×
سنة الله في أمر الدنيا أن تكون دار بلاء ولأجل ذلك كان لابد للإنسان المؤمن أن يتأمل في الحكم و العظات من هذه الابتلاءات لذا كانت هذه المحاضرة التي ألقاها الشيخ عبد الرحمن السحيم عن الدروس المستفادة من الابلاءات

    من دروس الابتلاءات

    أولا : لا يَخلقُ اللهُ شَرّا مَحْضًا ، أي : خالِصا .

    قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ . رواه مسلم .

    قال النوويُّ : قَوْلُهُ : " وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ " قَال الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ : فِيهِ الإِرْشَادُ إِلَى الأَدَبِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَدْحِهِ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ مَحَاسِنُ الأُمُورِ دُونَ مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَةِ الأَدَبِ . اهـ .

    ثانيا : أنَّ كلَّ شيءٍ بِقَضاءٍ وقَدَرٍ .

    فلا تَقُلْ : إنَّ ما يَجري في هذا العالَمِ مُؤامَرةٌ أو نَتِيجةُ أخطاءٍ بشَرِيّةٍ !

    لأنه ما مِن حَرَكَةٍ ولا سَكَنَةٍ ، ولا صغيرٍ ولا كبيرٍ يَجري في هذا الكونِ إلاّ بِقَدَرِ اللهِ .

    ولا نُنكِرُ الأسبابَ .

    قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما اخْتَلَجَ عِرْقٌ ولا عَيْنٌ إلاّ بِذَنْبٍ , وما يَدْفَعُ اللهُ عنه أكثرَ . رواه الطبراني في " الصغير " .

    وقال الهيثميُّ : رواه الطبرانيُّ في الصغيرِ ، وفيه الصّلْتُ بنُ بَهرَامٍ وهو ثِقةٌ إلاّ أنه كان مُرِجِئا .

    قال ابنُ الأثيرِ : أصْلُ الاخْتِلاجِ : الحرَكةُ والاضْطِرَابُ . اهـ .

    قال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه اللهُ : أفاعِيلُ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ مَقْضِيّةٌ عليهم بِقَضَاءٍ وقَدَرٍ ، والْخَيْرُ والشّرُّ مَكْتُوبَان على العِبادِ ، والْمَعَاصِي بِقَدَرٍ ، قال اللهُ عز وجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) . رواه الخلاّلُ في كتابِ " السُّنّةِ " .

    وفي حِكَمِ الشِّعرِ :

    يا مَنْ ألُوذُ بِهِ فيمَا أُؤمّلُهُ * وَمَنْ أعُوذُ بهِ مِمّا أُحاذِرُهُ

    لا يَجْبُرُ النّاسُ عَظْماً أنْتَ كاسِرُهُ * وَلا يَهِيضُونَ عَظْمًا أنتَ جَابِرُهُ

    ثالثا : أنَّ اللهَ يُعِزُّ مَنْ يشاءُ ، ويُذِلُّ مَن يشاءُ .

    قال اللهُ تباركَ وتعالى : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

    فيُعِزُّ مَن يشاءُ ، ويُذِلُّ مَن يشاءُ بِأيسَرِ الأسبابِ .

    رابعا : أنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مهما عَلَو وتَجبّروا في قبضةِ اللهِ ومُلكهِ وتحتَ مشيئتِهِ .

    ففي هذا الحَدَثِ : استُنفِرَتْ دُولٌ ، وحُوصِرَتْ أخرى ، وأُغلِقتْ مطاراتٌ ، وتوقّفتْ طائراتٌ ، ورَسَتْ سُفُنٌ ، وخلَتْ شَوارِعُ مُدنٍ مُزدَحِمَةٍ بِمخلوقٍ غايةً في الصِّغَرِ ، فلا يُرى بالعينِ الْمُجرّدةِ ، ولكن يُرى أثرُه وفتكُه !

    خامسا : أنَّ الفيروساتِ والمخلوقاتِ الْمُتَنَاهِيةَ في الصِّغَرِ جُنودٌ مِن جُنودِ اللهِ : أذلَّ اللهُ بها رِقابَ الجبابِرَةِ قديما وحديثا ، ومع صِغَرِها لا تُقاومُها جيوشٌ ، ولا تردُّها طائراتٌ ، ولا تَقِفُ لها قُوّاتُ الأرضِ مهما عظُمَت !

