×
وقفات إيمانية مع قول الله - عز وجل -: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.

 وقفات مع قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه}

عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. وعد من أطاعه وخافه بالأجر العظيم والثواب الجزيل، واصلي وأسلم على إمام الخائفين، وقائد المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

ففي القرآن العظيم لمن اتعظ به، وتدبر آياته لفتات عجيبة، ولمسات إيمانية عظيمة، توقظ القلب المستنير وتنبه الضمير الحي، وتشحذ الهمم، وتأخذ بمجامع العبد المنيب، فيبصر بذلك الطريق المستقيم، ويذل وينكسر لله تعالى الذي أرشده بعدما كاد يتخبط في بيداء الضلالة، ودركات الشقاء.

وقوله سبحانه: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ من أعظم اللفتات القرآنية التي تستدعي الوقوف عندها، وتسليط الأضواء عليها.

جاءت هذه الجملة القرآنية في موضعين من القرآن الكريم: الأول: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾([1]).

ومناسبة مجيء هذا التحذير الشديد أن الله تعالى لما نهى عبادة عن موالاة الكافرين واتخاذهم أولياء يسرون إليهم بالمودة دون المؤمنين قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ يعني يحذركم نقمته في مخالفته، وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه، وعادى أولياءه ([2]).

الثاني: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾([3]).

فإن الله تعالى هاهنا يذكر العبد بما يحصل له يوم القيامة حين يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر، فما رأى من أعماله حسنًا سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه، وغصه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد، ومن هنا قال سبحانه مهددًا متوعدًا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ يعني يحذركم عقابه، فاستعدوا لما أمامكم من الأهوال العظام بالأعمال الصالحات، وترك المحرمات والمنكرات.

وهكذا «لما سمع المتعظون هذا التحذير فتحوا أبواب القلوب لنزول الخوف فأحزن الأبدان، وقلقل الأرواح، فعاشت اليقظة بموت الهوى، وارتفعت الغفلة بحلول الهيبة، وانهزم الكسل بجيش الحذر، فتهذبت الجوارح من الزلل، والعزائم من الخلل، فلا سكون للخائف، ولا قرار للعارف، كلما ذكر العارف تقصيره ندم على مصابه، وإذا تصور مصيره حذر مما في كتابه، وإذا خطر العتاب بفنائه فالموت من عتابه، فهو رهين القلق بمجموع أسبابه»([4]).

 متى يدرك المسلم هذا التحذير

لا يدرك المسلم هذا التحذير جيدًا إلا إذا كان عنده علم، فإن الإنسان إذا تم له علم لم ير لنفسه عملاً، وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل، الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً، أو يعجب به، وذلك بأشياء:

1- أنه وُفق لذلك العمل ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾([5]).

2- أنه إذا قيس بالنعم لم يفِ بمعشار عشرها.

3- أنه لو لوحظت عظمة المخدوم احتقر كل عمل وتعبُد.

هذا إذا سلم من شائبة، وخلص من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يغلب الحذر من رده، ويخاف العتاب على التقصير فيه، فيشتغل عن النظر إليه.

وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك، فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون قالوا: ما عبدناك حق عبادتك.

والخليل عليه الصلاة والسلام يقول: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾([6]) وما منَّ وافتخر بتصبره على النار، وتسليم الولد إلى الذبح.

 ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما منكم من ينجيه عمله» قالوا: ولا أنت؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته»([7])([8]).

 ثمرات إدراك هذا التحذير

*من ثمراته أن أحدث في القلب خوفًا من الله تعالى فقمع به الشهوات، وكفر به اللذات، وتأدبت جوارحه، وفارقه الحسد والكبر والحقد، ولم يكن له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضن بالأنفاس واللحظات.

*ومن ثمراته أنه أوى به هذا التحذير إلى الحذر من المعصية والتمادي فيها والإصرار عليها، لسان حاله:

كم ذا أغالط أمري

كأنني لستُ أدري

أغفلت ذا الذي كان

في مقدم عمري

ولم أزل أتمادى

حتى تصرم دهري

مالي إذا صرت رهنًا

بالذنب في رمس قبري

فليت شعري متى أُدرك

المنى ليت شعري ([9])

إن ذلك الخوف، وتلك الخشية اللذين أحدثهما في القلب إدراك ذلك التحذير هو ما وصف الله تعالى به عباده المتقين في القرآن، وهو ذاته حال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه البررة ومن تبعهم بإحسان.

