الإجازة بين الحفظ والضياع
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله قيُّوم الأرض والسماوات، أَمرنا بحفظ الأوقات واغتنامها بالصالحات وسلامتها من السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق المخلوقات، والمحيط بالكائنات، والمُطَّلع على النيَّات، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، دائم الطاعات، والسابق إلى الخيرات، صلى الله وسلم عليه كلما حفظت الأوقات واغتُنِمَت الإجازات، وعلى آله وصحبه ومَن سَلَكَ طريقه إلى يوم القيامة.
أما بعد:
إخوتي في الله, اتقوا الله واغتنموا الحياة قبل الموت، والعمل قبل الفوت، فإنَّ اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، واليوم تعملون ولا تعلمون، وغدًا تعلمون ولا تعملون، واعلموا أن الدنيا رحلة مُدْبِرة، والآخرة رحلة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإنها الحياة الباقية والدار الدائمة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنها الحياة الفانية والدار الزائلة واستزيدوا من الحسنات وسابقوا إلى الخيرات، واعملوا الصالحات، فإن الحياة الحقيقية هي حياة العمل الصالح؛ لأنه العمل المطلوب في الشباب والهرم وفي الصحة والسقم وفي الغني والفقر وفي الفراغ والشغل.
والعمل الصالح عمل رابح يضاعفه الله أضعافًا كثيرة. يقول تعالى: }مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [غافر: 40].
والعمل الصالح هو الطيبة. قال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [النحل: 97].
وهو الأمان من الخسارة، يبقى صاحبه رابحًا سعيدًا لا خوف عليه في الآخرة ولا حزن عليه في الدنيا، يقول تعالى: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{ [العصر].
وقد أمر الله به فقال: }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ{ [التوبة: 105].
وأَمَرَ به الرسول ﷺ فقال: «اعملوا فكل ميسَّر لَمَا خُلِقَ له».
وقَرَنَه الله تعالى بالإيمان في عشرات الآيات الكريمة، إذ لا يذكر الإيمان غالبًا إلا وهو مقرون بالعمل الصالح، فكم من الآيات التي فيها }آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ{. فالعمل الصالح ملازم للإيمان، ودال عليه، وصفة من صفات أهله.
وقَرَنَه بالتوبة فقال: }وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا{ [الفرقان: 71].
وقَرَنَه بالدعوة إلى الله تعالى فقال: }وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ{ [فصلت: 33].
وقَرَنَه بالكلم الطيب وجعله الرافع له إلى السماء والسبب في قبوله. يقول تعالى: }إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ{ [فاطر: 10].
وقَرَنَه حتى بالأكل يقول تعالى: }يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا{ [المؤمنون: 51].
ووعد أهله بالجنة. قال تعالى: }بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ{ [الشورى: 22].
وجعل أهله خير البَريَّة. يقول تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ{ [البينة: 7، 8].
ولأهمية العمل الصالح أَمَرَ الله به في جميع الأوقات، ولم يجعل لانقطاعه أجلاً دون الموت. يقول تعالى: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ [الحجر: 99]. ويقول ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله».
وقد وردت كلمة (عمل) ومشتقاتها في القرآن بعدد أيام السنة إذ وردت حوالي (360) مرة، وفي هذا دلالة على أن ديننا دين العمل وأن العمل يشمل جميع أيام الحياة، وفيه دلالة على أن حياة المسلم لا إجازة فيها عن العمل الصالح حتى وقت النوم؛ لأنه يريد بالنوم التقوي على طاعة الله تعالى، ولأنه يذكر الله قبله، ويذكر الله في أثنائه، ويذكر الله بعده، بل ولو نام وهو ناوٍ قيام الليل فغلبته عينه كتب له قيام ليلة.
وبهذا نعلم أن الإجازة المدرسية ليست تركًا للعمل الصالح ولا نسيانًا له، وإنما هي ترك للمدرسة وراحة منها، وسعي الناس في الإجازة المدرسية شتى، فمنهم مَن سعيه للربح والحفظ وإرضاء الله تعالى، واتِّباع السُنَّة ومجاهدة النفس، فهو يسعى ليربح الإجازة ويستفيد منها ما لا يستفيد من غيرها، ويصلح فيها حاله، ويصلح عمله وتزكوا نفسه ويكسب المكاسب الجليلة.
