لهذا أنا مسلم
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- لهذا
أنا مسلم
- المقدمة
- 1- أن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده:
- 2- أن الإسلام دين الفطرة:
- 3- دين التوحيد والبراءة من الشرك:
- 4- دين الوحدة والتآخي:
- 5- دين العلم والمعرفة والبحث والنظر:
- 6- دين اليسر ورفع الحرج:
- 7- دين السماحة وعدم الإكراه:
- 8- دين المساواة بين البشر:
- 9- دين الرحمة والعفو والإحسان:
- 10- دين العدل:
- 11- دين القوة والشجاعة والعزة:
- 12- دين الوسطية والتوزان بين الدنيا والآخرة:
- 13- دين العفة والاستعفاف:
- الإسلام مستقل كامل في عباداته ومعاملاته ونظمه كلها
لهذا أنا مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
قُدِّر لي أن ألتقي مجموعة من الطلاب فسألتهم: لماذا نحن مسلمون؟ فنظروا إلي نظر تعجب واستغراب، وكأن الأمر لا يحتاج إلى سؤال أو مناقشة.
فقلت لهم: إذا أراد أحدكم أن يدعو أحدًا من غير المسلمين إلى الإسلام، فقال له ذلك المدعو: ولماذا أترك ديني وأدخل في دين العرب والمسلمين؟
ما الخصائص التي يتميز بها هذا الدين عن غيره من الأديان؟ فماذا كنتم تقولون؟ وبماذا تجيبون؟ فصمتوا جميعًا إلا أن أحدهم قال لي: نحن مسلمون؛ لأن الإسلام هو دين الرسل جميعًا..
قلت له: حقًا ما ذكرت، فالإسلام هو دين الرسل جميعًا، كما قال تعالى: }مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ [آل عمران: 67].
وقال تعالى: }وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ [البقرة: 135، 136].
وقال عن نوح: }فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{ [يونس: 72].
وذكر ذلك عن كافة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد قال رسول الله ﷺ: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [متفق عليه].
قال العلماء: أولاد العلات هم الإخوة لأب من أمهات شتى ، ومعنى الحديث: أصل إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة، فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف ([1]).
ولما وقع التحريف في اليهودية النصرانية وانطمست معالم الدين الصحيح بعث الله النبي محمدًا ﷺ بالدين الصحيح والتوحيد الخالص، وجعل شريعته خاتمة الشرائع، وفرض على الناس كافة الإيمان به وتصديقه والانضواء تحت لوائه.
قال النبي ﷺ: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان..» [رواه مسلم].
قال النووي: قوله تعالى: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» أي مسلمين. وقيل: طاهرين من المعاصي. وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية. وقيل: المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر وقال: }ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى{ [الأعراف: 172].
قوله تعالى: «وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» أي استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل.
قوله ﷺ: «وإن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»:
المقت: أشدُّ البغض. والمراد بهذا المقت والنظر: ما قبل بعثة رسول الله ﷺ.
والمراد ببقايا أهل الكتاب: الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل.
قوله سبحانه وتعالى: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك».
معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى، وغير ذلك.
وأبتلي بك من أرسلتك إليهم، فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق. والمراد: أن يمتحنه ليصير ذلك واقعًا بارزًا، فإن الله تعالى إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم، لا على ما يعلمه قبل وقوعه، وإلا فهو سبحانه عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها، وهذا نحو قوله: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ{ [محمد: 31]. أي نعلمهم فاعلين ذلك متصفين به.
قوله تعالى: «وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان».
أما قوله تعالى: «لا يغسله الماء» فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على ممر الأزمان.
وأما قوله تعالى: «تقرؤه نائمًا ويقظان».
فقال العلماء: معناه: يكون محفوظًا لك في حالتي النوم واليقظة. وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة([2]).
فمن آمن بالنبي ﷺ واتبعه فهو السعيد الموفق، ومن كفر به فهو الشقي الهالك. قال تعالى: }قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ{ [الأعراف: 156، 157].
وأخبر النبي ﷺ أن الذين يؤمنون به من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يأخذون أجرًا مضاعفًا، فعن أبي موسى الأشعري t، أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وأدرك النبي ﷺ فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران...».
وحذر النبي ﷺ أهل الكتاب من عاقبة الكفر به فقال: «والذي نفس محمدٍ بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» [رواه مسلم].
هل أجبنا بذلك على السؤال الذي طرحناه: «لماذا نحن مسلمون؟» كلا.. لأننا لم نذكر إلا وجهًا واحدًا من عشرات الأوجه التي يتميز بها هذا الدين عن غيره، فالإجابة المجملة على هذا السؤال: إننا مسلمون لأن الإسلام يتميز بخصائص ومزايا وفضائل لم تجتمع في شريعة قبله، بحيث إنه تضمن جميع مزايا الشرائع السابقة، وزاد عليها ما ليس فيها، وهذا متوافق مع الحكمة الإلهية، فقد شاء الله تعالى أن تكون الشريعة الخاتمة متضمنة لكل خير يمكن أن تصل إليه البشرية في عصر من العصور.
أما الجواب المفصل على هذا السؤال الكبير: «لماذا نحن مسلمون» فهو ما سوف تتضمنه صفحات هذه الرسالة، والله الموفق.
كتبه
أبو صالح خالد بن مصطفى سالم
رياض نجد التوحيد
ربيع الأول عام 1425هـ
* * * *
لماذا أنا مسلم؟
أنا مسلم لأن الإسلام هو الدين الخاتم الذي يشتمل على طائفة كبيرة من الخصائص والسمات والمحاسن والفضائل والأحكام الشرعية والآداب والأخلاق، لا توجد مجتمعة في دين سواه، فلهذا أنا مسلم.
ومن هذه الخصائص والسمات والمحاسن التي يتميز بها الإسلام:
1- أن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده:
والله تعالى لا يرضى لعباده إلا الخير والسعادة والفوز والنجاة. قال تعالى: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ{ [آل عمران: 19].
وقال تعالى: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [آل عمران: 85].
قال ابن كثير:" أي من سلك طريقًا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه }وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{" كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [رواه مسلم].
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة، قال: قال رسول الله ﷺ: «تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجئ الصلاة فتقول: يا رب! أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير.
ثم يجيء الصيام فيقول: يا رب! أنا الصيام، فيقول: إنك على خير.
ثم تجيء الأعمال، كلُّ ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير.
ثم يجئ الإسلام فيقول: يا رب! أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول الله تعالى: إنك على خير؛ بك اليوم آخذ، وبك أعطي. قال الله في كتابه: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{» تفرد به أحمد. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: "عباد ابن راشد ثقة، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة "([3]).
وقال ابن كثير أيضًا في قوله تعالى: }أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ{ [آل عمران: 83].
قال:" يقول الله تعالى منكرًا على من أراد دينًا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي: } لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا{ أي استسلم له من فيهما طوعًا وكرهًا، كما قال تعالى: }وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا{ [هود: 15]، وقال تعالى: }أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{ [النحل: 48-50].
فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهًا، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يُخالف ولا يمانع"([4]).
فنحن مسلمون إذن لأن الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ولا يقبل من أحدٍ سواه.
2- أن الإسلام دين الفطرة:
ولذلك نجد أنه ما من إنسان يعرض عليه هذا الدين بصفائه وسموه ورونقه، دون أن يكون هناك مؤثرات خارجية، إلا ويؤمن بهذا الدين ويقبل عليه، بشرط أن يترك نفسه على فطرتها، ولا يحكم هواه في اختيارها.
ولذلك نجد أن كثيرًا من أذكياء العالم في القديم والحديث تركوا أديانهم ودخلوا في الإسلام عن رغبة واقتناع لا رهبة وإكراه.
قال تعالى: }وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ{ [الأعراف: 172].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه. قال تعالى: }فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ{ [الروم: 30]".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة – وفي رواية: على هذه الملة – فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟».
