السعادة الكاذبة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى ولي المؤمنين.. وناصر الصادقين.. والصلاة والسلام على صفوة المرسلين.. وعلى آله وأصحابه أئمة الدين.. وبعد:
أخي المسلم: ما زال الناس يفكرون في تحقيق أمانيهم.. وترى البعض؛ يطلق العنان لخياله؛ فيرسم لنفسه نموذجًا من الحياة يتمنى أن يعيشها..
والناس يتفاوتون في ذلك؛ فبعضهم يتمنى غايةً؛ إذا وصل إليها، لا يريد شيئًا بعدها.. والبعض تجدهم لا يقفون عند غاية؛ فهم يتمنون كل شيء!!
والفريقان يجمعهما: البحث عن السعادة.. والحياة الطيبة الهنيئة..
وفي سبيل تحقيق هذه الأمنية؛ فإنَّ سعى الناس شتَّى.. الكلُّ يلهث للوصول إلى ذلك الهدف بأنواع من الوسائل.. ولكن يا تُرى هل سيصل الجميع إلى تلك الغاية؟!
جواب تجده بين ثنايا هذه الصفحات.. والتي ستبرز حال فريق من الناس؛ تخبطوا في فهمهم للسَّعادة؛ فصاروا يسعون خلف كل سراب يظنونه ماءً!!
فإلى السَّعادة الكاذبة!!
** اللاهثون!!**
أخي المسلم: ها هي الشمس تشرق على الناس، ومع إشراقها ترى الناس يخرجون إلى الحياة؛ والكلُّ يرسم في مخيلته يومه الذي سيعيشه..
ولكن دعنا نقف مع فريق من الناس؛ يلهثون خلف الزيادة.. الزيادة في كل شيء!
ومفهوم الزيادة عند هؤلاء لا يقف عند حدٍّ معين؛ بل ولا يأخذ هديه من دينٍ ولا عقل..
ولكن يأخذ هديه من هوى صاحبه وشهوته!
إنَّه: السَّعي خلف السَّعادة الزَّائفة!!
}أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{ [التكاثر: 1-4].
فإذا نزل الموت أدرك عشَّاق الزيادة؛ أنَّهم كانوا في غرور!
قال ابن القيم: (التكاثر؛ أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره. قال: وهو مذموم، إلا فيما يقرب إلى الله عزَّ وجلَّ).
أخي المسلم: حب الزيادة؛ داء أصاب الكثيرين؛ حتى أصبحوا يلهثون خلف كل ما يقرَّبهم إلى الزيادة والتكاثر!
وها هو النبي ﷺ يحذر أصحابه y من هذا الداء الخطير..
قال رسول الله ﷺ: «ما أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم التكاثر...» [رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم/ صحيح الترغيب للألباني: 3256].
أخي المسلم: لا يخفى عليك حال الكثيرين من أولئك اللاهثين خلف كل بريق يلمع؛ طامعين أن يجدوا فيه شيئًا يضيفونه إلى رصيدهم من لذَّات الدنيا الفانية!
يودُّ أحدهم؛ لو أنَّ كل دينار في جيبه!
وإذا بنى بناءً يودُّ لو أنَّه ناطَحَ السَّحَاب!
وإذا لبس ثوبًا؛ تمنَّى لو أنه لبس ثوبًا لا تصل إليه يد أحد!
وإذا ركب سيارة؛ اختار أغلاها ثمنًا... وأشهرها في عالم الموديلات!
فإذا لم تصل يده إلى كلِّ ذلك؛ سافر بخياله بعيدًا؛ في عالم الأحلام العريضة.. وهو يظنُّ أن سعادته لا تكتمل إلاَّ بذلك!
تلك هي السَّعادة الكاذبة! التي يلهث خلفها أولئك اللاهثون.. فيا أيُّها اللاهثون.. قفُوا! واتَّعظُوا! لقد وصف لكم النبي ﷺ حال أهل الحرص.
قال رسول الله ﷺ: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشَّرف لدينه!» [رواه الترمذي وابن حبان/ صحيح الترغيب للألباني: 3250].
فلا تلهث خلف دنيا لا تبقى.. فإنك مهما أدركت منها؛ فلن تدرك سعادتها الكاذبة.. ولكن عليك بالسَّعادة الحقيقة: (طاعة الله تعالى، والتلذذ بمناجاته تبارك وتعالى).
** إليك.. يا جامع المال! **
أخي المسلم: بعض الناس سعادته في جمع المال وكنزه.. رؤية الدينار أحلى عنده من رؤية أغلى عزيز.. وسماع صوت الدرهم ألذ عنده من سماع آيات الكتاب العزيز!
فتراه صارفًا عمره في جمع المال وتكثيره.. وإذا أخرج القليل منه؛ فكأنما خرجت روحه!
ولكنه ما أزهده في جمع الحسنات.. وما أجوده بها وإن نزلت به جبال من السيِّئات!
فقف أيها اللاهي! واعلم أن الدنيا قد أسكرتك.. وضربت على قلبك بقفل شديد!