    وبها تَظهرُ صُورةُ القُدرةِ والقوةِ ، وبها يَظهرُ ضَعفُ البشرِ وعجزُهم عن مُقاومَةِ أصغرِ الأشياءِ مهما بلغوا مِنَ القوّةِ .

    سادسا : أنَّ اللهَ يَبتَلِي بالسراءِ وبالضّرّاءِ ، كما قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)

    وقال اللهُ عَزّ وَجَلّ : (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .

    قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالى فِي كِتَابِه أنّه يَبْتَلِي عِبَادَه بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ؛ فَالْحَسَنَاتُ هِي النِّعَمُ ، وَالسَّيِّئَاتُ هِي الْمَصَائِبُ ؛ لِيَكُونَ الْعَبْدُ صَبَّارًا شَكُورًا .

    (مجموع الفتاوى)

    وقال ابنُ القيمِ : ابتلاءُ المؤمنين بِغَلبةِ عَدُوِّهم لهم ، وقهرِهم ، وكَسْرِهم لهم أحيانا فيه حكمةٌ عظيمةٌ ، لا يعلمُها على التفصيلِ إلاّ اللهُ عزَّ وجل .

    فمنها : استخراجُ عبوديتِهم وذُلِّهم للهِ ، وانكسارِهم له ، وافتقارِهم إليه ، وسؤالِهم نَصْرَهم على أعدائهم ، ولو كانوا دائما مَنصورين قاهِرين غالِبين لبَطِروا وأشِرُوا : ولو كانوا دائما مَقْهُورِين مَغلُوبِين مَنْصُورًا عليهم عُدُوُّهم لَمَا قَامَت للدِّينِ قائمةً ، ولا كانت للحقِّ دَوْلةٌ . اهـ .

    قال ابنُ القيمِ : ابتلاءُ المؤمنِ كالدّواءِ له يَستَخرِجُ مِنه الأدواءَ التي لو بَقِيَتْ فيه أهْلَكَتْه ، أو نَقَصَتْ ثَوَابَه، وأنْزَلَتْ دَرَجَتَه ، فيَستَخرِجُ الابتلاءُ والامتحانُ مِنه تلك الأدواءَ ويَستعدُّ به لِتمامِ الأجرِ ، وعلوِ الْمَنْزِلةِ ، ومعلومٌ أنَّ وُجُودَ هذا خيرٌ للمُؤمِنِ مِن عَدَمِه ، كما قال النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم : " والذي نفسي بِيدِه لا يَقضِي اللهُ للمؤمِن قضاءً إلاّ كان خيرا له ، وليس ذلك إلاّ للمُؤمنِ : إنْ أصابَتْه سَراءُ شَكرَ ، فكان خيرا له ، وإنْ أصابتْه ضَرّاءُ صَبَر ، فكان خيرا له ".

    فهذا الابتلاءُ والامتحانُ مِن تمامِ نَصْرِه وعِزّه وعَافِيتِه . اهـ .

    وقال الشيخُ السعديُّ : (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي : بِالفَقْرِ والْمَرَضِ ، والآفاتِ ، والمصائبِ ، رَحْمَةً مِنّا بِهِم . (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) إلَيْنَا ، ويَلْجَأون عند الشدةِ إلَيْنَا . اهـ .

    سابعا : أنَّ الابتلاءاتِ تُمَايِزُ بين الحقِّ والباطِلِ ، كما قال تعالى : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)

    وفي هذه الأزْمَةِ " أيامُ انتشارِ الوباءِ " : خَنَسَتْ أصواتُ الْمُبْطِلِين ، وصَدَحَتْ وارتَفَعتْ أصواتُ الناصِحين ، وصَدَقَ اللهُ : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ)

    تَرَكَ الناسُ مُتابَعةَ المشاهِيرِ التّافِهين ، وتابَعوا الناصِحينَ مِن العلماءِ والأطباءِ وغيرِهم .