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ: «يقول الله: إني خلقت عبادي حُنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم»([5]).
قال ابن القيم:" فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة.
ولمَّا تغيرت فطر الناس، بعث الله الرسل بصلاحها، وردها إلى حالتها التي خلقت عليها، فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة، ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها" ([6]).
3- دين التوحيد والبراءة من الشرك:
وهذا من أعظم خصائص هذا الدين، أنه دينٌ قائمٌ على التوحيد ونفي الشريك وإخلاص العبادة لله وحده.
قال تعالى: }قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص: 1-4].
أما النبي ﷺ فهو رسول الله، وعبده وصفيه من خلقه، ليس له شيء من خصائص الألوهية كما قال: }قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ{ [الأحقاف: 9].
وقال: }قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ{ [الأنعام: 50].
بل إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: }قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ{ [الأعراف: 188].
ومن هنا سد النبي ﷺ جميع المنافذ المؤدية إلى أي نوع من أنواع الشرك فقال عليه الصلاة والسلام: «ليس منَّا من تطيَّر أو تُطير له، أو تكهن أو تُكُهن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمدٍ ﷺ» [رواه البزار وجوّده ابن حجر].
وسد النبي ﷺ منفذ دعاء غير الله عزَّ وجلَّ فقال في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
وقال ﷺ: «لعن الله من ذبح لغير الله» [رواه مسلم].
لأن الذبح عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تعالى.
وحذَّر النبي ﷺ من الوسائل التي تؤدي إلى الشرك، ومنها الإطراء والغلو في المدح، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تُطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» [رواه البخاري].
ومن ذلك أنه ﷺ نهى عن تشييد القبور وبناء المساجد عليها واتخاذها عيدًا، لأن ذلك من وسائل الشرك فقال ﷺ قبل أن يموت بخمس ليالٍ: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» [رواه مسلم].
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: «لما نزل برسول الله ﷺ([7]) طَفِق ([8]) يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مثل ما صنعوا» [متفق عليه].
وقال أبو الهياج الأسدي: قال لي علي بن أبي طالب t: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» [رواه مسلم].
وقال ﷺ: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» [رواه مسلم].
وقال ﷺ: «الطيرة شرك» [رواه أحمد والترمذي وصححه].
وقال ﷺ: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الحسن» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» [متفق عليه].
وقال ﷺ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» [رواه أحمد والترمذي وحسنه].
بل إن النبي ﷺ لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال له ﷺ: «أجعلتني لله ندًا، بل ما شاء الله وحده» [رواه أحمد وصححه الألباني].
وقال النبي ﷺ: قال الله تعالى: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب» [متفق عليه].
فكل ما سبق من آيات وأحاديث تدل دلالة واضحة على إن الإسلام هو دين التوحيد والبراءة من الشرك، وهذا له ثمرات جليلة:
منها: عدم انتشار البدع والخرافات التي تعمل على طمس معالم الدين الصحيح، كما فعل ذلك بالنصرانية واليهودية.
ومنها: اللجوء إلى الله وحده عند المصائب والمشكلات يؤدي إلى انجلائها، لأنه سبحانه وحده بيده مفاتيح كل شيء، أما اللجوء إلى غيره من ملك مقرب أو نبي مرسل أو أحد من الصالحين، وسؤالهم الحاجات ورفع الكربات فلا يزيد الأمر إلا سوءًا.
ومنها: أنه لا نجاة لأحد يوم القيامة إلا بتحقيق التوحيد والبراءة من الشرك. قال تعالى: }فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا{ [البقرة: 256].
ومنها: أن التوحيد يدعو إلى وحدة هذه الأمة واجتماعها، وأن الشرك يدعو إلى تفرقها وتشتتها وانفراط عقد وحدتها.
4- دين الوحدة والتآخي:
إذا نظرنا الآن إلى العالم الذي نعيش فيه نجد أن الأمم من حولنا تميل – رغم قوتها – إلى الوحدة ولم الشمل والتغاضي عن الأمور الخلافية، وقد تكون هذه الخلافات عميقة في كثير من الأحيان، ومع ذلك فإن الأمم القوية تتسامى فوق خلافاتها وتتجاوز جراحاتها في سبيل أهدافها الكبرى.
وعلى سبيل المثال فإن الاتحاد الأوروبي بدأ بست دول كان الرابط بينها هو صناعة الفحم!! وها هو الاتحاد الأوروبي اليوم أصبح يضم تحت لوائه خمسًا وعشرين دولة لا حدود بينها، يجمعهم دينهم الواحد ([9]) ومصالحهم المشتركة، فشكلوا بذلك حلفًا اقتصاديًا وعسكريًا لا يستهان به.
ولكن الإسلام قد سبق الاتحاد الأوروبي وغيره بدعوة المسلمين إلى الوحدة فيما بينهم وترك التفرق والاختلاف. قال تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا{ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{ [الأنبياء: 92].
وقال تعالى: }وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا{ [الأنفال: 46].
والمسلمون – في حقيقة الأمر – هم أحقُّ الناس بالوحدة والاتفاق، لأنهم جميعًا متفقون على تحكيم مصدر واحد في كل شئونهم ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فإذا تحاكم المسلمون – بصدق – إلى هذا المصدر عرفوا صدق الصادق وكذب الكاذب، وأعطوا كل ذي حق حقه، وبذلك يستطيعون مداواة جراحاتهم قبل أن تتقرَّح وتتقيح فيصعب شفاؤها.
ولقد عاش المسلمون الوحدة الإسلامية والأخوة الإسلامية قرونًا من الدهر منذ العهد النبوي وحتى سقوط الخلافة الإسلامية، وقد مرَّت دولة الخلافة الإسلامية على ممر التاريخ بمراحل كثيرة من القوة والتوسع وبسط النفوذ، بحيث أصبحت خطرًا يتهدد قوى الشر والاستكبار، مما حدا بهم إلى العمل على إضعاف هذه الدولة ثم إسقاطها فيما بعد، ثم قاموا بتفتيت هذا الكيان الكبير إلى دول ودويلات، ووضعوا الحواجز الوهمية بين حدود تلك الدول حتى لا يكون هناك رابط يربط بين أبناء هذه الأمة الواحدة.
والمطلوب من الدول الإسلامية اليوم أن ترتبط بعضها ببعض عن طريق شبكة ضخمة من المصالح المشتركة، في كافة الميادين الصناعية والزراعية والتجارية والبحثية والعسكرية؛ تمهيدًا لإقامة الاتحاد الإسلامي الكبير. ويمكن للدول العربية أن تكون النواة الأولى لإقامة مثل هذا الاتحاد، وذلك لوجود نقاط اتفاق كثيرة بين الدول العربية منها الدين واللغة والثقافية والحدود المشتركة وتنوع الثروات وغير ذلك.
5- دين العلم والمعرفة والبحث والنظر:
ما من دين حض على العلم والتعلم واكتساب المعارف، والبحث والنظر والتأمل في الكون والآفاق مثل الدين الإسلامي.
ويكفي في ذلك أن أول ما نزل من القرآن آيات كريمات، تحث على القراءة والتعلم، وتذكر أعظم أداة للعلم وهو القلم.
قال تعالى: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ [العلق: 1-5].
وقال تعالى مبينًا فضل العلم وشرف العلماء: }يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{ [المجادلة: 11].
وقال: }هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{ [الزمر: 9].
والعقيدة الإسلامية مؤسسة على العلم لا على الجهل والتسليم الأعمى، قال تعالى: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ{ [محمد: 19]، وقال مبينًا أهمية الدليل العقلي النظري: }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا{ [الأنبياء: 22].
ونبَّه القرآن إلى أهمية البرهان في الدلالة على صدق الدعاوى من كذبها، فقال: }قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{ [البقرة: 11].
وفي القرآن آيات كثيرة تدعو إلى البحث والنظر والتأمل كقوله تعالى: }وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ{ [النساء: 83].
