سلسلة المحاسبة : هل أنت من المراقبين لله تعالى ؟
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى واسع العطاء.. بيده خزائن الأشياء. والصلاة والسلام على خير الأنبياء. وعلى آله وأصحابه خير الأتقياء.
أخي المسلم: لقد خلق الله تعالى الخلق وهو يعلم سرَّهم وجهرهم.. ويعلم حالهم أينما كانوا..
}وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ{ [يونس: 61].
}يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا{ [النساء: 108].
}أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [المجادلة: 7].
أخي المسلم: إن استشعار مراقبة الله تعالى من معاني الإيمان العظيمة؛ التي يرتقي بها العبد إلى درجة: الإحسان.
وها نحن نقف عند هذه المحطة ونحن ما زلنا في طريق المحاسبة، وضمن هذه السلسلة: «سلسلة المحاسبة».
(المراقبة) ذلك الأصل العظيم من أصول العمل الصالح.. وقف عنده الصادقون.. ودندن حوله العارفون..
زينة الأعمال.. وغاية الصدق في الأقوال والأفعال.
أتدري ما هي مراقبة الله تعالى؟
قال ابن المبارك رحمه الله لرجل: «راقب الله تعالى» فسأله الرجل عن تفسيرها، فقال: «كن أبدًا كأنك ترى الله عزَّ وجلَّ».
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: «المراقبة خلوص السر والعلانية لله عزَّ وجلَّ».
وقال ابن القيم رحمه الله: «المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه».
وقيل: «المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة».
أخي المسلم: تلك هي المراقبة كما عرَّفها العلماء العارفون.. ومعنى المراقبة يعقله كل قلب فهمًا.. ولكن قليل تلك القلوب التي تعقله عملاً.
إنَّ تذكُّر الرَّقابة الإلهية من دلائل التوفيق التي إذا وُفِّق إليها عبد كان ذلك علامة لفلاحه.. وسعادته.
وقد قسَّم العارفون المراقبة إلى عدَّة أقسام، وإليك تقسيم الحافظ ابن رجب رحمه الله والذي قسَّم المراقبة إلى مقامين.
قال ابن رجب رحمه الله: «أحدهما: مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، وقُرْبه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله، وعمل عليه، فهو مخلص لله، لأنَّ استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله، وإرادته بالعمل. والثاني: مقام المشاهدة، وهو أن يعم العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنوَّر القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان. وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل u، ويتفاوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر».
أخي المسلم: هل وقفت مع نفسك يومًا؛ فسألتها: أين هي من مراقبة الله تعالى؟
قليلٌ أولئك الذين وقفوا هذه الوقفة مع أنفسهم.. وسألوها.. وحاسبوها في خلواتها.
وأما الأكثرون فقد غفلوا عن المحاسبة.. وأعطوا النَّفس مُناها في عدم التشديد عليها..
أرأيت لو قيل لك: إنك مراقب من قِبَل الحاكم؛ كيف سيكون حالك؟!
لا شكَّ أنَّك ستحتاط لنفسك، وستبتعد عن كل موطن يكون سببًا في مساءلتك.
ولكنَّ الكثيرين تجدهم لا يخفى عليهم أنهم مراقبون ممن يعلم السرَّ وأخفى.. تبارك وتعالى. ومع هذا تجده لا يلتفت إلى هذه الرَّقابة!
وهذه الغفلة هي حال الكثيرين من أولئك الذين لم يستشعروا رقابة الله تعالى!
ولعظم مرتبة المراقبة؛ فإنَّ الله تعالى بعث لنبيه ﷺ أمين وحيه جبريل u؛ لتذكيره بشرف هذه المرتبة.
ففي حديث جبريل u الطويل، عندنا سأل النبي ﷺ عدة مسائل، ومنها: قال: «يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه، فإنه يراك» [رواه البخاري ومسلم/ واللفظ لمسلم].
قال الحافظ ابن رجب: «يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قُرْبه، وأنه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم...».