قال سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾([10]).

فخص بهذا الإنذار من هذه صفاتهم، من تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه من دون الله ولي ولا شفيع، فهم أحق بالإِنذار، وأسمع له، وأكثر انتفاعًا به لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا ما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة، فالإِنذار بيان كاشف، كما أنه مؤشر موحٍ.. نعم بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه، ومؤشر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر، فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم.

وقرر سبحانه في سورة النور أن صفات عباده المؤمنين خوفهم من يوم القيامة: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([11]).

ولما ذكر الله تعالى عباده المؤمنين في سورة الإنسان ذكر أن من صفاتهم أنهم يطعمون الطعام، وينفقون المال خشية وخوفًا من يوم القيامة وأهواله العظام الجسام:

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾([12]).

فما كان من نتيجة هذا الخوف والاستعداد الإيماني إلا أن يجازوا أعظم الجزاء وأتمه:

﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾([13]).

وهكذا يعجل السياق بذكر وقايتهم من شر ذلك اليوم الذي كانوا يخافونه ليطمئنهم في الدنيا وهم يتلقون هذا القرآن ويصدقونه! ويذكر أنهم تلقوا من الله تعالى نضرة وسرورًا، لا يومًا عبوسًا قمطريرًا، جزاء وفاقًا على خشيتهم وخوفهم، وعلى نداوة قلوبهم، ونضرة مشاعرهم.

هذا فضلاً عما ينتظرهم في الآخرة من النعيم المقيم، هناك في جنات النعيم:

﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾([14]).

ولقد تمثل عباد الله تعالى من الملائكة المكرمين، والأنبياء الصالحين، والصحابة المقتدين، ومن تبعهم بإحسان، تمثلوا صفة الخوف من ربهم تعالى رغم الحال التي كانوا عليها من طاعة الله تعالى وحسن عبادته.

يقول سبحانه عن ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون:

﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾([15]).

والأنبياء الكرام عليهم صلوات الله وسلامه يقول عنهم سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾([16]).

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر تقول عنه زوجه عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى لهواته ([17]) إنما كان يبتسم. وكان إذا رأى غيمًا وريحًا عُرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرفت الكراهة في وجهك، فقال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عُذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب فقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾([18])».

وعبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - يقول: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسمعت لصدره أزيزًا كأزيز المرجل([19]) من البكاء ([20])».

وعلى بن أبي طالب - رضي الله عنه - يصف لنا حال الصحابة الأبرار - رضي الله عنهم - فيقول: «لقد رأيت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت شيئًا يشبههم، كانوا يصبحون شعثًا غبرًا صفرًا، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى ([21]) قد باتوا لله سجدًا وقيامًا، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين»([22]) وما رئي - رضي الله عنه - بعد كلامه هذا باكيًا حتى لحق بربه.

سؤال:

إن قيل لم كان خوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديدًا مع علمه بأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه أقرب الخلق إلى الله تعالى. قيل: قد أجاب الإمام ابن القيم على هذا التساؤل في كتابه «طريق الهجرتين»([23]) بأربعة أجوبة، هذا ملخصها: 1- إن هذه الخوف على حسب القرب من الله تعالى والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله تعالى كان خوفه منه أشد، لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما يجب على غيره. ونظير هذا في المشاهد أن المائل بين يدي أحد الملوك المشاهد له أشد خوفًا منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية»([24]) وفهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم»([25])، فهذا دليل واضح على أن أعمال العباد لا توازي القليل من نعمه سبحانه عليهم. فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فلو عذبهم على ترك شكرهم وأداء حقه الذي ينبغي له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالمًا لهم.

فإذا قال قائل: إن العباد إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له سبحانه مقدورًا لهم، فكيف يحسن العذاب عليه؟

فالجواب على تلك يقال فيه:

- إن المقدور للعبد لا يأتي به كله، بل لابد من فتور وإعراض وغفلة وتوانٍ.

- كما أن قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم.. فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل، ولهذا سأل أبو بكر - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاءً يدعو به في صلاته فقال له: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»([26]).

فقوله: «فاغفر لي مغفرة من عندك» أي لا ينالها عملي ولا سعيي، بل عملي يقصر عنها، وإنما هي من فضلك وإحسانك، لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي.