وأهل الاستنباط هم أهل البحث والنظر والتأمل واستنباط النتائج من مقدماتها.
وقال تعالى: }أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ{ [الغاشية: 17-20].
وقال تعالى: }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{ [آل عمران: 190، 191].
قال الشيخ القرضاوي: "لم يخش القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته، لأن فكرة الإسلام: أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحق لا ينقض الحق، واليقين لا يعارض اليقين، إنما يعارض اليقين الظن، وتنافي الحقيقة الشك أو الوهم أو الافتراض.
ومن هنا لا يمكن بحال مناقضة صحيح المنقول لصريح المعقول، وإذا بدا لنا في بعض الأحيان تناقض ظاهري، فلابد أن يكون المنقول غير صحيح، أو المعقول غير صريح"([10]).
ومن هنا فإن الإسلام ينظر إلى العلم على أنه من أعظم الأدلة على وجود الخالق سبحانه وتعالى، ومن أعظم الدلالات التي يدعو إلى الإيمان به والخضوع له.
والنبي ﷺ قد أقر المنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد على الخبرة والممارسة أو المشاهدة والتجربة.
ومما يروى في ذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في قضية تأبير النخل، فقد قدم النبي ﷺ المدينة وهم يأبرون النخل – أي يلقحونه – فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه. قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا» فتركوه. فنفضت أو فنقصت.,
وفي رواية: «فخرج شيئًا» وهو التمر الرديء. فذكروا ذلك للنبي ﷺ، فقال: «إنما أنا بشر، إذ أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر». وفي رواية أنه قال لهم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» [رواه مسلم].
ومن هنا فإن المسلمين الأوائل برعوا في العلوم التجريبية المعتمدة على التجربة والملاحظة وأقاموا حضارة علمية رائدة في الفلك والطب والهندسة والصيدلة والجغرافيا والفيزياء سبقوا بها أوروبا بمئات السنين، وامتازت هذه النهضة العلمية باقترانها بالدين والإيمان واهتدائها بهدي القرآن الكريم والسنة النبوية، بخلاف النهضة العلمية الأوروبية التي قامت على الإلحاد ومعاداة الدين وكل ما يمت له بصلة، فالعلم في الإسلام يدعو إلى الإيمان والتواضع والتسليم لله عز وجل، كما قال تعالى: }وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ{ [الحج: 54].
6- دين اليسر ورفع الحرج:
الإسلام هو دين اليسر والسهولة ورفع الحرج عن الأمة قال تعالى: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ{ [الحج: 78].
قال ابن كثير: "أي ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا.
فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا، وفي السفر تقصر إلى اثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا النافلة في السفر تصلَّى إلى القبلة وغيرها. والقيام فيها يسقط لعذر المرض، فيصليها المريض جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، وإلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «بعثت بالحنيفية السمحة» [رواه أحمد بسند فيه ضعف].
وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا» [متفق عليه].
والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ{ يعني من ضيق»([11]).
فالمشقة في الإسلام تجلب التيسير، والعسر يتبعه اليسر. قال تعالى: }يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ{ [البقرة: 185]. وقال: }فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا{ [الشرح: 5، 6].
وقال: }لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا{ [البقرة: 286].
وأباح الله للمضطر تناول المحرم إذا أشرف على الهلاك، كشرب الخمر وأكل المحرم، قال تعالى: }فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ{ [البقرة: 173].
قال الدكتور عبد الله علوان: "فهذه النصوص وغيرها تؤكد تأكيدًا جازمًا أن الإسلام بمبادئه السمحة لا يكلف الإنسان فوق طاقته، ولا يحمله من المسؤوليات فوق استعداده، بل نجد كل هذه التكاليف والمسؤوليات تدخل في حيز الإمكان البشري والطاقة الإنسانية، لكي لا يكون للإنسان عذر أو حجة في التخلي عن أمر شرعي، أو ارتكاب مخالفة إسلامية»([12]).
7- دين السماحة وعدم الإكراه:
فالإسلام هو أعظم الأديان سماحة وقبولاً للآخر، ولذلك فإنه يعترف بالأديان السماوية، كاليهودية والنصرانية، ويجب على المسلم أن يؤمن بنبي الله عيسى ونبي الله موسى عليهما السلام، ويؤمن بجميع الأنبياء ويحبهم ويحترمهم، بل إن الذي لا يؤمن بأي نبي من الأنبياء يعتبر في الإسلام كافرًا بجميع الأنبياء، بل كافرًا بالله عز وجل. أما اليهود والنصارى فهم إلى الآن لا يعترفون بالإسلام كدين سماوي، ولا يعترفون بنبوة محمد رسول الله ﷺ.
وليس الأمر مجرد الاعتراف بالآخر، بل إن الإسلام أعطى لكل إنسان حرية العقيدة، قال تعالى: }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ{ [البقرة: 256].
وقال تعالى: }فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ{ [الكهف: 29].
ومن الأدلة على سماحة الإسلام أنه حرم قتل الكافر الذمي أو المعاهد، لقوله ﷺ: «من قتل معاهدًا لم يَرَح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» [رواه البخاري].
ومن الأدلة على سماحة الإسلام مع أهل الكتاب ما جاء في كتاب «الخراج» لأبي يوسف« أن عمر بن الخطاب t مرَّ بشيخ كبير ضرير البصر، وهو واقف على باب قوم يسأل، فضرب عمر عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟
قال: يهودي.
قال عمر: فما ألجأك إلى ما أرى؟( أي إلى سؤال الناس والوقوف بأبوابهم).
قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن.
فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل – أي أعطاه شيئًا من عنده – ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه – أي أشباهه – والله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، وهذا من مساكين أهل الكتاب، فضع الجزية عنه وعن ضربائه »([13]).
قال الدكتور مصطفى السباعي: "وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا: هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين.
إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلها على حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم. ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق، وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف ويفتح المدن ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته على أن يجور في الحكم، أو ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه- إن رجلاً مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت على الدين وشادت قواعدها على مبادئه، ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية!
هذا ما صنعته حضارتنا"([14]).
8- دين المساواة بين البشر:
جاء الإسلام بمبدأ التساوي بين الناس، فالناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح.
قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ [الحجرات: 13].
وقال النبي ﷺ: «الناس ولد آدم، وآدم من تراب» [رواه ابن سعد وحسنه الألباني].
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه | ||||
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب | ||||
لقد رفع الإسلام سلمان فارس | ||||
كما وضع الشرك النسيب أبا لهب! | ||||
وقال النبي ﷺ: «... ومن بطأ به عمله، لم يُسرع به نسبه» [رواه مسلم].
قال ابن رجب:" معناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، كما قال تعالى: }وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا{ [الأنعام: 132].
فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله تعالى، لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: }فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ{ [المؤمنون: 101]".
وقال ابن مسعود:« يأمر الله بالصراط، فيضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، ثم كمرِّ البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لم بطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، إنما بطأ عملك.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ حين أنزل عليه: }وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ{ [الشعراء: 214]: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئَا، يا صفية عمة رسول الله ﷺ! لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا»... وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنا وليي الله وصالح المؤمنين» يشير إلى أن ولايته لا تنال بالنسب وإن قرب، وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعملاً فهو أعظم ولاية له، سواء كان له منه نسب قريب أو لم يكن ([15]).