أخي المسلم: إنَّ من راقب الله تعالى في أفعاله وأقواله؛ كان من أهل الإحسان.. وأهل الإحسان هم الذين قال الله تعالى عنهم: }لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [يونس: 26].
قال الحافظ ابن رجب: «وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ في الجنة، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنَّه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك؛ النظر إلى الله عيانًا في الآخرة».
فيا من خلوت بمعاصي الله! اعلم أن الرَّقيب عليك من لا تخفى عليه خافية!
ويا من خلوت بمعاصي الله! أنسيت مراقبة ملك الملوك؟!
كم من أُناس إذا خلوا بأنفسهم نسوا تلك الرَّقابة الإلهية.. وغرَّهم حلم الله تعالى.. فوقعوا في الآثام.. وارتكبوا الحرام!
قال بعض العارفين: «اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك!».
وقال بعضهم: «خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك».
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: «الخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد!».
فيا غافلاً عن رقابة ملك الملوك!
إنك في مُلْك من لا يخفى عليه أمرك.. ولا سترك منه حجاب!
وحرِيٌّ بمن علم أنه مراقب من الله تعالى؛ أن يحذر حقَّ الحذر.. وأن يستحي منه حقَّ الحساء..
قال ابن الجوزي رحمه الله: «الحق عزَّ وجلَّ أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه، البعيد منه، فأمر بقصد نيته، ورفع اليدين إليه، والسؤال له، فقلوب الجهَّال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر؛ لكفُّوا الأكف عن الخطايا، والمتيقظون علموا قُربه فحضرتهم المراقبة، وكفَّتهم عن الانبساط».
أخي المسلم: إنَّ داء الكثيرين من العُصاة؛ الغفلة عن مراقبة الله تعالى... ونسيان اطلاعه عليهم..
فاعجب من رجل سليم الفطرة؛ يعلم أن الله تعالى مطلع عليه؛ ثم إذا خلا بمحارم الله انتهكها!
فلا خوف من الله تعالى يصرفه.. ولا حياء منه يرده!
وهذا هو حال كثير من الجهال الذين لم يستشعروا عظمة الله تعالى.. ومراقبته!
كتب ابن السماك الواعظ لأخ له: «أما بعد: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيُّك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حالك في ليلة ونهارك، وخَفِ الله بقدر قُربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، وليكثر منه وجلك».
فيا من ركبت الذنب إذا هجعت العيون.. اعلم أن هنالك عين لا تنام!
ويا من ركبت الذنب إذا أسدل الليل أستاره.. اعلم أنك تحت بصر من لا يخفى عليه شيء!
خرج عمر بن الخطاب t إلى مكة، فنزل في بعض الطريق، فانحدر عليه راع من الجبل، فقال له: يا راعٍ، بعني شاة من هذه الغنم؟
فقال: إني مملوك.
فقال: قلْ لسيدك أكلها الذئب.
قال الراعي: فأين الله؟!
فبكى عمر، ثم غدا إلى المملوك، فاشتراه من مولاه وأعتقه.
وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقلك في الآخرة!
أخي المسلم: إذا تأملت هذه القصة، وجدت أن مراقبة الله تعالى، تثمر عن ثمار يانعة؛ من خوفٍ لله تعالى، وصدق، وإخلاصٍ، وأمانةً.
كل تلك الخصال السامية؛ تجدها في أولئك الذين جعلوا المراقبة من بالهم..
وهي صفات عزيزة نادرة؛ كندرة هذه الصفة: (صفة المراقبة).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أعزُّ الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يُرجى ويُخاف».
أخي المسلم: مراقبة الله تعالى أكرم الطاعات.. وأنبل ما اتصف به المتصفون..
قال ابن عطاء رحمه الله: «أفضل الطاعات؛ مراقبة الحق على دوام الأوقات».
فإن من راقب الله تعالى في خلواته؛ فهو المعظم لله تعالى.. الخائف منه تبارك وتعالى.. الصادق في تعامله مع ربه.. القريب من ربه عزَّ وجلَّ..