المالُ فتنةٌ.. ولا يسلم جامعه من شره؛ إن لم يتق الله تعالى فيه..
قال رسول الله ﷺ: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» [رواه الترمذي، وابن حبان، والحاكم/ صحيح الترغيب للألباني: 3253].
وعن ابن مسعود t أنه كان يعطي الناس عطاءهم، فجاء رجل فأعطاه ألف درهم، ثم قال: خذها، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم، وهما مُهْلِكاكُمْ» [رواه البزار/ صحيح الترغيب: 3258].
فيا من ألهاك المال بجمعه! لا تظننَّ أنَّك ستكون سعيدًا بذلك.. فكم من جامع للمال يجمع لغيره! وكم من جامع للمال؛ إنما هو خازن لغيره!
فهل نسيت الموت وفظائعه؟! أم هل نسيت القبر وشدائده؟!
تذكَّر يوم يودِّعك أهلك.. ويقتسمون ميراثك!
تذكر يوم تُوضع في قبرك وحيدًا.. لا مال ولا أهل!
ذهبت اللَّذاذات.. وبقيت الحسرات!
تركت مالك لغيرك يقطفه سهلاً.. هنيًّا.. وتبعك حسابه وحسراته!
لو كنت لبيبًا؛ لعلمت أنَّ من الحزم أن تقدِّمه بين يديك.. إلى دارك؛ التي لا يسعدك فيها إلاَّ العمل الصَّالح!
عن عبد الله بن الشخير t قال: أتيت النبي ﷺ وهو يقرأ: }أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ{ قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلاَّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيتَ؟!».
وقال رسول الله ﷺ: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد: يتبعه أهلهُ ومالهُ وعملهُ، وفيرجع أهلهُ ومالهُ، ويبقى عملهُ!» [رواه البخاري ومسلم].
فيا جامع المال! أتدري أين سعادتك الحقيقيَّة؟!
سعادتك الحقيقيَّة: أن تُقدِّمه بين يديك.. والمساهمة في سبل الخير..
وأما سعادتك الكاذبة: أن تفني عمرك في جمعه وكنزه؛ فتحبسه عن الضعيف الملهوف.. وتبخل في إنفاقه في وجوه الخيرات!
فأفق أيُّها الغافل! فإنَّك إن كنت من أهل السَّعادة الكاذبة؛ فإنما أنت في أماني كالسَّراب!
والعاقل من عمل ليوم سعادته الأكبر.. وتجافى عن دار الغرور..
** الغِنَى الكاذب! **
أخي المسلم: يحسب الكثيرون؛ أن الغني حقًا؛ هو صاحب المال الكثير.. نعم هو غنيٌّ..
ولكن! هل هذا هو الغِنَى الحقيقي؟!
وهل سألت نفسك يومًا: من هو الغني حقًا؟!
لقد أعمى حجب المال قلوب الكثيرين من النَّاس؛ حتى أصبح الواحد منهم؛ إذا قلَّ ماله عدَّ نفسه في الأشقياء!
مساكين هؤلاء! لقد فات عليهم أن الغِنَى الحقيقي؛ لا أثر للمال فيه..
قال النبي ﷺ: «ليس الغني عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنَى النَّفْس» [رواه البخاري ومسلم].
فيا غافلاً عن أسباب السَّعادة! هذا هو الغني الحقيقي..
وأما غِنَى الدينار والدرهم؛ فذاك هو الغِنَى الكاذب!
إنَّ من جعل الله غناه في قلبه؛ فكأنَّما الدنيا كلها عنده! لأنه قد حاز كنزًا، من حازه فهو أغنى الأغنياء!
أتدري ما هو هذا الكنز؟!
إنَّه: (القناعة!) كنز أغلى من الذَّهب الإبريز.. وأنفس من الدُّر المكنون! قيل لبعض الحكماء: ما الغِنَى؟
قال: (قلة تمنِّيك، ورضاك بما يكفيك).
أخي المسلم: أنت بالقناعة أغنى الأغنياء.. وأسعد السعداء.. وأنت بدونها؛ فقير.. شقي.. وإن ملكت القناطير المقنطرة من الذهب والفضَّة!
عن حكيم بن حزام t قال: سألت رسول الله ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم إنَّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع...» [رواه البخاري ومسلم].
فلتعلم أيُّها الحريص على الغِنَى؛ أنَّك لن تملك السَّعادة بالغِنَى! وإن السعيد حقًا من ملك القناعة!
كان محمد بن واسع رحمه الله يبل الخبز اليابس بالماء، ويأكل، ويقول: (من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد!).
أخي المسلم: أولئك الرجال حقًا! عرفوا معنى السَّعادة الحقيقية.. ولم تغرهم الدنيا ببريقها الكاذب! رفضوا كل سعادة كاذبة.. فكانوا أغنى الأغنياء من غير مال!
فاعرف أيها العاقل هذا الطريق.. وإياك أن تكون من المخدوعين بالسَّراب الكاذب!
** إلى من طلب السعادة في الحرام! **
أخي المسلم: لقد ميَّز الله تعالى هذا الإنسان بالعقل، وأرسل إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام زيادة في الهُدى والبيان..