ومع أن الإسلام ساوى بين الناس في كل حق ديني ودنيوي، ولم يجعل لأحد منهم ميزة في نسب أو حسب أو مال أو حسن صورة، إنما الميزة والتفضيل بالمعاني العالية في التقوى وتوابعها، إلا أنه جعل هناك تفاوتًا بين الناس بحسب استعداداتهم الفطرية وقدراتهم النفسية والعقلية والمادية، وهذا من كمال حكمة الله جل وعلا. قال الشيخ ابن سعدي: ".. وأما التفاوت والتفاضل فيكون بأسباب من كمال الدين والتفضيل بها، كما فضَّل الذكر على الأنثى في الميراث، وجعل الرجال قوامين على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض، فإن الرجل عنده من الاستعدادات والتهيؤ للكمال والقوة على الأعمال ما ليس عند المرأة، وعليه من الواجبات النفسية والعائلية ما حسن تفضيله على المرأة، ولهذا علل ذلك بقوله تعالى: }وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ{ [النساء: 34]، فشكرهم على إنفاقهم على غيرهم، وأعانهم على تلك النفقات بالتفصيلات المناسبة لها.
وهذا كما أوجب العبادات المالية كالزكوات والكفارات وغيرها على أرباب الأموال دون من ليس عنده مال؛ تعليقًا للحكم بعلته وسببه، وكما فرّق بين الناس في مقدار الواجبات وأجناسها بحسب قدرتهم واستعدادهم، وبهذا يعرف حكمة الله وشمول رحمته وحسن أحكامه }وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ [المائدة: 50].
وما خالف هذه المساواة التي يتشدق بها المنحرفون بين الرجال والنساء، وبين الأغنياء والفقراء، فإنها مادية ضارة، لا يستقيم عليها دين ولا دنيا؛ لخلوها من الدين والروح الإنسانية الشريفة، ومخالفتها لسنة الله التي لا تبديل لها، ولا صلاح إلا بها، التي تكفل للآدميين كرامتهم وشرفهم وحقوقهم الدينية والمادية.
وإذا أردت معرفة فساد ما خالفها فانظر إلى آثارها؛ كيف انحلت منهم الأخلاق الجميلة، وتبدلوا بها الأخلاق الرذيلة، وذهب معها الرحمة والشفقة والنصح، وكيف كانت تسير بهما إلى الهلاك، وهم يشعرون أو لا يشعرون"([16]).
إن المساواة في الإسلام مبدأ يطبقه المسلمون كل يوم دون أن يشعروا، وذلك عندما يصطف المسلمون في مساجدهم لأداء الصلاة، الفقير بجانب الغني، والأبيض بجانب الأسود، والعربي بجوار الأعجمي، ويتكرر هذا المشهد في كثير من العبادات الإسلامية، ولعل فريضة الحج من أعظم الشعائر الإسلامية التي يبرز فيها مبدأ المساواة، حيث يخلع الجميع ثيابهم التي تفرق بعضهم عن بعض، ويلبسون زيًا واحدًا، ويسكنون خيمة واحدة، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويدعون ربًا واحدًا، في مشهد فريد من مشاهد العبودية والطاعة والمساواة بين البشر.
كان هذا التحرير الإنساني منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وهو واقع حاضر يراه الناس ويعيشونه إلى اليوم.
وعلى الجانب الآخر: كان العالم الغربي المتحضر يعيش تفرقة عنصرية بغيضة، ولقد عانى السود في أمريكا من مظاهر الاضطهاد والتفرقة لسنوات طويلة، حتى ألفيت تلك القوانين منذ سنوات ليست بالطويلة، ولا زالت هناك بعض قوانين التمييز في بعض الولايات الأمريكية.
وبنظرة سريعة إلى ما كان يحدث في تلك الولايات نعرف كيف كان الإسلام الذي جاء قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان دينًا حضاريًا رائعًا يصلح للبشر جميعًا، في كل زمان ومكان.
قال الدكتور السباعي: "إن مظاهر اضطهاد الزنوج في أمريكا متنوعة متعددة الميادين:
ففي الميدان الثقافي: لا يسمح في عشرين ولاية من الولايات الأمريكية للزنوج أن يتعلموا في مدرسة واحدة مع البيض! وفي ولاية «فلوريدا» تقضي قوانينها بأن تفصل الكتب المدرسية الخاصة بالطلاب الزنوج في معزل عن الكتب الخاصة بالطلاب البيض!
وفي ميدان الزواج: يمتنع في كل الولايات تقريبًا زواج بيضاء بزنجي أو أبيض بزنجية.
وفي ميدان العمل: تقضي قوانين بعض الولايات بأنه لا يسمح للعمال الزنوج أن يقيموا مع العمال البيض على صعيد واحد في المصانع، ولا يجوز للزنوج أن يدخلوا أو يخرجوا من الأبواب عينها التي يدخل منها البيض ويخرجون!
وفي ميدان الشؤون الاجتماعية: تقضي قوانين أربع عشرة ولاية بعزل الركاب البيض في القطارات الحديدية عن السود، وتفرض إقامة عربات خاصة للسود في القطارات، والأوتوبيس، وغرف الهاتف، وفي المستشفيات، حتى في مستشفيات الأمراض العقلية يفرق بين المجنون الأبيض والمجنون الأسود!
حتى الكنائس.. فقد دخل زنجي من جمهورية بناما كنيسة كاثوليكية في واشنطن، وفيما هو مستغرق في صلاته، سعى إليه أحد القسس، وقدم إليه قصاصة من ورق قد كتب فيها عنوان كنيسة زنجية كاثوليكية، وحين سئل القس عن سر هذا التصرف أجاب: إن في المدينة كنائس خاصة بالكاثوليك الزنوج، يستطيع هذا المرء أن يقف فيها بين يدي ربه! هذا وهم الذين يبشرون بأن السيد المسيح u كان للإنسانية كلها " ([17])!!
9- دين الرحمة والعفو والإحسان:
إن الإسلام هو دين الرحمة والعفو والإحسان، والحث على منفعة نوع الإنسان. قال تعالى مبينًا المقصد الأسنى من بعثة الرسول ﷺ: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{ [الأنبياء: 107].
"فما عليه هذا الدين من الرحمة وحسن المعاملة والدعوة إلى الإحسان، والنهي عن كل ما يضاد ذلك هو الذي صيره نورًا وضياء بين ظلمات الظلم والبغي وسوء المعاملة وانتهاك الحرمات. وهو الذي جذب قلوب من كانوا قبل معرفته ألد أعدائه، حتى استظلوا بظله الظليل. وهو الذي عطف وحنا على أهله حتى صارت الرحمة والعفو والإحسان يتدفق من قلوبهم على أقوالهم وأعمالهم، وتخطاهم إلى إعدائه، حتى صاروا من أعظم أوليائه؛ فمنهم من دخل فيه بحسن بصيرة وقوة وجدان، ومنهم من خضع له ورغب في أحكامه وفضلها على أحكام أهل دينه، ما فيها من العدل والرحمة"([18]).
قال الشيخ عبد العزيز السلمان: "ومن محاسن الإسلام: العطف على الضعفاء، والشفقة على الفقراء، والرأفة باليتامى، والخدم، والإحسان إليهم ودفع الأذى عنهم، وحسن معاملتهم، والتواضع معهم، وملاطفتهم، وخفض الجناح لهم، ولين الجانب معهم. قال تعالى لرسوله ﷺ: }وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ [الشعراء: 215]. وقال: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ{ [الكهف: 28].
وقال: }فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ{ [الضحى: 9، 10].
وقال: }أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ{ [الماعون: 1-3].
وقال: }وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ{ [البلد: 12-16].
وقال: }عَبَسَ وَتَولَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلهُ يَزَّكَّى{ [عبس: 1-3].
ومن صور الرحمة في الإسلام: رحمة الأطفال الصغار، فعن أبي هريرة t قال: قبل النبي ﷺ الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ﷺ فقال: «من لا يرحم لا يرحم» [متفق عليه].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله ﷺ فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقال: «نعم» قالوا: لكنا والله ما نقبل! فقال رسول الله ﷺ: «أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟» [متفق عليه].
ومن رحمة النبي ﷺ بالأطفال أنه كان يبكي لفقدهم فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله ﷺ، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» [متفق عليه].
ودخل النبي ﷺ على ابنه إبراهيم u وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله- أي حتى أنت تبكي يا رسول الله!-فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» [متفق عليه، واللفظ للبخاري].
