الغيرة المفتقدة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلة له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: الغيرة هي أرفع خصال الرجال مع أهليهم وأعراضهم، فيها تتجلى المحبة والود ربما تذكر الشهامة والقوامة، وعلى أساسها تنتشر الفضيلة ويسود العفاف.
والغيرة صفة من صفات الله جل وعلا، فهو يغار – كما يليق بجلاله سبحانه – على عباده من أن يعبدوا غيره، أو يطيعوا أحدًا سواه.
وهي أيضًا من صفة الأنبياء والمؤمنين، ومن النعوت التي لا تكتمل رجولة الرجال إلا بها في سائر الأعراف والملل.
عن سعد بن عبادة t أنه قال: يا رسول الله إن وجدتُ رجلاً مع امرأتي، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟
فقال النبي ﷺ: «نعم».
فقال: والذي بعثك بالحق، إن كنت لضربه بالسيف غير مصفح.
فقال النبي ﷺ: «أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني» [رواه البخاري ومسلم].
والناس في غيرتهم على الأعراض أصناف:
فمنهم من فهم الغيرة فهمًا سليمًا فحفظ بها قوامته، وصان بهم عرضه.
ومنهم من تطرف في فهمها، حتى صارت في حقه بلاء، وهمًا.
ومنهم من تقاعس عنها فعرَّض عرضه للأخطار والأمراض.
فما هي الغيرة؟ وما نواقضها؟
* * * *
الغيرة المحمودة
الغيرة على الأهل تعد من مفردات الحب والمودة الزوجية، وهي من أخص خصائص الشهامة والقوامة في الرجل، لذلك ما جاء الإسلام إلا ليقر وجودها وفرضها ويتمم معانيها الجميلة.
فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه».
والغيرة المحمودة: هي ما كانت من الرجل إذا ارتاب في أمر أهله، بحيث لا تتسلط عليه الوساوس والأوهام، وإنما يبنى مواقفه وحفاظه على أهله بما شرعه الله جل وعلا، وأتى به العرف.
ومفردات الغيرة المحمودة كثيرة جدًا، تكون بمجملها قيم الفضيلة، والحيطة من التهم، وأهم مظاهر الغيرة:
1- أن يصون الرجل أهله من الاختلاط: وذلك بمنعها من الذهاب إلى الأماكن المشبوهة التي يخاف عليها من الضرر، فإن كان ولابد فمصاحبتها إياه أو مع أحد محارمها، فإن ذلك من تمام سلامتها وحفظها من مرضى القلوب.
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (وأما اختلاط النساء بالرجال ومزاحمتهن لهم فهذا موجود في كثير من محلات البيع والشراء وهو خلاف الشرع فلقد خرج النبي ﷺ في المسجد وقد اختلطت النساء مع الرجال في الطريق قال ﷺ للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق به ولقد رغب النبي أمته عن اختلاط النساء بالرجال حتى في أماكن العبادة فقال ﷺ: «خير صفوف النساء – يعني: اللاتي يصلين مع الرجال – آخرها، وشرها أولها». وإنما كان آخر صفوفهن خيرًا لبعده عن الرجال، ومخالطتهم، ورؤيتهم لهن، ألم يكن في هذا أوضح دليل على محبة الشرع لبعد المرأة عن الرجال واختلاط بهم) [نصائح وتوجيهات للنساء للشيخ العثيمين].
ومن تمام الغيرة في هذا الشأن أن يتحرى المسلم لأهله إذا خرجت معه أو مع غيره من المحارم، أنظف الأماكن، فإن كان لشراء الحاجيات فأنظف السواق وهكذا.
فعن علي t قال: «بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق ألا تستحون؟ ألا تغارون؟ ترك أحدكم امرته تخرج بين الرجال» [الزواجر عن اقتراف الكبائر].
وقال ابن القيم رحمه الله: «ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة. واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة» [الطرق الحكمية ص325].
2- أن يلزم أهله بالحجاب الشرعي أمام الأجانب: فإن بسبب نزول آية الحجاب ومنها قوله تعالى: }وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ{ الآية، إنما نزلت بسبب غيرة عمر t إذ قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب» [رواه البخاري].
ولأن الحجاب ستر وطهارة وعفاف، فإن من الغيرة التي تجب على المسلم أن يلزم أهله بالحجاب كما أمر الله سبحانه فإنه مسؤول أمام الله عنها، وعن لباسها وخروجها.