    وهذا مِن فوائدِ الشدائدِ : أنه تتمايَزُ الأصواتُ الصادِقةُ ، وتَخنَسُ الأصواتُ الْمُبْطِلَةُ !

    وتَرَكَ الناسُ الغناءَ وحضورَ حفلاتِ الأغاني ؛ لأنها لا تُغني شيئا ، بل تضرُّ ولا تنفَع !

    ثامنا : عَلِمَ الناسُ – مؤمنُهم وكافِرُهم – أنه لا يُنجِي مِن هذه الأوبئةِ إلاّ اللهُ جلّ جلالُه .

    فقد أظْهَرتْ وسائلُ الإعلامِ والتواصلِ : دعوةَ بعضِ رؤساءِ الدولِ الكافرةِ إلى الصلاةِ مِن أجلِ رفعِ الوباءِ

    ويَهوديًا يستمعُ إلى القرآنِ ويصدَحُ صوتُ القرآنِ في متجَرِه مِن أجلِ دَفْعِ الوباءِ !

    وقسّيسًا يَرقِي الناسَ مِن خلالِ شاشةِ التلفازِ !

    واللهُ يَبتَلِي عِبادَه بالشدائدِ ليُعيدَهم إليه ، ويَسمَعَ تَضَرّعَهم .

    ولا يكشِفُ البلوى إلاّ اللهُ جلّ جلاله .

    وأنَّ اتِّهامَ النّفْسِ أحبُّ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِنَ العَمَلِ .

    قال ابنُ عُمَرَ : كَان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَحْدَثَ فِي زَمَانِ الرَّمَادَةِ أَمْرًا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ ، لَقَدْ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعَشَاءَ ، ثُمَّ يَخْرُجُ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ ، فَلا يَزَالُ يُصَلِّي حَتَّى يَكُونَ آخِرُ اللَّيْلِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَأْتِي الأَنْقَابَ فَيَطُوفُ عَلَيْهَا ، وَإِنِّي لأَسْمَعُهُ لَيْلَةً فِي السَّحَرِ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ هَلاكَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى يَدَيَّ . رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " .

    قال ابنُ القيمِ في عِلاجِ المصائبِ : وَمِنْ عِلاجِهَا " أَنْ يَعْلَمَ أَنّ الَّذِي ابْتَلاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ الْبَلاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ ، وَلا لِيُعَذِّبَهُ بِهِ ، وَلا لِيَجْتَاحَهُ ، وَإِنَّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ ، وَلِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ وَابْتِهَالَهُ ، وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ لائِذًا بِجَنَابِهِ ، مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، رَافِعًا قَصَصَ الشَّكْوَى إِلَيْهِ . (زاد المعاد)

    تاسعا : أنَّ الدّروسَ والعِبَرَ تتكرّرُ في الأُمَمِ : ففي الماضي أذلَّ اللهُ فِرعونَ وآلَ فرعونَ حينما سلّطَ عليهم صِغَارَ المخلوقاتِ فلَجَئوا إلى موسى عليه الصلاةُ والسلامُ حتى يدعوَ لهم !

    (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)

    وقال اللهُ تبارك وتعالى : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) .

    فأقرّوا ضِمْنًا أنَّ موسى عليه الصلاة والسلام على الْحَقِّ ، وأنه لا يُنجِي مِن ذلك العذابِ إلاّ اللهُ .

    وهُمُ الذين كانوا يقولون عن موسى : إنه ساحِر ، وهو الْمُتّهمُ بأنه سيُغيّرُ الدِّينَ ، ويُظهرُ في الأرضِ الفسادَ !

    عاشِرا : أنَّ لُزومَ النساءِ للبيوتِ والحجابِ هو الأصلُ في الشّرْعِ ؛ لِقوله تبارك وتعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، فإذا قِيل هذا لأطهرِ نساءِ العالَمِين ، فغيرهن مِن بابِ أوْلى أنْ تَقرَّ في بيتِها .