وقال ﷺ في تأصيل بديع لقاعدة الرحمة في الإسلام: «من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله» [متفق عليه].
فالمسلم يرحم الناس جميعًا، حتى ولو كانوا كفارًا، بل إن الجهاد في سبيل الله نوع من أنواع الرحمة للبشرية ولذلك قال تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ{ [آل عمران: 110].
قال أبو هريرة t: «خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل لتدخلوهم الجنة» فليس الجهاد مشروعًا لقتل الناس، بل لرحمتهم وإدخالهم الجنة!
وتتعدى الرحمة في الإسلام الإنسان لتشمل الحيوان البهيم، فقد أعطاه الإسلام حظه من الرحمة والشفقة والإحسان.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «عذبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»([19]) [متفق عليه].
وروى البخاري ومسلم عن النبي ﷺ: «أن رجلاً دنا من بئر فنزل وشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث من العطش، فرحمه، فنزع خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك، فأدخله الجنة».
وقال ﷺ: «ما من إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها، إلا سأله الله عنها يوم القيامة» قيل: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: «حقها أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي به» [رواه النسائي وحسنه الألباني].
هذا فيمن يقتل عصفورًا بغير حق! فما الحال والجزاء فيمن يقتل إنسانًا بغير حق؟!
ومن رحمة الإسلام بالحيوان أنه أمر بالإحسان إليه عند ذبحه، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» [رواه مسلم].
ومن عجيب ما يروى في رحمة الحيوان أن النبي ﷺ دخل حائطًا – أي بستانًا – لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي ﷺ حنَّ وذرفت عيناه!ّ فأتاه رسول الله ﷺ، فمسح ذفراه – أي تحت أذنيه – فسكت. فقال رسول الله ﷺ: «من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟».
فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياه؟ فإنه شكى إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه» [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني].
وقد شملت رحمة النبي ﷺ الجمادات، فقد كان ﷺ إذا خطب يقوم على جذع من جذوع النخل، فلما صُنع له المنبر وقام عليه خطيبًا، بكى الجذع وسمع له الصحابة صوتًا، فنزل النبي ﷺ من على المنبر ووضع يده على الجذع حتى سكن. [رواه البخاري].
أما العفو: فقد حث عليه الإسلام، وبيّن فضائله، ورتب عليه الأجر الكبير والجزاء الأوفى من الله تعالى، قال تعالى: }وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا{ [النور: 22]، وقال: }فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ{ [البقرة: 109]. وقال: }وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{ [آل عمران: 134].
وقال: }وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{ [البقرة: 237].
وقال النبي ﷺ: «... وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا» [رواه مسلم].
ويوم فتح النبي ﷺ مكة ودخلها فاتحًا منتصرًا، جيء إليه بأهلها مخذولين مقهورين أذلاء، فقال لهم، وهم الذين آذوه وطروده وآذوا أصحابه، وتآمروا على قتله، قال لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!» فانطلقوا فرحين كأنهم بعثوا من القبور!
10- دين العدل:
إن الإسلام هو دين العدالة المطلقة، تلك العدالة التي لا تفرق بين حاكم ومحكوم، أو بين ذي سلطان ومن لا سلطان له، أو بين قوي وضعيف، فالجميع أمام القضاء الإسلامي سواء. قال تعالى: }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ{ [النحل: 90].
وقال تعالى: }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ{ [النساء: 58].
والعدل في الإسلام يكون حتى مع الأعداء، بل مع الكفار الذين لا يدينون بالإسلام ولا يؤمنون بالله ورسوله ﷺ. قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ{ [النساء: 135].
وقال تعالى: }وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{ [المائدة: 8].
ولقد طبق النبي ﷺ هذا المبدأ تطبيقًا صارمًا، وذلك حينما سرقت امرأة شريفة، فأراد بعض الناس أن يتوسطوا في درء الحد عنها لشرفها ومكانة قومها، فغضب النبي ﷺ أشد الغضب، ولم يرض إلا بتطبيق الحد عليها فعن عائشة زوج النبي ﷺ أن قريشًا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي ﷺ في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةُ بن زيد، حبُّ رسول الله ﷺ؟ فأتى بها رسول الله ﷺ، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله ﷺ فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله!.
فلما كان العشيُّ قام رسول الله ﷺ فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرف فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها» ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. [متفق عليه].
قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد ذلك، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله ﷺ.
أي دين هذا الدين؟ وأي عدالة تلك العدالة؟ إنها عدالة السماء التي قامت عليها السموات والأرض.
لقد جاء الإسلام لينشئ أمة وينظم مجتمعًا، ثم لينشئ عالمًا ويقيم نظامًا. جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس، إنما العفيدة وحدها هي الآصرة والرابطة، والقومية والعصبية.
ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود.
جاء بالعدل الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف، إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.
وإلى جوار «العدل»: الإحسان، يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه؛ إيثارًا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور، ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه، ليداوي جرحًا أو يكسب فضلاً. والإحسان أوسع مدلولاً: فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعًا ([20]).
وفي فضل العدل قال النبي ﷺ: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» [رواه مسلم].
ولقد تربت الجماعة المسلمة على هذا المبدأ الإسلامي الرشيد، فرفضت أي مظهر من مظاهر الإخلال بالعدالة، ولو كان ذلك يصب في صالحها، ومن صور ذلك أن النعمان بن بشير t قال: أعطاني أبي عطية، فقالت أمه عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله ﷺ. فأتى رسول الله ﷺ فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله! فقال رسول الله ﷺ: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟» قال: لا. قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم» فرجع بشير فرد عطيته. [متفق عليه].
وفي رواية قال: «ألك بنون سواه؟» قال: نعم قال: «فكلهم أعطيت مثل هذا؟» قال: لا. قال: «فلا أشهد على جور» متفق عليه].
وفي رواية أن النبي ﷺ قال له: «فأشهد على هذا غيري» ثم قال: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى. قال: «فلا إذًا».
فهذا الحديث يدل على تشديد الإسلام في تقرير العدالة حتى في محيط الأسرة الواحدة، لكي لا ينشأ نوع من التحاسد والتباغض بين الإخوة والأبناء.
والغريب في ذلك أن أم المعطى هي نفسها التي توقفت في قبول العطية، وأمرت زوجها أن يراجع رسول الله ﷺ، وهذا يدل على مدى السمو الذي بلغه هذا المجتمع المسلم في أيام الإسلام الأولى.
وفي خلافة علي بن ابي طالب t تشرف صورة أخرى من صور العدالة الإسلامية، وذلك أن الخليفة عليًا t وجد درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح القاضي يخاصمه.
فجاء علي حتى جلس إلى جنب شريح، ثم قال: يا شريح! هذا الدرع درعي؛ لم أبع، ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب!
فالتفت شريح إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال له: هل من بينة؟
فضحك علي t وقال: أصاب شريح ،مالي! فقضى شريح بالدرع للنصراني!!
فأخذه النصراني، ومشى خطىً، ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه!! ، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، والدرع والله درعك يا أمير المؤمنين؛ اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين، فخرجت من بعيرك الأورق.
فقال علي t: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس ([21]).
هذه عدالتنا، ولهذا فأنا مسلم.
11- دين القوة والشجاعة والعزة:
حرَّم الإسلام الظلم وجعل عاقبته وخيمة، قال تعالى: }وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ{ [إبراهيم: 42، 43].
وقال ﷺ: «اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» [رواه مسلم].
وحرَّم البغي: }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ{ [النحل: 90].
وحرَّم الغدر والخيانة: قال تعالى: }إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ{ [الأنفال: 58].
وقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ [الأنفال: 27].
وقال النبي ﷺ: «لكل غادر يوم القيامة لواء يرفع له بقدر غدرته» [رواه مسلم].