فتذكَّر دائمًا أنك مراقب من الله تعالى.. ملك الملوك.. الذي يعلم السرَّ وأخفي! فلتتقيه أينما كنت، وحيثما حللت..
عن أبي ذر t قال: قال لي رسول الله ﷺ: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالقِ النَّاس بخُلُقٍ حسن» [رواه الترمذي وغيره/ صحيح الترمذي للألباني: 1987].
إن من راقب الله تعالى؛ فاز بثمار المراقبة، وأعلى هذه الثمار في الدنيا: بلوغه درجة الإحسان. وفي الآخرة: دخول الجنة!
* ومراقبة الله تعالى؛ علامة كمال الإيمان:
قال الحافظ ابن رجب: «وفي الجملة فتقوى الله في السر؛ هو علامة كمال الإيمان، وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين».
* ومراقبة الله تعالى؛ زينة للقلب:
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: «لم يتزيَّن القلب بشيء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهده حيث كان».
* ومراقبة الله تعالى؛ عون على غض البصر:
سُئل الجنيد رحمه الله: بم يُستعان على غض البصر؟ فقال: «بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى من تنظره».
* ومراقبة الله تعالى؛ سبب في الفوز بظل العرش يوم القيامة:
قال النبي ﷺ: «سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم: «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، قال: إني أخاف الله» [رواه البخاري ومسلم/ واللفظ للبخاري].
سُئل ذو النون رحمه الله بم ينال العبد الجنة؟ فقال: «بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تُحاسب».
أخي المسلم: راقب الله تعالى في أقوالك وأفعالك، وفي كل أمر عزمت عليه.. فإن كان لله فيه رضًا أمضيته، وإن لم يكن فيه لله رضًا؛ فأمسك عنه، فإن أولى من راعيت اطلاعه عليك هو الله تبارك وتعالى..
إذا خلَوْتَ الدَّهرَ يومًا فلا تقُلْ | ||||
خلوتُ ولكنْ قُلْ عليَّ رقيبُ | ||||
ولا تحسبن الله يغفُلُ ساعةً | ||||
ولا أنَّ ما تُخْفيهِ عنه يغِيبُ | ||||
ألم تَرَ أنَّ اليومَ أسرعُ ذاهب | ||||
وأنَّ غدًا للنَّاظرينَ قَرِيبُ | ||||
فلا تكن كأولئك الغافلين؛ الذين إذا خلوا؛ نسوا رقابة الله تعالى؛ فوقعوا في المعاصي والآثام!
قال محمد بن علي الترمذي: «اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه».
أخي المسلم: إن من راقب الله تعالى في أموره، ألقى الله محبته في قلوب العباد، وعكسه الذي لا يراقب الله تعالى؛ أبغضته القلوب..
قال أبو الدرداء t: «ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر! يخلو بمعاصي الله؛ فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين».
ولتجعل أيها المسلم من خلواتك فرصة تغتنمها في الطاعات؛ فتناجي ربك تعالى، وتذكره بما هو أهله.. وتذكَّر أن الصالحين كانوا يأنسون بربهم تعالى ذكره.. فلا تمر عليهم لحظة أسعد من لحظات خلوتهم بمناجاة خالقهم ومعبودهم تبارك وتعالى..
قيل: لمالك بن مغول رحمه الله وهو جالس في بيته: ألا تستوحش؟! فقال: «ويستوحش مع الله أحد؟!».
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقول: «من لم تقر عينه بك، فلا قرَّت عينه! ومن لم يأنس بك فلا أنِسَ!».
فراقب الله تعالى أيُّها المسلم في سرك وجهرك.. وقولك وفعلك.. وتذكَّر دائمًا أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
وحاسب نفسك دائمًا.. وذكِّرها بمن لا تخفى عليه خافية..
والحمد لله تعالى، والصلاة والسَّلام على النبي محمد وآله وصحبه..
* * * *