وقوله: «وارحمني» أي ليس معولي إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتني وإلا فالهلاك لازم لي، وفي ضمنه: إنك لو عذبتني لعدلت في، ولم تظلمني، وإني لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك.

فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئًا من حقه، ولا ظلمه، إذ ليس معه ما يقتضي نجاته، وعمله ليس وافيًا بشكر القليل من نعمه، فهل يكون ظالمًا لو عذبه؟

- وهل تكون رحمته له جزاء لعمله، ويكون العمل ثمنًا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيقه ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياء والمراقبة، والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدي الله تعالى في العمل له؟

- نعم إن علم هذا ([27]) عَلِمَ السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار

* كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثًا .. الحديث([28]).

* وقال سبحانه عن عبادة المتقين: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾([29]) فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل. قال الحسن البصري عليه رحمه الله: «مدُّوا الصلاة إلى السحر، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله».

* وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقب الإِفاضة في الحج فقال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([30]).

* وشرع - صلى الله عليه وسلم - للمتوضئ أن يختم وضوءه بالتوحيد والاستغفار فيقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»([31]).

- فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر، وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله تعالى ورحمته، وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلا.

2- أنه لو فرض أن العبد يأتي بمقدوره كله من الطاعة ظاهرًا وباطنًا، فإن الذي ينبغي لربه فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، والذي أتى به لا يقابل أقل النعم، فإذا حرم جزاء العمل الذي ينبغي للرب من عبده كان ذلك تعذيبًا له، ولم يكن الرب ظالمًا له في هذا الحرمان، ولو كان عاجزًا عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقًا يستحقه عليه، فيكون ظالمًا بمنعه، فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله. بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معاوضة عليه.

3- أن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بقولهم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾([32]) فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك»([33]) و«مثِّبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك»([34]).

4- أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل فيه التوبة والإنابة والإِقبال والمحبة والتفويض وأضدادها. والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله تعالى في قلبه، وحركات يحركه بها في طاعته. وهذا إلى الله تعالى - فهو خلقه وقدره، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها»([35]) وعلم حصين بن المنذر - رضي الله عنه - أن يقول: «اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي»([36])، وعامة أدعيته - صلى الله عليه وسلم - متضمنة لطلب توفيق ربه وتزكيته له، واستعماله في محابه، فمن هداه وصلاحه وأسباب نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرف فيه بما يشاء ليس من أمره شيء، من أحق بالخوف منه؟ وهب أنه خلق له في الحال الهداية، فهل هو على يقين، وعلم أن الله سبحانه وتعالى يخلقها له في المستقبل ويلهمه رشده أبدًا؟ فعلم أن خوف المقربين عند ربهم أعظم من خوف غيرهم، والله المستعان.

ومن ها هنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان كما قال بعض السلف أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر. وكان عمر - رضي الله عنه - يقول لحذيفة: «نشدتك الله، هل سماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ يعني في المنافقين، فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا»([37]) يعني لا أفتح عليَّ هذا الباب في سؤال الناس لي، وليس مراده أنه لم يخلص من النفاق غيرك.

 الجمع بين المحبة والخوف والرجاء

لابد أن يكون راسخًا في أذهان المؤمنين أنه لابد في حياتهم الدنيا أن يجمعوا بين أمور ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وأنه من عبد الله تعالى بواحد من هذه الأمور فقط فقد أخل بمذهب أهل السنة والجماعة، وابتعد عنه كل البعد، ولهذا قال بعض السلف: «من عبد الله تعالى بالخوف وحده فهو حروري ([38])، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء ([39])، ومن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو مؤمن»([40]).

وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاث في قوله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ...﴾([41]). قال ابن القيم: «فابتغاء الوسيلة هي محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عباده وأوليائه»([42]).