وحرم الإسلام الاعتداء على الآخرين. قال تعالى: }وَلا تَعْتَدُوا 4 cÎ) ©!$# w =Åsã úïÏtG÷èßJø9$# 4 { [البقرة: 190].
ولكن الإسلام لم يقف موقفًا سلبيًا تجاه الذين يعتدون على المؤمنين، ولم يقل لأتباعه: إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. بل قال: }فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ{ [البقرة: 194]، هذا في الحقيقة عدل لا ينكره أحد..
وكان الإسلام واقعيًا في تعامله مع قضية الاعتداءات الخارجية ومن هنا أمر أتباعه بإعداد القوة للدفاع عن الأنفس والبلاد والعباد والمقدسات. قال تعالى: }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ{ [الأنفال: 60]. وقال ﷺ: «المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» [رواه مسلم].
قال النووي: والمراد بالقوة هنا: عزيمة النفس، والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها ومحافظة عليها ونحو ذلك»([22]).
والإسلام دينٌ لا يهمل الأسباب، بل يأخذ بها ولا يفرط في البحث عنها والعمل بها، ولذلك قال ﷺ: «احرص على ما ينفعك» من أمور الدنيا والآخرة، ولكن لا يمكن اعتمادك وركونك إلى تلك الأسباب وذلك قال: «واستعن بالله» في جميع أمورك «ولا تعجز» عن إدراك المعالي.
ويمكن مع كل ذلك أن تكون النتائج على خلاف المأمول والمرتجى، فلا تجزع ولا تيأس، وإنما فوض أمرك إلى الله تعالى وارض بقضائه وقدره، ولذلك قال: «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن «لو» تفتح عمل الشيطان».
إن أصل مشروعية القتال في الإسلام هو الدفاع عن النفس، وتأمين الدولة والجماعة من الاعتداءات والمكائد الخارجية، ولذلك فإن معظم آيات القتال أشارت إلى هذا المعنى.
قال تعالى: }أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ{ [الحج: 39]، وقال: }وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً{ [التوبة: 36]. وقال تعالى: }وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا{ [البقرة: 190]. وقال تعالى: }فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ{ [البقرة: 191].
وينبغي أن ينظر إلى الآيات الأخرى التي أمرت بقتال الكفار جميعًا في ضوء هذه الآيات.
أما انتشار الإسلام فلم يكن بالسيف بل بالحجة والبرهان؛ لأن الله تعالى قال: }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ [البقرة: 256]. وما السيف إلا لأولئك المعاندين الذين يحولون بين الناس وبين الدين الحق الذي يكفل لهم الحرية، ويخلصهم من الظلم والعبودية للبشر، وينجيهم يوم القيامة من العذاب الأليم.
قال الشيخ محمد منير الدمشقي: "لما انتشر الإسلام أبيحت محاربة الذين يقفون في سبيل الدعوة الإسلامية، وأما الذين لم يعارضوا الإسلام فأولئك يقال لهم: لكم دينكم ولي دين، ما داموا لا يضمرون للمسلمين عداء ولا سوءًا. وإلا فإن دين الإسلام هو دين الهداية والإرشاد، لا يجبر الناس على تعاليمه التي يقبلها العقل السليم، ويستريح لها فؤاد المدرك الأريب. قال تعالى: }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [البقرة: 256].
إن دين الإسلام أباح محاربة الذين لا يرضون مقارعة الحجة بالحجة ولا يفهمون الدليل، ولا يصغون إلى البرهان الواضح ،بل يريدون بقوتهم وسفاهتهم أن يزيلوا الإسلام أو ينالوا منه نيلاً، وهؤلاء جُوزوا من جنس عملهم، لأنهم لا فائدة من إصلاحهم إلا بالقوة لبعدهم عن المعقول والتعقل.
دين الإسلام ليس دين الحرب، وإنما هو دين الهداية، والحرب آلة من الآلات التي لا تستعمل إلا عند الضرورة، بشهادة أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، لما قهر قريشًا عدة مرات، ويوم الحديبية، بايعه أصحابه على الموت، وطلبت قريش الصلح على أن يعود من حيث أتى، ويعتمر في العام القادم، فرضي بالصلح، واعتمر عمرة القضاء، بعد أن كان من النصر وغلبة قريش على قاب قوسين أو أدنى، فهل بعد هذا يشك أحد بأن الإسلام يريد الحرب إلا لكونه غير مقصود لذاته" ([23])؟!
هذا وللحرب في الإسلام أخلاق وآداب تنأى بها عن الحروب الهمجية التي ليست لها أهداف إلا القتل والدمار والخراب، والتشفي في العدو بكل الوسائل والسبل.
ومن أخلاق الحرب في الإسلام ما رواه أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: «انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله ﷺ، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة، ولا تغلوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين» [رواه أبو داود].
وعن بريدة t قال: كان النبي ﷺ إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأتيهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم. وادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين» [رواه مسلم].
وكذلك أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين، الذين يعيشون بين ظهرانينا، لا يجوز التعرض لهم بقتل أو خطف أو إيذاء، أو سلب، لأنهم في ذمة المسلمين وأمانهم، ولو كان المسلمون في حرب مع بعض البلدان التي ينتمي إليها هؤلاء، فلا ينتقض عهدهم بمجرد ذلك، ما داموا لم يرتكبوا ما يوجب نقض العهد.
قال الشيخ سيد سابق: "وإذا كان الإسلام أباح الحرب كضرورة من الضرورات، فإنه يجعلها مقدرة بقدرها، فلا يقتل إلا من يقاتل في المعركة، وأما من تجنب الحرب، فلا يحل قتله أو التعرض له بحال.
وحرم الإسلام كذلك قتل النساء والأطفال والمرضى والشيوخ والرهبان والعباد والأجراء، وحرم المثلة، بل حرم قتل الحيوان وإفساد الزروع والمياه، وتلويث الآبار وهدم البيوت، وحرم الإجهاز على الجريح وتتبع الفارّ، وذلك أن الحرب كعملية جراحية، لا يجب أن تتجاوز موضع المرض بمكان.. وحدث نافع بن عبد الله؛ أن امرأة وجدت في بعض مغازي الرسول ﷺ مقتولة، فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان». [رواه مسلم].
وروى رباح بن ربيع أن الرسول ﷺ مرَّ على امرأة مقتولة في بعض الغزوات، ولعلها هي المرأة في الحديث المذكور قبل هذا، فوقف عليها ثم قال: «ما كانت هذه لتقاتل» ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لأحدهم: «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلن ذرية، ولا عسيفًا – أي أجيرًا – ولا امرأة» [رواه أحمد وأبو داود].
وفي وصية أبي بكر t لأسامة حين بعثه إلى الشام: «لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع – يريد الرهبان – فدعواهم وما فرغوا أنفسهم له».
وكذلك كان يفعل سيدنا عمر بن الخطاب t، فقد جاء في كتاب له: «لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا، واتقوا الله في الفلاحين».
وكان من وصاياه لأمراء الجنود: «ولا تقتلوا هرمًا، ولا امرأة، ولا وليدًا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات»([24]).
هذه أخلاق المسلمين حتى في حروبهم، ولهذا فأنا مسلم.
12- دين الوسطية والتوزان بين الدنيا والآخرة:
ليس من أهداف الإسلام أن يكون المسلم راهبًا في دير، أو عابدًا في مسجد لا يخرج منه، ولا يقدم لمجتمعه أو أمته عملاً مثمرًا أو فكرًا وقادًا ينفعهم في دينهم ودنياهم.
وليس المراد كذلك أن يصبح المسلم آلة أو ترسًا في ماكينة لا تتوقف، فيخسر بذلك توازنه النفسي ويصبح إنسانًا صناعيًا لا يعرف إلا المادة، فهو يركض وراءها، ويستبيح لتحصيلها كل المحرمات وينتهك كل القيم والمبادئ الأخلاقية.