* * * *
أسباب ضياع الإجازة وعلاجها
ومِن الناس مَن سعيه على الخسارة والضياع، واتِّباع خطوات الشيطان، وموافقة الأهواء والشهوات، وهو يسعى ليخسر إجازته ويضيِّعها ويسوء حاله ويفسد عمله وتخبث نفسه ويخسر الخسائر الجسيمة.
ولضياع الإجازة أسباب بالإمكان علاجها، فمن هذه الأسباب:
* الفراغ الشديد الذي يعانيه الطلاب والمدرسون والأبناء والأمهات، وسبب ذلك توفر زمن الدراسة من الصباح إلى الظهر، وتوفر زمن المذاكرة وأداء الواجبات من العصر إلى العشاء، والفراغ مفسدة للمرء وتسلُّط من الشيطان وقفل لباب العمل.
وقد عالج الإسلام هذه الظاهرة. يقول الله تعالى: }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{ [الشرح: 7، 8]. أي: إذا فرغت من الفرائض فانصب إلى النوافل، وإذا فرغت من الصلاة فانصب إلى الدعاء، وإذا فرغت من دنياك فانصب إلى العبادة.
وبيَّن ﷺ أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل ذَكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه. فهذا الرجل عَمَّر فراغه بعبادتين: عبادة قولية، وهي ذكر الله تعالى. وعبادة فعلية، وهي البكاء من خشية الله تعالى.
ووقت المسلم لا فراغ فيه؛ لأنه أنفاس معدودة وأيام محدودة، ويوشك أن تنتهي الأيام وأن تقف الأنفاس وأن تظهر النتائج، ووقت المسلم خزائن يضع فيها الأعمال الصالحة لتظهر له يوم القيامة بياضًا في وجهه وثقلاً في ميزانه، ووقت المسلم مراحل يقطع بها العمر، وما من يوم يَنْشَقُّ فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وفاغتنمني بعمل صالح فإني لن أعود إلى يوم القيامة.
* وقال ابن مسعود: ما ندمت على شيء كندمي على يوم مضى فيه عمري ولم يزد فيه عملي.
* وقال أحد السلف: مَن كان يومه كأمسه فهو مغبون.
ووقت المسلم نعمة فلا يجوز له أن يضيع هذه النعمة، ولا أن يكفرها، وهو أغلى من الذهب والفضة. يقول ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ».
ووقت المسلم غنيمة يجب أن يغتنمها قبل رحيلها وقبل ضياعها وقبل الندم عليها. يقول ﷺ: «اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك».
ويتميز الوقت بثلاثة أمور:
سرعة انقضائه، وزواله، وما مضى منه لا يعود إلى يوم القيامة. وهو أغلى من الذهب والفضة.
وتظهر الحسرة على ضياع الوقت في موضعين:
* عند الموت وانقطاع العمل. قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{ [المنافقون: 9-11].
* وعند البعث والنشور، ومعاينة الأعمال، وظهور النتائج. يقول تعالى: }وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ{ [فاطر: 37].
ويمكن شغل فراغ الإجازة وملؤه بعدة أمور منها:
* حضور الدورات العلمية المنتشرة في كل منطقة، ففيها يكتسب الإنسان العلم النافع، وتمتد في بعض الأماكن من بعد الفجر إلى بعد العشاء، والرحلة إليها أمر مطلوب، فقد سافر موسى u برًا وبحرًا لاكتساب العلم من الخضر وتعلَّم في هذه السفرة ثلاث مسائل فقط، وجاء جبريل على صورة أعرابي يعلِّم الناس أمور دينهم، ومن تعليمه: السفر في طلب العلم. وسافر جابر بن عبد الله شهرًا كاملاً من المدينة إلى الشام لنيل حديث واحد.