 عبادة الله تعالى بالحب المجرد هلاك وبوار

قال ابن القيم موضحًا هلاك من عبد الله تعالى بالحب المجرد، وبواره، فقال: «وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات، ويقول: المحب لا يضره ذنب، وصنف بعضهم في ذلك مصنفًا، وذكر فيه أثرًا مكذوبًا: (إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب)، وهذا كذب قطعًا، منافً للإسلام، فالذنوب تضر الذات لكل أحد كضرر السم للبدن، ولو قُدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ، وأما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمعاذ الله من ذلك- فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب؛ لأن الإصرار على الذنب منافٍ لكونه محبًا لله، وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه، فإنه يمحو أثره، ولا يضره الذنب، وكلما أذنب وتاب إلى الله تعالى زال عنه أثر الذنب وضرره، فهذا المعنى صحيح، والمقصود أن تجريد الحب عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق، ورده إليه كلما شرد، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدين والرجاء حادٍ يحدوها، يطيب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق، وتركتْ تركبُ التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها، فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادًا لا يرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعُف فيه شيء من هذا ضعُف إيمانه»([43]).

 أيهما يغلب الخوف أم الرجاء؟

وها هنا سؤال يدور في أذهان كثير من الناس، وهو: أيهما يغلب المؤمن في حياته الخوف أم الرجاء؟

والجواب على ذلك: أن أهل العلم اختلفوا في ذلك:

* فقال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فلا يغلب الخوف، ولا يغلب الرجاء. قال رحمه الله: لأنه إن غلب الرجاء وقع الإنسان في الأمن من مكر الله، وإن غلب الخوف وقع في القنوط من رحمة الله.

* وقال بعض العلماء: ينبغي تغليب الرجاء عند فعل الطاعة، وتغليب الخوف عن إرادة المعصية، لأن إذا فعل الطاعة فقد أتى بموجب حسن الظن، فينبغي أن يغلَّب الرجاء وهو القبول، وإذا هم بالمعصية أن يغلَّّب الخوف لئلا يقع في المعصية.

* وقال آخرون: ينبغي للصحيح أن يغلَّب جانب الخوف، وللمريض أن يغلَّب جانب الرجاء؛ لأن الصحيح إذا غلَّب جانب الخوف يتجنب المعصية، والمريض إذا غلَّب جانب الرجاء لقي الله تعالى وهو يحسن الظن به، قال ابن قدامة: «والأفضل للإنسان عند الموت أن يغلب الرجاء؛ لأن الخوف كالسوط الباعث على العمل وليس ثمة عمل، فلا يستفيد الخائف حينئذ إلا تقطيع نياط قلبه، والرجاء في هذه الحال يقوي قلبه، ويجبب إليه ربه، فلا ينبغي لأحد أن يفارق الدنيا إلا محبًا لله تعالى محبًا للقائه، حسن الظن به، وقد قال سليمان التيمي عند الموت لمن حضره: حدثني بالرخص لعلي ألقي الله تعالى وأنا أحسن الظن به»([44]).

قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين جزاه الله خيرًا بعد أن ساق هذه الأقوال: ([45])

«والذي عندي في هذه المسألة أن هذا يختلف باختلاف الأحوال، وأنه إذا خاف إذا غلَّب جانب الخوف أن يقنط من رحمة الله -وجب عليه أن يرد ويقابل ذلك بجانب الرجاء، وإذا خاف إذا غلَّب جانب الرجاء أن يأمن مكر الله فلْيردَّ وليغلِّب جانب الخوف، والإنسان في الحقيقة طبيب نفسه، إذا كان قلبه حيًا، أما صاحب القلب الميت الذي لا يعالج قلبه ولا ينظر أحوال قلبه فهذا لا يهمه الأمر»([46]).

* * * *

 حال المعرضين الذين لم يخافوا الآخرة

من أكبر الصفات المرذولة التي اتصف بها الكفار المعرضون أنهم لا يخافون الآخرة، قال سبحانه: ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ﴾([47]) وفي الآية الأخرى: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾([48]).

والسبب الذي جعلهم لا يخافون الآخرة أنهم ملؤوا قلوبهم بالزيغ والفساد والعناد، فهم وإن كانوا يبصرون إلا أنهم كالعميان، لعدم انقيادهم للحق الذي عرفوه كأنما يعرفون أبناءهم وآباءهم، ولكنه اتباع الشيطان الذي لا يقود إلا إلى الهلاك، والبوار والدمار، الشيطان الذي عشعش على قلوبهم، فهو يحركها كيفما يشاء، وكيفما يريد، فكان من جراء ذلك: الختم على القلوب، المؤدي بأصحابها إلى عدم قبول الحق مهما سمعت من المواعظ والتذكيرات:

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([49]).

﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾([50]).