    وقبل أكثرِ مِن مائةِ عامٍ قالتِ الكاتبةُ الشهيرةُ النصرانيةُ " آتي رود " حيث قالت : لأن يشتغلَ بناتُنا في البيوتِ خوادمَ أو كالخوادمِ ، خيرٌ وأخفُّ بلاءً من اشتغالهن في المعاملِ حيث تُصبحُ البنتُ ملوثةً بأدرانٍ تذهبُ بِرَوْنقِ حياتِها إلى الأبَدِ . ألاَ لَيْتَ بلادَنا كبلادِ المسلمين ، فيها الحِشمةُ والعفافُ والطهارةُ ... نعم إنه لَعَارٌ على بلادِ الإنجليزِ أنْ تجعلَ بناتَها مثَلاً للرذائلِ بكثرةِ مُخالطةِ الرّجالِ ، فما بالُنا لا نسعى وراءَ ما يجعلُ البنتَ تعملُ بما يُوافق فطرتَها الطبيعيةَ من القيامِ في البيتِ ، وتركِ أعمالِ الرجالِ للرجالِ سلامةً لِشَرَفِها . (مقالة نُشِرت عام 1901م)

    ونشَرَتِ الدكتورةُ " أيدا أيلين " بحثاً بيّنَتْ فيه : أنَّ سببَ الأزماتِ العائليةِ في أمريكا ، وسِرَّ كثرةِ الجرائمِ في المجتمعِ ، هو أنَّ الزوجةَ تركتْ بيتَها لِتُضاعِفَ دَخْلَ الأسرةِ ، فزادَ الدّخلُ وانخفضَ مستوى الأخلاقِ !

    وقالتِ الدكتورةُ " ايلين " : إنَّ التجارِبَ أثبتتْ أنَّ عودةَ المرأةِ إلى " الحريمِ " هو الطريقةُ الوحيدةُ لإنقاذِ الجيلِ الجديدِ من التّدهورِ الذي يسيرُ فيه .

    وقالت الكاتبةُ الإنجليزيةُ " اللادي كوك " : إنَّ الاختلاطَ يألَفُه الرجالُ ، ولهذا طَمِعتِ المرأةُ بما يُخالِفُ فِطرتَها ، وعلى قَدْرِ كثرةِ الاختلاطِ تكونُ كثرةُ أولادِ الزّنا ، وههنا البلاءُ العظيمُ على المرأةِ .

    وقال أحدُ أركانِ النهضةِ الإنجليزيةِ ، وهو "سامويل سمايلس " : إنَّ النظامَ الذي يقضي بتشغيلِ المرأةِ في المعاملِ - مَهْمَا نشأَ عنه من الثروةِ للبلادِ - فإنَّ النتيجةَ كانت هادمةً لبناءِ الحياةِ المنزليةِ ، لأنه هاجَمَ هيكلَ المنزلِ ، وقوّضَ أركانَ الأسرةِ ، ومزّقَ الروابِطَ الاجتماعيةَ .

    وقال " جول سيمون " : المرأةُ التي تشتغلُ خارجَ بيتِها تؤدّي عملَ عاملٍ بسيطٍ ، ولكنها لا تؤدّي عملَ امرأةٍ .

    وقال الفيلسوفُ " برتراند رِسل " : إنَّ الأُسْرَةَ انحلّتْ باستخدامِ المرأةِ في الأعمالِ العامةِ .

    الحاديَ عشرَ مِن دروسِ الابتلاءاتِ :

    أنَّ ما يُصيبُ الْخَلْقَ إنما هو بِبَعضِ ما كَسَبَتْ أيديهم ، وما يَعفو اللهُ عنه أكثرَ .

    كما قال اللهُ عزّ وجَلّ : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)

    وقال تبارك وتعالى : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)

    وقال تعالى : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .

    الثانيَ عشرَ : أنَّ نَبْذَ الشرعِ والتّحاكُمِ إليه وتعطيلَ الحدودِ سببٌ للمَصائب .

    دَخَلَ أَنَسُ بنُ مَالِك رضي الله عنه عَلَى عَائِشَةَ وَرَجُلٌ مَعَهُ ، فَقَالَ لَهَا الرَّجُلُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينَا عَنِ الزَّلْزَلَةِ ، فَقَالَتْ : إِذَا اسْتَبَاحُوا الزِّنَا ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ ، وَضَرَبُوا بِالْمَغَانِي ، غَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَمَائِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ : تَزَلْزَلِي بِهِمْ . فَإِنْ تَابُوا وَنَزَعُوا ، وَإِلاّ هَدَمَهَا عَلَيْهِمْ . قَال : قُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَعَذَابٌ لَهُمْ ؟ قَالَتْ : بَلْ مَوْعِظَةٌ وَرَحْمَةٌ وَبَرَكَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَنَكَالٌ وَعَذَابٌ وَسَخَطٌ عَلَى الْكَافِرِينَ .

    قَال أَنَسٌ : مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا مِنِّي بِهَذَا الْحَدِيثِ . رواه ابن أبي الدنيا في " العقوبات " .

    قال ابنُ القيمِ : واللهُ تعالى يَغَارُ على إمَائه وعَبِيدِه مِن الْمُفْسِدِين شَرْعا وقَدَرا ، ومِن أجْلِ ذلك حَرّمَ الفَواحشَ ، وشَرَع عليها أعظمَ العقوباتِ وأشْنَعَ القِتْلاتِ لِشِدّةِ غَيرتِه على إمائه وعَبيدِه . فإنْ عُطّلَتْ هذه العُقُوباتُ شَرْعا ، أجْرَاها سبحانه قَدَرًا . (روضة الْمُحِبّين)

    وظُهورُ الفواحِشِ سَببٌ للعُقُوباتِ :

    قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :

    لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا .

    وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ .

    وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِم إِلاّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا .

    وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ .

    وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إلاّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ . رواه ابن ماجه ، وحسّنه الألباني والأرنؤوط .

    الثالثَ عشرَ : أنَّ الشِّدّةَ التي تُعيدُ الناسَ إلى اللهِ خيرٌ مِنَ الرّخاءِ الذي يُطغيهم ويُنسِيهم .

    قال اللهُ عزّ وجَلّ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

    قال ابنُ القيمِ : يُؤَدِّبُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحِبُّهُ وَهُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ بِأَدْنَى زَلَّةٍ وَهَفْوَةٍ ، فَلا يَزَالُ مُسْتَيْقِظًا حَذِرًا ، وَأَمَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَهَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ ، وَكُلَّمَا أَحْدَثَ ذَنْبًا أَحْدَثَ لَهُ نِعْمَةً ، وَالْمَغْرُورُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ ، وَلا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الإِهَانَةِ ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ وَالْعُقُوبَةَ الَّتِي لا عَاقِبَةَ مَعَهَا . (زاد المعاد)

    الرابعَ عشرَ : أنَّ الناسَ يَحتَمُون ويَحتاطُون لأنفسِهم مِنَ الْمَرَضِ ، ولا يَحتاطُون لأنفسِهم مَخافَةَ النارِ .

    قال ابنُ شُبْرُمَةَ : عَجبتُ لِلنَّاسِ يَحْتَمُوْنَ مِنَ الطَّعَامِ مَخَافَةَ الدَّاءِ ، وَلاَ يَحتَمُوْنَ مِنَ الذُّنوبِ مَخَافَةَ النَّار .

    (تهذيب الكمال ، للْمِزِّي ، وسِيَر أعلام النبلاء ، للذهبي)

    قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ : الْمَرْضَى الْجُهَّالُ قَدْ يَتَنَاوَلُونَ مَا يَشْتَهُونَ ، فَلا يَحْتَمُونَ وَلا يَصْبِرُونَ عَلى الأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن تَعْجِيلِ نَوْعٍ مِنْ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُعْقُبُهُمْ مِنْ الآلامِ مَا يَعْظُمُ قَدْرُهُ ، أَوْ يُعَجِّلُ الْهَلاكَ .

    فَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ : هُم جُهَّالٌ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم : يَسْتَعْجِلُ أَحَدُهُمْ مَا تُرَغِّبُهُ لَذَّتُهُ ، وَيَتْرُكُ مَا تَكْرَهُهُ نَفْسُهُ مِمَّا هُو لا يَصْلُحُ لَه ؛ فَيُعْقُبُهُم ذَلِكَ مِن الأَلَم وَالْعُقُوبَات ؛ إمّا في الدُّنيا ، وَإِمّا في الآخِرة مَا فِيه عِظَمُ الْعَذَابِ وَالْهَلاكِ الأَعْظَمِ .

    والتَّقْوَى هِيَ الاحْتِمَاءُ عَمَّا يَضُرُّهُ بِفِعْل مَا يَنْفَعُه . (مجموع الفتاوى)

    الخامِسَ عشرَ : أنَّ الشّدائدَ أظْهَرَتْ خَوْفَ كثيرٍ مِنَ الناسِ مِنَ الْمَرَضِ ؛ لأنه يُدنِيهم مِنَ الموتِ ! وما عَلِموا أنَّ الموتَ أقربُ إلى أحدِهم مِنْ شِرَاكِ نَعلِه !

    قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ ، وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ :

    كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ *** وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ . رواه البخاري .

    السادسَ عشرَ : أنَّ المصائبَ مُكفِّراتٌ للخطايا ، كما جَاءَ في صريحِ وصحيحِ السُّنّةِ .

    قال ابنُ مُفلِحِ : لَوْلا الْمَصَائِبُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى ؛ فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ ، فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلائِهِ ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ ، كَمَا قِيل :

    قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ *** وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ

    وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلاوَةُ الآخِرَةِ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ .

    وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ احْتَمَلَ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلاوَةِ الأَبَدِ ، وَذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الأَبَدِ . (الآداب الشرعية)

    وَقَدْ شَبَّهَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ بالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى ، حَتَّى تَهِيجَ ، وشَبَّه الْكَافِرَ والمنافِقَ بِشَجَرَةِ الأَرْزَ ، الَّتِي لاَ يُصِيبُهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً . كَمَا في الصحيحين .

    قَالَ النوويُّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَثِيرُ الآلامِ فِي بَدَنِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ ، وَذَلِكَ مُكَفِّرٌ لِسَيِّئَاتِهِ ، وَرَافِعٌ لِدَرَجَاتِهِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَقَلِيلُهَا ، وَإِنْ وَقَعَ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يُكَفِّرْ شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِهِ ، بَلْ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كامِلَةً . اهـ .

    السابعَ عشرَ : أنَّ الأوبئةَ والزلازلَ وغيرَها مما يُجريه اللهُ عزّ وجَلّ في هذا الكونِ إنما هو لتخويفِ العبادِ أسبابَ العذابِ ، وقد يكون بعضُه عقوباتٍ على بعضِ الذنوبِ ، كما تقدّمَ .

    قال اللهُ عزّ وجَلّ : (وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)

    قال قتادةُ : إنَّ اللهَ يُخوّفُ الناسَ بما شاءَ مِن آيةٍ لعلهم يعتبرون ، أو يَذكَّرون ، أو يرجعون .

    قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عن خُطبةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الكُسُوفِ :

    بَيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الشمسَ والقمرَ لا يكونُ كسوفُهما عن موتِ أحدٍ مِن أهلِ الأرضِ ولا عن حياتِه ، ونَفَى أنْ يكونَ للموتِ والحياةِ أثرا في كسوفِ الشمسِ والقمرِ ، وأخبرَ أنهما منْ آياتِ اللهِ وأنه يُخوّفُ عبادَه .

    فَذَكرَ أنَّ مِنْ حِكمةِ ذلك تخويفَ العبادِ ، كما يكونُ تخويفُهم في سائرِ الآياتِ : كالرياحِ الشديدةِ والزلازلِ والجدبِ والأمطارِ المتواترةِ ، ونحوِ ذلك مِن الأسبابِ التي قد تكونُ عذابا ، كما عذّبَ اللهُ أُمَمًا بالريحِ والصيحةِ والطوفانِ .

    وقال رحمه اللهُ : هذه الآياتُ السّمَاويةُ قد تكون سببَ عذابٍ ؛ ولهذا شَرعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند وجودِ سببِ الخوفِ ما يَدفعُه مِنَ الأعمالِ الصالحةِ ؛ فأمَرَ بِصلاةِ الكسوفِ - الصلاةِ الطويلةِ - وأمَرَ بالعِتقِ والصدقَةِ ، وأمَرَ بالدعاءِ والاستغفارِ . اهـ .