3- أن يحذر من دخول الأجانب إلى بيته: وأما دخول الأجانب مطلقًا فهو مما لا يتصور وقوعه إلا مع امرأة عاصية، ويبقى الخطر قائمًا مع خلوة المرأة بالأجانب من أقربائها، وهذا هو الذي يفوت بعض الرجال فيتساهلون فيه إحسانًا للظن وإعمالاً لعادات تخالف ما شرعه الله سبحانه..
فعن عقبة بن عامر الجهني t أن النبي ﷺ قال: «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله الله أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمُو الموت» [رواه البخاري ومسلم].
والحمو: هو قريب الزوج، وقد شبهه الرسول ﷺ بالموت، وفي ذلك دلالة بالغة الشدة في التحذير من دخول الأجانب إلى البيت، ولو كان القرين أخا الزوج إذا لم يكن مع الزوجة محرم شرعي.
4- أن يحفظ أهله من شبهات العصر ومن الفتن: فإن بعض الأزواج تجده أشد في غيرته على أهله، لكنه يناقض غيرته وحياءه إذ يدخل إلى بيته من أسباب الفتنة العصرية ما يدفع أهله شيئًا فشيئًا إلى الشبهات.
وتعد الفضائيات الأجنبية، وكذلك الاختلاط بالخدم في البيوت، والأغاني الماجنة المسموعة والمرئية من الأسباب التي تلوث صفاء العفاف في البنات والزوجات.
وما ذكر الله لقصة امرأة العزيز مع يوسف إلا ليتحرص الرجال على نسائهم من الخدم ومن كل فتنة تستخف عقولهم وتستدعي شهوتهم. فقد قال ﷺ: «ما خلا رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان».
وعن معاذ بن جبل t: أنه كان يأكل تفاحًا ومعه امرأته، فدخل عليه غلام له، فناولته تفاحة قد أكلت منها، فأوجعها ضربًا» [روضة المحبين ص306].
ولله در القائل:
أغار عليك من نفسي ومني | ||||
ومنك ومن مكانك والزمان | ||||
ولو أني خبأتك في عيوني | ||||
إلى يوم القيامة ما كفاني | ||||
وكان من شدة غيرة علي t على فاطمة رضي الله عنها أن غار عليها من السواك، فقال في ذلك:
قد فزت يا عود الأراك بثغرها | ||||
ما خفت يا عود الأراك أراك | ||||
لو كنت من أهل القتال قتلتك | ||||
ما فاز مني يا سواك سواك | ||||
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس وهو يخرج بها إلى الفرج وإلى أماكن الفساد، ويعاشر المفسدين، فإذا قيل له: انتقل من هذا المسكن السوء فيقول: أنا زوجها، ولي الحكم في امرأتي، ولي السكن، فهل له ذلك؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين: ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجه إلى حيث شاء؛ بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين: عقوبة على فجوره، بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته، وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، والله أعلم.
أخي الكريم: إننا أحوج ما نكون اليوم إلى فقه الغيرة الشرعية، فالكثير من الناس يعملونها على غير حقيقتها.. يغارون في أعمالهم.. بينما سلوكهم وتصرفاتهم تجاه أسرهم تنبي عن تفريط سافر في حراسة الفضيلة والغيرة على الأعراض.
إذا غابت الغيرة.. غابت القيم والمثل.. ودب الفساد والانحلال.. وانتشرت الأمراض.. وتفككت المجتمعات.. وضاعت المعاني الجميلة للعلاقة الزوجية.. التي يغمرها التوحد بين الزوجين دون شريك.
ذكر حماد بن زيد عن أيوب عن أبن أبي مليكة: أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع امرأته تكلم رجلاً من وراء جدار، بينها وبينه قرابة لا يعلمها ابن عمر، فجمع لها جرائد ثم ضربها حتى اضبت حسيسًا» أي: صوتًا.
«وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة، والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة، ومتى ما تحين الرجل الفرص ليأخذ امرأته على غرة، التماسًا لعثرة منها بدون أي ريبة كانت هذه غيرة مذمومة، فعنه ﷺ أنه قال: «إن من الغيرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة» [عودة الحجاب 2/388].
قال رسول الله ﷺ: «إياكم والظن فإن الظنَّ أكذب الحديث» [رواه البخاري ومسلم].