المسلم لابد أن يكون متوازنًا بين الجانب المادي والجانب الروحي، ولابد أن يكون عمله المادي مرتبطًا بأخلاقيات الإسلام وآدابه. قال تعالى: }وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{ [القصص: 77].
ومن هنا حرم الإسلام الغلو في الدين، فقد قال النبي ﷺ: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين» [رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني].
وفي الصحيحين عن أنس t قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!
فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا..
وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر..
وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.. فأخبر النبي ﷺ بما قالوا، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا كذا؟ أما والله إن لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
بل إن العمل الذي يتعدى نفعه إلى الآخرين قد يكون أفضل من بعض العبادات، فعن أنس t، قال: كنا مع النبي ﷺ في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلتا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلًا صاحب الكساء، ومنَّا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصوام([25])، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله ﷺ: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» [متفق عليه].
وحث الإسلام المسلمين على أعمال البر والخير وإن لم يأخذوا عليها مقابلاً ماديًا، فعن أبي هريرة t قال: قال النبي ﷺ: «عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق» [رواه مسلم].
بل إنه ﷺ جعل إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان وعلاماته.
وقال النبي ﷺ: «لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين» [رواه مسلم].
وفي رواية: «بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له» [متفق عليه].
وعن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ قال: «إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل» [رواه أحمد].
هذا هو موقف الإسلام من العمل والإنتاج ونفع الآخرين.
أما العبادة فلها في الإسلام الشأن الأرفع والمكانة الأسمى، قال تعالى: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ [الحجر: 99]، أي الموت.
وقال تعالى: }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{ [الشرح: 7، 8].
وقال تعالى: }حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ{ [البقرة: 238].
وكان النبي ﷺ يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه، فلما قيل له في ذلك قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» [متفق عليه]. فهذا هو التوازن المطلوب؛ أن يعمل المسلم ويأكل من كسب يده، وينفق على نفسه وأهله وأبنائه، ولا يتواكل، ولا يكسل، ولا يعتمد على عطايا وهبات الآخرين، وفي الوقت نفسه يحرص على عبادته ويجعلها من أهم المهمات لديه، ويكون ذاكرًا لله عز وجل، تاليًا كتابه، واقفًا عند حدوده، متوازنًا في شأنه كله.
قال الشيخ عبد الله علوان: "ومن عظمة التشريع الإسلامي أنه لا يباعد بين المادة والروح، ولا يفصل بين الدنيا والآخرة، بل ينظر إلى الحياة على أنها وحدة متكاملة بين حق الإنسان لربه، وحقه لنفسه، وحقه لغيره.
وبهذا يتسنى للإنسان أن يمارس الحياة العملية الواقعية بكل طاقاته وأشواقه، على أسس من المبادئ الإسلامية توافق الفطرة، وتتلاءم مع واقعية الحياة.
فالإسلام بتشريعه المتكامل لا يقرُّ الحرمان ولا الترهبن، ولا العزلة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه لا يقر للإنسان إن ينهمك بكليته في الحياة المادية وينسى ربه والدار الآخرة، بل يهيب به أن يتوازن مع هذا وذاك، وأن يعطي حق الله، وحق نفسه، وحق الناس، دون أن يغلّب حقا على حق، أو يهمل واجبًا على حساب واجب آخر.
والقرآن الكريم قد حض على هذا التوازن بين المادة والروح في كثير من آياته التي تلامس المشاعر والوجدان، قبل أن تخاطب عقل الإنسان.
ففي تذكيره بأداء حق الله في العبادة في غمرة الانهماك في الأعمال الدنيوية والمزاولة التجارية، يقول سبحانه في سورة النور: }رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{ [النور: 37].
وفي تذكيره بأداء حق النفس في التكسب وابتغاء الرزق في غمرة المناجاة الربانية والنفحات المسجدية، يقول سبحانه في سورة الجمعة: }فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ{ [الجمعة: 10].
ومن الأصول التي وضعها القرآن الكريم في هذه الموازنة: ابتغاء الدار الآخرة مع الأخذ بحظوظ الدنيا: }وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا{ [القصص: 77].
والاستنكار على من يحرم على نفسه الزينة والطيبات: }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ{ [الأعراف: 32].
وما ذاك إلا ليوازن الإنسان بين الدين والدنيا، والآخرة والأولى"([26]).
فلهذا التوازن البديع في شخصية المسلم؛ أنا مسلم.
13- دين العفة والاستعفاف:
من محاسن الإسلام أنه يعلم أتباعه كيف يسيطرون على أنفسهم ويتحكمون في شهواتهم، فالإنسان لم يخلق لاتباع الشهوات والإغراق في الفجور والملذات، وإنما خلق لأمر عظيم عجزت السموات والأرض والجبال عن تحمله: }إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً{ [الأحزاب: 72].
لقد خلق الله الإنسان وركب في الشهوة، ولكنه جعل له عقلاً وإرادة يضبط بهما هذه الشهور حتى لا يكون الإنسان كالبهيمة يقضي وطره بأي سبيل كان.
لقد وازن الإسلام – كما سبق أن ذكرنا – في نظرته للإنسان بين جانبي الروح والجسد، فلم يهمل جانب الروح كما فعلت النظريات المادية التي أطلقت للإنسان عنان الشهوات، حتى صار باحثًا عنها، لاهثًا وراءها، أسيرًا في قيودها.
كذلك لم يهمل الإسلام جانب الجسد وما ركب في الإنسان من شهوة وميل فطري إلى الجنس الآخر كما فعلت الرهبانية التي حرمت على أتباعها كل أشكال التمتع، ولو كان في إطاره الشرعي الذي أحله الله تعالى.
وبهذا التوازن الذي تعامل له الإسلام مع الإنسان استطاع أن يكون جيلاً فريدًا تميز بالطهارة والعفة وعلو الهمة والاستعلاء على الشهوات، والتضحية بالنفس والمال طلبًا لمرضاة الله عز وجل وتصديقًا بجزائه، ودفاعًا عن الدين والعرض والحرمات والنفس.
لقد حث الإسلام على الزواج وجعله من آيات الله الدالة على كمال حكمته وعظيم رحمته بعباده، حيث رفع عنهم الحرج، ويسر لهم طريقًا شرعيًا حلالاً نظيفًا يقضون به وطرهم، ويحفظون به نسلهم، ويلبون به نداء الفطرة بين الجنسين، لتأخذ النفس حظها من المتعة الشريفة. قال تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً{ [الروم: 21].
وقال سبحانه في الحث على النكاح: }وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ [النور: 32].
وقال سبحانه: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ{ [النساء: 3].
وحثّ سبحانه على نكاح الإماء المؤمنات لمن لم يجد مهر المؤمنة الحرة، فقال سبحانه: }وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ{ [النساء: 25].
بل إن النبي ﷺ أخبر أن المرء يُثاب على جماع زوجته وإعفافها وإمتاع نفسه وزوجته، فعن أبي ذر t، أن النبي ﷺ قال: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر» [رواه مسلم].
وعلى الجانب الآخر فقد حظر الإسلام اتباع الشهوات، والإغراق في طلبها، وأمر بالعفة وحث عليها، وأغلق جميع الأبواب التي تنشر الفاحشة وتفسد القلوب، وتدنئ الهمم، وتخرب المجتمعات والأمم. قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{ [المؤمنون: 1-7].
وقال سبحانه: }وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ{ [النور: 33].
وقال النبي ﷺ: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» [متفق عليه].
فالعفة إذن مطلب إسلامي عظيم، وخلق إيماني رفيع، يعمل على تهذيب النفوس، وتطهير القلوب، وسوق الجوارح إلى طاعة الله عز وجل، واجتناب معاصيه، وإذا فقد المرء خلق العفة أصبح كالبهيمة لا هم له إلا في متابعة الشهوات أني اتجهت ركائبها، والحصول على اللذات من أي طريق وبأي ثمن، حتى ولو كان في ذلك خسران الدين والعرض والنفس والمال والأهل والدنيا والآخرة([27]).
ولتحقيق العفة حرم الإسلام الزنا وحرَّم جميع الوسائل المفضية إليه، قال تعالى: }وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً{ [الإسراء: 32]. والفاحشة هي الذنب العظيم الذي تناهي جُرْمه.
وقال النبي ﷺ محذرًا من الزنا: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» [متفق عليه].
أي أن الإيمان يُرفع من الزاني حال زناه، وهذا من أعظم العقوبات.
وحرم الإسلام النظر إلى النساء الأجنبيات لأن النظر من المنافذ التي تؤدي إلى الزنا. قال تعالى: }قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا{ [النور: 30، 31].
وعن جرير بن عبد الله t قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك» [رواه مسلم].
وحرم الإسلام كذلك الخلوة والاختلاط لأنهما ذريعتان إلى إقامة العلاقات المحرمة بين الرجال والنساء. قال النبي ﷺ: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم» [متفق عليه].
وحرم الإسلام على النساء الخضوع بالقول للرجال الأجانب حتى لا يطمع فيهن طامع ولا يسيء الظن بهن ظان. قال تعالى: }يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا{ [الأحزاب: 32].
وحرم الإسلام تبرج النساء الذي هو من أعظم أسباب الفساد والزنا والعياذ بالله. قال تعالى: }وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى{ [الأحزاب: 33].
بهذا حفظ الإسلام المجتمع الإسلامي وجعله مجتمعًا متوازنًا لا يعاني من مثل هذه المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الإباحية، أو الجماعات التي فرضت على نفسها التشدد والرهبنة. ولهذا فأنا مسلم.
* * * *
الإسلام مستقل كامل في عباداته ومعاملاته ونظمه كلها
وهذه كلمة رائعة، وثمرة يانعة، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، أخذتها من رياضه الناضرة، وحدائقه النيرة الزاهرة.
قال رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا{ [المائدة: 3].
وهذا يشمل الكمال من كل وجه.
وقال تعالى: }إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ{ [الإسراء: 9].
أي أكمل وأتم وأصلح من العقائد والأخلاق والأعمال، والعبادات والمعاملات والأحكام الشخصية، والأحكام العمومية.
وقال تعالى: }وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ [المائدة: 50].
وهذا يشمل جميع ما حكم به، وأنه أحسن الأحكام وأكملها وأصلحها للعباد، وأسلمها من الخلل والتناقض، ومن الشر والفساد إلى غير ذلك من الآيات البينات العامة والخاصة.
أما عقائد هذا الدين وأخلاقه وآدابه ومعاملاته، فقد بلغت من الكمال والحسن والنفع والصلاح الذي لا سبيل إلى الصلاح بغيره مبلغًا لا يتمكن عاقل من الريب فيه.
ومن قال سوى ذلك فقد قدح بعقله وبين سفهه ومكابرته للضرورات.
وكذلك أحكامه السياسية، ونظمه الحكيمة والمالية مع أهله ومع غيرهم، فإنها نهاية الكمال والإحكام والسير في صلاح البشر كلهم بحيث يجزم كل عارف منصف أنه لا وسيلة لإنقاذ البشر من الشرور الواقعة، والتي ستقع إلا باللجوء إليه، والاستظلال بظله الظليل، المحتوي على العدل والرحمة والخير المتنوع للبشر، المانع من الشر، وليس مستمدًا من نظم الخلق وقوانينهم الناقصة الضئيلة، ولا حاجة به إلى موافقة شيء منها، بل هي في أشد الضرورات إلى الاستمداد منه، فإنها تنزيل العزيز العليم الحكيم العالم بأحوال العباد ظاهرها وباطنها، وما يصلحها وينفعها، وما يفسدها ويضرها، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم وأعلم بأمورهم، فشرع لهم شرعًا كاملاً مستقلاً في أصوله وفروعه، فإذا عرفوه وفهموه وطبقوا أحكامه على الواقع، صلحت أمورهم، فإنه كفيل بكل خير.
ومتى أردت معرفة ذلك فانظر إلى أحكامه حكمًا حكمًا، في سياسة الحكم والمال، والحقوق والدماء، والحدود وجميع الروابط بين الخلق، تجدها هي الغاية، التي لو اجتمعت عقول الخلق على أن يقترحوا أحسن منها أو مثلها تعذر عليهم واستحال.
وبهذا وشبهه نعرف غلط من يريد نصر الإسلام بتقريب نظمه إلى النظم التي جرت عليها الحكومات ذات القوانين والنظم المقصورة، فإنها هي التي تتقوى وتقوى إذا وافقته في بعض نظمها، وأما الإسلام فإنه غني عنها، مستقل بأحكامه لا يضطر إلى شيء منها.
ولو فرض موافقته لها في بعض الأمور، فهذا من المصادفات التي لابد منها، وهو غني عنها في حال موافقتها أو مخالفتها.
فعلى من أراد أن يشرح الدين ويبين أوصافه أن يبحث فيه بحثًا مستقلاً لا يربطه بغيره، أو يعتز بغيره، فإن هذا نقص في معرفته وفي الطريق التي يبصر بها.
وقد ابتلي بهذا كثير من العصريين بنية صالحة، ولكنهم مغرورون مغترون بزخارف المدنية الغربية التي بنيت على تحكيم المادة وفصلها عن الدين، فعادت إلى ضد مقصودها، فذهب الدين ولم تصلح لهم الدنيا، ولم يستطيعوا أن يعيشوا فيها عيشة هنيئة، ولا يحيوا حياة طيبة، ولله عواقب الأمور.
أما الإسلام فقد ساوى بين البشر في كل الحقوق، فليس فيه تعصب نسب، ولا عنصر، ولا قطر ولا غيرها، بل جعل أقصاهم وأدناهم في الحق سواء، وأمر الحكام بالعدل التام على كل أحد في كل شيء، وأمر المحكومين بالطاعة التي يتم بها التعاون والتكافل، وأمر الجميع بالشورى التي تستبين بها الأمور، وتتضح فيها الأشياء النافعة فتؤثر، والضارة فتترك ([28]).
([1]) شرح صحيح مسلم للنووي (15/119).
([2]) شرح صحيح مسلم للنووي (17/195).
([3]) تفسير ابن كثير (1/494).
([4]) المصدر السابق (1/493، 494).
([5]) المصدر السابق (2/247).
([6]) إغاثة اللهفان (2/228).
([7]) أي لما حضره الموت.
([8]) طفق: جعل. والخميصة: كساء له أعلام.
([9]) وهو الدين النصراني، والدليل على ذلك أنهم لم يقبلوا تركيا لأن الشعب التركي شعب مسلم وكذلك لم يقبلوا الجانب المسلم من جزيرة قبرص.
([10]) الرسول والعلم ص (14، 15).
([11]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/314، 315).
([12]) الإسلام شريعة الزمان والمكان ص(43).
([13]) الخراج ص(70).
([14]) من روائع حضارتنا ص(75، 76).
([15]) جامع العلوم والحكم (2/309، 310).
([16]) الرياض الناضرة ص(157، 158).
([17]) من روائع حضارتنا ص(121-123) باختصار.
([18]) الدرة المختصرة ص(10، 11) للشيخ عبد الرحمن ابن سعدي.
([19]) خشاش الأرض: هوامها وحشراتها.
([20]) انظر الظلال (4/2190).
([21]) موارد الظمآن (4/40).
([22]) شرح صحيح مسلم للنووي (16/431).
([23]) حاشية مختصر شعب الإيمان للقزويني ص(76، 77).
([24]) فقه السنة (3/125، 126] باختصار.
([25]) أي لم يستطيعوا القيام بأي عمل.
([26]) الإسلام شريعة الزمان والمكان ص(32-34).
([27]) نعم للعفاف، لا للشهوات للمؤلف ص(3-5).
([28]) الرياض الناضرة ص(169-171).