    قال ابنُ جريرٍ الطبريِّ : ذُكِر لَنَا أنَّ الكوفةَ رَجَفَتْ على عهدِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه ، فقال : يأيها الناسُّ ، إنَّ ربَّكم يَسْتَعتِبُكم فأعتِبُوه .

    قال الراغبُ في " المفرَداتِ " : الاسْتِعْتَابُ : أنْ يُطلبَ مِن الإنسانِ أنْ يَذكرَ عَتْبَهُ لِيُعْتَبَ ، يقال : اسْتَعْتَبَ فلانٌ . قال تعالى : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ، يقال: " لك العُتْبَى " ، وهو إزالةُ ما لأجلِهِ يُعْتَبُ . اهـ .

    الثامِنَ عشرَ : يُلاحَظُ الفَرْقُ بين انتشارِ الأوبئةِ والأمراضِ بين دِيارِ المسلمين ، وبين ديارِ الكفّارِ .

    وفي هذا عِدّةُ وَقَفاتٍ :

    الأولى : أنَّ الأصلَ في مُجتمعاتِ المسلمين : الطهارةُ واجتنابُ النجاساتِ والخبائثِ وأكلُ الحلالِ .

    الثانيةُ : أنَّ لدى المسلمين مِنْ أسبابِ الوقايةِ الظاهِرةِ والباطِنةِ ما ليس لدى الكفّارِ .

    والأسْبَابُ ظاهِرةٌ وخَفِيّةٌ :

    أما الظاهِرةُ ؛ فَمِنها : الوضوءُ ، والصلاةُ ، والصدقةُ ، وقِيامُ الليلِ ، ففي الحديثِ أنه مَطْرَدَةُ للدّاءِ عن الْجَسَد .

    وعند المسلمين مِنَ النّظافةِ والطّهارَةِ ما ليس عند أُمّةِ مِنَ الأُممِ ، ومِنها : ما هو واجِبٌ ، ومنها ما هو مُستَحبٌّ .

    وأما الْخَفِيّةُ ؛ فَمِثْلُ : التوكّلِ ، والدعاءِ ، والأذكارِ ، وصلاحِ الصالحين – فيَدفَعُ اللهُ بِشُيوخٍ رُكّعٍ وسُجّدٍ – .

    قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما : إنَّ اللهَ يُصْلِحُ بِصَلاحِ الرّجُلِ وَلَدَه وَوَلَدَ وَلَدِه ، ويَحْفَظُه في ذُرّيَتِه والدّويْرَاتِ حَوْلَه ، فمَا يَزَالُون في سِتْرٍ مِنَ اللهِ وعَافِيةٍ . رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " .

    وقال محمدُ بنُ المنكَدِرِ : إنَّ اللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاحِ العَبْدِ وَلَدَه ، وَوَلَدَ وَلَدِه ، ويَحْفَظُه في دُويْرَتِه ، والدّويْرَاتِ التي حَولَه ما دام فيهم . رواه ابنُ المباركِ في " الزهدِ " ، ومِن طريقِه : رواه النسائيُّ في " الكُبرى " .

    الثالثةُ : أنَّ الكفّارَ يأكلون الميتةَ والخِنْزِيرَ ، ويشربون الدّمَ والْخَمْرَ ، وهذه مِن شأنِها أنْ تُضعِفَ المناعةَ ، وأنْ تَحُلَّ بهم العقوبةُ .

    الرابعةُ : أنَّ اللهَ يُجري السُّنَنَ ، ويَهلِك مَن هَلَك في الأوبئةِ ، ويكونُ رحمةً للمؤمنين ، وعذابا ورِجْزا على الكافرين .

    قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الطَّاعُونِ : إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رِجْزٌ ، أَوْ عَذَابٌ ، أَوْ بَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا ، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا. رواه البخاري ومسلم .

    وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِمٌ .

    قَالَ القُرطبيُّ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَلاكَ الْعَامَّ مِنْهُ مَا يَكُونُ طُهْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ نِقْمَةً لِلْفَاسِقِينَ . اهـ .