* * * *
من غيرة السلف
عن حماد بن سلمة أن أبا السيارة أُولع بامرأة أبي جندب يراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل؛ فإن أبا جندب إن يعلم بهذا يقتلك، فأبى أن ينزع، فكلمت أخا أبي جندب فكلمه فأبى أن ينزع، فأخبرت بذلك أبا جندب، فقال أبو جندب: إني مخبر القوم أني أذهب إلى الإبل، فإذا أظلمت جئتُ فدخلت البيت، فإن جاءك فأدخليه عليَّ.
فودع أبو جندب القوم وأخبرهم: إني ذاهب إلى الإبل.
فلما أظلم الليل جاء فكمن في البيت، وجاء أبو السيارة، وهي تطحن في ظلِّها، فراودها عن نفسها، فقالت: ويحك! أرأيت هذا الأمر الذي تدعوني إليه، هل دعوتك إلى شيء منه قط؟ قال: لا، ولكن لا أصبر عنك.
قالت: ادخل البيت حتى أتهيأ لك، فلما دخل البيت أغلق أبو جندب الباب، ثم أخذه فدقه من عنقه إلى عجب ذنبه، فذهبت المرأة إلى أخي أبي جندب فقالت: أدرك الرجل؛ فإن أبا جندب قاتله.فجعل أخوه يناشده فتركه، وحمله أبو جندب إلى مدرجة الإبل فألقاه. فكان إذا مرَّ به إنسان قال له ما شأنك؟ فيقول: وقعت من بكر [أي الفتى من الإبل] فحطمني.. وبلغ عمر t فأرسل إلى أبي جندب فأخبره بالأمر على وجهه، فأرسل إلى أهل المرأة فصدقوه، فجلد عمر أبا السيارة مائة جلدة، وأبطل ديته.
* وكان الزبير t من أغير الصحابة على نسائه، فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير t، وماله في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤونته وأسوسه، وأدق النوى للناصحة، وأعلفه وأسقيه الماء، وأخرز عربه، وأعجن ولم أكن أحسن أخبز، كان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق.
قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ﷺ على رأسي، وهو على ثلثي فرسخ.
قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفر من أصحابه فدعا لي، ثم قال: أخ أخٍ»؛ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته. قالت: وكان من أغير الناس.
قالت: فعرف رسول الله ﷺ أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله ﷺ وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه فاستحييت وعرفتُ غيرتك.
فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه.
قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفاني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني» [حياة الصحابة 2/691].
وقد رفع إلى عمر بن الخطاب t رجل قد قتل امرأته ومعها رجل آخر، فقال أولياء المرأة هذا قتل صاحبتنا, وقال أولياء الرجل: إنه قتل صاحبنا.
فقال عمر t: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فَخِذَىْ امرأتي بالسيف.
فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال لهم عمر: ما يقول؟ فقالوا: ضرب بسيفه فقطع فخذي المرأة فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنتين.
فقال عمر t: إن عادوا فعد.
* * * *
خاتمة
أخي الكريم: إن الحجاب الذي هو تاج العفاف والفضيلة، قد أوجبه الله على نساء المؤمنين طهارة لنفوسهن وأعراضهن وصيانة للمسلمين من الفتنة.
ولو تأملت في سبب نزول آية الحجاب، وهي أول آية نزلت بشأن فرضه، لوجدت سبب نزولها كلمات من عمر t قالها في سياق غيرته على نساء الرسول ﷺ.
فعن أنس t قال: قال عمر t قلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب» [رواه البخاري].
قال الشيخ بكر أبو زيد: «وهذه إحدى موافقات الوحي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب t وهي من مناقبه العظيمة.
ولما نزلت حجب النبي ﷺ نساءه عن الرجال الأجانب عنهن، وحجب المسلمون نساءهم على الرجال الأجانب عنهن، بستر أبدانهن من الرأس إلى القدمين، وستر ما عليها من الزينة المكتسبة» [حراسة الفضيلة 46].
ومقارنة بغيرة السلف y على نسائهم وبناتهم وأعراضهم، تعد غيرة الكثير من الناس في هذه العصور على النساء تفلة في بحر، ولو كان أهلها أحياء في عصور السلف لما قلدوا وسام الغيرة أبدًا.
إن الغيرة حرقة في القلب، ومراقبة للرب، وعزيمة على صيانة الشرف والعرض من أن يشار إليه ببنان.. أو يلوكه لسان.. أو تسرق النظر فيه عينان.. أو يمسه إنسان.. وذلك يتطلب من الغيور فقهًا بمنهج الله في القوامة على أهله ومراعاة أصله وعرفه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * * *