×
مكة بلد الله الحرام: قال المصنف - حفظه الله -: «فقد اختص الله - عز وجل - مكة من بين سائر أصقاع الأرض، وشرفها بإقامة بيته العتيق، وجعل الحج إلى البيت الركنَ الخامس من أركان الإسلام. ورغبة في تعريف المسلمين بحق هذا الحرم المبارك جمعت هذه الأوراق».

 مكة بلد الله الحرام

عبد الملك القاسم


بسم الله الرحمن الرحيم

 المقدمة

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، وأكرمنا ببعثة سيد الأنام، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد اختص الله عز وجل مكة من بين سائر أصقاع الأرض، وشرفها بإقامة بيته العتيق، وجعل الحج إلى البيت الركنَ الخامس من أركان الإسلام.

ورغبة في تعريف المسلمين بحق هذا الحرم المبارك جمعت هذه الأوراق، سائلاً الله عز وجل التوفيق والسداد.

* مكة بلد أحبها الله عز وجل فجعلها حرمًا آمنًا: عن عبد الله بن مسعود t  قال: قال رسول الله  ﷺ‬وهو على ناقته المخضرمة بعرفات: «أتدرون أي يوم هذا، وأي شهر هذا، وأي بلد هذا؟» قالوا: هذا بلد حرام، وشهر حرام، ويوم حرام، قال: «ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام، كحرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، في يومكم هذا... » [رواه ابن ماجه].

* مكة خير البلاد وأحبها إلى رسول الله ﷺ‬: عن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري  t قال: رأيت رسول الله ﷺ‬ واقفًا على الحزورة [الأرض المرتفعة] فقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» [رواه الترمذي].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ‬ لمكة: «ما أطيبك من بلد، وما أحبك من بلد، وما أحبك إلي، ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك» [رواه الترمذي].

* مكة بلد الأمن: قال تعالى: }أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ{ [القصص: 57]، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ‬ قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطَّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» [رواه البخاري].

* مكة مأرز الإيمان: عن سعد بن أبي وقاص t قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «إن الإيمان بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس أبي القاسم بيده ليأرزن الإيمان بين هذين المسجدين كما تأرز الحية في حجرها» [رواه أحمد].

* مكة بلد التوحيد: بلد أقام الله عز وجل فيها صروح التوحيد وأزهق فيها الشرك، وفي تطهير إبراهيم u لبيت الله وأذانه للناس بالحج أعظم دلالة، قال تعالى: }إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ{ [الحج: 26، 27].

* مكة قبلة الدنيا: يتوجه إليها المصلونِ في الصلوات المفروضة خمس مرات في اليوم والليلة، قال تعالى: }قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ{ [البقرة: 144].

* مكة بلد فيها معالم الإخلاص: إنها معالم واضحة جليَّةٌ بدأها إبراهيم حين بناء الكعبة: }وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ [البقرة: 127].

* مكة بلد التوكل: بدأ فيها التوكل على الله من أول وهلة؛ لما وضع إبراهيم u هاجر وابنها في أرض جرداء لا أنيس ولا صاحب، وضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها.

فقالت: آلله أمرك بهذا؟

قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا.

* مكة بلد تعددت أسماؤه تشريفًا له وتعظيمًا: بلد الله الحرام، الذي حرمه وشرفه وقدسه، تعددت أسماؤه تشريفًا للمسمى، ومن أسمائه التي وردت في القرآن الكريم:

-مكة: وهو أشهر أسمائه، قال تعالى: }وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا { [الفتح: 24].

-بكة: من أسمائه التي وردت في القرآن، قال تعالى: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ { [آل عمران: 96].

أم القرى: وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم، قال تعالى: }وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ{[الشورى: 7].

-البلد الأمين: بلد اسم ومسمى، قال تعالى: }وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ{ [التين: 1-3].

وما كثرة الأسماء إلا لفضلها

حباها بها الرحمن من أجل كعبة

* مكة بلد البر بالوالدين؛ حيث ساعد فيها الابن أباه، إنها طاعة ورضا وتسليم وفرح حين يعين الابن أباه في إقامة أعظم بيت من بيوت الله }وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ [البقرة: 127].

* مكة بلد حسن الرجاء والظن بالله عز وجل: لما ترك إبراهيم u زوجه هاجر وابنه إسماعيل بهذا الوادي المقفر انطلق حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: }رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ{ [إبراهيم: 33].

فاستجاب الله دعوته، فكان هذا البلد العظيم.

* مكة بلد بذل الأسباب: في هذا البلد بذلت هاجر الأسباب ولم تقعد تنوح وتبكي، لما نفذ ما في السقاء من الماء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها؛ فنظرت هل ترى أحدًا قلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات.

* مكة لا يدخلها الدجال: عن أنس t عن النبي ﷺ‬ قال: «ليس بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج  الله كل كافر ومنافق» [رواه البخاري].

* مكة مأرز الإيمان: روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ‬ قال: «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في حجرها».

قال النووي: «أي: مسجدي مكة والمدينة».

* مكة بلد يحرم فيها الإلحاد: }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ{ [الحج: 25].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي ﷺ‬: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة؛ ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطَّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» [رواه البخاري].

وعن ابن مسعود t مرفوعًا: «لو أن رجلاً هَمَّ فيه بإلحاد وهو بعد أبين، لأذاقه الله عذابًا أليمًا» [رواه أحمد].

قال شيخ الإسلام: «إن المعاصي في الأيام المفضلة والأماكن المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان» [مجموع الفتاوى 34/ 180].

* مكة بلد النصيحة: في مكة النصيحة للابن وتفقد أحواله في أبهى صورها وأجمل عباراتها؛ فإن هاجر لما بقيت في مكة وشب إسماعيل عن الطوق تزوج من جرهم وماتت أم إسماعيل.

فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغى لنا. ثم سأل عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرّ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي u وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنَّا في جهد وشدة.

قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك.

قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، إلحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عندهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا.

قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم.

فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله.

فقال: ما طعامكم؟

قالت: اللحم.

قال: فما شرابكم؟.

قالت: الماء.

قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.

قال النبي ﷺ‬: «ولم يكن لهم يومئذ حبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه».

قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبِّت عتبة بابه.

فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد.

قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة. وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته: أنا بخير.

قال: فأوصاك بشيء؟

قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.

قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

* مكة موطن طاعة الابن لأبيه: نعم تتجلى في أوضح وأجلى حال، تتم الموافقة بلا تردد ولا مساءلة!

جاء إبراهيم وابنه إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك.

قال: وتعينني؟

قال: أعينك؟

قال: إن الله أمرني أن أبني بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: }رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ [البقرة: 127]، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: }رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{.

* مكة فيها أول بيت بني في الأرض للعبادة: ولا يزال هذا البيت تتجه نحوه قلوب المصلين كل صلاة.

قال تعالى: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ{ [آل عمران: 96].

* مكة بلد حرام: اصطفى الله عز وجل هذه البقعة وحرمها منذ خلق السماوات والأرض، قال تعالى: }إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{ [النمل: 91]. ودل على ذلك أيضًا حديث رسول الله ﷺ‬؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ‬ قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض؛ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» [رواه مسلم].

وقد أحلها الله عز وجل لنبينا ﷺ‬ ساعة من نهار لتطهيرها من الأوثان والأصنام والشرك وأعمال الجاهلية.

وقد أعلن خليل الله إبراهيم u حرمة مكة، وبنى وطهر بيت الله الكعبة، وأذن في الناس بالحج؛ فقد روى البخاري عن عبد الله بن زيد بن عاصم t عن النبي ﷺ‬: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم u لمكة» [رواه البخاري].

* مكة بلد حبس الله عنها الأعداء: في الحديث عن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ‬ قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي...» [رواه البخاري].

* مكة بلد أقسم الله تعالى بها في كتابه: أقسم الله سبحانه وتعالى بمكة في آيات عديدة من كتابه الكريم، دلالة على عظمة المقسم به، وتنبيهًا إلى مكانته ورفعة منزلته عند الله سبحانه، قال تعالى: }وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ{ [التين]، والتعبير بهذه الصيغة يدل على عظيم شأن هذا البلد الحرام؛ فقد عظمه الله حين أقسم به، وفي ضمن القسم أشار إليه باسم الإشارة (هذا) الذي يدل على قرب مكانته عند الله عز وجل، ثم وصفه بـ [الأمين]، وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي آمن.

وقال تعالى: }لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ{ [البلد: 1، 2]، وهذا قسم آخر استخدم فيه أسلوبا آخر بالقسم المؤكد، مع استخدام اسم الإشارة أيضًا (بهذا).

* مكة بلد دعا لها ولأهلها إبراهيم الخليل u: لقد ذكر لنا عز وجل في كتابه الكريم أن إبراهيم خليل الرحمن u، بعد أن أسكن ولده إسماعيل وزوجه هاجر عليهما السلام دعا لأهل هذا البلد وساكنيه، فدعا أن يجعله بلدًا آمنًا، وأن يجنب أهله عبادة الأصنام، ودعا أن يجعل قلوب المسلمين تميل وتهفو إليهم وإلى بلدهم.

* ودعا أن يرزقهم من الثمرات...

* ودعا أن يبعث فيهم نبيًا منهم...

فهذه دعوات مباركات من خليل الرحمن أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، فقال تعالى: }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ{ [إبراهيم: 35-37].

وقال عز وجل: }رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [البقرة: 129].

واستجاب الله سبحانه هذا الدعاء المبارك فرزق أهل هذا الوادي غير ذي الزرع من الثمرات، تجبى إليه من كل حدب وصوب، حتى تجد فيه فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فسبحان الله المجيب، والحمد لله الوهاب.

* مكة بلد تعظم الصلاة فيها: عن أبي هريرة t أن النبي ﷺ‬ قال: «صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» [رواه البخاري].

وعن جابر t أن رسول الله ﷺ‬ قال: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة الف صلاة فيما سواه» [رواه أحمد].

* مكة بلد يحرم القتال وسفك الدماء بها وإيذاء قاطنيها: فهذا البلد بلد آمن مطمئن؛ ليس فيها نزغات للشيطان ولا آفات بني البشر تعديا واستكبارًا.

فبعد أن بنى إبراهيم u البيت الحرام دعا ربه بدعوات مباركات لهذا البلد وأهله، وكم هي الآيات الواردة في حرم الله التي تذكرنا بإبراهيم الخليل أبي الأنبياء u، قال تعالى: }وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ{ [القصص: 57]. وقال سبحانه: }وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا{ [البقرة: 125]، وقال سبحانه: }وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ{ [التين: 1-3]. وقال سبحانه في سياق الامتنان على الناس: }أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ{ [العنكبوت: 67].

قال القرطبي في معرض الحديث عن مكة: «إنها لم تزل حرمًا من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى».

ولذلك نهى عن حمل السلاح بمكة لغير ضرورة ولا حاجة، فروى مسلم عن جابر t قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح» [رواه مسلم].

وأما القتال في الحرم فقد عظَّم النبي أمره، وأكد على تحريمه.

قال الإمام البخاري رحمه الله: باب: لا يحل القتال بمكة.

وقال أبو شريح t عن النبي ﷺ‬: «لا يسفك بها دمًا».

ثم روى حديث ابن عباس، وفيه قوله ﷺ‬: «فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».

ولم يأذن الله تعالى لرسوله ﷺ‬ والمؤمنين بقتال وقتل الكافرين بمكة إلا إذا ابتدرهم الكافرون بالقتال؛ فقال تعالى: }وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ{ [البقرة: 191].

وهكذا فعل رسول الله ﷺ‬؛ فإنه u أمن كل من ألقى سلاحه ولم يقاتل من المشركين يوم الفتح، وبعث مناديًا ينادي: «من دخل المسجد الحرام فهو آمن» ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ولم يأذن لأصحابه إلا بقتال من قاتلهم وبرز بسلاحه لهم.

* مكة بلد لا يدخلها الكفار والمشركون: مكة بلد طاهر مطهر من رب العالمين، وهذه خصيصة من خصائص الحرم، بلد الله الآمن؛ فلا يجوز مطلقًا أن يمكن كافر أو مشرك من اليهود والنصارى وغيرهم من دخول بلد الله الحرام؛ لأن المشركين نجس، وبلد الله مطهر مقدس؛ فنجاستهم وكفرهم تمنعانهم من دخول المسجد الحرام.

قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{ [التوبة: 28]، وتنفيذًا لهذا الأمر الإلهي بعث النبي ﷺ‬ أبا بكر الصديق في العام التاسع ليؤذن في الناس: «أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» [رواه البخاري].

قال القرطبي: «يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحِلِّ ليسمع ما يقول، ولو دخل مشرك الحرم مستورًا ومات، نُبِشَ قبره وأخرجت عظامه».

* مكة بلدة الأخوة الإسلامية: على أرض مكة وثراها كانت العلاقة الأخوية بين نبي هذه الأمة ﷺ‬ وصاحبه ورفيق دربه أبي بكر t؛ فقد أعان رسول الله ﷺ‬ وواساه وأنفق ماله، وصحبه في الهجرة، وكان ثاني اثنين إذ هما في الغار!

* مكة بلد الأسرة الصالحة: في هذه البطاح عاش رسول الله فجر حياته الزوجية فيها مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، واسته ووقفت بجواره، لم تكدر خاطره، ولم يسمع منها ما يحزنه أو يسوؤه، ولهذا نزل جبريل u إلى النبي ﷺ‬ بقول: «بشر خديجة ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب».

* مكة بلد العفو والصفح: وقعت فيها أحداث عظام ومواقف جسام!

خرج منها رسول الله ﷺ‬ مهاجرًا فارًا بدينه بعد أن أوذي وقيل له: ساحر ومجنون. ووضع على ظهره الشريف سلى الجزور! وفي النهاية قرروا قتله!

ولما عاد إلى مكة منتصرًا فاتحًا في جيش عرمرم، دخل مطأطأ الرأس يبكي في ذله وخضوع لربه عز وجل.

لما دخل ﷺ‬ مكة عام الفتح تلا قوله: «}يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ{ ثم قال: «يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخواته: }قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{ اذهبوا فأنتم الطلقاء».

* مكة بلد الدعوة والرسالة: انطلقت منها دعوة الحق جل وعلا مجلجلة في أركان الدنيا! نزل فيها قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ{ [المدثر: 1، 2]، فقام رسول الله ﷺ‬ وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، ومنها انطلقت وجوه الصحابة إلى المدينة ثم إلى أصقاع المعمورة نشرًا لهذا الدين ودعوة الله!

* مكة بلد الصبر: إنها أنصع الصور في الصبر على الطاعة عن المعصية، أو الصبر على أقدار الله من الأذى والتنكيل والاستهزاء حين نشر الدعوة إلى الله، وكتب السير تحكي واقعًا ملموسًا لذلك في حياة النبي ﷺ‬ وصحابته الكرام.

فقد أوذي فيها نبينا محمد ﷺ‬، ومن صور صبره عليه الصلاة والسلام ما رواه أنس t قال: قال رسول الله ﷺ‬: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يخاف أحد...» [رواه أحمد والترمذي].

* مكة بلد الوحي: لما بلغ رسول الله ﷺ‬ الأربعين من عمره المبارك نبأه الله وأوحى إليه، وأول ما نزل عليه الوحي في مكة في غار حراء: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ [العلق: 1-5]، ثم توالى نزول القرآن في مكة والمدينة على وجه الخصوص.

* مكة بلد تهفو إليها القلوب: فهي دعوة إبراهيم u: }... فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ...{ [إبراهيم: 37].

يأتيها الأبيض والأسود والعربي والعجمي، من أقصى الأرض شرقًا إلى أطرافها غربًا، ويأتي إليها من شمال الأرض ومن جنوبها رجال ونساء وشيب وشباب.. فهي مهوى الأفئدة، وإليها تشد المطايا.

أكرم بمكة من بلد وأعظم بها من بقعة مباركة.

لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها

حتى يعود إليها الطرف مشتاقًا