* التسجيل في المراكز الصيفية المنتشرة في المدارس ويقوم عليها مدرسون أكفاء تقاة أهل صلاح وتقوى نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا، يحبون الخير للغير ويحرصون على هداية الناس وعلى نفعهم وعلى حفظ الأوقات. وتُثْمِر المراكز الصيفية تعلم القرآن والسُنَّة والتفقُّه في الدين، المراكز الصيفية تعلم القرآن والسُنَّة والتفقُّه في الدين، واكتساب الأدب والأخلاق، وصحبة الصالحين، وحفظ الوقت.
* الانتظام في حلقات القرآن الكريم لقراءة القرآن وحفظه والعمل به والتحاكم إليه والاستشفاء به وتصديق خبره وتطبيق أحكامه. وتُثْمِر هذه الحلقات الهداية إلى الصراط المستقيم، والبركة في العمر، والأجر، ورفعة الدرجة، والتأثر والتأثير، ونزول الرحمة وغشيان السكينة وحفوف الملائكة والذِكْر عند الله. يقول ﷺ: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».
* استماع الأشرطة النافعة وكتابتها وإخراجها للناس وتوزيعها؛ فإنها من العمل النافع، وكم من الناس هداه الله بشريط سمعه مع أنه بذله ميسور.
* القراءة الفردية. فلو حفظ الإنسان كل يوم عشر آيات لحفظ في الإجازة حوالي (900) آية؛ لأن الإجازة للطلاب تزيد على (90) حديثًا، ولو تعلَّم مسألة من الفقه لاكتسب (90) مسألة، ولو قرأ كل يوم سيرة أحد الصالحين لاطَّلع على سيرة (90) صالحًا من الصالحين، ولو تعلم كل يوم خلقًا وبهذا يتبين أن مواسم الخير متنوعة نشغل بها الفراغ.
ومن أسباب ضياع الإجازة كثرة النوم، إذ قد يصل النوم عند البعض إلى نصف الإجازة أو أكثر، وكثرة النوم ضياع للعمل ومجلبة للكسل والخمول، وكثرة النوم إفلاس يوم القيامة، فقد ورد أن أم سليمان بن داود قالت لابنها سليمان: يا ولدي إياك وكثرة النوم، فإن كثرة النوم تدع الإنسان فقيرًا يوم القيامة. ويقول مالك بن دينار: لو استطعت ألا أنام ما نمت. قالوا: ولماذا يا أبا يحيى؟ قال: أخشى أن يأتيني ملك الموت وأنا نائم.
وقد مَدَحَ الله أهل الجنة بقلة النوم، قال تعالى: }إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ [الذاريات: 15-18]. وقال ﷺ لابن عمر: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل» أي: لو كان يقلل النوم.
ومن أسباب ضياع الإجازة كثرة السهر في الليل إما على المسلسلات المحرَّمة التي حرَّم الله النظر إليها وحرم مجالسها وحرم أجهزتها وحرم بيعها وشراءها، وإما على الغناء والمزامير والطبول والشعر المحرم، وإما على الأرصفة ولعب الورق وما شابهها، وإما على معصية من المعاصي. ويترتب على السهر مخالفة سُنَّة الله تعالى، فإن الله جعل الليل لباسًا وجعله سكنًا وجعله للنوم وهو الذي يعلم الأصلح لعباده، وفيه مخالفة لسُنَّة الرسول ﷺ، إذ كان يكره النوم قبل صلاة العشاء، ويكره الحديث بعدها بل وكان ينام في أول الليل ويقوم آخر الليل، ولنا في رسول الله أسوة حسنة. وفيه الإضرار بالنفس؛ لأنها تحتاج إلى النوم وقد حرَّم الله الإضرار فقال: }وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ{ [البقرة: 195]. ويقول ﷺ: «لا ضرار ولا ضرار»، وفيه الإضرار بالغير وأذيَّته من إنس أو دواب، وقد حرم الله الأذى للغير، فقال: }وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{ [الأحزاب: 58].
وفيه حرمان قيام الليل الذي هو شرف المؤمن، وحرمان إجابة الدعاء، وحرمان مغفرة الذنب، وحرمان صلاة الفجر، وكل هذه عقوبات جسيمة. والليل أقرب الأوقات إلى الله تعالى، فلنكن من أهل الطاعة فيه، فإن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير منه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله فيقول: «هل من داعٍ فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه».
ومن أسباب ضياع الإجازة قرناء السوء الذين يزينون الباطل ويحبون المعصية ويكرهون الطاعات ويشتغلون بالمباحات ولا يتورعون عن المحرمات ويهونون الكبائر ويتعاونون على الإثم والعدوان. وقد شبههم ﷺ بنافخ الكير إما أن يحرقك ويهلكك وإما أن تجد منه رائحة منتنة.
والواجب على المسلم أن يحذرهم وأن يعلم أنهم كالمرض العُضال الذي يفتك بالروح وأنهم كالسم الزعاف الذي يؤدي إلى الهلاك، ويستبدلهم بالأخيار الذين هم كالطعام والشراب، وهم كبائع المسك إما أن تشتري منه رائحة طيبة، وإما أن يحذيك. وقد أمرنا الله بصحبة الصالحين فقال: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ{ [الكهف: 28]، وأمرنا رسول الله ﷺ بالجلوس معهم فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنًا»، وقال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالِل»، وقال: «يُحْشَر العبد يوم القيامة مع مَن يحب».
ومن أسباب ضياع الإجازة السفر إلى بلاد الكفر، لطلب الزنا والخنا والغناء والفجور والخمور والانحلال، ونسي هؤلاء أن هذا السفر حرام لا يجوز، ونسوا أن الله لهم بالمرصاد، ونسوا أن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ونسوا أن الأعمال بالخواتيم، فقد سافر شاب إلى بلد الانحلال للزنا، وبينما هو ينتظر عاهرته الزانية أبطأت عليه فضاق صدره، فلما أقبلت عليه خر لها ساجدًا من دون الله فقبض الله روحه وهو ساجد لغيره وأماته وهو على جريمته الشنعاء.
والسفر إلى بلاد الكفر لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
1- أن يكون عنده دين يحميه من الشهوة.
2- أن يكون عنده علم يحميه من الشبهة.
3- أن تدعو الحاجة لهذا السفر.
والواجب على كل مسلم أن يستبدل سفره إلى بلاد المعصية بالسفر إلى بلاد الطاعة، كالسفر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فإن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، وإن الصلاة الواحدة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في غيره، أو السفر إلى المسجد النبوي فإن الصلاة فيه بألف صلاة في غيره أو السفر لصلة الأرحام والأقرباء، أو السفر لطلب العلم ونحو ذلك.
والواجب على طلاب العلم تحذير الناس من السفر للمعصية، لما يترتب على ذلك من المفاسد في الدنيا والآخرة. فقد ورد أن رجلاً رأى شابين في أحد مطارات هذا البلد وقد غيرا ملابسهما يريدان السفر لبلد معروف بالانحلال والفجور. فقال: لابد من نصيحتهما، فنصحهما وخوَّفهما بالله تعالى، وذَكَّرهما عاقبة المعصية، وطلب منهما السفر إلى مكة فوافقا، وذهبا إلى مكة، ولمَّا وصلا الميقات أحرما ثم ركبا سيارتهما، وفي طريقهما إلى مكة انقلبت بهما السيارة وماتا محرمين ويُبْعَثان يوم القيامة يلبيان، ولو سافرا إلى المعصية لبُعِثَا فاجرين.
والواجب أن نحفظ هذه الإجازة بالطاعة والحفظ ومراقبة الله والاستفادة منها والدعوة إلى الله، فإن الله يجزي على النية الحسنة ويعاقب على النية السيئة، ففي الحديث: «إنما الدنيا لأربعة نفر، ومنهم: رجل آتاه الله علكمًا ولم يعطه مالاً. فقال: لو أن لي من المال مثل ما لفلان – أي صاحب المال – لأنفقت مثل نفقته. فهو بنيَّته الطيبة وهما في الأجر سواء».
أسأل الله أن يوفقنا لحفظ الأوقات، ولاغتنام الإجازات، وللسبق إلى الخيرات، ولمضاعفة الحسنات، وللبُعد عن السيئات، وأن يرزقنا مراقبة رب الأرض والسماوات، وأن يزيدنا في الإجازة علمًا وعملاً وإيمانًا وتوفيقًا وتسديدًا، إنه القادر على ذلك.