فإذا لم يعمل بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام فلن يحيا حياة الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى بشرعه.. بل سيحيا حياة الفوضى والهمجيَّة!
وهي حال الكثيرين الذين بحثوا عن السعادة بعيدًا عن هدى الشرع الحكيم!
أخي المسلم: ما أقبح أن يحيا الإنسان حياة البهيمة.. فلا يكون له هم سوى إشباع شهواته!
إن من أسرَتْهُ الشهوات، وكبَّلته بقيودها؛ لا تراه إلاَّ أعمى البصيرة.. متخبطًا في فعل الحرام!
وهو حال الكثيرين من أولئك الذين ظنوا أنَّ سعادتهم في اللَّهث خلف الشَّهوات!
قال رسول الله ﷺ: «إن مما أخشى عليكم بعدي؛ بطونكم، وفروجكم، ومضلاَّت الأهواء» [رواه ابن أبي عاصم وغيره/ تخريج كتاب السنة للألباني: 14].
فيا مَنْ أسرفت في الشهوات.. ويا مَنْ ضيعت ساعات عمرك في الجري خلف الحرام! إنَّ عمر الحرام قصير.. وعقابه طويل!
قال رسول الله ﷺ: «الدنيا حُلوة خضرة، فمن أخذها بحقه بورك له فيها، وربَّ متخوِّضٍ فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلاَّ النَّار!» [رواه الطبراني/ صحيح الترغيب: 3219].
فيا باحثًا عن نشوة السَّعادة؛ اعلم أن السَّعادة ليست في كأس خمر تشربه.. ولا عربدة في ليلة حمراء.. ولا نغمة مزمار تسمعها.. ولا مال سُحْت تأكله..
كلُّ ذلك سعادة كاذبة!
قال أبو هريرة t: (من زنى أو شرب الخمر؛ نزع الله منه الإيمان، كما يخلع الإنسان القميص من رأسه!).
وكثير من أولئك المخدوعين؛ تجدهم ضائعين بين نيران الشهوات، وهم يظنونها نعيمًا وسعادة!
وخاصة الشباب منهم؛ ممن استهوته فتوة الشباب وحرارته.. وإذا وُعظ أحدهم؛ احتج لضلاله: بأنه شاب، ومن حقه أن يستمتع بشبابه! وكأنَّ الشاب عنده يجوز له أن يفعل ما يشاء!
وهذا الفهم السَّقيم؛ هو الذي أوقع الكثيرين من الشباب في دوامة الفوضى وحياة اللامبالاة!
ولكن بعدها ما الذي استفاده هؤلاء التُّعساء؟!
لقد كانت النتيجة: الانحلال الخُلُقي، وأمراض العصر، وأعظمها: البعد عن الله تعالى!
وهذه ثمار حصدها كل أولئك الذين ضيَّعوا ساعات عمرهم في الشهوة الحرام؛ بحجة السعادة الكاذبة!
وقد نسي هؤلاء الغافلون؛ أن السَّعادة لا تكون في الحرام!
فيا غافلاً! متى رأيت سعادة يجني صاحبها الأمراض والأحزان؟!
ولكن عليك بالسعادة الحقيقية.. ودع عنك السَّعادة الكاذبة!
** الدنيا منزل السَّعادة الكاذبة! **
أخي المسلم: كلُّ أولئك المخدوعين ببريق السَّعادة الكاذبة؛ إنما خدعتهم الدنيا الفانية؛ بزخرفها الكاذب!
قال الله تعالى: }اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ{ [الحديد: 20].
أخي المسلم: ذلك هو مثل الحياة الدنيا؛ الذي ضربه لك الله تبارك وتعالى.. وهو مثل كل نعيم في الدنيا!
فهل فهم أهل الغفلة هذا المثل؟!
إن من عرف الدنيا وتقلبها بأهلها، وودها الكاذب؛ أيقن أن السعادة الحقيقية لا تكون منها! وإنما الدنيا دار عمل، ومعبر إلى دار البقاء.. والنَّعيم الدَّائم..
والسعداء في الدنيا حقًا؛ هم الذين أخذوا بالأسباب التي ستكون سببًا في سعادتهم الدائمة يوم القيامة.. وكما سعدوا بهذه الأسباب في الدنيا؛ سيسعدون بها غدًا..
أخي المسلم:
إن السعادة الكاذبة: هي ذاك البريق الخادع؛ من زخرف الدنيا الفاني؛ من حب لجمع المال، وحب للتفاخر في الغنى والتكاثر، وإدمان للشهوات المحرمة، وتُّمرد على أوامر الله تعالى.. وفعل كل ذلك رغبة في الوصول إلى تلك السَّعادة المزعومة!
ولكن السعيد حقًا: من وفَّقه الله تعالى، وانشغل بخدمة مولاه تبارك وتعالى.. واستعد ليوم الرَّحيل..
هذا هو السعيد حقًا.. وأما الأول فهو الشقي.. صاحب السعادة الكاذبة!!
والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي محمد وآله والأصحاب..
* * * *