر: الآيات 33-35.

([63]) سورة الإسراء: الآية 80.

([64]) سورة يونس: الآية 2.

([65]) سورة القمر: الآيتان 54، 55.

([66]) سورة مريم: الآية 50، وانظر بصائر ذوي التمييز: (جـ3).

([67]) سورة مريم: الآية 54.

([68])سورة مريم: الآية 56.

([69]) سورة التوبة: الآية 119.

([70]) سورة الأحزاب: الآية 35.

([71]) سورة محمد: الآية 21.

([72]) سورة الزمر: الآية 33.

([73]) رواه هناد عن مجمع بن يحيى مرسلا، حديث حسن.

([74]) سورة التوبة: الآيات 117-119، والقصة مشهورة في كتب الأحاديث والسير، ينظر سيرة ابن هشام وصحيح البخاري، كتاب المغازي.

([75]) حلية الأولياء.

([76]) وفيات الأعيان.

([77]) سورة محمد: الآية 21.

([78]) سورة المائدة: الآية 119.

([79]) رواه مسلم.

([80]) أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

([81]) أخرجه البخاري وغيره.

([82]) سورة النساء: الآية 69.

([83]) سورة البقرة: الآية 177.

([84]) سنن الترمذي.