وقال سبحانه وتعالى في حق المنافقين:

﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾([51]).

وفي الآية الأخرى:

﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾([52]).

وأخبر سبحانه في آيات أُخر أن هؤلاء لما نسوا الله واليوم الآخر ولم يخافوه، عاقبهم بالمثل فأنساهم أنفسهم، فهم يعيشون في الظلمات كأنهم لا يبصرون مع العذاب والنكال الذي ينتظرهم: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾([53]).

﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾([54]).

﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾([55]).

﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾([56]). وحذر سبحانه عباده المؤمنين أن يسلكوا مسلك الذين نسوا الله تعالى فيصيبهم ما أصاب أولئك فقال:

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾([57]).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: «والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله، وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه. وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل. بل أنساهم الله تعالى مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطًا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره؛ لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم، وأوضعوا في معاصيه»([58]).

وكما تقرر في كلام سابق أن العبد كلما ازداد من الله تعالى قربًا بطاعته وعبادته ازداد منه خوفا وخشية، فكذلك الشأن في الغافلين المعرضين، كلما ازداد الواحد فيهم من الله تعالى بعدًا بالفسق والطغيان قل خوفه وضعفت خشيته من ربه تعالى حتى يؤدي به ذلك إلى الأمن من مكر الله عز وجل فيهلك.

فيا لله «كم مأخوذ على الزلل، غير وجل من الآخرة ختم له بسوء العمل، نزل به الموت، فيا هول ما نزل، فأسكنه القبر، فكأن لم يزل، وهذا مصير الغافل لو غفل. كم نائم على فراش التقصير، مغتر بعمر قصير، صاح به فلم يبال النذير، فاستلبه الخطأ والتبذير، فلما أحسن البأس ثارت من نيران الندم شُعَل»([59]).

ولقد قرر الله تعالى في القرآن الكريم أن الأمن من مكره إنما هو في حق الغافلين المعرضين، الذين لا يعتبرون بالمثُلات التي حلت بالمكذبين السابقين، ولا يرعوون عما هم فيه من الشرك والفساد:

﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾([60]).

﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾([61]).

﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾([62]).

﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾([63]).

﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾([64]).

وبين الله تعالى في القرآن كذلك أن هذا الأمن من مكره عز وجل إنما نشأ من أثر الفسق والطغيان والتعدي لحدود الله تعالى مما اتصف به أولئك الآمنون من مكره، وقرر سبحانه أمثلة من هذا الفسق، وذلك الطغيان، ومنه:

* استهزاؤهم بالمؤمنين، قال سبحانه: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾([65]) وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾([66]).

* وصفهم للدعاة الربانيين بأقبح الصفات وأرذل الأفعال، كما ذكر الله تعالى عن قوم هود عليه الصلاة والسلام:

﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾([67]).

﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ...﴾([68]).

* التحدي والعناد وطلب إنزال العذاب:

كما ذكر سبحانه عن كفار قريش:

﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ...﴾([69]).

﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([70]).

* تلك نماذج واضحة، وبراهين من القرآن ساطعة، تبين فسق الآمنين من مكر الله تعالى، أولئك القوم الذين لم يلفت أنظارهم تخويف، ولم يؤنبهم ضمير، ولم تجد فيهم النذر، فهم سائرون في لهوهم، منهمكون في عصيانهم، لا تزيدهم المواعظ والآيات إلا عتوا واستكبارا، وفسقا وطغيانا.

* فهل يعي المسلمون الآيات، وهل ينتفعون بالمواعظ؟

* هل يستمعون إلى التخويفات والنذر، فيصلحوا سرائرهم وعلانيتهم مع ربهم، ويجعلوا من خطاب الله تعالى للأقوام السابقة خطابا لهم، يحرك كل ذرة في كيانهم ووجدانهم، ويقولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

* وهل يقتدون بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذي تفطرت قدماه من طول القيام وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟

* وهل يقتدون بأصحابه الأبرار - رضي الله عنهم - الذين كانوا يصبحون شعثًا غبرًا صُفرًا، قد باتوا لله سجدا وقياما، خاشعين باكين منيبين؟

* وهل يقتدون بالتابعين الأجلاء، كمالك الذي كان يقوم طول ليله باكيا، شادا على لحيته يقول: يا ربِّ قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟

* وهل يقتدون بمثل الإمام سفيان الثوري الذي كان يشتد خوفه من السوابق والخواتيم، فيبكي ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًا، أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت!!

فاللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أنزل على قلوبنا خوفك وخشيتك في الغيب والشهادة، وارزقنا الاستعداد ليوم القيامة بقلوب المتقين، وأعمال الأبرار الخاشعين، إنك أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين. آمين.



([1]) آل عمران (28). وقد أُظهر لفظ (الله) في مقام الإضمار في قوله سبحانه: }وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ{ لتربية المهابة وإدخال الروعة. «روح المعاني» للآلوسي (3/126).

([2]) تفسير ابن كثير (1/357).

([3]) آل عمران (30).

([4]) «التبصرة» لابن الجوزي (1/82).

([5]) الحجرات (37).

([6]) الشعراء (82).

([7]) أخرجه أحمد في المسند، والبخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة t.

([8]) «صيد الخاطر» لابن الجوزي ص487.

([9]) التبصرة (1/83).

([10]) الأنعام (51).

([11]) النور (36-38).

([12]) الإنسان (9-10).

([13]) الإنسان (11).

([14]) الإنسان (12-22).

([15]) الأنبياء (28).

([16]) الأنبياء (90).

([17]) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق، أو ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم.

([18]) متفق عليه.

([19]) المرجل: القدر.

([20]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي.

([21]) أي في جباهم النقط السود من خشانة الجلد في حال سجودهم في ظلام الليل.

([22]) «حلية الأولياء» لأبي نعيم (1/76).

([23]) ص285 وما بعدها.

([24]) أخرجه البخاري ومسلم والدارمي وأحمد في المسند.

([25]) رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت t.

([26]) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي، وأحمد في المسند.

([27]) أي إذا علم العبد مهما بلغت طاعته وتقواه – أنه مقصر في عدم توفية العمل التعبدي ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياء والمراقبة والمحبة والخشوع وحضور القلب.

([28]) أخرجه مسلم عن ثوبان.

([29]) الذاريات (17، 18).

([30]) البقرة (199).

([31]) أخرجه الترمذي في سننه وسنده صحيح، انظر – إرواء الغليل للألباني (1/135).

([32]) آل عمران (8).

([33]) رواه أحمد ومسلم.

([34]) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة.

([35]) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد.

([36]) أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

([37]) رواه البخاري.

([38]) الحرورية: اسم يطلق على الخوارج في عهد علي t نسبة إلى حروراء: موضع قرب الكوفة، نزل به الخوارج حين اعتزلوا جيش علي t.

([39]) المرجئة: من الإرجاء وهو لغة التأخير، ومنه سميت المرجئة لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان، وقد قسمهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/195، 543) إلى ثلاثة أقسام:

1- الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، وهؤلاء منهم من يقول: هو المعرفة فقط كجهم بن صفوان، ومنهم من يدخل فيه أعمال القلوب، أو بعضها كالمحبة والخضوع، وهم أكثر فرق المرجئة.

2- من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا قول الكرامية.

3- من يقول: هو تصديق القلب، وقول اللسان. وهو قول بعض أهل الفقه مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما.

([40]) بدائع الفوائد (3/11).

([41]) الإسراء (57).

([42]) بدائع الفوائد (3/11).

([43]) بدائع الفوائد (3/11-12).

([44]) مختصر منهاج القاصدين ص306-307.

([45]) ما عدا قول ابن قدامة المتقدم.

([46]) المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين (1/24-25) جمع وترتيب فهد السليمان.

([47]) المدثر (53).

([48]) الإسراء (60).

([49]) البقرة (7).

([50]) الأنعام (25).

([51]) التوبة (87).

([52]) التوبة (93).

([53]) الأعراف (51).

([54]) التوبة (67).

([55]) السجدة (14).

([56]) الجاثية (34).

([57]) الحشر (19).

([58]) تفسير السعدي (7/343).

([59]) عن «التبصرة» لابن الجوزي (1/266-267).

([60]) يوسف (107).

([61]) الأعراف (97-99).

([62]) النحل (45-47).

([63]) الإسراء (68-69).

([64]) الملك (16-17).

([65]) المؤمنون (109-111).

([66]) المطففين (29-30).

([67]) الأعراف (66).

([68]) هود (53-54).

([69]) الإسراء: (90-93).

([70]) الأنفال (32).