    التاسعَ عشرَ : أنَّ أوقاتَ الأزَماتِ أوقاتُ تُقرّبِ المؤمنِ مِنَ اللهِ تبارك وتعالى ، ويُسارِعُ في مرضاتِ ربِّه عزّ وجَلّ ، ويَحزَنُ لِفواتِ مواسِمِ الخيرات .

    قال اللهُ عزّ وجَلّ في مَعذِرةِ البَكّائينَ مِن فقراءِ المؤمنين : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)

    قال القاسميُّ في تفسيرِه : دَلّتِ الآيةُ على جَوَازِ البُكاءِ وإظهارِ الْحُزنِ على فَوَاتِ الطاعةِ ، وإنْ كان مَعذُورا . اهـ .

    وأنَّ على المؤمنِ التقرّبَ إلى اللهِ كلّما انشغلَ الناسُ وجاءهم ما يُلهيهم ، وكأنَّه يقولُ بِلِسانِ الحالِ : لا شيءَ يشغلني عن رَبّي وعن عِبادتِه !

    قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ . رواه مسلم .

    قال النوويُّ : الْمُرَادُ بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَةُ وَاخْتِلَاطُ أُمُورِ النَّاسِ وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ الناس يغفَلون عنها ويَشتَغلُون عنها ، ولا يَتَفَرّغ لها إلاّ أفراد . اهـ .

    قلت : ومِن هُنا عظُمَ أجْرُ الذّاكِرِ في وقتِ غفلةِ الناسِ ؛ فعَظُمَ أجْرُ ركعتيْ الضُّحى ، وأجرُ الذَّكِرِ عند دُخولِ السُّوقِ .

    قال عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ : حَدَّثَتْنِي أُمُّ الدَّرْدَاءِ قَالَت : كَانَ رَجُلانِ مُتَوَاخِيَانِ تَوَاخَيَا فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَكَانَ إذا لَقِيَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ قَال لَهُ : أَيْ أَخِي ! تَعَالَ هَلُمَّ نَذْكُرِ اللهَ ، فبَيْنَمَا هُمَا الْتَقَيَا فِي السُّوقِ عِنْدَ بَابِ حَانُوتٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ : أَيْ أَخِي ! هَلُمَّ نَذْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَسَى اللهُ أن يَغْفِرَ لَنَا ، ثُمَّ لَبِثَا لَبْثًا فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا ، فَأَتَاهُ صَاحِبُهُ فَقَال : أَيْ أَخِي ! انْظُرْ أَنْ تَأْتِيَنِي فِي مَنَامِي فَتُخْبِرَنِي مَاذَا لَقِيتَ بَعْدِي . قَال : أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ .

    قَال : فَلَبِثَ حَوْلا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَال : أَيْ أَخِي ! أَشَعَرْتَ أَنَّا حِينَ الْتَقَيْنَا فِي السُّوقِ عِنْدَ الْحَانُوتِ ، فَدَعَوْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا ؟ إِنَّ اللهَ غَفَرَ لَنَا يَوْمَئِذٍ . رواه البيهقي في " شُعب الإيمان " ، ومِن طريقِه : رواه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " .

    ورَوى ابنُ أبي شيبةَ مِن طريقِ عاصِمٍ الأحولِ عن أبي قِلابةَ قال : الْتَقَى رَجُلان في السّوقِ ، فقال أحدُهما لصاحبِهِ : يا أخي تعالَ نَدعو اللهَ ونستغفرُه في غَفْلةِ الناسِ لَعَلَّه يُغفَرُ لَنا ، فَفَعَلا ، فقُضيَ لأحدِهما أنه مات قَبْل صَاحِبه ، فأتاه في المنامِ ، فقال : يا أخي أشَعَرتَ أنَّ اللهَ غَفَرَ لنا عَشِيّةَ الْتَقَيْنَا في السّوقِ .

    وإذا اضطَرَبَتْ أمورُ الناسِ ، وتشاغلوا بالقِيلِ والقالِ ، فَعَلى المسلمِ أنْ ينشغِلَ بِطاعةِ اللهِ ؛ ففيها النجاةُ ، وفيها الثباتُ .

    والله تعالى أعلم .